وكذلك جعلناكم أمة وسطا

260
ً طاَ سَ وً ةَ ّ م ْ م ك اَ نْ لَ عَ جَ كِ لَ ذَ كَ و م ي ح ر ل $ ن م ح ر ل لة ل مس ب ذمة ق م ا، ن ل ما ع ات ن ي س ا و ن س ف ن ور ر9 ش$ ن م لة ل ا ب وذ ع ن ة، و ي لB وت تD نره و ف ع ت س ب ة و ي ي ع ت س ب مذه و ح ن لة ل مذ ح ل $ نB لة، ك ي ر9 شة وحذه لا ل ل لاB لةB لا$ ن هذ9 ش لة، و هاذي لا ف ل ل ض ي$ ن م لة، و ل ض م لا ف لة ل ذه ه ي$ ن م ا.ً م ي ل س ب م سل ة و ي ح ص لة وh ى عل ة و ي ل ع لة ل ى صل ولة س ذه ور ن ع ً مذ ح م$ ن هذ9 ش و عذ: ن ما لة ل ى صل مذ ح م$ نt ي نv ي ن ل م ت ا لة ح س ل ر ض ف ها ي ف9 ث ع ن$ ن مة لا ه هذ ي ل ح و ر ع لة ل مة ح ر$ ن م$ نB ا ف. ره خh لا ا و ن نلذ ري ي خ ل ها مل9 ش ها و م و ق ها و مل ك ة و ي ي ك ل ض ف ة ي ل ع لD ز ن م، و سل ة و ي ل عْ ذَ قَ ل( : ة حان ب س ولة ق ى ف ما ك ؛ ة نh $ ن م ر9 كي ى ف مة لا ه ى هذ عل مة ي عظ ل مة ع ت ل ه هذ ي ل ح و ر ع لة ل $ ن مي ذ ق ل وَ اتَ نِ كْ ل م ه مِ ّ لَ ع نَ وْ مِ ه يِ ّ كَ D ز نَ وِ ةِ انَ بh ْ مِ هْ يَ لَ ع و لْ نَ نْ مِ هِ س فْ نَ ْ $ نِ مً ولا سَ رْ مِ ه يِ فَ 9 ثَ عَ نْ ذِ B َ $ نt يِ نِ مْ و مْ ل ىَ لَ ع َ ّ َ ّ $ نَ م:$ ن ر م ع لh( ) ٍ $ نt يِ ن مٍ ال لَ ص ىِ فَ ل لْ بَ فْ $ نِ م و ن اَ كْ $ نِ B َ وَ ةَ مْ كِ حْ ل َ و164 .) ً ةَ مْ حَ ا رَ ّ لِ B َ اكَ نْ لَ سْ رَ اَ مَ و( : ى ل عا ن ال ؛ ف$ ن مي ل عا ل ل مة ح ة ر ن ا م ب سل ة و ي ل ع لة ل ى صل ولة س ر ف ص وو اء: نv ي ي لا( ) َ $ ن يِ مَ ل اَ عْ لِ ل107 .) ال ؛ ف مة ح ء وهذي ور ى9 ش ل ك ل اً اب نv ي ي ة ي فَ ّ $ ن م، و و ق ى ه ى لت ل هذي ي ة ن ا م ب ت ز لك ة ان ن ك ف ص ووْ م هَ لَ ّ $ نَ ِ اتَ حِ ل اَ ّ ض ل َ $ ون لَ مْ عَ نَ $ ن يِ ذَ ّ ل َ $ نt يِ نِ مْ و مْ ل رِ ّ 9 شَ v بُ t يَ و مَ وْ قَ َ ىِ ه ىِ تَ ّ لِ ل يِ ذْ هَ يَ $ نh ْ ر فْ ل َ ذَ هَ ّ $ نِ B ( : ى ل عا ن() ً ر يِ v بَ كً رْ خَ 1 ء: ر شB لا( ) 9 .) ل ن ل ح ل ر ص ا ب$ ن ي ز¸ ن ر لع ذ ن ع/ خ ي9 س ل لة ن ض ف ع ق و م ل ة وظ ف ح م وق ف ح ل ع ت م حwww.aljiliyl.islamlight.net

Upload: 506577

Post on 29-Jul-2015

75 views

Category:

Documents


2 download

TRANSCRIPT

Page 1: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

بسم الله الرحمن الرحيممقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فال مضل له، ومن يضلل فال هادي له،

وأشهد أن ال إله إال الله وحده ال شريك له، وأشهـد أن محمـد�ا عبدهورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليم�ا.

أما بعد: فإن من رحمة الله عز وجل بهذه األمة أن بعث فيها أفضل رسله خاتم

النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه وأكملهاوأقومها وأشملها لخيري الدنيا واآلخرة.

ولقد امتن الله عز وجل بهذه النعمة العظيمة على هذه األمة في أكثر من� وال س� �ع�ث� ف�يه�م ر� �ذ ب �ين� إ م�ؤ م�ن ه� ع�ل�ى ال �ق�د م�ن الل آية؛ كما في قوله سبحانه: )ل

�وا �ان �ن ك م�ة� و�إ ح�ك �اب� و�ال �ت ك Wم�ه�م� ال �ع�ل Wيه�م و�ي ك �ز� �ه� و�ي �ات ه�م آي �ي �و ع�ل ل �ت ه�م ي ف�س� �ن م�ن أ( )آل عمران: Yين� �ف�ي ض�اللY م�ب ل� ل (.164م�ن ق�ب

ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين؛ قال تعالى: )و�م�ا( )األنبياء: �م�ين� ع�ال �ل ح م�ة� ل �ال ر� �اك� إ ن ل س� ر

� (. 107أ�ا لكل شيء ووصف كتابه الكريم بأنه يهدي للتي هي أقوم، وأن فيه تبيانر� Wش� �ب �ق و�م� و�ي �ي ه�ي� أ ت �ل �ه د�ي ل آن� ي ق�ر �ن ه�ذ�ا ال وهدى ورحمة؛ قال تعالى: )إ

()� �يرا �ب � ك �ج را �ه�م أ ن ل� �ح�ات� أ �ون� الصال �ع م�ل ذ�ين� ي �ين� ال م�ؤ م�ن (.9( )اإلسراء:1ال

ى ر� �ش ح م�ة� و�ب ي ءY و�ه�دى� و�ر� �لW ش� �ك � ل �انا ي �ب �اب� ت �ت ك ك� ال �ي �ا ع�ل ن ل �ز وقال سبحانه: )و�ن( )النحل: من اآلية �م�ين� ل م�س �ل (.89ل

�؛ فإن المتأمل في كتاب الله وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله حديثا عز وجل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يجد هذه المعاني

العظيمة واضحة وضوح الشمس، حيث ال يخفى على من له أدنى بصيرة ما تضمنه كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى

والرحمة والشمول لكل مصالح العباد، مع مراعاة لكل جوانب النفس البشرية ومخاطبتها بمنهج متوازن وميزان قسط وعدل ال يطغى فيه جانب

على جانب، وال يرجح فيه طرف على آخر. وال غرابة في ذلك فهو صادر عن الله عز وجل، وما صدر عن الله تعالى فهو الكامل الشامل المتوازن؛ ألنه صدر عن الكامل في صفاته وأفعاله،

الذي ال حدود لكماله، العالم بمصالح خلقه، والحكيم الذي يضع الشيء في موضعه الذي يجب أن يوضع فيه، الرحيم الذي يرحم عباده بما يأمرهم به من خير وينهاهم عنه من شر؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي

لوال أن هدانا الله. وإن من أبـرز سمات هـذا المنهج الرباني الهادي للتي هي أقـوم أنه متسم بالشمول والتوازن والوسطية والعدل؛ ولذلك امتن الله عز وجل على هذه

�ك� �ذ�ل األمة التي أنزل إليها كتابه الكريم ومنهجه القويم بقوله تعالى: )و�ك �م ك �ي ول� ع�ل س� �ون� الر �ك اس� و�ي ه�د�اء� ع�ل�ى الن �وا ش� �ون �ك �ت � ل مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن ج�ع�ل

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 2: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

س�ول� م�من �ع� الر ب �ت �م� م�ن ي �ع ل �ن �ال ل ه�ا إ �ي ت� ع�ل �ن �ي ك ت �ة� ال ل ق�ب �ا ال ن � و�م�ا ج�ع�ل ه�يدا ش�ه� �ان� الل ه� و�م�ا ك ذ�ين� ه�د�ى الل �ال ع�ل�ى ال ة� إ �ير� �ب �ك �ت ل �ان �ن ك ه� و�إ �ي ق�ل�ب� ع�ل�ى ع�ق�ب �ن ي

( )البقرة: ح�يم� ؤ�وف� ر� �ر� اس� ل �الن ه� ب �ن الل �م إ �ك �يم�ان �ض�يع� إ �ي (.143ل ويتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه السمة البارزة في هذا�م - شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الدين فيقول: »وهو - م�ن ث

ا، �، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخير� الكينونة البشرية أوال ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه

األطوار جميع�ا. بما أن صانعه هو صانع هذا اإلنسان .. الذي خ�لق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؛ فليس أمامه - سبحانه - مجهول بعيد

عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل المالبسات التي تحيط بهذه�م فقد وضع له التصور الصحيح الشامل لكـل جوانب كينونتـه، الحياة، ومن ث

ولكـل أطوار حياتـه، المتوازن مع كـل جوانب كينونتـه ومع كـل أطــوارحياتـه، الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كـل ظروف حياته.

�م - الميزان الوحيد الذي يرجع إليه اإلنسان في كل مكان وفي وهو - م�ن ث كل زمان؛ بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخالقه

وأعماله ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة وال مقررات الحقة يرجع إليها فيWف بها عقله هذا الشأن، إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكي وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك

�م ت �ن �ن ك ـول� إ س� ه� و�الر �ل�ى الل د�وه� إ ي ءY ف�ر� �م ف�ي ش� ع ت �از� �ن �ن ت الميزان: )ف�إ�( )النساء: من اآلية و�يال

�أ ن� ت �ح س� ر� و�أ ي �ك� خ� خ�ـر� ذ�ل � اآل �و م ي ه� و�ال �الل �ون� ب �ؤ م�ن («)59ت( ا.هـ.2

�ن ه�ذ�ا وقال اإلمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: )إ( )اإلسراء: من اآلية �ق و�م� �ي ه�ي� أ ت �ل �ه د�ي ل آن� ي ق�ر (: »ذكر جل وعال في هذه9ال

اآلية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهد�ا برب العالمين جل وعال يهدي للتي هي

أقوم؛ أي الطريقة التي هي أسد� وأعدل وأصوب ... وقال الزجاج والكلبيوالفراء: للحال التي هي أقوم الحاالت، وهي توحيد الله واإليمان برسله.

وهذه اآلية الكريمة أجمل الله جل وعال فيها ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها؛ فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال ألتينا

على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا(.3واآلخرة«)

وقد جعلت عنوان هذه الرسالة اآلية الكريمة من سورة البقرة؛ وهي قوله�( )البقرة: من اآلية مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل (. وذلك ألنطلق143تعالى: )و�ك منها في بيان عظمة هذا الدين وشموله، وبركته وخيره على البشرية،

موضح�ا في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى بعض�ا من جوانب عدله، ووسطيته وتوازنه في عقائده وأحكامه، وما فيه من الميزان الحق، واليسر

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 3: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

والخير والتوافق مع العقل السليم والفطرة السليمة التي فطر الله الناسعليها.

ا لبعدنا عن تدبر كتاب ربنا عز وجل وانشغالنا عن ذلك بمناهج بشرية ونظر� جاهلة ظالمة؛ بعضها يضخم جانب العقل، والبعض اآلخر يضخم جانب

الروح، وبعضها يقدس أقوال الرجال وآراءهم، وغير ذلك من مصادر التلقي المنحرفة؛ كل ذلك نشأ عنه مناهج ومواقف معوجة غير متوازنة؛ بعضها ينزع إلى الغلو واإلفراط، وبعضها ينزع إلى الجفاء والتفريط. والخير كله�يه� ت �أ والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربنا عز وجل الذي: )ال ي

Y ح�م�يدY( )فصلت: ز�يل� م�ن ح�ك�يم �ن ف�ه� ت ل ه� و�ال م�ن خ� �د�ي ن� ي �ي �اط�ل� م�ن ب ب (42ال �ان� م�ن �و ك وصدق الله العظيم في وصف المناهج البشرية بقوله سبحانه: )و�ل

�( )النساء: من اآلية �يرا �ث � ك �الفا ت �و�ج�د�وا ف�يه� اخ ه� ل ر� الل د� غ�ي ن (.82ع� ولقد ظهرت في واقعنا المعاصر مواقف وأفكار مضطربة وغريبة على منهج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهج السلف الصالح أصحاب القرون

المفضلة. ولو أن هذه المواقف صدرت عن طوائف الضالل والبدع لكان األمر غير مستغرب ألن كل إناء بما فيه ينضح، ولكن المستغرب صدورها من بعض المنتسبين والداعين إلى طريقة السلف الصالح؛ مما أدى إلى

تشويه الحق أو لبسه بالباطل، كما أدى إلى مزيد من الفرقة واالختالف بينأصحاب المنهج الحق الواحد.

وفي ضوء كل ما سبق تأتي هذه الرسالة الجديدة من سلسلة الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لبيان عظمة هذا الدين، وشموله وكماله،

وتوازنه وعدله، وأثر ذلك في توازن وضبط األفكار والحركات والمواقفودفعها إلى فعل الخير المثمر في الدنيا واآلخرة.

وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام أمور كثيرة أشير فيما يليإلى أهمها:

األمر األول: ما ظهر في حياة كثير من الناس من المخالفة لحد االعتدال في هذا الدين - سواء إلى الغلو أو إلى التقصير - ويتضح هذا في كثير من جوانب الدين سواء ما كان منه في جانب االعتقاد؛ كمفهوم اإليمان، والقدر، واألسماء

والصفات، والتوكل والخوف والرجاء، أو ما كان منه في جانب العبادةط Wفر�والنسك ما بين غال ومقصر، أو في جانب األخالق والسلوك ما بين م

وم�ف ر�ط. يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »وكال طرفي األمور ذميم، وخير األمور أوسطها، واألخالق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط

وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط(.4بين بدعتين«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 4: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

األمـر الثاني : (5ما ظهر في هذه األزمنة المتأخرة من فهم منحرف لمعنى )الوسطية()

واألمة الوسط؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم�ا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم ا غريب والدعوة تفسير�

الشرعي الصحيح لهـا. وقد أثمـر هـذا المفهـوم المنحرف للوسطية عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجد، وهذا بدوره أدى إلى بعض

التنازالت في ثوابت هذا الدين وأخالقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت

فيه الضغوط، فال بد من التوسط في أخذ هذا الدين حتى ال ينفر الناس منه. وهذا المفهوم المنحرف لمعنى الوسطية له ما يفسره، لكن ليس له ما

يبرره، وقد انطلق بعض من يدعو إلى هذه األفكار من الفهم الخاطئ للتشديد والتيسير؛ حيث يرى بعضهم أن االلتزام بهذا الدين وأخذه بقوة كما

جاء في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ال يستطيعه كثير من الناس في هذا الزمان، وأن دعوة الناس إلى ذلك هو من التشديد والغلو المنافي للوسطية، ولذلك أصبحنا نسمع من بعض العوام بل من بعض الدعاة من يص�م بعض أبنائه أو إخوانه الملتزمين بالسنة الصحيحة في عبادتهم وسلوكهم بأنه متشدد أو متطرف. وهذا كله إنما نشأ من الفهم

المنحرف للوسطية والتشديد والتيسير؛ فال بد إذن من تحرير مفهومالوسطية كما جاء عن السلف الصالح رضي الله عنهم.

األمـر الثالث:وهو فرع عن الذي قبله، أال وهو:

ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول أو الحلول الوسطية من قبل بعض المشتغلين بالدعوة. ويقصدون بالحلول الوسطية أن ال يبقى الدعاة في

مواقفهم المتصلبة القوية من الطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ ألن مثل هذه المواقف لم تجر إال الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان

ال بد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة ومد الجسور مع أعداء الدعوة واالتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل

منهما لآلخر ويسمون ذلك وسطية، وال يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط

المرضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو األحكام هو من صفات األمة الوسط التي اختصها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على

الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يرضي الله تعالى؟!.

األمر الرابع: في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية

للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات األمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 5: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

خاطئة لظاهرة االختالف الحاصل بين الدعاة وطلبة العلم. وما نشأ ذلك إال بسبب فقدان التوازن والوسطية في بعض األخالق والمعامالت؛ ومن ذلك

التطرف في معالجة األخطاء: ما بين غالY في الحب والتقدير لبعض األشخاص فال يرى أخطاءهم إال بمنظار الحسن والتبرير، وغالY في الكره

والخصومة فال يرى إال األخطاء، وما كان من صواب فيسيء الظن بصاحبه. وإن مثل هذه المواقف - فوق أنها فاقدة للتوازن والوسطية والعدل - يدخل فيها الهوى وحظ النفس، والوسط والعدل بين هذين الطرفين. وال أبالغ إذا قلت إن الف�رقة الحاصلة اليوم بين أهل السنة إنما يعود السبب األكبر فيها

إلى فقدان الوسطية والعدل والتوزان في عالج الخالف. ولعل فـي هـذه الدراسـة مساهمـة أقدمهـا لنفسي ولجميع المنتسبين ألهل

السنة والجماعة؛ حتى نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر نحب األلفة واالجتماع، ونكره الفرقة واالختالف، ولنكون من األمة الوسط العادلة

الشاهدة على الناس، وبخاصة في هذه األزمنة التي تكالب فيها األعداء على المسلمين من كل صوب، ورموهم عن قوس واحدة، فتعينت

المحافظة على وحدة الصف الداخلي في مواجهة العدو الخارجي المخالف لنا في أصل الملة وليس في مسألة أو مسائل فرعية؛ ألن الفقه في الدين

ومقاصد الشريعة، والتحلي بالعدل واإلنصاف يفرضان على المسلمين تآلفهم وتحمل خالفـاتهـم الجزئيـة أمـام الطـامـة الكبـرى التـي يريدهــا

الكفـار باإلسـالم والمسلمين. والمقصود أن غياب الوسطية واضطراب الميزان يقود إلى اإلجحاف

ومجانبة الرفق في تقويم الرجال والكتب والمواقف، وعدم إعذار من له عذر، وهذا بدوره يقود إلى التفرق والتعصب والغلو والعدوان. وعند فقد

الميزان والوسطية والعدل تصبح الكبائر التي يعملها الشخص أو من معه في طائفته من اللمم والصغائر، وتنقلب الصغائر واالجتهادات الخاطئة إلى

كبائر حينما تقع من اآلخرين. وهذه الظواهر ال يشك أحد في وجودها اليوم بين بعض العاملين في حقل الدعوة؛ وسببها غياب الميزان الحق والوسطية والعدل التي هي من أبرز

سمات هذا الدين، ومن أخص خصائص هذه األمة الوسط التي اختارها اللهعز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شاهدة على الناس.

األمر الخامس : ظهور بعض المتحمسين للدعوة والغيرة على الدين ممن لم يكن لهم علم

كافY بمقاصد الشريعة، وبمبدأ الموازنات في الشريعة اإلسالمية؛ حيثزت طائفة منهم النظر في المفاسد المترتبة على األخذ ببعض القضايا رك

المستجدة دون مراعاة لما فيها من المصالح، وطائفة أخرى ركزت على ما فيها من المصالح بغض النظر عن ما يترتب عليها من المفاسد وكال

الطرفين مذموم. والحق هو الموازنة؛ فما كانت محصلته الخير والصالح في�خذ به ولو كانت فيه مفاسد قليلة ترجح بها كثرة المصالح الدين أو الدنيا أ

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 6: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

كم�ا أو كيف�ا. وما كان محصلته الفساد والشر فإنه يترك ولو ظهرت فيه.� بعض المصالح التي ترجح بها كثرة المفاسد كم�ا أو كيفا

والمقصود أن ظاهرة األحادية في النظرة والتعصب لها توجد اليوم من بعض الغيورين، وهي بدورها توقع أصحابها في مصادمة دائمة مع إخوانهم

الدعاة، بل قد توقعهم في مصادمة مع بعضهم البعض أو مع أنفسهم. والوسطية والعدل والتوازن في األخذ بمبدأ الموازنات هو أصل عظيم في

تشريع األحكام والحكم على النوازل، ورحم الله من قال: »ليس الفقيه منيعلم الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين«.

األمر السادس: إن اإللمام بخاصية العدل والتوازن والوسطية في أحكام الله عز وجل

الكونية منها والشرعية لمن أكبر العون على معرفة سنن الله عز وجل التي ال تتبدل وال تتغير، والتي تتسم بصفة االطWراد والثبات والشمول والتوازن.

وهذا بدوره يقود إلى معرفة السنن الربانية في تغير المجتمعات سواء من سوء إلى ح�سن أو عكس ذلك. وما أحوج األمة اليوم إلى إدراك هذه السنن

الربانية؛ وبخاصة دعاتها وعلماؤها ومجاهدوها الذين يقع عليهم عبء المسؤولية وثقل األمانة في إنقاذ األمة - بإذن الله تعالى - مما هي فيه من

ذلة وشقاء وفساد. وفي إدراك هذه السنن المطردة المتوازنة هداية إلى معرفة المنهج

الصحيح للتغيير كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وفي المقابل فإنه عندما يكون الجهل أو الغفلة عن هذه السنن الربانية فإن

ذلك مؤذن باالنحراف عن المنهج الصحيح للدعوة والتغيير واإلصالح.

األمر السابـع: إن الحديث عن سمة الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين وأحكامه

وأخالقه ليبعث في النفس الغبطة والفرح والسرور، والفخر بدين اإلسالم، وهذا بدوره يورث في النفس تعظيم الله عز وجل وحمده وشكره، وتعظيم

دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم الذي هدانا الله به إلى صراطه المستقيم؛ وبخاصة عندما ننظر إلى المناهج البشرية المضطربة التي

فقدت هذه الخاصية فذهبت بها األهواء تارة ذات اليمين، وتارة ذات الشمال. كما أن ذلك يبث في النفس الطمأنينة والثبات على هذا الدين، ويدفع المسلم إلى الدعوة لهذا الدين وإيصاله إلى الناس لينعموا به في الدنيا وتسعد حياتهم به وبما فيه من العدل والتوازن والشمول والكمال،

ولتكمل سعادتهم في الدار اآلخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن خاصية التوازن في دين اإلسالم: »... وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من االندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا

وهناك، والتصادم هنا وهناك؛ هذه اآلفة التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 7: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا وأضافت هذا � خاطئ البشرية بما أضافته إليها أو نقصته منها، أو أولته تأويال(.6التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة«)

وأكتفي بهذه البواعث التي دفعت إلى كتابة هذه الرسالة لتدل على غيرهامن البواعث التي لم تذكر، والتي ال تبعد عما سبق، وإنما هي تفريعات لها.

وسيكون البحث في هذه الرسالة من خالل األبواب والفصول التالية إنشاء الله تعالى:

)� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل الباب األول : تفسير آية سورة البقرة )و�ك

( وما في معناها من اآليات واألحاديث.143)البقرة: من اآليةالباب الثاني : مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وأمره.

وتحته فصالن:الفصل األول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.

الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوزان في أمر الله عز وجل وشرعه.وتحته مباحث :

المبحث األول: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في االعتقاد. المبحث الثاني: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في األمر بالمعروف

والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.المبحث الثالث: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في العبادات.

المبحث الرابع: من مظاهـر العـدل والوسطيـة والتـوزان فـي األخـالقوالمعامالت.

الخاتمة .

____________ ( انظر ما كتبه اإلمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - من كالم طويل ونفيس1)

(.417-3/372عند هذه اآلية في تفسيره المبارك »أضواء البيان«: )(.50، 49( »خصائص التصور اإلسالمي«: )ص 2)(، باختصار.3/372( »أضواء البيان«: )3)(.220( »روضة المحبين« )ص 4) ( سيأتي إن شاء الله تعالى بيان المعنى الصحيح لمفهوم )الوسطية( في5)

مبحث قادم.(.136( »خصائص التصور اإلسالمي ومقوماته«: )ص 6)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 8: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الباب األول�( )البقرة: من اآلية مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل (143تفسير قوله تعالى )و�ك المقصود من استعراض أقوال السلف من تفسير هذه اآلية هنا هو الوقوف

على المعنى الحق لمفهوم )الوسطية( واألمة الوسط؛ وذلك حتى ننطلق من هذا المعنى الصحيح في ذكر األمثلة والمظاهر المتنوعة لهذه السمة

المميزة لإلسالم وأهله.ة، كما ذكر لها المفسرون وقد ورد تفسير )األمة الوسط( في السنة النبوي

، وتفصيل ذلك كما يلي: Yعدة معان - روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول1

�دعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا الله صلى الله عليه وسلم: )ي�م؟ فيقولون: ما غ�ك �ل �قال ألمته: هل ب رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيه قد أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أن

�ك� �ذ�ل غ، ويكون الرسول عليكم شهيد�ا فذلك قوله - جل ذكره -: )و�ك بل �م ك �ي ول� ع�ل س� �ون� الر �ك اس� و�ي ه�د�اء� ع�ل�ى الن �وا ش� �ون �ك �ت � ل مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن ج�ع�ل�( )البقرة: من اآلية ه�يدا (.1(. والوسط: العدل()143ش�

- وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:2�( )البقرة: من اآلية مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل �«)143)و�ك (.2( قال: »عدوالوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه Wوقد ساق الطبري عدد�ا من الر

ابعين؛ كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، �ا إلى بعض الصحابة والت اآلية منسوب.»� حيث فسروها ب »عدوال

.»� وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها: »جعلكم أمة عدوال(.3وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين األمم)

�قال منه: وقال اإلمام الطبري: »وأما الوسط فإنه في كالم العرب: الخيار، ي فالن وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع

في حسبه.وهو وسط في قومه وواسط؛ قال زهير بن أبي س�لمى في الوسط:

هم وسط يرضى األنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظ�م� قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء

الذي هو بين الطرفين، مثل وسط الدار.هم وسط لتوسطهم في الدين، وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنما وصفهم بأنره�ب، وقيلهم في عيسى صارى الذين غلوا بالت فال هم أهل غلو فيه، غلو الن ما قالوا فيه وال هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله،

Wهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربفيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب األمور إلى الله أوسطها.

ه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، وأما التأويل فإن(.4ألن الخيار من الناس عدولهم«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 9: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�(5- قال ابن كثير)3 مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل (: وقوله - تعالى -: )و�ك

�قال في قريش:143)البقرة: من اآلية (. الوسط هنا: الخيار واألجود، كما يا، أي: خيرها. �ا ودار� أوسط العرب نسب

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط�ا في قومه، أي: أشرفهم�ا. نسب

ومنه الصالة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت فيالصحاح وغيرها.

( عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه6وروى اإلمام أحمد)�قال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى وسلم: »يدعى نوح يوم القيامة في�قال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد قومه في

�ك� �ذ�ل �قال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال: فذلك قوله: )و�ك في�( )البقرة: من اآلية مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن �دعون143ج�ع�ل (. قال الوسط: العدل، فت فتشهدون له بالبالغ، ثم أشهد عليكم« وقد رواه البخاري والترمذي

(.7والنسائي وابن ماجة)�( )البقرة: من اآلية4 مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل - قال صاحب المنار: »)و�كاء�( )البقرة: من143 �ش� �ه د�ي م�ن ي ه� ي (. وهو تصريح بما فهم من قوله: )و�الل(. أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسط�ا.213اآلية

قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار؛ وذلك أن الزيادة على المطلوب في ل� فريط مي األمر إفراط، والنقص عنه تقصير وتفريط، وكل� من اإلفراط والت

عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي األمر،(.8أي المتوسط بينهما«)

5 �م �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل - وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: )و�ك�( )البقرة: من اآلية مة� و�س�طا

� � وخيارا، وما عدا الوسط143أ (: »أي: عدال فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه األمة وسط�ا في كل أمور الدين؛ وسط�ا في األنبياء بين من غال فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم

كاليهود، بأن آمنوا بهم كل� على الوجه الالئق بذلك.ووسط�ا في الشريعة؛ ال تشديدات اليهود وآصارهم، وال تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم؛ ال كاليهود الذين ال تصح لهم صالة إال في�ع�ه�م وكنائسهم، وال يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم �ي ب

Wبات عقوبة لهم. طي�ا، بل أباحوا ما دب �ا وال يحرمون شيئ �نجسون شيئ وال كالنصارى الذي ال ي

ودرج. بل طهارتهم - أي هذه األمة - أكمل طهارة وأتمها، وأباح لهم الطيبات من

م عليهم الخبائث من ذلك. المطاعم، والمشارب، والمالبس، والمناكح، وحرفلهذه األمة من الدين أكمله، ومن األخالق أجلها، ومن األعمال أفضلها.

ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل واإلحسان ما لم يهبه ألمة سواهم،اس�(. ه�د�اء� ع�ل�ى الن �( كاملين معتدلين، ليكونوا: )ش� مة� و�س�طا

� فلذلك كانوا: )أ

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 10: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

اس من سائر أهل بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الن(.9األديان، وال يحكم عليهم غيرهم«)

- وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه اآلية: »إنها األمة6 الوسط التي تشهد على الناس جميع�ا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع

لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا

حق منها وهذا باطل. ال التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزين ما يصدر عنها، ويقول فيه

الكلمة األخيرة .. وبهذا تتحدد حقيقة هذه األمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعربضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعداد�ا الئق�ا.

وإنها لألمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى االعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه

المادي الحسي.. »أمة وسط�ا« في التصور واالعتقاد ال تغلو في التجرد الروحي وال في

االرتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من

كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم األشواق وعالم النوازع، بال

تفريط وال إفراط، في قصد وتناسق واعتدال. »أمة وسط�ا« في التفكير والشعور؛ ال تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. وال تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك،

إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها،

وفي تثبت ويقين. »أمة وسط�ا« .. في التنظيم والتنسيق .. ال تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، وال تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر

بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فال تكل الناس إلى سوط السلطان، وال تكلهم كذلك إلى وحي

الوجدان .. ولكن مزاج من هذا وذاك. »أمة وسط�ا« .. في االرتباطات والعالقات .. ال تلغي شخصية الفرد

ومقوماته، وال تالشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ وال تطلقها جشع�ا ال هم له إال ذاته .. إنما تطلق من الدوافع والطاقات كذلك فرد�ا أثر�

ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن

المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 11: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

والواجبات ما يجعل الفرد خادم�ا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسقواتساق.

»أمة وسط�ا« .. في المكان .. في سرة األرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه األمة التي غمر أرضها اإلسالم إلى هذه اللحظة هي األمة التي

تتوسط أقطار األرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميع�ا، وتشهد على الناس جميع�ا؛ وتعطي ما عندها ألهل األرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا

(.10إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء...«)�ك�7 �ذ�ل - ويستدل اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله تعالى: )و�ك

�… اآلية( )البقرة: من اآلية مة� و�س�طا� �م أ �اك ن ( على وجوب اتباع143ج�ع�ل

الصحابة رضي الله عنهم فيقول: »ووجه االستدالل باآلية أنه تعالى أخبر أنه�؛ هذا حقيقة الوسط، فهم خير األمم، وأعدلها في ا عدوال جعلهم أمة خيار�

أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم

شهداؤه، ولهذا نوه بهم، ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم؛ ألنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من المالئكة وغيرهم بحال هؤالء الشهداء، وأمر مالئكته

أن تصلي عليهم، وتدعو لهم وتستغفر لهم. والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق؛ فيخبر بالحق مستند�ا

( )الزخرف: �م�ون� �ع ل ح�قW و�ه�م ي �ال ه�د� ب �ال م�ن ش� إلى علمه به، كما قال تعالى: )إ(.86من اآلية

فقد يخبر اإلنسان بالحق اتفاق�ا من غير علمه به، وقد يعلمه وال يخبر به،(.11فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم ...«)

وبعد استعراض ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا فهم� واضح� محدد�لمعنى الوسطية المذكورة في صفة هذه األمة وكونها أمة وسط�ا.

وهذا الفهم يتحدد في معنيين هما:األول: الخيرية واألفضلية.

الثاني: التوازن والعدل والقيام بالحق، والبينية بين اإلفراط والتفريط. وكال المعنيين داخل في اآلخر؛ فإن الخيرية واألفضلية لم تتصف بها هذه األمة إال لكونها قائمة بالعدل والقسط والحق، ولكونها وسط�ا بين الغاليوالجافي. وكل من قام بالعدل والحق فهو األولى بصفة الخيرية والفضل.

والوسطية والعدل والبينية تقتضي أن يكون هناك طرفان مذمومان يكتنفانالوسط والعدل.

أحدهما: ينزع إلى الغلو واإلفراط.واآلخر: ينزع إلى التفريط واإلضاعة والجفاء.

وفي هذا المعني يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »... وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إال وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما

(.12إلى مجاوزة، وهي اإلفراط، وال يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 12: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ويحسن بنا في هذا المقام أن نتعرض لمفهوم الغلو واإلفراط، ومفهومالجفاء والتفريط بعد أن اتضح لنا معنى الوسط والعدل والتوازن.

� : الغلو واإلفراط : أوال(.13قال الجوهري: »وغال في األمر يغلو غلو­ا أي: جاوز فيه الحد«)

وقال في اللسان: »وغال في الدين واألمر يغلو غلو­ا: جاوز حده، وقال في( )النساء: من اآلية �م �ك �وا ف�ي د�ين �غ ل (.... وقال بعضهم: غلوت171التنزيل )ال ت

�ا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه ... ويقال في األمر غلو­ا وغالنية وغالني(.14للشيء إذا ارتفع: قد غال، وغال النبت: ارتفع وعظم«)

وقد جاء في القرآن الكريم النهي عن الغلو في الدين في أكثر من موضع؛ومن ذلك:

ح�ق( �ال ال ه� إ �وا ع�ل�ى الل �ق�ول �م و�ال ت �ك �وا ف�ي د�ين �غ ل �اب� ال ت �ت ك �ه ل� ال �ا أ قوله تعالى: )ي(.171)النساء: من اآلية

قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه اآلية: »... والغلو: اإلفراط ومجاوزة الحد، ومنه: غال السعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة

القدر في الظلم ... وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول(.15بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثالثة«)

�ع�وا ب �ت ح�قW و�ال ت ر� ال �م غ�ي �ك �وا ف�ي د�ين �غ ل �اب� ال ت �ت ك �ه ل� ال �ا أ وقوله تعالى: )ق�ل ي) �يل� ب و�اء� الس �وا ع�ن س� � و�ض�ل �يرا �ث �وا ك �ض�ل ل� و�أ �وا م�ن ق�ب Y ق�د ض�ل �ه و�اء� ق�و م أ

(.77)المائدة:�فر�طوا في القول فيما تدينون قال اإلمام الطبري - رحمه الله تعالى -: »ال ت به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل. فتقولوا فيه: هو الله أو

(.16هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبدالله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه«) وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »والنصارى أكثر غلو�ا في

االعتقادات واألعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في(.17القرآن«)

وقال اإلمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في آية المائدة: »أي: ال تجاوزواتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى �م�ر �ط روا من أ الحد في اتباع الحق وال ت

تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام اإللهية كما صنعتم في المسيح، وهو نبي(.18من األنبياء فجعلتموه إله�ا من دون الله«)

كما جاء النهي عن الزيادة والتكلف في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه( )ص: Wف�ين� �ل �ك م�ت �ا م�ن� ال �ن �ج رY و�م�ا أ ه� م�ن أ �ي �م ع�ل �ك �ل أ �س (.86وسلم: )ق�ل م�ا أ

قال اإلمام ابن كثير في تفسير هذه اآلية: »أي: قل يا محمد لهؤالءا تعطونيه من ع�ر�ض المشركين: ما أسألكم على هذا البالغ وهذا النصح أجر�

( أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به Wف�ين� �ل �ك م�ت �ا م�ن� ال �ن الحياة الدنيا )و�م�ا أت� به أديته ال أزيد عليه وال أنقص منه، وإنما �م�ر وال أبتغي زيادة عليه، بل ما أ

(.19أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار اآلخرة«) وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن الغلو والتشديد في

الدين، وذكر بعضها هنا يساعد في فهم معنى الغلو وحدوده.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 13: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الحديث األول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غداة جمع: )هلم القط لي الحصى(، فلقطت له

حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: )نعم بأمثال هؤالءما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين() (.20وإياكم والغلو في الدين فإن

الحديث الثاني: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله�ا) (.21صلى الله عليه وسلم: )هلك المتنطعون(. قالها ثالث

ووي�: »هلك المتنطعون: أي المتعمWقون المغالون المجاوزون الحدود قال الن(.22في أقوالهم وأفعالهم«)

الحديث الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى�شدWد الله عليكم؛ الله عليه وسلم، كان يقول: "ال تشدWدوا على أنفسكم في

فإن قوم�ا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في( )الحديد: من اآلية ه�م �ي �اه�ا ع�ل ن �ب �ت �د�ع�وه�ا م�ا ك ت ة� اب �ي �ان ه ب الصوامع والديار )و�ر�

27(")23.) قال اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تعليقه على هذا الحديث:

»فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين؛ وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله

عليه؛ إما بالق�د�ر وإما بالشرع؛ فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسهبالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به.

وبالقدر: كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم(.24القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة الزمة لهم«)

الحديث الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إال غلبه، فسددوا وقاربوا

(.25وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة() قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: »والتسديد: العمل بالسداد؛ وهو القصد

(.26والتوسط في العبادة؛ فال يقصر فيما أمر به وال يتحمل ما ال يطيقه«) الحديث الخامس: عن عبدالرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه

وسلم قال: )اقرؤا القرآن وال تأكلوا به، وال تستكثروا به، وال تجفوا عنه وال(.27تغلوا فيه()

ا من الحديث السادس: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نفر� أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه

وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: ال أتزوج النساء، وقال بعضهم: ال آكل اللحم، وقال بعضهم: ال أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه وقال:

)ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؛ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج(.28النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني()

وعند البخاري: )جاء ثالثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من

ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبد�ا، وقال آخر: أنا

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 14: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

أصوم الدهر وال أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فال أتزوج أبد�ا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله

إني ألخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج(.29النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني()

ومن خالل األحاديث السابقة يتبين لنا معنى الغلو وحده وأنه مجاوزة الحد وتعدي ما أمر الله به، أو فعل ما لم يشرعه الله عز وجل وال رسوله صلى

الله عليه وسلم. »ومن األلفاظ المرادفة لمعنى الغلو: اإلفراط. وهو يشترك مع الغلو في

كونه مجاوزة للحد، وان كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه؛ فالذي يشدد على نفسه بتحريم بعض الطيبات أو

بحرمان نفسه منها يكون وصف الغلو ألصق به، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدى بها حدود مثل تلك العقوبة يكون وصف اإلفراط ألصق به

(.30من الغلو«)­ من الغلو واإلفراط خروج عن الوسطية. والمقصود أن كال

�ا : التفريط والجفاء : ثاني بعد ما تعرفنا على معنى الغلو واإلفراط، وأنه مجانب للوسطية، نقف في

هذه الفقرة لنتعرف على الطرف اآلخر المقابل له، أال وهو التفريط واإلضاعة والذي هو اآلخر مجانب للوسطية والعدل والميزان المستقيم. فما

معنى التفريط؟)� طا ه� ف�ر� م ر�

� �ان� أ قال في اللسان: »التفريط: هو التضييع. وقال الزجاج: )و�ك ( أي: كان أمره التفريط وهو تقديم العجز، وفرط في28)الكهف: من اآلية

(.31األمر يفرط فرط�ا. أي: قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط«)ا.هـ.

وقال الجوهري: »فرط في األمر فرط�ا: أي قصر فيه وضيعه حتى فات،(.32وكذلك التفريط«)

وقد وردت مادة )فرط( في القرآن في عدة مواضع:�ة� �غ ت اع�ة� ب ه�م� الس اء�ت �ذ�ا ج� ى إ ه� ح�ت �ق�اء� الل �ل �وا ب �ذب ذ�ين� ك ر� ال قال تعالى: )ق�د خ�س�

�ا ف�يه�ا( )األنعام: من اآلية ط ن �ا ع�ل�ى م�ا ف�ر �ن ت ر� �ا ح�س �وا ي (.31ق�العنا فيها. قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضي

عنا من عمل طنا فيها، فضي �ا(. فندامتنا على ما فر �ن ت ر� �ا ح�س قال السدي: أما )ي(.33الجنة)

عنا، وأصله التقدم؛ يقال: فرط فالن أي طنا معناه ضي وقال القرطبي: وفر ( ... ومنه في34تقدم وسبق إلى الماء، ومنه: )أنا فرطكم على الحوض()

�ا(. أي: قدمنا ط ن ط�ا ألبويه؛ فقولهم: )ف�ر الدعاء للصبي: اللهم اجعله ف�ر�ابق لنا إلى طاعة الله العجز. وقيل: »فرطنا« أي: جعلنا غيرنا الفارط الس

(.35وتخلفنا) )Yء ي �اب� م�ن ش� �ت ك �ا ف�ي ال ط ن وقال تعالى في سورة األنعام - أيض�ا -: )م�ا ف�ر

(.38)األنعام: من اآلية

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 15: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

عنا إثبات شيء منه. قال الطبري: معناه: ما ضي�ا إال قد كتبناه في أم الكتاب. اس: ما تركنا شيئ وقال ابن عب

ي ءY(. قال: لم نغفل، ما من �اب� م�ن ش� �ت ك �ا ف�ي ال ط ن وقال ابن زيد: )م�ا ف�ر(.36شيء إال وهو في الكتاب)

) ط�ون� Wف�ر� �ا و�ه�م ال ي �ن ل س� ه� ر� �و�فت م�و ت� ت �م� ال �ح�د�ك اء� أ �ذ�ا ج� ى إ وقال تعالى: )ح�ت(.61)األنعام: من اآلية

ضييع فيما مضى قبل، وكذلك فريط: الت ا أن معنى الت ن قال الطبري: قد بيتأوله المتأوWلون في هذا الموضع.

Wعون. �فرطون«. ال يضي اس: »ال ي قال ابن عبWعون) (.37وكذلك قال السدي¨: »ال يفرطون«. ال يضي

( )يوسف: من اآلية �وس�ف� �م ف�ي ي ط ت ل� م�ا ف�ر وفي سورة يوسف: )و�م�ن ق�ب80.)

قال الطبري: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم(.38تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف)

(. قصرتم في شأنه) �وس�ف� �م ف�ي ي ط ت (.39قال القاسمي: )ف�ر وبالتعرف على معنى التفريط نكون قد أحطنا علم�ا بالطرفين المذمومين

المخالفين للوسطية والعدل، وهما: طرف الغلو واإلفراط، وطرف التفريطوالتقصير، وأن الميزان العدل وسط بينهما في كل األمور.

�ا منهج السلف وفي ذلك يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - مبينا - وهما القائم على العدل والوسط: »والسلف يذكرون هذين األصلين كثير�

م� قلب العبد �ش� نة - فإن الشيطان ي االقتصاد في األعمال واالعتصام بالس�نة ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراض�ا عن كمال االنقياد للس�

نة، وشدة طلب لها أخرجه عن االعتصام به؛ وإن رأى فيه حرص�ا على الس� لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها؛ فأمره باالجتهاد والجور على النفس،

� له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة واالجتهاد ومجاوزة حد االقتصاد فيها، قائال فيها أكمل؛ فال تفتر مع أهل الفتور، وال تنم مع أهل النوم، فال يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن االقتصاد فيها؛ فيخرج عن حدها، كما أن األول

خارج عن هذا الحد، فكذا هذا اآلخر خارج عن الحد اآلخر.�ح ق�ر أهل االستقامة صالتهم مع صالتهم، وصيامهم وهذا حال الخوارج الذين ي

نة إلى مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكال األمرين خروج عن الس� البدعة؛ لكن هذا إلى بدعة التفريط، واإلضاعة، واآلخر إلى بدعة المجاوزة

واإلسراف. وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إال وللشيطان فيه نزغتان. إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي اإلفراط. وال يبالي بأيهما ظفر زيادة أو

(.40نقصان«) ويقول - رحمه الله تعالى - في موطن آخر: »وما أمر الله بأمر إال

وللشيطان فيه نزغتان فإما إلى غلو ومجاوزة وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان ال يخلص منهما في االعتقاد والقصد والعمل إال من مشى خلف

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 16: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، ال من ترك ما جاء به ألقوالهم وآرائهم، وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير وخوفوا من ابتلي

بأحدهما بالهالك. وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق؛ا في بعضه، والمهدي من �ا متجاوز� ا مفرط�ا في بعض دينه، غالي يكون مقصر�

( ا.هـ.41هداه الله«)تنبيه :

ما دام أن الوسطية سمة بارزة في هذا الدين، وأنه قائم على العدل والوسط والتوزان بين طرفي الغلو والتقصير، فإنه ينبغي الحذر ونحن في

صدد الحديث عن الغلو والجفاء من أن نقع في الغلو في فهمنا للغلو واإلفراط، أو في فهمنا للتفريط والتقصير. ذلك أن بعض الناس قد يفسر

التمسك بالدين عقيدة وعبادة وشريعة وأخذ ذلك كله بقوة وااللتزام بالسنة، قد يفسر ذلك بالغلو والتشديد وهذا غلط وغلو في الغلو؛ ففرق بين الملتزم

بدينه المتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابت على عقيدته في ضوء الكتاب والسنة وبين من يشدد على نفسه بأمور لم تشرع في هذا

الدين، أو يتجاوز حدود الله عز وجل في اآلخرين قاصد�ا بذلك التدين والتعبدلله تعالى.

فاألول ممدوح ومحبوب لله عز وجل، وأهله هم المتقون القابضون على دينهم قبض الجمر أيام الصبر والفتن، وهم أهل الله عز وجل وخاصته، وهم الطائفة المنصورة مهما قال عنهم المخالفون أو المخذلون ورموهم به من صفات الغلو والتنطع والتطرف؛ فإنهم كما جاء وصفهم في حديث الطائفة

(.42المنصورة: »ال يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله«) أما الفئة التي غلت في دين الله تعالى وتعبدت لله تعالى بما لم يأذن به

سبحانه أو بما يسخط الله تعالى فهي الفئة التي يصدق عليها وصف الغلووالتطرف والتنطع.

وفي مقابل من يغلو في فهم الغلو فإن هناك من يغلو في فهم التفريط والتقصير؛ وذلك بأن ينظر إلى بعض اجتهادات الراسخين في العلم وما

يفتون به في بعض النوازل والمستجدات مما هو قائم على الموازنة عند تزاحم المفاسد والمصالح، مما ينتج عنه ترك لبعض األوامر أو لبعض السنن أو فعل لبعض المنهيات؛ فينظر الغالي في فهم التقصير والتفريط إلى هذه

االجتهادات على أنها إضاعة وتفريط وتقصير في أمر هذا الدين، دون أن ينظر إلى ما يقابل ذلك من مصالح عظيمة فيها حفظ مقاصد الدين

والشريعة. وعلى كل حال فإن مسألة الموازنات في المصالح والمفاسد شأنها عظيم

وال يصلح أن يشتغل بها إال الراسخون في العلم، المجتهدون الربانيون الذين حباهم الله رسوخ�ا في العلم والتقوى، وحماهم من الهوى وأغراض الدنيا؛ فهؤالء هم الذين تتبع األمة فتاواهم ومواقفهم ألنهم وإن بدا للوهلةا، فإنهم قد انطلقوا في تقريرها من ضوابط األولى أن في فتاواهم تقصير�

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 17: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

شرعية دقيقة، ومن تجرد وإخالص. فمثل هذه الفتاوى ال يقال عنها إنها تفريط وتقصير، وإنما هي من العدل والحق إن شاء الله تعالى. نعم لو أن

من يتصدى لذلك كان من غير المعروفين بالرسوخ في العلم أو من المعروفين بالهوى وحظوظ الدنيا؛ فإن فتاواهم في الغالب تنطلق من هوى

أو دون ضوابط شرعية، وحينئذ يصدق على أمثال هؤالء وصفهم بالتفريطواإلضاعة.

