الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

34
رون ش ع ل وا عة ب را ل ا مة ك ح ل ا ه الدار، هد ي ف ت مدار، ما كدا( وع الأ ق و رب غ ت س ت لأ ها عت ب ت ج ووا ها ف ص وُ ّ قَ ح ت س م و ه لأ ماC ا ب ر ر ب( ا ما ها نC ا ف ال، III ي ج( ده الأ III ي ك( ا ي ت عل ت ل وا III ت،ً هدا ا III ش مً اIII ع قر وا ر III ق ب ةIII م ك ح ل ه ا دIII ه د IIII ش ج ى لC و ا ع د IIII مات ةIIII م ث س لي ف ن دC راء. ا غ IIII ش لء وااIIII م ك ح ل ة ا IIII ن ع ر بIIII ع و لة. لء ا عطا ن بره ا ر ق ب ي ا الد ي هد عل ن هي را لب ا ة وب IIIII ش م ه دIIIII ه ة IIIII وب ي ن الد ا IIIII دارت ونIIIII ك ت ن( ة اIIIII ل ل ي ا IIIII ض ق ا ادIIIII م ل ن ك ل و ى ل ا I ي ل ونI ك ت ن( ص، واI ص غ ل ا تً ا I وج ز م ماI ه م ي ع ب ون ك ت ن( كدار، وا( الأ تI ءها؟ ورا ن م ك ت د ف ي ت ل ا ت( ئ صا م ل ا ت ده هد م ها ت فور ر ش ل ا

Upload: imam-masngud

Post on 12-Apr-2016

227 views

Category:

Documents


0 download

DESCRIPTION

هذه الحكمة تقرر واقعاً مشاهداً، توالت على تأكيده الأجيال، وعبر عنه الحكماء والشعراء. إذن فليس ثمة مايدعو إلى حشد البراهين على هذا الذي يقرره ابن عطاء ا لله.ولكن لماذا قضى ا لله أن تكون دارنا الدنيوية هذه مشوبة بالأكدار، وأن يكون نعيمها ممزوجاً بالغصص، وأن تكون ليالي السرور فيها مهددة بالمصائب التي قد تكمن وراءها؟

TRANSCRIPT

Page 1: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

الحكمة الرابعة والعشرون التستغرب وقوع األكدار، مادامت في

هذه الدار، فإنها ما أبرزت إال ماهو مستحق وصفها

وواجب نعتها

هذه الحكمة تقرر واقعا مشاهدا، توالت على تأكيده األجيال، وعبر عنه الحكماء والشعراء. إذن فليس ثمة مايدعو إلى حشد البراهين على هذا

الذي يقرره ابن عطاء ا لله. ولكن لماذا قضى ا لله أن تكون دارنا الدنيوية هذه مشوبة باألكدار، وأن يكون نعيمها ممزوجا بالغصص، وأن تكون ليالي السرور فيها مهددة

بالمصائب التي قد تكمن وراءها؟ : أن الله تعالى حكمة باهرة في ذلك،والجواب

:لحقيقتين اثنتينتتجلى في تذكرنا : أن ا لله عز وجل جعل منالحقيقة األولى

هذه الدنيا دار تكليف، بل جعل منها قاعة امتحان إن جاز التعبير. وقد علمنا في أكثر من مناسبة مرت أن المهمة التي كلف بها اإلنسان في حياته الدنيوية هذه، هي: أن يمارس عبوديته لله بالسلوك االختياري، كما قد خلق عبدا له بالواقع االضطراري، وإنما يمارس اإلنسان عبوديته لله

Page 2: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

بالسلوك االختياري، من خالل تنفيذ أوامره، واالنقياد ألحكامه والخضوع الطوعي لسلطانه.

