1

2

:تعریف الناشر یكبر المرء أثناء الحرب األھلیة ویتقلد السالح في العشرین أن

على قائد جیش لبنان الجنوبي ویصمد على ویطلق الرصاصتلك ھي الصورة ... وجحیمھ مدار عشر سنوات في معتقل الخیام

على المؤثرة للغایة التي رسمتھا إمرأة إستعصت دوما .اإلستسالم

.اللبنانیة رة، ذلك الرمز الحي للمقاومةإنھا سھى بشا

، وھي بالكاد جاوزت عمر المراھقة، حاولت 1988ففي عام تقضي على قائد جیش لبنان الجنوبي، المیلیشیا سھى أن

العمل على حمایة وجود االحتالل في الملحقة بإسرائیل والمكلفةإلى معتقل الخیام وحالما إعتقلت، سیقت سھى. جنوب لبنان

.تعرضت لتعذیب قاس وطویلحیث

اإلنسانیة تدین، بال كلل، أعمال التعذیب التي وكانت المنظمات. تندد بوجوده الذي یسوده اإلعتباط إقترفت في ھذا المعتقل، بل

ستا منھا في وقد قضت سھى عشر سنوات في المعتقل، أمضت .الزنزانة اإلنفرادیة

ھبا للرعب وكیف بالدھا ن ھیا ھي سھى بشارة تروي كیف كانت

شعلة خطت سبیلھا وإلتزامھا الذي ال عودة عنھ، وكیف أن .إلتزامھا قد أتاحت لھا الصمود في وجھ البربریة

ذلك، ھاھنا، بنبرة حادة وصدق ینفذ إلى وھي تروي كل

طیاتھا عبرة عن الوجود إنھا شھادة فریدة، تحمل في. الصمیمالظلم، وأن في مقاومةالحر، حین تذكرنا بأن لكل إمرىء الحق

.من یطلب الحریة ینبغي لھ أن یتجاوز ذاتھ، على الدوام

3

االسیرة اللبنانیة المحررة سھى بشارة تروي مذكراتھا

سھى بشارة بقلم ٢٠٠٢) أكتوبر( تشرین األول ١ثاء الثال

تمھید

لم أكن ألتخیل ما حییت مكانا أصغر من ذلك الذي كنت .فیھ

، طال بي الزمن 7الزنزانة رقم یة أماموإذ وجدتني ثانالجدران حتى استوعبت أنني عشت حقا ھنا، بین ھذه

وأنني أمضیت في ھذا المعتقل عشرة . الضیقة للغایة .ثلث أیامي، وثلث لیالي أعوام من حیاتي،

معتقل الخیام، في جنوب لبنان، ھا أنني أعود الیوم الىوھا . إلیھ ث الخطىوسط خضم الجموع الغفیرة التي تح

أن المعتقل الذي طالما أرھب الناس، بات الیوم محجة قبل الیوم، وإبان سنوات االحتالل اإلسرائیلي وكان. لھم

فرأیت جمھرة . للوطنیین السوداء، أشد الرموز إیالماالزوار وھي تروح وتجيء في قاعات التعذیب

داخل السجون المقززة، حیث مر الكثیر واالستجوابالجمھرة تنظر لكثیر من الرجال والنساء، رأیت ھذها

وال تصدق أبصارھا، وتروح تخمن، في ما ترى، .كیلت لكل سجین وسجینة فیھ العذابات التي

4

أیامھ، قبیل أسبوع من ھذا كان التاریخ قد توالتأیار ففي الثاني والعشرین من. الحدث، على نحو مفاجئ

ائیلیون انسحابھم ، سرع اإلسر2000مایو من العام / ، في 1978كانوا یحتلونھا منذ العام من المنطقة التي

المیلیشیات لما أدركت. جنوب لبنان، رغما عنھماللبنانیة، المرتزقة لدى إسرائیل إنھ لم یعد لھا أي حظ

البقاء، وأنھا صارت في حكم المتروكة لمصیرھا، فيزب یسلمون أنفسھم الى ح في أجل قریب، أخذ أفرادھا

اهللا، الذي بات بدوره، رأس الحربة لمقاومة ھذاوحیال ھذا األمر، حین وجدت الفرق . االحتالل

طالما كانت تحمیھا من اإلسرائیلیة أن الدرع التيالمقاومین انھارت، أدركت أن لحظة االنسحاب حانت،

أن تتحمل تبعات بقائھا في لبنان وخروجھا منھ قبل .بأثمان باھظة

ساعة، حتى وجدت ان وأربعونولم تنقض ثماإلسرائیلیین یسارعون الى إخالء مواقعھم، بعد أن

دشمھم، وینكفئون الى داخل فلسطین المحتلة، یدمروا .من دون خسائر

القھقرى، رأى اإلسرائیلیون رجال وفیما كانوا یعودونبأتباعھ، وكان الرجل قدم لتوه، لیعاین الكارثة التي حلت

من إقامة طویلة لھ في فرنسا، حیث رتبالمذكور عائدا لعائلتھ العیش الدائم، بعد یقینھ من عجزه عن عرقلة

.محتوما االنھیار الذي بات

اللبنانیین الملتحقین بإسرائیل، أنطوان لحد، قائد الجنودرأیتھ، في قائد الجیش المیت ھذا، جیش لبنان الجنوبي،

5

طعنھ بھا التي" للخیانة"ھذه األثناء، یرغي ویزبد القدامى، ولتركھم المئات عرضة لإلھانة حماتھ

طالما قاتلوا واالعتقال في أرض مكشوفة، وكانوالصالح بلد لیس بلدھم، وضحوا في الغالب بأرواحھم في

.سبیلھ

وشاءت األقدار أن یرتبط مصیري بمصیر ذلك الرجل، .الثنتي عشرة سنة خلت

ائلة مسیحیة ومتحدرة من ع لما كنت طالبة شیوعیة،منخرطة في أرثوذكسیة إال أنھا لبنانیة بالصمیم، ألفیتني

الحرب، منذ مراھقتي المبكرة، ضد كل ما یجسد ھذا في أرضي، ودفعت من حریتي ثمنا الوجود الغریب

لخوضي ھذه الحرب، إذ أودعت في الزنزانة بالمحاكمة، ومن دون أن یتسنى لي معرفة سنوات العقوبة

.عليالمفروضة

عشر سنوات سلخت من حیاتيلیغیب من خاطري، ولو یوما ومنذ أن تحررت، لم یكن

لتمحى من واحدا، ما عشتھ في معتقل الخیام، وما كانتمخیلتي صور الذین كانوا ال یزالون یعانون القھر

.والعذاب فیھ

التي قضیتھا في معتقل الخیام وما فتئت ذكریات األیامصباح، ذات. أحیانا على غفلة منيتعاودني، وتأخذني

وأنا مقیمة في باریس، مكان إقامتي المؤقتة، تلقیت حللت الرزمة . عنواني من لبنان رزمة مرسلة الى

6

الى فسارعت. فوجدت في داخلھا ما یشبھ المخدةورحت . إخراجھا من علبتھا ووضعتھا على مكتبي

أن أدنى فكرة عما یمكن أنظر الیھا دون أن تراودني وطال بي الزمن وأنا أحاول. إنھا مجرد ھدیة. تكون

إدراك سر تلك الھدیة، حتى التمع في ذھني بارق فوجدت في داخلھا حللت حبكة المخدة،. ففھمت

قصاصات من الورق كتب علیھا جمیعا بخط عرفت .صاحبھ للتو

عیناي بالدموع، وجعلت ابتلت. كان ذلك الخط خطيریري، وسرعان ما مضت بي أرتب ھذه الكنوز فوق س

الى ھنالك، فخالطت نفسي روائح الخیام، وأنوارھا اللقیا .وضوضاءھا، على السواء

إحدى المحررات حدیثا من وتبین لي ، فیما بعد، أن معتقل الخیام، شاءت أن تحمل في طوایا ثوبھا ھذا

الجزء الصغیر من ذاتي الذي كان ال یزال سجینا نظمتھا في المعتقل خلسة، التيھنالك، عنیت قصائدي

ولم یكن بوسعي حملھا، حین انفتحت لي بوابات .المعتقل، على نحو مباغت

ولوالھا لكان قد قدر لذاكرتي أن تظل أسیرة في .وما كلمات ھذا الكتاب إال استكماال لھا، الیوم .المعتقل

7

دیر میماس

عود لي الى دیر میماس

لبنان، قریة وادعة، ال جنوب دیر میماس ھي قریتي فيوالقائمة أبسط مع بیوتھا المئة، ذات األسطح المتربة،

على سفح جبل، وفیھا ثالث كنائس، وتحیط بھا أشجار أما منزل عائلتنا فیقوم على . ناحیة الزیتون من كل

غیر أنھ كان یكفي طرف القریة قلیال، وعلى مطل منھا،ھ، وبطرفة ألحد منا أن یھبط المنحدر حتى یجد نفس

، "حنا"وكان جدي، ألبي، . ظالل األجراس عین، فيالشقراء، وقد نفذت عمره، مكعبا من اإلسمنت والحجارة

منھا أبواب ونوافذ، مزدرعا وسط خضرة الجنائن، وكانت شجرة تین عمالقة . أشجار الرمان تحیط بھا

. على مدار السنة تنبت قرب المنزل، مانحة إیانا ثمارھا. منزل مؤلفا من ثالث غرف وشرفة واحدةوكان ال

جدي الخمسة، ومنھم والدي، أن یكبروا بین وكان ألبناءآخر ألیف لنا، ھو جدرانھا ھذه، غیر بعید عن منزل

.منزل عائلة أمي

ھا ھنا أمضیت كل العطل الصیفیة، زمن طفولتي .وفتوتي

وأبناء عمومتي في األزقة، لعبت، ركضت مع أترابي وسبحت في النھر، الى. ي في أعمال الحقلوأعنت أم

تسلقت قمة الجبل ألرى جیدا، وعلى ذروة . أسف الواديالشقیف التي أحكم الصلیبیون بناءھا الجبل المقابل، قلعة

8

كانت ال تزال على الطریق المؤدي الى القدس، والتي .في عھدة الجیش اللبناني

إحدى بلدة الخیام، خالل وھكذا، تسنى لي أن أعرف نزھاتي الكثیرة، وھي الواقعة على بعد كیلومترات

كان یقوم في البلدة معسكر، مثلھ مثل . عدیدة من بلدتنابمثابة حامیة قدیمة من إرث أي معسكر آخر، وكان

وسط االستعمار الفرنسي، وثكنة منشأة على تلة مشرفة،وكان . شجر الصنوبر، وتمد سلطانھا على النواحي

امتدادا لقرى الجوار، حیث ام األوسعخراج بلدة الخیالمعسكر تترامى أرجاؤھا إال أنھا تلبث تحت إشراف

وال أزال أذكر ھؤالء الجنود الشبان الذین كانوا . ونظره. بحراستھ، حین تبادلنا وإیاھم بعض الكلمات یقومون

. الصدفة، في حینھ ولم یكن ثمة ظرف معین یحكم تلكي سوف یؤول إلیھا ذلك وما كنت ألتخیل الصورة الت

المسور بعد مضي خمسة عشر عاما على الحصن . الصدفة المذكورة

نعم، على ھذا النحو انقضت صیفیات طفولتي، في دیر .میماس، الى أن حدث االجتیاح اإلسرائیلي

من الطائفة األرثوذكسیة، واسم قریتنا مسیحیة، وعائلتناالمالك لمریم نھاعائلتنا العربي، ینبئ بالبشارة التي أعل

"أدالھیت"وقد اتفق أھلونا على أن تعنى العمة . العذراءوكادت ھذه العمة، لكثرة تقواھا أن . بتربیتنا المسیحیة

ولئن انصرفت آخر األمر، الى .تدخل سلك الرھبنةفي نظر "الراھبة التقیة"التعلیم، فإنھا قد ظلت تلك

ارسة وبغض النظر عن كوني غیر مم. العائلة كلھا

9

أنھا كانت خیر مثال وصورة لطقوس الدیانة، وجدتحان وكلما. عن الدین، ھنیة، ومسالمة، ومنفتحة الروح

موعد ذھابنا الى الكنیسة یوم األحد، ھمت األخت الى كنیسة الكاثولیك، ما دامت لتمضي بنا" أدالھیت"

ھذه، كنت بید أني، في أیام فتوتي. رعیتھم في جوارنا .ن على أنھ األعیاد الدینیة، لیس إالأنظر الىالدی

سبتمبر، من كل سنة، / ففي الخامس عشر من أیلول ، شفیع"ماما"كان الناس في قریتي، یحتفلون بعید مار

ما كنا لنفوت ھذا العید، . قریتنا، وكان ناسكا متعبدا هللاففي ذلك الیوم، تجد كل أبناء القریة، . اھتماماتنا أیا كانتللعمل أو الدراسة، قد عادوا إلیھا، في بیروتممن كانوا

العائالت ، شأن"بشارة"وكان آل . علىوجھ السرعة. األخرى في القریة، أثر عنھم حبھم للسمر والتسلیة

اللیل، رأیتنا منصرفین الى الطعام، حتى إذا حلداخل دیر والرقص، وإرسال األنغام، وسط الحوش

، والذي بدا رغم "ادیر مام"أنشئ على ذلك اإلسم، القریة قلیال، غارقا وسط غابات الزیتون انعزالھ عنفي . تعم الحاضرین وال تلبث فرحة العید أن. الدھریة

حین ترى الرجال یشربون العرق حتى یجانبوا التعقلوإذا انقضى . دموع العذراء أحیانا، وال تعف النساء عن

یئت النفوس المنوال وأقبل الصباح، ھ اللیل، على ھذاوالحال أن الدیانة .لالحتفال بالطقوس المالئمة وللزیاح

واالحتفاالت غالبا ما كانت تسیر جنبا الى جنب، متآخیةوقد یحدث أن تتواصل . وال سیما في األعراس

ویشارك فیھا أبناء القریة االحتفاالت لسبعة أیام بلیالیھا،میشال جمیعھم، لمناسبة زواج، كما جرى لزواج قریبي

!وقد عد ذلك حدثا فائق العادة. وكاترین

10

ففي طوایا الذاكرة .1976 وكان ذلك العرس، في العامینال من الجماعیة، كان ینبغي لالحتفال، أي احتفال، أن

التعظیم ما ینالھ العرس القروي الطنان، ما دام اإلثنان الى العصر الذھبي ذاتھ الذي حطمتھ الحرب، ینتمیان

في جھات الوطن باعدت بین الناس وبددتھمبعد أن .ومخابئھ ومنافیھ

العالم التقلیدي، وقد ذھب وكان جدي یجسد، وحده، ھذا فصور للناس، عن–صیتھ، في دیر میماس ألمد بعید