ذكر بعض اآليات التي ورد فيها القيام بالقسط واألمر به: � م ع�ل �و ال �ول �ة� و�أ �ك م�الئ �ال ه�و� و�ال �ه� إ �ل ه� ال إ ن

� ه� أ ه�د� الل اآلية األولى: قوله تعالى: )ش�( )آل عمران: ح�ك�يم� ع�ز�يز� ال �ال ه�و� ال �ه� إ �ل ق�س ط� ال إ �ال � ب �ما (.18ق�ائ

ه�د�اء� ق�س ط� ش� �ال �وا ق�وام�ين� ب �ون �وا ك ذ�ين� آم�ن �ه�ا ال ي� �ا أ اآلية الثانية: قوله تعالى: )ي

و ل�ى� ه� أ � ف�الل و ف�ق�يرا

� � أ �يا �ن غ�ن �ك �ن ي �ين� إ ب �ق ر� ن� و�األ �د�ي و�ال و� ال� �م أ ك ف�س� �ن �و ع�ل�ى أ ه� و�ل �ل ل

�م�ا �ان� ب ه� ك �ن الل �ع ر�ض�وا ف�إ و ت� و�وا أ �ل �ن ت �وا و�إ �ع د�ل �ن ت ه�و�ى أ �ع�وا ال ب �ت �ه�م�ا ف�ال ت ب

�( )النساء: �يرا ب �ون� خ� �ع م�ل (.135ت قال اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه اآلية: »فأمر سبحانه

بالقيام بالقسط - وهو العدل - في هذه اآلية، وهذا أمر بالقيام به في حق­ا، وأحق ما قام له العبد بقصدY: األقوال واآلراء كل أحد عدو�ا كان أو ولي

والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره.فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد ألمر الله، م�نافY لما بعث به رسوله.

والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين أتباعه، وال يستحق اسم األمانة إال من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده. وأولئك هم الوارثون حق�ا، ال من يجعل أصحابه ونحلته�ا له، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه ا على الحق وميزان ومذهبه معيار� بمجرد موافقته ومخالفته، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله

�ا«) (.43على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرض�ا، وأكبر وجوب�ط غ�و ا( �اب� م�ع�ك� و�ال ت ت� و�م�ن ت �م�ر �م�ا أ �ق�م ك ت اآلية الثالثة: قوله تعالى: )ف�اس

(.1121)هود: من اآلية »فاالستقامة: االعتدال والمضي على النهج دون انحراف ... وإنه لمما

�ا عن يستحق االنتباه هنا أن النهي الذي أعقب األمر باالستقامة، لم يكن نهي�ا عن الطغيان والمجاوزة ... والله يريد دينه القصور والتقصير، إنما كان نهي

كما أنزله، ويريد االستقامة على ما أمر دون إفراط وال غلو، فاإلفراط(.44والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير«)

اس� وا الن خ�س� �ب � و�ال ت �ق�يم ت م�س ق�س ط�اس� ال �ال �وا ب اآلية الرابعة: قوله تعالى: )و�ز�ن( )الشعراء: د�ين� ر ض� م�ف س�

� �و ا ف�ي األ �ع ث �اء�ه�م و�ال ت ي �ش (.183، 182أ وهذه اآلية وإن كانت في قوم شعيب الذين كانوا ينقصون المكيال لكنها

تشمل كل وزن بالقسطاس والعدل في أي أمر حسي أو معنوي.�وا ع�ل�ى �ال ت �ذ�ا اك ذ�ين� إ م�ط�فWف�ين� ال �ل ل� ل وفي هذا المعنى أيض�ا قوله تعالى: )و�ي

( )المطففين: ون� ر� �خ س� �وه�م ي ن و و�ز�� �وه�م أ �ال �ذ�ا ك �و ف�ون� و�إ ت �س اس� ي (، وهي3-1الن

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 18: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وإن كانت في المكيال والميزان لكنها تحذر من التطفيف في كل شيء وتنهى عن أن يكون للرجل معياران: إن كان لنفسه ومن يحب وفى، وإن

كان لغيره أو خصمه نقصه وبخسه حقه، وإنما الواجب أن يكون للمرءمعيار واحد؛ وهو الميزان العدل مع من يحب ومن يبغض.

�ا م�ع�ه�م� ن ل ز� �ن �ات� و�أ Wن �ي ب �ال �ا ب �ن ل س� �ا ر� ن ل س� ر� �ق�د أ اآلية الخامسة: قوله تعالى: )ل

ق�س ط�( )الحديد: من اآلية �ال اس� ب �ق�وم� الن �ي ان� ل م�يز� �اب� و�ال �ت ك (.25ال:) �اب� �ت ك �ا م�ع�ه�م� ال ن ل ز� �ن قال اإلمام ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى: )و�أ

( وهوالعدل؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، ان� م�يز� »وهو النقل الصدق، )و�ال وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة لآلراء

ه�( اه�د� م�ن �وه� ش� ل �ت Wه� و�ي ب �ةY م�ن ر� Wن �ي �ان� ع�ل�ى ب �ف�م�ن ك السقيمة، كما قال تعالى: )أ ه�ا(17)هود: من اآلية �ي اس� ع�ل �ي ف�ط�ر� الن ت ه� ال ت� الل (، وقال تعالى: )ف�ط ر�

ان�(30)الروم: من اآلية م�يز� ف�ع�ه�ا و�و�ض�ع� ال م�اء� ر� (، وقال تعالى: )و�الس ق�س ط�( )الحديد: من7)الرحمن: �ال اس� ب �ق�وم� الن �ي (. ولهذا قال في هذه اآلية )ل

( أي بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما25اآلية أمروا به؛ فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال

�( )األنعام: من اآلية � و�ع�د ال Wك� ص�د قا ب �م�ت� ر� �ل �مت ك ( أي صدق�ا115تعالى: )و�ت� في األوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا في األخبار وعدالذ�ي ه� ال �ل ح�م د� ل غرف الجنات والمنازل العاليات والسرر المصفوفات: )ال

)Wح�ق �ال �ا ب Wن ب س�ل� ر� �ق�د ج�اء�ت ر� ه� ل �ا الل �ن ه�د�ان �و ال أ �د�ي� ل �ه ت �ن ا ل �ن �ه�ذ�ا و�م�ا ك �ا ل ه�د�ان(.45(«)43)األعراف: من اآلية

ويقول شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة الله وحده ال شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على

(.46النفس«) واآليات في ذكر العدل والقسط واألمر به ومدح أهله وذم أهل الجور

والعدوان وأهل اإلضاعة والتفريط كثيرة� جد�ا، وليس المقصود استقصاؤها في هذا المقام، وإنما المراد اإلشارة إلى أن العدل والحق هو أصل هذا

الدين وسمته الرئيسة، وهو الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل حتى يقوم أعظم العدل وهو عبادة الله عز وجل وتوحيده بال ند وال شريك، ثم العدل مع الخلق وإعطاؤهم حقوقهم وعدم بخسهم أشياءهم، ثم العدل

مع النفس دون غلو وال إفراط، ودون تقصير وال تفريط. فما أعظمه من دين، وما أجله من تشريع جاء إلسعاد الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والبغي والعدوان إلى نور التوحيد والعدل والقسطاس المستقيم؛ فنحمده سبحانه على الهداية لهذا الدين القويم العظيم ونسأله عز وجل أن يثبتنا عليه وأن يميتنا عليه، وأن يجعلنا من الداعين إلى سبيله المستقيم، وأن يكتب على أيدينا إخراج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادته

وحده سبحانه، ومن جور األديان إلى عدل اإلسالم، ومن ضيق الدنيا إلىسعة الدنيا واآلخرة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 19: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

_____________ ( قوله: )الوسط:8/22(، وقال الحافظ في الفتح: )4487( البخاري )1)

العدل( هو مرفوع من نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كماوهم فيه بعضهم.

(، وصححه5/190(، والحديث رواه الترمذي: )2/7( تفسير الطبري: )2)(.2361األلباني في صحيح الترمذي: )

(.2/7( تفسير الطبري: )3)(.2/6( تفسير الطبري: )4)( تحقيق: أحمد شاكر.1/263( عمدة التفسير عن ابن كثير: )5)(.3/32( المسند: )6) ( من هذا الكتاب، وهو17( سبق تخريجه عند البخاري، والترمذي )ص 7)

(.4284عند ابن ماجة برقم )(.2/4( تفسير المنار: )8)(.1/157( تفسير السعدي: )9)(.1/131( في ظالل القرآن: )10)(.1/369( بدائع التفسير: )11)(، ط. دار طيبة.2/342( مدارج السالكين: )12)(.6/2448( مختار الصحاح: )13)( لسان العرب: مادة )غال(.14)(.2/260( انظر زاد المسير: )15)(.6/316( تفسير الطبري: )16)(.1/289( اقتضاء الصراط المستقيم: )17)(.2/82( تفسير ابن كثير: )18)( من سورة: ص.86( تفسير ابن كثير عند اآلية )19) (، وصححه3029(، وابن ماجة: )3057( برقم )5/268( النسائي: )20)

(.1283األلباني في السلسلة الصحيحة: )(.2670( مسلم: )21)(.16/220( شرح مسلم للنووي: )22)(، وضعفه األلباني في ضعيف سنن أبي داود: )4904( أبو داود: )23)

1049.)(.1/132( عن كتاب إغاثة اللهفان: )24)(.39( البخاري: )25)(.51( المحجة في سير الدلجة: )ص 26)(.1168(، وصححه األلباني في صحيح الجامع: )3/428( أحمد: )27)(.1401( مسلم: )28)(.5063( البخاري: )29)( انظر الوسطية في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور ناصر العمر.30)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 20: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

( لسان العرب: مادة )فرط(.31)(.3/1148( مختار الصحاح: )32)(.7/178( انظر تفسيرالطبري: )33)(.2297(، ومسلم في الفضائل: )6575( أخرجه البخاري في الرقاق: )34)(.6/413( انظر تفسير القرطبي: )35)(.7/188( انظر تفسير الطبري: )36)(.7/218( انظر تفسير الطبري: )37)(.13/35( المصدر نفسه: )38)(.9/3579( انظر تفسير القاسمي: )39)(، ط. دار طيبة.2/342( مدارج السالكين: )40)(، دار إحياء العلوم.545( الروح البن القيم: )41) (، وبنحوه عند مسلم في4252( أخرجه أبو داود في الفتن والمالحم )42)

(، وغيرهما.1924اإلمارة )(.82، 2/81( بدائع التفسير: )43)( باختصار.4/1931( في ظالل القرآن: )44)( من سورة الحديد.25( تفسير ابن كثير: عند اآلية )45)(.10/99( مجموع الفتاوى: )46)

الباب الثانيمن مظاهر العدل والتوزان في خلق الله تعالى وأمره

( )األعراف: �م�ين� ع�ال ب� ال ه� ر� ك� الل �ار� �ب �م ر� ت ق� و�األ ل خ� �ه� ال ال ل� قال الله تعالى: )أ

(. فالخلق خلقه واألمر أمره، وهو الحكيم الخبير الذي أحسن54من اآلية كل شيء خلقه، والذي قام خلقه وأمره على الحق والعدل والميزان

المستقيم.( )الملك: من اآلية Yت�ف�او� ح م�ن� م�ن ت ق� الر ل ى ف�ي خ� �ر� (،3قال تعالى: )م�ا تYج�ل� ح�قW و�أ �ال �ال ب �ه�م�ا إ ن �ي ر ض� و�م�ا ب

� م�او�ات� و�األ �ا الس �ق ن ل وقال تعالى: )م�ا خ�( )األحقاف: وا م�ع ر�ض�ون� ذ�ر� ن

� وا ع�ما أ �ف�ر� ذ�ين� ك مى� و�ال (، وقال عن كتابه3م�س�

ن� �ي �اط�ل� م�ن ب ب �يه� ال ت �أ �اب� ع�ز�يز� ال ي �ت �ك ه� ل �ن الكريم المتضمن ألمـره وشرعـه: )و�إY ح�م�يدY( )فصلت: ز�يل� م�ن ح�ك�يم �ن ف�ه� ت ل ه� و�ال م�ن خ� �د�ي � عن41،42ي (، وقال أيضا

ي ءY( )النحل: من �لW ش� �ك � ل �انا ي �ب �اب� ت �ت ك ك� ال �ي �ا ع�ل ن ل �ز شمول كتابه الكريم: )و�ن�ل89اآلية ق�ن� ك �ت ذ�ي أ ه� ال ع� الل (، وقال سبحانه عن إتقانه لمخلوقاته: )ص�ن

( )النمل: من اآلية �ون� �ف ع�ل �م�ا ت �ير� ب ب ه� خ� �ن ءY إ ي (.88ش�

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 21: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ومناسبة إيراد اآليات السابقة لموضوع البحث هو ما تضمنته هذه اآليات من ذكر شمول علم الله عز وجل وبديع صنعه وحكمته البالغة في خلقه وأمره

وشرعه، وما فيها من الدقة والتناسق والتوازن والعدل وقيام ذلك كلهبالحق وللحق.

ق� ل خ� �ه� ال ال ل� يتحدث اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: )أ

( )األعراف: من اآلية �م�ين� ع�ال ب� ال ه� ر� ك� الل �ار� �ب �م ر� ت ( فيقول: »فخلقه54و�األ وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه

وأمره، ... ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه(.1وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق واألمر ...«)

وقال في موطن آخر: »فانظر حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره فيما خلقه وفيما شرعه تجد مصدر ذلك كله الحكمة البالغة التي ال يختل نظامها

�، ومن الناس م�ن يكون حظه من مشاهدة وال ينخرم أبد�ا وال يختل أصال حكمة األمر أعظم من مشاهدة حكمة الخلق، وهؤالء خواص العباد الذين عقلوا عن الله أمره ودينه، وعرفوا حكمته فيما أحكمه، وشهدت فطنهم

وعقولهم أن مصدر ذلك حكمة بالغة وإحسان ومصلحة أريدت بالعباد فيمعاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجات ال يحصيها إال الله.

ومنهم من يكون حظه من مشاهدة حكمة الخلق أوفر من حظه من حكمة األمر؛ وهم أكثر األطباء الذين صرفوا أفكارهم إلى استخراج منافع النبات

والحيوان وق�واها وما تصلح له مفردة ومركبة؛ وليس لهم نصيب في حكمةاألمر إال كما للفقهاء من حكمة الخلق بل أقل من ذلك.

ومنهم م�ن فتح عليه بمشاهدة الخلق واألمر بحسب استعداده وقوته فرأى الحكمة الباهرة التي بهرت العقول في هذا وهذا؛ فإذا نظر إلى خلقه وما

�ا ومعرف�ة وتصديق�ا بما جاءت به الرسل، وإذا نظر فيه من الحكم ازداد إيمان�ا وتسليم�ا، ال كم�ن �ا ويقين إلى أمره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازداد إيمان

حجب بالصنعة عن الصانع، وبالكواكب عن مكوكبها، فعمي بصره وغلظ عن�ا ألنه اطلع من الله حجابه؛ ولو أعطى علمه حقه لكان من أقوى الناس إيمان

حكمة الله وباهر آياته وعجائب صنعته الدالة عليه وعلى علمه وقدرتها وحكمته على ما خ�ف�ي� عن غيره. ولكن من حكمة الله أيض�ا أن سلب كثير�

من عقول هؤالء خاصيتها، وحجبها عن معرفته وأوقفها عند ظاهر من العلم بالحياة الدنيا - وهم عن اآلخرة هم غافلون - لدناءتها وخستها وحقارتها،

وعدم أهليتها لمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأسرار دينه وشرعه والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وهذا باب ال يطلع

الخلق منه على ما له نسبة إلى الخافي عنهم منه أبد�ا؛ بل علم األولين واآلخرين منه كنقرة العصفور من البحر، ومع هذا فليس ذلك بموجب لإلعراض عنه واليأس منه بل يستدل العاقل بما ظهر له منه على ما

(.2وراءه«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 22: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن منهج الله القائم على العلم المطلق والحكمة البالغة في الخلق والشرع فيقول: »إن شريعة الله تمثل منهج�ا

� للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل � متكامال شامالجوانب الحياة اإلنسانية؛ في جميع حاالتها، وفي كل صورها وأشكالها .. وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن اإلنساني، والحاجات

اإلنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه اإلنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة اإلنسانية .. ومن ثم ال يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، وال يقع فيه وال ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط

اإلنساني، وال أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن واالعتدال والتوافق والتناسق .. األمر الذي ال يتوافر أبد�ا لمنهج منا من األمر، وإال الجانب المكشوف في صنع اإلنسان الذي ال يعلم إال ظاهر�

فترة زمنية معينة، وال يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل اإلنساني، وال يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض، و ]من[ الهزات العنيفة

الناشئة عن هذا التصادم.�: ألن الله يعلم حق العلم بم وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أوال

�ا: ألنه - سبحانه - رب الجميع؛ يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثاني فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من

الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - األمر الذي ال يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع

اإلنسان ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل� من أجيال والقصور - سواء كان المشرع فرد�ا، أو طبقة، أو أمة، أو جيال

البشر .. فلكل حالة من هذه الحاالت أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب األمر كله

حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد ..

وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله؛ ألن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله، صانع الكون وصانع اإلنسان؛ فإذا شرع لإلنسان شرع له كعنصر كوني،

له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه؛ بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها .. ومن هنا يقع التناسق بين حركة اإلنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه، وتأخذ الشريعة�ا، ويتعامل بها ال مع نفسه فحسب، وال مع بني التي تنظم حياته طابع�ا كوني

جنسه فحسب! ولكن كذلك مع األحياء واألشياء في هذا الكون العريض الذي يعيش فيه وال يملك أن ينفذ منه، وال بد له من التعامل معه وفق

(.3منهاج سليم قويم«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 23: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وبعد هذه المقدمة المجملة عن سمة الشمول والتوزان والحق والعدل في خلق الله عز وجل وشرعه ندخل في تفصيل مظاهر هذا الشمول والتوازن

والعدل والوسطية من خالل هذين الفصلين:الفصل األول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.

الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه.وتحته مباحث:

المبحث األول: من مظاهر العدل والتوازن في أبواب االعتقاد. المبحث الثاني: من مظاهر العدل والتوازن في األمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.المبحث الثالث: من مظاهر العدل والتوازن في العبادات.

المبحث الرابع: من مظاهر العدل والتوازن في المعامالت واألخالق.

_____________(.2/218( بدائع التفسير: )1)(.245، 1/244( مفتاح دار السعادة: )2)(.2/890( في ظالل القرآن: )3)

الفصل األولمن مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره

�( )الفرقان: من اآلية �ق د�يرا ه� ت ي ءY ف�ق�در� �ل ش� �ق� ك ل (.2قال الله تعالى: )و�خ� قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه اآلية: »أي قدر كل شيء

مما خلق بحكمته على ما أراد ال عن شهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة وبعد القيامة؛ فهو الخالق المقدر فإياه

(.1فاعبدوه«) وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في أضواء البيان عند هذه اآلية: »قدذ�ي ق�در� وى و�ال �ق� ف�س� ل ذ�ي خ� جاء أيض�ا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: )ال

�م�ق د�ارY( )الرعد: من2،3ف�ه�د�ى( )األعلى: د�ه� ب ن ي ءY ع� �ل� ش� (، وقوله تعالى: )و�ك�ق�د�رY( )القمر:8اآلية �اه� ب �ق ن ل ي ءY خ� �ل ش� ا ك �ن ( إلى غير ذلك49(، وقوله تعالى: )إ

من اآليات.جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليل

www.aljiliyl.islamlight.net

Page 24: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وقال ابن عطية: تقدير األشياء هو حدها باألمكنة واألزمان والمقادير(.2والمصلحة واإلتقان«)

وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه اآلية: »أي قدر حجمه وشكله، وقدر وظيفته وعمله، وقدر زمانه ومكانه، وقدر تناسقه مع غيره

من أفراد هذا الوجود الكبير. وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه�ا، ويظهر التقدير �ا بات لمما يدعو إلى الدهشة حق�ا، وينفي فكرة المصادفة نفي الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير، وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك�( )الفرقان: من اآلية �ق د�يرا ه� ت ي ءY ف�ق�در� �ل ش� �ق� ك ل النص القرآني الهائل: )و�خ�

(. يقول كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه2بعنوان )اإلنسان ال يقوم وحده(.

)... ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره - من السيطرة على العالم، منذ عصر

الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن اإلنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما� في تطور آفات الحيوان والحشرات لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثال

والنبات. والواقعة اآلتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود

اإلنسان. منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من

مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة.ولم يجد األهالي وسيلة تصده عن االنتشار؛ وصارت أستراليا في

خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!� حشرة ال تعيش إال وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا

على ذلك الصبار، وال تتغذى بغيره، وهي سريعة االنتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن

االنتشار إلى األبد.� مجدية«) (.3وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائما

ويقول في موطن آخر في الظالل: »إن التوازن ملحوظ في ملكوت السموات واألرض جميع�ا ... إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في

بناء المجرة! وملحوظ في التوازن بين األحياء وبين األشياء سواء، ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائم�ا لحظة، فمن الذي يمسك بعجلة

(.4التوازن الكبرى في السموات واألرض جميع�ا«) ثم يذكر رحمه الله تعالى - بعض صور هذه الموازنات والتقديرات الدقيقة الحكيمة فيقول: »ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من

هذا التوازن في عالقات بعض األحياء ببعض. إذ كنا قد أشرنا بشيء من

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 25: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروفاألرض ...

إن الجـوارح التي تتغـذى بصغـار الطيـور قليلة العـدد، ألنـها قليلة البيض،� على أنها ال تعيش إال في مواطن خاصة محدودة. وهي قليلة التفريخ، فضال

في مقابل هذا طويلة األعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على

كثرتها وكثرة تفريخها. أو قللت من أعدادها الكبيرة الالزمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني اإلنسان، وللقيام بأدوارها األخرى، ووظائفها

الكثيرة في هذه األرض!زور ـ� بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقـر م�ق�ـالت� ن

وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعواملالفناء بين الجوارح والبغاث.

الذبابة تبيض ماليين البويضات. ولكنها ال تعيش إال أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه األرض

بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من األجناس - وأولها اإلنسان - مستحيلة على وجه هذه األرض. ولكن عجلة التوازن التي ال تختل في يد القدرة التي تدبر

هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه!�ا - هي ا، وأشدها فتك والميكروبات - وهي أكثر األحياء عدد�ا، وأسرعها تكاثر�

ا. تموت بماليين الماليين من كذلك أضعف األحياء مقاومة وأقصرها عمر� البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم،

ومن عوامل أخرى كثيرة. وال تتغلب إال على عدد محدود من الحيوانواإلنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة واألحياء!

وكل حي من األحياء مزود بسالح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء. وتختلف هذه األسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سالح، وقوة البطش

سالح، وبينهما ألوان وأنواع. الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها، والثعابين

الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام! والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة،

تصبها على كل من يلمسها، وقاية من األعداء! والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، واألسود مزودة بقوة البأس

واالفتراس!وهكذا كل حي من األحياء الصغار والكبار على السواء.

وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام .. اإلنسان والحيوان والطير وأدنأ

أنواع األحياء سواء .. البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم. وهي مزودة بخاصية

أكالة، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب المتصاصها ونموها! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 26: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

حتى يتم وضعه، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء

إليه بما قد يؤذيه.� إلى االصفرار. � أبيض مائال والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائال

ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى األمراض. وفي اليوم التالي للميالد يبدأ اللبن في

التكوين. ومن تدبير المدبر األعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي� بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة، بينما ال يوما

تزيد كميته في األيام األولى على بضع أوقيات. وال يقف اإلعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير

مكوناته، وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول األمر، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية

� بعد يوم بما يوافق أنسجة والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوما(.6(«)5وأجهزة الطفل المستمر النمو()

واختم الكالم في هذا الباب عن مظاهر الحكم الباهرة والتوازن والعدل واإلتقان في خلق الرحمن ببعض ما ذكره اإلمام ابن القيم - رحمه الله

تعالى - في كتابـه النفيس مفتـاح دار السعـادة؛ حيث أطـال النفس في تعداد هذه الصور وعجائب صنع الله تعالى وحكمته فيها. ومن ذلك قوله -

رحمه الله تعالى -: »أع�د اآلن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية، م�ن الذي�مك في موضع ال يد تنالك وال دبرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أ

بصر يدركك وال حيلة لك في التماس الغذاء وال في دفع الضر؟ فمن الذي�م ما يغذوك كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم أجرى إليك من دم األ

�ا ولم يزل يغذيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب لبن والطلب، حتى إذا كمل خلقك، واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على مالقاة الضياء، وص�ل�بت عظامك على مباشرة األيدي والتقلب�مك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم على الغبراء هاج الطلق بأ االبتالء، فركضك الرحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمك قط ولم يشتمل

�عد ما بين ذلك القبول واالشتمال حين و�ض�عت نطفة، وبين هذا عليك؟!. فيا ب الدفع والطرد واإلخراج، وكان مبتهج�ا يحملك فصار يستغيث ويعج إلى ربك من ثقلك. فم�ن الذي فتح لك بابه حتى ولجت، ثم ضمه عليك حتى حفظت

وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه؟!. فلو تأملت حالك في

دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب. فم�ن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفة حتى ال تفسد هناك؟ وأوحى

� إلى أن خرجت فريد�ا وحيد�ا إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليما ضعيف�ا ال قشرة وال لباس وال متاع وال مال، أحوج خلق الله وأضعفهم�مك إلى وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أ

خزانتين معلقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 27: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

بطنها، ثم ساقه إلى تينك الخزانتين ألطف س�وق على مجارY وطرق قد تهيأت له؛ فال يزال واقف�ا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة

فيجري وينساق إليك؛ فهو بئر ال تنقطع مادتها، وال تنسد طرقها يسوقها إليك في طريق ال يهتدي إليها الطواف وال يسلكها الرجال؟! فم�ن رققه لك

وصف¨اه، وأطاب طعمه، وحسن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، ال بالحار المؤذي وال بالبارد الرديء، وال المر وال المالح وال الكريه الرائحة؟! بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خالف ما كان في البطن فوافاك في أشد أوقات الحاجة إليه، على حين ظمأ شديد وجوع م�فر�ط جمع لك فيه

بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع؛ فتجد الثدي المعلق كاإلداوة قد تدلى إليك وأقبل بدره عليك، ثم جعل في رأسه

تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك؛ فال يضيق عنها، وال تتعب بالتقامها،�ا لطيف�ا بحسب احتمالك، ولم يوسعه فتختنق ثم نقب لك في رأسها نقب

باللبن ولم يضيقه فتمصه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك، فم�ن عطف عليك قلب األم ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة

حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها؛ فإذا أحست منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك، وآثرتك على نفسها على عدد األنفس،

منقادة إليك بغير قائد وال سائق إال قائد الرحمة وسائق الحنان، تود لو أن�زاد في كل ما يؤلمك بجسمها وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها ت حياتك؟! فم�ن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوي بدنك، واتسعت

أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتد به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آلة القطع والطحن؛ فنصب لك

�ا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها؟! فم�ن الذي حبسها عنك أيام أسنان�ا �مك ولطف�ا بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمة بك وإحسان رضاعك رحمة بأ

إليك ولطف�ا بك؟!. فلو أنك خرجت من البطن ذا سن وناب وناجذ وضرس،�مك بك؟ ولو أنك منعتها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك كيف كان حال أ بهذه األطعمة التي ال تسيغها إال بعد تقطيعها وطحنها؟ وكلما ازددت قو�ة

وحاج�ة إلى األسنان في أكل المطاعم المختلفة ز�يد� لك في تلك اآلالت حتى تنتهي إلى النواجذ؛ فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، وكسر الصلب، ثم إذا ازددت قو�ة ز�يد� لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحن التي هي آخر األضراس؛

فم�ن الذي ساعدك بهذه اآلالت، وأنجدك بها، ومكنك بها من ضروب الغذاء؟­ا ال �ا، بل غبي �مك ال تعلم شيئ ثم إنه اقتضت حكمته أن أخرجك من بطن أ عقل وال فهم وال علم، وذلك من رحمته بك، فإنك على ضعفك ال تحتمل

العقل والفهم والمعرفة، بل كنت تتمزق وتتصدع، بل جعل ذلك ينتقل فيكا �ا؛ فال يصادفك ذلك وهلة� واحد�ة، بل يصادفك يسير� �ا فشيئ بالتدريج شيئ

ا من بلده �ي� صغير� ب ا حتى يتكامل فيك. واعتبر ذلك بأن الطفل إذا س� يسير� ومن بين أبويه وال عقل له فإنه ال يؤلمه ذلك، وكلما كان أقرب إلى العقل

� فال تراه إال كالواله الحيران. ثم كان أشق عليه وأصعب، حتى إذا كان عاقال� فهيم�ا كحالك في كبرك تنغصت عليك حياتك أعظم تنغيص، لو ولدت عاقال

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 28: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ق، �ا بالخ�ر� � رضيع�ا معصب وتنكدت أعظم تنكيد؛ ألنك ترى نفسك محموالا ضعيف�ا عما يحاوله الكبير؛ فكيف �ا في المهد عاجز� �ا بالقمط، مسجون مربط

كان يكون عيشك مع تعلقك التام في هذه الحالة؟ ثم لم يكن يوجد لك من الحالوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل،

�، وكان دخولك هذا بل تكون أنكد خلق الله وأثقلهم وأعنتهم وأكثرهم فضوال�ا، وال تعلم ما فيه أهله محض الحكمة والرحمة العالم وأنت غبي ال تعقل شيئ

بك والتدبير، فتلقى األشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم ال يزال يتزايد�ا حتى تألف األشياء وتتمرن عليها، وتخرج �ا فشيئ فيك العقل والمعرفة شيئ

من التأمل لها والحيرة فيها وتستقبلها بح�س ن التصرف فيها والتدبير لها�خ�ر من الحكمة غير ما ذكرناه. فم�ن هذا الذي واإلتقان لها. وفي ذلك وجوه أ هو قيم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع واآلراب

(.7واآلالت في وقت حاجتك، ال يقدمها عن وقتها، وال يؤخرها عنه؟«)� رحمه الله: »ثم تأمل حكمة الله عز وجل في الحفظ والنسيان وقال أيضا

�م، وما للعبد فيهما من الذي خص به نوع اإلنسان، وما له فيهما من الح�ك المصالح؛ فإنه لوال القوة الحاف�ظة التي خص بها لدخل عليه الخلل في

أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، وال ما أخذ وال ما أعطى وال ما سمع ورأى، وال ما قال وال ما قيل له، وال ذكر م�ن أحسن إليه وال م�ن أساء إليه

وال م�ن عامله وال م�ن نفعه فيقرب منه، وال م�ن ضره فينأى عنه، ثم كان الا، وال يعرف علم�ا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مرار�

�ا على ما مضى، ولو درسه عمره، وال ينتفع بتجربة وال يستطيع أن يعتبر شيئ�؛ فتأمل عظيم المنفعة عليك في بل كان خليق�ا أن ينسلخ من اإلنسانية أصالWع�م عليه � عن جميعهن. ومن أعجب الن هذه الخ�الل وموقع الواحدة منها فضال

�ا، وال انقضت له حسرة، وال � شيئ ال �م�ا س� نعمة النسيان؛ فإنه لوال النسيان ل تعزى عن مصيبة، وال مات له حزن، وال بطل له حقل، وال تمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر اآلفات، وال رجا غفلة عدو وال نقمة من حاسد؛ فتأمل

نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختالفهما وتضادهما، وجعله في كل واحد�ا من المصلحة«) (.8منهما ضرب

� في موضع آخر: »ثم تأمل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في وقال أيضا انخفاضها وارتفاعها إلقامة هذه األزمنة والفصول، وما فيها من المصالح

� واحد�ا لفاتت مصالح الفصول الباقية والحكم؛ إذ لو كان الزمان كله فصال فيه، فلو كان صيف�ا كله لفاتت مصالح الشتاء، ولو كان شتاء� لفاتت مصالح� كله؛ ففي الشتاء تغور الحرارة الصيف، وكذلك لو كان ربيع�ا كله أو خريفا

في األجواف وبطون األرض والجبال، فتتولد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء؛ فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة األرض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخالف ما حللته حرارة الصيف من األبدان. وفي الربيع تتحرك الطبائع

وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيظهر النبات، ويتنور الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل. وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جد­ا، فتنضج

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 29: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الثمار وتنحل فضالت األبدان واألخالط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى األجواف ولهذا تبرد العيون واآلبار، وال تهضم المعدة

الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من األطعمة الغليظة ألنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت

الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه. فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم، وجعله الله بحكمته برزخ�ا

بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئال ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحر الشديد إلى البرد الشديد، فيجد أذاه ويعظم ضرره، فإذا انتقل إليه بتدرج

وترتب لم يصعب عليه؛ فإنه عند كل جزء يستعد لقبول ما هو أشد منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول؛ حكمة بالغة وآية باهرة. وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف يتنقل فيه الحيوان من برد هذا إلى حر هذا بتدرج

(.9وترتيب فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين«) وقال: »ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء واألرض

يدرك بحس اللمس، عند هبوبه يدرك جسمه، وال يرى شخصه؛ فهو يجري بين السماء واألرض والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما

تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله

ا للسحاب يلقحه بحمل الماء رخاء� ورحمة� وبشرى بين يدي رحمته، والقح��نثى بالحمل. وتسمى رياح الرحمة المبشرات والنشر كما يلقح الذكر األ

والذاريات والمرسالت والرخاء واللواقح. ورياح العذاب العاصف والقاصف -وهما في البحر - والعقيم والصرصر وهما في البر.

�ا أليم�ا، وجعله وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيم�ا، وأودعه عذابد�ا لما �ا ومفس� ا وعاتي ا ونحس� نقم�ة على من يشاء من عباده فيجعله صرصر�

يمر عليه.�ا ودبور وجنوب وشمال، وفي منفعتها وهي مختلفة في مهابها؛ فمنها ص�ب

وتأثيرها أعظم اختالف؛ فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان،�وهنه وأخرى تجف¨فه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تشده وتصلبه، وأخرى ت

�ضعفه. ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع الختالف منافعها وت�ثير السحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وما يحدث منها؛ فريح ت

(.10وريح تغذي النبات«) »فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو� صافY ال كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حام�ل للماء الثقيل بين السماء واألرض إلى أن يأذن له ربه وخالقه في

�نزله منه مقطع�ا بالقطرات كل قطرة إرسال ما معه من الماء؛ فيرسله وي بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرش السحاب الماء على األرض

ا، ويرسله قطرات مفصلة ال تختلط قطرة منها بأخرى، وال يتقدم رش­ج بها، بل تنزل �مز� متأخرها، وال يتأخر متقدمها، وال تدرك القطرة صاحبتها فت

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 30: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

كل واحدة في الطريق الذي رسم لها ال تعدل عنه حتى تصيب األرض(.11قطرة قطرة«)

»ثـم تأمل الحكمـة فـي خلق النــار على ما هي عليـه من الكمون والظهور؛ فإنها لو كانت ظاهرة أبد�ا كالماء والهواء كانت تحرق العالم

وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة، ولو كانت كامنة ال تظهر أبد�ا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها؛ فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها�مسكها �بقيها الرجل عند حاجته إليها، في �خر�جها وي مخزونة في األجسام ي

ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه، فال يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت بإذن ربها وفاط�رها

فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها. فسبحان م�ن سخرها وأنشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه االستمتاع واالنتفاع والسالمة من الضرر؛ قال

( )الواقعة: ون� �ور� �ي ت ت ار� ال �م� الن ت �ي أ �ف�ر� �اس م�71تعالى: )أ Wح ب ب (، إلى قوله: )ف�س��( )الواقعة: ع�ظ�يم Wك� ال ب ( فسبحان ربنا العظيم لقد تعرف إلينا بآياته74ر�

وشفانا ببيناته وأغنانا بها عن دالالت العالمين فأخبر سبحانه أنه جعلها تذكرة بنار اآلخرة، فنستجير منها، ونهرب إليه منها، ومتاع�ا للمقوين وهم

المسافرون النازلون بالقواء، والقواء هي األرض الخالية وهم أحوج إلى(.12االنتفاع بالنار لإلضاءة والطبخ والخبز والتدفئة واألنس وغير ذلك«)

ا في الجو »ثم تأمل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدر بأن يكون طائر� خف¨ف جسمه، وأدمج خلقته، واقتصر به من القوائم األربع على اثنتين، ومن

األصابع الخمس على أربع، ومن مخرج البول والزبل على حد واحد يجمعهما جميع�ا، ثم خ�لق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجه فيه كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشق الماء بسرعة وتنفذ فيه، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران، وكسى جسمه

كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله. ولما قدر أن يكون طعامه اللحم والحب�ا يتناول به ا صلب يبلعه بلع�ا بال مضغ نق¨ص من خلقه األسنان وخلق له منقار�

طعامه فال يتفسخ من لقط الحب وال يتعق¨ف من نهش اللحم. ولما ع�د�م��عين بفضل حرارة في األسنان، وكان يزدرد الحب صحيح�ا واللحم عريض�ا أ الجوف تطحن الحب وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ، والذي يدلك على�عين بها أنك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن قوة الحرارة التي أى له أثر. ثم اقتضت �ر� اإلنسان صحيح�ا وينطبخ في جوف الطائر حتى ال ي الحكمة أن ج�عل يبيض بيض�ا وال يلد والدة، لئال يثقل عن الطيران؛ فإنه لو

كان مما يحمل ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل ألثقله وعاقه عن النهوض والطيران. وتأمل الحكمة في كون الطائر الم�رس�ل السائح في�ا �سبوعين باختياره قاعد�ا على بيضه حاضن �له�م صبر نفسه أسبوع�ا أو أ الجو ي له، ويحتمل مشقة الحبس؛ ثم إذا خرج فراخه تحمل مشق¨ة الك�س ب وج�م عو�ية وال فكرة في عاقبة أمره الحب في حوصلته، وبزق فراخه وليس بذي ر�

وال يؤمل في فراخه ما يؤمل اإلنسان في ولده من الع�و ن والرفد وبقاء

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 31: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الذكر. فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلة ال يعلمها هو وال(.13يفكر فيها من دوام النسل وبقائه«)

»ثم تأمل الحكمة في شجرة اليقطين والبطيخ كيف لما اقتضت الحكمة أنا جعل نباته منبسط�ا على األرض، إذ لو انتصب قائم�ا ا كبار� يكون حملها ثمار� كما ينتصب الزرع لضعفت قوته عن حمل هذه الثمار الثقيلة ولنقصت قبل

إدراكها وانتهائها إلى غاياتها، فاقتضت حكمة م�بدعها وخالقها أن بسطه ومده على األرض ليلقي عليها ثماره، فتحملها عنه األرض فترى العرق

الضعيف الدقيق من ذلك منبسط�ا على األرض وثماره مبثوثة حواليه كأنها�رضعهم. ولما كان شجر اللوبياء والباذنجان حيوان قد اكتنفها جراؤها فهي ت

�ا قائم�ا على والباقالء وغيرها مما يقوى على حمل ثمرته أنبته الله منتصب(.14ساقه، إذ ال يلقى من حمل ثماره مؤونة وال يضعف عنه«)

سؤال وجوابه : قد يسأل سائل بعد ما تعرفنا على بعض آيات الله عز وجل في اآلفاق وفي األنفس، وما فيها من العجائب والحكم الباهرة: ما عالقة ذلك بموضوع هذه�( )البقرة: من مة� و�س�طا

� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل الرسالة الموسومة بقوله تعالى: )و�ك(؟143اآلية

والجواب: أن في ذلك تنبيه�ا إلى عظمة الخالق عز وجل وكماله وشمول علمه وحكمته لكل شيء، وأن هذه اآليات الباهرة في خلقه وتقديره هي

مقتضى علمه عز وجل وعزته وقدرته ورحمته وعدله وحكمته. وأن م�ن هذه صفاته - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل الكتاب الحكيم على نبينا محمد

صلى الله عليه وسلم وضمنه من األوامر والنواهي والشرائع الكاملة الكفيلة بكل خير ورحمة للعباد، وأن من التزم بها وقام بحقها في نفسه

ومع الناس فهو من األمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون شاهدةعلى الناس ومبلغة دين الله إليهم.

والمقصود أن األمة الوسط ما استحقت هذا الوصف - الذي هو العدل والقيام بالحق والميزان المستقيم - إال لكونها امتثلت لما أنزل على محمد

صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل الذي له األسماء الحسنى والصفات العال، ومن مقتضياتها ما نراه في النفس واآلفاق واألوامر

�م العظيمة والمصالح العامة. والنواهي من الح�ك ففي ذكر حكمته سبحانه في خلقه وتقديره، وما يشتمل عليه من اإلتقان والتوازن والعدل زيادة إيمان ويقين وبينة على أن األمة المتبعة لما أنزل

على محمد صلى الله عليه وسلم هي األمة الوسط الخيار التي تقوم بالعدل وبالحق؛ فكما أن خلق الله عز وجل وتقديره هو الحق والوسط الذي ال إفراط فيه وال تفريط، فكذلك الملتزم بأوامر الخالق عز وجل

وشرعه هو من األمة الوسط؛ وذلك للزومه شرع الله عز وجل الوسط خ�ل ق� �ه� ال ال ل

� العدل الذي ال إفراط فيه وال تفريط، وصدق الله العظيم: )أ( )األعراف: من اآلية �م�ين� ع�ال ب� ال ه� ر� ك� الل �ار� �ب �م ر� ت (؛ فالكل صادر منه54و�األ

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 32: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

سبحانه، فالخلق خلقه واألمر أمره والشرع شرعه، وما صدر عن الله عزوجل فهو الحق والعدل والخير وفيه الحكمة والمصلحة.

أمـا مـا سـوى الله عـز وجـل من المخلوقين الضعاف الجهلة الظلمة، محدودي الزمان والمكان والعقل، فال يصدر منهم إال ما يناسب صفاتهم من�ا ممن يؤثر شرع المخلوق الضعيف وقوانينه الجهل والظلم والهوى، فيا عجب ونظمه الجائرة على شرع الله عز وجل المبرأ من النقص والجهل والظلم، ومن أجل ذلك نرى أن الدول والمجتمعات التي التزمت بغير ما أنزل الله تعالى وحكمت أهواءها قد جاءت أقوالها وأفعالها ونظمها ومواقفها مجانبة

للوسطية والعدل والحق، وحل مكان ذلك الظلم والطغيان واإلفراط أوالتفريط، مما أفرز للناس حياة تعيسة كلها ظلم وشقاء وقلق واضطراب.

فالحمد لله على نعمة اإلسالم، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على دين الحق وأنا يعيننا على أداء واجب دعوة الناس إلى هذا الدين حتى يهنأوا في ظالله في

الدنيا ويفوزوا بالنعيم المقيم في الدار اآلخرة.

_____________(.13/3( تفسير القرطبي: )1)(.6/267( أضواء البيان: )2)( بتصرف واختصار.2549-5/2548( في ظالل القرآن: )3)(.3/1406( في ظالل القرآن: )4)(.48-46( عن كتاب الله والعلم الحديث، عبدالرزاق نوفل: )ص 5)(.3438، 6/3437( في ظالل القرآن: )6)(.267-265( مفتاح دار السعادة: )7)(.1/288( المصدر نفسه: )8)(.1/215( المصدر نفسه: )9)(.1/207( المصدر نفسه: )10)(.1/208( المصدر نفسه: )11)(.1/223( المصدر نفسه: )12)(.1/254( المصدر نفسه: )13)(.1/238( المصدر نفسه: )14)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 33: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الفصل الثانيمن مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه

في الفصل السابق كان الحديث عن مظاهر العدل والحق والتوازن فيخلق الله عز وجل وآياته الباهرة في اآلفاق واألنفس.

وفي هذا الفصل وما تحته من المباحث سيكون الكالم - إن شاء الله تعالى- عن بعض مظاهر العدل والحق والوسطية في أمر الله عز وجل وشرعه. وأول ما أمر الله عز وجل به: توحيده سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه

وصفاته. والتوسط واضح فيه بكونه وسط�ا بين الغلو والتفريط، كما يتضح التوسط والعدل في ما شرعه سبحانه من األحكام في العبادات

والمعامالت. وفي ذلك يقول اإلمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: »الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط األعدل، اآلخذ من الطرفين بقسط ال ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه وال انحالل، بل هو

تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية االعتدال كتكاليف الصالة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداء على

غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل؛( )البقرة: من اآلية ف�ق�ون� �ن �ك� م�اذ�ا ي �لون أ �س �ك�219كقوله تعالى: )و�ي �لون أ �س (، )ي

ر�( )البقرة: من اآلية س� م�ي خ�م ر� و�ال ( وأشباه ذلك.219ع�ن� ال فإن كان التشريع ألجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن

الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع راد­ا إلى الوسط األعدل؛ لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب اآلخر ليحصل االعتدال فيه؛ ف�ع ل� الطبيب

: يحمل المريض� على ما فيه صالحه بحسب حاله وعادته، وقوة الرفيق� مرضه وضعفه؛ حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريق�ا في التدبير وسط�ا

الئق�ا به في جميع أحواله، أو�ال ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها

في هذا الوجود ألجلهم، ولحصول منافعهم، ومرافقهم التي يقوم بها� اشا ر ض� ف�ر�

� �م� األ �ك ذ�ي ج�ع�ل� ل عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم؛ كقوله تعالى: )ال) �م �ك � ل قا ات� ر�ز م�ر� �ه� م�ن� الث ج� ب �خ ر� م�اء� م�اء� ف�أ ل� م�ن� الس ز� �ن �اء� و�أ �ن م�اء� ب و�الس

ل�22)البقرة: من اآلية ز� �ن ر ض� و�أ� م�او�ات� و�األ �ق� الس ل ذ�ي خ� ه� ال (، وقوله: )الل

�ج ر�ي� �ت ك� ل ف�ل �م� ال �ك خر� ل �م و�س� �ك � ل قا ات� ر�ز م�ر� �ه� م�ن� الث ج� ب �خ ر� م�اء� م�اء� ف�أ م�ن� السم ر�ه� ( )إبراهيم: من اآلية

� �أ �ح ر� ب ب ه�32ف�ي ال �ع م�ت� الل �ع�د�وا ن �ن ت ( إلى قوله: )و�إ�ح ص�وه�ا( )إبراهيم: من اآلية م�اء� م�اء�34ال ت ل� م�ن� الس ز� �ن ذ�ي أ (، وقوله: )ه�و� ال

( )النحل: يم�ون� �س� ج�ر� ف�يه� ت ه� ش� اب� و�م�ن ر� ه� ش� �م م�ن �ك ( إلى آخر ما عد لهم10ل من النعم، ثم و�عدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تماد�وا على ما

هم عليه من الكفر. فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته.

�خبروا بحقيقتها، وأنها في الحقيقة فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أ كال شيء؛ ألنها زائلة فانية، وضربت لهم األمثال في ذلك؛ كقوله تعالى:

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 34: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

م�اء�( )يونس: من اآلية �اه� م�ن� الس ن ل ز� �ن �م�اءY أ �ا ك ي �اة� الد�ن ي ح� �ل� ال م�ا م�ث �ن (،24)إ�ه و�( )محمد: من اآلية �ع�ب� و�ل �ا ل ي �اة� الد�ن ي ح� م�ا ال �ن (... بل لما آمن36وقوله: )إ

الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عنا إلى هذا المعنى، فقال عليه الصالة والسالم: االعتدال في طلبها، أو نظر�

�ح لكم من زهرات الدنيا«) �ف ت (. ولما لم يظهر1»إن مما أخاف� عليكم م�ا ي�اد�ه� �ع�ب ج� ل �خ ر� �ي أ ت ه� ال �ة� الل م� ز�ين ذلك وال مظنته قال تعالى: )ق�ل م�ن ح�ر

�و م� �ص�ة� ي ال �ا خ� ي �اة� الد�ن ي ح� �وا ف�ي ال ذ�ين� آم�ن �ل ق� ق�ل ه�ي� ل ز Wات� م�ن� الر� Wب و�الطي�ام�ة�( )األعراف: من اآلية ق�ي �ات�32ال Wب �وا م�ن� الطي �ل س�ل� ك �ه�ا الر� ي

� �ا أ (، وقال: )ي�( )المؤمنون: من اآلية �حا �وا ص�ال (... ولما ذم الدنيا ومتاعها هم51و�اع م�ل

جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه

(، ودعا ألناس بكثرة2وسلم وقال: »من رغب عن سنتي فليس مني«)�ة�( )التغابن: من ن �م ف�ت و الد�ك

� �م و�أ �ك م و�ال� م�ا أ �ن المال والولد بعد ما أنزل الله: )إ

(.15اآلية والمال والولد هي الدنيا: وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحالل

�زهWدهم وال أمرهم بتركها، إال عند ظهور حرص أو وجود منع من منها، ولم ي حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك. وما سواه فال ... فإذا� نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميال إلى جهة طرف من األطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف اآلخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر -

�ؤتى به في مقابلة من غلب عليه االنحالل في الدين. ي�ؤتى وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - ي به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا وال ذاك رأيت التوسط الئح�ا، ومسلك االعتدال واضح�ا، وهو األصل الذي يرجع إليه،

والمعقل الذي يلجأ إليه. وعلى هذا : إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة األخرى؛ وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها،

والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقالء(.3كما في اإلسراف واإلقتار والنفقات()

______________(.1052( رواه مسلم: )1)(.29( سبق تخريجه: )ص 2)( باختصار، ط. دار الفكر.114-2/100( الموافقات: )3)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 35: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

المبحث األولمن مظاهر العدل والوسطية والتوازن

في أبواب االعتقاد وأصول الدين لقد اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من االنحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح

م الله عز ـ هذا االنحراف بين الغلـو واإلفـراط وبين التفريط والتقصير. وسل وجـل من شـاء من عباده المؤمنين من االنحـراف إلـى أحـد هذين

الطرفين، ورزقهم االستقامة والعدل وطريق األمة الوسط. وهم أهل السنةوالجماعة واالتباع للكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم.