وبذلك غدا اإلنسان مكلفا. فإذا فرضنا أن الحياة التي أقام ا لله اإلنسان فيها، ليس فيها إال النعيم الصافي من األكدار، فيها السرور الذي التشوبه منغصات، أنى التفت اإلنسان ال يجد إال ما لذ وطاب، وكيفما تقلب وجد نفسه فوق مهاد من الرفاهية الصافية من كل شوب، إذن فمن خالل أي سلوك أو من خالل أي استجابة ألوامر ا لله تتجلى عبودية اإلنسان

هذه، أي عبوديته لله بسلوكه االختياري؟ ممارسة العبودية ثمرة للتكليف، والتكليف ال يسمى تكليفا إال إن كان مالحقا للمكلف بما فيه كلفة أي مشقة. وإذا كانت الدنيا كما قد وصفت نعيما مقيما صافيا عن المنغصات، فأنى للمشقة أن تظهر، وفي أي أحوال هذا النعيم يتجلى

ويبرز؟ عندما يرى اإلنسان نفسه معافى في بدنه ال يتهدده مرض، مستقرا في عهد شبابه ال يعاني من نذير كهولة وال مشيب، قد حماه ا لله من أفواه الشامتين والساخرين، ومن أيدي الظالمين وفجور الطاغين، غارقا في بحر من النعيم وأسبابه فال يتهدده فقر وال تدنو إليه فاقة وال

Page 3: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

عوز، آماله محققة وأحالمه مزدهرة. ثم إن التكاليف اإللهية لم تنتقص له شيئا من رغده ونعيمه هذا، بل كيف جاءت متساوقة مسايرة لتيارات رغائبه وأحالمه، فكيف يسمى ذلك تكليفا والكلفة لم توجد، بل كيف يسمى ذلك ممارسة للعبودية وسط مناخ ال موجب فيه لتذلل وال

انكسار، ال افتقار فيه لحاجة أو التجاء؟ ولقد علمت مما مر ذكره سابقا أن الدعاء هو العبادة، وقد علمت أيضا أن الدعاء ثمرة الحاجة والفاقة والخوف من اآلالم والمصائب، فمن لم يكن خائفا على نفسه منها، وكان واثقا من أنه يعيش في كالءة حياة ليس فيها إال مقومات الرغد والنعمة والسرور، فهو أبعد ما يكون عن أن يمد يد فاقة أو ضراعة إلى ا لله. ولماذا يمدها وهو اليعاني من فاقة وال يخشى على نفسه من ضيم، وليس من حوله ما يهدد نعيمه

بأي مكروه. إذن، فحياة هي الرغد الصافي عن الشوائب، مع االبتالء بالتكاليف التي خاطب ا لله بها عباده، بينهما من التشاكس والتناقض ما ال يخفى على

ذي بصيرة قط.

Page 4: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

دى ولحمة التكاليف اإللهية ومن المعلوم أن س هما الصبر والشكر. فمن خاللهما تستبين

العبودية الطوعية لله تعالى. وإنما يكون الصبر أمام الشدائد والمصائب واآلالم. في حين أن الشكر يكون ياستنخدام النعم التي أسداها ا لله تعالى لإلنسان للمهام والوظائف التي خلق من أجلها. فمادة الصبر هي المصائب والشدائد، ومادة الشكر هي النعم والرغائب، إذن فحياة التكليف هذه ينبغي أن

تكون مزيجا من هذه وتلك. وقد نبه البيان اإللهي اإلنسان إلى ما البد أن يواجهه في حياته الدنيوية هذه، من هذا المزيج، ولغت نظره إلى الحكمة من ذلك. كي اليفاجأ

منها بما لم يتوقع.ون في أموالكم من ذلك قوله جل جالله: لتبل

اب من وا الكت ذين أوت معن من ال وأنفسكم ولتسبروا ذين أشركوا أذى كثيرا وإن تص قبلكم ومن الك من عزم األمور )آل عمران: قوا فإن ذل وتت

3/186.)كم بشيء ذلك قوله سبحانه وتعالى:ومن ولنبلون

من الخوف والجوع ونقص من األموال واألنفسابرين ) ر الص مرات وبش ذين إذا155والث ( ال

ه راجعون ) ا إلي ه وإن ا لل أصابتهم مصيبة قالوا إن

Page 5: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

هم ورحمة156 لوات من رب ( أولئك عليهم ص(.157-2/155 )البقرة: وأولئك هم المهتدون

وجعلنا بعضكم لبعض فتنةومن ذلك قوله تعالى: ك بصيرا (.25/20 )الفرقان: أتصبرون وكان رب