. حق، رجال عادال وشدید القسوة في آن، حتى الفظاظةیمازحني بأن " نایف"عمي ذات یوم، وبینما كان

المطبخ، إبنة األربعة أعوام، على طاولةأجلسني، أناوأخذ یدعوني الى الرقص ویجعلني أتمزز قلیال من

وكنت أحب العرق، رغم كونھ العرق من كأسھ، مشروب الكبار ممنوعا على األطفال، إذ دخل جدي

على حین غرة، مفاجئا عمي وممازحتھ، فما كان منھ إال رق أرضا، موجعة، وھشم قدح الع أن وجھ لھ ضربة

خوف وظل في نفسي. ولم یزل حتى صفعني، بدوريذلك أن . منھ، على الدوام، ولم أكن استثناء في العائلة

ھذا النحو، متجرئا على ضرب من یشاء جدي نشأ علىوما كانت كنائنھ . فتیات من أبنائھ، سواء أكانوا فتیانا أو

كان اولم. بمنأى، على الدوام، من إحدى لطماتھ العنیفةفالحا، في أغلب سنوات عمره، ورث في أیام شیخوختھ

ناطور الكروم منعا من : طباعھ مھنة رآھا على قردبتیقظھ ولم یجرؤ أحد من القریة على الشك. السرقة

.الدائم وسھره على ما ائتمن علیھ

11

القرن العشرین، أدرك جدي وإذ كان قد ولد في أوائل ان، وما بین الحربینعصر االنتداب الفرنسي على لبن

وظل یحتفظ، في أغوار صندوقھ حیث . العالمیتینللسلطات المحتلة إبان وثائقھ، بشھادة والء عزیزة

وبقدر ما كانت جدتي، سلیمة، تبدي. خدمتھ العسكریةامتعاضا وتذمرا من ھذا الحزب أو ذاك، لفرط ما كانت

ى بقدر ذلك رأیت جدي واقفا عل السیاسة آخذة بلبھا،ذلك، نشأت مع. وكأنما بغیر مباالة من السیاسة. الحیاد

وكانت ھذه األخیرة تحملھا على . بین الجدین منازعاتیبدي " حنا"ففي الماضي البعید، كان . الحاد االختالف

األسعد، وھو كبیر تقدیرا بالغا للنائب، أحمد بكإقطاعیي الجنوب، وكان عرضة للسخریة من زوجتھ

انت ال تزال تذكر ذلك الجواب المتعجرف ك سلیمة التيالمذكور معترضا بھ على الذي أجاب بھ النائب الشھیرر

مطلب الفالحین بضرورة افتتاح مدرسة في القریة، وھمإن ابني كامل، یدرس، وھذا "مقبلون على انتخابھ

."یكفینا

ومرت السنوات الطویلة، وظلت جدتي تؤدي لنا ھذا .كار نفسھا، ألمد بعیدالمشھد، بنبرة االستن

بیت أبیھ، فترك القریة الى لم تطل إقامة والدي فيأكون، وحین أجول في دیر میماس وأسأل عمن. المدینة

، فال أجد "فواز"أكون، أرد بأني ابنة " بشارة"وابنة أي . السائل ما ینم عن معرفتھ صاحب االسم في قسمات

، التي "نجاة"والدتي ونادرا ما زار أقاربھ، على عكسصالت . ظلت على صالت وثیقة بأقاربھا وبأصدقائھا

. تجھد في تمتینھا كلما تسنى لھا ذلك، أیام العطل كانت

12

أتیح لھا التردد الى القریة أكثر إنما یجدر بنا القول إنھمضطرا للبقاء مما تسنى لوالدي، بكثیر، ذلك أنھ كان

اتي في بیروت ألجل العمل، كلما ھممنا، أنا وأخو .مني سنا، بمغادرة المدینة الى القریة وأختي األكبر

كنا نیمم بھا شطر دیر ولعل ھذه االنطالقات التي میماس، كانت لنا بمثابة رحالت طویلة، حتى ولو كان

ذلك في بلد صغیر كلبنان، حیث المسافات بین المدینة في النادر، الخمسین أو السبعین والقریة ال تتعدى، إال

.راكیلومت

بالطبع، كنا نجول وفي أیدینا ولما كنا ال نملك سیارة،البالد، الى حقائبنا، تقلنا السرفیسات التي كانت تجوب

وكانت لنا رحالتنا ھذه، صیفا شتاء، وفي . مقصدنافي عید الفصح، مثابة أوذیسة عظیمة المیالد كماأحیانا لنبلغ قریتنا، وكان یلزمنا ثالث ساعات. التشویق

مع ما تقتضیھ الطریق من محطات إلزامیة نقف عندھا،ومن دروب كثیرة التعرج، كلما بلغنا نتوءات شدیدة

ففي صیدا، كنا نستوقف . الجبال االنحدار في أعاليثانیة السرفیس لنشتري الحلوى، وفي النبطیة، وقفة

لشراء اللحم، ونكون قد حملنا معنا الخبز من بیروت، ، إذا صح التعبیر، وكنت أستلذه "عصریا" وكان خبزا

كان یخبز لدى أضعاف ما یستلذ أھلي الرغیف الذيالضخمة التي " الطالمي"جدي، ھذه المعجنات أو

.الذي أوقدت ناره بزبل البقر الجاف تشوى على الصاج

نكن نعود الى بیروت، من دیر إال أننا، والحق یقال، لم یة فصلمیماس، فارغي األیدي، وال سیما في نھا

13

ففي أیام الصیف الطویلة، كنا نزرع، وفي . الصیفزرعت من خضرة وفواكھ أواخرھا تحصد األیدي ما

على أنواعھا، مما كانت زراعتھ شائعة، وكان استھالكھولم یكن أي بیت في القریة مھما صغر، معدوما . محلیا

واألرض معطاء، . للزراعة من قطعة أرض مستغلةوالبندورة، الذرة،: قبوال وحیاةوكل نبت یلقى منھا

بید أن . والباذنجان، والكوسى، والبصل، والصعتر .الزراعي جار على جودة زیتونھا صیت دیر میماس

14

العائلة

أتراه لیوم مولدنا األثر الكبیر على حیاتنا، أنا المولودة ؟ أو 1967یونیو / في الخامس عشر من حزیران

ؤال؟یسعني أن أطرح الس

واألردنیة في ھذا الیوم، كانت الجیوش المصریة،والسوریة، تجرجر أذیال الھزیمة على ید الجیش

جمال عبد الناصر في ھذه اللحظة وكان. اإلسرائیليمصاب بالذات، ومن القاھرة یقدم استقالتھ الى شعبولئن كنت . بذھول من رؤیة رئیسھ األسطوري یتھاوى

م العربي، فإني فضال عن للعال ولدت في یوم ھزیمةعام تزوج والداي. ذلك، آخر المولودین في عائلتي

فكان . ، وكان كل منھما في العشرین من عمره1958السنة التي تلت زواجھما، ثم أن ولد أخي عدنان في

عمر، أبصرت النور أختي حنان، وفیما بعد ولد أخي ولربما أتت تسمیتي. وفي آخر العنقود كنت أنا أخیرا

. تیمنا وطلبا لألمل–النجمة وتعني-، "سھى"

فلم یكن إال أما الرجل السیاسي األثیر لدي، في لبنان،فھو الشیوعي والنقابي، منذ مراھقتھ األولى، . والدي ، ألنھ ال یسعني القول إنھ صم "بال شك"أكتب .بال شك

.إنما على العكس من ذلك .آذاننا، صبح مساء، بالتزامھ

لالنخراط في ن والدي مستعدا، أتم االستعداد،ولما كا. أیة قضیة حق، فقد بدا صموتا، غیر محب للضجیج

مشاركا العائلة في كل األعیاد الدینیة التي ولطالما رأیتھ

15

احتراما ألفراد عائلتھ یحسن االحتفال بھا في القریة الكبیرة، ولم أكتشف انتماءه الى الحزب الشیوعي

ؤخرا، حین بلغت العمر المناسب الذي اللبناني إال مولم أجرؤ قط على سؤال . صفوفھ یؤھلني لالنخراط في

.أبي عن دوافع التزامھ ھذا

میماس، ولزمن بعید بالتأكید، كان أثر عن قریتنا، دیر أقلھ الى ما قبل–خلى، كونھا قلعة من قالع الیسار

أنھا قلعة للیسار، بید . 1978االحتالل اإلسرائیلي عام البلدة التي دفعت أبناءھا أشواطا كانت ، كذلك، تلكلتالمذة دیر وكانت النتائج الباھرة. بعیدة في التعلم

. میماس أرقى ما كانت تبلغھ في بلدات الجوار، قاطبةوالدي، الذي اضطر اضطرارا الى التوقف عن وكان

جندي، ال یزال یبدي الدراسة، إثر حادثة جرت لھ مع ولما كانت األوساط المثقفة من. لكتب وبالدارسةشغفا با

الحزب قد استھوتھ، وال سیما في نھایة الخمسینیات، خاطره، الى خطابھا الذي یعلي أخمن أنھ انتسب، بملء

.من شأن المواطنیة على حساب االنتماء الطائفي

مجال ومنذ أن وعیت األمور، كان والدي یعمل فيعة، یصف الحروف أو النشر بمثابة عامل في المطب

الى یومنا ھذا، وعلى الرغم من وال یزال. یطبعھا طبعاوالبارود، یمضي استحقاقھ تقاعدا، بعد كل سنوات النار

كل صباح الى عملھ، فما كان یھمھ من الحیاة، ھو أن كفاف عیشھ، وال تزال صورتھ في ذاكرتي رجال ینال

.استأثرت بھ مھنتھ كلیا

16

الخروج بأفراد م األحد حین كنا اعتدناما كنت ألراه یو عائلتنا، ونمضي مرات الى شاطئ البحر، أو غالبا الى

وحین باتت ھذه النزھات مستحیلة بفعل اندالع . أقاربناواالنفجارات، وجدت التزامھ وعملھ الحرب األھلیة

.مختلطین تماما، وعلى نحو مباغت

ملیات الع ولما كانت مطبعة الحدث دمرت في بدایةالقتالیة، فلقد عمل في مطبعة أخرى للحزب، وھي

والتي استمرت بالعمل، رغم كل ،"األمل"مطبعة كلھا، الظروف التي عاناھا القیمون علیھا خالل الحرب

وبذلك أمكن طباعة الجریدة الناطقة بلسان الشیوعیین، ، وحین عادت المعارك "النداء" عنیت بھا جریدة

اضطررنا زلنا ودمرتھ من ثم،لتطردنا خارجا من منالى النزول في أحد األبنیة العائدة الى ھذه المطبعة،

.نھائیا حیث أقمنا

مدبرة منزلنا أما والدتي، ذات الشخصیة القویة، فكانتالصغیر، فلھا كل القرارات التي تتعلق باألبناء، ولما

تعترض، مثال، على أن أمضي برفقة أصدقائي كانتیتوجب علي أن أتحین حدى الرحالت، كانالكشافة في إ

غیابھا عن المنزل ألستأذن والدي الذي ما كان لیرفضولقد حبت الطبیعة والدي طباعا یغلب علیھا . طلبا

البدیھة، تروي الحكایا، أو الفرح، فبدت لنا سریعة .ترمي بالدعابات، حینا بعد حین

ات انقطاع ولم تتذمر یوما من مخاطر الحرب وال منالمیاه والكھرباء، التي كانت تضاعف من مصاعب

حولنا، وال كانت تتأفف من موجات الحیاة، في ما

17

تكن أمي وبخالف والدي، لم. القصف المتالحقة علیناتھتم للسیاسة، وعرفت فیما بعد أنھا أدلت بصوتھا في

، لصالح الیسار، قبیل الحرب 1971 انتخابات العامراسخة لدیھا، یكن عن قناعةاألھلیة، بید أن ذلك لم

.بقدر ما كان إرضاء لزوجھا

الشیوعي والحال أن والدتي أدركت باكرا أن للحزبفھي لم تكد تنزع عنھا ثوب . طغیانا على زوجھاإلیھا والدي بأن ترتب الحقائب العرس، حتى أشار

برفقة لتلحق بھ الى سوریا، حیث أرسل سرا بمھمةاكسا صدر للتو آمرا بموجبھ عمي، إال أن أمرا مع

بالعودة، على جناح السرعة الى بیروت، المناضلینلم یمض على وبالتخلي الفوري عن زوجتیھما اللتینوظلت والدتي، . إنجابھما بكریھما سوى أیام معدودات

األیام، تزداد غیظا من تلك السیاسة، وشاءت على كر .أن تدفعھا دفعا عن منزلھا

منھا، صیت عائلتنا الحزبیة أسبقولألسف، كان وإبان انتخاب بشیر الجمیل رئیسا . وأرسخ من إرادتھا

، قدم الى الحي مقاتلون كتائبیون 1982 للبالد عامالنابي، مزدرین وأخذوا یرسلون في حقنا الكالم

محقرین، مرسلین زعیقھم من تحت نوافذ بیتنا الجبلي، بیت بشارة بشر، بشر، بشوره، : "كنا، مرددین حیث

."مقھورة

والحق أن الحظوة السیاسیة، التي كان ینالھا أحد المرشحین عن الیمین الماروني، كان یمثل انتكاسة

.للشیوعیین

18

یقیسون المخاطر منذ بدایة الحرب األھلیة، وجدت أھليوقد بدأت خیوط . التي تنجم عن االلتزام السیاسي

من في تتوالى منذ أن أطلق أول قناص، كا األحداثمنزلنا األول، طلقات على تسقیفة أحد البیوت القریبة من

/ ما سمي بخط الجبھة، وذلك في الثالث عشر من نیسانوكان ذلك القناص كتائبیا، أحد جیراننا . أبریل

قد زرع الرعب في الحي ،"عیسى"المعروفین، ویدعى وأصابت رصاصاتھ بالمقتل أشخاصا كثیرین، . بأسرهؤكد، حیال مخاطر المرور من أمام ذلك من الم وبات

عن العمل، وبالفعل القناص، أن تتوقف السكة الحدیدوخالل . كفت سكة الحدید عن العمل، منذ ذلك الحین

بأیامھ، جھدت المیلیشیات الموالیة لسوریا في طرد شھرالحي تمشیطا دقیقا، ذلك القناص، وجعلت تمشط

العائلة نبھ أھلي أنناوفي ھذه المناسبة، ت. وبسریة تامةالوحیدة التي تملك سالحا، سواء أكان مسدسا أم بندقیة

وقد . ولسوف یعدم الحقا. كان اعتقال عیسى حتى. صیدإعدامھ ال تتفق مع ما رسمت في خیالي سیناریو لطریقة