ومن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في االعتقاد ما ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن أهل السنة والجماعة وأنهم وسط في

دين الله عز وجل بين الغالي والجافي؛ قال رحمه الله تعالى: ؛ كما أن [ وهذه الفرقة الناجية »أهل السنة« وهم وسط في النحل1»]

ملة اإلسالم وسط في الملل؛ فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم

�ا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إال ليعبدوا إله�ا ورهبانهم أربابواحد�ا ال إله إال هو سبحانه عما يشركون.

وال جفوا عنهم كما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون األنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما ال تهوى أنفسهم

كذبوا فريق�ا وقتلوا فريق�ا. بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم

Yر �ش� �ب �ان� ل �ا، كما قال تعالى: )م�ا ك وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أرباب � ل�ي م�ن �ادا ب �وا ع� �ون اس� ك �لن �ق�ول� ل �م ي �وة� ث �ب م� و�الن ح�ك �اب� و�ال �ت ك ه� ال �ه� الل �ي �ؤ ت ن ي

� أس�ون� �د ر� �م ت ت �ن �م�ا ك �اب� و�ب �ت ك Wم�ون� ال �ع�ل �م ت ت �ن �م�ا ك Wين� ب �ي ان ب �وا ر� �ون �ك�ن ك ه� و�ل د�ون� الل

�م ت �ن �ذ أ �ع د� إ �ف ر� ب ك �ال �م ب ك م�ر� �أ �ي � أ �ابا ب ر

� Wين� أ �ي ب �ة� و�الن �ك م�الئ خ�ذ�وا ال �ت �ن ت �م أ ك م�ر� �أ و�ال ي

( )آل عمران: �م�ون� ل (.80، 79م�س [ ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في »المسيح«؛ فلم يقولوا هو الله2]

، كما تقوله النصارى، وال كفروا به، وقالوا علىوال ابن الله وال ثالث ثالثة�ا عظيم�ا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا هذا مريم بهتان

عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه. ؛ فلم يحرموا على الله [ وكذلك المؤمنون »وسط في شرائع دين الله«3]

أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله�ه�م� �ت ل ه�م ع�ن ق�ب اس� م�ا و�ال ف�ه�اء� م�ن� الن �ق�ول� الس� ي تعالى ذلك عنهم بقوله: )س�

ه�ا( )البقرة: من اآلية �ي �وا ع�ل �ان �ي ك ت �م�ا142ال �وا ب �ه�م آم�ن �ذ�ا ق�يل� ل (، وبقوله: )و�إ� ح�ق� م�ص�دWقا اء�ه� و�ه�و� ال �م�ا و�ر� ون� ب ف�ر� �ك �ا و�ي ن �ي ز�ل� ع�ل ن

� �م�ا أ �ؤ م�ن� ب �وا ن ه� ق�ال ل� الل ز� �ن أ( )البقرة: من اآلية �م�ا م�ع�ه�م (.91ل

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 36: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وال جوزوا ألكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله:

ه�( )التوبة: من اآلية � م�ن د�ون� الل �ابا ب ر� �ه�م أ �ان ه ب ه�م و�ر� �ار� ب �ح خ�ذ�وا أ (.31)ات

قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: »ما عبدوهم؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحالل

(.1فأطاعوهم«)ه ال يأمر4] [ والمؤمنون قالوا: »لله الخلق واألمر« فكما ال يخلق غير�

ه. غير��م� �ح ك ه� ي �ن الل وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالـوا: )إ

�ر�يد�( )المائدة: من اآلية (. وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق1م�ا يتعالى ولو كان عظيم�ا.

؛ فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات [ وكذلك في صفات الله تعالى5] المخلوق الناقصة؛ فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة،

وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك. والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به؛ فقالوا: إنه يخلق

ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب. والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي وال ند، ولم يكن له

كفو�ا أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما�ي �ال آت ر ض� إ

� م�او�ات� و�األ �ل� م�ن ف�ي الس �ن ك سواه عباد له فقراء إليه: )إ�( )مريم: دا �ام�ة� ف�ر ق�ي �و م� ال �يه� ي �ه�م آت �ل � و�ك �ح ص�اه�م و�ع�ده�م ع�دا �ق�د أ � ل دا ح م�ن� ع�ب الر

93 -95.) فإن اليهود كما قال الله تعالى: [ ومن ذلك أمر الحالل والحرام؛6]

( )النساء: من اآلية �ه�م �ح�لت ل �اتY أ Wب ه�م ط�ي �ي �ا ع�ل م ن ذ�ين� ه�اد�وا ح�ر Y م�ن� ال م �ظ�ل )ف�ب (؛ فال يأكلون ذوات الظفر؛ مثل اإلبل والبط. وال شحم الثرب160

والكليتين؛ وال الجدي في لبن أمه. إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما؛ حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثالثمائة وستون نوع�ا.

ا، وكذلك شدد عليهم في والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمر�النجاسات حتى ال يؤاكلوا الحائض وال يجامعوها في البيوت.

وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميعالنجاسات، وإنما قال لهم المسيح، وألحل لكم بعض الذي حرم عليكم.

م�ون� Wح�ر� خ�ر� و�ال ي � اآل �و م ي �ال ه� و�ال ب �الل �ون� ب �ؤ م�ن ذ�ين� ال ي �وا ال �ل ولهذا قال تعالى: )ق�اتى �اب� ح�ت �ت ك �وا ال �وت ذ�ين� أ ح�قW م�ن� ال �ون� د�ين� ال �د�ين �ه� و�ال ي ول س� ه� و�ر� م� الل م�ا ح�ر

( )التوبة: ون� �دY و�ه�م ص�اغ�ر� �ة� ع�ن ي ي ج�ز �ع ط�وا ال (.29يYء ي �ل ش� ع�ت ك �ي و�س� ح م�ت وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: )و�ر�

�ع�ون� ب �ت ذ�ين� ي �ون� ال �ؤ م�ن �ا ي �ن �آيات ذ�ين� ه�م ب �اة� و�ال ك �ون� الز �ؤ ت ق�ون� و�ي �ت ذ�ين� ي �ل �ه�ا ل �ب ت ك� أ ف�س�

ج�يل� �ن اة� و�األ و ر� د�ه�م ف�ي الت ن � ع� �وبا ت �ه� م�ك �ج�د�ون ذ�ي ي �مWي ال �ي األ ب ول� الن س� الر ه�م� �ي م� ع�ل Wح�ر� �ات� و�ي Wب �ه�م� الطي �ح�ل� ل �ر� و�ي ك م�ن ه�اه�م ع�ن� ال �ن وف� و�ي م�ع ر� �ال ه�م ب م�ر�

�أ ي�ه� �وا ب ذ�ين� آم�ن ه�م ف�ال �ي �ت ع�ل �ان �ي ك ت �غ الل� ال ه�م و�األ �ص ر� ه�م إ �ض�ع� ع�ن �ث� و�ي �ائ ب خ� ال

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 37: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

) �ح�ون� م�ف ل �ك� ه�م� ال �ئ �ول ز�ل� م�ع�ه� أ ن� ذ�ي أ �ور� ال �ع�وا الن ب وه� و�ات �ص�ر� وه� و�ن ر� و�ع�ز

(.157، 156)األعراف:وهذا باب يطول وصفه.

ق7] ؛ فهم في »باب أسماء الله [ وهكذا أهل السنة والجماعة في الف�ر� وآياته وصفاته« وسط بين »أهل التعطيل« الذين يلحدون في أسماء الله

وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه؛ حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين »أهل التمثيل« الذين يضربون له األمثال ويشبهونه

بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسولهصلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف وال تعطيل ومن غير تكييف وتمثيل.

[ وهـم فـي »بـاب خلقـه وأمـره« وسط بيـن المكذبين بقـدرة الله؛8] الذين ال يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء؛ وبين

المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة وال قدرة وال عمـل؛ فيعطلـون األمـر والنهـي والثــواب والعقــاب، فيصيــرون بمنــزلة

�ا م�ن م ن �ا و�ال ح�ر �اؤ�ن �ا و�ال آب ن ك ر� �ش ه� م�ا أ اء� الل �و ش� المشركين الذين قالوا: )لي ءY( )األنعام: من اآلية (.148ش�

فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير؛ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فال يكون في

ملكه ما ال يريد وال يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من األعيانوالصفات والحركات.

ا؛ ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، وال يسمونه مجبور�ا إذ المجبور من أكره على خالف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختار�

لما يفعله؛ فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛(.2فإن الله ليس كمثله شيء ال في ذاته وال في صفاته وال في أفعاله)

[ وهم في »باب األسماء واالحكام والوعد والوعيد« وسط بين9] ؛ الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار،الوعيدية

ويخرجونهم من اإليمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان األنبياء،

واألعمال الصالحة ليست من الدين واإليمان، ويكذبون بالوعيد والعقاببالكلية.

فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض اإليمان وأصله وليس معهم جميع اإليمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم ال يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته

ألهل الكبائر من أمته.� في »أصحاب رسول الله« صلى الله عليه وسلم ورضي10] [ وهم أيضا

فيفضلونهعنهم وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه اإلمام المعصوم دونهما،

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 38: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا األمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبي أو إله�ا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما،

ويستحلون دماءهما ودماء من توالهما. ويستحبون سب علي وعثمان(.3ونحوهما، ويقدحون في خالفة علي رضي الله عنه وإمامته)

ألنهم متمسكون بكتاب [ وكذلك في سائر »أبواب السنة« هم وسط؛11] الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون األولون

( ا.هـ.4من المهاجرين واألنصار والذين اتبعوهم بإحسان«) ويضاف إلى ما ذكره شيخ اإلسالم - رحمه الله تعالى - من األمثلة على

الوسطية والتوازن في أبواب االعتقاد ما يلي: [ التوازن بين الخوف والرجاء:12]

وهذا كثير في القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ فقلما تأتي آيات الوعيد والتخويف وذكر عظمة الله عز وجل وبطشه إال ويسبقها أو يلحقها ذكر

آيات الوعد والرجاء، وذكر رحمة الله تعالى وبره ولطفه. ومن نزع إلى آيات الخوف والوعيد ونسي آيات الوعد والرجاء فإنه مجانب

للعدل والوسطية وفيه شبه من الخوارج الوعيدية. ومن نزع إلى آيات�ا للعدل � يعد مجانب الرجاء والوعد ونسي آيات الوعيد والتخويف، فإنه أيضا

والوسط وفيه شبه من المرجئة. والمذهب الوسط الحق هو مذهب أهل السنة واالتباع الذين يجمعون بين

األدلة كلها ويقبلون على الله عز وجل بجناحي الخوف والرجاء: خوف يسوقهم ورجاء يحدوهم. ويفصل القول في التوازن بين موجبات الخوف

والرهبة وموجبات األنس والرجاء األستاذ سيد قطب - رحمه الله - فيقول: »والتوازن في عالقة العبد بربه بين موحيات الخوف والرهبة واالستهوال، وموحيات األمن والطمأنينة واألنس؛ فصفات الله الفاعلة في الكون، وفي

حياة الناس واألحياء، تجمع بين هذا اإليحاء وذاك في توازن تام. ويقرأ المسلم في كتاب الله الكريم من صفات ربه ما يخلع القلوب ويزلزل

ن� �ي �ح�ول� ب ه� ي ن الل� �م�وا أ الفرائص، ويهز الكيان، من مثل قوله تعالى: )و�اع ل

( )األنفال: من اآلية ون� ر� �ح ش� ه� ت �ي �ل ه� إ ن� �ه� و�أ ب ء� و�ق�ل م�ر (.24ال

( )غافر: �خ ف�ي الص�د�ور� �ن� و�م�ا ت �ع ي �ة� األ �ن ائ �م� خ� �ع ل (.19)ي ل� ب ه� م�ن ح� �ي �ل ب� إ �ق ر� �ح ن� أ ه� و�ن �ف س� �ه� ن و�س� ب �و�س �م� م�ا ت �ع ل ان� و�ن س� �ن �ا األ �ق ن ل �ق�د خ� )و�ل

و�ر�يد�( )ق: (.16الوه� ()البقرة: من اآلية �م ف�اح ذ�ر� ك ف�س� �ن �م� م�ا ف�ي أ �ع ل ه� ي ن الل

� �م�وا أ (.235)و�اع ل()البقرة: من اآلية ع�ق�اب� د�يد� ال ه� ش� ن الل

� �م�وا أ ه� و�اع ل ق�وا الل (.196)و�ات( )القلم: �ين� د�ي م�ت �ي �ن ك �ه�م إ م ل�ي ل

� �م�ون� و�أ �ع ل ث� ال ي �د ر�ج�ه�م م�ن ح�ي ت �س ن )س�44،45.)

د�يد�( )البروج: �ش� Wك� ل ب �ط ش� ر� �ن ب (.12)إY( )آل عمران: من اآلية �ق�ام ت ه� ع�ز�يز� ذ�و ان (.4)و�الل

د�يد�( )هود: �يم� ش� �ل �خ ذ�ه� أ �ن أ �م�ة� إ ى و�ه�ي� ظ�ال ق�ر� �خ�ذ� ال �ذ�ا أ Wك� إ ب �خ ذ� ر� �ك� أ �ذ�ل )و�ك102.)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 39: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

� � و�ط�ع�اما � و�ج�ح�يما �اال ك �ن �ا أ ن �د�ي �ن ل � إ �يال ه�م ق�ل ع م�ة� و�م�هWل �ول�ي الن �ين� أ �ذWب م�ك �ي و�ال ن )و�ذ�ر)� � م�ه�يال �يبا �ث �ال� ك ب ج� �ت� ال �ان �ال� و�ك ب ج� ر ض� و�ال

� ج�ف� األ �ر �و م� ت � ي �يما �ل � أ ذ�ا غ�صةY و�ع�ذ�ابا(.14-11)المزمل:

وصور العذاب في مشاهد القيامة رعيبة رعيبة ... ويقرأ المسلم كذلك من�ا، ونفسه رجاء ا وقرب صفات ربه ما يمأل قلبه طمأنينة وراحة، وروحه أنس�

ج�يب� د�ع و�ة�� Wي ق�ر�يب� أ �ن Wي ف�إ �اد�ي ع�ن ب �ك� ع� �ل أ �ذ�ا س� وأمال: من مثل قوله تعالى: )و�إ

( )البقرة: من اآلية �ذ�ا د�ع�ان� (.186الداع� إ�ه� �ل إ

� ر ض� أ� �ف�اء� األ ل �م خ� �ك ع�ل �ج وء� و�ي �ك ش�ف� الس� �ذ�ا د�ع�اه� و�ي م�ض ط�ر إ �ج�يب� ال من ي

� )أه�( )النمل: من اآلية (.62م�ع� الل

�( )مريم: ح م�ن� و�دا �ه�م� الر �ج ع�ل� ل ي �ح�ات� س� �وا الصال �وا و�ع�م�ل ذ�ين� آم�ن �ن ال (.96)إ و�د�ود�( )البروج: غ�ف�ور� ال (.14)و�ه�و� ال

�اد�( )البقرة: من اآلية ع�ب �ال ؤ�وف� ب ه� ر� (.207)و�الل�ين� ف�يه� �ث � م�اك نا � ح�س� �ج را �ه�م أ ن ل

� �ح�ات� أ �ون� الصال �ع م�ل ذ�ين� ي �ين� ال م�ؤ م�ن ر� ال Wش� �ب )و�ي�( )الكهف: �دا �ب (.3، 2أ

وصور النعيم في مشاهد القيامة رخية رخية! ومن هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة

واألنس، والفزع والطمأنينة، ويسير اإلنسان في حياته، يقطع الطريق إلىا من الله، ثابت الخطو، مفتوح العين، حي القلب، موصول األمل، حذر�

المزالق، صاعد�ا أبد�ا إلى األفق الوضيء. ال يستهتر وال يستهين، وال يغفل وال ينسى. وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله

وفضله؛ وأن الله ال يريد به السوء، وال يود له العنت، وال يوقعه في الخطيئةا. ليتشفى باالنتقام منه، تعالى الله عن ذلك علو�ا كبير�

وحين نوازن بين هذا التصور وتصور اإلغريق لكبير آلهتهم، القاسي الحسود الشهوان العربيد، المضطغن الحقود. أو تصور اإلسرائيليين المنحرف إللههم

الغيور المتعصب، البطاش المتهور. أو تصور أرسطو إللهه المترفع الذي ال�عني نفسه بأمر الخلق على اإلطالق؛ وال يفكر إال في ذاته، ألنها أشرف ي

الذوات، وال يليق باإلله أن يفكر إال في أشرف ذات! أو تصور الماديين إللههم »الطبيعة« الصماء العمياء الخرساء! عندئذ تبدو قيمة هذا الجانب

المتوازن في التصور اإلسالمي، وأثره الواقعي في حياة البشر، وأثره كذلك(.5في منهج حياتهم وأخالقهم ونظامهم العملي«)

Wط الناس من رحمة ولذلك فالمسلم السوي العدل هو الذي ال ييأس وال يقن الله تعالى، كما أنه ال يأمن وال يؤمWن الناس من مكر الله تعالى؛ قال الله

( )يوسف: من اآلية ون� �اف�ر� ك ق�و م� ال �ال ال ه� إ و ح� الل س� م�ن ر�� أ �ي ه� ال ي �ن عز وجل: )إ

ق�و م�87 �ال ال ه� إ ر� الل م�ن� م�ك �أ ه� ف�ال ي ر� الل �وا م�ك �م�ن �ف�أ (، وقال في موضع آخر: )أ

( )األعراف: ون� ر� خ�اس� (.99ال�ا له، خائف�ا منـه وبهذا التوازن المنضبط يسير العبد إلى ربه عز وجل محب

�ا الظـن بــه عز �ا في ثواب ربـه سبحانـه، محسن ومن عقابـه، طامع�ا وراجي وجل. ولذا نجد أن من هذا شأنه يسعى بالعمل والكدح في فعل ما يحبه

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 40: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا لله تعالى، وخوف�ا من عقابه، ورجاء الله عز وجل، وترك ما يسخطه حب ثوابه. أما إذا تغلب جانب على آخر فإن النتيجة ترك العمل أو ضعفه،

وإساءة الظن بالله تعالى. وهنا مسألة وقع فيها شطط وانحراف عن العدل والوسط، ولها مساس

بالخوف والرجاء؛ أال وهي ما وقع فيه طائفة من الصوفية الذين يزعمون محبتهم لله عز وجل حتى قال قائلهم: )ما عبدتك خوف�ا من نارك وال طمع�ا

�ا لك(. في جنتك ولكن حب وفي مقابل هؤالء أناس ضعفت محبتهم لله تعالى، وتعبدوا لله تعالى

� جانبوا العدل بالخوف والرجاء فقط، ولوال ذلك لم يعبدوا ربهم، وهؤالء أيضا والوسط. وه�د�ى الله عز وجل أهل السنة واالتباع إلى المنهج الحق العدل

فجعلوا أصل عبادتهم محبة الله عز وجل، وجعلوا الخوف سائقهم، والرجاءحاديهم؛ فتعبدوا لله تعالى بمحبته وخوفه ورجائه.

وفي هذا يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته.

فمتى خال القلب من هذه الثالث فسد فساد�ا ال يرجى صالحه أبد�ا، ومتى(.6ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه«)

وقال قبل ذلك: »ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو

(.7مرجئ، ومن عبده بالرجاء والخوف والمحبة فهو مؤمن«) ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة: »القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه.

فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. ولكن

السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف. هذه طريقة أبي

سليمان وغيره؛ قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلبعليه الرجاء فسد.

وقال غيره: أكمل األحوال: اعتدال الخوف والرجاء، وغلبة الحب. فالمحبة(.8هي المركب، والرجاء حادY، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه«)

Yويقول أيض�ا: »وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راج خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه. وكذلك

خوفه؛ فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجابه عنه؛ فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة؛ فإنه يرجوه قبل لقائه

والوصول إليه، فـإذا لقيـه ووصل إلـيه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من: ألطاف محبوبه، وبره وإقباله عليه، ونظره إليه

بعين الرضى، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما ال حياة للمحب، وال نعيم وال�ه وأتم�ه. ل فوز إال بوصوله إليه من محبوبه. فرجاؤه أعظم رجاء، وأج�

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 41: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة. فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء؛ وعلى قدر

تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب ال يصحبه وحشة؛ بخالف خوف المسيء، ورجاء المحب ال يصحبه علة؛ بخالف رجاء

(.9األجير. وأين رجاء المحب من رجاء األجير؟ وبينهما كما بين حاليهما«)�ا الموقف العدل �ق�سWم الناس في مواقفهم من عبادة الله عز وجل مبين وي

والمواقف المنحرفة فيقول: »فالناس في هذا المقام أربعة أقسام: أحدهم: من ال يريد ربه وال يريد ثوابه؛ فهؤالء أعداؤه حق�ا، وهم أهل العذاب

الدائم. وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به، أو إما إليثار العاجلعليه، ولو كان فيه سخطه.

والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه؛ وهؤالء خواص خلقه. قال الله تعالى:�ن ك �ات� م�ن ن م�ح س� �ل �ع�د ل ه� أ �ن الل ة� ف�إ خ�ر� �ه� و�الدار� اآل ول س� ه� و�ر� �ر�د ن� الل �ن ت ت �ن �ن ك )و�إ

�( )األحزاب: � ع�ظ�يما �ج را (. فهذا خطابه لخير نساء العالمين، أزواج نبيه29أ�ه�ا ع ي �ه�ا س� ع�ى ل ة� و�س� خ�ر� اد� اآل ر�

� صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: )و�م�ن أ�( )اإلسراء: �ورا ك �ه�م م�ش ع ي �ان� س� �ك� ك �ئ �ول (، فأخبر أن السعي19و�ه�و� م�ؤ م�ن� ف�أ

المشكور: سعي من أراد اآلخرة. وأصرح منها: قوله لخواص أوليائه - وهم �م م�ن ك أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - في يوم أحد: )م�ن

ة�( )آل عمران: من اآلية خ�ر� �ر�يد� اآل �م م�ن ي ك �ا و�م�ن ي �ر�يد� الد�ن ( فقسمهم152يإلى هذين القسمين اللذين ال ثالث لهما.

وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟ فإن إرادة اآلخرة عبارة عن إرادةالله تعالى وثوابه؛ فإرادة الثواب ال تنافي إرادة الله.

والقسم الثالث: من يريد من الله، وال يريد الله؛ فهذا ناقص غاية النقص.ا؛ فليس في قلبه غير �م جنة ونار� وهو حال الجاهل بربه، الذي سمع أن ث إرادة نعيم الجنة المخلوق، ال يخطر بباله سواه ألبتة. بل هذا حال أكثر

المتكلمين، المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر إلى وجه في اآلخرة، وسماع كالمه وحبه، والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله. وهم عبيد

األجرة المحضة. فهؤالء ال يريدون الله تعالى وتقدس ... القسم الرابع: - وهو محال - أن يريد الله وال يريد منه؛ فهذا هو الذي يزعم

(، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة، وأن10هؤالء أنه مطلوبهم) العارف ينتهي إلى هذا المقام. وهو أن يكون الله مراده، وال يريد منه

�ا ...«) (.11شيئ ويقول في موطن آخر وهو يشرح قول الهروي في منزلة األدب: )وهو على

ثالث درجات: الدرجة األولى: منع الخوف أن يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى األمن ... إلخ(: »يريد أنه ال يدع الخوف يفضي به إلى

حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله؛ فإن هذا الخوف مذموم. وسمعت شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله - يقول: )حد الخوف: ما

حجزك من معاصي الله؛ فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه(.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 42: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وهذا الخوف الموقع في اإلياس: إساءة أدب على رحمة الله التي سبقتغضبه وجهل� بها.

وأما )حبس الرجاء أن يخرج إلى األمن(: فهو أن ال يبلغ به الرجاء إلى الحد الذي يأمن معه العقوبة؛ فإنه ال يأمن مكر الله إال القوم الخاسرون. وهذا

إغراق في الطرف اآلخر.ب� لك العبادة، وحملك على السير؛ فهو بمنزلة الرياح بل حد الرجاء: ما ط�ي

التي تسير السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى(.12المهالك، وإذا كانت بقدر أوصلتها إلى البغية«)

[ الوسط والتوازن بين التوكل على الله عز وجل وفعل األسباب:13] يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »وهذا موضع انقسم فيه الناس

طرفين ووسط�ا. فأحد الطرفين عطل األسباب محافظة على التوكل. والثاني: عطل التوكل محافظة على السبب، والوسط: علم أن حقيقة

التوكل ال تتم إال بالقيام بالسبب، فتوكل على الله في نفس السبب. وأما؛ كمن عطل Yل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمنمن عط

النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد، وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع، وعطل األكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري؛

فالتوكل نظير الرجاء، والعجز نظير التمني.� له قد فوض إليه، كما يفوض الموكل فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيال

إلى وكيله العالم بكفايته ونهضته، ونصحه وأمانته، وخبرته وحسن اختياره. والرب سبحانه قد أمر عبده باالحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حيلته ما

يصلحه؛ فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدره سبحانه ودبره واقتضته حكمته، وأمره أن ال يعلق قلبه بغيره، بل

يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه، وأخبره أنه سبحانه المليبالوكالة الوفي بالكفالة.

ا �ا للراحة مؤثر� فالعاجز من رمى هذا كله وراء ظهره، وقعد كسالن طالب للدعة؛ يقول: الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وسيأتيني ما قدر لي

على ضعفي، ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي، ولو أني هربت من رزقيكما أهرب من الموت للحقني.

فيقال له: نعم هذا كله حق، وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك؟ بسعيك أم بسعي غيرك؟ وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي

وجه؟ وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت أنه يقدر لك إتيانه عفو�ا بال سعي وال كد؟ فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك، وكم من شيء سعى

�ا فكيف علمت أن رزقك كله فيه غيرك فقدر لك رزق�ا! فإذا رأيت هذا عيانبسعي غيرك؟

ه عليك النفس يجب عليك طرده في جميع األسباب د�ت وأيض�ا فهذا الذي أور� مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، فهل تعطلها

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 43: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

اعتماد�ا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ بل لن تخلو األرض من متوكل صبر نفسه لله ومأل قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به، فضاق قلبه

مع ذلك عن مباشرة بعض األسباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن إليه ووثق به، وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه، فلم يعطل السبب، وإنما

رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق األسباب عنده؛ فكان اشتغال قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من ذلك، أو من كماله؛ فلم يتسع قلبه لألمرين فأعرض عن أحدهما

إلى اآلخر.� ممن امتأل قلبه بالسبب، واشتغل به عن ربه. وال ريب أن هذا أكمل حاال

وأكمل منهما من جمع األمرين؛ وهي حال الرسل والصحابة؛ فقد كان زكريا� أن يصنع السفينة، ولم يكن في الصحابة من يعطل ا، وقد أمر الله نوحا نجار�

� على التوكل، بل كانوا أقوم الناس باألمرين؛ أال ترى أنهم السبب اعتمادا بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم، وقاموا في ذلك بحقيقة التوكل، وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا ألهليهم كفايتهم من

(.13القوت اقتداء بسيد المتوكلين صلوات الله وسالمه عليه وآله«) ص�ر� �ن ه� ي �ص ر� الل �ن ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: )ب

( )الروم: ح�يم� ع�ز�يز� الر اء� و�ه�و� ال �ش� (:5م�ن ي »فاألمر له من قبل ومن بعد، وهو ينصر من يشاء؛ ال مقيد لمشيئته

سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر األسباب. فال تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود األسباب. والنواميس التي تصرف

هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أراد الله عز وجل أن تكون هناك سنن ال تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات.

والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتهاتلك المشيئة الطليقة.

والعقيدة اإلسالمية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي ترد األمر كله إلى الله؛ ولكنها ال تعفي البشر من األخذ باألسباب الطبيعية التي من شأنها� أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعال

� في التكليف؛ ألن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير أو ال تتحقق فليس داخال الله. ولقد ترك األعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى�: »توكلت على الله«، فقال له رسول الله عليه وسلم ودخل يصلي قائال

(. فالتوكل في العقيدة14الله صلى الله عليه وسلم: »اعقلها وتوكل«)(.15مقيد باألخذ باألسباب، ورد األمر بعد ذلك إلى الله«)

�ا: ذلك الخالف القديم والجديد � أو ترك ومما له عالقة بمسألة األسباب فعال في النظر إلى األسباب والمبالغة في أثرها والتعلق بها، أو إلغائها وإنكارها؛ فكان الناس فيها طرفين مذمومين منحرفين، وهدى الله عز وجل من شاء

من عباده إلى الموقف الوسط العدل فيها. ويجلي هذه المسألة اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث يقول:

»والناس في األسباب والقوى والطبائع ثالثة أقسام:

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 44: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها، فأضحك العقالء على عقله. وزعم أنهبذلك ينصر الشرع، فجنى على العقل والشرع، وسلط خصمه عليه.

ومنهم: من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار، ومدبر لها يصرفها كيف أراد؛ فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة

تعارضه، ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها، ويتصرف فيها كما يشاءويختار.

وهذان طرفان جائران عن الصواب.ا وشرع�ا. وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله ا، وقدر� ومنهم: من أثبتها خلق�ا وأمر�

به من: كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوع المشيئة واإلرادة، ومحل جريان حكمها عليها. فيقوWي سبحانه بعضها ببعض، ويبطل - إن شاء - بعضها

�عريها منها، ويمنعه من موجبها مع ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته، وي بقائها عليه؛ ليعلم خلقه أنه الفعال لما يريد، وأنه ال مستقل بالفعل والتأثير

غير مشيئته، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت، مع كونه�ا. سبب

�م يوجب للعبد - إذا تبصر فيه وهذا باب عظيم نافع في التوحيد، وإثبات الح�ك - الصعود من األسباب إلى مسببها، والتعلق به دونها، وأنها ال تضر وال تنفع

ا وضارها نافع�ا ودواءها داء� وداءها إال بإذنه، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضار��ا دواء�. فااللتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد، وإنكار أن تكون أسباب

�ا - بالكلية قدح في الشرع والحكمة. واإلعراض عنها - مع العلم بكونها أسباب نقصان في العقل. وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها

على بعض، وشهود الجمع مع تفرقها، والقيام بها هو محض العبودية(.16والمعرفة، وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة. والله أعلم«)

[ التوازن بين طالقة المشيئة اإللهية وثبات السنن الكونية:14] وهذه الصورة من التوازن لها عالقة بالصورة السابقة، ولكن آثرت إفرادها

في صورة مستقلة ألهميتها؛ وذلك أن الناس فيها طرفان ووسط. الطرف األول: من قصر نظره على ثبات السنن الكونية، واعتمد على ذلك

�ا دون أن ينظر إلى طالقة المشيئة اإللهية، وغفل عن أن الله اعتماد�ا كليت هذه السنن وجعلها مطردة حاسمة قادر متى شاء وكيف سبحانه الذي ثب

شاء أن يخرق هذه السنن؛ ألنه الفعال لما يريد، والقادر على كل شيء. وهذا الطرف الذي أفرط في النظر إلى ثبات السنن الكونية مثله مثل من

أفرط في فعل األسباب وتعلق بها كما في الصورة السابقة. الطرف الثاني: من نظر إلى طالقة المشيئة اإللهية ولم يعتبر بثبات السنن

الكونية وترتب النتائج على األسباب، فأفرط في نظرته لطالقة المشيئة اإللهية مما جعله يفرWط في األخذ باألسباب واالنتفاع من السنن الكونية، بل

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 45: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

اعتمد على الخوارق دون بذل الجهد والعمل. وهذا مثله في الصورةالسابقة مثل من ترك األخذ باألسباب زاعم�ا أنه متوكل على الله تعالى.

والوسط: من نظر إلى ثبات السنة الكونية وعمل في ضوئها وبذل األسباب الممكنة دون أن يتعلق بها أو بكونها ال تنخرق أبد�ا. بل يؤمن بأن الله عز

وجل يخرقها متى شاء لمن بذل األسباب والجهد واستنفد ما في وسعه من العمل والجهد والجهاد؛ كما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام؛ حيث بذلوا الجهد والعمل في سبيل الله عز وجل، واستحقوا أن

ينصرهم الله عز وجل بجند من عنده، ويخرق لهم من السنن الثابتة ما يظن الناس أنها ال تنخرق وهذا هو ما في القرآن الكريم؛ حيث ذكر الله عز وجل

�ا ثابتة ال تتبدل وال تتحول وفي ضوئها يعمل الناس وتنضبط أن له سننت� ن �س� �ج�د� ل �ن ت حركاتهم وأعمالهم، ويكيفون حياتهم وفقها كما قال تعالى: )ف�ل

�( )فاطر: من اآلية �ح و�يال ه� ت ت� الل ن �س� �ج�د� ل �ن ت � و�ل د�يال �ب ه� ت (.43الل وفي مواطن أخرى من القرآن يذكر الله سبحانه أنه فعال لما يريد، وأنه

متى شاء سبحانه خرق هذه السنن لمن شاء من عباده كما في قوله( )النحل: �ون� �ك �ن ف�ي �ه� ك �ق�ول� ل �ن ن �اه� أ د ن ر�

� �ذ�ا أ ءY إ ي �ا ل�ش� �ن م�ا ق�و ل �ن (،40تعالى: )إ�ي ع�اق�ر� �ت أ �ر� و�ام ر� �ب ك �ي� ال �غ�ن �ل �ون� ل�ي غ�الم� و�ق�د ب �ك ى ي �ن بW أ وقوله تعالى: )ق�ال� ر�

اء�( )آل عمران: �ش� �ف ع�ل� م�ا ي ه� ي �ك� الل �ذ�ل ب40Wق�ال� ك (، وقوله تعالى: )ق�ال�ت ر�اء�( )آل �ش� �ق� م�ا ي ل �خ ه� ي �ك� الل �ذ�ل ر� ق�ال� ك �ش� �ي ب ن �م س�س �م ي �د� و�ل �ون� ل�ي و�ل �ك ى ي �ن أ

�م 47عمران: من اآلية ت �ن �ن ك �م إ �ك �ه�ت وا آل ص�ر� ق�وه� و�ان Wوا ح�ر� (، وقوله تعالى: )ق�ال�اه�م� ن � ف�ج�ع�ل دا �ي �ه� ك اد�وا ب ر�

� اه�يم� و�أ ر� �ب � ع�ل�ى إ � و�س�الما دا �ر �ي ب �ون �ار� ك �ا ن �ا ي ن �ين� ق�ل ل ف�اع�( )األنبياء: ر�ين� �خ س� (. وغيرها من اآليات التي تقرر نفوذ مشيئة الله70-68األ

عز وجل وعدم تقيدها بقيد ما مما يخطر على قلب بشر مما يحسبه الناس�ا الزم�ا ال فكاك منه. قانون

يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - : »وبين ثبات السنن وطالقة المشيئة اإللهية يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة؛ يعمل فيها وهو يعلم طبيعة األرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى

نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات األرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها بمنهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق

�ا، وال ييئس أمام �، وال يستبعد عليها شيئ القلب بمشيئته؛ ال يستكثر عليها شيئا ضغط الواقع أبد�ا. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية،

يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله - سبحانه - محصورة فيها! وهكذا اليتبلد حسه، وال يضم�ر رجاؤه، وال يعيش في إلف مكرور!

ة، ألنه ن والمسلم يأخذ باألسباب ألنه مأمور باألخذ بها. ويعمل وفق الس� مأمور بمراعاتها، ال ألنه يعتقد أن األسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات

والنتائج؛ فهو يرد األمر كله إلى خالق األسباب، ويتعلق به وحده من وراء األسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ األسباب طاعة

ألمر الله.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 46: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته؛ فال يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول

القلب بالله، حي القلب بهذا االتصال، موصول الضمير بالمشاعر األدبية األخالقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة اإلنسانية إلى

(.17أقصى الكمال المقدر لها في األرض، وفي حدود طاقة اإلنسان«)

[ التوازن والوسطية في تكفير المعين :15] إن مسألة تكفير المعين مسألة خطيرة وذلك من جهتين:

األولى: من جهة تكفير المعين الذي ال يستحق التكفير بمجرد شبهات الترتقي إلى القطع بتكفيره.

الثانية: عدم تكفير المعين المقطوع بكفره والحكم بإسالمه. وبناء على ذلك فإن الناس في تكفير المعين طرفان مذمومان ووسط

محمود. الطرف األول: من غال وأفرط في تكفير المعين بمجرد تلبسه بأمر مكفر دون أن ينظر إلى توفر الشروط في تكفيره وانتفاء الموانع. بل إن مجرد

التلبس بقول، أو عمل مكفرين، فإنه عند هذا الفريق من الناس كافر بعينه مهما وجد من الموانع من ذلك؛ كاإلكراه أو التأول، أو الخطأ أو غير ذلك من

العوارض الشرعية.. الطرف الثاني: من فرط وتساهل في عدم تكفير المعين حتى أدى به األمر

إلى القول بأنه ال يجوز تكفير المعين مهما أتى بناقض من نواقض اإلسالم ما لم يعتقد الكفر ويقصده قصد�ا، مهما توفرت الشروط، وانتفت الموانع. وهذا جفاء وتضييع وتفريط ويؤول إلى أنه ال مرتد في اإلسالم، وبالتالي ال

حاجة إلى وجود أحكام المرتد في الفقه اإلسالمي.ق بين الكفر ومرتكب الكفر، وفصل في الموقف الوسط العدل: من فر

ذلك وقال: إن من تلبس بمكفر أو ناقض من نواقض اإلسالم فإن المتعينن فإذا لم تتوفر الشروط في تكفيره في حقه أن ينظر إلى حال هذا المعي

أو وجد مانع من تكفيره؛ كاإلكراه والخطأ وغيرهما؛ فإنه ال يجوز تكفيره والحالة هذه. أما إذا رؤي أن شروط تكفيره متوفرة وال يوجد مانع شرعي

من تكفيره فإنه يحكم بتكفيره بعينه وتطبق عليه أحكام المرتد. وهذا التفصيل هو شأن الراسخين في العلم، الذين هم وسط بين الغالي

والجافي، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم. وبهذا الموقف العدل يسلم المسلم من تكفير من لم يستحق التكفير، كما يسلم من جعل الكافر أو

المرتد في عداد المسلمين. [ التوازن والوسط بين الدنيا واآلخرة :16]

�ا ي �ك� م�ن� الد�ن �ص�يب س� ن �ن ة� و�ال ت خ�ر� ه� الدار� اآل �اك� الل �غ� ف�يم�ا آت ت قال الله تعالى: )و�اب�ح�ب� ه� ال ي �ن الل ر ض� إ

� اد� ف�ي األ ف�س� غ� ال �ب ك� و�ال ت �ي �ل ه� إ ن� الل �ح س� �م�ا أ ن ك �ح س� و�أ( )القصص: د�ين� م�ف س� (.77ال

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 47: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

يقول السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه اآلية: »... أي قد حصل عندك من وسائل اآلخرة ما ليس عند غيرك من األموال فابتغ بها ما عند الله، وتصدق وال تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات. )و�ال

�ا( أي ال نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائع�ا، ي �ك� م�ن� الد�ن �ص�يب س� ن �ن تبل أنفق آلخرتك، واستمتع بدنياك استمتاع�ا ال يثلم دينك وال يضر آخرتك«)

18.)

�غ� ت وقال اإلمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه اآلية: »وقوله: )و�اب�ا(، أي: استعمل ما ي �ك� م�ن� الد�ن �ص�يب س� ن �ن ة� و�ال ت خ�ر� ه� الدار� اآل �اك� الل ف�يم�ا آت

وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب س� �ن إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار اآلخرة، )و�ال ت�ا(، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والمالبس ي �ك� م�ن� الد�ن �ص�يب ن

والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حق�ا، ولنفسك عليك حق�ا، وألهلكو رك عليك حق�ا، فآت كل ذي حق حقه«) (.19عليك حق�ا، ولز�

�اك� �غ� ف�يم�ا آت ت ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه اآلية: »)و�اب�ا( .. وفي هذا يتمثل اعتدال ي �ك� م�ن� الد�ن �ص�يب س� ن �ن ة� و�ال ت خ�ر� ه� الدار� اآل الل المنهج اإللهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال باآلخرة، وال يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا

ويكلفه إياه تكليف�ا، كي ال يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها. لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في األرض

لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خالفة اإلنسان في هذه األرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي اآلخرة، فال ينحرفون�شغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون عن طريقها، وال ي

من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة منالطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة اإلنسان، ويمكنه من االرتقاء الروحي الدائم من خالل حياته الطبيعية المتعادلة، التي ال حرمان

(.20فيها، وال إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة«)والناس في نظرهم للدنيا واآلخرة طرفان ووسط:

الطرف األول: من جعل همه للدنيا وقصر نظره عليها، وكأنه مخلد فيها. وهو وإن كان يؤمن باآلخرة إال أنه فصلها عن الدنيا ونظر إلى أنه ال يمكن

الجمع بين الدنيا واآلخرة؛ فإما أن ينصرف إلى الدنيا وإما إلى اآلخرة، واستدل أصحاب هذا الطرف بالنصوص التي فيها الحث على العمل

والكسب ونسوا األدلة األخرى. الطرف الثاني: يشارك الطرف األول في فهمه للدنيا واآلخرة؛ وذلك

باستحالة الجمع بين الدنيا واآلخرة، ويفترق عنه في أنه انصرف إلى اآلخرة وانقطع عن الدنيا وأهلهـا، وترك الدنـيا ألهـل الفساد يعيثون فيها ويفسدون،

واستدل أصحاب هذا الطرف باآليات التي تحث على الزهد في الدنيا.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 48: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الطرف العدل والوسط: وهم أهل الحق الذين عملوا باآلية التي سبق شرحها في سورة القصص، وعملوا بكل اآليات واألحاديث الواردة في

العمل واإلصالح في الدنيا، وكذلك التي وردت في التحذير من الدنيا واالستعداد لآلخرة؛ فجمعوا بين النصوص، وتوجهوا إلى الدنيا بعمارتها

وإصالحها، ومدافعة المفسدين فيها، وعد�وها مزرعة اآلخرة فجعلوها في أيديهم ال في قلوبهم، ونظروا إليها على أنها ممر ومحطة للتزود منها

�ا في مقابل النعيم األبدي في الدار اآلخرة. لآلخرة، وأنها فانية ال تساوي شيئ وفي ذلك يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »والناس

أقسام:أصحاب »دنيا محضة«: وهم المعرضون عن اآلخرة.

وأصحاب »دين فاسد«: وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعهالله من أنواع العبادات والزهادات.

و »القسم الثالث«: وهم أهل الدين الصحيح؛ أهل اإلسالم المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لوال

(.21أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق«)ويقول الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله تعالى -:

»وأهل السنة والجماعة وسط حتى في حياتهم العملية: فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان بلي بعض

المناصب، ومن كان ذا مال وسعة وفضل. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم األسوة الكاملة؛ فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى، كما كان

في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيض�ا أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل العبادةوالذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد، واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وم�ن بعد�هم حصل عندهم االضطراب في ذلك؛ فبعضهم مال إلى الدنيا،

وركن إليها، ولم يتحرز من قبول أي والية، ولم يتحرز من قبول أي منصب، وال في التوسع في الدنيا واألخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله؛ فتوسعوا في ذلك توسع�ا أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل

من الدنيا والرغبة في اآلخرة، وصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى. ومنهم طائفة مالت إلى العكس: فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا،

�ا من موا الطيبات، أو على األقل نظروا إلى من يأخذ شيئ حتى أنهم حرالطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن إصابة الحق.

�ا - أي في التطبيق العملي - إال أنه يوصلنا فهذا األمر وإن كان أمرا واقعيويدلنا على توسط أهل السنة والجماعة فيه.

خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة: وهي أنهم يدخلون في(.22اإلسالم كله ويجمعون الدين كله«)

ويجلي هذه الحقيقة سيد قطب - رحمه الله تعالى - حيث يقول: »لقد افترق طريق الدنيا وطريق اآلخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم

وواقعهم؛ بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة -

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 49: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

� لاللتقاء بين الطرفين. ويرى على العكس أنه إما أن ال يرى أن هنالك سبيال يختار طريق الدنيا فيهمل اآلخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق اآلخرة

فيهمل الدنيا من حسابه، وال سبيل إلى الجمع بينهما في تصور وال واقع؛ ألنواقع األرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا.

حقيقة: إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق اآلخرة، وتحتم على الذين يريدون البروز في

المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق اآلخرة، وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية والتصورات الرفيعة

والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين. كما تحتم على الذين يريدون النجاة في اآلخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل

التي يصل بها الناس في مثل هذه األوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع؛ ألنها وسائل ال يمكن أن تكون نظيفة وال

مطابقة للدين والخلق، وال مرضية لله سبحانه. ولكن تراها ضربة الزب! ترى أنه ال مفر من هذا الحال التعيس؟ وال سبيل إلى اللقاء بين طريق

الدنيا وطريق اآلخرة؟ كال إنها ليست ضربة الزب! فالعداء بين الدنيا واآلخرة، واالفتراق بين طريق الدنيا وطريق اآلخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي ال تقبل التبديل، بل إنها

�، إنما هي عارض ناشئ من انحراف ليست من طبيعة هذه الحياة أصالطارئ!

إن األصل في طبيعة الحياة اإلنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق اآلخرة، وأن يكون الطريق إلى صالح اآلخرة هو ذاته الطريق إلى صالح

الدنيا، وأن يكون اإلنتاج والنماء والوفرة في عمل األرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب اآلخرة، كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون اإليمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه األرض، كما أنها

هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه األخروي. هذا هو األصل في طبيعة الحياة اإلنسانية؛ ولكن هذا األصل ال يتحقق إال حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو

الذي يجعل الخالفة في األرض وفق شريعة الله فريضة. والخالفة عمل وإنتاج، ووفرة ونماء، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من

فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم ... والمنهج اإلسالمي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل لآلخرة في توافق

وتناسق؛ فال يفوWت على اإلنسان دنياه لينال آخرته، وال يفوWت عليه آخرته لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين وال بديلين في التصور اإلسالمي ... إن هذا

الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق اآلخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل لآلخرة، وبين العبادة الروحية واإلبداع المادي، وبين النجاح في الحياة الدنيا، والنجاح في الحياة األخرى؛ إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو

ضريبة بائسة فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله، وتتخذ

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 50: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في األساسواالتجاه.

وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا، فوق مايؤدونه منها في اآلخرة وهو أشد وأنكى.

إنهم يؤدونها قلق�ا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر، من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة اإليمان وبشاشته وزاده وريه، إذا هم آثروا اطراح الدين كله،

على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل واإلنتاج والعلم والتجربة، والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم، يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تمأل القلب، وال تطيق الفراغ والخواء. وهي جوعة ال تملؤها مذاهب اجتماعية، أو فلسفية،

أو فنية على اإلطالق، ألنها جوعة النزعة إلى إله. وهم يؤدونها كذلك قلق�ا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا االحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع

العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته، وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله، وتتصادم فيه

العقيدة الدينية والخلق الديني، والسلوك الديني، مع األوضاع والقوانينوالقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود.

وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء، سواء اتبعت المذاهب المادية اإللحادية، أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة

العملية، وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله، وأن الحياة للناس! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق، والحياة نظام وقانون

وإنتاج وعمل! وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة

والخواء ألنها ال تهتدي إلى منهج الله الذي ال يفصل بين الدنيا واآلخرة بل يجمع، وال يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في اآلخرة،

بل ينسق. وال يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة، في فترة موقوتة؛ إذ نرى أمم�ا ال تؤمن

وال تتقي، وال تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرةاإلنتاج عظيمة الرخاء.

إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين اإلبداع المادي والمنهج الرباني. واآلن تظهر بعض

هذه اآلثار في صور شتى:� بالشقاء، - تظهر في سوء التوزيع في هذه األمم؛ مما يجعل المجتمع حافال� بالمخاوف من االنقالبات المتوقعة نتيجة هذه األحقاد الكظيمة. وهو وحافال

بالء على رغم الرخاء!.. - وتظهر في الكبت والقمع والخوف في األمم التي أرادت أن تضمن نوع�ا

من عدالة التوزيع، واتخذت طريق التحطيم والقمع واإلرهاب ونشر الخوف

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 51: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

والذعر إلقرار اإلجراءات التي تأخذ بها إلعادة التوزيع وهو بالء ال يأمناإلنسان فيه على نفسه وال يطمئن وال يبيت ليلة في سالم!

� � أو آجال - وتظهر في االنحالل النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجال - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها. فالعمل واإلنتاج والتوزيع: كلها في حاجة

إلى ضمانة األخالق. والقانون األرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديمالضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان!

- وتظهر في القلق العصبي واألمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم -�ا - مما يهبط بمستوى الذكاء واالحتمال، ويهبط وبخاصة أشدها رخاء مادي

بعد ذلك بمستوى العمل واإلنتاج، وينتهي إلى تدمير االقتصاد المادي� يلفت األنظار! � كافيا والرخاء! وهذه الدالئل اليوم واضحة وضوحا

- وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر

الحرب المدمرة. وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو ال يشعرون، فيصيبهم بشتى األمراض العصبية. ولم ينتشر الموت

( ا.هـ.23بالسكتة وانفجار المخ واالنتحار كما انتشر في أمم الرخاء«) [ العدل والتوازن في الوالء والبراء :17]

الوالء والبراء صلب عقيدة التوحيد؛ فكلمة التوحيد نصفها براءة من الشرك وأهله؛ وذلك من قول: )ال إله(. والنصف اآلخر والء لله عز وجل وعبودية له سبحانه؛ وذلك من قول: )إال الله(؛ فالعبد ال يصح توحيده إال بعبادة الله عز وجل ومواالته، ومحبة ما يحبه ومن يحبه سبحانه، والبراءة من كل ما يع�بد

من دون الله تعالى، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه عز وجل. ولقد حصل في عقيدة الوالء والبراء - كما في غيرها من أبواب االعتقاد - غلو وجفاء، فكان

الناس في فهم الحب والوالء طرفان ووسط: الطرف األول: من غال وأفرط في فهمه للمحبة والوالء؛ حيث غال في الحكم

على من وقع في مواالة الكفار، ولم يفرق بين المواالة المكفرة وغير المكفرة، بل عد أي نوع من أنواع المواالة للكفار ردة وكفر. كما أن هذا

الطرف لم يفرق بين المداراة والمداهنة؛ فعد أي صورة من صور المداراة والتقية مداهنة ومواالة، كما غال في بغضه للمخالف فتبرأ منه كما يتبرأ من

الكفار. الطرف الثاني: من فرط في فهمه وتطبيقه لهذه الشعيرة العظيمة، ووقع في مواالة الكفار ومداهنتهم بحجة المداراة والتقية، ولم يفرق بين المحرم

منها والمخرج من الملة، بل هي عنده إما جائزة أو محرمة ال تخرج منالملة.

الموقف الوسط: وهو موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ وهو وجوب محبة الله عز وجل، ومحبة ما يحبه من اإليمان

واألعمال الصالحة، ومحبة من يحبه سبحانه من أنبيائه وأتباعهم من المؤمنين، وبغض ما يبغضه الله عز وجل من الشرك والكفر والفسوق والعصيان، والبراءة ممن يبغضه الله عز وجل من أهل الشرك والكفر

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 52: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

والعصيان، ولكنهم يفرقون بين الكافر والعاصي في المواالة؛ فهم يتولون المؤمنين األتقياء ويحبونهم من كل وجه وال يتبرأون منهم من أي وجه،

ويتبرأون من كل كافر ومشرك ومنافق من كل وجه، وال يوالونهم من أي وجه، وأما المؤمن العاصي المصر على فسقه فهم ال يتبرأون منه بإطالق، وال يتولونه باطالق، بل يتولونه الوالء العام للمؤمنين بما معه من اإليمان،

ويتبرأون منه من وجه بما يصر عليه من الفسوق والعصيان. كما أنهم ال ينظرون إلى مواالة الكفار بحكم واحد، بل يرون أن مواالة

الكفار تنقسم إلى: والء مكفر مخرج من الملة؛ وهو تولي الكفار ومحبتهم لدينهم، أو مظاهرتهم ونصرتهم على المسلمين، ووالء دون الكفر وهو ما

�ا ومحبة ونصرة للكفار؛ فهم لم يعدوا جميع صور مواالة الكفار لم يكن توليا كالطرف األول، ولم يعدوها جميعها من األمور المحرمة غير ا أكبر� كفر�

المكفرة كالطرف الثاني؛ فهم وسط بين الطرفين كما أنهم يفرقون بين المداراة والتقية المشروعة وبين المداهنة والتقية المحرمة؛ فال يلغون المدارة والتقية مطلق�ا، وال يفتحونها على مصراعيها حتى توقعهم في

المداهنة والمواالة المحرمة للكفار. كما أنهم وسط في بغضهم ومحبتهم؛ فال يغلون في حبهم لألشخاص حتى

يقدسونهم أو يخلعون عليهم ثوب العصمة، وال يغلون في بغضهم لألشخاص حتى يقعوا في ظلمهم وبخسهم حقهم أو اتهامهم بما ال يقولونه أو يعتقدونه

أو يعملونه، وال يتجاهلون حسناتهم وجهادهم وبالءهم.�ا ما عسى أن يكون قال الرسول صلى الله عليه وسلم: »أحبب حبيبك هون

�ا ما عسى أن يكون حبيبك يوم�ا ما«) بغيضك يوم�ا ما، وأبغض بغيضك هون24.)

وأعرض فيما يلي بعض األمثلة لفقد التوازن في الحب أو البغض: ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير أن محمد بن يحيى النيسابوري

أخذه الحزن على أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ودفعه حبه ألن يقول:ينبغي لكل أهل دار بغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.

علق الذهبي على هـذا بقولــه: )تكلم الذهلي بمقتضى الحزن ال بمقتضى(.25الشرع()

ومن ذلك أن إمام الحرمين أبا المعالي - شيخ الشافعية بنيسابور - حين مات غلقت األسواق، وكسر أربعمائة من تالميذه محابرهم وأقالمهم

وجلسوا عام�ا ال يغطون رؤوسهم، يطوفون في البلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. قال الذهبي: )هذا كان من زي األعاجم ال من فعل

(.26العلماء المتبعين() ومن ذلك قول من قال في اإلمام أحمد - رحمه الله تعالى -: )عندنا

بخراسان يظنون أن أحمد ال يشبه البشر؛ يظنون أنه من المالئكة( وقول اآلخر: )نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة(. علق الذهبي على هذا

الغلو منصف�ا المحب والمحبوب بقوله: )هذا غلو ال ينبغي، لكن الباعث له(.27حب ولي الله في الله()

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 53: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ومن صور غلو المخالفين في البغض: التهوين من شأن مخالفهم والحط من قدره إلى درجة ال تعقل وال تليق؛

ومن ذلك أن فقيه�ا من فقهاء العراق - وهو من أهل الرأي - لما رجع من الحج أراد أن يبشر أهل الكوفة بتقدمهم في علوم الشريعة على من خالفهم فقال: )أبشروا يا أهل الكوفة؛ فإني قدمت على أهل الحجاز،

ا ومجاهد�ا، فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم(. فرأيت عطاء وطاووس�(.28يقول المغيرة - راوي هذه الواقعة -: )فرأينا أن ذاك بغي منه()

وقد يدفع البغض أصحاب الغلو إلى االفتراء والبهتان؛ ومن ذلك أنه نسب�الب - رأس المتكلمين في البصرة - الذي كان يرد على البعض إلى ابن ك المعتزلة والجهمية أنه إنما ابتدع ما ابتدعه - من القضايا الكالمية - ليدس دين النصارى في ملتنا، وأنه أرضى أخته بذلك. يقول الذهبي في إنصاف

(.29الرجل: )وهذا باطل، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة() ومن االفتراء على أهل العلم ما د�س على ابن بطوطة في كتابه من أنه

سمع ابن تيمية يقول على منبر مسجد دمشق األموي: )إن الله ينزل كل ليلة ..( قال: كنزولي هذا، ونزل على المنبر. افتروا ذلك على ابن تيمية لتأييد دعواهم فيما ينسبونه إلىه من التشبيه والتجسيم، مع أن ابن تيمية

(.30كان في سجن قلعة دمشق أثناء مرور ابن بطوطة بدمشق) وفي واقعنا المعاصر صور وأمثلة مؤذية من الغلو وفقدان العدل في الحب

أو البغض، وهي من الوضوح بحيث ال تحتاج إلى ذكر وتفصيل، وإن كانسيأتي لها ذكر في مبحث العدل والتوازن مع المخالف إن شاء الله تعالى.

[ العدل والتوازن في الموقف من العقل :18] نة وسط في نظرتهم للعقل بين الذين غلو في العقل وعظموه أهل الس�

وأدخلوه في غير مجاله، وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل، وردوا األحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤالء؛

وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل األحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبلوا

بالخرافات واألساطير المصادمة لبدهية العقول. وكال الطرفين ابتعد عن�لف فيه من الحق نة، وهدى الله السلف وأتباعهم لما اخت منهج أهل الس�

بإذنه؛ حيث أعطوا العقل مكانته الالئقة به، ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجهوه لتدبرها، واالستنباط منها، والتسليم بما لم تحط به العقول منها.

والقرآن مليء باالستدالالت العقلية، والبراهين النظرية؛ كاألقيسة واألمثال، �م �ف�ل ومليء بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى: )أ

ه�ا �ن �ه�ا ف�إ م�ع�ون� ب �س و آذ�ان� ي� �ه�ا أ �ون� ب �ع ق�ل �ه�م ق�ل�وب� ي �ون� ل �ك ر ض� ف�ت

� وا ف�ي األ ير� �س� ي�ي ف�ي الص�د�ور�( )الحج: ت ق�ل�وب� ال �ع م�ى ال �ك�ن ت ص�ار� و�ل �ب �ع م�ى األ (، وكما46ال ت

) �ون� �ع ق�ل Y ي �ق�و م ياتY ل �ك� آل� �ن ف�ي ذ�ل في قوله تعالى - وفي أكثر من آية -: )إ( )يـس: من اآلية24)الروم: من اآلية �ون� �ع ق�ل �ف�ال ي (.31()68(، وقوله: )أ

يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »ولما أعرض كثير من أرباب الكالم والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن واإليمان:

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 54: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة؛ يجعلون العقل وحده أصلعلمهم، ويفردونه، ويجعلون اإليمان والقرآن تابعين له.

والمعقوالت عندهم هي األصول الكلية األولية، المستغنية بنفسها عناإليمان والقرآن.

وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن األحوال العالية،�كذWب به والمقامات الرفيعة، ال تحصل إال مع عدمه، ويقرون من األمور بما ي

صريح العقل.ا من المعارف واألحوال التي ال ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمور�

تكون إال مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريحبطالنها ممن لم يعلم صدقه، وكال الطرفين مذموم.

بل العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصالح األعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقال بذلك؛ لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها بمنزلة

قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور اإليمان والقرآن، كان كنورالعين إذا اتصل به نور الشمس والنار.

وإن انفرد بنفسه لم يبصر األمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزلا حيوانية، قد يكون فيها محبة، بالكلية كانت األقوال واألفعال مع عدمه أمور�

ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.فاألحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، واألقوال المخالفة للعقل باطلة.

والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية

بزعمهم اعتقدوها حق�ا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة،

(.32وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم«)مسألة: تتعلق بدور العقل في معرفة حسن األشياء وقبحها:

وهذه أيض�ا من المسائل التي ضل فيها طرفان عن الحق، وهدى الله عز وجل أتباع السلف إلى الحق فيها. فكان الناس فيها طرفان مذمومان

ووسط عدل محمود. الطرف األول: من غال وأفرط في دور العقل واستقالليته في معرفة قبح األشياء وحسنها، حتى آل بهم األمر إلى أن الثواب أو العقاب عليها ثابت

بالعقل وليس متوقف على الشرع وإبالغ الرسل. الطرف الثاني: من فرط ونفى أن يكون للعقل دور في التحسين والتقبيح

وإنما ذلك متوقف على الشرع. الوسط العدل: يثبتون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح؛ أما العقاب

والثواب عليها فمتوقف على الشرع وإبالغ الرسل. وقد أفاض اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ذكر األدلة التي يرد بها على الفريقين المذمومين: الغالة والجفاة، وبخاصة على النفاة منهم؛ فقال - رحمه الله تعالى -: »فاعلم أن هذا مقام عظيم زلت فيه أقدام طائفتين

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 55: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

من الناس: طائفة من أهل الكالم والنظر، وطائفة من أهل السلوكواإلرادة.

فنفى ألجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين، وجعلوا األفعال كلها سواء في نفس األمر، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، وال يميز القبيح بصفة اقتضت قبحه، بحيث يكون منشأ القبح، وكذلك الحسن،

فليس للفعل عندهم منشأ حسن وال قبح، وال مصلحة وال مفسدة، وال فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس األمر، وال بين الصدق

م هذا وأوجب هذا؛ والكذب، وال بين السفاح والنكاح، إال أن الشارع حر­ا ا به، ال أنه منشأ مصلحة، ومعنى قبحه كونه منهي فمعنى حسنه كونه مأمور�

عنه، ال أنه منشأ مفسدة، وال فيه صفة اقتضت قبحه، ومعنى حسنه أنالشارع أمر به ال أنه منشأ مصلحة، وال فيه صفة اقتضت حسنه.

وقد بينا بطالن هذا المذهب من ستين وجه�ا في كتابنا المسمى »تحفة ( وأشبعنا الكالم في هذه المسألة هناك.33النازلين بجوار رب العالمين«)

وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبينا بطالنه. فإن هذا المذهب - بعد تصوره، وتصور لوازمه - يجزم العقل ببطالنه. وقد

� وصريح العقل. دل القرآن على فساده في غير موضع، والفطرة أيضا فإن الله سبحانه ف�ط�ر عباده على استحسان الصدق والعدل، والعفة

هم على استقباح أضدادها. ونسبة واإلحسان، ومقابلة النعم بالشكر. وف�ط�ر� هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة

ن إلى مشامWهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى ت رائحة المسك ورائحة الن أسماعهم. وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرقون

بين طيبه وخبيثه، ونافعه وضاره. وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه، وهو راجع إلى المالئمة والمنافرة، بحسب اقتضاء الطباع، وقبولها للشيء، وانتفاعها به،

ونفرتها من ضده.�ع�لق�ا للذم قالوا: وهذا ليس الكالم فيه، وإنما الكالم في كون الفعل م�ت

�، والثواب والعقاب آجال. فهذا الذي نفيناه، وقلنا: إنه ال يعلم إال والمدح عاجالبالشرع. وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل، والعقل مقتضY له.

فيقال: هذا فرار من الزحف؛ إذ ههنا أمران متغايران ال تالزم بينهما: أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه، بحيث

ينشأ الحسن والقبح منه؛ فيكون منشأ لهما أم ال؟ والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل، والعقاب المرتب على قبحه،

ثابت - بل واقع - بالعقل، أم ال يقع إال بالشرع؟ ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تالزم األصلين استطلتم عليهم،

وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم، ولما نفيتم أنتم األصلين جميع�ا استطالوا عليكم، وأبدوا من فضائحهم وخالفكم لصريح العقل والفطرة ما

أبدوه؛ وهم غلطوا في تالزم األصلين، وأنتم غلطتم في نفي األصلين.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 56: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

والحق الذي ال يجد التناقض إليه السبيل: أنه ال تالزم بينهما، وأن األفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات. ولكن ال يترتب عليها ثواب وال عقاب�ا للعقاب مع إال باألمر والنهي. وقبل ورود األمر والنهي ال يكون قبيح�ا موجب قبحه في نفسه؛ بل هو في غاية القبح، والله ال يعاقب عليه إال بعد إرسال الرسل. فالسجود للشيطان واألوثان، والكذب والزنا، والظلم والفواحش

كلها قبيحة في ذاتها؛ والعقاب عليها مشروط بالشرع. فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة، وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع. والمعتزلة تقول: قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل. وكثير من

الفقهاء من الطوائف األربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع؛ وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية،

وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نص­ا. لكنالمعتزلة منهم يصرحون بـأن العقاب ثابت بالعقل.

وقد دل القرآن أنه ال تالزم بين األمرين، وأنه ال يعاقب إال بإرسال الرسل،وأن الفعل نفسه حسن وقبيح. ونحن نبين داللته على األمرين:

�( )اإلسراء: وال س� ع�ث� ر� �ب ى ن �ين� ح�ت ا م�ع�ذWب �ن أما األول: ففي قوله تعالى: )و�م�ا كاس� ع�ل�ى15من اآلية �لن �ون� ل �ك �ال ي �ئ ذ�ر�ين� ل ر�ين� و�م�ن Wش� � م�ب ال س� (، وفي قوله: )ر�

( )النساء: من اآلية س�ل� �ع د� الر� ه� ح�جة� ب ق�ي� ف�يه�ا165الل �ل م�ا أ �ل (، وفي قوله: )ك�ا م�ا ن �ا و�ق�ل ن �ذب �ذ�ير� ف�ك �ا ن �ل�ى ق�د ج�اء�ن �وا ب �ذ�ير� ق�ال �م ن �ك ت �أ �م ي �ل �ه�ا أ �ت ن �ه�م خ�ز� ل

� أ ف�و ج� س�ي ءY( )الملك: من اآليتين ه� م�ن ش� ل� الل �ز (؛ فلم يسألوهم عن مخالفتهم9، 8ن

للعقل، بل للنذ�ر. وبذلك دخلوا النار ... وأما األصل الثاني: وهو داللته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح فكثير

�ه�ا �ا ب ن م�ر�� ه� أ �ا و�الل �اء�ن ه�ا آب �ي �ا ع�ل �وا و�ج�د ن ة� ق�ال �وا ف�اح�ش� �ذ�ا ف�ع�ل � كقوله تعالى: )و�إ جدا

Wي ب م�ر� ر�� �م�ون� ق�ل أ �ع ل ه� م�ا ال ت �ون� ع�ل�ى الل �ق�ول �ت اء� أ ف�ح ش� �ال م�ر� ب

�أ ه� ال ي �ن الل ق�ل إ�م�ا �ه� الدWين� ك ج�دY و�اد ع�وه� م�خ ل�ص�ين� ل �لW م�س د� ك ن �م ع� �ق�يم�وا و�ج�وه�ك ق�س ط� و�أ �ال ب

�اط�ين� ي خ�ذ�وا الش ه�م� ات �ن �ة� إ ه�م� الضالل �ي � ح�ق ع�ل � ه�د�ى و�ف�ر�يقا �ع�ود�ون� ف�ر�يقا �م ت �ك �د�أ بWل� د� ك ن �م ع� �ك �ت �ي آد�م� خ�ذ�وا ز�ين �ن �ا ب �د�ون� ي ه�م م�ه ت ن

� �ون� أ ب �ح س� ه� و�ي �اء� م�ن د�ون� الل �ي و ل� أ

�ة� م� ز�ين ر�ف�ين� ق�ل م�ن ح�ر م�س �ح�ب� ال ه� ال ي �ن ر�ف�وا إ �س �وا و�ال ت ب ر� �وا و�اش �ل ج�دY و�ك م�س�اة� ي ح� �وا ف�ي ال ذ�ين� آم�ن �ل ق� ق�ل ه�ي� ل ز Wات� م�ن� الر� Wب �اد�ه� و�الطي �ع�ب ج� ل �خ ر� �ي أ ت ه� ال الل

م� م�ا ح�ر �ن �م�ون� ق�ل إ �ع ل Y ي �ق�و م يات� ل �ف�صWل� اآل �ك� ن �ذ�ل �ام�ة� ك ق�ي �و م� ال �ص�ة� ي ال �ا خ� ي الد�ن�وا ر�ك �ش �ن ت ح�قW و�أ ر� ال �غ�ي �غ ي� ب ب م� و�ال �ث �ط�ن� و�األ ه�ا و�م�ا ب ف�و�اح�ش� م�ا ظ�ه�ر� م�ن Wي� ال ب ر�( )األعراف: �م�ون� �ع ل ه� م�ا ال ت �وا ع�ل�ى الل �ق�ول �ن ت � و�أ ط�انا ل �ه� س� ل ب Wز� �ن �م ي ه� م�ا ل �الل ب

(؛ فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشة� قبل نهيه عنه. وأمر باجتنابه33- 28 بأخذ الزينة. و »الفاحشة« ههنا هي طوافهم بالبيت ع�راة - الرجال والنساء-

اء�( أي ال يأمر بما هو ف�ح ش� �ال م�ر� ب �أ ه� ال ي �ن الل غير قريش. ثم قال تعالى: )إ

مناف للحكمة.(، ولو كان �ط�ن� ه�ا و�م�ا ب ف�و�اح�ش� م�ا ظ�ه�ر� م�ن Wي� ال ب م� ر� م�ا ح�ر �ن ثم قال: )ق�ل إ

كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها، وليست فواحش قبل ذلك، لكان

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 57: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

م. وكذلك تحريم اإلثم والبغي؛ حاصل الكالم: قل إنما حرم ربي ما ح�ر�ا؛ فهو شرك في �ا بمنزلة كون الشرك شرك فكون ذلك فاحشة وإثم�ا وبغي

نفسه قبل النهي وبعده. فمن قال: إن الفاحشة والقبائح واآلثام إنما صارت كذلك بعد النهي، فهو

�ا قبل ذلك. �ا بعد النهي، وليس شرك بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شرك ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة؛ فالظلم ظلم في

نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده،والفاحشة كذلك، وكذلك الشرك؛ ال أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك.

نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبح�ا؛ فكان قبحها من ذاتها، وازدادت قبح�ا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها، وذ�مه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها.�عم� المنعم بالثناء والشكر: حسن كما أن العدل والصدق والتوحيد، ومقابلة� ن

�ا إلى حسنه بأمر الرب به، وثنائه على فاعله. في نفسه، وازداد حسن(.34وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله«)

[ العدل والتوازن في اإلخالص لله تعالى :19] اإلخالص شرط في صحة األعمال وقبولها عند الله عز وجل. واإلخالص

عمل قلبي تبدو آثاره على األعمـال الظاهـرة، وهو كغيـره من األعمـال يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل بينهما. إذن فاإلخالص فيه طرفان

ووسط. الطرف األول: طرف اإلفراط والتقصير: وأهله هم الذين تتعرض بعض أعمالهم إلى ما يقدح في اإلخالص وابتغاء وجه الله تعالى؛ كأن يريدوا

ببعض أعمالهم الدنيا من مال أو منصب أو شهرة وثناء، أو غير ذلك ما يقدحفي اإلخالص.

الطرف الثاني: طرف الغلو واإلفراط: وهم الذين يراعون اإلخالص، ويحرصون على أن تكون أعمالهم ابتغاء وجه الله تعالى، ويحاسبون،

ويدققون على أنفسهم في ذلك إلى أن يتجاوزوا العدل الوسط فيه بحيث يصل بهم الحال إلى التشكيك في نواياهم ونوايا الناس، أو يتركون بعض�ا منهم بعدم اإلخالص فيها، أو صعوبة تحقيقه، حتى األعمال الصالحة ظن

يؤول األمر بهم إلى السلبية والقعود عن أعمال البر والدعوة واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهذا من تزيين الشيطان ومداخله الخطيرة؛

حيث يتحول اإلخالص إلى عمل سلبي يعوق عن فعل الخير. الوسط والعدل: وهم الذين يجاهدون أنفسهم في تحقيق اإلخالص في جميع

أقوالهم وأعمالهم، ويندفعون إلى كل عمل يرضي الله عز وجل، وال يلتفتون إلى وساوس الشيطان في ترك ما يحبه الله عز وجل خشية عدم اإلخالص لله تعالى، أو صعوبة تحقيقه. وهم متوازنون في ذلك حيث يرون أن اإلخالص عمل� قلبي� إيجابي يدفع المرء إلى فعل كل ما يستطيعه مما يحبه الله عز وجل ابتغاء مرضات الله تعالى، ال أنه عمل سلبي يحول بين

المرء وفعل الطاعات ومجاهدة الفساد والمفسدين. [ العدل والتوازن في تحقيق شروط االجتماع واالئتالف :20]

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 58: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

إن المتأمل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد نصوص�ا كثيرة بعضها يأمر باالجتماع واالئتالف على الحق، وبعضها ينهى عن التفرق والتنازع، ويحذر من عواقب التفرق في الدنيا واآلخرة. وأكتفي

هنا بذكر اآليات الواردة في سورة آل عمران والتي جمعت بين األمرباالجتماع واالعتصام بحبله وبين النهي عن التفرق واالختالف:

�ع م�ت� وا ن �ر� ق�وا و�اذ ك �ف�ر � و�ال ت ه� ج�م�يعا ل� الل ب �ح� �ص�م�وا ب قال الله عز وجل: )و�اع ت�...( )آل �خ و�انا �ه� إ �ع م�ت �ن �م ب ت �ح ص ب

� �م ف�أ �ك �وب ن� ق�ل �ي �لف� ب �ع د�اء� ف�أ �م أ ت �ن �ذ ك �م إ ك �ي ه� ع�ل الل�ف�وا م�ن 103عمران: من اآلية �ل ت ق�وا و�اخ �ف�ر ذ�ين� ت �ال �وا ك �ون �ك ( إلى قوله: )و�ال ت

( )آل عمران: �ه�م ع�ذ�اب� ع�ظ�يم� �ك� ل �ئ �ول �ات� و�أ Wن �ي ب �ع د� م�ا ج�اء�ه�م� ال (.105ب وأمــر االجتماع واالئتالف كغـيره مـن األمـور السابقـة يكتنفـه طرفـان

مذمومان والوسط العدل المتوازن بينهما. الطرف األول: طرف التقصير والتفريط في تحقيق شروط االجتماع

واالئتالف. وهم الذين يحرصون على اجتماع المسلمين - وبخاصة أهل العلم والدعوة - دون أن يراعوا اختالف العقائد والنحل. وهذا الطرف من الناس ال يمتنع عنده أن يجتمع أهل القبلة من المسلمين ويتحدوا فيما بينهم دونما

مراعاة لتوجهات وعقائد المجتمعين؛ فيمكن أن يجتمع أهل السنة والجماعة مع أهل البدع واألهواء، كالصوفية المبتدعة أو الخوارج أو المرجئة أو المعتزلة، بل إن بعض الحريصين على جمع الكلمة ال مانع عنده من

االجتماع والتقارب مع أهل البدع الكفرية كالشيعة الرافضة والعلمانيين المنافقين. ولنا أن نتصور هذا االجتماع المشكل من خليط من العقائد: كل عقيدة تضاد األخرى، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فرقة لها مصادر

تلقWيها واستداللها. فماذا عسى أن يثمر مثل هذا االجتماع إال المر والحنظل؛ ألنه لن ينتج عنه إال تنازالت أو مزايدات تخرم أصول أهل السنة والجماعة

وثوابتهم. نعم؛ قد تمر بأهل السنة واالتباع ظروف� طارئة يضطرون فيها إلى أن

يتحالفوا أو يجتمعوا مع بعض أهل القبلة المبتدعة - ال مع الكفرة المالحدة - في دفع خطر داهم من قبل الكفار على بالد المسلمين، أو في دفع منكر وفساد يتفق على دفعه الجميع. وهذا االجتماع طارئ ومؤقت وفي مهمة�ا عن بدعهم. � ألهل البدع أو سكوت معينة، ال أنه دائم وثابت أو أن فيه تنازال الطرف الثاني: الغالي والمف ر�ط في تحقيق ضوابط االجتماع؛ وذلك بأن

يح�جWر واسع�ا، ويتشدد في وضع الشروط والضوابط التي تؤول بأهله إلى أن�ا مغلق�ا يرون أنه هو الحق، وهو الممثل لكيان �ا معين يرسموا ألنفسهم كيان

أهل السنة واالتباع؛ فمن دخله كان منهم ومن أخل بشيء من ضوابط الدخول فهو خارج عن دائرة أهل السنة وما كان عليه سلف األمة. وال

يخفى ما في هذه النظرة من الغلو واإلعجاب بالنفس؛ ألن أصحاب هذا الطرف سيجدون أنفسهم في دائرة ضيقة تمثل أهل السنة عندهم،

وغيرهم خارج هذه الدائرة مستحقون للتبديع والتحذير منهم. وحجة هذا الطرف أن من تلبس بأي بدعة دقت أو جلت، وسواء كانت في العقائد أو

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 59: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

� أو مقلد�ا؛ كل أولئك مبتدعة وال األعمال، وسواء كان المتلبس بها جاهال يجوز االجتماع معهم. وقد يكون هذا المتلبس ببدعة دقيقة يعتقد ويتبع ما

كان عليه سلف األمة في جميع أموره غير أنه تلبس ببدعة أو بدعتين؛ فهذا عندهم من المفارقين، وقد تكون المخالفة في مسألة اجتهادية أو تدور بين

راجح ومرجوح وليست في مسألة أصولية، ومع ذلك نجد أن هذا الطرف من الناس يفارق عليها، وينابذ صاحبها. وهذا من الغلو واإلفراط المؤديين

إلى مزيد من الفرقة والتخاصم والتدابر. الموقف المتوازن وهو الوسط العدل: وهم الذين يحرصون على االجتماع

واالئتالف بين أهل السنة، دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة وثوابتها؛ فهم ليسوا كالطرف األول المفرWط في ضوابط االجتماع الشرعية بل

يخالفوهم في ذلك؛ فال يرون االجتماع مع أهل البدع المعروفين بأصولهم البدعية وبالدعوة إليها، ولو كانوا من أهل القبلة - كالخوارج والمعتزلة

� عن أن يكونوا من الخارجين عن الملة كفرق والمرجئة وغيرهم - فضال الباطنية من رافضة وغيرهم. ومع ذلك فهم ال يذهبون إلى رأي الطرف

الغالي المفر�ط في تحقيق شروط االجتماع، بل إنهم يرون االجتماع مع كل منتسب ألهل السنة والجماعة غير متبنY ألصل من أصول أهل البدع، ولو

� منه أو تقليد�ا. فهذا عند الطرف العدل يعد من تلبس ببدعة من البدع جهال أهل السنة والجماعة جملة، وإن خالفهم في مسألة جزئية من مسائل

االعتقاد؛ فمثل هذا يقال إنه من أهل السنة بالجملة مخالف لهم في بدعته�ف�ارق عليها ما دام أنه لم ينطلق في مخالفته تلك التي هو عليها؛ وعندها ال ي

من أصول أهل البدع، مع االجتهاد في نصحه وإزالة الشبهة عنه. كما أنهم من باب أولى ال يجعلون المسائل االجتهادية التي يخالفون فيها�ا في االفتراق، بل يرون االجتماع مع المنتسبين ألهل السنة غيرهم سبب واالتباع ولو اختلفوا معهم في فرع أو أكثر من فروع األحكام. فما زال

العلماء من القديم وفي عصرنا يختلفون في أحكامهم واجتهاداتهم، ومع�ا متآلفين لم يتفرقوا بسبب اختالفاتهم. ذلك فقد كانوا إخوان

ومن الفقه بمقاصد الشريعة المحافظة على الكليات ولو تخلفت بعض الجزئيات؛ أما أن يعكس األمر فيحافظ على جزئي، ولو أدى إلى ذهاب

الكلي، فهذا غلط وقلة فقه بمقاصد الشريعة. وبناء على ذلك فإن االجتماعط فيه وال يضيع بمحافظتنا على جزئي فرعي. أما إذا أدى �فر أصل كلي فال ي

االجتماع إلى ذهاب الكليات والتنازل عن الثوابت فهذا اجتماع باطل وهوكالزبد يذهب جفاء�؛ ألنه مبني على شفا جرف هار.

______________ا الترمذي في14/210( أخرجه الطبري في التفسير: )1) (، ورواه مختصر�

تفسير سورة براءة، وقال: هذا حديث غريب ال نعرفه إال من حديثعبدالسالم بن حرب.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 60: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

( وقد توسع األستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة المهمة2) بكالم نفيس حيث قال: )والتوازن بين مجال المشيئة اإللهية الطليقة،

ومجال المشيئة اإلنسانية المحدودة، وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل في العالم كله، وفي المعتقدات كلها، وفي الفلسفات والوثنيات

كذلك باسم قضية »القضاء والقدر« أو »الجبر واالختيار«. واإلسالم يثبت للمشيئة اإللهية الطالقة ويثبت لها الفاعلية التي ال فاعلية سواها وال معها وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة اإلنسانية اإليجابية ويجعل لإلنسان الدور

ا في ا ممتاز� األول في األرض وخالفتها. وهو دور ضخم، يعطي اإلنسان مركز�� للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في � هائال نظام الكون كله، ويمنحه مجاال

توازن تام مع االعتقاد بطالقة المشيئة اإللهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء األسباب الظاهرة؛ وذلك باعتبار أن النشاط اإلنساني هو أحد هذه األسباب الظاهرة وباعتبار أن وجود اإلنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه

ومن فيه.ر ض� و�ال ف�ي

� �ةY ف�ي األ ص�اب� م�ن م�ص�يب� ويقرأ اإلنسان في القرآن الكريم: )م�ا أ

( )الحديد: ير� �س� ه� ي �ك� ع�ل�ى الل �ن ذ�ل ه�ا إ� أ ر� �ب ن ن

� ل� أ �ابY م�ن ق�ب �ت �ال ف�ي ك �م إ ك ف�س� �ن أل�22 �و�ك �ت ي ه� ف�ل �ا و�ع�ل�ى الل �ا ه�و� م�و الن �ن ه� ل �ب� الل �ت �ال م�ا ك �ا إ �ن �ص�يب �ن ي (، )ق�ل ل

( )التوبة: �ون� م�ؤ م�ن �ل¶51ال د�ك� ق�ل ك ن �وا ه�ذ�ه� م�ن ع� �ق�ول �ة� ي Wئ ي ه�م س� �ص�ب �ن ت (، )و�إ�( )النساء: من اآلية �ف ق�ه�ون� ح�د�يثا �اد�ون� ي �ك � ال ي ق�و م ه� ف�م�ال� ه�ؤ�الء� ال د� الل ن م�ن ع�

78...)) ه�م ف�س� �ن �أ وا م�ا ب Wر� �غ�ي ى ي ت Y ح� �ق�و م Wر� م�ا ب �غ�ي ه� ال ي �ن الل ويقرأ كذلك في الجانب اآلخر: )إ

ع�م�ه�ا ع�ل�ى ق�و م11Y)الرعد: من اآلية �ن �ع م�ة� أ � ن Wرا �ك� م�غ�ي �م ي ه� ل ن الل� �أ �ك� ب (، )ذ�ل

( )األنفال: من اآلية ه�م ف�س� �ن �أ وا م�ا ب Wر� �غ�ي ى ي ه�53ح�ت �ف س� ان� ع�ل�ى ن س� �ن �ل� األ (، )به�( )القيامة: ق�ى م�ع�اذ�ير� �ل �و أ ة� و�ل �ص�ير� ه�م�ه�ا15، 14ب ل

� واه�ا ف�أ �ف سY و�م�ا س� (، )و�ناه�ا( )الشمس: اه�ا و�ق�د خ�اب� م�ن د�س ك �ح� م�ن ز� �ف ل �ق و�اه�ا ق�د أ ه�ا و�ت (،10- 7ف�ج�ور�

ه�( )النساء: من اآلية �ف س� �ه� ع�ل�ى ن ب س� �ك م�ا ي �ن � ف�إ ما �ث �ك س�ب إ (.111)و�م�ن ياء� �ش� �ن ي �ال أ ون� إ �ر� �ذ ك ه� و�م�ا ي �ر� اء� ذ�ك ة� ف�م�ن ش� �ر� �ذ ك ه� ت �ن �ال إ ثم يقرأ بعد هذا وذلك: )ك

ة�( )المدثر: م�غ ف�ر� �ه ل� ال ق و�ى و�أ �ه ل� الت ه� ه�و� أ ة� ف�م�ن 56-54الل �ر� �ذ ك �ن ه�ذ�ه� ت (، )إه�( )اإلنسان: اء� الل �ش� �ن ي �ال أ اء�ون� إ �ش� � و�م�ا ت �يال ب Wه� س� ب �ل�ى ر� خ�ذ� إ اء� ات (،30، 29ش�

د� ن ى ه�ذ�ا ق�ل ه�و� م�ن ع� �ن �م أ ت ه�ا ق�ل �ي ل �م م�ث ت ص�ب� �ة� ق�د أ �م م�ص�يب ك �ت ص�اب

� �ما أ و�ل� )أ

�ذ ن� �إ ج�م ع�ان� ف�ب �ق�ى ال ت �و م� ال �م ي �ك ص�اب� ي ءY ق�د�ير� و�م�ا أ �لW ش� ه� ع�ل�ى ك �ن الل �م إ ك ف�س� �ن أ

ه�( )آل عمران: (.166، 165الل يقرأ اإلنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثالثة؛ فيدرك منها سعة مفهوم »القدر« في التصور اإلسالمي، مع بيان المجال الذي تعمل فيه المشيئة

اإلنسانية في حدود هذا القدر المحيط. لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه - في هذه القضية - ولم تعد إال بالحيرة والتخليط بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من متكلمي

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 61: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

المسلمين أنفسهم .. ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة اإلغريقية أكثر مماتأثروا بالمنهج اإلسالمي في عالج هذه القضية.

في التصور اإلسالمي ليست هناك »مشكلة« في الحقيقة، حين يواج�ه األمربمفهوم هذا التصور وإيحائه:

�خلق من إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما ي األحداث واألشياء واألحياء .. وهو الذي يصرف حياة الناس ويكيفها. شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله كل شيء فيه مخلوق بقدر، وكل حركة تتم

فيه بقدر. ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خالل إرادة الناس وعملهم

Y �ق�و م Wر� م�ا ب �غ�ي ه� ال ي �ن الل في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات. )إ( )الرعد: من اآلية ه�م ف�س� �ن �أ وا م�ا ب Wر� �غ�ي ى ي (، وكون مرد األمر كله إلى11ح�ت

المشيئة اإللهية المطلقة، ال يبطل هذا وال يعطله. فاألمران يجيئان مجتمعين� في النص القرآني الواحد، كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه أحيانا

النماذج، ونحن إنما نفترض التعارض والتناقض حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه من عند أنفسنا عن حقيقة العالقة بين المشيئة الكبرى

وحركة اإلنسان في نطاقها. إال أن المنهج الصحيح: هو أال نستمد تصوراتنا في هذا األمر من مقررات عقلية سابقة. بل أن نستمد من النصوص

مقرراتنا العقلية في مثل هذه الموضوعات، وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات اإللهية في المجال الذي ال دليل لنا فيه غير ما يطلعنا الله

�( )المزمل: من اآلية �يال ب Wه� س� ب �ل�ى ر� خ�ذ� إ اء� ات (،19عليه منه؛ فهو قال: )ف�م�ن ش�ه�( )اإلنسان: من اآلية اء� الل �ش� �ن ي �ال أ اء�ون� إ �ش� (، وهو قال:30وهو قال: )و�م�ا ته�( )القيامة: ق�ى م�ع�اذ�ير� �ل �و أ ة� و�ل �ص�ير� ه� ب �ف س� ان� ع�ل�ى ن س� �ن �ل� األ (، وهو15، 14)ب

�ج ع�ل ه� ي �ض�ل �ن ي �ر�د أ � و�م�ن ي �س الم �إل ه� ل ح ص�د ر� ر� �ش �ه� ي �ه د�ي ن ي� ه� أ �ر�د� الل قال: )ف�م�ن ي

م�اء�( )األنعام: من اآلية �صعد� ف�ي الس م�ا ي ن� �أ � ك جا � ح�ر� Wقا ه� ض�ي (، وهو125ص�د ر�

�ك� ب ه�ا و�م�ا ر� �ي اء� ف�ع�ل �س� ه� و�م�ن أ �ف س� �ن � ف�ل �حا قال في الوقت نفسه: )م�ن ع�م�ل� ص�ال�يد�( )فصلت: ع�ب �ل Y ل م �ظ�ال (.46ب

فال بد إذن - وفق تصور المسلم إللهه وعدله في جزائه، وشمول مشيئته وقدره - من أن تكون حقيقة النسب بين مدلوالت هذه النصوص في حساب الله من شأنها أن تسمح لإلنسان بقدرY من اإليجابية في االتجاه والعمل، يقوم

عليه التكليف والجزاء دون أن يتعارض هذا الق در مع مجال المشيئة اإللهيةالمطلقة، المحيطة بالناس واألشياء واألحداث .. كيف؟

كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بما يراد خلقه وإنشاؤه كلها .. ليس في مقدور العقل البشري إدراكها. والتصور اإلسالمي يشير بتركها

للعلم المطلق، والتدبير المطلق - مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله ورحمته وفضله - فالتفكير البشري المحدود بحدود الزمان والمكان،

Wس�ب وهذه وبالتأثرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه الن الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العالقات واالرتباطات بين المشيئة

اإللهية والنشاط اإلنساني. إنما هذا كله متروك لإلرادة المدبرة المحيطة والعلم المطلق الكامل. متروك لله الذي يعلم حقيقة اإلنسان، وتركيب

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 62: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

كينونته، وطاقات فطرته وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من االختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من االختيار من

جزاء. وبهذا وحده يقع التوازن في التصور، والتوازن في الشعور، واالطمئنان إلى

الحركة وفق منهج الله، والتطلع معها إلى حسن المصير ... إن الله قادر طبع�ا على تبديل فطرة اإلنسان - عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه -

أو خلقه بفطرة أخرى. ولكنه شاء أن يخلق اإلنسان بهذه الفطرة، وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس ألحد من خلقه أن يسأله

لماذا شاء هذا؟ ألن أحد�ا من خلقه ليس إله�ا! وليس لديه العلم واإلدراك - وال إمكان العلم واإلدراك - للنظام الكلي للكون، ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن

بطبيعته التي خلق عليها. والله وحده هو الذي يعلم؛ ألنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه،

وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه،وهو وحده الذي يقدر أحسن( )المؤمنون: من �ق�ين� ال خ� �ح س�ن� ال ه� أ ك� الل �ار� �ب وضع للخلق فينشئه فيه: )ف�ت

(.14اآليةا.150-143]عن كتاب خصائص التصور اإلسالمي ومقوماته: ص [ مختصر�

( فهم وسط بين هؤالء وأولئك؛ فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم3) وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم، وال يغلون فيهم وال يخرجونهم

عن منزلتهم التي هم عليها.(.375-3/370( مجموع الفتاوى: )4)( باختصار.162-160( خصائص التصور اإلسالمي: )ص 5)(.10/21( مجموع الفتاوى: )6)(.10/21( مجموع الفتاوى: )7)( ط دار طيبة.2/145( مدارج السالكين: )8)( ط دار طيبة.228، 2/227( مدارج السالكين: )9)�ا له ال رجاء� لثوابه وال خوف�ا من10) ( وهم الذين يدعون أنهم يعبدون الله حب

عقابه!!( ط دار طيبة.299-2/297( مدارج السالكين: )11)( ط دار طيبة.3/214( مدارج السالكين: )12)(.542، 541( الروح: )ص 13) ( في صحيح سنن2044(، وصححه األلباني برقم )2649( رواه الترمذي: )14)

الترمذي.(.5/2758( في ظالل القرآن: )15)( ط دار طيبة.441، 1/440( مدارج السالكين: )16)(.142، 141( خصائص التصور اإلسالمي: )ص 17)(.4/40( تفسير السعدي: )18)( من سورة القصص.77( تفسير ابن كثير عند اآلية: )19)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 63: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

(.5/2711( في ظالل القرآن: )20)(.623، 10/622( مجموع الفتاوى: )21)( عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان: )وسطية أهل السنة والجماعة(.22)( باختصار.934 - 2/931( في ظالل القرآن: )23) ( رواه الترمذي في البر والصلة باب االقتصاد في الحب والبغض، وصححه24)

(.178األلباني في صحيح الجامع: )(.814( نزهة الفضالء: )ص 25)(.1311( نزهة الفضالء: )ص 26)(.816، 815( نزهة الفضالء: )27)(.486( نزهة الفضالء: )ص 28)(.11/174( سير أعالم النبالء: )29) ( انظر )فقه االئتالف( لألستاذ محمود الخزندار -رحمه الله تعالى-: )ص30)

330.)( للمؤلف.171، 170( انظر كتاب )فاستقم كما أمرت(: )ص 31)(.339، 3/338( مجموع الفتاوى: )32) ( لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم: )مفتاح دار السعادة(؛ حيث ذكر33)

فيه ابن القيم أكثر من ستين وجه�ا على بطالن هذا المذهب.( باختصار، ط. دار طيبة.427-1/420( مدارج السالكين: )34)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 64: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

المبحث الثانيمن مظاهر العدل والوسطية والتوازن

في األمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى األمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين؛ ومنه الجهاد

في سبيل الله تعالى الذي هو: ذروة سنامه، والطريق إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله عز وجل. وخيرية هذه األمة وعزتها متوقفان على القيام بشعيرة األمر والنهي والجهاد في سبيل الله تعالى؛

ه�و ن� �ن وف� و�ت م�ع ر� �ال ون� ب م�ر� �أ اس� ت �لن �خ ر�ج�ت ل مةY أ

� ر� أ ي �م خ� ت �ن قال الله عز وجل: )كه�( )آل عمران: من اآلية �الل �ون� ب �ؤ م�ن �ر� و�ت ك م�ن (.110ع�ن� ال

ومن أجل القيام بها على الوجه المشروع المرضي لله تعالى جاءت اآليات�ا واألحاديث التي ترسم معالمها وضوابطها وتحذر عن االنحراف بها يمين

�، وتهدي إلى الوسطية والعدل الذي هو سمة بارزة لألمة الوسط وشماالالتي هي خير أمة أخرجت للناس.

وقد افترق الناس في القيام بشعيرة األمر بالمعروف والنهي عن المنكرإلى طرفين ووسط.