وفتنة الناس بعضهم ببعض، تتمثل في الخصومات واألذى ينال بعضهم من بعض، كما تتمثل في ابتالء الغني منهم بالفقير والفقير

بالغني. ات كلها قول ابتالءوالبيان الجامع ألشتات هذه اال

ل لله تعالى: ذي بيده الملك وهو على ك تبارك اليء قدير ) اة1ش ذي خلق الموت والحي ( ال

ن عمال وهو العزيز الغفور كم أحس وكم أي ليبل(.2-67/1)الملك:

وإذا تبين لك أن الحياة الدنيا هي دار التكليف أو االبتالء واالمتحان، بان وظهر لك أن الحياة اآلخرة هي دار المثوبة والجزاء. انظر إلى هذا

ل نفس الربط بينهما من خالل قوله عز وجل: كا ة وإلين ر فتن ر والخي ذائقة الموت ونبلوكم بالش

(.21/35 )األنبياء: ترجعون : أن الشأن في هذه الحياةالحقيق;;ة الثانية

الدنيا إذن، أن تكون محدودة بميقات معين، هو ميقات االمتحان الذي قضى به ا لله عز وجل لعباده فيها، وبعبارة أخرى: الشأن فيها إذن أن

Page 6: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

تكون ممرا امتحانيا إلى مقر عاقبة وجزاء. وقد قضى الله تعالى أن تكون البوابة التي يعبر منها الناس، من حياتهم الدنيا هذه، إلى حياتهم البرزخية التي هي مقدمة لحياتهم اآلخرة، بوابة

الموت!.. إذن فالموت هو عاقبة كل حي في هذه الحياة الدنيا، وقد علمت أن الموت ليس عدما كما قد يتوهم يعضهم، وإنما هو انتقال من حياة إلى حياة

أخرى. أفترى إذن أن من الحكمة أن يجعل ا لله من هذه الحياة الدنيا التي هى ميقات االمتحان، ومن ثم فهي أشبه ماتكون باستراحة في طريق مسافر، مثابة نعم صافية عن الشوائب والكدورات، ولذائذ ومتعا تتسامى فوق كل الغصص والمعكرات، وأن اليبتلى منها اإلنسان بآفة، واليتهدد شبابه كهولة والشيخوخة، واليتهدد

عافيته أ لم والمرض؟... تخيل أنك تتقلب متنعما في حياة من هذا القبيل، إذن فلسوف تزداد تعلقا بها كلما امتد عمرك فيها، فكيف تكون حالك إن جاءك الموت ودعيت

إلى الرحيل من هذه الحياة؟.. سيكون فراقك لها وانتقالك منها، أشبه مايكون بكتلة من الحرير تعلقت من سائر أنحائها بنبات

Page 7: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

كثيف ذي رؤوس يابسة شائكة، جاء من اجتذبها بيده جذبة واحدة بشدة، فتقطع منها في يده ما

تقطع، وتناثر منها ماتناثر بين الشوك. كل شيء في كيانك سيكون متعلقا بالحياة التي عشقتها وبالدنيا التي استهوتك اإلقامة الدائمة فيها. ولن يكون لديك أي استعداد لفراقها... وفيم تفارقها، وكل ما رأيته وسمعته وذقته منها جعلك تركن إليها ركون الماء في العود والروح

في الجسد، والعاشق إلى المعشوق؟!.. فكان من عظيم لطف ا لله بعباده، أن جعل نعيم الناس في دنياهم بمقدار احتياجهم إليه على طريق تحقيق المهام التي كلفوا بها، و جعل عافيتهم أداة يسخرونها في هذا المضمار، وآتاهم من القدرات واإلمكانات واألموال مايسخرونه

إلنجاز الوظيفة التي أقامها الله عليها. ثم إنه عز وجل جعل إقبالهم إلى الدنيا واستشرافهم لنعيمها أشد ما يكون في زمن شبابهم إذ يكونون حديثي عهد باإلقبال إلى الحياة والتعرف عليها، فإذا دخلوا في مرحلة الكهولة تناقص إقبالهم إلى متع الدنيا وأهوائها، تحت وطأة القوة المتراجعة والغرائز التي تميل إلى الملل أو البرود.. فإذا دخلوا في مدارج الشيخوخة، ازداد ذلك اإلقبال تراجعا، وعادت