كنت أعتقد أنھ أعدم شنقا في حیھ، الموضع الذي. حصلمن یعتبر، وفي جمیع شھد طفولتھ، لیكون مثاال وعبرة ل

.نزال ملتجئین في دیر میماس فقد كنا ال. األحوال

الكتائبیین ولم تمض أیام حتى أتانا واحد من معارفنافھو على وشك أن یقتل في إحدى عملیات : لینذر والدي

أن الثأر إن ھو إال عملیة اغتیال منظم، یقوم علما. الثأراملین محجوزا شھرین ك وھكذا، بقي والدي. مقام الرمز

في المطبعة ویحوط بھ رجال من أتباع كمیل شمعون، ثاني قائد في حركة الیمین المسیحیة المارونیة، وھو

سلیم اللوزي من إخراجھ حتى تمكن، مالك المطبعة،

19

وكان. بسیارة تعود الى رئاسة الجمھوریة اللبنانیةفي حین لقي أحد أقاربھ . والدي محظوظا لنجاتھ

نفسھا، وھو كان یعمل، الفترة العصیبةمصرعھ في .كوالدي، في المطبعة

أبناؤھا خارج ولطالما كانت أمي مصرة على أن یكونالمنزل كلما التقى والدي بأخوتھ وأخذوا یتداولون في

غیر أن ھذا الحرص بدا ال طائل منھ، . السیاسة شؤونذات یوم ، . وما خصني أقلھ في ما خص أخي األكبر،

الع الحرب األھلیة، أقدم مدیر المدرسة،وقبیل اندالكتائبي بدوره، على توجیھ صفعة ألخي عدنان، ولم

من عمره، ألقوال نمیت الى أھل یكن قد بلغ الثانیة عشرالحادثة وكانت ھذه. الیسار، على حد ما وصفھا المدیرولم یكن والدي وحده . شأنا عائلیا یتوزع الجمیع تبعاتھ

" نایف" البنھ، إنما كان عمھ عما جرى مسؤوالومع . المسؤولیة الشیوعي، بدوره، مشاركا في قسط من

كونھ أصغر عمرا من والدي، فقد كان یعمل في .المطبعة، شأنھ

عملي فقل إنھا أما إذا شئت أن تصف األجواء في عائلةفأنت ترى كل فرد . مختلفة عما في عائلتنا اختالفا شدیدا

فضال عن كون . الحزب الشیوعيعائلتھ ملتزم ب منمناضلة " نوال"امرأتھ عمي محازبا، بالطبع، فأنت تجد

في االتحاد النسائي، وھي ورثت االنتماء الى الحزبوراثة، وكان لي أن أكتشف ھذا العالم في نھایة

صیفیاتي، خالل سنوات إذ قضیت معظم. السبعینیات. لمنزلاالحتالل اإلسرائیلي للجنبو، في كنف ذلك ا

عمي یأتي الصطحابي الى القریة حالما ترمي وكان

20

معھ في عالم آخر، وفي المدرسة بھمومھا، فأروح أتقلبحیاة ملؤھا االضطرات حیث یسعني أن أھتم لكل

كان منزل عمي مكانا تعقد فیھ اللقاءات الشؤون،على التعارف واالجتماعات، ویتواعد فیھ الناس

ألتقي بعمي داود الذي كان وغالبا ما كنت. والحدیثالحزب، بدوره، تشاركھ امرأتھ جملیھ مناضال فيجدتي وھي تروي وفیھ كنت أسر بسماع. االلتزام عینھ

لنا زفاف ابنھا داود بجمیلة، والعرس األسطوري الذي یوم نزلت العائلة من القریة لتطلب ید : لھما أعد

في لیلتھا األولى ، وكانت األخیرة تقضي"جمیلة" .إحدى المظاھرات السجن الشتراكھا في

وبنوال وھكذا، أتاحت لي الصلة بنایف، المناضل،نصیرة المرأة، وفي خضم الحرب، أن أكتشف ماھیة

لئال أندم على ما . العلیا، ومفھوم االلتزام الجدال، والمثل .أقوم بھ الحقا

الذي عملت وإذا ما كنت استمددت من أبي ذلك الشغفھ لدى أخیھ، فإني اعتدت منھ، وفي زمن على ترسیخوكانت ذكرى، من ذكریات . الكتمان مبكر، حس

قاعة الجلوس كنت ذات یوم، في. طفولتي، طبعتني جیدابرفقة أخي عمر وإحدى بنات عمي، وكان االثنان

فإذا بأحد األحذیة یطیر ویرتطم یعلبان ویضجان،وضاء ض بزجاج النافذة فیحدث ارتطامھ وتحطم الزجاج

فما كان مني إال أن اندفعت واإلثارة تقطع . عالیةوالدتي التي كانت في زیارة لھا أنفاسي، ومضیت الى

أروي الى إحدى جاراتھا، وقاطعت أحادیثھما، ورحت

21

لھا تفاصیل الحادثة، من دون أن تند عني أیة حركة، أو .ولم أتوقف إال حین ذكرت لھا الفاعل تصدر أي نأمة،

الى أي اعتراض على ما قلت، ودعتنيلم تبد أميفجلست والخیبة تالزمني، وأنا . انتظارھا في البیت

والدتي عتبة المنزل، أمرتني وعندما بلغت. صامتةدھر، لساعتین كانتا لي بمثابة. بالركوع في الحمام

ورحت أسائل النفس عما إذا كان ما فعلتھ یستحق ھذا . جھشت بالبكاءولدى وصول والدي، أ العقاب الشدید،

وبالمقابل دعاني فبادر، للحال، الى رفع القصاص عني،الى سؤال أمي عن الدوافع التي حملتھا على ذلك

فتوجھت لھا ثانیة، وأكدت لھا أني لست المذنبة، .العقابفخلصت الى إفھامي بأنھ ینبغي مما أغاظھا شدید الغیظ،

نبغي لي ی لي أال أروي حكایاتي التافھة لكل الناس، كما .بالمقام األول، أال أشي بأحد

الحادث في، ال یسعني أن أقیس بالتحدید مدى تأثیر ذلكبید أني قررت أال أبوح بأسراري ومشاعري األكثر

ألھلي، وال إلخوتي، وال ألختي، رغم حمیمیة وعمقا، .روحینا عاطفة األخوة والمحبة التي تجمع بین

وسمنا جمیعا بالحیویة، فإذا صح أننا أبناء عائلة بشارة، .فإنھ كان لكل منا طباعھ وشخصیتھ

انجرف لبنان ال یزال مراھقا حین" عدنان"كان أخي الى ھاویة الحرب األھلیة، التي عاش أدق أھوالھا حتى

فلما كان والداي یصران . 1978في العام لحظة سفرهالصراعات، استجاب على عدم إبقاء بكرھما في خضم

22

ألمر وغادر البالد لمتابعة دروسھ الجامعیة، ل" عدنان"جو من األمان، داخل االتحاد السوفیاتي في حینھ، في

لمداخیلنا المتواضعة، لم یكن فنظرا. في مدینة خاركوفالوالیات المتحدة حسباننا إرسالھ الى فرنسا، أو أقلھ الى

ومع أن العیش في االتحاد السوفیاتي كان . األمیركیةفي غیره من البلدان، إال أن أخي كان مما أرخص

. بصواب اختیاره وتوجھھ یفضلھ على ما عداه، یقینا منھكان الى ذلك، فنحن ندین لنقابة االتحاد العمالي التيوالحال . والدي عضوا فیھا، بفضل تأمینھا منحة ألخي

وفي . كفیال بتفریقنا لسنوات طویلة أن ھذا السفر كانشابة، تدعى ى عدنان بامرأةمدینة خاركوف، التق

وإثر . ، وھي قبرصیة یونانیة، أحبھا فتزوجا"تاسوال"مھندسین بااللكترونیك عاد الزوجان الى تخرجھمافي لبنان، غیر ومن ثم، سعى أخي الى عمل لھ. قبرص

أن عودتھ تزامنت مع مقتل اثنین من أصدقائھ، ما حملھ رأتھ، العودة الى قبرص واإلقامة في موطن ام علىغیرھا، ما كنت ألعرفھا وكل ھذه األمور وكثیر. نھائیا

.إال فیما بعد، إثر خروجي من المعتقل

ومع . تماما وأختي حنان تتمیز بشخصیة مختلفة عنيأنھا كانت طالبة مثابرة في علمھا، فقد بدت كتومة

ولطالما . تلتزم بالسیاسة، شأني وشأن أخیھا لم. للغایةكنت أسد غیبتھا لدى ھا، وأحیاناكنت حافظة أسرار

أھلي، كلما رغبت في الخروج مع صدیقاتھا وكانت فكان یزید في اطمئنان والدتي . حازمة في منعھا والدتي

ثم . أدعي بأني ماضیة معھا علیھا أنني كنت أرافقھا، أو أني كلما ظننت أنھ بوسعي خدمتھا، واجھت والدتي

أتراھا تلك كانت . بالقول إني موافقة على رأي أختي

23

خالل سنوات الحرب . سرنا حقیقة أمرینا؟ ذلك ھوقصة األھلیة، استمرت الحیاة كیفما اتفق، وعاشت حنان

وكان األخیر یجھد . حب مع أحد جیراننا ویدعى بیارنفسھ بأنھ غریب األطوار بعض في إعطاء إنطباع عن

والدي، وما كان صیتھ، اآلنف، لیخدمھ لدى. الشيء جلسات العاشقین، والناس نیام، كانت تطول، غیر أن

وظل . بالحب تبلغ شرفتنا من شرفة بیتھ وكلمات البوحالى أن تسنى الحال على ھذه الصورة أشھرا طویلة،

.لھما الخروج من خفائھما، وتزوجا

في معتقل كنت. غیر أني، لم أكن ھنا ألشھد زواجھماإذ قرر . لحیاةأما أخي الثاني عمر فكان محبا ل. الخیام

الدراسة باكرا، بعد نیلھ شھادة الباكالوریا، التوقف عنفاختار، شأن والدي مھنة .قائال أنھ یفضل العمل

الطباعة، حتى صار مختصا بالتنقیحات الالزمةغیر أن الحرب أحدثت انقالبا جذریا في حیاتھ، . للصور

.1983الذي تعرض لھ حینا عام وال سیما بعد القصف

لجأ الى الطابق في ھذا الیوم، ولما كان القصف شدیدا، الثاني ، بینما بقیت أنا برفقة أختي وأبي في الطابق

وبلغ القصف من الشدة بحیث عجزنا عن . الثالثاختارت اللحظة غیر بلوغھما، ألن حنانا كانت قد

وكان أن أصیبت والدتي، خالل ھذا. المناسبة لالستحمامما . بالغة بشظایا قذیفة في مرفقھاالقصف، إصابة . المستشفى للمعالجة، ثالثة أشھر استلزم إقامتھا في

فكرة وبعد تلك الحادثة، جعلت تلح على ذھن أخيوھي مغادرة لبنان، وكان لھ ما أراد في . واحدة ال غیر

ولكونھ منفیا والجئا الى جمھوریة ألمانیا .1985العام

24

لسرور أن یعاین سقوط جدار ا الفدرالیة، فقد سره غایة .1989برلین، في العام

عند ھذا الحد، ال یسعني أن أفصل أحداثا لم تصلني منھا .إال األصداء، وأنا في عزلتي اإلجباریة

منھم ببعض والحق أنني أدین ألخوتي، وألختي، ولكلأنا أصغر أخواتي، التزمت في السیاسة . من طباعي

ى مثال حنان، التي كانت ریاضیة عل شأن عدنان، وكنتاللغة العربیة معلمة للریاضة قبل أن تعاود دراساتھا في

وآدباھا، وأعشق الحیاة، مثلما یعشقھا عمر، كانت . تحتل حیزا كبیرا من اھتماماتي ونشاطاتي الریاضة

ثم انصرفت الى فجربت أول األمر ألعاب القوى،لة، فیما الریاضات الجماعیة مثل كرة السلة وكرة الطاو

.من غیر أن أھمل التمارین الریاضیة الجسمانیة بعد،

كانت الریاضة تمدني بشعور من الحریة عارم، بل كان لھا الفضل في بقائي وصمودي في سنوات أسري

.الالحقة

. في الدروس وأراني كذلك مدینة ألختي بحس المثابرةولما كان لي الحظ في أن أتلقى علومي في المدرسة

ومن بعدھا، في الثانویة، آلیت على نفسي أن ائیة،االبتدوكانت كل المواد . الغالب أكون األولى في صفي، على

میال تستھویني، حتى لو كنت میالة الى المواد العلمیة،ووجدتني أركز على فروضي ودروسي . صارخا

لي حمایة من كل أتممھا، ما دامت والدتي وفرتوكان من . تحدق بناالتقلبات والمخاطر التي كانت

25

لنا بمكان أن نستقبل أصدقاءنا، لضیق مسكننا، الصعوبةالترویح عن النفس فكنت أستعیض عن ذلك بشيء من

في الخارج فأتاح لي ذلك الجو أن أمضي وقتا طویال فيبید أن تجلیي في مواد . تحضیر دروسي بمفردي

وبزمن مبكر قیاسا الریاضیات أتاحت لي أن أصیر، أخوتي، مستقلة مادیا عن أھلي، لما كنت أكسبھ علىوما . الدروس الخصوصیة، منذ سن الثانیة عشرة لقاء

یتكاثرون وعائداتي من برح صیتي یزداد، وزبائني التعلیم تتنامى، حتى أنني كنت أقوم بمصاریفي ومعاشي

فیما مضى، . وأنا لم أتجاوز الرابعة عشرة من عمرينني بالمال كلما احتجت الى یمدا كان أخي عمر وأختي

في شراء غرض لي، وفي ھذه األثناء كان أخي یعملالمطبعة لحیازة بعض المال، بینما كان ألختي الحظوة

وسرعان ما ذاع لي . تعلیمیة في أن یكون لھا منحة صیت متواضع في حینا لما كنت أقدمھ من دروس، :وھذا ما أثلج صدر أمي التي ما برحت تقول في سرھا

معظم أوقات فراغھا في التدریس، ھا إن ابنتي إذ تقضي وفي تصحیح فروضھا، تلھو عن السیاسة وال تجد

.الوقت الكافي لھا، أقلھ

في ثانویة مع ذلك، انتخبت ناطقة بلسان صف البنات،. فخر الدین الرسمیة، وأنا لم أكن تجاوزت الثانیة عشرة

فقد المدرسة قریبة من خطوط القتال، وعلى كونتعد بین حافظت على مستوى تربوي جید عامة، وھي

أھم الثانویات الرسمیة والخاصة في العاصمة، والحال الدین لم تكن مجرد مدرسة عادیة، إنما أن ثانویة فخر