الطرف األول: أهـل الغـلو واإلفـراط: وهم الذين قاموا بهذه الشعيرة وباشروا األمر والنهي دون مراعاة للضوابط الشرعية لألمر والنهي، ودون

النظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، ودون مراعاة ألحوال الزمان أو المكان أو األشخاص، بل قد يصل بهم اإلفراط إلى الخروج على األمة

بالسيف، كما حصل ذلك من الخوارج، والمعتزلة ومن تأثر بهما. ويتحدث اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن شمول الشريعة وكمالها وخيريتها ويضرب لذلك أمثلة فيقول: »فإن الشريعة مبناها وأساسها على�م ومصالح العباد في المع�اش والمعاد، وهي ع�د ل كلها، ورحمة كلها، الح�ك

�ها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجو ر�، وعن ومصالح كل الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى الع�بث،

فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة ع�د ل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى

صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم داللة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وه�د�اه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به

دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي م�ن استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة األرواح، وبها الحياة

والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة. وكل� خير في الوجود فإنما هو مستف�اد منها، وحاصل بها. وكل نقص في الوجود، فسببه من إضاعتها. ولوال رسوم� قد بقيت لخ�ر�بت الدنيا، وط�و�ى

العالم، وهي العصمة للناس، وق�وام العالم، وبها يمسك الله السموات واألرض أن تزوال. فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خ�راب� الدنيا، وط�ى العالم

رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفالح والسعادة في الدنيا واآلخرة. ونحن نذكر

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 65: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلةصحيحة:

المثال األول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع ألمته إيجاب إنكار�حبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما ي

المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه ال يس�وغه، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله ... ومن تأمل ما جرى على إنكار�

اإلسالم من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا األصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه منكر أكبر منه ... فإنكار المنكر أربع

درجات:األولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان األوليان مشروعتان، والثالثة:مة�. فإذا رأيت أهل� الفجور والفسوق يلعبون موضع اجتهاد، والرابعة محر

بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إال إذا نقلتهم منهاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، �ش مي الن �ر إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله ك�ة، فإن �ص دي اق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع م�كاء وت وإذا رأيت الف�سا من نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإال كان تركهم على ذلك خير�� عن ذلك، وكما أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغال� بكتب المجون ونحوها، وخ�ف ت من نقله عنها انتقاله إذا كان الرجل مشتغالإلى كتب البد�ع والضالل والسحرة، فدعه وكتبه األولى، وهذا باب واسع«)

1.) الطرف الثاني: أهل التفريط والتقصير: وهم الذين قعدوا عن األمر

بالمعروف والنهي عن المنكر وآثروا الراحة على الدعوة والجهاد، وبرروا ذلك باجتناب الفتن التي تترتب على األمر والنهي كما حصل ذلك من

المرجئة وأهل الفجور. الموقف الوسط المتوازن: وهو الذي عليه أهل االستقامة؛ أهل السنة والجماعة الذين قاموا بشعيرة األمر والنهي مراعين في ذلك الضوابط

الشرعية والنظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، وح�ذ�روا وحذروا من الخروج على جماعة المسلمين بالسيف، ومع ذلك فهم يصدعون بالحق من دون سيف وال عصا؛ ولو أصابهم في ذلك من األذى ما أصابهم؛ قال الله عز( )لقمان: من �ك� ص�اب

� �ر ع�ل�ى م�ا أ �ر� و�اص ب ك م�ن ه� ع�ن� ال وف� و�ان م�ع ر� �ال م�ر ب وجل: )و�أ

(.17اآلية وعن هذين الطرفين المذمومين - طرف اإلفراط وطرف التفريط - يقول

شيخ اإلسالم - رحمه الله تعالى -: »ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في

الفتنة، فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلم�ا، ويرون ذلك من

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 66: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

باب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وآخرون من المرجئة وأهل الفجور­ا أن ذلك من باب ترك قد يرون ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظن

(.2الفتنة، وهؤالء يقابلون ألولئك«) أما عن الوسط بين هذين الطرفين فيقول رحمه الله تعالى: »ومع ذلك

فيجب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعة والضاللة بحسب اإلمكان، كما دل على وجوب ذلك

الكتاب والسنة وإجماع األمة. وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك؛ فيرى أن األمر والنهي

ال يقوم إال بفتنة؛ فإما أن يؤمر بهما جميع�ا أو ينهى عنهما جميع�ا، وليسوف� م�ع ر� �ال م�ر ب

كذلك، بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة، كما قال تعالى: )و�أ( )لقمان: من اآلية �ك� ص�اب

� �ر ع�ل�ى م�ا أ �ر� و�اص ب ك م�ن ه� ع�ن� ال (.17و�ان وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: »بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة

علينا، وأال ننازع األمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، ال نخاف في (، فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة األمر أهله،3الله لومة الئم«)

�ع ر�ض الحيرة في �ظ�ن� م�ن تعارض هذين ت وأمرهم بالقيام بالحق. وألجل ما ي ذلك لطوائف الناس. والحائر الذي ال يدري - لعدم ظهور الحق، وتمييز

المفعول من المتروك - ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب( ا.هـ.4هواه عليه«)

أما الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن كان يدخل في الكالم السابق عن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر إال أنه من المهم أن يفرد بكالم خاص

عن الوسط والطرفان المذمومان اللذان بكتنفانه وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي اختلفت فيه الرؤى حول الجهاد في سبيل الله عز وجل: ما

بين قاعد عاجز ال يفكر في االستعداد وإعداد العدة للجهاد، وما بين متسرع ومطالب بجهاد الكفر وأهله دونما الحصول على الحد األدنى من القدرة والبيان الذي تستبان فيه سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. وبين هذين

الطرفين يقع الموقف العدل المتوازن. ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن هذين الطرفين المذمومين فيقول:

»وهكذا نرى صفحة من حسم اإلسالم وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه؛ هذه في موضعها، وتلك في موضعها. وطبيعة الموقف وحقيقة الواقعة هي

التي تحدد هذه وتلك .. ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشئ التوازن في

شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام اإلسالمي - السمة األساسية األصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون األمر كله عنف�ا وحماسة

وشدة واندفاع�ا فليس هذا هو اإلسالم! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهـاد في اإلسالم - كأن اإلسالم في قفص االتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! - فيجعلون األمر كله سماحة وسلم�ا وإغضاء وعفو�ا؛ ومجرد دفاع عن الوطن اإلسالمي وعن

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 67: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

جماعة المسلمين - وليس دفع�ا عن حرية الدعوة وإبالغها لكل زاوية في�ا ألي فرد في كل زاوية من زوايا األرض يريد األرض بال عقبة، وليس تأمين أن يختار اإلسالم عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن

الناس كلهم في ظله؛ من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء .. فأما حينئذ(.5فليس هذا هو اإلسالم«)

ولمزيد من التفصيل يمكن القول بأن الناس في موقفهم من الجهاد فيسبيل الله تعالى طرفان ووسط:

الطرف األول: هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي باألمر

الواقع ولم يسع لإلعداد واالستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع

األرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين�م�ر� بكف اليد والصبر. وهذا االستدالل صحيح في حد ذاته في مكة؛ حيث أ

فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة واإلعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على

التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل.�ستمرأ الذلة، أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وت

وتفتر الهمم وال يحصل اإلعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على

التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما

�نتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز أنه من أعظم العدة والزاد لما ي وجل. ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين وقفوا مع

المراحل األولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر�ق�ف�وا بنصوص المراحل السابقة التي فيها األمر بجهاد بجهاد الكفار أينما ث

الدفع ورد األعداء فحسب. وفي ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: »إن هذه النصوص التي

�ا. وهذا الواقع المعين قد يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقع�ا معين يتكرر وقوعه في حياة األمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص

المرحلية ألن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك األحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على األمة المسلمة أن

تمضي قدم�ا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق األحكام النهائية الواردة في السورة األخيرة،

(6والتي كانت تواجه واقع�ا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية«)ا.هـ.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 68: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الطرف الثاني: وأصحاب هذا الطرف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء في كف اليد أو

المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم .. إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين

وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل

المجرمين؛ ليكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة؛ ودون أن يكون هناك اإلعداد المعنوي الروحي للمجاهدين

� وعبادة وأخالق�ا ودعوة. علم�ا وعمال يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »فمن كان من المؤمنين

بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين،

(7وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون«)ا.هـ.

وقد جاء موقف هذا الطرف الذي لم ينظر إال إلى المرحلة األخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل موقف الطرف السابق الذي لم ينظر إال

�ع�د للمراحل الجهادية التي تلت إلى المرحلة األولى - وهي كف اليد - ولم يكف اليد والصبر على أذى الكفار.

الموقف الوسط المتوازن: وهو الموقف العدل الذي أحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ حيث رأى أن واقع

المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛

حيث االستضعاف وتسلط الكفار. ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف األول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا باالستسالم للواقع، ولم

يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم فيغ التوحيد الخالص للناس وأوضح مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبل سبيل المجرمين وحذر منها، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد� للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ ومقتضياته، وأعدهم علم�ا وعمال

فصبروا وصابروا، وهجروا الخالن واألوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل

التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم األنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار

التوحيد ورسالة اإلسالم في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله،وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 69: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل اإلعداد الشامل لذلك والبيان التام لسبيل المؤمنين وسبيل

المجرمين.

تنبيه: ليس المقصود بالطرف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع اليوم عن

المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها؛ فهذا جهاد دفع ال يشترط فيه ما يشترط لجهاد الطلب؛ وإنما المقصود هم أولئك الذين

يرون مواجهة األنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد األدنى من اإلعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر وأهلها وراية أهل

اإليمان في تلك البلدان للناس؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط األوراق ويجد هؤالء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجه�ا لوجه

أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم األمر.

____________( باختصار.7-3/5( إعالم الموقعين: )1)(.1/177( اآلداب الشرعية: )2)ا3) ( البخاري في الفتن، باب قوله صلى الله عليه وسلم: »سترون بعدي أمور�

(، ورواه مسلم في اإلمارة، باب وجوب طاعة األمراء7056تنكرونها« ح )( .1709في غير معصية ح )

(.42، 1/41( االستقامة: )4)(.2/734( في ظالل القرآن: )5)(.3/1581( في ظالل القرآن: )6)(.2/414( الصارم المسلول: )7)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 70: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

المبحث الثالثمن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في العبادات

والمقصود بالعبادات هنا: تلك العبادات التي بين العبد وربه - سبحانه - كما هو الحاصل في شعائر التعبد؛ كالصالة والصيام والزكاة والحج والذكر

وقراءة القرآن وغيرها، مما ال يدخل في معامالت الخلق. وهذا من باب التقسيم الفني فقط، وإال فكل أعمال العبد وحركاته ومعامالته ينبغي أن تكون كلها عبادة لله تعالى، وأن يكون فيها العبد مستسلم�ا لربه خاضع�ا

Wب ه� ر� �ل �ي ل �اي� و�م�م�ات ي ك�ي و�م�ح �س� �ي و�ن �ن ص�الت لشرعه؛ قال الله تعالى: )ق�ل إ( )األنعام: �م�ين� ل م�س ول� ال

� �ا أ �ن ت� و�أ �م�ر �ك� أ �ذ�ل �ه� و�ب ر�يك� ل �م�ين� ال ش� ع�ال ،162ال163.)

وأول ما نبدأ به في وسطية هذا الدين في العبادات تلك الوسطية العامة البارزة والتوازن المنضبط في تشريع العبادات وأحكامها ويسرها، ولكي

تبرز هذه السمة بصورة واضحة فال بد من التعرض للمناهج األخرى السائدةفيما يتعلق بالعبادة تفريط�ا أو إفراط�ا؛ وذلك كما يلي:

»المنهج األول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم؛ فلو تأملنا في التوارة - بعد تحريفها - لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فال تقرأ في أسفار

� لآلخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا التوارة ذكرا� من عقوبة فقط، فال يعمل الشخص إال لتحقيق كسب عاجل، أو خوفا

ه� �ا الل ر�ن� عاجلة، بل بلغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: )أ

ة�( )النساء: من اآلية ة�(153ج�ه ر� ه� ج�ه ر� ى الل �ر� ى ن �ك� ح�ت �ؤ م�ن� ل �ن ن (، وقالوا: )ل(.55)البقرة: من اآلية

ووفق�ا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤالء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريق�ا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول

اإلنسان في نظر هؤالء إلى آلة تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو. وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها

�اةY( )البقرة: من اآلية ي اس� ع�ل�ى ح� �ح ر�ص� الن ه�م أ د�ن �ج� �ت (. أي96فقال تعالى: )و�ل �ن حياة؛ حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها؛ وذلك ألنهم يخشون الموت: )و�ل

�( )البقرة: من اآلية �دا �ب و ه� أ �م�ن �ت (؛ ألنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعلمهم للدنيا95ي وعبادتهم لمآرب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء فهم بهذادوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش أغرقوا في الشهوات، وعب

) �ال الده ر� �ا إ �ن �ك �ه ل �ا و�م�ا ي ي �ح �م�وت� و�ن �ا ن ي �ا الد�ن �ن �ات ي �ال ح� الذين قالوا: )م�ا ه�ي� إ (، وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحاالته،24)الجاثـية: من اآلية

ر� ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صالة، ونسأله أن يجنبنا إياه: )غ�ي( )الفاتحة: من اآلية ه�م �ي م�غ ض�وب� ع�ل (.7ال

أما المنهج الثاني: وهو المنهج القائم على الروحانيات؛ وذلك بإعالئها وتمجيدها، واإلغراق في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج

النصارى، وهو منهج اإلفراط والغلو وابتداع النصارى رهبانية قاسية على النفس: تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 71: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها الرزق، وترى ذلك رجس� عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، مؤذية

�د�ع�وه�ا م�ا ت ة� اب �ي �ان ه ب لألجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بال حجة وال برهان؛ )و�ر��ه�ا( )الحديد: من �ت ع�و ه�ا ح�ق ر�ع�اي ه� ف�م�ا ر� �غ�اء� ر�ض و�ان� الل ت �ال اب ه�م إ �ي �اه�ا ع�ل ن �ب �ت ك

(....27اآلية وهذا المنهج يمثل اإلفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه االنحراف عن) Wين� نا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: )و�ال الضال �م�ر الصراط المستقيم، ولذلك أ

(.1(«)7)الفاتحة: من اآلية إذن فشريعة اإلسالم وسط وعدل في العبادات بين المنهج القائم على

التفريط والجفاء، وبين المنهج القائم على الغلو واإلفراط والرهبانية. وفي ذلك يقول شيخ اإلسالم - رحمه الله تعالى -: »ولهذا كان السلف

يحذرون من هذين الصنفين؛ قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب دنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع

لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور. فالقسم األول: أهل الفجور؛ وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور

ما هم فيه. والقسم الثاني: المترهبون؛ أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم. هؤالء استمتعوا بخالقهم، وهؤالء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم؛ وذلك أن

الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها، أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم

ا منهم. الله والدار اآلخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثير� والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم

يحرم هذا، بل يلتزمون أن ال يفعلوه؛ إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله علي أن ال آكل طعام�ا بالنهار

أبد�ا، ويعاهد أحدهم أن ال يأكل الشهوة المالئمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر. فهذا يلتزم أن ال يشرب الماء، وهذا يلتزم

(، وهذا يلتزم أن ال2أن ال يأكل الخبز، وهذا يلتزم أن ال يشرب الف�قاع)�ج�ب� نفسه، وهذا يلتزم أن ال ينكح وال يذبح. وأنواع هذه يتكلم قط، وهذا ي

األشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوىوالشهوة.

وال ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )المجاهد من جاهد نفسه في

ذات الله، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع ( لكن المسلم المتبع لشريعة اإلسالم هو3نفسه هواها وتمنى على الله()

المحرم ما حرمه الله ورسوله؛ فال يحرم الحالل وال يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد في ذلك، ويقتصد

(.4في العبادة؛ فال يحمل نفسه ما ال تطيق«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 72: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ولمزيد من البيان لهذه الوسطية والعدل والتوازن في العبادات أذكر بعضالنماذج والمظاهر الدالة على ذلك؛ وذلك فيما يلي:

النموذج األول : عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثالثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى

الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر

�صلي الليل الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أ أبد�ا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر وال أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فال أتزوج أبد�ا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: )أنتم الذين قلتم

كذا وكذا؟ أما والله إني ألخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر،(.5وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني()

يقول صاحب كتاب الوسطية في القرآن: »فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة: وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، فلما

علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا االتجاه فبادر بعالجه،

وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله،

(.6وهذا هو عين الوسطية والحكمة واالستقامة واالعتدال والعدل«) ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذا الحديث وأمثاله فيقول: »والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن

يعطل طاقاته الروحية الطليقة؛ كالهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له، وكالهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في

كيانها األصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير. من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن فال يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فال يفطر، ومن أراد أن يقوم

الليل فال ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال:)فمن رغب عن سنتي فليس مني(.

وقد أقام اإلسالم شريعته لإلنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها�د�مر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا �ا ال ت نظام�ا بشري

النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان وال ضعف؛ وال اعتداء من إحداها على األخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل.

(.7وكل طغيان يقابله تدمير«)النموذج الثاني :

عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم وال يقعد وال يستظل وال

ه� فليتكلم وليستظل يتكلم ويصوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: )م�ر(. فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.8وليقعد وليتم صومه()

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 73: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

النموذج الثالث : »آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا

الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع طعام�ا فقال: كل

فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان آخر الليل

قال سلمان: قم اآلن. قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حق�ا، ولنفسك عليك حق�ا، وألهلك عليك حق�ا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي

صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(.9)صدق سلمان()

النموذج الرابع : عن عائشة رضي الله عنها قالت: »دخل علي رسول الله صلى الله عليه�صلي. قال: وسلم وعندي امرأة فقال: )من هذه؟( فقلت: امرأة ال تنام ت

)عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله ال يمل الله حتى تملوا(، وكان أحب (. وهذا توجيه نبوي كريم نحو االعتدال10الدين إليه ما داوم عليه صاحبه«)

والتوسط.النموذج الخامس :

عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل مدود بين ساريتين. فقال: )ما هذا؟( قالوا: لزينب تصلي،

فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: )حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا(.11كسل أو فتر قعد()

»فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكن أقل حرص�ا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلى ذلك في هذه النزعة

الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا(.12الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع«)

ولنستمع اآلن إلى تعليق اإلمام النووي النافع حول هذين الحديثين حيث يقول: »فيه دليل على الحث على االقتصاد في العبادة واجتناب التعمـق،

� بالصـالة بل هو عـام في جميـع أعمال البـر ... وفي وليس الحديث مختصا هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ ألنه أرشدهم

إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بال مشقة وال ضرر، فتكون(.13النفس أنشط والقلب منشرح�ا، فتتم العبادة...()

ويالحظ في النماذج السابقة التحذير من الغلو واإلفراط، وأنه قد ينتهي بصاحبه إلى االنقطاع والتوقف، أو الزيادة على ما لم يشرعه الله عز وجل،

� على صاحبه. وبالتالي يصبح مردودا وفي مقابل الغلو نهى الله عز وجل عن التفريط واإلضاعة للصالة، فقالو ف� ه�و�ات� ف�س� �ع�وا الش ب �ض�اع�وا الصالة� و�ات �ع د�ه�م خ�ل ف� أ تعالى: )ف�خ�ل�ف� م�ن ب

�( )مريم: ق�و ن� غ�يا �ل (.59ي

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 74: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

قال اإلمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره لهذه اآلية: »لما ذكر الله تعالى حزب السعداء، وهم األنبياء عليهم السالم ومن اتبعهم من

القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله، التاركين لزواجره، ذكر�ض�اع�وا الصالة�(. وإذا (. أي قرون أخر. )أ �ع د�ه�م خ�ل ف� أنه: )ف�خ�ل�ف� م�ن ب

أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ ألنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا ومالذها، ورضوا بالحياة الدنيا

­ا أي: خسارة يوم القيامة«) ق�و ن غي �ل (.14واطمأنوا بها؛ فهؤالء سيالنموذج السادس :

)� �يال ب �ك� س� ن� ذ�ل �ي �غ� ب ت �ه�ا و�اب �خ�اف�ت ب �ك� و�ال ت �ص�الت ه�ر ب �ج في قوله تعالى: )و�ال ت(.110)اإلسراء: من اآلية

(: حدثنا هشيم،15قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: »قال اإلمام أحمد) حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:

�ج ه�ر نزلت اآلية ورسول الله صلى الله عليه وسلم، متوارY بمكة: )و�ال ت�ه�ا(. قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، �خ�اف�ت ب �ك� و�ال ت �ص�الت ب

فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله، ومن جاء به، قال:(؛ أي �ك� �ص�الت �ج ه�ر ب فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: )و�ال ت

�ه�ا( عن أصحابك �خ�اف�ت ب بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، )و�ال ت�(. أخرجاه في �يال ب �ك� س� ن� ذ�ل �ي �غ� ب ت فال تسمعهم القرآن، حتى يأخذوه عنك. )و�اب

( من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به.16الصحيحين)(.17وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء«) وقال القرطبي: »روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز�ه�ا( قالت: أنزل هذا في الدعاء«) �خ�اف�ت ب �ك� و�ال ت �ص�الت �ج ه�ر ب (.18وجل: )و�ال ت

والشاهد أن هذه اآلية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما؛ وهما الجهر.)� �يال ب �ك� س� ن� ذ�ل �ي �غ� ب ت الشديد أو المخافتة واإلسرار؛ )و�اب

النموذج السابع : ه ر� م�ن� ج� � و�خ�يف�ة� و�د�ون� ال عا �ض�ر� �ف س�ك� ت ك� ف�ي ن ب �ر ر� في قوله تعالى: )و�اذ ك

( )األعراف: �ين� غ�اف�ل �ن م�ن� ال �ك ص�ال� و�ال ت غ�د�وW و�اآل �ال ق�و ل� ب (.205ال ج�ه ر�(: أي دون الرفع في القول؛ أي أسمع قال القرطبي: » )و�د�ون� ال

�( أي بين الجهر والمخافتة«) �يال ب �ك� س� ن� ذ�ل �ي �غ� ب ت (.19نفسك؛ كما قال: )و�ابالنموذج الثامن :

) �د�ين� م�ع ت �ح�ب� ال ه� ال ي �ن �ة� إ � و�خ�ف ي عا �ض�ر� �م ت ك ب في قوله تعالى: )اد ع�وا ر�(.55)األعراف:

قال اإلمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: »لقد كان المسلمون يجتهدونا بينهم وبين ربهم؛ وذلك في الدعاء وما يسمع لهم صوت؛ إن كان إال همس��ة�(، وذلك أن الله ذكر عبد�ا � و�خ�ف ي عا �ض�ر� �م ت ك ب أن الله تعالى يقول: )اد ع�وا ر�

�( )مريم: �د�اء� خ�ف�يا ه� ن ب �اد�ى ر� �ذ ن ( وقال ابن جريج:3صالح�ا رضي فعله فقال: )إ�كره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع واالستكانة، ي

�ح�ب� ه� ال ي �ن ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: )إ

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 75: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

:) �د�ين� م�ع ت �ح�ب� ال ه� ال ي �ن (: في الدعاء وال في غيره. وقال أبو مجلز: )إ �د�ين� م�ع ت ال ال يسأل منازل األنبياء. وقال أحمد: حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي، حدثنا

شعبة عن زياد بن مخراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعد�ا سمع�ا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحو�ا من ابنا ا كثير� هذا، وأعوذ بك من النار وسالسلها وأغاللها فقال: لقد سألت الله خير�

وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء« وفي لفظ: »يعتدون في

�( اآلية، وإن بحسبك عا �ض�ر� �م ت ك ب الطهور والدعاء« وقرأ هذه اآلية: )اد ع�وا ر� أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ

( ورواه أبو داود من حديث20بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل) شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن ابن لسعد عن سعد فذكره والله أعلم، وقال اإلمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا

الحريري عن أبي نعامة أن عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر األبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها؛ فقال: يا بني، سل الله الجنة وع�ذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(.21(«)20يقول: )يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور()النموذج التاسع :

قوله صلى الله عليه وسلم: »إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن(، والناس مع الرخص الشرعية طرفان ووسط.22تؤتى معصيته«)

الطرف األول: من يتمادى في أخذ الرخصة، ويسترسل معها حتى يخرج بهاعن المقصود الشرعي.

الطرف الثاني: من يتشدد في الورع حتى يترك الرخص الشرعية ويشددعلى نفسه.

الوسط: وهو الذي يعظم أمر الله عز وجل ونهيه؛ فال يعارضهما بترخصجاف وال يعرضهما لتشديد غال ويزهد في رخص الله عز وجل.

ويفصل هذا األمر اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: »فحقيقةضا بترخ�ص جاف، وال يعرضا لتشديد غال؛ التعظيم لألمر والنهي أن ال يعار�

فإن المقصود هوالصراط المستقيم الموصل إلى الله - عز وجل - بسالكه. وما أم�ر� الله - عز وجل - بأمر إال وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير

�و¶، فال يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه وتفريط، وإما إفراط� وغ�ل�ا وترخيص�ا؛ أخذه من ا وتواني يأتي إلى قلب العبد فيشامه: فإن وجد فيه فتور�طه، وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب هذه الخطة، فثب

التأويالت والرخاء، وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد� المأمور� جملة.ا ونهضة، وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛ ا وجد­ا، وتشمير� وإن وجد عنده حذر� أمره باالجتهاد الزائد، وسول له أن هذا ال يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي

لك أن تزيد على العاملين، وأن ال ترقد إذا رقدوا، وال تفطر إذا أفطروا، وأن�روا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثالث مرات فاغسل أنت �ر� إذا ف�ت �ف ت ال ت

سبع�ا، وإذا توضأ للصالة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من اإلفراط والتعدWي،

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 76: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

فيحمله على الغلوW والمجاوزة وتعدWي الصراط المستقيم؛ كما يحمل األولعلى التقصير دونه وأن ال يقربه.

�ه ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بأن ال يقربوال يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.

، وإيمان وقوة �جWي من ذلك إال علم� راسخ� �ن �ن بهذا أكثر� الخلق، وال ي وقد ف�ت(.23على محاربته، ولزوم الوسط والله المستعان«)

وقال أيض�ا: »ومن عالمات تعظيم األمر والنهي: أن ال يسترسل مع الرخصة�ا غير مستقيم على المنهج الوسط. إلى حد يكون صاحبه جافي

ة� وردت باإلبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخ�ص مثال ذلك: أن السن�ا. الجافي أن يبر�د� إلى فوات الوقت، أو مقاربة خروجه، فيكون مترخص�ا جافي

وحكمة هذه الرخصة أن الصالة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوعه وضجر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم والحضور، ويفعل العبادة بتكر�

بتأخيرها حتى ينكسر الحر، فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصودالصالة من الخشوع واإلقبال على الله تعالى.

ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام، أو عند مدافعة البول والغائط؛ لتعلق قلبه من ذلك بما يشوWش عليه مقصود

الصالة، وال يحصل المراد منها.�ق بل� على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه فمن فقه الرجل في عبادته: أن ي

Wيته غ قلبه لله تعالى، ونصب وجهه له، وأقبل بكل للصالة، فيقوم فيها وقد فر�غ ف�ر� للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه. عليه؛ فركعتان من هذه الصالة ي

�ا. والمقصود أن ال يترخص ترخص�ا جافي ومن ذلك: أنه رخص للمسافر في الجمع بين الصالتين عند العذر، وتعذر

فعل كل صالة في وقتها لمواصلة السير، وتعذر النزول أو تعسره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثالثة، أو أقام اليوم؛ فجمعه بين الصالتين ال موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صالة في وقتها من غير مشقة، فالجمع

ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع، سواءنة راتبة، فسنة المسافر و�ج�د� عذر أم لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر س�

قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصالتينفحاجة ورخصة، فهذا لون، وهذا لون.

ومن هذا: أن الشبع في األكل رخصة غير محرمة، فال ينبغي أن يجفو العبد�خمة واالمتالء، فيتطلب ما يصرف به فيها حتى يصل به الشبع إلى حد الت

الطعام، فيكون همه بطنه قبل األكل وبعده. بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه

ه�() �ل�ث� لنف�س� �ه�، وث راب �ل�ث� لش� �ل�ث� لطعام�ه�، وث (.24وسلم: )ثوال يجعل الثالثة األثالث كلها للطعام وحده.

وأما تعريض األمر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس في الوضوء�ا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردWد تكبيرة اإلحرام إلى أن تفوته مع متغالي

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 77: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

اإلمام قراءة الفاتحة، أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى� من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه. ال يأكل شيئا

اد الذين نقص حظهم من العلم، ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العب�ا من بالد اإلسالم، وكان يتقوت بما يحمل إليه من حتى امتنع أن يأكل شيئ

�و� بالد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط، والغ�ل الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من

(.25الخذالن«)النموذج العاشر :

الوسطية في الطهارة والصالة: قال اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »واألدب: الوقوف في الوسط بين طرفين؛ فال يقصر بحدود الشرع عن تمامها، وال يتجاوز بها ما جعلت

حدود�ا له؛ فكالهما عدوان، والله ال يحب المعتدين. والعدوان: هو سوءاألدب.

وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. فإضاعة األدب بالجفاء؛ كمن لم يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصالة

ها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها. وهي قريب من ن آدابها التي س�مائة أدب: ما بين واجب ومستحب.

وإضاعته بالغلو: كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهرا، وتطويل ما السنة� تخفيفه وحذفه باألذكار والدعوات التي شرعت سر� كالتشهد األول والسالم الذي ح�ذ ف�ه سنة، وزيادة التطويل على ما فعله

راق الصالة والنقارون رسول الله صلى الله عليه وسلم ال على ما يظنه س� لها ويشتهونه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه،

وقد صانه الله من ذلك. وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافات، ويأمرهم بالتخفيف، وتقام صالة الظهر، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي

حاجته، ويأتي أهله ويتوضأ، ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة األولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، ال نقر الصالة وسرقها؛ فإن

(»...� ذلك اختصار، بل اقتصار على ما يقع عليه االسم، ويسمى به مصليا26.)

وقال في موطن آخر وهو يفرق بين االحتياط في العبادة والوسوسة فيها: »والفرق بين االحتياط والوسوسة أن االحتياط االستقصاء والمبالغة في

ة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ن اتباع الس� من غير غلو ومجاوزة وال تقصير وال تفريط؛ فهذا هو االحتياط الذي يرضاه

ة ولم يفعله ن الله ورسوله. وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به الس� رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وال أحد من الصحابة؛ زاعم�ا أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه؛ كمن يحتاط بزعمه ويغسل

أعضاءه في الوضوء فوق الثالث فيسرف في صب الماء في وضوئها، أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصالة مرار�

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 78: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ال يتيقن نجاسته احتياط�ا، ويرغب عن الصالة في نعله احتياط�ا، إلى أضعاف�ا وزعموا أنه احتياط. أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دين

وقد كان االحتياط باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه أولى بهم؛ فإنه االحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق االحتياط،

ة ن وعدل عن سواء الصراط. واالحتياط كل االحتياط الخروج عن خالف الس�(.27ولو خالفت أكثر أهل األرض بل كلهم«)

النموذج الحادي عشر : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه

: )هلم القط لي(. فلقطت� له حصياتY من حصى الخ�ذ ف، Yع وسلم غداة ج�م فلما وضعهن في يده قال: )نعم بأمثال هؤالء، وإياكم والغلو في الدين؛

(.28فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين() وقد قال أهل العلم في حجم الحصى الذي يرمى به أنه بين الحمص

والبندق، فما زاد على البندق فهذا إفراط، وما نقص عن الحمص فهوتفريط، والعدل بين اإلفراط والتفريط.

وأختم الكالم عن الوسطية في العبادات بكالم نفيس لإلمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: »فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله

ورسوله صلى الله عليه وسلم هو االقتصاد في العبادة كما قال النبي صلى�ا قاصد�ا() �ا قاصد�ا، عليكم هدي (. وقال: »إن29الله عليه وسلم: )عليكم هدي

هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إال غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة(. وكالهما في الصحيح.30وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغو«)

وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: )اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد فيا يمنعه عن فعل واجب أنفع له بدعة( فمتى كانت العبادة توجب له ضرر� منها كانت محرمة؛ مثل أن يصوم صوم�ا يضعفه عن الكسب الواجب أو

يمنعه عن العقل، أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب، وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم ال يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله

كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم. وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة.�ات� م�ا Wب م�وا ط�ي Wح�ر� �وا ال ت ذ�ين� آم�ن �ه�ا ال ي

� �ا أ وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: )ي( )المائدة: �د�ين� م�ع ت �ح�ب� ال ه� ال ي �ن الل �د�وا إ �ع ت �م و�ال ت �ك ه� ل �ح�ل الل ( فإنها نزلت87أ

في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة: هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم، وهذا يجتنب النساء، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم،

والنساء، وعن االعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام، والقيام، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح. ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه

(.31من اليمين على هذا التحريم، والعدوان«)______________

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 79: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

(492، 491( انظر: الوسطية في القرآن الكريم، علي الصالبي: )ص 1)باختصار يسير.

�تخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد.2) ( الف�قاع: هو شراب ي ( لم أجد لهذا الحديث بهذا التركيب وإنما ورد في حديثين مستقلين:3)

(، وصححه1687األول: )المجاهد من جاهد نفسه( وهذا رواه الترمذي ) (، والثاني: )الكيس من دان نفسه ...1322األلباني في صحيح الترمذي )

( وقال: حديث26الحديث( وهذا رواه الترمذي في القيامة، باب رقم )حسن.

(.461-41/459( مجموع الفتاوى: )4)(.5063( صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح: )5)(.494( الوسطية في القرآن: )ص 6)(.4/2139( في ظالل القرآن: )7) ( صحيح البخاري، كتاب األيمان والنذور، باب النذر فيما ال يملك وفي8)

(.6704معصية، ح )(.6139( البخاري، كتاب األدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، ح )9)( البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، ح )10)

(، واللفظ له.785(، ومسلم، كتاب صالة المسافرين وقصرها، ح )1151 (،1150( البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد ...، ح )11)

(.784ومسلم كتاب صالة المسافرين وقصرها، ح )(.497( الوسطية في القرآن: )ص 12)(.6/71( شرح النووي على صحيح مسلم: )13)(.3/137( تفسير ابن كثير: )14)(.1853(، وصححه أحمد شاكر: )1/251( المسند: )15)(.446(، ومسلم: )4722( صحيح البخاري: )16)(.69، 3/68( انظر تفسير ابن كثير: )17)(.447(، وانظر صحيح مسلم: )10/344( تفسير القرطبي: )18)(.7/355( تفسير القرطبي: )19) (، ورواه أبو داود في الطهارة، باب اإلسراف1/172( مسند أحمد: )20)

(.87(، وصححه األلباني في صحيح أبي داود: )96في الماء )(.222، 2/221( تفسير ابن كثير: )21)(.564(، وصححه األلباني في إرواء الغليل: )2/108( مسند أحمد: )22)( ت: سليم الهاللي.32( الوابل الصيب: )ص 23) (، وصححه األلباني في3349(، وابن ماجة: )2380( رواه الترمذي: )24)

(.2704صحيح سنن ابن ماجة: )(.31-29( الوابل الصيب، ت: الهاللي: )ص 25)( ط. دار طيبة.212، 1/211( مدارج السالكين: )26)(.543، 542( الروح: )ص 27)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 80: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

(، وصححه األلباني في3025(، وابن ماجة: )3057( النسائي: )28) ( واللفظ له، وصححه1/215(، وأحمد في المسند: )1283الصحيحة: )

(.1851أحمد شاكر ) ( لم أحده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه اإلمام أحمد في مسنده:29)(.4086(، وغيره، وصححه األلباني في صحيح الجامع: )5/350) ( لم أجده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه النسائي، كتاب اإليمان،30)

(.4661باب الدين يسر، وصححه األلباني في صحيح النسائي رقم: )(.25/272( »مجموع الفتاوى«: )31)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 81: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

المبحث الرابعمن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في األخالق والمعامالت

لقد فطر الله عز وجل اإلنسان على الخير، وركز في فطرته أصول األخالق الفاضلة؛ وركب فيها الميل إلى الحسن، والنفرة من القبيح، إال من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة وسوء التربية، وإغواء النفس والشيطان. ومع ذلك

جاء اإلسالم بالتأكيد على األخالق الفاضلة، والحث عليها، والتنفير مناألخالق السيئة بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن.

والدين كله خلق: عقائده وعباداته وأحكامه ومعامالته؛ كما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: )كان خلقه

(.1القرآن() ويقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »الدين كله خلق؛ فمن زاد

(.2عليك في الخلق زاد عليك في الدين«) ولكن الحديث في هذا الفصل سيكون متوجه�ا إلى المعنى الخاص لألخالق؛

كالمعامالت، والسلوك الحميد؛ مما ال يدخل في العقائد والعبادات. وقد جاءت أخالق اإلسالم متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خلق حميد فهو وسط بين خلقين ذميمين: أحدهما ينزع إلى الغلو واإلفراط، واآلخر

ينزع إلى التفريط والتضييع. وفي ذلك يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »والعدل يحمله على اعتدال أخالقه، وتوسطه فيها بين طرفي اإلفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذين هما توسط بين اإلمساك واإلسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو سط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة

الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ... وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو سط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان ... فإن النفس متى

انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ال بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة

وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما�طم�ع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من إلى عجز وخ�و�ر ومهانة، بحيث ي

مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجزوموت النفس.

وكذلك إذا انحرفت عن خلق »الصبر المحمود« انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع ... وإذا

انحرفت عن خلق »الحلم« انحرفت: إما إلى الطيش والنزق والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين من حلمه حلم ذل

ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف.كما قيل:

كل حلم أتى بغير اقتدار حجة الجئ إليهـا اللئــام

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 82: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وإذا انحرفت عن خلق »األناة والرفق« انحرفت: إما إلى عجلة وطيشوعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق واألناة بينهما.

وإذا انحرفت عن خلق »العزة« التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلىكبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.

وإذا انحرفت عن خلق »الشجاعة« انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غيرمحمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.

وإذا انحـرفـت عـن خلـق »المنافسـة فـي المراتب العاليــة والغبطــة«انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون.

ة �ل�ب، وإما إلى خ�س وإذا انحرفت عن »القناعة« انحرفت: إما إلى حرص وكومهانة وإضاعة.

وإذا انحرفت عن خلق »الرحمة« انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن ال يقدم على ذبح شاة، وال إقامة حد، وتأديب ولد؛ ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحم� الخلق صلى الله عليه

�ا وستين بدنة، وقطع األيدي من الرجال وسلم بيده في موضع واحد ثالث والنساء، وضرب األعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم.

وكان أرحم خلق الله على اإلطالق وأرأفهم. وكذلك طالقة الوجه، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيبر، وبين االسترسال بذلك مع كل أحد �ش� ر عن الب �ش وتصعير الخد، وطي الب�ذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن االنحراف بحيث ي

األول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلـوب الخلق. وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفةرة أحبه() نبينا صلى الله عليه وسلم: )من رآه بديه�ة هابه. ومن خالطه ع�ش

(.4(. والله أعلم«)3 وبعد هذا اإلجمال في بيان الوسطية والتوزان في بعض أخالق هذا الدين؛

فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السمة في بعض األخالق، ومنها تلك التي ظهرت في عصرنا الحاضر وهي مجانبة للتوسط واالعتدال، خاصة

وأنها سرت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم.

_____________(.746( صحيح مسلم: )1)( ط. دار طيبة.3/73( مدارج السالكين: )2) ( رواه الترمذي في المناقب باب ما جاء في صفة النبي، وقال حسن3)

(.748غريب، وضعفه األلباني في ضعيف الترمذي: )( باختصار. ط دار طيبة.79-3/74( مدارج السالكين: )4)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 83: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

� : العدل والتوازن في الكالم والبيان : أوال إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة ال يقدرها حق قدرها إال من

فقدها أو عاش بين الناس أبكم�ا.آن� خ�ل�ق� ق�ر م� ال ح م�ن� ع�ل � على عباده بنعمة البيان: )الر قال تعالى ممتنا

( )الرحمن: �ان� �ي ب م�ه� ال ان� ع�ل س� �ن (.4-1األوالقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على اإلنسان.

يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن نعمة البيان فيقول: »إننا نرى اإلنسان ينطق ويعبر ويبين، ويتفاهم، ويتجاوب مع اآلخرين فننسى بطول

األلفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا القرآن إليها،ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى.

�علم البيان؟ فما اإلنسان؟ ما أصله؟ كيف يبدأ؟ وكيف ي إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم؛ خلية ساذجة صغيرة،

�بين ولكن هذه الخلية ما ضئيلة، مهينة، ترى بالمجهر وال تكاد تبين، وهي ال ت�كوWن الجنين. الجنين المكون من ماليين الخاليا المنوعة: عظمية، تلبث أن ت

وغضروفية، وعضلية، وعصبية، وجلدية. ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة: السمع، البصر، الذوق، الشم، اللمس ثم .. ثم الخارقة الكبرى والسر األعظم: اإلدراك والبيان، والشعور واإللهام. كله

من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة، التي ال تكاد�بين! �بين، والتي ال ت ت

كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن، وبصنع الرحمن.�م�ون� �ع ل �م ال ت �ك مه�ات

� �ط�ون� أ �م م�ن ب ج�ك �خ ر� ه� أ فلننظر كيف يكون البيان؟. )و�الل�د�ة�( )النحل: من اآلية �ف ئ ص�ار� و�األ �ب م ع� و�األ �م� الس �ك � و�ج�ع�ل� ل ئا ي (.78ش�

إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة ال ينقضي منها العجب: اللسان، والشفتان، والفك، واألسنان، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والشعب،

والرئتان. إنها كلها تشترك في عملية التصويت اآللية، وهي حلقة في سلسة البيان. وهي على ضخامتها ال تمثل إال الجانب الميكانيكي اآللي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ واألعصاب. ثم بالعقل

�ا عن ماهيته وحقيقته. بل ال نكاد الذي ال نعرف عنه إال اسمه، وال ندري شيئ�ا عن عمله وطريقته! ندري شيئ

كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟ إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات واألجهزة، مجهولة في بعض

المراحل خافية حتى اآلن.ا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ ألداء غرض معين. هذا إنها تبدأ شعور�

الشعور ينتقل - ال ندري كيف - من اإلدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية .. المخ .. ويقال: إن المخ يصدر أمره عن طريق األعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب. واللفظ ذاته مما علمه الله لإلنسان وعرفه

ا من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى معناه. وهنا تطرد الرئة قدر� القصبة الهوائية، إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي ال تقاس إليها

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 84: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

أوتار أية آلة صوتية صنعها اإلنسان، وال جميع اآلالت الصوتية المختلفة�ا �ا تشكله حسبما يريد العقل. عالي األنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوت�ا أو ناعم�ا، ضخم�ا أو رفيع�ا، إلى آخر أشكال �ا، خشن �ا، سريع�ا أو بطيئ أو خافت الصوت وصفاته. ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك واألسنان؛ يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة. وفي

اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغطالمعين، ليصوت الحرف بجرس معين.

وذلك كله لفظ واحد. ووراءه العبارة، والموضوع، والفكرة، والمشاعر السابقة والالحقة. وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان

(.1العجيب الغريب، بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن«) وبعد هذا االستعراض البديع من سيد قطب - رحمه الله تعالى - لنعمة

النطق والبيان، وكيف يقوم اإلنسان بهما، يتعين علينا التعرف على تفاوتالناس في نعمة الكالم والبيان حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط.

الطرف األول: اإلفراط في الكالم والبيان: وصاحبه هو المهذار الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما ال فائدة فيه؛ وما ال يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرض

نفسه لكثير من آفات الكتابة، واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذبوقول الباطل والسب والشتم وغيرها من آفات اللسان والقلم.

الطرف الثاني: التفريط في الكالم والبيان النافع: وصاحب هذا الطرف هو الذي يغلب عليه الصمت، وقلة الكالم حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول الحق أو السكوت على باطل، أو ترك األمر بالمعروف والنهي عن

المنكر باللسان، وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكالم إلى أن يفوتا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن. على نفسه كثير� وعن هذين الطرفين يتحدث اإلمام ابن القيم وهو يصور وصية الشيطان

لذريته في القيام على ثغر اللسان فيقول: »قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر األعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكالم ما يضره وال ينفعه،

وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتالوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا

الثغر أمران عظيمان، ال تبالون بأيهما ظفرتم: أحدهما: التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر

جندكم وأعوانكم. والثاني: السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما

أن األول أخ ناطق، وربما كان األخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان

أخرس؟. فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا

له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 85: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

¨�هم منه على �ب �هل�ك� منه بني آدم، وأك �ي أن ثغر اللسان هو الذي أ �ن واعلموا يا بمناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر«)

2.) الموقف الوسط العدل: وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة

اللسان والبيان؛ فيتكلمون ويكتبون في األمر حين يكون طاعة لله عز وجل،�سخWرون هذه النعمة في اللهج بذكر �ا عن المنكر، وي ا بالمعروف، ونهي وأمر�

الله تعالى، وشكره وعبادته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. ويسكتون حين�ة لله عز �ا لله عز وجل؛ وذلك حينما يكون الكالم معصي يكون السكوت محبوب

وجل؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة، وقول الباطل وغير ذلك من آفاتاللسان..

ويصف اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه المواقف الثالثة فيقول: »وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من

األخرى: آفة الكالم، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثم�ا من األخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء

مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله. وأكثر الخلق منحرف في كالمه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين. وأهل

الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كف�وا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في اآلخرة؛ فال ترى أحدهم يتكلم بكلمة

� أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم تذهب عليه ضائعة بال منفعة، فضال القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي

بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل(.3به«)

وهكذا كان السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - في طريقتهم في الكالم أوالسكوت وسط�ا بين اإلفراط والتفريط.

فعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني. قال: ال . قال: ال يستطيع من عاش في الناس أن ال يتلكم. قال: فإن تكلمت م �كل ت. قال: زدني. قال: ال تغضب. قال: إنه ليغشاني ما ال فتكلم بحق أو اسكت

أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك عليك لسانك ويدك. قال زدني. قال: ال تالبس الناس. قال: ال يستطيع من عاش في الناس أن ال يالبسهم. قال:

(.4فإن البستهم فاصدق الحديث وأد األمانة) وعن يعلى بن عبيد قال: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: أحدثكم بحديث

لعله ينفعكم، فإنه قد نفعني. ثم قـال: قال لنا عطاء بن رباح: يا بني أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكالم، وكانوا يعدون فضوله ما عدا

كتاب الله عز وجل أن تقرأه، وتأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي ال بد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كرام�ا

كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد؛ ما يلفظ من قول إال لديه رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أمل صدر� نهاره،

(.5فإن أكثر ما فيها ليس من أمر دينه وال دنياه)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 86: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

: أرجو أن ألقى الله وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبدالله البخاري يقول�Wي اغتبت� أحد�. وال يحاسبني أن

قال الذهبي: ص�د�ق� رحمه الله، ومن نظر في كالمه في الجرح� والتعديل : �ض�عWف�ه؛ فإنه أكثر ما يقول� عه في الكالم في الناس، وإنصافه فيمن ي علم و�ر��وا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقل أن يقول: فالن� كذاب، منكر الحديث، سكت

هم أو كان يض�ع� الحديث. حتى إنه قال: إذا قلت� فالن في حديثه نظر، فهو مت بت أحد�ا. وهذا هو والله غاية �ني الله أني اغت واهY. وهذا معنى قوله: ال يحاسب

(.6الورع)

_____________(.3447، 6/3446( في ظالل القرآن: )1)( ت: حسين عبدالحميد.138، 137( الجواب الكافي: )ص 2)(، ت: حسين عبد الحميد.220( الجواب الكافي: )ص 3)(.1/549( صفة الصفوة: )4)(.2/213( صفة الصفوة: )5)(.12/439( سير أعالم النبالء: )6)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 87: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا : العدل والوسط في المزاح واالنبساط : ثانيوالناس في هذا الخلق طرفان ووسط:

الطرف األول: أهل اإلفراط في المزاح واالنبساط: وهم الذين يسترسلون في ذلك، ويكثرون منه، حتى يوقعهم في المحذور من المزاح واالنبساط؛

كالكذب، والسخرية، والفرح المذموم الذي قد يؤدي إلى البطر والغفلة عناآلخرة، كما يؤدي إلى قلة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس.

الطرف الثاني: أهل التفريط الذين ال يرون االنبساط مع الناس، وال المزاح المباح، وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن، واالنقباض عن الناس،

والعبوس في وجوههم. الموقف العدل الوسط: وهذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم

وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخلق، فلم يكونوا يفرطون في ضحكهم ومزاحهم، ولم يكونوا منقبضين عن الناس، عابسين

في وجوههم، مغلبين الحزن، والغم على حياتهم. ويحسن في هذا المقام إيراد بعض األدلة واألمثلة على حسن هذا الموقف

واعتداله: عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: )إني ال أقول إال

(.1حق�ا() وقال محمد بن النعمان بن عبدالسالم: لم أر أعبد من يحيى بن حماد،

م� وأظنه لم يضحك. قال الذهبي تعليق�ا على ذلك: »الضحك اليسير� والتبس�، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين: أفضل�

�ا على نفسه �ا وخوف�ا من الله، وح�زن �ه� أدب � لمن ترك أحدهما: يكون� فاضالالمسكينة.