Page 8: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

عالقتهم بأكثر متع الدنيا كمن طال عهده بالجلوس إلى مائدة عليها ألوان من الطعام، تذوق من كل لون منها ثم عاد يتذوق ويطعمه، واتجهت منه الرغبة منه، إلى أن تبرم به ومل

إلى جديد ومستحدث غير منظور. هذا باإلضافة إلى غصص اآلالم واألسقام

والمصائب التي تنال منه بين الحين واآلخر.ئه نفسيا لساعة الرحيل التي يوشك كل ذلك يهي أن يحين ميقاتها، فإذا طرق الموت بابه فعال، بعد هذه المقدمات، لم يأسف على الدنيا التي يرحل منها، ولم يفارقها مفارقة العاشق معشوقه، بل يفارقها مفارقة ذاك الذي طال عهده بالمائدة التي ظل جالسا إليها، الشك أنه قد مل منها،

قبل أن تمل هي منه. وال تنس أنني أتحدث عمن بدأ حياته فتعرف على هذه الدنيا وعالقته بها من خالل معرفته، بل يقينه بالحقيقة األولى التي شرحتها لك قبل

قليل. إنه يتخذها استراحة في طريق، ومنزال موقوتا يريح فيه جسمه، ويجدد نشاطه ويتناول ما قد يحتاج إليه من طعام وشراب، ليواصل سيره بعد ذلك إلى غايته، غير آبه بما قد رآه في تلك

Page 9: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

االستراحة من ملهيات، وغير متأثر بما قد نالهفيها من موحشات.

ذلك ألنه قد تشبع ببيان الله لهوية هذه الحياةماالدنيا، ووقف طويال يتدبر أمام قوله تعالى: إن

هذه الحياة الدنيا متاع وإن اآلخرة هي دار القرار(.40/39)غافر:

المهم أن كال من المنطق والذوق يقتضي أن يكون المنزل الذي يقيم فيه النازل لمدة موقوتة، مطبوعا بطابع التوقيت، وأن تكون وسائل الراحة فيه بالقدر المتفق مع طبيعة اإلقامة المؤقتة، كي يتاح للراحل عنه أن يتركه

دون أي تعلق به ودون أي أسف على فراقه. على أن هذا النظام الذي أقامه ا لله في عالقة اإلنسان بالحياة الدنيا فيه قدر كبير من الرحمة واللطف، حتى لمن عاش حياته ثم رحل عنها دون أن يتعرف على حقيقتها وعلى واجباته فيها، وعلى عالقته بمواله وخالقه الذي استودعه فيها إلى حين، ثم نقله عنها إلى المصير الذي ال بد أن

ينتهي إليه هو وأمثاله من أفراد هذه الخليقة. إذ الكهولة والشيخوخة بعد الشباب.. واآلفات واألوجاع التي تتسرب إلى الجسم.. ومصائب الدنيا وابتالءاتها، كل ذلك جامع مشترك يواجه المؤمن والملحد والفاسق، ومن ثم فإن من

Page 10: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

شأن هذه اآلفات إذا تسربت ثم تزايدت، أن تعكر صفو العالقة بين اإلنسان ودنياه التي كان باألمس شديد التعلق بها، فإذا حان رحيله عنها لم يكن له بها من تعلق، أو يكون له بها تعلق من

يرى فيها ذكريات أيامه الجميلة الخوالي.***

فابن عطاء ا لله يلفت النظر في حكمته هذه إلى ضرورة معرفة اإلنسان لهذا كله، كي يكون على بينة من الدار التي أنزله الله فيها وعالقتها بالوظيفة التي خلق اإلنسان من أجلها، ولكي اليفاجأ منها بما لم يكن يتوقع. فإن ذلك أحرى بأن ينسجم معها، وبأن اليركن إليها ركون الهائم

بها المعتمد بكليته عليها. الف;;رق م;;ابين الم;;ؤمنوانظر في هذا إلى

.والكافر الذي فتح عينيه على الدنيا التيالمؤمنأما

أقامه ا لله فيها، من خالل تعريف القرآن بها: دار ابتالء، يتمازج الخير فيها بالشر، يفتتن فيها