النقاشات واألصداء كانت أشبھ بمكان تترجع فیھ كل. السیاسیة التي شكلت لب الصراع الدائر في الشارع

26

. الجتماعیة الموسیقیة فیھا حضور كثیفللحیاة ا وكانوالحفالت الموسیقیة فكانت أما األعیاد والمناقشات

فخر " كما كانت. تتوالى فیھا فصوال، وفي وتیرة متصلةفي قلب كل المظاھرات في بیروت، ولھذا " الدین

.وجدتني كثیرة التعلق بھا

ألنني كنت، انتخبت ناطقة بلسان التلمیذات، من صفي، شك، أكثر الفتیات حیویة كلما اقتضى األمر تنظیم بال

باألعیاد، وألنني كنت أمثل الصف في االحتفالاكتشفت مبدأ ثبت لي وللمناسبة،. المسابقات الریاضیة

وھو أن الناس توكل مسؤولیات الى: صدقھ فیما بعدال أحب . األكثر حیویة، أیا تكن أذواقھم ومیولھم حیالھ

اآلخرین، وال قیادتھم، وال أخذ لىإصدار األوامر اوعلى مر مع ذلك،. القرارات التي تلزمھم إلزاما

األعوام، رأیتني مضطرة الى قبول ھذا النوع من الشیوعي اللبناني، والذي باشرت من الحزب. المھام

أنني عینت، كما. النضال في صفوفھ، في الفترة نفسھاه الحركة، وذلك بخالف إرادتي، في المجلس الوطني لھذ

في حین كنت . قلیلة من تولي المھمة األولى بعد سنواتالمسؤولیات، ألعمل في راغبة في أن تطلق یداي من .حال من الكتمان والصمت

في أحد في السادسة عشرة، اشتركت للمرة األولىالمخیمات الكشفیة العائدة إلتحاد الشباب الدیموقراطي

ترتاب كثیرا من ھذا أمي التي كانت من دون رضىقائما في الجنوب وكان المخیم. التنظیم الصدیق للحزب

ولما كنت مسؤولة عن . من بیروت، قریبا من البحرالمخیم، قصدتھ في أیامھ األخیرة، ألكون على بینة مواد

27

اللیلة األخیرة، ومع أن وخالل. من تحضیرات الرحیل "بغارة"م قررنا القیا. عدیدنا كان ستة كشافة فحسب

. على المخیم المجاور، وكان لتنظیم تقدمي آخر. اھتمام الحرس فاقترحت على رفاقي بأن نحول

وبحسب القواعد المرعیة اإلجراء كانت محاولة خداع وتحویل انتباھھم أمرا مسموحا، إللقاء القبض الحراس

وكان المخیم . العدة على بعض الكشافة أو لحیازة حو ینال حظوة وشرفا، ألنھ أثبتالغازي، على ھذا الن

.تفوقھ

الحرس، وبي فتقدمت نحو. كان الوقت منتصف اللیلكان . ترفع مزعوم، فاصطنعت اكتشاف موقعھم

وطمأنتھ أني أقوم بدوري تعارفنا. الحارس صبیاعلیھ بالحراسة في المخیم الذي ینظمھ اإلتحاد واقترحت

ألجل أن أن یأتي بصحبتي لیشرب الشاي في خیمتنا،فما كان أیسر من وقوعھ في الفخ، .یریح قدمیھ قلیال

رفاقھ یغطون في وفي ھذه األثناء، وبینما كان. ورافقنينوم عمیق، جعل شركائي ینتزعون خیمة من خیم ذلك

ویحملون معھم ثالث جرار، ورقعة شطرنج التنظیم، .إلیھا وآلة ستیریو مع مكبرات الصوت العائدة

المسلوبون وم التالي، إستغرق الكشافةفي صباح الیفأعلنوا . زمنا یسیرا ثم أدركوا أن الدائرة دارت علیھم

ولم یلبث أن روى لھم الحارس ما . في صفوفھم التأھبالى مخیمنا تطالب جرى لھ، فأرسلت، إثر ذلك، بعثة

.بمقابلة الفتاة، بمقابلتي، عبثا

28

إال أن . خیمةال إذ كنت أرقب الحدث، من وراء نقاب قائدنا الشھم علي، رضي بأن یرد لھم العدة المأخوذة

باستثناء رقعة الشطرنج، التي أرادھا أن تكون غنیمة الخصم على اختطافي ثأرا وعلیھ عزم المخیم. حرب

.لإلھانة التي لحقت بھ

.ولكن األمر كان مقضیا إذ حملنا رحالنا ومضینا

.ة من الصوركان ذلك أول إنجاز حربي لي، بصور

29

الحـــــرب

أما اآلن، وقد ذھبت .السادسة عرفت الحرب وأنا في من عیني التماعات الطفولة، فال أزال أحمل في خاطري

كنت في . ذكرى اندالعھا الدقیق والعصي على التصدیق .العطلة الصیفیة وكان أوان. دیر میماس

عام سبتمبر / أیلول كان ذلك في الخامس عشر من وكالعادة،. ، وھو یوم االحتفاالت بعید مار ماما1973

كنا نتوزع غرف البیت الكبیر، نحن وجمیع أبناء المنزل خمس نساء وخمسة وكان في. عمومتي وجداي

وعشرون ولدا، یعمرون البیت بضحكھم وغنائھمبینما كان آباؤنا جمیعھم یعملون في . المتواصلینلقاھم في الیوم التالي، بعد ن وكان یفترض بنا أن. بیروت

.رحلتنا البریة المعتادة

وال . لنا محض صخب وقصف غیر أن ھذه اللیلة، كانت ، و"غارات: "أزال أذكر أنھ تناھى الى سمعي كلمتان

وتبین لنا أن الطیران اإلسرائیلي مضى ". إسرائیلیون"لمنظمة التحریر الفلسطینیة التي یكیل ضربة قاسیةالطائرات تغیر ات في الجوار، وراحتكانت تقیم مخیم

على دفعات، موجھة حممھا الى جوار البلدة، وعلى وكان یستحیل أن یغمض لنا . عشرة ساعة مدار اثنتي

ھذا األمر سعت وحیال. جفن لشدة التوتر الذي كنا فیھوالدتي وعماتي الى إلھائنا، بأن جعلن یخبزن على

إال أننا . یروتوأعدت المونة لعودتنا الى ب .التنور .اللیالء التھمناھا في أثناء لیلتنا

30

السرفیس، أعلمنا السائق أن وفي الغد، حین تسلقنا متنمقطوعة، الطریق الرئیسیة المفضیة الى بیروت باتت

إذ أصابت القنابل . على بعد عشرین دقیقة من القریةالخردلي الذي یربط المنطقة بسائر اإلسرائیلیة جسریمر نھر ولم یكن ھذا الجسر الذي. أجزاء البالد

كان جسرا خشبیا، . اللیطاني تحتھ شأن كل الجسورالتي تعبره تحدث لدى مرورھا صدى وكانت السیارات

ال . أي جسر آخر وأصواتا ال یمكن أن یلقاھا المرء فيوھو یشكل جزءا من . یزال صوت ذلك العبور في أذني

مثل لنا على امتداد تلك اإلشارات الطریقیة التي ت آالفكان الجسر مدمرا، بات لزاما ولما. المسیرة المألوفة

عطفة . الشرق علینا أن نسلك طریق البقاع، القائمة الىطویلة كان لھا أن تستغرق منا ساعتین لنبلغ بعدھما الى

.أخیرا بیروت،

ولسوف یكون علینا أن .وظل جسر الخردلي مدمرا، كلما عزمنا على العودة الى نتعرف الى طرق جدیدة

.میماس، غیر أن ھذا الفراغ لن یجد لھ إشباعا أبدا دیر

الحرب، بعد سنتین من ذلك وكان مقدرا لي أن أالقيبین والى المعارك شبھ الیومیة ما. الزمن، وسط قریتي

اإلسرائیلیین والفلسطینیین أضیفت المعارك بین ة مشھودة بالقصف وكانت أول لیل .اللبنانیین أنفسھم

بال شك، كان الوقت. باغتتنا ونحن ال نزال في المنزل، وھو 1975أبریل عام / في الثالث عشر من نیسان

علیھ لكونھ یؤرخ لبدایة الحرب تاریخ بات متعارفافي حي كنا نقیم في منزلنا األول، الكائن. األھلیة

فأجبرتنا اإلنفجارات على . غالیري سمعان قرب الشیاح

31

وكانت طلقات القذائف تنیر . الجیران اللجوء الى أحدالنافذة ألعاین ورحت أمد رأسي عبر. سماء ذلك اللیل

البروق وخطوط النار التي كانت تنطلق من القصر بعید عن منزلنا، رغم أن تطلع الصغار الرئاسي، غیر

. مشھدا رائعا، لعیني كان محظورا، لسالمتھم، كان ذلك قمنا جمیعنا في غرفة ضیقة، وكان ھذاوعلى ھذا، أ

. الوضع غیر المتوقع والفائق العادة، یفتنني أیما افتتانالخشیة والذھول في عیون الراشدین بالطبع، كنت ترى

یكفون عن ولم یكف والدانا عن ترداد أنھم سوف. منااإلشتباك، وأنھ ینبغي أال نخاف، في حین أنھما ظھرا

مان لیحفظا معنویاتھما وظال یتكل .شدیدي القلقتتحسن في وجعال یقوالن إن األمور سوف. واآلخرین

.الغد، ویعود كل شيء الى طبیعتھ وھدوئھ

ولم یكونا یعلمان أن ھذه اللیلة سوف تستمر خمسة عشر .عاما بأیامھا وأحزانھا

األسابیع والتفجیرات وكان لي أن أكشتف على مر استھداف المدن، ومنالمتالحقة ھذه الریبة الناجمة عن

.القصف العشوائي الذي كان یطاول السكان المدنیین

في ختام سنتنا الدراسیة، في ومما أذكره حدث جرى لنا وكان المعلمون. یونیو من العام نفسھ/ حزیران

فإذا المعارك األخویة تندلع في . یسلموننا دفاتر عالماتنا. درسي لناحدا نھائیا ألول احتفال م المدینة، واضعة

رعود . منزلنا فاندفعنا للتو خارج المدرسة باتجاهوطائرات، یشار إلیھا . عظیمة كانت تمزق السماء

. بوسع أحدنا أن یتمیزھا بوضوح وكان. باإلصبع

32

األلعاب وللحال حضرتني تحذیرات والدتي بأال نمسالتي یمكن أن نجدھا على الطرقات أو في األراضي

اللبنانیة أوردت خبرا عن انفجار اإلذاعة وكانت. البورالعائالت حصل في الجنوب، وأخطرت في إثره

بضرورة التنبھ لألشیاء التي یرمیھا اإلسرائیلیون بمثابة وركضت والتفت الى الوراء ألصیح . متفجرة أفخاخ

. نسرع الى منازلنا بابنھ عمي بأال تلمس شیئا وأن ولم أدر أذ كان. وخلت أن خلفي جسما قذف بھ اإلنفجار

.الشخص أصیب بالقصف أم قتل

كنت قد خبرت حقا ھذه الیوم، ما عدت أعرف إذا الحادثة، أو شاھدتھا على شاشة التلفزیون، قبل أن

.تخالط صور طفولتي األعظم رسوخا في مخیلتي

فتئت المدرسة تتعرض لھذا وبدءا من ھذه السنة ما في المرة.االنقطاع الذي صارت تفرضھ المنازعات

. األولى شأن الحقاتھا، لم یكن أحد یعلم شیئا عما یحصلالمعلمون یوقفون الدروس؟ وألي سبب وألي سبب كان

والوقت ال كنت ترى األھل منتظرین في باحة المدرسة،یزال صباحا؟ وألي سبب كانوا یأتون ألخذنا؟ وما كان

.لیلقى إجابة منطقیة تفسره أي سؤال

الناس فیھا یتوقفون عن العمل ة التي كانكانت تلك الحقبأشغالھم، دون معرفة المدى الزمني الذي یعاودون بعده

والتي ال یعود فیھا المرء وحده الى المنزل، والتي ینبغي توقع مجيء األھل الىالمدارس لیتمكنوا من فیھا

تلك الحقبة التي كانت. اصطحاب أبنائھم الى المنازلأال یأتي أحد : بالخوف نفسھاستشعرت فیھا كل مرة

33

ھذا الیوم، وأرى نفسي متروكة وحدي الصطحابيجمیعھم، وكان األطفال. وسط القذائف واإلنفجارات

على حد علمي یتملكھم ھذا الخوف، وحتى لو رأیتھم واحدة بعد أن یلمحوا صورة والدھم أو یضاحكوننا لثانیة

ولم النحو، وظلت الدراسة طویال على ھذا. والدتھمیتسن للتالمیذ أن یتابعوا سنتھم الدراسیة، بعدئذ، الى

وما كنا لنعلم في صبیحة توجنا الى . المرجو ختامھاوكان . من المشاكل المدارس أن یومنا سیكون خالیا

القیمون على التعلیم لدینا یختصرون لنا الفصول إذ یوزعون لنا دفاتر عالماتنا على نحو الدراسیةالمعارك التي ال بعض لیعید صفھ بسببوكان ال. مفاجئ

عد لھا، والتي أخذت تندلع بین فصیلین حلیفین سابقا وقد .صارا الیوم ألد عدوین

. 1977الحال حتى كان العام وظلت األوضاع على ھذه. الحالي وفي خالل ھذه السنة أقامت عائلتي في المبنى

ولكني إستمریت في ارتیاد مدرستي، حیث كنت سجلت سبتمبر، والقائمة في مار مخایل، غیر / ي شھر أیلولف

بعیدة نوعا ما ولما كانت المدرسة. بعید عن خط التماسعن منزلنا الجدید، شاءت أمي أن توفر لي سیارة

من نوع المارسیدس الرمادیة یقودھا ، وھي"تاكسي"یأتي إلینا فكان. رجل سكوت، في األربعین من عمره

المدرسة، ویعیدني منھا الى أسفل ویقلني كل یوم الى وذات یوم، وفیما كان السائق یعود بي، بعید . لدینا الدرج

أربعة إذ بنا نقع وسط الظھر، وفي معیتي ركابالمخیم المعركة وتبادل القذائف المدفعیة على مقربة من

الفلسطیني صبرا وشاتیال، حیث كان السائق معتادا على وضاء وصعدت غبائر وتعالت الض. تلمیذین إنزال

34

فأصیب كل . الشارع اإلنفجار حتى أعمت السائق وسط وسرعان ما انفجرت قنبلة. من حولنا بالذھول والرعب

وبات كل من في . وأخرى انفجرت أمامنا. وراءناواألرض اھتزت من .السیارة یصرخون ویولولون