�ع�ا، كما أن م�ن أكثر الضحك� ا وتصن ر� �ب والثاني: مذموم� لمن فعله حمق�ا وك�خ�ف� به، وال ريب أن الضحك في الشاب أخف� منه وأعذر� منه في است

الشيوخ. وأما التبس�م� وطالقة� الوجه فأرفع� من ذلك كله؛ قال النبي� صلى الله عليه

(، وقال جرير رضي الله عنه: ما2وسلم: )تبس�مك� في وجه أخيك ص�د�قة()(.3رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إال تبسم)

�سام�ا بالنهار. �اء� بالليل، ب فهذا هو خلق� اإلسالم، فأعلى المقامات من كان بك وقال عليه الصالة والسالم: )لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم

(.4بسط الوجه()�قصر من ذلك، ويلوم �ا بسام�ا أن ي بقي هنا شيء�: ينبغي لمن كان ضحوكا منقبض�ا أن يتبسم، نفسه حتى ال تمجه� األنفس، وينبغي لمن كان عبوس�

�قه، وكل� انحراف عن االعتدال ل �حسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خ� وي، وال بد للنفس من مجاهدة وتأديب«) (.5ف�م�ذموم�

ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطلقاح�ا. وحال الرجل في البسام البشوش. روي أن سفيان الثوري كان م�ز

التبسط بين خواص الجلساء غير حاله مع العامة، ولكل مقام مقال. فقد

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 88: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا في �ا، وكما قال الذهبي: كان رأس� روى آخر عن سفيان أنه ما لقيه إال باكي(.6الزهد والتأله والخوف. وهكذا يكون التوازن والقصد)

_______________( الترمذي، في البر والصلة، باب ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح.1)(.891( البخاري: )2)(.2475(، ومسلم: )3035( البخاري: )3) (، وصححه الحاكم1/124(، والحاكم في المستدرك: )1977( البزار: )4)

وتعقبه الذهبي بقوله عن عبدالله المقبري: واه.(.141، 01/140( سير أعالم النبالء: )5) (، لألستاذ محمود خازندار رحمه الله331( انظر )فقه االئتالف(: )ص 6)

تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 89: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا : العدل والتوازن في اإلنفاق: ثالث

�س ط� ب �ل ال س�ط ه�ا ك �ب �ق�ك� و�ال ت �ل�ى ع�ن �ة� إ �ول �د�ك� م�غ ل �ج ع�ل ي قال الله عز وجل: )و�ال ت�( )اإلسراء: ورا � م�ح س� �وما �ق ع�د� م�ل (.29ف�ت

�ك� ن� ذ�ل �ي �ان� ب وا و�ك �ر� �ق ت �م ي ر�ف�وا و�ل �س �م ي ف�ق�وا ل �ن �ذ�ا أ ذ�ين� إ وقال عز وجل: )و�ال�( )الفرقان: (.67ق�و�اما

يقول اإلمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه اآلية: »أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، وال بخالء على أهليهم

ا، وخير األمور أوسطها ال � خيار� فيقصرون في حقهم فال يكفونهم بل عدالهذا، وال هذا«.

ويقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل التوسط واالعتدال: »وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير

وا �ر� �ق ت �م ي ر�ف�وا و�ل �س �م ي ف�ق�وا ل �ن �ذ�ا أ ذ�ين� إ موضع من كتابه؛ فقال تعالى: )و�ال�( )الفرقان: �ك� ق�و�اما ن� ذ�ل �ي �ان� ب �ة�67و�ك �ول �د�ك� م�غ ل �ج ع�ل ي (، وقال تعالى: )و�ال ت

�( )اإلسراء: ورا � م�ح س� �وما �ق ع�د� م�ل �س ط� ف�ت ب �ل ال س�ط ه�ا ك �ب �ق�ك� و�ال ت �ل�ى ع�ن (،29إ)� ذ�يرا �ب �ذWر ت �ب �يل� و�ال ت ب ن� الس ك�ين� و�اب م�س �ى ح�قه� و�ال ب ق�ر وقال: )و�آت� ذ�ا ال

ع� ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في26)اإلسراء: (. ف�م�ن جانب اإلمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضاء الله فيما بينهما.

ولهذا كانت هذه األمة أوسط األمم، وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين(.1المنحرفتين. والوسط دائم�ا محمي األطرف«)

ويقول في موطن آخر: »وأما الفرق بين االقتصاد والشح: أن االقتصاد خ�ل�ق محمود يتولد من خلقين: عدل وحكمة؛ فبالعدل يعتدل في المنع والبذل،

وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما�د�ك� �ج ع�ل ي االقتصاد؛ وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: )و�ال ت�( )اإلسراء: ورا � م�ح س� �وما �ق ع�د� م�ل �س ط� ف�ت ب �ل ال س�ط ه�ا ك �ب �ق�ك� و�ال ت �ل�ى ع�ن �ة� إ �ول م�غ ل

ن� ذ�ل�ك�29 �ي �ان� ب وا و�ك �ر� �ق ت �م ي ر�ف�وا و�ل �س �م ي ف�ق�وا ل �ن �ذ�ا أ ذ�ين� إ (، وقال تعالى: )و�ال�( )الفرقان: ر�ف�وا( )األعراف:67ق�و�اما �س �وا و�ال ت ب ر� �وا و�اش �ل (، وقال تعالى: )و�ك

(.31من اآلية

وأما الشح فهو خ�ل�ق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلع�ا، والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به�ق� ل ان� خ� س� �ن �ن األ فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى: )إ

�( )المعارج: �وعا ر� م�ن ي خ� ه� ال �ذ�ا م�س � و�إ وعا ر� ج�ز� ه� الش �ذ�ا م�س � إ �وعا («)21-19ه�ل2.)

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند آية الفرقان: »وهذه هي سمة اإلسالم التي يحققها في حياة األفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية

والتشريع؛ يقيم بناءه كله على التوازن واالعتدال.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 90: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا في والمسلم - مع اعتراف اإلسالم بالملكية الفردية المقيدة - ليس حر� إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند

األمم التي ال يحكم التشريع اإللهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في األمرين اإلسراف والتقتير. فاإلسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة

من حوله؛ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. واإلسراف� في المحيط االجتماعي والمجال االقتصادي، وحبس والتقتير يحدثان اختالال األموال يحدث أزمات، ومثله إطالقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب

واألخالق.

واإلسالم وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل�( )الفرقان: �ك� ق�و�اما ن� ذ�ل �ي �ان� ب («)67االعتدال سمة من سمات اإليمان: )و�ك

3.)

من كل ما سبق نخلص إلى أن القرآن الكريم قد بين لنا المنهج العدلالوسط في إنفاق المال وأنه وسط بين طرفين:

طرف القابضين أيديهم، البخالء بأموالهم المقترين على أنفسهماألول:� عن من سواهم. وعلى أهليهم فضال

طرف المسرفين المترفين، المف ر�ط�ين في إنفاق المال الذينالثاني:بسطوا أيديهم كل البسط.

وبين هذين الطرفين تقف قلة من الناس سلكوا السبيل القويم والتزمواالعدل والتوازن؛ وهؤالء هم عباد الرحمن حق�ا.

_____________(.194، 193( الصالة، البن القيم: )ص 1)(.503( الروح: )ص 2)(.2579، 5/2578( في ظالل القرآن: )3)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 91: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

رابع�ا : العدل والوسطية والتوازن في حقوق الخلق: شرع الله عز وجل لعباده حقوق�ا بعضهم على بعض؛ فللوالدين حقوق

ولألوالد حقوق، ولألزواج حقوق، ولألقارب حقوق، وللجيران حقوق، وللضيف حقوق، ولليتامى والمساكين حقوق، ولألصحاب حقوق، وغير هؤالء

من الخلق. والعدل في ذلك والتوازن: أن ال يطغى حق على حق، وال تطغى حقوق

هؤالء على حق النفس، وال يطغى حق النفس وحقوق الخلق على حق اللهتعالى. والموفق من رزقه الله عز وجل الموازنة بين الحقوق كلها.

والناس في الموازنة بين هذه الحقوق وبين حق الله تعالى، أو حق النفسطرفان ووسط:

الطرف األول: طرف من أفرط في حقوق الخلق، وقام بها حتى شغله ذلك عن حق الله عز وجل، وطاعته والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أو شغله

ذلك عن نفسه، ومحاسبتها في تفريطها في جنب الله تعالى.ط في حقوق العباد، حتى قصر في ما يجب الطرف الثاني: طرف من ف�ر� عليه نحوهم من حقوق دينية؛ كدعوة أو تعليم أو حقوق صلة وبر، متعلال

بحق الله تعالى أو حق النفس. الوسط والعدل: وهو من لم يطغ عنده حق على حق، بل وازن بين الحقوق� في ذلك التوجيه النبوي الكريم والذي كلها وأعطى كل ذي حق حقه متمثال

يتمثل في الرواية التالية: عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين

سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء م�تبذWلة،�نك؟« قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فقال لها: »ما شأ فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعام�ا، فقال له: كل، فإني صائم. قال: ما أنا، فقال: نم، بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم�

� : ق�م ، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان� �م فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نبك عليك حق¨ا، وإن لنفسك عليك حق¨ا، Wلر إن : ا، فقال له سلمان� اآلن، فصلي

وألهلك عليك حق¨ا، فأعط كل ذي حق حقه�، فأتى النبي صلى الله عليه() (.1وسلم، فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: )صد�ق� سلمان�

وفي ذلك يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عن األدب وأنه التوسط في األمور: »ومثال ذلك - أي التوسط - في حقوق الخلق: أن ال يفرط في القيام بحقوقهم، وال يستغرق فيها، بحيث يشتغل بها عن حقوق

الله، أو عن تكميلها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن ال يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية؛ فإن الطرفين من العدوان الضار. وعلى هذا الحد، فحقيقة

(.2األدب: هي العدل. والله أعلم«)_____________

(.6139( رواه البخاري، في األدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف: )1)( ط. دار طيبة.3/213( مدارج السالكين: )2)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 92: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا : العدل والتوازن في التواضع : خامس�التواضع خلق رفيع يحبه الله عز وجل ويحب المتصفين به.

ون� �م ش� ذ�ين� ي ح م�ن� ال �اد� الر ب قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: )و�ع��( )الفرقان: �وا س�الما �ون� ق�ال اه�ل ج� �ه�م� ال �ذ�ا خ�اط�ب � و�إ ر ض� ه�و نا

� (.63ع�ل�ى األ ونهى سبحانه عن ضده، ومقت أهله - وهم أهل التكبر والمرح والبطر -

�م ش� ف�ي اس� و�ال ت �لن �ص�عWر خ�دك� ل قال سبحانه في وصية لقمان البنه: )و�ال ت�الY ف�خ�ورY( )لقمان: ت �ل م�خ �ح�ب� ك ه� ال ي �ن الل � إ حا ر ض� م�ر�

� (.18األوالتواضع المحمود كغيره من األخالق وسط بين طرفين مذمومين:

�ف رط في التواضع حتى يوقعه ذلك في المهانة طرف اإلفراط: وهو أن ي والخسة وابتذال النفس وإذاللها وهوانها. وأما وصف الله عز وجل عباد

ون هنا كما قال ابن القيم - ا؛ فالهـ� ـ� الرحمن أنهـم يمشـون على األرض هون رحمه الله تعالى -: »)واله�ون( بالفتح في اللغة: الرفق واللين، )واله�ون( بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل اإليمان، والمضموم: صفة أهل

(.1الكفران والنيران«) طرف التفريط: وهو التقصير في التحلي بهذا الخلق، والوقوع في ضده

وهو الكبر والتكبر إما على الخلق وإما على الحق بترك االنقياد له. الوسط والعدل: وهو التواضع الذي وصفه اإلمام ابن القيم - رحمه الله

تعالى- بقوله: »وهوالتواضع الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوته جالله وتعظيمه ومحبته وإجالله، ومن معرفة النفس

وتفاصيلها وعيوب عملها، وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خلق التواضع؛ وهو إنكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فال يرى له على�، وال يرى له عند أحد حق�ا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق أحد فضال(.2لهم قبله. وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه«)

ةY ع�ل�ى �ذ�ل ومما وصف به الله عز وجل أهل هذا الخلق العدل قوله تعالى: )أ( )المائدة: من اآلية �اف�ر�ين� ك ةY ع�ل�ى ال �ع�ز �ين� أ م�ؤ م�ن (.54ال

وما أحسن ما قاله اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن معنى »األذلة« في اآلية؛ قال رحمه الله تعالى: »لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف

�ا لمعاني هذه األفعال؛ فإنه لم يرد وشفقة وإخبات عداه بأداة »على« تضمين به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين واالنقياد الذي صاحبه

(.3ذلول«)

_____________( ط. دار طيبة.3/108( مدارج السالكين: )1)(.495( انظر الروح البن القيم: )ص 2)( ط. دار طيبة.3/108( مدارج السالكين: )3)

ا : التوسط والعدل والتوازن في التأني والتؤدة : سادس�

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 93: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

التؤدة واألناة خلقان محمودان محبوبان لله عز وجل كما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ألشج عبد قيس: )إن فيك خصلتان يحبهما الله

(، وقوله صلى الله عليه وسلم: )التؤدة في كل1ورسوله: الحلم واألناة() (. ولكن يكتنف هذين الخلقين المحمودين2شيء خير إال في عمل اآلخرة()

خلقان مذمومان: أحدهما ينزع إلى اإلفراط واآلخر إلى التفريط: فطرف اإلفراط: هو الذي يغلب على صاحبه الغلو في التأني حتى تضيع

عليه فرص من الخير ينالها، أو فرص من الشر يدفعها، ثم لم يبادر إلى ذلكإغراق�ا منه في التأني والتؤدة.

وطرف التفريط: هو الذي يفرWط في األخذ بالتؤدة والتأني ويقع بسبب ذلكفي العجلة والطيش وطلب الشيء قبل أوانه.

والوسط العدل : وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم بحيث ال يدفعه ذلك إلىط فيه فيقع Wالكسل، وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها، كما ال يفر

في العجلة والطيش. يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها وال يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو ال يطلب األمور في إدبارها وال قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب األسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت

كمال نضجها وإدراكها. والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من

يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها، فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما: التفريط واإلضاعة، والثاني: االستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت

العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع األشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه

أنواع�ا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقل من استعجل(.3إال ندم، كما أن الكسل قرين الفوت واإلضاعة«)

ويقول في موطن آخر: »فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة

وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة األول حمد أمره، ولكن لألول آفة متى¨ قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي: الفوت؛ فإنه ال يخاف من التثبيت إال

الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم تم أمره. ولهذا جاء في الدعاء الذي رواه اإلمام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: )اللهم إني

(، وهاتان الكلمتان هما4أسألك الثبات في األمر والعزيمة على الرشد()�تي العبد إال من تضييعهما أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد جماع الفالح، وما أ

إال من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون� � والعزيمة ثانيا والنمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات أوال

(.5أفلح كل الفالح، والله ولي التوفيق«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 94: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

_____________(.18( رواه مسلم في اإليمان: )1)(.1794(، وصححه األلباني في السلسلة: )4810( أبو داود: )2)(.547، 546( انظر كتاب الروح البن القيم: )3) (، وضعفه األلباني في1304(، ورواه النسائي: )4/125( رواه أحمد: )4)

(.70ضعيف النسائي: )(.1/146( مفتاح دار السعادة: )5)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 95: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

سابع�ا : الوسطية والعدل والتوازن في الشجاعة : الشجاعة خلق رفيع، وصاحبه محبوب إلى الله تعالى إذا كانت شجاعته لله تعالى وفي ما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حد االعتدال والتوسط فتكون

ا وجرأة، وقد تضعف وتقل في القلب فيتولد من ذلك الجبن والهلع. تهور�إذن فالشجاعة خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين:

الطرف األول: اإلفراط والغلو في الشجاعة واإلقدام، دون النظر في عاقبةا، حيث تقدم النفس في غير موضع اإلقدام معرضة ذلك، ويسمى هذا تهور�

عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور وغير مبالية بذلك. الطرف الثاني: التفريط وضعف القلب وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا

يتولد عنه الجبن والخوف. »والجبن عادة يتولد من سوء الظن وعدم الصبر؛ فال يظن الجبان بالظفر، وال يساعده الصبر، فإذا ساء الظن ووسوست

(.1النفس بالسوء ضعف القلب وضعف ثباته«) الموقف الوسط المتوازن: وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛ فصاحبه ثابت الجنان؛ »ألن الشجاعة من القلب، وهي تتولد من الصبر

وحسن الظن ... والشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته؛ فإذا رأته األعضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنوده، كما أنه إذا ولى ولت

(.2سائر جنوده«) ومع ثبات القلب وشجاعة صاحبه إال أنه ال يتهور وال يتجرأ على اإللقاء

بنفسه في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها، وال يقدم في غير موضعاإلقدام.

_____________(.502، 501( كتاب الروح البن القيم: )ص 1)(.502، 501( انظر كتاب الروح البن القيم: )ص 2)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 96: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا : التوازن والعدل والتوسط في الحذر وأخذ الحيطة : ثامن إن أخذ الحيطة والحذر من األعداء وممن يظن به الشر هو أمر مطلوب،

وهو من باب األخذ باألسباب والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله عز( )النساء: من اآلية �م ك �وا خ�ذ�وا ح�ذ ر� ذ�ين� آم�ن �ه�ا ال ي

� �ا أ (، ولكن هذا71وجل: )ي االحتراز قد يختل التوازن فيه، فيميل إما إلى اإلفراط ومجاوزة الحد وإما

إلى التفريط واإلضاعة. والناس فيه طرفان مذمومان ووسط عدل. الطرف األول: أهل الغلو واإلفراط وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط حتى

أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس والحذر المفرط الذي أدى بهم إلى الخوف الشديد، وترك بعض مجاالت الخير أو السكوت على بعض

المنكرات بحجة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة. الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وهم الذين لم يأخذوا بأسباب

الحيطة واالحتراز ممن يظن به الشر، وإنما غلب عليهم البله وقلة الوعي�توا من حيث لم يحتسبوا. حتى أحسنوا الظن بكل الناس وأ

الموقف العدل والمتوازن والمتوسط: وهو المتوسط بين الطرفين السابقين، الذي يرى األخذ بأسباب الوقاية والحذر ممن غلب على الظن

�ف ر�ط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء، شره وفساده، لكنه لم يبل الفرق عنده واضح بين االحتراز وسوء الظن الفاسد.

يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »والفرق بين االحتراز وسوءا فهو يحترز الظن: أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافر� بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع

التأهب واالستعداد وأخذ األسباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز�ه، فهم�ه في تهيئة كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعد له ع�دت

أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب. وأما سوء الظن فهو امتالء قلبه

بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أبد�ا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم

ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه؛ فاألول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم، األول داخل فيهم بالنصيحة واإلحسان مع االحتراز،

(.1والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض«) ومن اآليات التي يظهر فيها التوازن بين الحذر والطمأنينة: قوله تعالى في ه�م م�ع�ك� �ف�ة� م�ن �ق�م ط�ائ ت �ه�م� الصالة� ف�ل �ق�م ت� ل ت� ف�يه�م ف�أ �ن �ذ�ا ك صالة الخوف: )و�إ �م ى ل �خ ر� �ف�ة� أ ت� ط�ائ �أ ت �م و�ل �ك ائ �وا م�ن و�ر� �ون �ك ي ج�د�وا ف�ل �ذ�ا س� �ه�م ف�إ ت �ح� ل �س خ�ذ�وا أ �أ ي و�ل�ون� �غ ف�ل �و ت وا ل �ف�ر� ذ�ين� ك �ه�م و�د ال ت �ح� ل �س ه�م و�أ خ�ذ�وا ح�ذ ر� �أ ي �وا م�ع�ك� و�ل �ص�ل ي �وا ف�ل �ص�ل ي�ان� �ن ك �م إ ك �ي �اح� ع�ل ن �ة� و�اح�د�ة� و�ال ج� ل �م م�ي ك �ي �ون� ع�ل �م�يل �م ف�ي �ك �ع�ت م ت

� �م و�أ �ك ت �ح� ل �س ع�ن أ�ن �م إ ك �م و�خ�ذ�وا ح�ذ ر� �ك ت �ح� ل �س �ض�ع�وا أ �ن ت ض�ى أ �م م�ر ت �ن و ك

� �ذى� م�ن م�ط�رY أ �م أ �ك ب�( )النساء: � م�ه�ينا �اف�ر�ين� ع�ذ�ابا ك �ل �ع�د ل ه� أ (.102الل

ويجلي هذا التوازن في اآلية صاحب الظالل - رحمه الله تعالى - فيقول: »... الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 97: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

العدو، وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون�(.. وهذا � م�ه�ينا �اف�ر�ين� ع�ذ�ابا ك �ل �ع�د ل ه� أ �ن الل قوم�ا كتب الله عليهم الهوان: )إ

التقابل بين التحذير والتطمين، وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف

(.2المسلم في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!«)

_____________(.504( الروح: )ص 1)(.2/748( في ظالل القرآن: )2)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 98: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

تاسع�ا : التوازن والعدل والوسطية في العفو والصفح : العفو والصفح خلقان محمودان ورد الحث عليهما في الكتاب والسنة؛ قال

) �م�ين� �ح�ب� الظال ه� ال ي �ن ه� إ ه� ع�ل�ى الل ج ر�� �ح� ف�أ ص ل

� الله تعالى: )ف�م�ن ع�ف�ا و�أ ع�اف�ين� ع�ن�40)الشورى: من اآلية ظ� و�ال غ�ي �اظ�م�ين� ال ك (، وقال عز وجل: )و�ال

( )آل عمران: من اآلية �ين� ن م�ح س� �ح�ب� ال ه� ي اس� و�الل (، وقال الرسول134الن� بعفوY إال صلى الله عليه وسلم: )ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجال

ا، وما تواضع أحد لله إال رفعه الله() (.1عز�والناس في هذا الخلق الكريم طرفان ووسط:

الطرف األول: أهل اإلفراط فيه والغلو: وهم الذين يضعون العفو في غير موضعه؛ إما أن يعفوا عمن لم يستحق العفو؛ كالظالم والمستهتر المتكبر

ا؛ فمثل هذا ال يصلح المتغطرس الذي ال يزيده العفو إال ظلم�ا وتمرد�ا وغرور� في حقه العفو، وإما أن يكون العفو عن ذلة ومهانة وعدم قدرة على رد

االعتداء؛ فهذا عفوه ليس محمود�ا، وإنما هو عجز ومهانة، وتضييع للحقوق. الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وهم الذين فرطوا في هذا الخلق الرفيع وأصبح ليس لهم هم إال االنتقام من كل من أخطأ في حقهم، ولو

� غير مقصود؛ فال يدفنون لمسلم زلة كانت الهفوة منه زلة عابرة، أو خطأوال يصفحون عمن ارتكب في حقهم مزلة.

الوسط العدل المتوازن: وهم الذين وضعوا العفو في موضعه الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه؛ فلم يتجاوزوا فيه الحد فيعفوا عن من ال يصلح في

حقه العفو، ولم يكونوا ممن عفوهم ناشئ عن ذلة ومهانة وعجز ال عن حلمطوا في هذا الخلق حتى أضاعوه بسبب شهوة Wوعفو واقتدار، ولم يفر

االنتقام واالنتصار للنفس، بل هم على حظ كبير من هذا الخلق الذي يعفون به عن من ظلمهم أو أخطأ في حقهم ممن لم يكن الظلم مهنته وال التكبر

والغرور صفته، وإنما هو زلة عابرة أو خطأ غير مكرر أو مقصود. ويبين اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - الفرق بين العفو الناشئ عن

الجود والكرم مع قدرته على االنتقام، وبين العفو الناشئ عن الذل والعجز عن االنتقام فيقول: »والفرق بين العفو والذل: أن العفو إسقاط حقك جود�ا

�ا مع قدرتك على االنتقام؛ فتؤثر الترك رغبة في اإلحسان وكرم�ا وإحسانا وخوف�ا ومهانة ومكارم األخالق، بخالف الذل؛ فإن صاحبه يترك االنتقام عجز�

� منه؛ قال نفس؛ فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حاال( )الشورى: ون� �ص�ر� ت �ن �غ ي� ه�م ي ب �ه�م� ال ص�اب

� �ذ�ا أ ذ�ين� إ (.39تعالى: )و�ال فمدحهم بقوتهم على االنتصار لنفوسهم، وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا

على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق�ه�ا ف�م�ن ع�ف�ا ل �ة� م�ث Wئ ي �ةY س� Wئ ي اء� س� الشريف من العفو والصفح فقال: )و�ج�ز�

( )الشورى: �م�ين� �ح�ب� الظال ه� ال ي �ن ه� إ ه� ع�ل�ى الل ج ر�� �ح� ف�أ ص ل

� (. فذكر40و�أالمقامات الثالثة: العدل وأباحه، والفضل� وندب إليه، والظلم� وحرمه.... قال بعض السلف في هذه اآلية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا

عفوا، فمدحهم على عفو بعد قدرة، ال على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 99: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

)� � ق�د�يرا �ان� ع�ف�وا ه� ك �ن الل الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: )ف�إ(.2(«)149)النساء: من اآلية

_____________ ( الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في التواضع، وصححه األلباني1)

(.1652في صحيح الترمذي: )( باختصار.514، 513( الروح: )ص 2)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 100: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا : العدل والتوسط والتوازن في المنافسة والغبطة : عاشر�

الغبطة والتنافس في الخير خلقان كريمان أمر بهما الشارع الحكيم، وعمل بهما سلفنا الصالح؛ حيث تنافسوا في مرضاة الله وجنته وتسابقوا إليها؛

( )المطففين: من اآلية �اف�س�ون� �ن م�ت �اف�س� ال �ن �ت ي �ك� ف�ل قال الله عز وجل: )و�ف�ي ذ�ل�ع�ر ض�26 ض�ه�ا ك ةY ع�ر ن �م و�ج� Wك ب ةY م�ن ر� �ل�ى م�غ ف�ر� �ق�وا إ اب (، وقال تعالى: )س�

ر ض�( )الحديد: من اآلية� م�اء� و�األ (، وقال الرسول صلى الله عليه21الس

وسلم: )ال حسد إال في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء� فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار() (.1النهار، ورجل أعطاه الله ماال

ومع جاللة هذا الخلق، فإنه كغيره من األعمال واألخالق مكتنف بخلقينمذمومين والناس فيه طرفان ووسط:

الطرف األول: أهل الغلو واإلفراط: وهم الذين تجاوزوا الحد في التنافس، فمالوا من العدل الممدوح إلى الغلو واإلفراط فيه حتى أوقعهم ذلك في الحسد والحقد للجهة المنافسة، أو السابقة. والحسد خلة ذميمة ساقطة

ممقوت صاحبها عند الله عز وجل وعند عباده. الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وهم الذين ضعفت هممهم عن التنافس في الخير ورضوا بالدون، ولم يثر عزائمهم تشمير الصالحين

وتسابقهم إلى الخيرات وإلى دار المتقين، فلم ينافسوهم ولم يحرك ذلك�ا. في نفوسهم شيئ

الموقف الوسط والعدل المتوازن: وهو الذي كان عليه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - من الهمة العالية، حيث تنافسوا في الصالحات وسارعوا في الخيرات، وتسابقوا إلى الجنات، وتمنى أحدهم أن يكون على مستوى

ما عليه أخوه أو يزيد عليه دون حسد وال حقد، وال تمنY من أحدهم زوالنعمة الله عز وجل الدينية أو الدنيونة عن أخيه المنافس.

»كما كان ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منافسته ألبي بكر الصديق رضي الله عنه ومحاولة اللحوق به أو سبقه، فلما علم أن أبا بكر رضي الله عنه قد استولى على اإلمامة قال: والله ال أسابقك إلى شيء

أبد�ا. وقال: والله ما سبقته إلى خير إال وجدته قد سبقني إليه. والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في مرضاته

ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما ويحثهما عليه، وكل منهما(.2يحب اآلخر ويحرضه على مرضاة سيده«)

ويفرق اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين الحسد والمنافسة فيقول: »والفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه؛ فهي من شرف

�اف�س� �ن �ت ي �ك� ف�ل النفس وعلو الهمة وكبر القدر؛ قال تعالى: )و�ف�ي ذ�ل( )المطففين: من اآلية �اف�س�ون� �ن م�ت (.26ال

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 101: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا ورغبة، فينافس وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلب فيه كل من النفسين األخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعض�ا عليه مع تنافسهم فيه؛

( )البقرة: من ات� ر� ي خ� �ق�وا ال �ب ت وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى: )ف�اس�ع�ر ض�148اآلية ض�ه�ا ك ةY ع�ر ن �م و�ج� Wك ب ةY م�ن ر� �ل�ى م�غ ف�ر� �ق�وا إ اب (، وقال تعالى: )س�

ر ض�( )الحديد: من اآلية� م�اء� و�األ (.21الس

والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير؛ فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها،

�ير� �ث �ها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى: )و�د ك �ه� كسب �و ف�ات وتتمنى أن ل ه�م ف�س� �ن د� أ ن � م�ن ع� دا � ح�س� �فارا �م ك �ك �يم�ان �ع د� إ �م م�ن ب �ك د�ون �ر� �و ي �اب� ل �ت ك �ه ل� ال م�ن أ

ح�ق�( )البقرة: من اآلية �ه�م� ال ن� ل �ي �ب �ع د� م�ا ت (.109م�ن ب

فالحسود عدو النعمة متمنY زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة متمنY تمامها عليه وعلى من ينافسه؛ فهو ينافس

غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة

الخيرة تنتفع بالمنافسة؛ فمن جعل نصب عينيه شخص�ا من أهل الفضلا؛ فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم والسبق فنافسه انتفع به كثير�

(.3عليه وهذا ال نذمه«)______________

(.815(، ومسلم: )5025( البخاري: )1)( بتصرف يسير.533( كتاب الروح: )ص 2)(.534، 533( كتاب الروح: )ص 3)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 102: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

حادي عشر : العدل والوسطية والتوازن في العزلة : جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي

فعل السلف الصالح ما يدل تارة على فضل العزلة وعدم الخلطة بالناس أو تقليلها، وورد تارة أخرى ما يدل على النهي عنها، والحث على الجماعة

واالختالط بالناس. ويحسب الناظر في هذه األدلة والمواقف أنها متعارضة؛ وحاشا أن يوجد في هذا الدين ما ينقض بعضه بعض�ا ألنه من عند الله العليم

الحكيم، المبرأ من الجهل والنقص والهوى. ولكن بالجمع بين هذه األدلة والمواقف يظهر لنا وسطية هذا الدين وعدله وتوازنه في مسألة العزلة؛

حيث لم يأمر بها بإطالق، ولم ينه عنها بإطالق؛ وإنما فصل في ذلك بحيث يكون الموقف العدل فيها كغيرها من المواقف والسلوكيات: وسط بين

طرفين مذمومين.� الطرف األول: أهل الغلو واإلفراط: وهم الذين رأوا اعتزال الناس اعتزاال

�ا، واعتزال ما هم عليه من المنكرات والفساد، والبعد عن مناسباتهم كلي وعن االختالط بهم حرص�ا منهم على صيانة دينهم وأخالقهم، وتحقيق�ا للبراءة� للنصوص الواردة في فضل العزلة؛ ومنها ما أثنى من المنكر وأهله، وامتثاال�د�ون� �ع ب �م�وه�م و�م�ا ي ت ل �ز� �ذ� اع ت به الله عز وجل على أهل الكهف بقوله تعالى: )و�إ �م م ر�ك

� �م م�ن أ �ك Wئ ل �ه�ي �ه� و�ي ح م�ت �م م�ن ر� �ك ب �م ر� �ك ر ل ش� �ن �ه ف� ي ك �ل�ى ال و�وا إ ه� ف�أ �ال الل إ

�( )الكهف: ف�قا (. ولكن هذا أدى بهم إلى ترك الجمع والجماعات وقطع16م�ر األرحام، وترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح المجال للمبطلين

والمفسدين يجولون ويصولون ويفسدون على الناس دينهم وأخالقهم وأعراضهم بال مجاهدة وال مواجهة. وقد قال صلى الله عليه وسلم:

)المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي ال يخالط(.1الناس وال يصبر على أذاهم()

الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وهم الذين فرطوا في العزلة وأفرطوا في الخلطة، سواء كانت في الخير أو الشر، ولم يكن لهم خلوات

بربهم وبأنفسهم؛ وهؤالء في العادة يتأثرون بمن حولهم، ويضعف دينهم ويداهنون الناس فيما هم عليه من منكرات ومخالفات. وعن مثل هؤالء وصنيعهم جاء النهي والتنفير، وجاء الحث على العزلة والتحذير من هذه األحوال من الخلطة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: »العزلة

(، وكما قال الفضيل بن عياض - رحمه الله2راحة من أخالط السوء«) تعالى -: »من خالط الناس لم يسلم ولم ينج من احدى اثنتين: إما أن�را أو يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، وإما أن يسكت إذا رأى منك

(.3سمعه من جلسائه، فال يغير فيأثم ويشركهم فيه«) الوسط العدل المتوازن: وهو الذي لم يجنح إلى اإلفراط في العزلة وال

التفريط، وإنما نظر إلى هذه المسألة نظرة متوازنة يلتمس فيها مرضاةالله عز وجل وما هو المحبوب منها لله تعالى.

وأكتفي بما ذكره شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في وصفه لهذا المنهج المتوازن؛ حيث يقول رحمه الله تعالى: »فهذه المسألة وإن

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 103: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا - فحقيقة األمر: أن �ا، وإما حالي كان الناس يتنازعون فيها - إما نزاع�ا كليا »الخلطة« تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمور�

بالمخالطة تارة، وباالنفراد تارة. وجماع ذلك: أن »المخالطة« إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي

مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على اإلثم والعدوان فهي منهي عنها، فاالختالط بالمسلمين في جنس العبادات؛ كالصلوات الخمس، والجمعة،

والعيدين، وصالة الكسوف، واالستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله بهورسوله.

وكذلك االختالط بهم في الحج، وفي غزو الكفار والخوارج المارقين، وإنا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك االجتماع كان أئمة ذلك فجار�

�ا؛ إما النتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك. الذي يزداد العبد به إيمان وال بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصالته وتفكره،

ومحاسبة نفسه وإصالح قلبه، وما يختص به من األمور التي ال يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته؛ كما قال طاووس:

نعم صومعة الرجل بيته؛ يكف فيها بصره ولسانه. وإما في غير بيته. فاختيار المخالطة مطلق�ا خطأ، واختيار االنفراد مطلق�ا خطأ، وأما مقدار ما

يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو األصلح له في كل حال؛ فهذا( ا.هـ.4يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم«)

وبنحو ذلك قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: »فإذا عرفت فوائد العزلة�ا خطأ، بل ينبغي �ا وإثبات � بالتفضيل نفي وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقا

أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت

(.5بالحاصل. فعند ذلك يتبين الحق ويتضح األفضل«) ولذلك رأينا اإلمام الخطابي - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق جملة من�ا النقوالت التي تمدح العزلة وتحسنها استدرك وأفرد في كتابه العزلة باب

سماه: »باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة« قال فيه: »قد انتهى منا الكالم في أمر العزلة إلى حيث شرطنا أن نبلغه، وأوردنا فيها مننا معه الجفاء من حيث أردنا االحتراز منه، األخبار ما خفنا أن نكون قد حس

وليس إلى هذا أجرينا، وال إياه أردنا؛ فإن اإلغراق في كل شيء مذموم، وخير األمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين. وقد عاب رسول الله صلى

الله عليه وسلم اإلغراق في عبادة الخالق - عز وعال - والحمل على النفس (.6منها ما يؤودها ويكلها؛ فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف؟«)

ا.هـ.

تنبيه:

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 104: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

إن القول بأن العزلة التامة للناس فيها مجانبة للوسطية والعدل ال يعني أنها�مدح في بعض األحوال أو األمكنة أو األزمنة، بل قد تكون في بعض ال ت

األحوال هي الموقف الحق الوسط العدل.Wل لذلك باألحوال التالية: م�ث

� وأا واسع�ا يتعذر علي الحالة األولى: عند فشو المعاصي وانتشارها انتشار�

بعض الناس حينها القدرة على اإلنكار وال يوجد المعاون، وال يوجد المكان الصالح الذي يهاجر إليه، فإنه يشرع والحالة هذه لبعض األفراد دون بعض

العزلة؛ وذلك حين ال يستطيع الفرد الصبر على رؤيتها، فيتعجل بإنكارها بصورة شديدة غير منضبطة، أو أن المنكرات تعكر صفو حياته، ويعيش

برؤيتها في هم وحزن، أو أنه يخاف على نفسه من الوقوع في المعاصي�ا. وهذه عزلة مقيدة بأحوال األفراد وليست ا قوي والفواحش خوف�ا ظاهر�

عزلة مطلقة لكل إنسان.الحالة الثانية: أيام الفتن واختالف المسلمين وتفرق كلمتهم واقتتالهم:

وفي هذه األحوال يشرع اعتزال الناس حتى تنجلي الفتنة. ومن أراد لنفسه السالمة في الدنيا واآلخرة فليعتزل الناس أيام الفتن بقلبه ولسانه ويده وال

�لوWث نفسه بشيء من كدرها وغبارها؛ وهذا ما وجه الرسول صلى الله يعليه وسلم أمته إليه عند هيجان الفتن.

قال عثمان الشحام: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه، فقلت: هل سمعت أباك يحدWث في الفتن

�ا؟ فقال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله حديث عليه وسلم: )إنها ستكون فتن، أال ثم تكون فتنة: القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، أال فإذا نزلت، أو

وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه(، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن لم يكن له إبل وال غنم وال أرض؟ قال: )يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم

(.7هل بلغت؟...()وهذا ما كان عليه سلف األمة أيام الفتن:

فعن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أال تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا األمر من غيرك، قال: »ال

أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من(.8الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد«)

وعن يزيد بن أبي عبيد - رضي الله عنه - قال: »لما قتل عثمان خرج سلمة بن األكوع إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أوالد�ا، فلم يزل

بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة، فمات بها« أخرجه البخاري، وأخرج هو ومسلم »أن سلمة دخل على الحجاج، فقال: يا ابن األكوع،

بت؟ قال: ال، ولكن رسول الله صلى الله عليه أرتددت على عاقبيك؟ تعر(.9وسلم أذن لي في البدو«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 105: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الحالة الثالثة: عند فساد الزمان وفساد الناس ومروج عهودهم وأماناتهم؛ وذلك حين يتعذر اإلصالح في الناس الختالفهم وتناحرهم ورقة أديانهم؛ أي

حين يطبق االنحراف التام العام والغربة الشاملة؛ فحينئذ يشرع للمسلم أن يعتزل الناس ويعتني بنفسه، كما يعتني بأمر الخاصة من أصحابه وخلصائه،

ويهتم بصالح شؤونهم، ويذر أمر العامة. وهذه الحالة إما أن تكون في مكان دون مكان؛ كما هو الحال في بعض األماكن اليوم، وإما أن يشمل االنحراف

العام كل األرض وتستحكم الغربة والجاهلية فيها كلها؛ وهذا ال يكون إالقرب قيام الساعة، والله تعالى أعلم.

وهذا المعنى هو الذي جاء في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )كيف بكم وبزمان - أو يوشك أن يأتي زمان - يغربل الناس فيه غربلة؛ تبقى حثالة من الناس قد

مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه. فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما

(.10تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم() ويعلق صاحب كتاب: )العزلة والخلطة( - حفظه الله تعالى - على هذا

الحديث فيقول: »ومحصل هذه الصفات كلها: أن ال فائدة من األمر والنهيسوا وسادوا، بل واإلصالح في مجال العامة وهم الدهماء والجمهور، وإن ترأ

�ؤذ�ى ربما ترتب على األمر والنهي ضرر بأن يتضاعف المنكر ويزداد، أو ياآلمر في نفسه، أو أهله، أو ماله.

�م فائدة ترجى من ولعل هذا هو الضابط العام لتلك الحال: أال يكون ث الدعوة واألمر والنهي بين هؤالء المسمين بـ »العامة«، وفي مقابل التحقق

من عدم النفع، هناك توقع لحصول الضرر الديني والدنيوي لآلمر ولغيره. وال شك أن األصول العامة تقتضي ترك األمر والنهي - حينئذ - دفع�ا للمفسدة

المتوقعة التي ال توجد مصلحة تكافئها في فضل األمر والنهي؛ فيكون(.11الحديث مطرد�ا مع القاعدة العامة في المصلحة والمفسدة«)

______________ (، وصححه األلباني في صحيح388( رواه البخاري في األدب المفرد: )1)

(.300األدب المفرد: )(.60( العزلة واالنفراد البن أبي الدنيا: )ص 2)(.67( المصدر السابق نفسه: )ص 3)(.01/425( مجموع الفتاوى: )4)(.117( مختصر منهاج القاصدين: )ص 5)(.97( العزلة للخطابي: )ص 6)(.2887( مسلم في الفتن، باب نزول الفتن: )7)(.7/584( مجمع الزوائد: )8)(.1862( البخاري في الفتن، باب التعرب في الفتنة، ومسلم: )9) (،3957(، وابن ماجة في الفتن: )4342( أبو داود في المالحم: )10)

(.3648وصححه األلباني في صحيح أبي داود: )

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 106: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

( العزلة والخلطة للشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى -: )ص11)70.)

ثاني عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الغيرة : الغيرة بمعناها العام هي الغيرة على دين الله عز وجل ومحارم الله أن

تنتهك. ولكننا هنا نريد الغيرة بمفهومها الخاص؛ أال وهي الغيرة علىالمحارم واألعراض.

فهي خصلة كريمة من خصال المؤمنين، ومن سمات الرجولة والقوامة، والعزة واألصالة. وال تفقد إال عند أهل الخسة واللؤم والذلة والمهانة

والدياثة. ولما تعجب الصحابة من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: )أتعجبون من غيرة سعد؟ ألنا أغير منه،

(.1والله أغير مني«)والغيرة المحمودة كغيرها من األخالق وسط بين طرفين مذمومين:

الطرف األول: أهل اإلفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في غيرتهم على محارمهم وأعراضهم حتى أوقعهم ذلك في الوساوس والشكوك والخواطر

الرديئة فأتعبوا أنفسهم، وأتعبوا محارمهم. ومنشأ هذا الغلو: اإلفراط في�وا ذ�ين� آم�ن �ه�ا ال ي

� �ا أ الظن السيء، والتجسس والتحسس؛ قال الله تعالى: )يوا...( )الحجرات: من �ج�سس� م� و�ال ت �ث �ع ض� الظنW إ �ن ب � م�ن� الظنW إ �يرا �ث �وا ك �ب �ن ت اج

(.12اآلية الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وهم الذين فرطوا في أمانتهم

وقوامتهم وغيرتهم وحميتهم على أعراضهم ومحارمهم، وضيعوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها، ولم يبالوا بما يفعله نساؤهم وموالياتهم

مما يخدش الحياء، ويعرضهن لسهام المفسدين، ويجرأ أهل الشهوات والقلوب المريضة عليهن. وقد ظهرت في زماننا اليوم صور من ضعف

الغيرة على النساء، وتسلط النساء وغلبتهن على أوليائهن، حتى أصبحت المرأة في بعض البيوت لها القوامة على البيت بما فيه من رجال ونساء،

وصارت المرأة من زوجة أو بنت أو أخت تذهب إلى السوق وحدها، وتخلو بأصحاب المحالت، وتركب مع السائق وحدها، وتجلس مع الرجال األجانب

من أقاربها أو أقارب الزوج دون حشمة تذكر. كل ذلك يتم أمام ناظري�ا، أو أن تتحرك الغيرة الزوج أو األب أو األخ دون أن يحرك ذلك عندهم ساكن

في قلوبهم. نسأل الله عز وجل العافية في الدنيا واآلخرة. الوسط العدل: وهم الذين حفظوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله

إياها من أزواج وأخوات وبنات وموليات، فغاروا عليهن وصانوهن من كل ما يخدش أعراضهن وحياءهن، وبذلوا ما في وسعهم من التربية الصالحة لهن،

وأبعدوا عنهن كل ما يفسد عليهن دينهن وأخالقهن. مع إشعارهن بالثقة وإحسان الظن بهن، وقطع الطريق على الشيطان وكيده ووسوسته التي

توقع من استرسل معها في الشك والوساوس الرديئة. فهذا دأب الشيطان

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 107: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

مع اإلنسان؛ إن لم يفلح معه في التفريط وقلة الغيرة أتاه من الغلوواإلفراط في الغيرة والشك والوساوس الرديئة.

___________(.1499(، ومسلم في اللعان: )6846( البخاري في الحدود: )1)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 108: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ثالث عشر : التوازن والعدل والوسطية في سالمة القلب : �ذ لقد مدح الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصالة والسالم بقوله: )إ

Y( )الصافات: �يم ل �ق�ل بY س� ه� ب ب (، وبين أنه لن ينجو من عذاب الله84ج�اء� ر��ال �ون� إ �ن ف�ع� م�ال� و�ال ب �ن �و م� ال ي تعالى يوم القيامة إال من أتى الله بقلب سليم )ي

Y( )الشعراء: �يم ل �ق�ل بY س� ه� ب �ى الل �ت (.89، 88م�ن أمه الله تعالى، من كل شبهة تعارض خبر الله والقلب السليم هو الذي سل

تعالى ومن كل شهوة تعارض أمره سبحانه. ومن ذلك ما اشتهر عند الناس أن صاحب القلب السليم هو الذي علم الشر واجتنبه وسلم الناس من

شره، ولكن هذا العمل القلبي النظيف يكتنفه طرفان مذمومان: الطرف األول : اإلفراط أو الغلو في سالمة القلب حتى ينقلب إلى بله

وغفلة وانخداع ألهل الخداع، وقلة معرفة بالشر وأهله. الطرف الثاني: التفريط والجفاء في التحلي بهذا الخلق الرفيع حتى يصبح القلب مأوى� للشبهات والشهوات والخداع واألحقاد وإرادة الشر والمكروه

بالغير. الوسط والعدل: وهو الذي من الله عليه بقلب سليم مطمئن يحرق ما يرد

ا وال خيانة عليه من الشبهات والشهوات، وال يحمل حقد�ا وال مكروه�ا وال غدر� لمسلم. في الوقت الذي هو فيه يقظ لخداع الخادعين، عارف بالشر وأهله،

حذر منهم ومن كيدهم. ويفرق اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين سالمة القلب والبله

�ه والتغفل: أن سالمة �ل والتغفل فيقول: »والفرق بين سالمة القلب والب القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته

وقصده ال من معرفته والعلم به. وهذا بخالف البله والغفلة؛ فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا ال يحمد إذ هو

نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسالمتهم منه. والكمال أن يكونالقلب عارف�ا بتفاصيل الشر سليم�ا من إرادته.

قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: )لست بخب وال يخدعني الخب(،�و م� ال �خدع وأورع من أن يخدع، وقال تعالى: )ي وكان عمر أعقل من أن ي

Y(؛ فهذا هو السليم من اآلفات �يم ل �ق�ل بY س� ه� ب �ى الل �ت �ال م�ن أ �ون� إ �ن ف�ع� م�ال� و�ال ب �ن ي التي تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى األنفس، فالقلب السليم الذي

(.1سلم من هذا وهذا«)

_____________(.517( كتاب الروح: )ص 1)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 109: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

رابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في الحياء :�ق� يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط ل الحياء خير كله، وحقيقته: خ�

(. ولما مر الرسول صلى الله عليه وسلم برجل1في حق صاحب الحق) (، وقال:2وهو يعظ أخاه في الحياء قال: )دعه؛ فإن الحياء من اإليمان()

(، )وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء� من3)الحياء ال يأتي إال بخير()�ا يكرهه عرفناه في وجهه() (. ومع حسن4العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئ

هذا الخلق، إال أنه كغيره من األخالق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان وهووسط بينهما.

الطرف األول: أهل اإلفراط والغلو الذين وصل بهم اإلغراق في الحياء إلى العجز والمهانة والجهل، والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية واألخروية،

ومن آثار ذلك الرضى بالدون والبقاء في مؤخرة الركب، والتبعية للغير،وتضييع الحقوق.

الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وهم الذين قل حياؤهم وتجرأوا على فعل ما يعاب وفعل ما يقبح؛ دون حياء من الله عز وجل، وال من

ا وال �ا، وال صغير� الناس، ولم يبالوا فيما يقولونه أو يفعلونه مروءة وال آدابا. كبير�

الوسط العدل: وهم الذين قاموا بهذا الخلق الرفيع كما جاء عن النبي صلى�، فاستحيوا من الله تعالى بحفظ حقوقه وحدوده، � وفعال الله عليه وسلم قوال

واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قول أو عمل يخل باآلداب أو المروءات. كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي

في مصالحهم الدينية والدنيوية والصدع بالحق، والسؤال عما أشكل عليهمفي دينهم ودنياهم.

يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين وال بد ... وإذا انحرفت عن

خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على

(.5ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس«)

____________( ط. دار طيبة.2/601( انظر مدارج السالكين: )1)(.36(، ومسلم: )24( البخاري: )2)(.37(، ومسلم: )6117( البخاري: )3)(.2320(، ومسلم: )6119( البخاري: )4)( ط. دار طيبة.77، 3/76( مدارج السالكين: )5)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 110: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

خامس عشر : الوسطية والعدل والتوازن في األخذ بالقواعد الشرعية: استنبط الفقهاء من الكتاب والسنة قواعد شرعية يحاكمون إليها ما يجد في

حياة الناس من أقضية وأحداث ونوازل، ليصلوا بذلك إلى الحكم الشرعي المنطلق من هذه القواعد ومقاصد الشريعة. ومع ذلك فقد تجرأ على هذه

القواعد وخاض فيها من ليس من أهل العلم واالجتهاد المؤهلين للفتيا وبيانطوا، طوا، في تطبيقاتها وفر األحكام الشرعية؛ فزادوا فيها ونقصوا، وأفر

لوا، وحصل من جراء ذلك غلو وتضييق على الناس، أو تفريط موا وحل وحر وإضاعة ونشر للشر والفساد. ووفق الله عز وجل الربانيين من أهل العلم

إلى التوسط في تناول هذه القواعد فطبقوها بعدل وتوازن وضبطوها ( تحميهم من التطرف نحو الغلو واإلفراط أو التطرف1بضوابط شرعية)

نحو التفريط واإلضاعة. يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »االنحراف عن الوسط

كثير في أكثر األمور في أغلب الناس؛ مثل تقابلهم في بعض األفعال يتخذهاا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها �ا أو مأمور� �ا أو مستحب �ا واجب بعضهم دين

�ا عنه في الجملة«) (.2حرام�ا مكروه�ا أو محرم�ا أو منهي وأذكر على سبيل المثال قاعدة شرعية عظيمة قام عليها ربع األحكام في

هذا الدين؛ أال وهي: )قاعدة سد الذائع(؛ يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذه القاعدة: »وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر

ونهي، واألمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه.

والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى(. 3الحرام أحد أرباع الدين«)

وقد ذكر - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين وجه�ا للداللة على القاعدة؛ وهذه الوجوه هي في حقيقتها أحكام شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، ويظهر

(.4فيها أن السبب في تشريعها هو سد الذرائع، فليرجع إليها)وقد انقسم المتناولون لهذه القاعدة الشرعية إلى طرفين ووسط:

الطرف األول: أهل اإلفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في تطبيقات هـذه القاعـدة، وتوسعوا فيـها، حتى ضيقوا علـى النــاس بتحريـم بعض المباحات

� إلى أنها قد تؤدي إلى محرم، ولو على وجه الندرة والظن الضعيف؛ نظراا أو كمن يحرم بيع العنب على الناس ألن من بينهم من قد يصنع منه خمر�

يحرم بيع السالح على الناس في غير أيام الفتن خشية أن يستخدم فيالعدوان على الناس.

طوا في اعتبار الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وهم الذين فر المآالت، وأهملوا استخدام هذه القاعدة الشرعية ولم ينظروا إلى ما يؤول إليه المباح وقصروا النظر على الفعل نفسه؛ فإن كان مباح�ا فهو مباح وإن غلب على الظن أنه يقود إلى محرم. فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة،

وع�طلت هذه القاعدة الشرعية القائمة على أن ما أدى إلى الحرام فهو� ال يمانعون أن يباع حرام وأن الوسائل لها حكم المقاصد؛ فنجد هؤالء مثال

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 111: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا، وال العنب على رجل يغلب على الظن من حاله وسيرته أنه يصنعه خمر� يمانعون من بيع السالح أيام الفتن، ولو غلب على الظن أن يستخدم في قتال المسلمين؛ ألنهم إنما نظروا إلى أصل عقد بيع العنب والسالح وهو

اإلباحة، ولم ينظروا إلى مآالت الفعل ومقاصد الفاعلين.�: إن ومن األمثلة المعاصرة: تجويز من جوز قيادة المرأة للسيارة قائال

األصل مباح؛ مثلها مثل قيادتها للبعير والحمار، وغض الطرف بقصد أو غير قصد عما يترتب على قيادتها للسيارة من أمور عظيمة ال يتسع المقام إلى

ذكرها. وأحيل القارئ الكريم إلى ما أفتى به اإلمامان الراحالن الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين - رحمهما الله تعالى - عندما

ئال عن قيادة المرأة للسيارة فأفتيا بالتحريم وبنيا فتواهما على هذه س� القاعدة الشرعية التي نحن بصددها وذكرا المفاسد الكثيرة التي يؤول إليها

هذا األمر. وبناء� على مبدأ سد الذريعة حرما قيادة المرأة للسيارة. أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم الذين تناولوا هذه القاعدة

بتوازن ووسطية؛ فلم يلغوها من االعتبار كما فعل المفرWطون، ولم يغلوا فيها حتى ضيقوا من الدين ما هو موسع�ا كما فعل المف ر�طون. بل أوقعوها في مكانها الالئق بها. فمتى ما غلب على الظن أن الفعل المباح يؤول إلى

مفاسد محرمة حرموه بناء على هذه القاعدة والتي ذكر لها اإلمام ابن� من الكتاب والسنة. ومتى ما القيم - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين مثاال

غلب على الظن أن فعل ذلك ال يؤول إلى أمور محرمة لم يحرموه بناء على أن شروط تطبيق هذه القاعدة لم تتوفر. وأسوق فيما يلي فتوى

للصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما حبر األمة وترجمان القرآنتدل على العناية بهذه القاعدة والفقه العظيم في تطبيقها.

نقل القرطبي - رحمه الله - في تفسيره قال: »روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك األشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس

�ا متعمد�ا توبة؟ قال: ال، إال النار، رضي الله عنهما فقال: ألمن قتل مؤمن قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن

�ا. قال: �ا يريد أن يقتل مؤمن � مغضب قتل توبة مقبولة، قال: إني ألحسبه رجال(.5فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك)

______________ ( انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب )فاستقم كما1)

(.292-252أمرت( للمؤلف: )ص (.3/359( مجموع الفتاوى: )2)(.3/159( اعالم الموقعين: )3)(.159-3/137( انظر هذه الوجوه في إعالم الموقعين: )4)(.5/333( تفسير القرطبي: )5)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 112: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

سادس عشر: التوازن والعدل والتوسط في عداء الكفار والتعامل معهم: �م �م ف�ي الدWين� و�ل �وك �ل �ق�ات �م ي ذ�ين� ل ه� ع�ن� ال �م� الل ه�اك �ن قال الله تعالى: )ال ي

م�ق س�ط�ين� �ح�ب� ال ه� ي �ن الل ه�م إ �ي �ل �ق س�ط�وا إ وه�م و�ت �ر� �ب ن ت� �م أ �ار�ك �م م�ن د�ي �خ ر�ج�وك ي

�م �ار�ك �م م�ن د�ي ج�وك �خ ر� �م ف�ي الدWين� و�أ �وك �ل ذ�ين� ق�ات ه� ع�ن� ال �م� الل ه�اك �ن م�ا ي �ن إ) �م�ون� �ك� ه�م� الظال �ئ �ول ه�م ف�أ �و�ل �ت و ه�م و�م�ن ي �و�ل ن ت

� �م أ اج�ك �خ ر� وا ع�ل�ى إ و�ظ�اه�ر�ه�9، 8)الممتحنة: �ل �وا ق�وام�ين� ل �ون �وا ك ذ�ين� آم�ن �ه�ا ال ي

� �ا أ (، وقال عز وجل: )يب� �ق ر� �وا ه�و� أ �وا اع د�ل �ع د�ل �ال ت Y ع�ل�ى أ �آن� ق�و م ن �م ش� ك �ج ر�م�ن ق�س ط� و�ال ي �ال ه�د�اء� ب ش�

( )المائدة: �ون� �ع م�ل �م�ا ت �ير� ب ب ه� خ� �ن الل ه� إ ق�وا الل ق و�ى و�ات �لت (، ومع وضوح هذا8ل المنهج الرباني في العالقة مع الكفار حسب أحوالهم إال أن الخلل والتطرف قد تطرق لهذا النمط من العالقات عند كثير من الناس، وأصبح الناس فيها

طرفان ووسط: الطرف األول: أهل الغو واإلفراط في عداء الكفار؛ حيث أدى بهم ذلك إلى مجانبة العدل والقسط معهم وبخاصة المسالم منهم. وفي اآليات السابقة أمر بالعدل والقسط مع الكفار، والبر بهم وبخاصة إذا كانوا أقارب وأرحام

ما داموا ليسوا حربيين. قال اإلمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير آية الممتحنة: »وقوله �م م�ن �خ ر�ج�وك �م ي �م ف�ي الدWين� و�ل �وك �ل �ق�ات �م ي ذ�ين� ل ه� ع�ن� ال �م� الل ه�اك �ن تعالى: )ال ي

(، أي ال ينهاكم عن اإلحسان إلى الكفرة الذين ال يقاتلونكم في �م �ار�ك د�ي�ق س�ط�وا (، أي تحسنوا إليهم )و�ت وه�م �ر� �ب ن ت

� الدين؛ كالنساء والضعفة منهم، )أ.) م�ق س�ط�ين� �ح�ب� ال ه� ي �ن الل (، أي: تعدلوا )إ ه�م �ي �ل إ

قال اإلمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء - هي بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: ق�د�م�ت

أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت� النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفاصلها؟ قال:

(.1)نعم، ص�ل ي أمك(؛ أخرجاه) وقال اإلمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبدالله بن المبارك، حدثنا مصعب بن

�يلة على ثابت، حدثنا عامر بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت ق�ت�اب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت ابنتها أسماء ابنة أبي بكر بهدايا: ص�ن أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه

�م ف�ي �وك �ل �ق�ات �م ي ذ�ين� ل ه� ع�ن� ال �م� الل ه�اك �ن وسلم فأنزل الله عز وجل: )ال ي( إلى آخر اآلية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها) (.3(«)2الدWين�

وقد تصل الحال عند هؤالء المف ر�طين إلى أن يعدوا التعامل مع الكافر المسالم بتجارة، أو بيع أو شراء، أو علم دنيوي ضروري، أو نحو ذلك من

المعامالت إنما هو ضرب من ضروب المواالة المحرمة للكافر، وأن عداوتهوبغضه والبراءة منه تقتضي قطع أي صلة أو تعامل معه.

وقد سبقت اإلشارة إلى هذا الموقف الخاطئ في مبحث الوسطية في(.4الوالء والبراء)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 113: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة: وأهل هذا الموقف هم المتساهلون في عدائهم للكفار، والبراءة منهم، حتى تجاوزوا العدل والقسط والبر مع

المسالم منهم إلى المداهنة والمحبة لهم، والخوف منهم، وتعظيمهم وتقديمهم على المسلمين، واالنبهار واالغترار بما هم عليه من دنيا وقوة وصناعات متقدمة، وائتمانهم على أموال المسلمين وأعراضهم وعقولهم وأسرارهم؛ بل وصلت الحال ببعضهم إلى التدسس بعقيدته والحياء من

إظهارها ودعوة الناس إليها. أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم أهل السنة واالتباع الذين اقتفوا

أثر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين له بإحسان، الذين تبرؤا من الكفر وأهله، وأعلنوا بكل فخر واعتزاز عقيدة اإلسالم،

ودعوا الناس إليها وجاهدوا في سبيلها. فمن أسلم من الكفار فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وهو أخ من إخوانهم المسلمين له حقوق وعليه

واجبات. ومن لم يدخل في اإلسالم وصالح المسلمين أو عاهدهم أو دفع�ا داخل الدولة اإلسالمية فإن الواجب نحوه الجزية مقابل أن يعيش آمن

� فله البر واإلحسان. وال يجوز ظلمه لكونه العدل والقسط وإن كان قريباا، وجاز التعامل معه ببيع أو شراء أو إجارة أو غيرها من المعامالت في كافر� ضوء الشريعة اإلسالمية، بشرط أن ال يكون في ذلك تقوية القتصاد الكفار

المحاربين. وهذا العدل وضمان األمن للكافر المسالم هو ما أمر الله عز وجل به

وطبقه المسلمون في تاريخهم الطويل في فتوحاتهم وتعامالتهم مع الذين�ه�ا ي

� �ا أ بقوا على دينهم من أهل تلك البالد المفتوحة؛ قال الله عز وجل: )يY ع�ل�ى �آن� ق�و م ن �م ش� ك �ج ر�م�ن ق�س ط� و�ال ي �ال ه�د�اء� ب ه� ش� �ل �وا ق�وام�ين� ل �ون �وا ك ذ�ين� آم�ن ال

) �ون� �ع م�ل �م�ا ت �ير� ب ب ه� خ� �ن الل ه� إ ق�وا الل ق و�ى و�ات �لت ب� ل �ق ر� �وا ه�و� أ �وا اع د�ل �ع د�ل �ال ت أ (. ومن تطبيقات هذا المنهج الرباني العادل في حياة الصحابة8)المائدة:

رضي الله عنهم ومن بعدهم ما يلي: لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة رضي الله عنه

على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، أرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: »والله لقد جئتكم من أحب الخلق إلي، وألنتم أبغض إلي من

أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن(.5ال أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات واألرض«)

لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا شغلنا

�واليتكم عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: ل وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن

المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة ال يدخل عامل هرقل مدينة حمص إال أن نغلب ونجهد. فأغلقوا األبواب وحرسوها، وكذلك فعل

أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإال فإنا على أمرنا ما بقي

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 114: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

للمسلمين عدد. فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهموأخرجوا المفلسين فلعبوا وأدوا الخراج.

�ه�ود� و�ال ي ك� ال ض�ى ع�ن �ر �ن ت فهؤالء اليهود والنصارى الذين قال الله عنهم: )و�ل( )البقرة: من اآلية �ه�م ت �ع� م�ل ب �ت ى ت ى ح�ت ص�ار� ( يقولون للمسلمين الذين120الن

عدلوا فيهم: )لواليتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم(.6والغشم ...( وهل فوق هذا النصر من نصر)

�ذكر أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى واليه على البصرة عدي بن أرطأة وي�لك من يوصيه، ونقتطف من رسالته بعض المقاطع؛ يقول: »ثم انظر م�ن ق�ب أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأج ر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه .. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر

رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك، قال:

(.7ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه«) ويذكر في مواقف ابن تيمية السامية في اإلنصاف حتى مع غير المسلمين

أنه حين سعى بإطالق سراح أسرى المسلمين من التتار، وعلم أنهم لن يطلقوا معهم أسرى أهل الذمة، أصر على إطالق الجميع مع�ا وقال: »بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكهم، وال

ا ال من أهل الملة وال من أهل الذمة«) (.8ندع أسير�_____________

(.1003(، ومسلم: )2620( البخاري: )1)( وصححه ووافقه الذهبي.2/485(، والحاكم: )4/4( المسند: )2)( من سورة الممتحنة.9( تفسير ابن كثير عند اآلية )3)( من هذا الكتاب.105( انظر: )ص 4) (، وأبو3/367( وروى بعضه اإلمام أحمد: )2/412( تفسير ابن كثير: )5)

(.2910(، وقال األلباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح: )3410داود: )(.2/143( انظر كتاب الجهاد في سبيل الله، عبدالله القادري: )6)(، ت: صبحي الصالح.1/38( أحكام أهل الذمة البن القيم: )7)(.15( حياة شيخ اإلسالم، للشيخ محمد بهجت البيطار: )ص 8)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 115: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

سابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في التخطيط والتنظيم : إن كل مشروع من مشاريع الدنيا والدين يحتاج ليتم تنفيذه إلى دراسة

وتخطيط وتحديد لألهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمات واألولويات واألدوار، وتنظيم األعمال التي من شأنها تحويل الخطط

والدراسات النظرية إلى واقع وعمل. وهذا كله يدخل في األخذ باألسباب وبذل الوسع في ذلك؛ ألن من سنة الله سبحانه أن رتب المسببات على أسبابها، والنتائج على مقدماتها، واألهداف على وسائلها؛ وكل ذلك خاضع لمسبب األسباب سبحانه ومشيئته النافذة، ومع أهمية التخطيط والتنظيم

ألي فكرة أو مشروع إسالمي دعوي فإن الناس منقسمون فيها إلى طرفينووسط.

الطرف األول: أهل الغلو واإلفراط: وهم الذين غلوا، وأغرقوا في التنظير والتخطيط حتى تمر األيام والشهور بل والسنوات وهم ما زالوا في

� ويؤخرون أخرى؛ ال تراهم إال مترددين تخطيطهم ودراساتهم يقدمون ر�ج ال خائفين من اإلقدام على العمل مف ر�طين في أخذ الحيطة والحذر، مفوتين عليهم الفرص الكثيرة تمر عليهم دون أن يستثمروها، مبررين عملهم هذا

بالتثبت والتأني والحكمة. )ارجع إلى مبحث التوازن والعدل في الحلم(.1واألناة()

ثم إذا قدر لهؤالء أن ينتقلوا من التخطيط إلى التنفيذ والعمل فإنهم يغلون في تنظيم هذا العمل ويفرطون في وضع الترتيبات اإلدارية والتنظيمية

الدقيقة التي تعرقل العمل، وال تمنح للفرد أن يستخدم عقله وطاقته، وإنما يبقى رهين أطر تنظيمية ومركزية تقيد األعمال وتجعلها تراوح في مكانها

إن لم تتراجع. كما أن اإلفراط والغلو في التنظيم والترتيب قد يوقع أهله - وبخاصة أصحاب المشاريع الدعوية الجماعية - في حزبيات مقيتة ووالءات ملوثة؛ بحيث يصبح عند أهل التنظيم الواحد تحزب وتعصب لبعضهم يوالي

بعضهم بعض�ا، ويناصر بعضهم بعض�ا؛ ويعادون أو ينابذون من سواهم من الطوائف اإلسالمية؛ ال على أساس اإلسالم، وإنما على أساس الحزب أو

التنظيم؛ وهذا غلو وتطرف. الطرف الثاني: أهل اإلفراط واإلضاعة: وهم الذين أهملوا األخذ باألسباب

فأهملوا التخطيط والدراسة المتأتية التي تسبق العمل والتنفيذ، فقامت مشاريعهم على الفوضى والتخبط، فكانت النتيجة المترتبة على ذلك ضياع

األوقات واألموال واألعمال؛ إن لم يكن أكثر من ذلك من المفاسد العظيمةوالشرور الجسيمة. وهذا الطرف يقابل الطرف السابق أو هو ردة فعل له.

وكما أنهم أهملوا وفرطوا في الدراسة والتخطيط فكذلك أهملوا األخذ بوسائل التنظيم والترتيب. فجاءت أمورهم نتاج أعمال فوضوية، وتصرفات

فردية تفتقد الشورى والروح الجماعية. بل واتهموا أي عمل منظم مدروسبأنه عمل حزبي بدعي.

الوسط العدل المتوازن: وهم الذين اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين الذين أخذو باألسباب والسنن اإللهية، فقامت أمور

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 116: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الدعوة والجهاد والمال عندهم على الدراسة والتخطيط، وحولوا ذلك إلى عمل مثمر مرتب يحكمه التنظيم وتوزيع األدوار وتفعيل الطاقات، دون

عرقلة للعمل وال فوضى وفردية. إذن فأهل هذا الموقف لم تشغلهم الدراسة والتخطيط عن العمل والتنظيم، وتفعيل الطاقات واألدوار، ولم

تنطلق أعمالهم وتنظيمهم دون دراسة وتخطيط، ولم يجعلوا أطرهم� للطاقات، أو حزبية التنظيمية حجر عثرة ألعمال دعوية وخيرية، أو تعطيال

مقيتة تلوث عقيدة الحب في الله والبغض في الله.

_____________(.171-169( ص )1)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 117: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ثامن عشر : التوازن في تقويم األعمال الدعوية والجهادية : التقويم: كلمة تحتمل معنيين كالهما مقصود: التقويم بمعنى النقد وبيان قيمة الشيء، والتقويم بمعنى التعديل والتوجيه. وهما أمران متالزمان

(، والذين يقوWمون الحركات الدعوية والجهادية في1يكمل أحدهما اآلخر)األمة اليوم طرفان ووسط:

الطرف األول: أهل اإلفراط والغلو في المدح والثناء: وهم الذين يعرضون هذه الدعوة أو تلك على أنها الدعوة المثالية وأنها امتداد لدعوة الرسول

صلى الله عليه وسلم. وتضطرهم هذه النظرة الغالية إلى تبرير للمواقفا متكلف�ا، حتى لكأنهم يعتقدون العصمة في القائمين عليها، واألخطاء تبرير�

كما يدفعهم ذلك إلى النظر في اجتهادات هذه الدعوة أو تلك على أنها األمل الوحيد لنهضة اإلسالم والمسلمين. وهذا بدوره يجعلهم ينظرون

لغيرهم من الدعوات نظر الدونية وضعف الفهم والوعي والتربيةوالتخطيط.

الطرف الثاني: أهل الغلو واإلفراط في النقد والتقويم: وهم الذين ينظرون إلى الدعوات اإلصالحية والحركات الجهادية نظرة تشاؤم وتحامل؛ فال يرون

ا كتموه أو ا أذاعوه وضخموه وإن علموا خير� إال العيوب، فإن علموا شر�أولوه أو أساءوا الظن بفاعليه.

� عنيW وما سمعوا من صالح دفنواإن يسمعوا سبـة طاروا بها فرحاكال طرفي قصد األمور ذميم)وال تغل في شيء من األمر واقتصد

2)وأهل هذا الطرف يقابلون الطرف األول.

أهل الموقف الوسط العدل: وهم الذين تناولوا تقويم هذه الدعوات ودراستها دراسة عادلة متوازنة بعيدة عن اإلفراط في التفاؤل أو التشاؤم، وبعيدة عن اإلفراط في الحب أو الكره، وذكروا ما لهذه الدعوات من خير

كثير وبالء عظيم وأثر كبير في األمة، مع اإلقرار باألخطاء والعثراتواالستفادة منها في تجنبها ومناصحة أهلها.

_____________(.90( مقاالت في المنهج: )ص 1)( وما بعدها.90( المصدر السابق: )ص 2)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 118: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

تاسع عشر: الوسطية والعدل والتوزان في نقد المخالف ومعالجة األخطاء: هذا المبحث في هذه الرسالة من أهم مباحثها وأطولها؛ وذلك لمساسه

بالواقع، وما نعاني فيه من فرقة ومنابذة أفرزهما المنهج الخاطئ في النقد ومعالجة األخطاء والجور مع المخالف؛ في وقت نحن في أمس الحاجة إلى االئتالف والوحدة واالجتماع، ال إلى الفرقة واالختالف، كما أننا في حاجة إلى أن يرحم بعضنا بعض�ا، وأن يشفق بعضنا على بعض، وأن نتعاون فيما اتفقنا

عليه، ويناصح بعضنا بعض�ا فيما اختلفنا فيه. وإن كان األمر مما يسعهاالجتهاد عذر بعضنا بعض�ا فيه.

يقول شيخ اإلسالم - رحمه الله تعالى -: »االعتصام بالجماعة واالئتالف من أصول الدين. والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في

(.1األصل لحفظ الفرع«)ا ألهمية هذا األمر ومسيس الحاجة إلى طرحه ومداولته بين الدعاة ونظر�

� تغطيته من جوانبه فسوف أطيل النفس فيه - إن شاء الله تعالى - محاوال المختلفة بإذن الله تعالى، فأرجو من القارئ الكريم أن يتحمل هذه اإلطالة

التي سأسعى إلى أن ال تكون مملة.ومن أهم البواعث على التطويل في هذا الموضوع ما يلي:

- »قلة الفقه بأنواع الخالف، وما يسوغ منه وما ال يسوغ، وما ينكر منه،1 وما يسكت عليه، أو ينصح فيه، وعدم التمييز بين الخالف في األصول أو

الفروع، واعتبار أصنافه كلها بمنزلة خالف األصول؛ كل ذلك أدى إلى كثير من الظلم واإلجحاف والفرقة واالختالف، فكان ال بد من عودة إلى ذلك

الفقه الذي ينصف المخالفين ليعودوا مؤتلفين.ا إلى مذهب أو2 - العصبية التي أهدرت األوقات وأضاعت الجهود انحياز�

إمام أو رأي فأورثت الفرقة والتباغض، وكان ال بد من تخفيف حدة�ا لقلوب المخالفين. العصبيات باإلنصاف، والء� للحق وتطييب

- عموم اإلجحاف في تقويم الرجال والجماعات والكتب بسبب تعظيم3 الهفوات، وغياب الميزان العدل، وعدم اعتبار غلبة المحاسن، ولعدم

التعامل باالحترام الالئق مع المخالف، وبسبب التجريح الظالم ألهواء نفسية أو لمبالغة في تصوير المساوئ، بسبب كل ذلك عمت صور الظلم والتنافر

فكان ال بد من ضوابط للتقويم تحقق اإلنصاف وتشيع روح األلفة. - افتقاد كثير من المختلفين للموازنة بين المصالح والمفاسد في التعامل4

مع المخالفين، وعدم الخبرة باألساليب الحكيمة في الدعوة، وفي األمر والنهي؛ أدى إلى تظالم وتقاطع. فرأينا أن العودة إلى منهج أهل السنة

تنصف المخالفين وتزيل القطيعة. - رجوع كثير من أسباب تظالم المختلفين إلى عدم إعذار المخالف بجهله،5

أو اجتهاده، وتأوله، أو قيام الشبهة لديه، وعدم قيام الحجة عليه مما أدى إلى تأثيم المخالف، والحكم بضالله - وقد يكون ممن يعذره الله - فكان ال

بد من إنصاف المخالفين بإعذار صاحب العذر منهم، مع مناصحته فيما(.2أخطأ فيه، فهذا أعدل وأدعى إلى التآلف«)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 119: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

والموضوع من األهمية بحيث ال يستكثر الكالم فيه. أسأل الله عز وجل أن�ا إلى اإلصالح، واجتماع القلوب، يعينني على هذا األمر، وأن يجعل فيه باب

وتوفير الجهود على نشر هذا الدين والتصدي لكيد األعداء والمفسدينوتسلطهم.

يقول شيخ اإلسالم - رحمه الله تعالى -: »وهذا التفريق الذي حصل من األمة: علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط األعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ... فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا

وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب«)3.)

وقبـل الدخول في تفصيـل الموقف العـدل المتوازن في نقد األخطاءوالموقف من المخالف يحسن التقدمة لذلك بمقدمتين هامتين:

المقدمة األولى: في أنواع الخالف المحمود منه والمذموم وأسبابه.المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف.

_____________(.22/245( مجموع الفتاوى: )1)� وبتصرف يسير.13، 12( انظر »فقه االئتالف«: )ص 2) ( ملخصا(.3/421( مجموع الفتاوى: )3)

المقدمة األولى: في أنواع الخالف وأسبابه:

الخالف من طبيعة البشر؛ وذلك الختالف العقول والمدركات، ودخول الهوى�ا. �ا وقد يتفجر أحيان على النفوس، وهو قديم وحديث، لكنه قد يفتر أحيان

ويتميز كل زمان بمسائل معينة يدور حولها الخالف، ومع كل ذلك فإن الحق�ا ما يثور الخالف في واحد ويبقى محفوظ�ا ال يضره اختالف المختلفين. وغالب

األمة وينشغل به الناس حينما تنشغل عن االهتمامات العالية والجهاد في سبيل الله تعالى، وتميل إلى االسترخاء والدعة والترف، فيظهر حينئذ

الترف الفكري والجدل والهوى. وليس كل اختالف في أمر من األمور مذموم، بل إن هناك كثير من

المسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، ولم تؤد بهم إلى االفتراقوالتنابذ، بل بقيت المودة بينهم، وبقي الصف موحد�ا والقلوب مؤتلفة.

أما من فارقه السلف من المخالفين من أهل البدع فإن ذلك لم يكن إال حينما خالفوا األصول، وخالفوا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم

وأصحابه وهذا تفرق محمود.

أما االختالف الحاصل بين أهل السنة والجماعة فال يعد مذموم�ا إال إذا انتهى بالمختلفين إلى الخصومة والتفرق؛ وذلك لوجود الجهل، أو دخول الهوى

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 120: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

والبغي بين المختلفين. وقد ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى - كالم�ا بديع�ا عن االختالف وأنواعه، ومتى يكون مذموم�ا، ومتى يكون محمود�ا،

أرى من المناسب تدوينه في هذا المقام ليمهد لما بعده. قال - رحمه الله تعالى -: »عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال: )تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثالث وسبعين فرقة( رواه أبو داود

(. وعن معاوية رضي1وابن ماجة والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح) الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن أهل الكتاب

افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه األمة ستفترق علىثالث وسبعين ملة - يعني األهواء - كلها في النار إال واحدة وهي الجماعة()

(... ثم هذا االختالف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في2 الدين فقط، وإما في الدين والدنيا، ثم قد يؤول إلى الدماء، وقد يكون

االختالف في الدنيا فقط.

وهذا االختالف الذي دلت عليه األحاديث هو مما نهي عنه في قوله سبحانه:�ف�وا( )آل عمران: من اآلية �ل ت ق�وا و�اخ �ف�ر ذ�ين� ت �ال �وا ك �ون �ك (، وهو105)و�ال ت

موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في

طائفة من أصحابه من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع�، ثم انصرف إلينا فقال: )سألت فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويال

�ا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن ال يهلك أمتي ربي ثالث بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي أن ال يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته

(... فهذا يشير إلى أن التفرقة3أن ال يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها() واالختالف ال بد من وقوعهما في األمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاءال بين سبرة، عن عبدالله بن مسعود قال: ز الله له السالمة، كما روى الن

� قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خالفها، »سمعت رجال فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له،

فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: )كالكما محسن، وال تختلفوا؛ فإن من(.4كان قبلكم اختلفوا فهلكوا( رواه مسلم)

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن االختالف الذي فيه جحد كل واحد من�ا فيما قرأه، المختلفين ما مع اآلخر من الحق؛ ألن كال القارئين كان محسن

وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ... فأفاد ذلك بشيئين:أحدهما: تحريم االختالف في مثل هذا.

والثانـي: االعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم. واعلم أن أكثر االختالف بين األمة الذي يورث األهواء تجده من هذا الضرب؛

�ا فيما يثبته، أو في بعضه، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيب� في �ا في نفي ما عليه اآلخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا مخطئ

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 121: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

�ا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئ إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، ال في اإلثبات؛ ألن إحاطة

اإلنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه. ولهذا نهيت هذه األمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ ألن مضمون الضرب: اإليمان بإحدى اآليتين،

والكفر باألخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضاد�ا - إذ الضدان ال يجتمعان ...واالختالف)*( على ما ذكره الله في القرآن قسمان:

�ال �ف�ين� إ �ل ت �ون� م�خ ال �ز� أحدهما: يذم الطائفتين جميع�ا، كما في قوله تعالى: )و�ال ي( )هود: من اآليتين �ك� ب ح�م� ر� (. فجعل أهل الرحمة مستثنين119، 118م�ن ر�

�ن ح�قW و�إ �ال �اب� ب �ت ك ل� ال �ز ه� ن ن الل� �أ �ك� ب من االختالف، وكذلك قوله تعالى: )ذ�ل

�ع�يدY( )البقرة: ق�اقY ب �ف�ي ش� �اب� ل �ت ك �ف�وا ف�ي ال �ل ت ذ�ين� اخ (، وكذلك قوله:176ال( )آل �ه�م ن �ي � ب �غ يا م� ب ع�ل �ع د� م�ا ج�اء�ه�م� ال �ال م�ن ب �اب� إ �ت ك �وا ال �وت ذ�ين� أ �ل�ف� ال ت )و�م�ا اخ

�ع د� م�ا19عمران: من اآلية �ف�وا م�ن ب �ل ت ق�وا و�اخ �ف�ر ذ�ين� ت �ال �وا ك �ون �ك (، وقوله: )و�ال ت( )آل عمران: من اآلية �ات� Wن �ي ب (.105ج�اء�ه�م� ال

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن األمة تفترق على ثالث ( وفي الرواية5وسبعين فرقة قال )كلها في النار إال واحدة وهي الجماعة()

(.6األخرى: )من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي()ن� أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إال فرقة واحدة، وهم أهل فبي

السنة والجماعة. وهذا االختالف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في

النفوس من البغي والحسد، وإرادة العلو في األرض، ونحو ذلك؛ فيحب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه

في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك؛ لما في قيام قوله منحصول الشرف له والرئاسة، وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.

ويكون سببه تارة: جهل المختلفين بحقيقة األمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما اآلخر، أو جهل أحدهما بما مع اآلخر

من الحق في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالم�ا بما مع نفسه من الحق.� حكم�ا ودليال

�ان� ه� ك �ن ان� إ س� �ن �ه�ا األ والجهل والظلم هما كل شر؛ كما قال سبحانه: )و�ح�م�ل�( )األحزاب: من اآلية � ج�ه�وال �وما (.72ظ�ل

أما أنواعه: فهو في األصل قسمان:اختالف تنوع، واختالف تضاد.واختالف التنوع على وجوه:

منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حق�ا مشروع�ا؛ كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم عن االختالف رسول الله

(.7صلى الله عليه وسلم، وقال: )كالكما محسن()

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 122: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ومثله اختالف األنواع في صفة األذان، واإلقامة، واالستفتاح، والتشهدات، وصالة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد

شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل.

ثم نجد لكثير من األمة في ذلك من االختالف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع اإلقامة وإيتارها، ونحو ذلك؛ وهذا عين المحرم. ومن لم يبلغ هذاا منهم في قلبه من الهوى ألحد هذه األنواع واإلعراض عن المبلغ فتجد كثير�اآلخر، أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول اآلخر؛ لكن العبارتين مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ األدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم األحكام، وغير ذلك. ثم الجهل أو الظلم

يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم األخرى. ومنه: ما يكون المعنيان غيرين، لكن ال يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى اآلخر، وهذا كثير في

.� المنازعات جدا ومنه: ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق،

وآخرون قد سلكوا األخرى، وكالهما حسن في الدين. ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بال قصد صالح، أو بال علم، أو بال نية وبال

علم ...

وهذا القسم - الذي سميناه: اختالف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بال تردد، لكن الذم واقع على من بغى على اآلخر فيه، وقد دل

القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك - إذا لم يحصل�ه�ا ص�ول

� �م�ة� ع�ل�ى أ �م�وه�ا ق�ائ ت ك �ر� و ت� �ةY أ �ين �م م�ن ل بغي - كما في قوله: )م�ا ق�ط�ع ت

ه�( )الحشر: من اآلية �ذ ن� الل �إ (، وكما في إقرار النبي صلى الله عليه5ف�بها إلى أن وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخر

وصل إلى بني قريظة ... وأما اختالف التضاد فهو: القوالن المتضادان إما في األصول، وإما في

الفروع عند الجمهور الذين يقولون »المصيب واحد« وإال فمن قال: »كل مجتهد مصيب« فعنده هو من باب اختالف التنوع، ال اختالف التضاد. فهذا

ا من قد يكون القول الخطب فيه أشد؛ ألن القولين يتنافيان، لكن نجد كثير� الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حق�ا ما، فيرد

� في البعض، كما كان األول الحق في األصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطال� في األصل، كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر مبطال

والصفات والصحابة، وغيرهم. وأما أهل البدعة: فاألمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو ألكثر

ا بين بعض المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت االختالف كثير�المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 123: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في ومن جعل الله له هداية ونور� الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة

تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور ... وأما القسم الثاني من االختالف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه األخرى، كما في قوله تعالى:

�ل� �ت ه� م�ا اق ت اء� الل �و ش� �ع ضY( إلى قوله: )و�ل �ع ض�ه�م ع�ل�ى ب �ا ب ن س�ل� ف�ضل ك� الر� �ل )ت ه�م م�ن آم�ن� �ف�وا ف�م�ن �ل ت �ك�ن� اخ �ات� و�ل Wن �ي ب ه�م� ال �ع د� م�ا ج�اء�ت �ع د�ه�م م�ن ب ذ�ين� م�ن ب ال

�وا( )البقرة: من اآلية �ل �ت ه� م�ا اق ت اء� الل �و ش� �ف�ر� و�ل ه�م م�ن ك (.253و�م�ن( حمد إلحدى �ف�ر� ه�م م�ن ك ه�م م�ن آم�ن� و�م�ن �ف�وا ف�م�ن �ل ت �ك�ن� اخ فقوله: )و�ل

الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم األخرى، وكذلك قوله: )ه�ذ�ان� خ�ص م�ان��ارY( )الحج: من اآلية �اب� م�ن ن �ي �ه�م ث وا ق�طWع�ت ل �ف�ر� ذ�ين� ك Wه�م ف�ال ب �ص�م�وا ف�ي ر� ت اخ

...( )الحج: من19 �ح�ات� �وا الصال �وا و�ع�م�ل ذ�ين� آم�ن �د خ�ل� ال ه� ي �ن الل ( إلى قوله: )إ (. مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: »أنها أنزلت23اآلية

في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة، والذين بارزوهم من قريش(.8وهم: عتبة وشيبة والوليد)

وأكثر االختالف الذي يؤول إلى األهواء بين األمة من القسم األول، وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة األموال، والعداوة والبغضاء؛ ألن إحدى

الطائفتين ال تعترف لألخرى بما معها من الحق، وال تنصفها، بل تزيد على مامع نفسها من الحق زيادات من الباطل، واألخرى كذلك.

�وه� �وت ذ�ين� أ �ال ال �ل�ف� ف�يه� إ ت وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: )و�م�ا اخ( )البقرة: من اآلية �ه�م ن �ي � ب �غ يا �ات� ب Wن �ي ب ه�م� ال اء�ت �ع د� م�ا ج� (؛ ألن البغي:213م�ن ب

مجاوزة الحد.(.9وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه األمة«)

ومن هذا النقل النفيس عن شيخ اإلسالم - رحمه الله تعالى - في أنواعاالختالف وأسبابه نخلص إلى النتائج التالية:

األولى : أن الخالف مع الكفار والمبتدعة خالف محمود؛ ألن الله عز وجليأمر بمفارقة الكفار والمبتدعة ويحب المخالف لهم من أهل السنة واالتباع.

الثانية: أن الخالف في مسائل االجتهاد بين أهل السنة إذا لم يؤد إلى الفرقة وفساد المودة فهو خالف محمود، أما إذا انتهى بالمختلفين إلى

الفرقة والخصام، فإن كال الطائفتين مذمومتان؛ إذ الغالب في مثل هذه الحال دخول الهوى والعصبية إلى النفوس. فمتى أدى االختالف في االجتهاد

بين أهل السنة إلى الفرقة، فليعلم أن الهوى أو البغي قد دخل فيالنفوس.

وفي ذلك يقول الشاطبي - رحمه الله تعالى -: »... فكل مسألة حدثت في اإلسالم فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك االختالف بينهم عداوة وال بغضاء

وال فرقة علمنا أنها من مسائل اإلسالم، وكل مسألة طرأت فأوجبت

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 124: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير اآلية وهي

�( )األنعام: من اآلية �عا ي �وا ش� �ان �ه�م و�ك ق�وا د�ين ذ�ين� ف�ر �ن ال ( .. فيجب159قوله: )إ على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها .. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث

أحدثوه من اتباع الهوى .. وهو ظاهر في أن اإلسالم يدعو إلى األلفةوالتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي إلى خالف ذلك فخارج عن الدين«)

10.) الثالثة: أن أهم أسباب الخالف بين المختلفين: إما الجهل بما عند المخالف

من الحق والدليل أو الجهل باألدلة الشرعية بعامة.

وإما البغي والهوى والحسد: إذ قد يتضح الحق للمخالف ولكنه يستنكف عنا عياذ�ا بالله عز وجل. �ا وكبر� االنقياد له بغي

والكالم هنا موجه ألهل السنة والخالف الحاصل بينهم، وكيف يمكن تفادي الفرقة الناشئة عنه، وما هو الميزان العدل الذي يوزن به هذا الخالف. أما

الخالف مع أهل البدع والكفر فهو متعين وله مقام آخر._____________

(، وابن ماجة: )2640(، والترمذي )4596( انظر سنن أبي داود: )1)3991.)

(.4/102( مسند أحمد: )2)(.2890( مسلم: )3)(.2410( الحديث ال يوجد في مسلم وإنما في البخاري: )4)

)*( يقصد شيخ اإلسالم باالختالف هنا ذلك الذي يؤدي إلى التفرقوالخصومات.

(.207( سبق تخريجه: )ص 5) ( انظر ما ذكره الشيخ األلباني - رحمه الله تعالى - عن حديث االفتراق6)

(.204في السلسلة الصحيحة )(.2410( البخاري: )7)(.2743( البخاري: )8) ( ملخص�ا، ت: د. ناصر156 - 1/135( اقتضاء الصراط المستقيم: )9)

العقل.(.222-4/221( الموافقات: )10)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 125: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف:

قبل الشروع في الرد على المخالف - سواء كان مشافهة أو كتابة - فال بد من مراعاة الضوابط الشرعية حتى يؤتي الرد ثمرته المطلوبة وال يؤدي إلى

مفاسد شرعية تربو على مفاسد ترك الرد.ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:

اد بالعلم الشرعي الصحيح الموافق لسنة النبي صلى الله � : اتصاف الر أوال عليه وسلم؛ وبخاصة في المسألة المراد الرد عليها ومناقشتها، وأن يكون الكالم بعلم ودليل، ومأخذ صحيح في االستدالل؛ ومن ذلك التوثق والتثبت من كالم المردود عليه من كتبه أو كالمه ال من الظنون وكالم الناس. ومن

ذلك تحديد موضع النزاع وتحريره.�ا : اتصاف الراد باإلخالص والتجرد لله تعالى في رده وبعده عن الهوى ثاني

والعصبية والتشفي، وهذا يلزم عليه أشياء كثيرة من أهمها: العدل مع المخالف وإنصافه، وتجنب ظلمه وإهدار حقه وما عنده من

المحاسن. وهذا يقتضي الحذر من الهوى والتعصب األعمى. وقد ذكر الشوكاني - رحمه الله تعالى - بعض األسباب التي تؤدي إلى عدم

العدل واإلنصاف فقال: »واعلم أن أسباب الخروج عن دائرة اإلنصافوالوقوع في موبقات التعصب كثيرة جد�ا منها:

] أ [ نشأة طالب العلم في بيئة تمذهب أهلها بمذهب معين، أو تلقوا عنعالم مخصوص، فيتعصب وال ينصف.

]ب[ حب الشرف والمال، ومداراة أهل الوجاهة والسلطان، والتماس ماعندهم، فيقول ما يناسبهم وال ينصف.

]جـ[ الخوض في الجدال والمراء مع أهل العلم، والتعرض للمناظرات،وطلب الظهور والغلبة، فيقوى تعصبه لما أيده وال ينصف.

] د [ الميل لمذهب األقرباء، والبحث عن الحجج المؤيدة له، للمباهاة بعلمأقربائه، فيتعصب حتى لخطئهم وال ينصف.

] هـ [ الحرج من الناس في الرجوع عن فتوى قالها، أو قول أيده واشتهرعنه، ثم تبين بطالنه، فيتعصب دفع�ا للحرج وال ينصف.

­ا، أو أقل علم�ا وشهرة، تجعله ] و [ الزلة في المناظرة مع من هو أصغر سنيتعصب للخطأ وال ينصف.

] ز [ التعلق بقواعد معينة يصحح ما وافقها، ويخطئ ما خالفها، وهي نفسهاغير مسلمة على اإلطالق؛ فيتعصب بالبناء عليها وال ينصف.

] ح [ اعتماد أدلة األحكام من كتب المذاهب؛ ألنه سيجد ما يؤيد المذهبباستبعاد دليل المخالف، فيتعصب وال ينصف.

] ط [ االعتماد في الجرح والتعديل على كتب المتعصبين؛ إذ يعدلونالموافق، ويجرحون المخالف، فمن بنى على كتبهم يتعصب وال ينصف.

ن فــي الفضيلة أو المنزلـة، قـد يدفع أحدهما �ي ]ي[ التنافـس بيـن المتقارب�ا ومجانبة لإلنصاف. لتخطئة صواب اآلخر تعصب

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 126: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

]ك[ االعتماد على اآلراء واألقوال - من علم الرأي - المخلوطة بعلوماالجتهاد كأصول الفقه مما يترتب عليه تعصب للرأي وخروج عن اإلنصاف«)

1.)�ستوفي فيه، واإلخالص يقتضي الحذر من الكيل بمكيالين: مكيال للنفس ي

�خسره فيه يبخسه حقه. ومكيال للمخالف ي�ا لرجل نخالفه، ثم تمر »عند تقويم مواقف الرجال كم نستنكر سلوك

السنون، ويدور الزمان دورته، ويصدر نفس السلوك في موقف مشابه من رجل نحبه ونتفق معه، فنعلل له ونبرر ونحسن الظن، بل ونكبر حكمته التي

� في قد ال تدركها عقولنا!!! لماذا نقبل الشيء نفسه من امرئ ونعده عيباغيره؟!!!

قد تجد بعض الناس يبالغون في حب امرئ ومديحه، وقد ال يتركون شرف�ا في الدنيا إال وينسبونه إليه، وتمر أقدار، وبالخلطة والمعايشة الطويلة في

السفر والحضر، والتعامل بالدرهم والدينار، وبالدخن والوساوس .. يغدو المادح قادح�ا، والمزكي جارح�ا، والممدوح مذموم�ا .. صور كثيرة من هذه

األصناف نشهدها في بعض الوعاظ والخطباء والموجهين والناصحين الذين�ا ال يسكت عنه، فإذا ألقيت النصيحة �ا شرعي يرون في ما يقومون به واجب

والموعظة إليه، وطرقت سمعه وانهالت التعليمات عليه صار ذلك من سوء األدب أو سوء الظن به، أو الظلم والتجريح المنهي عنه شرع�ا؛ نرى ذلك،� في الشرح لعيوب الناس ونواياهم، ويسمي تشريحه هذا تقويم�ا وتعديال

فإذا وضع هو على المشرحة والتقويم سماها غيبة ونميمة، وعدم سترا ...«) ( وغيرها من صور الكيل بمكيالين.2العيوب بالنصيحة سر�

اد على سالمة قلبه نحو المخالف، وأن يحذر واإلخالص يقتضي حرص الر من التشفي في الرد والخصومة؛ ألن اإلخالص يقتضي حب الخير للناس والرحمة والشفقة بهم. وهذا شأن أهل السنة واالتباع المخلصين؛ يقول

شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »وأهل السنة والعلم واإليمان (، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه3يعلمون الحق ويرحمون الخلق«)

(.4يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: »أرحم أمتي بأمتي أبو بكر«) وهذا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر عن نفسه أنه يحب

الخير للمسلمين في كل مكان ولو لم يكن يعرفهم أو ينتفع بالخير الذيأصابهم.

فعن ابن بريدة األسلمي قال: »شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإن في ثالث خصال: إني آلتي على اآلية في كتاب الله فلوددت

أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني ألسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح، ولعلي ال أقاضي إليه أبد�ا، وإني ألسمع بالغيث قد

(.5أصاب البلد من بالد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة«)اد إلى طرف آخر مقابل �: الحذر من ردود األفعال التي قد تذهب بالر ثالثا

ا حد التوسط والتوزان واالعتدال. للمردود عليه متجاوز�

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 127: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

رابع�ا: قبول ما يظهر على لسان المخالف من الحق والفرح به وبإصابتهللحق ورد الباطل من كالمه وتفنيده.

قال رجل البن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلمات جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: »... ومن أتاك بحق فأقبل منه وإن كان بعيد�ا بغيض�ا،

�ا«) �ا حبيب (.6ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريب ويقول الشيخ بكر أبو زيد في وصاياه للدعاة: »التزم اإلنصاف األدبي بأن ال

تجحد ما لإلنسان من فضل، وإذا أذنب فال تفرح بذنبه، وال تتخذ الوقائعلب، اح في الث العارضة منهية لحال الشخص، وباتخاذها رصيد�ا ينفق منه الجر

والطعن، وأن تدعو له بالهداية. أما التزيد عليه، وأما البحث عن هفواته، وتصيدها، فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في اإلنصاف بحاجة إلى قدر كبير

(.7من خلق رفيع ودين متين«)ا: ال يؤخـذ المخالف بالزم قوله؛ ألن الزم المذهب ليس بمذهب. أي خامس�

أن ما يلزم على كالم المخالف من لوازم باطلة ال يجوز أن تنسب إليه بمجرد أنها من لوازم قوله؛ فإن هذا من الظلم، كمن يلزم من أحل النبيذ

بالزم قوله وهو استحالل ما حرم الله عز وجل، أو من لم ير الجمع بين الصالتين في السفر بأنه يرد السنة ويهجرها. وال يلزم أحد بالزم قوله حتى يتبناه صراحة ويعبر عنه بنفسه، أو أن يسأل فيجيب فيكون منطوق لسانه حجة عليه. وإنما يستخدم ذكر لوازم األقوال إلبطالها، وبيان غلط وتناقض

المردود عليه لكي يتراجع عن كالمه. يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: »وأما من كفر الناس بما تؤول إليه

أقوالهم فخطأ؛ ألنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمها، بل قد أحسن إذ فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفر� قد فر من الكفر .. فصح أنه ال يكفر أحد إال بنفس قوله، ونص معتقده، وال

ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به متجه، لكن المحكوم به هو(.8مقتضى قوله فقط«)

ا: الحرص في نقد المخالف على وصف مقالته ونقدها والرد عليها، سادس� دون التعرض لشخصه أو نيته ومقصده، إال إذا ظهرت قرائن قوية تدل على

فساد النية وخبث الطوية. سابع�ا : االعتناء الشديد بالدقة في التعبير واإلفهام - سواء كان مشافهة أو كتابة - والبعد في الردود عن األلفاظ الغريبة الغامضة، أو الحمالة حتى ال

يفهم كالم الراد على غير ما أراد.