تلى فيها بالنعمةباإلنسان بأخيه اإلنسان؛ ي ليشكرها فال يطغى وال يبطر بها، ويبتلى فيها بالمصيبة ليصبر عليها، ويحتسبها بأجر من ا لله، فال يضجر منها. ثم إن ا لله سيوفي كل إنسان حقه لقاء شكره عند النعمة، ولقاء صبره عند

Page 11: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

المصيبة، يوم الجزاء، عندما يقوم الناس كلهم لرب العالمين، تماما كما يؤكد بيان ا لله عز

ما توفونوجل القائل: كل نفس ذائقة الموت وإنوم القيامة (3/195 )آل عمران: أجوركم ي

يع عمل والقائل: ي ال أض هم أن تجاب لهم رب فاسكم من بعض ر أو أنثى بعض عامل منكم من ذك

أقول: أما المؤمن الذي(3/195)آل عمران: عرف هذا كله عن الدنيا قبل أن يتعامل معها، فإنه لن يفاجأ منها بأي مجهول، ولن يضيمه منها أي مكروه. بل يقبل عليها إقبال الموظف إذ يدخل دائرته ألداء وظيفته.. أو إقبال الطالب أدخل إلى قاعة االمتحان، ألداء االمتحان الذي هو

بصدده. إذا أقبلت إليه النعمة استقبلها عالما بواجبه تجاهها، بل تجاه من أسداها إليه، فاستعملها ونعم بها على الوجه الذي شرعه ا لله دون بغي

وال طغيان. وإذا واجهته المصيبة أيا كان نوعها، استقبلها متجمال راضيا صابرا محتسبا أجره على ذلك عند ا لله، ملتجئا إليه عز وجل أن يعينه الثبات

والصبر، وأن يكرمه بالعفو والعافية. وهو في كال الحالتين يمارس عبوديته لله تعالى بصدق. فال هو يخدع بالنعم والمتع ومباهج الدنيا

Page 12: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

ولذائذها، إذ يعلم أنها ظالل زائلة؛ وال هو يجزع من المصائب ويشقى بسببها، ألنه يعلم أنه ابتالءات من ا لله عز وجل يمتحن العبد بها، ثم إنه يؤجر األجر األوفى عليها إن هو نجح في امتحانه بها فصبر وتجمل وسأل ا لله العون

والتوفيق. فيها،جلهثم إنه ينظر إلى الدنيا، طال أو قصر أ

من خالل المنظار الذي يتجلى له في محكم بيان الله عز وجل، وإذا هي أيام قليلة تافهة، بالنسبة لما هو مقبل إليه من بعد، فال خيرها إن غاض أو غاب مأسوف عليه، وال شرها إن أقبل أو استفحل مشكلة ذات بال.. ذلك ألنه قد تشبع

بمثل قول ا لله تعالى:قى- ر لمن ات قل متاع الدنيا قليل واآلخرة خي

(.4/77وال تظلمون فتيال )النساء: ذين كفروا في البالد )- ب ال ك تقل ن (196ال يغر

م وبئس المهاد )آل متاع قليل ثم مأواهم جهن(.197-3/196عمران:

ثم إنه يدرك إلى جانب ذلك أن ا لله الذي )أقامه(؟ في دنيا هذا االبتالء، أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، فاليضيع لإلنسان جهدا بذله في سبيل خير، واليهمل له حقا اغتصبه منه ظالم، واليترك له أي ظلم اقترفه أو جريرة اكتسبها،

Page 13: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

بل يقضي بين عباده في ذلك كله يوم الجزاء الموعود طبق قانونه عز وجل الساري على

ره )عباده جميعا: را ي ة خي فمن يعمل مثقال ذرره7 ا ي ر ة ش )الزلزلة:( ومن يعمل مثقال ذر

99/7-8.) فهذا المؤمن الذي استقبل حياته الدنيا هذه، واستقبل معها بوعي ويقين هذا التقرير اإللهي عنها، سيعيش حياة هنيئة على كل حال، سواء تنقل في ظالل النعمة والرخاء، أو تقلب بين أمواج الشدائد والبأساء، إنه سيكون فعال كما

قال رسول ا لله عنه: ))عجبا ألمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك ألحد إال المؤمن. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان

.1خيرا له(( ، ونقول بعبارة أشمل: أما غيرالك;;افرأما

المؤمن، فهو إنسان وفد إلى هذه الدنيا، وتعرف على واقعها وهويتها، من خالل غرائزه ومشتهياته، فهو يريدها كما يهوى ويتمنى، ويصر إصراره على أن يكافح ويناضل في فجاجها، ليخضعها لما يشئتهي ويريد... وهو إذ يصر

رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث صهيب، ورواه 1النسائي في عمل اليوم والليلة، بألفاط قريبة.