ولربما سقط . وكان في األرض قریبا منا، جرحى. تحتنا الناس یھرولون صائحین، ویتراكضون ورأیت .قتلى

وقد أصابھم الجنون من كل اتجاه أما السائقون بدورھم والھلع، فراحوا یطلقون زمامیرھم ویسرعون ما أمكنھم

ومضى . لیشقوا ألنفسھم مجاال للنجاة وسط الحشودیتعرج سریعا بین الحواجز السائق بسیارتنا وراح

شاطئ د بنا، الىحتى أمكن السائق أن یعو. والحرائقاألمان سالمین مع أن ذلك الیوم كان من أخطر ما

.عرفت من أیام مرعبة فیھا شھدتھ بیروت وأشد ما

ذلك أن .لم یعرف أھلي شیئا مما حدث لنا ذلك النھارلساني كان أقل طالقة في ما خص حیاتي، ولم أرو لھم

.ھذه العودة الخطرة والشاقة

، جعلت 1975 من العام بدءا وفي زمن لیس بالطویل، الحرب تفرض علینا مبادئھا، وسرعان ما صارت لنا

وأول ھذه المبادئ أن نحتمي جیدا، ما . بمثابة الطقوسنلبث أن صرنا قادرین على تخمین أمكننا، وعلیھ لم

حال تجدد الوضع األكثر أمانة، حیث یسعنا أن نختبئو وكان یفترض بھذا المكان أن یبد–القصف علینا وقائما بین جدارین على األقل، تخفیفا محصنا للغایة،

شقتنا األولى لم تكن وألن. من عزم الصواریخ المحتملة إنما كانت على العكس، أكثر(تتمتع بھذا االمتیاز

، كنا نضطر )المنازل تعرضا للقصف وطلقات القناصة

35

جارنا في الطابق نفسھ، وقایة من دوما الى اللجوء لدىلیالي التي وسعھا أن تتأبد ل القصف المفاجئةأعما

غیر أننا سرعان ما أخذتنا . طویلة ال عد لھا وال حصروفي فترة . ونسینا الحذر، وأھملنا المخابئ رتابة األمور

األطعمة على اختالفھا وجیزة، صرنا خبراء في تخزین وكان لنا أخیرا، أن نكتشف. والمؤن على أنواعھاا المختلفة وعیاراتھا ومصادر األسلحة، وأنماطھ

تبینھا كلما سمعنا صاروخا أو انطالقھا التي أمكن لنا .سالحا آلیا

مثل ذلك . األخرى والحرب تفرض كذلك جوانبھاطقطقة األلحان الخاصة باألنباء المعجلة في اإلذاعة،

. أدركنا تصعیدا للكراھیة والعنف في المعارك كلماذاعیة الناطقة الرسمیة اإل وكان لكل معسكر محطتھ

التي باسمھ، وكان من الیسیر أن یحلل المرء المعلوماتوصار انقطاع المیاه . یدلى بھا حالما یعرف الناطق بھا

وتوالي انقطاعھما حینا بعد آخر، القاعدة والكھرباء،وتعلمنا أن نعمل بما ھو قائم، .التي اعتدنا على اتباعھا

الحرب وكلما رسخت. رةأي أن نحیا من دون أمور كثیفكنا . من وجودھا بیننا، ازدادت تقنیاتنا وبراعاتنا

تملیھ علینا السنوات بالشموع أو نستضيء بحسب ماالمستفیدین من "میول"بالكاز، أو بالغاز، وبناء على أما تخزین المیاه فكان . األوضاع، وقد فرضوھا علینا

ضغط المیاه ذلك أن . ذاتھ مسائل شائكة للغایة یطرح فيدفعھا من الشركة، فتعجز ھذه غالبا ما یكون ضعیفا منذ وبعد الصفائح اآلخذة. عن بلوغ الطوابق العلیا

باإلتساع، والتي نملؤھا في الطابق األرضي، یأتي دور دویھا متصال بعالمنا الصوتي محركات الضخ، فیصیر

36

الخزانات الجدید، أوال لتغذیة القساطل ومن ثم لملءوأدركت في برھة . ین یطول انقطاع المیاه أیاما كثیرةح

الحرب تشیع االنعدام في المساواة بین قصیرة، أنوالمقدار عینیھ من الناس، على نحو ما یؤدیھ الموت،

فكان األكثر غنى مقتدرین في كل شيء، ولم. الیقینیحرموا شیئا، وكانت محطات الضخ لدیھم ومولدات

وبالمقابل وجدت . االختالل ھذاالكھرباء تنطق عن بالتعلیق .الفقراء مضطرین الى سرقة خطوط الكھرباء

على خطوط الشركة التي ال تزال عاملة، حتى أن التعلیق في حینھ، یجد خیوطا ھائلة الناظر الى ظاھرة

في كل شوارع أشبھ بخیوط العناكب العمالقة وقد امتدت .بیروت وأزقتھا

فاكتشفنا . تفرض أسماءھا أنوكان للمعارك بدورھا على مدى األسابیع القلیلة التي تلت اندالع الحرب

–القناصة، والمھجرین، والالجئین : الكلمات التالیةأعمال القصف من السكن في أمثالنا ممن حرمتھم

للمنطقة وفیما بعد، وإثر احتالل إسرائیل. منزلھم األولشمالیة، ارتفعت الجنوبیة المحاذیة لھا حمایة لحدودھا ال

الالجئین الى بیروت وضواحیھا، وسرعان ما أعدادبتبدیل المواقع ونشأ ما یسمى. بلغت عشرات اآلالف

والمنازل بین الذین فروا من المعارك في بیروت، بیوتھم فارغة، وبین الذین احتلوھا لحرمانھم من تاركین

والحال أن سكان . مطالبھم كل شيء، ویأسا من إحقاقعالما وب الذین حلوا حدیثا في بیروت اكتشفواالجن

مدینیا كامال، تعمره األبنیة في ورطة مقیمة، وال نملك فقد رأیت والدي متصدیا لھذه التجربة، مانعا إیانا منزال،

.ھجره سكانھ، حتى ولو أیاما قلیلة من اإلقامة في بیت

37

، فقد )اللبنانیین بالطبع(الالجئین وإذا ما شئت أن تصفحشیت صح وصفھم أنھم صفوف من السیارات التي

بالعلب وأغراض النوم والمالبس، وباتت على أھبة القتال، كلما اندلعت المعارك أو الفرار من ساحات

، حملنا 1975 وحین غادرنا منزلنا األول، عام. عنفتمعنا البراد والغسالة وبعض قطع األثاث، سریرین

تنیات البائسة أن تظل في دیر لھذه المق فكان. ومقاعدتعود العائلة میماس، حیث أودعت في مكان آمن ریثما

غیر أن ھذه األخیرة . أدراجھا مطمئنة الى مصیرھاأصابنا، فرأیتھا تلحق بنا في كل منافینا، أصابھا ما

مھجرة، والجئة، وسیئة منھوكة وتائھة شأننا، أغراض صندوقھا، المزاج، قابعة على سقف سیارة، أو في

راحت، شأننا، تعد خسائرھا الحقیقیة، والتي .المتالحقة ، في اإلنفجارات أو الحرائق"أمواتھا"و

میماس أول ملجأ لنا من معارك إذا، كانت قریتنا دیرتصرفنا ولم نكن الوحیدین في. الحرب األھلیة األولىإذ عجت القریة بسكانھا وأبنائھا . ھذا حیال المعارك

حتى رأیت كل امرئ جاھدا في . المدینة عنممن نزحواوكان . الى حین اإلقامة، كیفما اتفق، في كنف عائلتھ

علي أن أسجل في مدرسة دیر میماس االبتدائیة، في أخواي وأختي الى ثانویة مرجعیون، البعیدة حین مضى

فقضینا سنة في القریة، .عن قریتنا كیلو مترات معدودة .ن ضوضاء الحربھي من العمر، بعیدا ع

إذ . ھزني حادث في الصمیم وفي خالل ھذه اإلقامة، على قتل والدتھ" سمعان"أقدم أحد جیراننا ویدعى

ذلك أن . ولم یكن في القتل ما یدل على السیاسة". لور"

38

الرائع، ذھبت ضحیة الشائعات في ذات الجمال" لور"" سمعان" ولما كان ابنھا. ما خص عالقاتھا وتصرفاتھا

ینا بشرف العائلة رأى أن ینتقم ممن لطخت سمعتھا، ضنوكنت في ھذه األثناء أزور . من بندقیتھ فأرداھا بطلق

الفتي، " لور"ابن منزل المغدورة، الھیة مع ابراھیم" لور"والمریض عقلیا، وكنت أول من وجد جثة

فكانت ھذه القتیلة أول میت أنظره . بدمائھا المضرجة .القرببعیني، ومن ھذا

تجنب ھذا الملجأ األمین من غیر أن الحرب لم تشأ أن فبعد سنتین من عودتنا الى بیروت، عام. شرورھا

، قرر اإلسرائیلیون اجتیاح الجنوب لیبعدوا 1978في البدء، . عن حدودھم منظمة التحریر الفلسطینیة

رمت الطوافات بالمناشیر، داعیة سكان دیر میماس الىیت غالبیة سكان القریة وقد لجأت الى فرأ. الھرب منھامنھم صوب القرى المسلمة، لقوا ومن اتجھ. البراري

یبق في ولم. ترحابا منھم وإقامة على أیسر ما یكونالبلدة إال بعض األشخاص، المعتصمین ببیوتھم، من

وما أن ھدأ القصف . العشرین شخصا دون أن یتعدواالملتجئین یعودون الى قلیال حتى رأیت أعدادا كبیرة من

. دیارھم

غیر أن دیر میماس ظلت ألمد بعید ، محتلة من قبل .الجیش اإلسرائیلي

، 1976وتحدیدا في خریف العام وبالعودة الى بیروت،لتتوقف إال وما كانت. باتت اإلشتباكات خبزنا الیومي

صارت الحرب . خالل آونات وقف إطالق النار الھشة

39

تقیس األیام بمقیاسھا وتمحو السنوات .یومیا لنا شأناال یمیزھا بعضھا عن التي تشابھت في ذاكرتي حتى ما

فھي أي الحرب، تخلطھا خلطا برعودھا. بعض إطالقاوھي تحفظ لنا أحیانا بعض . وصرخاتھا التي ال تنتھيفعلى سبیل المثال كنت . والعبثیة اللحظات غیر المتوقعة

المشھد، ظرنا في امتدادمرة برفقة أختیى نلقي بنوعصر ذلك الیوم بھي الصفاء، إذا بي ألمح بطاریة

بعد مئات األمتار من منزلنا، مدفعیة قائمة على فأخطرت أختي بذلك وبي قلق من ذلك المنظر،

ولكني . فأجابتني مغتاظة، بأن ما أقولھ محض ادعاءفوھة الماللة أخذت تتحرك، سرعان ما انتبھت الى أن

أن أرى قائدھا یوجھھا شطر بیوت الحي حیثوھالني وما كدت أحذر أختي من ھول ما ینتظرنا حتى . نحن

أصابت القذیفة منزال مجاورا فقد. اھتز الفضاء حولنا .لمنزلنا وكان سكانھ لحسن حظھم قد غادروه

. لي المعارك عن وجھ مختلف وكلما تقدمت سنة تكشفت تحاد الشبابوقد تسنى لي بفضل انتسابي الى إ

الدیموقراطي أن أشھد فصول ھذه المأساة، التي بدت وإذ انخرطنا في الدفاع المدني، .مستمرة الى ما ال نھایة

الفضل في الذي كان للصلیب والھالل األحمر اللبنانیینتنظیمھ، رحنا نمد ید العون الى الجرحى واألشد فقرا،

محرومین من كل شيء وھي في مخابئ ممن كانواالدیموقراطي إال أنني مضیت في اتحاد الشباب. بائسة

.أبعد بكثیر من ھذه األعمال اإلنسانیة

العاملین في المستوصفات القائمة وكنت غالبا ما أشاركبالجرحى ممن وكنت أغسل الثیاب، وأھتم. في األحیاء

40

جروحھم طفیفة، وحتى لو كان الشباب المنتمون الى ل ما تعنیھ ھذه الكلمة، فقد شیوعیین بك االتحاد، غیر

.اعتبرنا المقاتلون مناضلین

إنما . في الحرب األھلیة، ال یسعك أن تبحث عن النشاط .النشاط ھو ما یستدعیك

الى موقع قتالي 1984 وھكذا صرت أتردد في العام قریب كائن بین جدران أحد األندیة القدیمة في بیروت،

یروت الشرقیة وكان تبادل القصف بین ب. نادي الروادوبات اجتیاز . قصوى من العنف والغربیة یبلغ حدودا

أن ذلك. الخط الفاصل بینھما أمرا بالغ الخطورةالقناصة المتمركزین على الجانبین كانوا یصطادون

وفي ھذا الوضع وال سیما إذا .المارة على أھون سبیل أو مریض، مع" صدیق"كان الناس مضطرین الى نقل

ق على الغالب، فیعمد األخیر الى إلھاء صدی" ممرر"ما أشبھ طیف الرجل قبیل القناص بتحریكھ ثوبا أو حتى إذا نجح الممرر اندفعت. لحظة المرور وأثناءھا

سیارة اإلسعاف وجازت المعبر الخطر في حدود ثانیة لركاب السیارة أن یظلوا وكان ینبغي. من الزمن

.خافضي الرؤوس

الى المھمات المنزلیة وادوانصرفت في نادي الركیفیة المعتادة ذات یوم، شرح لي أحد أفراد المیلیشیات

استخدام الالسلكي الذي یتیح لنا االتصال بكل نقطة . وكان كل ما فیھ مرمزا. إیاھا باألخرى عسكریة رابطا

. الرسائل المنقولة وال یسمح على اإلطالق بإیضاح. النادي ر غیر بعید منوبینما كنا نتحدث، إذا بقذیفة تنفج

41

فقتل على الفور أحد أفراد المیلیشیا التابعة للحزب وعلى الفور خال المركز من . اإلشتراكي التقدميالعتید یرن رنتھ والى جانبي، أخذ الالسلكي. مقاتلیھ. فرفعت السماعة بصورة آلیة وأجبت السائل. المعھودةقوم المسؤول عن القیادة العامة للحزب وھو ی فكان

ولما كنت قد نسیت . لھ بجولة تفقدیة للمراكز التابعة تعلیمات األمان رحت أجیب بحدة ظاھرة، وأفصل في

مجریات الحادثة ودقائقھا ما جعل محدثي یضیق غیظا وفي ھذه األثناء دخل . تبصري مني حانقا من عدم