______________ ( ]عن كتاب فقه االئتالف31( انظر أدب الطلب ومنتهى األرب: )ص 1)

([.57لخازندار: )ص ( بتصرف يسير باختصار.102، 101( انظر فقه االئتالف: )ص 2)(.16/96( مجموع الفتاوى: )3)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 128: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

(، وصححه األلباني في السلسلة الصحيحة: )3/2881( مسند أحمد: )4)1224.)

(، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال9/284( مجمع الزوائد: )5)الصحيح.

(.4/586( اإلحكام في أصول األحكام: )6)(.78، 77( تصنيف الناس بين الظن واليقين: )ص 7)(.3/294( الفصل البن حزم: )8)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 129: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ذكر الميزان العدل والوسط في نقد األخطاء والموقف من المخالف: بعد هاتين المقدمتين عن أنواع الخالف: محموده ومذمومه وأسبابه،

وضوابط النقد وأصوله، ندخل في صلب الموضوع الذي نحن بصدده؛ وهو ذكر الميزان العدل الوسط في نقد األخطاء، والموقف من المخالفين، مع

ذكر طرفي االنحراف عن هذا الميزان العدل. فأقول وبالله التوفيق ..الناس في موقفهم من األخطاء ونقدهم ألصحابها طرفان ووسط:

الطرف األول : أهل الغلو واإلفراط:� وهم الذين أفرطوا في نقد األخطاء وأصحابها حتى جعلوا من الفروع أصوال

ومن بعض الجزئيات كليات. وجعلوا همهم تصيد األخطاء والفرح بها وتضخيمها، ولم يرحموا من وقع فيها من طالب العلم بل جاروا عليهم في

ذلك حتى أساءوا الظن بهم، وبنواياهم، ومقاصدهم، وبخسوهم حقهم، وأهدروا حسناتهم وما لهم من بالء وجهاد ودعوة وعلم وعمل وتعليم. وال

يخفى ما في هذا الموقف من عدوان، ومجانبة للعدل واإلنصاف. وفي أمثال هؤالء يقول الشعبي - رحمه الله تعالى-: »والله لو أصبت� تسع�ا

(.1وتسعين مرة، وأخطأت مرة ألعد�وا علي تلك الواحدة«) ولو أن هؤالء المنتقدين حاسبوا أنفسهم، وسألوها حينما يخطئون هل يودون

أن يعاملهم إخوانهم بهذا المنهج الجائر كما يعاملون غيرهم لكان في ذلك�ا لمراجعة أنفسهم، واكتشافهم لهذا المنهج الخاطئ في نقد الرجال سبب

ومعالجة األخطاء. يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: »فليس من شرط أولياء

ا لهم، بل الله المتقين أن ال يكونوا مخطئين في بعض األشياء خطأ مغفور� وال من شرطهم ترك الصغائر مطلق�ا، بل وال من شرطهم ترك الكبائر أو

الكفر الذي تعقبه التوبة. �ه�م ق�ون� ل م�ت �ك� ه�م� ال �ئ �ول �ه� أ �الصWد ق� و�ص�دق� ب اء� ب ذ�ي ج� وقد قال الله تعالى: )و�ال

ذ�ي � ال و�أ �س ه�م أ ه� ع�ن �فWر� الل �ك �ي �ين� ل ن م�ح س� اء� ال �ك� ج�ز� Wه�م ذ�ل ب د� ر� ن اء�ون� ع� �ش� م�ا ي( )الزمر: �ون� �ع م�ل �وا ي �ان ذ�ي ك ح س�ن� ال

� �أ ه�م ب �ج ر� �ه�م أ �ج ز�ي �وا و�ي (. فقد35-33ع�م�ل( هم أولياء الله. ومع هذا فأخبر أنه ق�ون� م�ت وصفهم الله بأنهم متقون. و)ال

يكفر عنهم أسوء الذي عملوا. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم(.2واإليمان«)

�وا ذ�ين� آم�ن �ه�ا ال ي� �ا أ ويعلق اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على قوله: )ي

�وا �ع د�ل �ال ت Y ع�ل�ى أ �آن� ق�و م ن �م ش� ك �ج ر�م�ن ق�س ط� و�ال ي �ال ه�د�اء� ب ه� ش� �ل �وا ق�وام�ين� ل �ون ك( )المائدة: �ون� �ع م�ل �م�ا ت �ير� ب ب ه� خ� �ن الل ه� إ ق�وا الل ق و�ى و�ات �لت ب� ل �ق ر� �وا ه�و� أ (8اع د�ل

فيقول: »فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم ألعدائه أن ال يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن يدعي اإليمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب

وتخطئ على أن ال يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع األذى، ولعله ال�، ودعوة إلى الله يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علم�ا وعمال

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 130: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ا من قومهم على األذى في الله، وإقامة الحجة لله على بصيرة، وصبر�(.3ومعذرة لمن خالفهم بالجهل«)

ن فيها المسور بن وأسوق بهذه المناسبة تلك المحاورة النافعة التي بي مخرمة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بعض عيوبه، وماذا رد عليه

معاوية في ذلك لتكون منهج�ا في معالجة أخطائنا. عن عقيل، ومعمر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره

أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خال به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على األئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: ال والله، لتكلمني

�ا أعيبه عليه إال بذات نفسك بالذي تعيب علي. قال مسور: فلم أترك شيئ بينت له. فقال: ال أبرأ من الذنب. فهل تعد� لنا يا مسور ما نلي من اإلصالح

في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد� الذنوب، وتترك�ذكر إال الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب اإلحسان؟ قال: ما ت

�هلكك إن لم تغفر؟ أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب� في خاصتك تخشى أن ت قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألير بين أمرين: بين الله وبين �خي من اإلصالح أكثر مما تلي، ولكن والله ال أ

، غيره، إال اخترت� الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العمل� ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إال أن يعفو الله عنها، قال:

(.4فخصمني. قال عروة�: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إال صلى عليه)الطرف الثاني: أهل التفريط واإلضاعة:

طوا في األخذ بالحق ورد الباطل، والتقليد األعمى، وهؤالء وإن كانوا قد فر إال إنهم وقعوا في المقابل في الغلو في الرجال والتعصب ألخطائهم ولسان

حالهم يقول بالعصمة لمن قلدوهم. ولذا ترى الواحد منهم يزعجه ويكدر خاطره إذا قيل إن شيخه وأستاذه مخطئ في بعض ما ذهب إليه من قول أو عمل، ويدفعه تعصبه لشيخه

ا ذلك وغلوه في محبته له وتأدبه معه إلى تصحيح كل ما يقول أو يفعل مبرر�بمبررات سامجة متكلفة.

يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل الطرفين السابقين بعد أن ذكر فضل أئمة اإلسالم: »... وأن فضلهم وعلمهم

ونصحهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ال يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول

صلى الله عليه وسلم فقالوا بمبلغ علمهم - والحق في خالفها - ال يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن

�ع ص�م، وال نسلك بهم مسلك Wم وال ن القصد، وقصد السبيل بينهما، فال نؤث الرافضة في علي رضي الله عنه وال مسلكهم في الشيخين رضي الله

(.5عنهما«) وينتقد - رحمه الله تعالى - هذين الطرفين بصورة أوضح في معرض ردWه

على بعض الشطحات التي وقع فيها الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين، وانقسام الناس في تعاملهم مع هذه الشطحات فيقول: »شيخ

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 131: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

اإلسالم حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كالمه على أحسن

محامله ثم نبين ما فيه ... ]إلى أن قال[: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة اإلخالص وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله

صلى الله عليه وسلم. وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين منالناس:

إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم؛ فأهدروها ألجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية اإلنكار. وأساءوا

الظن بهم مطلق�ا؛ وهذا عدوان وإسراف؛ فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم،

وتعطلت معالمها.

والطائفة الثانية: ح�جبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معامالتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم، ونقصانها، فسحبوا

عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول واالنتصار لها، واستظهروا� معتدون مفرطون. بها في سلوكهم. وهؤالء أيضا

والطائفة الثالثة: - وهم أهل العدل واإلنصاف - الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته؛ فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم

المعلول، وال للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، ورد�وا ما(.6يرد«)

ويقول الشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى - في هذا المقام: »... ففي مجال الجرح والتعديل المعاصر تعود الكثيرون إما أن يثقوا بالرجل ثقة

مطلقة ال مثنوية فيها، ويقلدوه في الجليل والحقير وإما أن يسقطوه من�ا ينتقلون من �. ومن عجب أنهم أحيان الحساب، فال يقبلوا منه صرف�ا وال عدال

النقيض إلى النقيض، فذاك الذي كان باألمس ملء أسماعنا وأبصارنا،ا! وهذه من ثمرات االندفاع أصبحنا اليوم ال نملك إزاءه سمع�ا وال بصر� العاطفي غير البصير؛ فإن العاطفة إذا طغت سريعة التقلب ال تعرف

االستقرار والثبات.

سمعت أحدهم يقول على لسان طائفة: فالن أخطأ في مسألة كذا فال� فأنتم ال تسمعون إال من المعصومين؟! ومن �ا .. إذا �ا! حسن نسمع منه شيئ

أين لكم بهم؟! ال سبيل أمامكم إال أحد سبيلين: أولهما: أال تستمعوا من أحد؛ ألنه ما من أحد إال ويخطئ، قل خطؤه أم كثر،

ومعنى ذلك أن تعتمدوا على أنفسكم فال تنتفعوا بشيخ، وال تجلسوا إلى فقيه، وال تسمعوا إلى داع وال تقتبسوا من مفكر، ثم من قال إنكم ال

�م تفترضوا أن المسألة التي تنقمونها على فالن أو فالن أنه �م� ل تخطئون؟ ولهو المصيب وأنتم المخطئون؟

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 132: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

أما السبيل الثاني: فهو أن تسلكوا مسلك الفرق الضالة التي اخترعت لها »معصومين« وإن كانوا في الحقيقة »معدومين«، وجعلت قولهم تشريع�ا،

اد عليهم راد�ا على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله، وال يستغربن والر هذا الكالم أحد، أو يظن أنه يستحيل أن يحدث من بعض المسلمين؛ فإن

(.7من الناس من يقول هذا بلسان الحال إن لم يقله بلسان المقال«)�ا ظهور طرفي اإلفراط ويقول - حفظه الله تعالى - في موطن آخر مبين

والتفريط في المواقف من الكتب، والمؤلفات، وما فيها من أخطاء المؤلفين فيقول: »هل يتربى قراؤنا - وخاصة من الشباب - على

»الموضوعية« واالعتدال في أحكامهم على الكتب؛ بحيث يستطيع القارئ أن يأخذ من الكتاب جوانبه اإليجابية التي أصاب فيها، ويدع ما سوى ذلك،

ا منهم - ال يبيعون ويشترون إال »بالجملة«! فإما أم أن الشباب - أعني كثير��. ونحن أناس � وباطال أن يكون الكتاب كله موثق�ا ومعتمد�ا، وإما أن يكون خطأ

ال توسط بيننا!

وصلة الكتاب بالمؤلف عريقة وعميقة .. ولذا فإن البعض يتعامل مع الكتب من خالل مؤلفيها فحسب؛ فمؤلفات زيد كلها حسنة ومفيدة، ومؤلفات عبيد

كلها على الضد من ذلك. نعم .. هنالك مؤلفون غالب ما يكتبونه صالح،� بمؤلفات أهل وهناك آخرون ال يحسنون إال الهدم، فال يأتي من يحتج مثال

الضاللة .. ال. الكالم في مجال الدراسات اإلسالمية وما يتعلق بها. وغيرها له حديث آخر، ومن الناحية الواقعية فإن أي كتاب - غير كتاب الله تعالى -

(.8ال يسلم من الخطأ والنقص مهما بالغ مؤلفه في تحريره والعناية به«)الموقف العدل الوسط المتوازن:

وأهله هم الذين ذكرهم ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ما سبق وسماهم بالطائفة الثالثة حيث قال عنهم: »وهم أهل العدل واإلنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم

�قبل، السقيم المعلول، وال للمعلول السقيم بحكم الصحيح؛ بل قبلوا ما ي( ا.هـ.9وردوا ما يرد«)

أي أنهم لم يقعوا فيما وقع فيه أهل الغلو واإلفراط المضخمين لألخطاء، المهدرين لحق من وقع منه الخطأ، والمهدرين لحسناتهم، المتهمين لنياتهم،

بل حفظوا لهم حقوقهم، ولم ينسوا لهم بالءهم وجهادهم وحسناتهم، ووضعوا أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه، ووازنوا بين حسناتهم

وسيئاتهم. وفي المقابل لم يذهبوا إلى تقديس األشخاص، وادعاء العصمة لهم - سواء بلسان المقال أو الحال - بل نظروا للمخطئين بأنهم غير

معصومين، ولم يدفعهم حبهم وأدبهم مع شيوخهم إلى تقليدهم في كل مايقولونه، أو أن يسحبوا ذيل الحسن على كل ما يفعلونه.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 133: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

______________(.1/504( نزهة الفضالء: )1)(.67، 11/66( مجموع الفتاوى: )2)(.2/105( بدائع التفسير: )3)(، ومعنى: )صلى عليه( أي: دعا له.3/150( سير أعالم النبالء: )4)(.3/358( إعالم الموقعين: )5)( باختصار. ط. دار طيبة.224-2/220( مدارج السالكين: )6)(.82، 81( مقاالت في المنهج: )ص 7)(.87، 86( المصدر نفسه: )ص 8)( ط. دار طيبة.2/224( مدارج السالكين: )9)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 134: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

وبعد وضوح الموقف العدل وما يكتنفه من الطرفين المذمومين أسوق فيما رفيعة ألقوال السلف، ومواقفهم العادلة من أخطاء المخالفين نماذجيلي

تمثل المنهج العدل المتوازن الذي يجب على كلوردودهم على بعضهم؛ مسلم وبخاصة طالب العلم والدعاة أن يأخذوا به ويتعاملوا مع بعضهم في

ضوئه وهداه)*(:ة قال: دخلت� على عائشة،النموذج األول: م�اس� عن عبدالرحمن بن ش�

�م ابن ح�ديج في : من أهل مصر. قالت: كيف وج�د ت فقالت: ممن أنت؟ قلت� أبدل� ا فرس� وال بعير� إال ر� أمير؛ ما يقف� لرجل من ي : خ� غزاتكم هذه؟ قلت�

�ه أخي أن �ه� غ�الم�ا، قالت: إنه ال يمنعني قتل أبدل� مكان ا، وال غالم� إال �ه بعير� مكان أحدWثكم ما سمعت� م�ن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني سمعته يقول:

ق عليهم �ا ف�رف�ق� بهم فارف�ق به، ومن ش� �متي شيئ »الله�م من ولي من أمر أق�ق عليه«) (.1فاش قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرتهالنموذج الثاني:

يوم�ا في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى أال�ا وإن لم نتفق في مسألة) (.2يستقيم أن نكون إخوان

النموذج الثالث: عن يونس بن عبد األعلى قال: قال لي الشافعي: »يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة وقطع

الوالية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وق�ل له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر.�ا، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجه�ا لعذر ال تزيدن على ذلك شيئ

فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجه�ا لعذر وضاق عليك

المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار؛ إن شئت كافأتهقوى وأبلغ في بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للته� ج ر�

� �ح� ف�أ ص ل� �ه�ا ف�م�ن ع�ف�ا و�أ ل �ة� م�ث Wئ ي �ةY س� Wئ ي اء� س� الكرم؛ لقول الله تعالى: )و�ج�ز�

ه�( )الشورى: من اآلية ( فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فأفكر فيما40ع�ل�ى الل�ا بهذه السيئة، وال سبق له لديك من اإلحسان فعدها ثم ابدر له إحسان

خ�سن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه. يا يونس تب إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته

(.3سهل«) قال الذهبي في ترجمته لصاحب األندلس الناصر لدين الله:النموذج الرابع:

�ها بزوائد� وفوائد، وإذا كان �ه مع جدWهم، فأعدت »وقد كنت� ذكرت� ترجم�ت�ه على الله، أما إذا �ات، وحساب �ملت له ه�ن الرأس عالي� الهمة في الجهاد، احت

ك لبالمرصاد«) �م� العباد، وللخزائن أباد، فإن رب (.4أمات الجهاد، وظلا كلماالنموذج الخامس: وقال في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي: »ولو أن

ا له، قمنا عليه أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفور� وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا ال ابن نصر وال ابن منده وال من هو أكبر

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 135: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

منهما. والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله(.5من الهوى والفظاظة)

كان إسحاق بن راهويه - رحمه الله تعالى - يشيد بعلمالنموذج السادس: اإلمام أبي عبيد القاسم بن سالم ويقول: »الحق يحبه الله عز وجل: أبو

(. وكان أحمد بن حنبل -6عبيد القاسم بن سالم أفقه مني وأعلم مني«) رحمه الله تعالى - يقول في إسحاق: »لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل

إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم(.7بعض�ا«)

قال الذهبي في ترجمة قتادة - رحمه الله تعالى -: »وهوالنموذج السابع: حجة باإلجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل

الله يعذ�ر� أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، وال يسأل عما يفعل. ثم إن الكبير

سع علمه، وظهر يه للحق، وات Wلم� تحر�ه، وع� �ر� صواب �ث من أئمة العلم إذا ك�غفر له زلله، وال نضلله ونطرحه، ذكاؤه، وع�رف صالح�ه وورع�ه واتباعه، ي

وننسى محاسنه. نعم وال نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من(.8ذلك«)

يقول ابن رجب - رحمه الله تعالى -: »أكثر األئمة غلطواالنموذج الثامن: في مسائل يسيرة مما ال يقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟ لقد انغمر

ذاك في محاسنهم ،وكثرة وصوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين.ا، ال سيما في واالنتصاب للتنقيب عن زالتهم ليس محمود�ا وال مشكور� فضول المسائل التي ال يضر فيها الخطأ وال ينفع فيها كشف خطئهم

(.9وبيانه«)،� � وحاال � وعمال وقال أيض�ا: ».. فرحم الله من أساء الظن بنفسه علما

�، ولم وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقص�ا ومن السلف كماال يهجم على أئمة الدين ... وإن أنت أبيت النصيحة ... وصار شغلك الرد على

أئمة المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين فإنك ال تزداد لنفسك إال�ا، وعن الحق إال بعد�ا، ومن الباطل �ا، وال لطلب العلو في األرض إال حب ع�جب

�ا«) (.10إال قرب النموذج التاسع: يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »ومن له علم

بالشرع والواقع يعلم قطع�ا أن الرجل الجليل الذي له في اإلسالم قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من اإلسالم وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة�تبع فيها، وال والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور الجتهاده، فال يجوز أن ي

(.11يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين«)�ا في موقفه من شطحات الهروي - رحمه الله تعالى - في Wق هذا عملي �ط�ب وي

منازل السائرين عندما شرحها ابن القيم في مدارج السالكين ورد عليها، فتراه بعد ذلك يعقب فيقول: »ولوال أن الحق لله ورسوله، وأن كل ما عدا

الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ، لما

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 136: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

اعترضنا على من ال نلحق غبارهم، وال نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات اإليمان، ومنازل السائرين، كالنجوم الدراري. ومن كان

� فليهد إلينا عنده علم فليرشدنا، ومن رأى في كالمنا زيغ�ا، أو نقص�ا وخلال الصواب، نشكر له سعيه، ونقابله بالقبول واإلذعان واالنقياد والتسليم، والله

(.12أعلم وهو الموفق«) ويقول - رحمه الله تعالى - بعد رده على الهروي في منزلة التوبة بعض

شطحاته: »وال توجب هذه الزلة من شيخ اإلسالم)*( إهدار محاسنه، وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم واإلمامة والمعرفة والتقدم في طريق

السلوك المحل الذي ال يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إال المعصوم صلوات الله وسالمه عليه. والكامل من ع�د خطؤه؛ وال سيما فيلت فيه أقدام، وضلت مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب؛ الذي ز� فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا - إال أقلهم - على

(.13أودية الهلكات«) وفي ردWه - رحمه الله تعالى - على زلة كبيرة للهروي في منزلة )التلبيس(

يعقب على ذلك فيقول: »شيخ اإلسالم)*( حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه. وكان شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه الله يقول: )عمله خير من علمه(.

وصدق رحمه الله؛ فسيرته باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع ال يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله

ورسوله. وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي ال ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وقد أخطأ في هذا الباب لفظ�ا

(.14ومعنى«) النموذج العاشر: رسالة الليث بن سعد إلى اإلمام مالك - رحمهما الله

تعالى - ومما جاء فيها: »سالم� عليك، فإني أحمد الله إليك الذي ال إله إالهو.

أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا واآلخرة.�ك تذكر فيه من صالح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك قد بلغني كتاب لكم، وأتمه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت� بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا،ا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن فجزاك الله عما قدمت منها خير�

أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.طك ما كتبت� إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى وذكرت أنه قد أنش�

ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه �، إال ذلك فيما خال إال أن يكون رأيت فينا جميال

بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق�ن الناس علي الخوف على نفسي العتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأ

تبع� ألهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن. وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع

واذW الفتيا، وال أشد �نسب إليه العلم أكره لش� الذي تحب، وما أجد أحد�ا ي

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 137: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ياهم فيما اتفقوا عليه تفضيال لعلماء أهل المدينة الذين م�ض�و ا، وال آخذ لف�تمني، والحمد لله رب العالمين ال شريك له.

وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ونزول ( أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن15القرآن بها عليه بين ]ظهراني[)

الناس صاروا به تبع�ا لهم فيه، فكما ذكرت. م�ه�اج�ر�ين� �ون� م�ن� ال ول

� �ق�ون� األ اب وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: )و�الس �ه�م �ع�د ل ه� و�أ ض�وا ع�ن ه�م و�ر� ه� ع�ن ض�ي� الل انY ر� �ح س� �إ �ع�وه�م ب ب ذ�ين� ات ص�ار� و�ال �ن و�األ

( )التوبة: ع�ظ�يم� ف�و ز� ال �ك� ال � ذ�ل �دا �ب �د�ين� ف�يه�ا أ ال ه�ار� خ� ن� �ه�ا األ ت �ح �ج ر�ي ت اتY ت ن ج�

� من أولئك السابقين األولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل100 (. فإن كثيرادوا األجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين الله ابتغاء� مرضاة الله، فجن

�ا علموه ... وكان من هم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئ �ي ان ظهر خالف ربيعة لبعض ما مضى ما قد عرفت، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي الرأى من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر،

وكثير بن ف�رقد، وغير كثير ممن هو أس�ن� منه، حتى اضطرك ما كرهت منذلك إلى فراق مجلسه.

�ك أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، وذاكرت فكنتما من الموافقين فيما أنكرت؛ تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد

الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين،نة� في اإلسالم، ومودة صادقة إلخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه وطريقة ح�س� الله، وغفر له، وجزاه بأحسن ما عمله ... ]إلى أن قال في ختام رسالته[.

وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذه�ب� مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن

ه، وال تترك الكتاب� إلي تيق�ن ، فهذه منزلتك عندي، ورأيى فيك فاس ت الدار�� �أ ن

�وص�ل� بك، بخبرك وحالك وحال ولد�ك وأهلك، وحاجةY إن كانت لك، أو ألحدY يWي أسر� بذلك. فإن

كتبت إليك، ونحن صالحون، معافون، والحمد لله. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولينا، وتمام ما أنعم به علينا، والسالم

(.16عليك، ورحمة الله«) النموذج الحادي عشر: رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صدWيق حسن خان -

رحمهما الله تعالى - وما فيها من العدل واإلنصاف واألدب الجم بين أهلالعلم - وإن اختلفوا - وهي رسالة طويلة اقتطف منها ما يلي:

»من حمد بن عتيق إلى اإلمام المعظم والشريف المقدم المسمى محمدالملقب صديق زاده الله من التحقيق وأجاره في مآله من عذاب الحريق.

السالم عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالموجب للكتاب إبالغ السالم والتحفي واإلكرام؛ شيد الله بك قواعد اإلسالم، ونشر بك السنن واألحكام. اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له صديق فنفرح بذلك ونسر؛ لغرابة الزمان وقلة

اإلخوان وكثرة أهل البدع واألغالل، ثم وصل إلينا كتاب الح�طة وتحرير

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 138: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

األحاديث في تلك الفصول، فازددنا فرح�ا وحمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب، فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم وااللتقاط من

جواهركم؛ لذهاب العلم في أقطارنا وعموم الجهل وغلبة األهواء. فبينما�ا ما كنا نظن أن ا عجيب نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكماله فرأينا أمر� الزمان يسمح بمثله وما قرب منه؛ لما من التفاسير التي تصل إلينا من

التحريف والخروج عن طريقة االستقامة، وحمل كالم الله على غير مراد الله، وركوب التفاسير في حمله على المذاهب الباطلة، وجعلت السنة

كذلك، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشيه، وسالمة عقيدته، وتبعده من تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام. فعلمنا أن ذلك

�( )الكهف: من اآلية ما ل ا ع� �د�ن �اه� م�ن ل م ن (.65من قبيل قوله سبحانه: )و�ع�ل�ا كما يحب ربنا ويرضى، وذلك ا طيب فالحمد لله رب العالمين حمد�ا كثير� فضل الله يؤتيه من يشاء الله ذو الفضل العظيم؛ فزاد اشتياق التائق

وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعفة، والله على كل شيء قدير فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس. فمن العوائق تباعد الديار وطول المسافات؛ فإن مقرنا في فلج اليمامة، ومنها خطر الطريق وكثرة القطاع وتسلط الحرامية في نهب األموال واستباحة

الدماء وإخافة السبيل، ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضالل بل وأهل الشرك من رافضي وجهمي إلى معتزلي ونحوهم؛ وكلهم أعداء

قاتلهم الله. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ومع ذلك فنحن نرجو أن يبعث الله لهذا الدين من ينصره، وأن يجعلنا من أهله، وأن يسهل الطريق ويرفع الموانع، ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه. ولما رأينا ما من الله به عليكم من التحقيق وسعة االطالع، وعرفنا تمكنكم من

اآلالت، وكانت نونية ابن القيم المسماة بالكافية الشافية في االنتصار للفرقة الناجية بين أيدينا، ولنا بها عناية ولكن أفهامنا قاصرة وبضاعتنا

مزجاة من أبواب العلم جملة، وفيها مواضع محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحد�ا تصدى لشرحها؛ غلب على الظن أنك تقدر على ذلك. فافعل ذلك

اها يكن من مكاسب األجور وهي واصلة إليك إن شاء الله، فاجعل ق�ر��ا لجميع أهل البدع؛ فإنها شرحها وبيان معناها، وأصلح في النية ذلك تكن حرب�ها إليك: أحدهما: �ع ث لم تبق طائفة منهم إال ردت عليها فهذان مقصدان م�ن ب

شرحها، والثاني: االستعانة بها على الرد على أهل البدع؛ ألن مثلك يحتاج إلى ذلك؛ لكونك في زمان الغربة وبالد الغربة، فإن كنت حريص�ا على ذلك

فعليك بكتاب العقل والنقل، والتسعينية لشيخ اإلسالم ابن تيمية وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة والجيوش اإلسالمية البن القيم، ونحوهن من كتبهما فإن فيها الهدى والشفاء. ولنا مقصد رابع مهم وهو أن

هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف هجرية، فنظرت فيه وفي هذا الشهر وفي شوال، فتجهز الناس للحج1297

ولم أتمكن إال من بعضه ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 139: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

تحقيق، وظننت أن لذلك سببين أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد إتمامه، والغالب على من صنف الكتب كثرة ترداده

وإبقائه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت؛ ويبدل العبارات؛ حتى�ا، ولعل األصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك. يغلب على ظنه الصحة غالب

والثاني: أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعض�ا بلفظه وبعض�ا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك ولم تمعن النظر فيها - ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال - وما دخل عليك من

ذلك فنقول: إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري الصدق والعدل. وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير

وغيره. وإذا نظر السني المنصف في كثير من التفاسير وشرح الحديث وجد قلته وما هو أكثر منه وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه مسلك

أهل التأويل مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل وأنه من

ذلك القليل. وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك. وأنا اجترأت عليك - وإن كان مثلي ال ينبغي له ذلك - ألنه غلب على ظني

إصغاؤك إلى التنبيه، وألن من أخالق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل، وألنه بلغني عن بعض من اجتمع بك أنك تحب االجتماع بأهل العلم وتحرص على ذلك وتقبل العلم ولو ممن هو

ا من دونك بكثير؛ فرجوت أن ذلك عنوان توفيق جعلك الله كذلك وخير�ذلك...

فنسأل الله أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنةWه وكرمه. وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكالم نصح�ا لله والجماعة بمن

ورسوله، رجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان الذي ذهب فيه العلم النافع ولم يبق إال رسومه، وأنا انتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من

الخطاب. ثم إني لما رأيت الترجمة وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بالد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس ألجل

ضرورتهم كما قيل: خال لك الجو فبيضي واصفري. وألتمس من جنابك تفضل علينا ببلوغ السؤول من أقضية الرسول، والروضة الندية شرح الدرر

البهية، ونيل المرام شرح آيات األحكام.

فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونةا إن شاء الله تعالى؛ وليكن ذلك إخوانك ومحبيك بها، وابعث بها إلينا مأجور� على يد األخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة المشرفة، واكتب

لنا تعريف�ا بأحوالكم. ولعل أحد�ا منكم من يتلقى هذا العلم ويعتني به ويحفظه عنك، واحرص على ذلك طمع�ا أن يجمع لك شرف الدنيا واآلخرة،

ونسأل الله أن يهب لك ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 140: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ثم اعلم أني قد بلغت السبعين، وأنا في معترك األعمار ال آمن هجوم،� المنية، ولي أوالد ثمانية منهم ثالثة يطلبون العلم كبيرهم سعد المذكور أوال ويليه عبدالعزيز، وتحته عبداللطيف. ونرجو أنهم أهل الكتب وممن يعتز بها

�ا �ن �ا ه�ب ل ن ب ويحفظها. وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب ومن دعائنا: )ر��( )الفرقان: من اآلية �م�اما ق�ين� إ م�ت �ل �ا ل ن �نY و�اج ع�ل �ع ي ة� أ �ا ق�ر �ن ات ي Wر�ا و�ذ� ن و�اج� �ز م�ن أ

�ا74 �ن ك �اس� �ا م�ن ر�ن� �ك� و�أ �م�ة� ل ل مة� م�س

� �ا أ �ن ت ي Wر�ذ �ك� و�م�ن ن� ل �م�ي ل �ا م�س ن �ا و�اج ع�ل ن ب (، )ر�( )البقرة: ح�يم� واب� الر ت� الت �ن ك� أ �ن �ا إ ن �ي �ب ع�ل (، ال تنسنا من صالح دعائك128و�ت

كما هو لك مبذول، والسالم عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على(. ا.هـ )ملخص�ا(.17محمد وآله وصحبه وسلم«)

______________ )*( وفي هديه صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة للمواقف المتوازنة

والمعالجات العادلة لألخطاء والمنهج الوسط في النقد ما يكفي ويغني. ويكفينا في ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في طريقة معالجته لخطأ حاطب ابن أبي بلتعة ]انظر تفصيل هذه المعالجة في رسالة وإذا قلتم

[.37-34فاعدلوا للمؤلف: ص (.1828( والحديث رواه مسلم: )1/327( نزهة الفضالء: )1)(.10/16( سير أعالم النبالء: )2)(.253، 2/252( صفة الصفوة: )3)(.15/564( سير أعالم النبالء: )4)(.2/1127( نزهة الفضالء: )5)(.2/775( نزهة الفضالء: )6)(.2/840( المصدر نفسه: )7)(.5/271( سير إعالم النبالء: )8)(.136( فقه االئتالف: )ص 9)(.206( المصدر نفسه: )ص 10)(.3/359( إعالم الموقعين: )11)( ط. دار طيبة.2/394( مدارج السالكين: )12)

)*( يقصد بشيخ اإلسالم هنا: الهروي.( ط. دار طيبة.1/366( مدارج السالكين: )13)( ط. دار طيبة.4/352( مدارج السالكين: )14)( كتبت في األصل، ظهرى، والظاهر والله أعلم أن مراده هو ما أثبته.15)(.3/110( إعالم الموقعين: )16) ( رسالة لصديق حسن خان: تنبيه له على أخطاء وقعت له في تفسيره17)

من الشيخ العالمة: حمد بن عتيق. )ملخص�ا(.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 141: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأسأل الله سبحانه أن يحسن عاقبتنا

في األمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب اآلخرة. وفي ختام هذه الرسالة أقف وقفتين استدرك في أوالهما بعض ما فاتني

فيها من مسائل تتعلق بالموضوع، وأقف في األخرى أللخص أهم ما جاء فيالكتاب من مسائل وموضوعات.

� : وقفة االستدراك : أوال كان من بين أبواب هذه الرسالة مبحث عن األسباب المؤدية إلى لزوم الوسطية والعدل والتوازن. ولكن لما جمعت عناصر هذا الباب وجدته

( والذي1مشابه�ا إلى حد كبير للباب األخير من رسالة )فاستقم كما أمرت() يبحث عن األسباب المؤدية إلى لزوم االستقامة، ولما كانت االستقامة تحمل معنى الوسطية والعدل والتوازن فإني اكتفي بما ذكر هنالك من

تفصيل لهذه األسباب، وأحيل إليها القارئ الكريم وأورد هنا ملخص�ا سريع�البعضها:

- العلم بالشرع والبصيرة في الدين:1 فكلما وجد العلم بأصول هذا الدين ومقاصده ووزنت الحركات بميزان

الشرع كانت األقوال واألفعال والمعتقدات مسددة قويمة عادلة متوازنة. وعلى العكس من ذلك؛ فإن مجاوزة العدل والوسطية والتوازن في األقوال

واألعمال والمعتقد من أسبابها الجهل بهذا الدين وقواعده ومقاصدهوأحكامه وعدم الوزن بميزان الشرع القويم.

يقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »... ال يتصور حصول االستقامة في القول والعمل والحال إال بعد الثقة بصحة ما معه من العلم، وأنه

(.2مقتبس من مشكاة النبوة، ومن لم يكن كذلك فال ثقة له وال استقامة«)ا في �ا رئيس� كما أن في العلم حرق للشبهات التي عادة ما تكون سبب

مجاوزة العدل والوسط: إما إلى إفراط، أو إلى تفريط؛ كما هو شأن أهل البدع واألهواء المتقابلة، والتي تراوح بين الغلو واإلفراط وبين الجفاء

والتفريط.- مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة :2

إن في مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة والتجربة من الدعاة الصادقين المعروف عنهم العدل والتوازن نفع عظيم؛ ألن الصاحب يؤثر على صاحبه فينطبع بأخالقه ومنهجه. ومما يلحق بذلك مصاحبة السلف

الصالح في كتبهم وقراءة سيرهم وما كانت عليه من العدل والتوازنWر في صياغة التفكير �ؤث والتوسط بين اإلفراط والتفريط. فهذا مما ي

والسلوك.- مجانبة من يعرف عنهم التسرع في األمور :3

إن في مجانبة من يعرف عنهم التسرع في األمور والميل إما إلى اإلفراط أو إلى التفريط، - سواء من بعض طلبة العلم المتعجلين أو بعض المنتسبين

للدعوة الذين زادهم من العلم قليل وحظهم من التجربة والحكمة ضئيل -

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 142: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

في مجانبتهم حماية من الوقوع في مجاوزة العدل. وهذا أيض�ا يسري على الكتب والمؤلفات التي يغلب على أصحابها قلة العدل والتوازن، وعدم

التأني في المواقف واألحداث؛ حيث ينبغي اإلعراض عن مثل هذه الكتب والحذر منها. وأول ما يدخل في هذا كتب أهل البدع والشبهات واألهواء

والشهوات الذين هم بين غالY مف ر�ط أو مضيع مفرWط.- العمل الصالح بأداء الفرائض وكثرة النوافل :4

فقد جاء في الحديث الصحيح: »وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،

(.3ورجله التي يمشي بها ... الحديث«) فمن هذا الحديث يتبين فضل األعمال الصالحة وآثارها في حفظ الله عز

وجل لعبده المؤمن الذي هذا شأنه؛ وذلك بحفظ جوارحه فال يتحرك إال في مرضات الله تعالى، وال يبصر إال بالله، وال يسمع إال بالله؛ ومن هذا شأنه

فهو الموفق للحق والعدل والسداد. ومن أفضل األعمال الصالحة: الصالة، والصيام، والذكر، والدعوة إلى الله�ا ذ�ين� ج�اه�د�وا ف�ين عز وجل، والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال سبحانه: )و�ال

�ا( )العنكبوت: من اآلية �ن �ل ب ه�م س� �ن �ه د�ي �ن (.69ل- الرفق واألناة وعدم التعجل :5

إن العجلة والتسرع وترك التؤدة لهي من أخطر األبواب التي تدخل منها الشبهات والشهوات، وتجـعل العـبد يمـيل إما إلى اإلفراط أو التفريط -

سواء في المعتقد أو القول أو العمل - والعكس من ذلك في األناة والرفق؛�ا إلى التعقل والحكمة والسداد في القول والعمل. �ا ما يكونان باب فإنهما غالب

- التواصي بالحق والتناصح بين المسلمين :6 وهذا من أعظم ما يسد به باب التطرف والغلو واإلفراط والتفريط؛ فكلما

كثر التناصح بين المسلمين، والتواصي بالحق، واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل كان في ذلك االهتداء إلى الحق ومدافعة

الباطل بشبهاته وشهواته. وعلى العكس من ذلك؛ فعندما يضعف التناصح والتواصي بالحق، ويقل األمر والنهي فإن األفكار المنحرفة تنتشر بين الناس من غير إنكار، فتتشربها القلوب وتستحسنها العقول، وأصحابها

يحسبون أنهم يحسنون صنع�ا.- الصبر وتقوى الله عز وجل :7

) �ين� ن م�ح س� �ج ر� ال �ض�يع� أ ه� ال ي �ن الل �ر ف�إ �ص ب ق� و�ي �ت ه� م�ن ي �ن قال الله عز وجل: )إ(.90)يوسف: من اآلية

�ا �ن �آيات �وا ب �ان وا و�ك �ر� �ما ص�ب �ا ل م ر�ن� �أ �ه د�ون� ب �مة� ي ئ

� ه�م أ �ا م�ن ن وقال تعالى: )و�ج�ع�ل( )السجدة: �ون� �وق�ن (.24ي

�م�ور�( )آل عمران: � األ م �ك� م�ن ع�ز �ن ذ�ل ق�وا ف�إ �ت وا و�ت �ر� �ص ب �ن ت وقال عز وجل: )و�إ(.186من اآلية

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 143: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

ويقول اإلمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: »فالصبر والتقوى دواء كل داء(.4من أدواء الدين وال يستغنى أحدهما عن صاحبه«)

ويقول شيخ اإلسالم - رحمه الله تعالى -: »فالتقوى تتناول فعل المأمور(.5وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور«)

إذن فلزوم االستقامة والعدل والتوازن في األمور ال بد له من تقوى الله عز وجل، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والصبر على ذلك؛ ألن العلم بالشرع

ال يكفي وحده في لزوم الوسطية والعدل وإصابة الحق إن لم يكن معه التقوى والصبر؛ فكم ممن يتجاوز العدل والحق إما لضعف دينه وتقواه، وإما

لضعف صبره وتحمله.- دعاء الله عز وجل وسؤاله الهداية إلى الحق ولزومه :8

يعد الدعاء من أعظم الوسائل واألسباب في لزوم الحق والعدل؛ ألن الله عز وجل هو الهادي والموفق إلى الحق والعدل، فال هادي لمن أضل وال

�ت� اب ق�و ل� الث �ال �وا ب ذ�ين� آم�ن ه� ال Wت� الل �ب �ث مضل لمن هدى. قال الله عز وجل: )ياء�( �ش� ه� م�ا ي �ف ع�ل� الل �م�ين� و�ي ه� الظال �ض�ل� الل ة� و�ي خ�ر� �ا و�ف�ي اآل ي �اة� الد�ن ي ح� ف�ي ال

(.27)إبراهيم: فمن سأل الله عز وجل الهداية للحق بصدق وإخالص وأخذ باألسباب

المعينة على ذلك أعطاه الله سؤاله ولم يخيب رجاءه. ومن أنفع األدعية وأجمعها ذلك الدعاء الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حين

يستفتح صالته في الليل )اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات واألرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء

(.6إلى صراط مستقيم()(.7وقوله عليه الصالة والسالم: )يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك()

(.8وقوله صلى الله عليه وسلم: )اللهم إني أسألك الهدى والسداد() وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: »قل: اللهم اهدني

(.9وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم«)�ا : الوقوف مع أهم ما جاء في الكتاب من مواضيع : ثاني

تدور أبواب الكتاب ومباحثه على إبراز هذه السمة العظيمة لهذا الدين�ك� �ذ�ل وأهله؛ أال وهي سمة العدل والوسطية والمأخوذة من قوله تعالى: )و�ك

�م ك �ي ول� ع�ل س� �ون� الر �ك اس� و�ي ه�د�اء� ع�ل�ى الن �وا ش� �ون �ك �ت � ل مة� و�س�طا� �م أ �اك ن ج�ع�ل

�( )البقرة: من اآلية ه�يدا (.143ش�ومن أهم المباحث التي جاءت في الكتاب ما يلي:

[ أهمية دراسة هذا الموضوع المتمثلة في تحرير معنى الوسطية، وأنها1] العدل والحق والتوازن بين طرفي اإلفراط والتفريط، وأنها ليست كما

يفهمها بعض الناس في كونها االلتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، أوالرضى بالحلول الوسط. كما أنها ال تعني التشدد والتضييق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 144: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

كما برزت أهمية الموضوع أيض�ا في ما نعانيه اليوم من مجانبة للعدل والتوازن في كثير من أصول الدين وأحكامه وأخالقه، والنزوع فيها إما إلى

الغلو واإلفراط وإما إلى الجفاء والتفريط واإلضاعة.�ا إلى كما تأتي أهمية هذا الموضوع في كون العلم به وبجوانبه المختلفة باب

إعادة النظر في المواقف المتشددة أو المتساهلة، وبخاصة في جانب المعامالت والسلوك واألخالق. وهذا الفهم يقود بإذن الله تعالى إلى

االجتماع واالئتالف، كما يقود إلى تفهم رأي المخالف والمعالجة العادلةألخطائه، وإشاعة الود والتراحم بين المؤمنين وإن اختلفوا.

�...( اآلية، وذلك بذكـر2] مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ك� ج�ع�ل �ذ�ل [ تفسير قوله تعالى: )و�ك

أقـوال بعض المفسرين وبعض األحاديث المعيـنة على فهم اآليـة الكريمة. [ ذكر األحاديث الواردة في لزوم الوسط والعدل، والمحذرة من الغلو3]

واإلفراط أو من التفريط واإلضاعة، مع شرح موجز لبعضها. [ تم تقسيم مظاهر الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين إلى4]

قسمين كبيرين:القسم األول : مظاهرها في الخلق والتقدير:

وفي هذا القسم تم الحديث عن عظمة هذا الكون ودقة نظامه وتوازنه، والتي تدل على عظمة خالقه عز وجل وحكمته وعدله ورحمته، وذكرت

أمثلة متفرقة لهذا التوازن والنظام الدقيق في خلق الله عز وجل؛ سواء ما كان منها في اآلفاق كخلق السموات واألرض وما بينهما من األفالك، وما

على األرض من اآليات الباهرات، أو ما كان منها في األنفس وما فيها من عجيب صنع الله تعالى ودقة نظامها، وما فيها من التوازنات التي تبهر

العقول وتحير األلباب، وتدل على وحدانية رب األرباب.القسم الثاني : مظاهرها في األمر والشرع :

وفي هذا القسم تم الحديث عن شريعة الله عز وجل المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومـا فيهـا من الوسطية والعـدل والتـوازن الواقعـة بين اإلفراط والتفريط. وذكرت تحت هذا القسم أربعة مباحث

مهمة:األول : مظاهرها في العقيدة وأصول الدين.

الثاني : مظاهرها في شعائر التعبد.الثالث: مظاهرها في الجهاد واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرابع : مظاهرها في المعامالت واألخالق. وذكرت في باب العقيدة وأصول الدين مجموعة من األمثلة التي يذكرها

علماء السلف وأنها وسط بين طرفين مذمومين هما أهل الغلو واإلفراط، وأهل الجفاء والتفريط؛ وذلك كقولهم إن أهل السنة واالتباع وسط في

األسماء والصفات بين المعطلة النفاة وبين المجسمة المشبهة، وهم وسط في باب القدر وأفعال العباد بين القدرية والجبرية، وهم وسط في الوعد

والوعيد بين الخوارج الغالة المكفرين ألهل الكبائر ومن نحا نحوهم

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 145: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

طين كالمرجئة ومن شابههم، وغيرها من Wكالمعتزلة وبين الجفاة المفر أبواب العقيدة.

وذكرت أيض�ا في شعائر التعبد مجموعة من األمثلة على التوسط في كثير من العبادات، والتحذير من الوقوع في طرف اإلفراط والغلو الذي لم

يشرعه الله عز وجل أو في طرف التفريط والتقصير. وذكرت أمثلة ذلك في الصالة والصيام ومناسك الحج، وحرمان النفس من بعض الطيبات،

وحرمانها من األخذ بالرخص الشرعية وغيرها. كما ذكرت في باب الجهاد واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطية

هذا الدين فيها، وما يكتنف الوسط العدل من طرفين مذمومين همااإلفراط والتفريط.

وأما قسم المعامالت واألخالق فقد أطلت النفس فيه، وذكرت أمثلة كثيرة من األخالق، وكيف يكون التوسط والعدل فيها؟ وما هما الطرفان

المذمومان اللذان يكتنفان كل خلق محمود؟ وسبب اإلطالة في هذا القسم ما نعانيه في واقعنا المعاصر من أزمة في األخالق؛ وبخاصة ممن ينتسب

منا إلى أهل السنة والجماعة، مما كان له أكبر األثر في التفرقوالخصومات.

وقد ركزت من بين األمثلة التي ذكرتها على التوسط والعدل والتوزان في النقد ومعالجة األخطاء، وذكرت الوسط المحمود وما يكتنفه من الطرفين

المذمومين، وتوجت ذلك بذكر طائفة من النماذج المضيئة للمواقف العادلة المتوازنة لسلفنا الصالح في نقدهم لبعضهم البعض، ومعالجة أخطاء بعضهم

ا لنا وأسوة حسنة نقتدي بها في زمن كثرت فيه بعض�ا علها تكون نبراس�األهواء، وتكالبت فيه األعداء من خارج األمة وداخلها.

وفي ختام هذه الخاتمة أتوجه إلى الله عز وجل بسؤاله اإلخالص والصواب فيما أقوله وأكتبه وأعمله، كما أسأله سبحانه الهداية للحق والعدل واالنقياد

لهما والعمل بهما. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات واألرض عالم الغيب

والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلففيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

والحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

عصر يوم السبتهـ32/3/4241الموافق

______________( وهي الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة الوقفات التربوية.1)( ط. دار طيبة.3/125( مدارج السالكين: )2)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net

Page 146: وكذلك جعلناكم أمة وسطا

� مة� و�س�طا� �م أ �اك ن �ذ�ل�ك� ج�ع�ل و�ك

(.6502( البخاري: )3)(.54( عدة الصابرين: )ص 4)(.2/286( مجموع الفتاوى: )5)(.770( رواه مسلم: )6)�عي الرحمن، وقال7) �صب ( الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أ

(.2792حسن صحيح وصححه األلباني في صحيح الترمذي: )(.2725( صحيح مسلم: )8)(.2725( صحيح مسلم: )9)

جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليلwww.aljiliyl.islamlight.net