Page 14: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

إصراره هذا يرى ويوقن في قرارة نفسه أن حياته هذه التي يعيشها هي اليوم الذي ال غد من ورائه، فهي حظه األوحد من الحياة التي تفتحت عيناه عليها، ومن ثم فإن عليه أن يغامر جهد استطاعته ليجعل حظه منها سعادة ورغدا وهناء، وليبعد ظالل المصائب والمآسي عنه بكل ما

يملك إلى ذلك من سبيل. ولكنه، إذ يسعى سعيه هذا، يفاجأ بأن هذه الدنيا ما كانت ولن تكون كما يريد، بل البد أن يكون

هو -شاء أم أبى- كما تريد!... غير أنه وقد تجاهل أو جهل التقرير اإللهي الوارد عن حقيقة هذه الدنيا وشأنها، وعن المهمة التي خلق اإلنسان من أجلها، وعن المستقر الذي ينتظره بعد أن يمر في هذا المستودع القصير، غير مستعد ألن يخضع بطواعية منه لنظام الدنيا ومايفاجأ به من أحداثها معه ومواقفها منه... وإنما ينساق إلى نظامها هذا قسرا وعلى مضض

شديد منه وكره. والسبب، أنه غير مستعد ألن يقيد نفسه بواجب الشكر عند مجيء النعم، وال ألن يلزم نفسه بواجب الصبر عن ورود المصائب واآلالم؛ إذ هو ال يؤمن بالثمرات التي ينالها على الشكر في الحالة األولى، وال يؤمن بالثمرات التي ينالها

Page 15: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

على الصبر في الحالة الثانية، ألن الدنيا في وهمه هي يومه الوحيد الذي ال يملك أي غد من ورائه، ومن ثم فهي حظه الذي ال بديل له عنهوال ثاني له من ورائه. فلمن يشكر؟ وفيم يصبر؟ فكيف تكون مشاعر هذا اإلنسان الذي جاء يحمل الدنيا أوقارا من أحالمه وآماله الوردية الرائعة، وعندما يفاجأ منها بالغصص المنكرة، وبالمآسي والمصائب الموحشة؟ ما يكاد يفرح بساعات من لهوه الذي يطوف به ومشتهياته التي ترقص بين يديه، حتى تغيب عنه إشراقة هذه الساعات، وتتحول الدنيا من حوله إلى نقيض هذا الذي كان يفرح ويمرح فيه: سلسلة من المصائب واآلالم

المتنوعة تأخذه والترده.. ثم كيف تكون مشاعره عندما يجد أن ليل الشباب قد فارقه بكل ماكان يفيض به من قوة وغرائز ورغبات وأحالم مقبلة... وقد أقبل إليه من ورائه المشيب فالشيخوخة بكل ما فيها من ضعف وذبول، وبكل ما تحمله إليه من بشائر

الموت ومقدماته؟.. كيف تكون مشاعره آنذاك، وهو اليزال موقنا بأنه سيرحل من دنياه هذه إلى عدم مطبق، وأنه إنما يمر باألسطر األخيرة من قصة وجوده في

الحياة؟

Page 16: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

وما هو معنى الصبر بالنسبة إليه؟ وماقيمته؟ وماجدواه؟ إن الصبر في حقيقته ليس أكثر من تعلق األمل بخير متوقع. فإن لم يكن ثمة أمل يتعلق بيقين ال ريب فيه بالحياة اآلخرة، فال معنى للصبر في هذه الحال. وإنما هو الخضوع القسري لعذاب ال ثمرة من ورائه وال مناص منه.