عوقب مع ذلك،. المسؤول عني وأوقف للتو ھذه الكارثة . مسؤولیتھلخفتھ وإھمالھ

آخر بین فصیلین لبنانیین وفي ما بعد، اندلع صراع جعلني انغمس من جدید، في لجة ھذا المعترك، الخلي

وكان الصراع، إذ ذاك دائرا بین الحزب . من األمجادومن جدید رأیتني . الشیعیة الشیوعي وحركة أمل

ملتزمة تأمین دوام في مركز لإلسعاف ففي أغلبكان العدید من شبان االتحاد یفرزون المعارك الشرسة،

برفقة زمیلین لھم من جمعیات الى ھذا المركز ولكننعنى أخرى، أما نحن فبقینا طوال ھذه االشتباكات،

بالجرحى من ذوي اإلصابات الطفیفة، ونضمد جراحھم على ھذا النحو ثالثة أیام بلیالیھا وظللنا. في مواقعھم

أن میلشیات تال، ذلكوكان في عھدتنا خمسة عشر مقاحركة أمل ظلت تفتش المستوصفات ومراكز اإلسعاف

فإذا ما وجدت أحدھم ". األعداء"بحثا عن تفتیشا دقیقا .الى تصفیتھ للحال

42

أمره، كنت مسؤولة عن األدویة في المركز الذي تولیناأن أتأكد الواردة الیھ، على سبیل المثال، كان ینبغي لي

ء، وأعنى بالمطبخ والغسیل، على من صالحیة كل دواوكان التوتر یبقینا متیقظین . رفیقي قدم المساواة مع

ساعة على حتى إذا انقضت اثنتان وسبعون. دوماالجھود، المواكبة للقتال، صدرت األوامر إلینا بضرورة

المواقع، ما دام الوضع في غیر صالح الحزب إخالء النشاط داخل أثر من للحال رحنا نمحو كل. میدانیا

وكان خیر ما. المركز، وقفلنا عائدین الى منازلنااستقبلتني بھ أمي، وللمرة األولى، أنھا بدت متفھمة لما

متشددة أو عنیفة حیال ما یشوه حیاتي أنا فیھ، غیر .العادیة

بالمخاطر واألھوال التي فھي لم تكن على علم عیتوفي أثناء خدمتي ھذه، كنت استد. اعترضت سبیلي

على عجل ألرافق مسؤوال في الحزب التقدمي الى مستشفى الجامعة اإلشتراكي ، مصابا إصابة بالغة،

في البدء تلقى المصاب عالجا أولیا في. األمیركیةمستوصف قریب، كان یدعى الترك، ولما ساءت حالتھ

ولما كان . تجھیزا تطلب نقلھ الى مركز أكثرلى دلیل، یرشدھم الى اإلشتراكیون بأمس الحاجة ا

األكثر أمانا وبعدا عن نار القناصة لیبلغوا الطرقفمضینا بسیارة . أن نرافقھم الجامعة األمیركیة قر الرأي

التي اإلسعاف التابعة لإلتحاد تواكبھا بعض اآللیاتأعتالھا حراس القائد اإلشتراكي المصاب وكانوا

تكون مألوفا في ظروف مماثلة، وكما بات. كثیرینأو خاللھا شخصیة سیاسیة بارزة في إحدى زیاراتھا

تنقالتھا العادیة، أطلقت صفارات سیارتنا وأخذ

43

من أسلحة الكالشینكوف، المرافقون یطلقون الرصاصونحن على ھذه .ویتبعونھا بزمامیر سیاراتھم المدویة

الصورة، أمكن لنا أن نجتاز أكثر نقاط المرور حساسیة، و كنا ثالثة حول . ب أحدنا بأذىأن یصا من دونوالمھتمة بتثبیتھ على أنا الجالسة الى الخلف: الجریح

محملھ داخل سیارة مسرعة على أتم ما یكون الطیش،ولئن كان رباننا یحفظ الطرقات عن . والسائق والمسعف

الشدید جعل نقاط اإلرتكاز لدیھ ظھر قلب فإن التوترللحظة واحدة أن نمروكان ینبغي لنا . تختلط في ذھنھ

بشارع یقع على مرمى قوات میلیشا أمل ثم ننعطف . الیسار قبل أن یستدركوا أمرھم ویردوا بطرفة عین الى

التفرع انعطفت الى وما أن بلغت سیارة اإلسعاف ھذا .الیمین بدال من أن تمیل في استدارة واحدة الى الیسار

ل التي سارع ولم نجد أنفسنا إال في مواجھة میلیشیات أم. أسلحتھم وتوجیھ قاذفاتھم نحو سیارتنا أفرادھا الى تلقیم

الى الیسار، ففعل وللفور صحنا بالسائق بأن یمیل بنا وبانحرافة مریعة دفع بنا الربان الى شارع مواز، نجانا

بھا، فأصابت الرصاصات والقذائف جدران الشارع .حیث كدنا نصرع

تشتد الحرب لتبلغ ذروة حین ولكن ما تراه الحظ فاعال جنونھا؟ ابن عمي مروان لقي مصرعھ في العام

، وذلك خالل عملیة تفجیر أصابت محیط الجامعة 1981المغدور كان ذلك التفجیر ولسوء حظنا وحظ. العربیة

التفجیر الذي استخدمت فیھ سیارة مفخخة، أشد عملیاتوان كان مر. ھوال وأبشعھا فتكا بأھل العاصمة وأرزاقھم

داود، قد صودف وجوده في لبنان، لزیارة كان ابن عميفي ألمانیا الشرقیة وما یقوم بھا ألھلھ بعد فترة دراسیة

44

أن وكان یفترض بھ. أفظعھا مأساة أن یقتل یوم میالدهیالقي أصدقاءه وأبناء عمومتھ لالحتفال بعید میالده في

جرت كان ال یزال واقفا حین انف. العاصمة أحد مطاعمومع أن ابن عمي .العبوة الناسفة فحصدتھ ومن حولھ

كان یقف بعیدا من السیارة المفخخة، إال أن االنفجار من القوة حیث دفعھ بعیدا، وأسقطھ أرضا جثة بال كان .رأس

وال . العاجلة من اإلذاعات وعلى الفور تعالت األنباء یزال في خاطري ذكر كل بیان یقرأ على عجل، وجو

وكلما حصل . جوم یعتري وجھ كل فرد یسمعھاالوفیھا یسائل نفسھ انفجار في بیروت، خلت، وكل فرد

بحرقة وغصة عما إذا كان أحد أقربائھ مر في ذلك فإذا ما ثبت لھ ذلك، لزمھ . المستھدف أو توقف فیھ الحي

مضنیة ویائسة یتحرى أن یمضي في جولة استكشافیتعرف في إحداھا المشارح كاشفا عن كل جثة عساه

.وجھ عزیزه، أو الى جثمانھ الى

العنف الجھنمیة المتمثلة بعملیات وغالبا ما كانت حلقةالنظیر، غالبا ما التفجیر المتنقلة، وشدتھا المنقطعة

كانتا تحوالن دون التعرف الى جثث القتلى المشوھةوعلیھ، فقد كان ذوو القتیل وأصدقاؤه . تشویھا ال یطاق

دالة علیھ، لیكونوا على بینة من رائن صادقةبمحض قابنھم أو المصیر العصي على التصور الذي آل إلیھ

.عزیزھم

45

لعائلتنا بأن األمل طوى لواءه ذلك الیوم، كان إیذاناوانسدال وغار في لجة فشلھ، باكتشاف جثة مروان .ستار من الحداد ثقیل على حیاة كل من أفرادھا

46

حض جنونالحرب م

البلدان، تتخذ الحرب عللھا في لبنان، كما في سائرتنكشف لي وأسالیبھا المتویة، وكانت تحمل أسماء عدیدة

اإلسرائیلیون والفلسطینیون حینا، وأحیانا : تدریجیاالیمین والیسار اللبنانیین، وفیما كنت أدرك الصراع بین

األیام ترسم لي أوجھ ھذه األسماء مجردة، أخذت الحرب ھذه بشرا من لحم ودم، وكأنما كنت إزاء أمكنة

وفي ھذا السیاق، كان ثمة . مختلفة لمجازر مشتركةركابھا، وھم في معظمھم بوسطة عین الرمانة ومقتل

وثمة في ھذا الصعید كذلك، المجزرة التي. فلسطینیونارتكبت في مسبح الصفرا مارینا، وھو متجع سیاحي

االحرار، وكذلك األمر التطھیر تحول الى مركز قیادةالشرقیة الذي لحق بمخیم تل الزعتر القائم في بیروت

التي أفرغت بدورھا من سكانھا الفلسطینیین، أو الشیعیة وتمثل كذلك . المسیحیین المنتمین الى أحزاب الیسار أو

محاولة االغتیال التي ارتكبت في قائمة ھذه الحروب،. فرنجیة ة اللبنانیة سلیمانفي حق عائلة رئیس الجمھوری

تضاف إلیھا عملیات الخطف من قبل كل األطراف أنى كان فجسدت انقسام المدینة والحواجز التي ارتفعت

ذھوال ال الى شطرین متقاتلین، كل ھذا وعیوننا المصابة .تقوى على شيء

إذ بات اسمھا كلما رددتھ اإلذاعات . لم تعد بیروت قائمةنا وأحادیثنا أتى مصحوبا بنسبین، أو ورد في مناقشات .شرقیة أو غربیة

47

یستنزفنا منذ ثالثین عاما، فإنھ اآلن ولئن كان التاریخفبعد أن كانت الحدود .عود بي الى بدء األحداث. یسحقنا

بین إسرائیل ولبنان تنعم بالھدوء النسبي على امتداد، فقد 1967 وحتى العام 1949عقدین تقریبا، من العام ذلك أن منظمة التحریر . الحین أخذت بالتبدل منذ ذلك

انطالقا الفلسطینیة جعلت تكثف من عملیاتھا العسكریة. من لبنان، الذي بات عرضة لغارات إسرائیل اإلنتقامیة

الغارات وعملیات القصف وازدادت وتیرتھا وتوالتصغیرة، في دیر على نحو ما انكشف لي وأنا بعد فتاة

لھذا التحول الجدید أن یدفع بالعالقات بینوكان . میماسالسلطات اللبنانیة وقیادة منظمة التحریر الى حافة

ولھذه الغایة وتجنبا للصراع، عقد .التدھور واالشتباكومع أن ھذا : الطرفین بین1969اتفاق القاھرة في العام

اإلتفاق ضیق من ھامش التحرك أمام الفلسطینیین إال أنھحق المقاومة حتى انطالقا من األراضي اعترف لھم ب

األمر كفیال بإزالة التوتر على اللبنانیة، ولم یكن ھذاالعكس الحدود مع إسرائیل، إنما صارت الحدود على

أضف الى ذلك أن . وألمد طویل" حارة"من ذلك التحریر الفلسطینیة والسلطات الصراع نفسھ بین منظمة

یة سحق خاللھااألردنیة بلغ ذروتھ في حرب ضارالجیش األردني قوات المنظمة إبان ما سمي بأیلول

األخیرة الى إخالء أدواتھا األسود، فاضطرت ھذهحضور طاغ في إذا، كان الفلسطینیین. القتالیة الى لبنان

لبنان سواء أكان حضورھم ممثال بقواھم العسكریة أم 1948منھا، أو بحضور الجئیھم في حربي العام بأكثر

بیروت مخیمات عدیدة وكانت أنشئت حول. 1967و .ترعاھا وتشرف علیھا السلطات اللبنانیة عن كثب

48

أتبین صورة اإلسرائیلیین في وإذا كان من الیسیر أن ذھني لفرط ما كانت جدتي تروي لنا حكایات عنھم

وألعمال القصف التي تعرضت لھا دیر میماس من سیر علي أن أرسم الع ، فإنھ كان من1973قبلھم عام

إذ لم أعرف فلسطینیین في. للفلسطینیین صورة معلومةطفولتي وال في فتوتي، غیر أني كنت أعرف أنھم

أن تكون لدیھم طردوا من أرضھم وأنھم ینتظرونمع ذلك ظلت صورتھم في . القدرة على استردادھا

بل ملتبسة وما كنت أعرف مخیمات خیالي غامضة،. لتمني مباشرة الفلسطینیة لم تكنللفلسطینیین والقضیة

إنما كنت ال أزال أعدھم لبنانیین شأن اآلخرین، وكان .عرفات ال یبدو لي مألوفا غایة األلفة اسم

بدایة الحرب األھلیة اللبنانیة وكان لحادثة غامضة فيألمد أن تشوه صورة الفلسطینیین في عیني1976عام ل على ید أحد ومؤداھا أن أحد أقربائي اغتی: طویل

.الفلسطینیین

قریبات أبي كانت تسلك طریق ویروي األھل أن إحدىعفیف، بیروت الغربیة في اتجاه الجنوب وبرفقتھا ابنھا

وصادف مرورھما وجود حاجز أقیم على مقربة من ولدى إصرار آمر الحاجز على .النبطیة في كفرتبنیت

رؤیة أوراق الركاب أخرجت المرأة ھویتھا فھال. لمالزم أن یرى طائفتھا االرثوذكسیة ، أي المسیحیة ا

حوار مسلح بین المیلیشیات المسیحیة وكان لطالما یقومالقذرة تذر والحرب. ومنظمة التحریر الفلسطینیة

قرونھا في كل ناح، أما عفیف ابن قریتنا جندیا في اللبناني، ولم یكن فیھ من الكتائب ولو ذرة الجیش

49

أھل الیسار، وأنصار عتبر نفسھ منبل كان ی. واحدة الفلسطینیین، غیر أن المیلیشیات في جوھرھا القائم على

إنھ مسیحي . التعصب، ال تنظر الى تفاصیل دقیقة كھذهالمالزم بإخراج قریبنا من فھو إذن عدو لنا، فأمر

عن السیارة وبفظاظة بینة، وغذ أدركت والدتھ للحالجتھم إذ انتھوا الى رمیھ وعبثا ر. ابنھا باكیة منتحبة

إذا سقط عفیف فداء عن . باردة بالرصاص وبأعصاب .معركة وقضیة لیستا من شأنھ

لم : تبینت لي الحقائق الفاضحة فیما بعد، ولزمن متأخرعلى ید یقتل عفیف على ید أحد الفلسطینیین، وإنما

لبناني شیعي كان أراد أن ینتقم الختفاء أخیھ، على ید وكان یظن أن ھذا األخیر، أي عفیف، أقدم .كتائبیین

قریتھ الذین ظللتھم وبدورھم كان أھل. على اغتیالھ الشائعات، یتخیلون أن ھذا االختطاف إنما كان ارتكبھ

مع ذلك فإن خاتمة ھذه المأساة لتبدو ". الغرباء"بعض األمر تبین أن أخو ھذا المالزم لم وفي نھایة. رھیبة