وجدير بمن كانت هذه حاله أن يختنق أو ينفجر. وإني ألشبه حال كل من المؤمن والكافر في فرق ما بينهما في هذا األمر، برجلين قضي عليهما أن يدخال فيسيرا في نفق مظلم ذي اتجاه واحد، أحدهما يوقن أن النفق طريق ال بد منه ينتهي إلى واحة غناء فيها كل ما لذ وطاب، واآلخر يوقن أنه ينتهي إلى سد ال يمكن اختراقه. من الواضح أن األول منهما كلما أوغل سائرا في ظلمات ذلك النفق انتعشت نفسه وازدهرت آماله وأحالمه إذ يعلم أنه غدا على مقربة من الواحة التي تكمن في نهايته.. وأن الثاني منهما كلما أوغل سائرا فيه أطبق الهم على خناقه وازدادت ظلمات النفق ضيقا عليه، وتصور أن عاقبة ذلك النفق أن يتحول إلى قبر يختنق

فيموت فيه. ولعل بوسعك اآلن أن تعلم السبب فيما يلجأ إليه جيل الضياع والتطوح في الغرب، من الركون

Page 17: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

إلى أنواع المخدرات، واالستسالم لغول المسكرات، والسبب في األمراض النفسية المستشرية هناك، وفي الشذوذات المرهقة التي تنقلهم من شقاء إلى شقاء، ثم في النسبة

المرعبة المتزايدة للمقدمين على االنتحار. لدي إحصاء يعود إلى ما ال يقل عن عشر سنوات، يقول إن عدد المنتحرين كل عام من طالب وطالبات جامعات الواليات المتحدة

(ألف شخص،13-12األمريكية وحدها، مابين )وال أدري إلى أي حد ارتفع العدد في هذه األيام.

*** بقي أن تعلم أنه ال النعم والمتع التي تتسابق إلى اإلنسان وتغمره بلذائذها هي مصدر السعادة التي تهيمن على النفس وتنعش القلب، وال المصائب واألسقام التي قد تتكاثر لديه هي مصدر الشقاء الذي تصطبغ به النفس ويسيطر

على الشعور. رب إنسان ال تعلم المصائب سبيال إليه، تفيض داره بالمتع والنعم، ويفيض جسده بالصحة والعافية، ولكن قلبه ال يعلم مع ذلك طعم السعادة والسرور!.. يضيق بالدنيا كلها ذرعا دون أن يشكو أي ألم، ويعاني من وحشة متالحقة

Page 18: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

وهو في أبهى ساعات مرحه وتراقص الدنيا منحوله.

ورب إنسان غابت عنه متع الدنيا ونسيته مباهجها وأهواؤها، ابتلي بالفقر في جيبه وباألسقام في جسده، وتنظر إليه فإذا البسمة الصادقة ال تفارق

وجهه، والسرور الحقيقي يغمر قلبه. أال فلتعلم أن األمر ليس فيه أي مفارقة، وليس فيه ما يدعو إلى العجب. مصدر الشعور

بالسعادة والشقاء هو القلب.. والقلب هو مكان تجليات ا لله عز وجل الذي أضحك وأبكى، والذي إن شاء شرح من خالل ذلك صدرك، وإذا الدنيا كلها ترقص على إيقاع سرورك، وإن شاء بعث من خالل ذلك أيضا فيه الوحشة والضيق، وإذا بمتع الدنيا كلها تتحول إلى ظلل داكنة سوداء تنفث في كيانك شعور

التشاؤم، وتمأل قلبك بثقل الهموم. إذن فاستخدم ماتطوله يداك من الدنيا وأسبابها ألود حياتك وإقامة عيشك. ثم اطرق بيد اإليمان الحقيقي باب الله تعالى إلسعاد قلبك ولشرح صدرك. وابذل كل ما تملك من جهد في سبيل أن تكون ممن قال عنهم رسول ا لله في الحديث الذي مر ذكره، وأعود فأختم به شرح

هذه الحكمة:

Page 19: الحكم العطائية شرح وتحليل الحكمة 24

))عجبا ألمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك ألحد إال المؤمن. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان

.2خيرا له((

رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث صهيب، ورواه 2النسائي في عمل اليوم والليلة، بألفاط قريبة.