تلقاء نفسھ في نظار وانخرط منیقتل فقد توارى عن األ .معسكر الكتائب واقترف أعماال دنیئة لصالحھم

الفلسطنیین وقضیتھم على وانقضت سنة قبل أن اكتشف ولكن بظروف مختلفة تماما عن الماضي. حقیقتھموذلك یوم عاینتھم، وھم یحوطون ھذه المرة . البعید

. لداوالدي، وكان یدعى خا بنعش أحد أقربائي وابن أخالتحیة فرأیتھم یشكلون من حولھ كوكبة الشرف ویؤدون

. للشھید في نعشھ، على أنھ فقید للثورة الفلسطینیة نفسھاأعدادا من الشبان اللبنانیین أخذت تنخرط في ذلك أن

لھا أن ھؤالء یقاتلون صفوف الفدائیین حالما تبین

50

زوا غ اإلسرائیلیین الذین دخلوا جنوب البالد وأمعنو فیھاوكان . وإرھابا وقتال وكان قریبي خالد واحدا منھم

خالل عملیة نقلھ الذخائر مع فرقة المغدور أصیباإلصابة أن المغاویر التي انضوى فیھا، وفي تفصیل

لغما أرضیا انفجر بھ فبترت ساقھ للحال وأصیب أنھ ما لبث أن فارق الحیاة متأثرا بجروح عدیدة إالالىمركز اإلسعاف في ان رفاقھ ینقلونھبجراحھ، فیما ك وقر رأي منظمة التحریر الفلسطینیة أن. تلك المنطقة

.تجري للشھید مراسم تشییع إستثنائیة

ضخمة في بیروت الغربیة، فانطلقت ذلك الیوم تظاھرة أما أنا فوقفت أتابع ذلك. غیر بعید عن منزل الشھید

. لى أماميالمشھد، وأعاین الفصول المؤثرة التي تتواالفلسطینیین وھم یسیرون في العرض فرأیت الشبان

. اإلیقاع نفسھ العسكري، ضاربین األرض بأقدامھم علىكان شبان آخرون یحملون صورا مكبرة ھي رسوم

وینثرون الزھر األسود واألبیض واألحمر لشھدائھمفتقع األخیرة على واألخضر بألوان علمھم الفلسطیني

.بع أوشكل من أشكال ذلك العلمموضع مخطط لكل مر

وفي . علما وقضیة وشعبا وھكذا، تسنى لي أن أكتشف الحقبة نفسھا، كان الوضع في الجنوب یتخذ ھیئة

وھو جیش . إذ تمثلت في جیش لبنان الجنوبي: معاكسةالواقع الى بعض الضباط العسكریین أسندت قیادتھ، في

قیادة داد،المسیحیین؛ وتولى أحدھم، ویدعى سعد حوبالطبع، ظلت الدولة العبریة راعیة لھذا . الجیش ھذا

إیاه حمایة بعض الثغور الحدودیة من الجیش ومكلفةرأیت أدوات وفي اإلطار المحلي. ھجمات المقاومین

51

ھذا الجیش ال یتورعون عن اقتراف الجرائم ونسبتھا لیستمیلوا الناس إلیھم وینخرط شبابھم في الى الغرباء،

أذكر حادثة اغتیال وفي ھذا الشأن ال أزال. الجیشذلكطبیب عامل في الریف وسائقھ، وقد أولھ المتعاونون

مع جیش لحد على أنھ عمل كونھ خالفا على الجددأما مقتل الطبیب فكان .المال بین السائق ولبناني شیعي

ذلك الدافع إلیھ خشیة القاتل من انكشاف جریمتھ على ید .نتھ حادث القتل األولالطبیب لمعای

ولم یطل األمر حتى . القریة إثر ذلك توترت األجواء في صارت دیر میماس جزءا من الحزام األمني الذي

اقتطعھ جیش الدفاع اإلسرائیلي من البالد وجعلھ حرزا الحدود الجدیدة أعدت لتكون حامیة فإذا صح أن ھذه. لھ

. شدیدة اإلحكام لمن في داخلھا، إال أنھا لم تكن حدودافلقد ظلت والدتي تواصل زیاراتھا المألوفة الى القریة

أنھا كانت إحدى النساء القالئل اللواتي أمكن لھن غیرمع أقرباء لھن، كانوا ال أن یحتفظن بعالقات متینة .یزالون في المناطق المحتلة

، والمعارك بین منظمة 1975 وبدءا من ربیع العاموتتشابك مع یة واإلسرائیلیین تتقاطعالتحریر الفلسطین

وكان . الحرب األھلیة الدائرة في بیروت وضواحیھاالحرب فترة طویلة من اإلضطرابات سبق اندالع ھذه

مؤسسات البالد المتقطعة التي أقحمت فیھا بالتدریج،فھذه الحرب التي غالبا . وبنیاتھا السیاسیة واالجتماعیة

راع بین المعسكر صورھا الغرب على أنھا ص مالم تكن عائلتي المسیحي وبین الطوائف اإلسالمیة،

ومن جھتي . لتحیاھا على اإلطالق، شأن عائالت كثیرة

52

: قراءة أخرى للصراع الجاري بین قطبین كانت ليممثال، بال أدنى شك، أما الیمین فكان. الیمین ضد الیسار

نانیة اللب باألحزاب المسماة مسیحیة، وعنیت بھا الكتائببقیادة بیار الجمیل وحزب الوطنیین األحرار بقیادة كمیل

ویدعم ھذین الحزبین الموارنة الكاثولیك، أو شمعون،األرثوذكس، أقل مسیحیة من یستدل من ھذا أننا نحن

ھؤالء وقد صنفنا مع ذلك في المعسكر العادي؟

ما یصفھ الراشدون في في حین كان الیسار على حد بالحزبین الشیوعي اللبناني والتقدميعائلتنا، ممثال

اإلشتراكي، اللذین كانا حلیفین لمنظمة التحریر اإلسالمیة اللبنانیة، أقلھ الفلسطینیة وبعض التنظیمات

في بدء الصراع والحرب األھلیة؛ ویضاف الى ھذینالحزبین سوریا التي بدت خیاراتھا متقلبة، فھي إذا ما

من كلي المعسكرین، آخر، دعمت طرفا أو ساندت بین" التوازن"فألنھا سعت الى الحفاظ على نوع من

القوى السیاسیة اللبنانیة كافة، وبغیة اإلفادة منھ قدر ما اندلعت الحرب األھلیة شھدنا انبثاق تستطیع، حتى إذا

مترجمة بذلك أحزاب جدیدة، وال سیما الشیعیة منھادیموغرافي صعود نجم تلك الطائفة واتساع نطاقھا ال

حركة "من مثل : تركیبة المجتمع اللبناني وأھمیتھا فيالصدر، حركة أمل التي أنشأھا موسى" المحرومین

.اللبنانیة، وحزب اهللا فیما بعد

تحالفات تعقد خالفا لطبیعة وفي ظل ھذه المعمعة، رأیتجبھات، المتحالفین، وصراعات داخلیة حادة وانھیار

.تنا في ھذه الحربتشكل جمیعھا قوام یومیا

53

على مدار سنواتھا األولى، ولما كان اشتعال الحرب،األسلحة یوفر مصالح ضخمة لقلة من المستفیدین وتجار

فقد استولدت وقودھا من ذاتھا، ما جعلھا تستمر آجاال تجاوزت كل منطق سیاسي ساھم في طویلة حتى

حصل بعید وھذا ما. إطالقھا أو دفع بھا الى اإلنفجار، من 1982حیل القوات الفلسطینیة ، في العام ر

جیش الدفاع اإلسرائیلي خالل بیروت، وقد طاردھاأول العتیدة، حتى حصارھا في" سالمة الجلیل"عملیة

.(غیر القدس(مدینة عربیة

اللبناني، آلمنا أن نرى ولسوء طالعنا، نحن الشعب جیشنا الوطني وھو ینجرف في تیار الحرب األھلیة

نون، بدال من أن یكرس ھمھ للدفاع عن البالد، ضد المجوإذ بدا . مخاطر خارجیة محدقة بھا كل ما یتھددھا من

المماحكات السیاسیة الجیش عاجزا عن البقاء بمنأى عن والصراعات العسكریة، آثر أن یعید إنتاج المجتمع

حتى إذا تناسى . اللبناني بكل ما فیھ من نزعات إنتحاریةواجباتھم المقدسة بالدفاع عن الوطن شأفراد الجی

. الصراع بأسره، انقاد كل منھم لطرف من أطرففالتزم بعضھم معسكرا فرقا صغیرة وضعت في خدمة

الذین سرعان ما ثبتوا دعائم سیادتھم على أسیاد الحرب .أنقاض بیروت

ھول ھذه الورطة التي دفعت أما أنا فأدركت مبكرافیما ریة الواحدة الى االقتتالبأبناء المؤسسة العسك

بینھم، وبدت لي الحرب األھلیة في وقت مبكر للغایة وكان ھذا . فیھ اللبنانیون لیس إال أنھا فخ ھائل وقع

حین كنت الیقین الحتمي یحضرني وعلى نحو ملموس،

54

أعمل في الدفاع المدني، أو أتطوع أحیانا في خدمة فحین كنا نخلي الھالل األحمر اللبنانیین، الصلیب أو

بھم الى الجرحى من ساحات المعركة، ونتوجھالمستشفیات، ما كنا لنفتش عن ھویة ھذا الجریح أو

وبالمقابل، بدا لنا جمیع . انتمائھ الطائفي ذاك، وال عنداموا یعملون على إشعال األطراف مخیبین لآلمال، ما

الحرب األھلیة، مركزین على تفاصیل دون أخرى،ى ترھات ال طائل منھا، تحثھم علیھا طاقة دافعین ال

.األمور الجوھریة جانبا عجیبة، في حین نحیت

ظاھرات الحرب األھلیة ولطالما أثار عدم فھمنا النقاشات المستفیضة، فاستغرقت منا األخیرة أیاما

وكنت، . بطولھا، في مقر إتحاد الشباب الدیموقراطي في اإلتحاد، حتى ھذه النقاشات والحال ھذه، شغفة بجو

اجتماعاتي لو ظلت والدتي تنظر بعین الریبة الىفھي إذ ألفت كونھا غیر مبالیة . الطویلة في ذلك المركز

زوجھا الشیوعي لزمن بعید مضى، باتت على بنضاللطحن الدماغ، آلة یقین بأن االتحاد لم یكن سوى آلة

. للترویج الدعائي في خدمة إعداد حزبي یثیر سخطھاھي صورة المخیمات الكشفیة في عینیھا، إذ بدت كذلكو

اللبنانیین األكثر التزاما لھا محض حجج لتعلیم الشبان. واستخدامھ عقائدیا واستعدادا للخضوع، حمل السالح

ما الذي یقدمھ : "وغالبا ما كانت تردد وبصوت عالالشیوعي؟ ال شيء، إنھا الحكایات القدیمة الحزبببنت شفة، على ذا ووالدي ال ینبسكل ھ!". نفسھا

.جاري عادتھ

55

على اعتبار االتحاد مقربا من وإذا كان الناس یجمعونتخشاه وعلى خالف ما) أي االتحاد(الحزب، فإنھ

والدتي، اتسم بكونھ خزانا للطاقة والتساؤالت والشكوك، . مع ذلك ال أراني شیوعیة متزمتة. فإلرادة البناءة ومئال

للمحتاجین والالجئین أحیانا، فھذا أقدم المعونةفإذا كنت حریة لي في ال یعني أني ما عدت صاحبة قراري، وال

بل إن التزامي بالحزب لم یكن التزاما . الحكم والعملصارما، إنما ھو یترجم عن تعلقي بتربیة تتیح نضالیا

الذي یعمره والدي أو لي أن أستعید عالمي الصغیر،تي التي نسجتھا مع الحزب الشیوعي وعالق. أعماميااللتباس عینھ، إن أنا إال رفیقة درب، حتى لو ھي من

أو . ھذه العبارة وال حدودھا أني غیر مدركة تماما أبعادالكتمان، أراني تلك المراقبة التي أبقت التزامھا طي

غیر أنھا وجدت ضالتھا في المثل التي سحقتھا رحى التي ما برح والدي یجسدھا ھذه المثل الحرب الدائرة،

الشیوعیین ولئن ارتكب بعض. لي على مدى األیامأخطاء جسیمة في سعیر المعارك، فإني على یقین بأن

عجزت عن إطفاء األمل الذي ال یزال ھذه األخطاء .یلتمع في عیني أبي

المثال الذي طالما جذبني إلیھ ولكن، ما تراه یكون ھذاالطبقات السالفة؟ لیس صراعألنخرط في تلك التربیة

بالتأكید، حتى ولو كان ینطوي فیھ، ضمنا، دافع الحزب إنما مثالي فكرة الوطن، بخالف . الحرب لإلشتراك فينشأتھ غیر میال فلما كان الحزب منذ. ما یظن البعض

الى تقسیم المجتمع اللبناني شرائح طائفیة، وجدتھ ل فیھ الكالم عن وطن للجمیع، وطن یعام یواصل

وكان . وواجباتھم مواطنیھ على قدم المساواة في حقوقھم

56

. ھذا الخطاب الوطني والجمھوري یمسني في الصمیمعلى وتر في نفسي، كان آخذا باالنحالل، فھو یضرب

لشھور وشھور، بفعل الشعارات والحمالت الدعائیةولھذا، اندفعت الى . إعالء لحروب اإلقتتال األخوي

ا، وبملء كیاني، عضوا فاعال في غریزی اإلنتسابإنما أنا لبنانیة في لست فتاة مسیحیة ولبنانیة،. الحزب

.المقام األول، ومن ثم أنتمي الى عائلة أرثوذكسیة

وبعد خمس سنوات من المعارك في أواخر السبعینیات،راسخة، المتواصلة، بلغت في صمیم نفسي الى حتمیة

ومحتال أحدا أال وھو وھي أن للبنان عدوا واحدا،إدراكي أن الحرب األھلیة ھي محصلة وفي. إسرائیل

اإلسرائیلیة في ذلك أن السلطات. طبیعیة لما كنا فیھنظري كانت وال تزال منذ عقود طویلة تتبع

نفسھا، والتي تقضي باحتالل جنوب لبنان، االستراتیجیة. ككلما أمكن لھا ذل وتوسیع حدود إسرائیل على الدوام

وكان ھدف ھذه السلطات واضحا، بنظري، وھو تفجیر في لبنان لیتسنى لھا ضم المزید من األراضي، الوضع

.العبریة بتوسیع أرجائھا وبغیة تمتین موقع الدولة

على الدوام، من الدولة العبریة وكان ھذا التھدید الكامنكنا ال نخشى ، یشكل محور أحادیثنا أیام المراھقة، یوم

عات ھذه األحادیث وال من تأثیرھا على مستقبلنا من تبولطالما . تجري في وتیرة غیر منتظمة ما دامت

خلیفة الوطنیة، دغدغت مشاعرنا الفتیة أغاني مارسیلوكان أخوتي یرددونھا مرات . وھدھدتنا صغارا

ھذه األغاني بدت لي على المقدار حتى أن. ومراتالرحباني، ھذا دنفسھ من القوة التي في مسرحیات زیا

57

فكتاباتھ المتھكمة. الساعي الى الدیموقراطیة بال كللوالھازئة والتي تغمز من قناة المتعصبین من إخوانھ في

الكتابات ذاع صیتھا وامتد الى العالم المواطنیة، ھذهمقاطع طویلة من وغالبا ما أوردت اإلذاعات. العربي

ي إنكارھا وھي تبد. مسرحیاتھ، ومثلھا فعلت المدارسالسیاسة ومراوغات الدیبلوماسیة التي دفعت لتالعبات

.بعد أخرى بلبنان الى لجج الھالك، واحدة

أزال في الثالثة عشرة، ، وكنت ال1980في العام حرضت للمرة األولى في حیاتي حفال لألغاني

ولم یقبل . الملتزمة، وذلك في مقر األونیسكو ببیروتعة بالحضور، الذین أقبلوا القا المساء حتى امتألتوبناتھم قد وكان أبناء عمومتي. لسماع مارسیل خلیفة

ومع أننا . أقنعونا، أنا وأخي عمر وأختي بالمجيءالقاعة قبل افتتاح الحفلة بساعة لم نجد أماكن وصلنا الى

كاد المغني یطل على وما. للجلوس إال بشق النفسالم المسرح حتى أخذ الحضور یلوحون لھ باألع

وإذ اندمجت باللعبة، . وباألثواب الحمراء والمنادیل. ألوح بھا بدوري نزعت عني سترتي الحمراء، ورحت

وما أن تالشت أصداء الھرج، وجدتني أصیخ السمع الى األغاني، التي بدت لي أقوى وأروع من كل كلمات

خلیفة لم ین یغني والحال أن مارسیل. خطاب سیاسيرضھ وبیتھ، وبات رھین الیأس، معاناة كل من خسر أ

أن یمیز اللبنانیین عن الفلسطینیین على من دونحقول التبغ في اإلطالق، وكان یغني حنین الناس الى

. جنوب لبنان، والتي غادرھا المزارعون إثر الحربتاریخ الخیام التي قصفھا الطیران وكان یغني

. الى نھبھا ، وسارعت المیلشیات1978اإلسرائیلي عام

58

وفي ما أذكر، الى حینھ لم أنشد شعرا، ولو ضئیال، في .من الطوائف أیا تكن طائفة

قصائد مغناة للبنان، بالدنا إنما ال تزال في ذاكرتي .وأرضنا، لھا وحدھا لیس إال

وال سیما إثر دخولي الى إال أن السنوات الالحقة، الجامعة، جعلتني أتبین بوضوح عمق اإلنقسامات التي

وفي ھذا الشأن كان االنتصار الثورة ! تھى إلیھا شعبناان، دور في دفع التیار 1979إیران، عام اإلسالمیة في

الشرق األوسط، اإلسالمي أشواطا كثیرة الى األمام فيولم یكن لبنان، وبیروت تحدیدا، بمنأى عن ھذه

إن عودة التیار اإلسالمي شكلت مادة بل. التغیراتاهللا المدعوم من نظیمین الشیعیین، حزبللتنافس بین الت

وفي حین جھد أنصار حزب اهللا . طھران، وحركة أملشعارات باللغة الفارسیة، تصدى لھم أنصار في تعلیق

أنزل باللغة العربیة حركة أمل قائلین بأن القرآن إنماوما لبثت أن ظھرت أصول في اللباس . دون غیرھالمة ھذه على وكان أن انطوت عودة األس .محافظة

أو خطف انحرافات ال تطاق، من مثل االغتیاالتالمثقفین، أو قذف النساء اللواتي یجرؤون على النزول

الى الشاطئ بمادة الزاج باعتبار تصرفھن بثیاب البحرالشیوعیین وجدتني ولما كنت مقربة من. غیر الالئق

إذ كنت أجسد حسا باإلختالط. ھدفا لبعض ھذه األعمال: رأتھ التیارات اإلسالمیة المتشددة شأنا ینبغي إزالتھ

ولعبة الشطرنج التي أجن بھا وأحب ممارسة الریاضةوطالبي، حتى أن یقاسمني إیاھا أصدقائي في الكلیة

.صرت ھدفا للتھدید بالموت من قبل شبان حركة أمل

59

وما كان ذلك الوضع العبثي على قسوتھ، لیحول دون .ف المقاومة والنضال تحت لوائھاانخراطي في صفو

60

االجتیاح

.لم أحتفل یوما بعید میالدي

العید الذي بلغت فیھ الخامسة عشرة، وال سیما ذلك، 1982العام یونیو، في/ فالخامس عشر من حزیران

لم یكن جدیرا بأي احتفال، وكنا نعد العدة لمغادرة بیتنا وكان أعدائي على . فى آخر في الجنوباتجاه من في

یعسكرون لدى بوابة مدینتي اإلسرائیلیون: مدى نظري .منتصرین

ففي لیل الثالث . خلت في لندن كل شيء بدأ ألیام قلیلة یونیو، تعرض الدیبلوماسي/ والرابع من حزیران

اإلسرائیلي المعتمد لدى بریطانیا، شلومو أرغوف، وللحال، اتھم . تھ بالغةإصاب العتداء مسلح، وكانت

وراء اإلسرائیلیون منظمة التحریر الفلسطینیة بأنھاالعملیة، على الرغم من أن المنظمة أدانتھا وأنكرت أن

وكما بات مألوفا، ردت . صلة بھا یكون لرجالھا أيوفي . لبنان إسرائیل باعتداءات واسعة طاولت جنوب

جلیل مقابل ذلك، عمدت منظمة التحریر الى قصف الكان لبنان مترئسا دورة مجلس األمن، ولما. األعلى

إطالق النار، صدر عنھ إعالن یدعو الفرقاء الى وقفغیر أن األمور جرت على العكس تماما، إذ دخلت

اإلسرائیلیة بقیادة أرییل شارون الى بالدي في الدباباتیونیو وبدأت عملیة ما / الخامس من شھر حزیران

."لجلیلبسالمة ا"سمي

61

االجتیاح الجدید لتحدث أي ذعر في البدء، لم تكن أخبارألنھ لم تكن إذ كان السأم بلغ بنا حده،. لدى أھل بیروت

المرة األولى أو األخیرة التي دخلت فیھا إسرائیل الى وعلى الرغم من الوسائل غیر . اللبنانیة األراضي

ذلك المجتاحون، لم یشعرنا االعتیادیة التي استخدمھارجال وكان ثمة یقین راسخ لدى أغلبیة. بالخطر الداھم

السیاسة اللبنانیین بأن اإلسرائیلیین یزمعون التقدم الى اللبناني لغایة تطھیر الجیوب التي یشكون عمق الجنوب

الفلسطینیین، إال أنھم سوف في أنھا مخابئ للمقاتلین یرتدون الى ما وراء حدودھم، تاركین أمر حمایة

.دھم للمیلیشیات التي تشكل لھم صمام األمانحدو

الغربیة أشخاص یتنبأون بأن مع ذلك، كان في بیروتتصفیة اإلسرائیلیین سوف یقومون باجتیاح كبیر بغیة

حسابھم النھائي مع الفلسطینیین، وكان من بین ھؤالء فإذا الوقائع تثبت . الشیوعي اللبناني المتنبئین الحزب

مر الساعات ومضینا نشھد على:مخاوفھم وتوقعاتھم. الطویلة في ذلك النھار ما بدا لنا عصیا على التصدیق

جیش الدفاع اإلسرائیلي یتخذ لھ مواقع ثم ال إذ رأیناالقوات اإلسرائیلیة البریة وأعانت تقدم. یلبث أن یتقدم

بالفدائیین قوات أنزلت من السفن الحربیة، فجعلت تحیطوقریبا من دیر میماس، . شتركةوبحلفائھم القوات الم

. الشقیف في أیدي ھذه القوات المھاجمة سقطت قلعةباتجاه بیروت، من وانطلقت قوافل المدرعات شماال

دون أن تعالج بعض جیوب المقاومة في طریقھا المظفر .ذاك

62

اللبنانیون من سكان بیروت الغربیة، وأخذ المواطنونمحتمل، من لحصاروقد تمالكوا أنفسھم، یعدون العدة

وكانت عملیات القصف . دون أن یعوا حقیقة ما یجريأحیاء المنطقتین الغربیة والشرقیة ازدادت المتبادل بین

فأجبرتنا على عنفا وشراسة في األشھر األخیرة، غیر أن حیاتنا الیومیة، بقدوم القوات. التعایش معھا

واق فقد الخبز من األس. اإلسرائیلیة، صارت ال تطاقوامتألت المستشفیات بالمرضى ألیام غیر قلیلة،

وازداد المصابین، ولم تعد أعداد الممرضات كافیة،وبإصرار من الصلیب األحمر . النقص في األسرة

في اإلتحاد الى توزیع عمدت مع بعض األصدقاء اإلعانات على ذوي الحاجة من المھجرین الذین أسكنوا

.ذه الغایةعلى عجل في مدرسة مصادرة لھ

واشتد التوتر بل راح یزداد كلما تقدمت أرتال الدبابات .اإلسرائیلیة واقتربت من العاصمة

وإذ . أراني في مواجھة عدوي للمرة األولى في حیاتي غشیتني ھذه الفكرة، صرت أترجح بین الخوف منھ

وفي حین كان سكان المدینة قد تواروا في . وتحدیھللعب بكرة السلة غیر . رفاقيو المالجئ، كنا نمضي، أنا

أبطئ وكنت. بعید عن القذائف المتساقطة ھنا وھناكالخطو كلما عمت اإلستنفارات وفرغت الشوارع من

.الناس كلیا

من كل اإلستنفارات، غیر بدت المعركة، وعلى الرغماإلسرائیلیة ولم تدم اإلشتباكات بین الفرق. متكافئة

. ة المشتركة، إال ساعاتوالقوات الفلسطینیة واللبنانی

63

كان لقوات جیش الدفاع اإلسرائیلي أن تتقدم ساحقة إذا،ھذا الجیش یتھدد الوجود على نحو ال یرحم ولئن بات

العسكري السوري في لبنان، فإن المعارك التي توالتفصولھا بین الطرفین سرعان ما رجحت كفة جیش

ائر السوري قد مني بخس ولما كان الطیران. الدفاع فادحة في صفوفھ، جعل یخلي المجال الجوي عملیا،

أما في المجال البري، فقد أصیبت الفرق . لطیران العدووفي الناحیة . إصابات كبیرة فاندحرت السوریة المدرعة

خلدة، وھي الغربیة، أغارت القوات اإلسرائیلیة علىغیر أن الھجوم لم یسفر عن تقدم . بوابة بیروت الجنوبیة

واشتد الضغط، وعبثا تواصلت إعالنات .ر لھاظاھ/ شھر حزیران وقف إطالق النار على مدى األیام في

أما جبل لبنان فكان عرضة للقصف الثقیل من . یونیو، التي كانت ترسو في "نیوجرسي"األمیركیة المدمرة

كلفتھا واشنطن عرض البحر قبالة بیروت، بعد أنوال شك أن ھذا . ھذهبمھمة الدعم في ساحة المعركة

الھائل الذي ما برحت مدافع المدمرة تصدره كان الدويكیف یمكن للناس في : نفسي ورحت أسائل. جدیدا علینا

الجبال أن یصمدوا حیال ھذا الدوي المرعب والقاتل؟

اإلسرائیلیة الى اإللتفاف على وبعد حین، عمدت الفرقالذي كان ،بیروت الغربیة، فدخلت القطاع الشرقي منھاحتى إذا . تحت سیطرة الكتائبیین، من غیر قتال

على خطوط التماس القدیمة، تمركزت ھذه القوات وصارت بیروت الغربیة محاطة بما یشبھ الكماشة،

أنھالت القذائف من العیارات الثقیلة للغایة علیھا، السالح البریة والجویة والبحریة وشاركت كل قطاعات

64

أقدامنا وكانت األرض تزلزل تحت. لدى العدو بالقصف .كلما سقطت قذیفة أو صاروخ متوسط المدى

یونیو عشیة مولدي / ولم یقبل الرابع عشر من حزیران .حتى صرنا محاصرین عملیا

. إبعادنا عن أجواء المعارك وفي ھذه األثناء تولى عميھذه ما دام یستحیل على والدي أن یغادر المكان في ظل

ستحیل علیھ أن یبقي عائلتھ في حال الظروف، كما یرأیت والدتي أشد إصرارا على كذلك،. الخطر الحتمي

28و 27 وكان اإلسرائیلیون رموا في لیل. عدم البقاءیونیو بمناشیر فوق بیروت الغربیة، / من حزیران

على نحو ما فعلوا في دیر میماس مخطرین الناس فیھا،على نة حفاظالسنوات خلت، بضرورة مغادرة المدی

وما كاد صباح الیوم التالي یشق أنواره حتى . أرواحھمینتھي من البشر النازحین من بیروت رأیت سیال ال

الرغم مني الغربیة، وكنت محمولة في خضمھ علىفاألغنیاء . ومع ذلك، لم نكن في الھم سواء. ومن جسدي

األسبق الى مغادرة بیروت، بالطائرة، أو كانوافكانوا من أما الذین بقوا حیث ھم. ھمبسیارات

الفلسطینیین، بالطبع، ومن اللبنانیین األشد فقرا، أو الذین .یجدون لھم أي ركن أو ملجأ في البالد كلھا ال

نوعا من التمزق، والمغادرة، وكان رحیلي عن بیروتوظللت .وكان لي، كذلك، نوعا من الھزیمة. والفرار

: ورحت أقول في سري. قوةأعاند بكل ما أوتیت من .وحتى النھایة ، في منزلي یجب أن أبقى حیث أنا

65

لمغادرة منزلنا، لم تكن بید أن والدتي ھیأت نفسھافي وبدون أن تناقشني. إرادتي لتعني لھا الشيء الكثیر

رغبتي أمرتني بأن ألحق بھم، ھي وأختي وأخي وعمي كنا نغادر المكان، وفیما كان ینبغي لنا أن. صبحي

خارجین إشترطت على والدتي عدم المبیت في القطاعذلك أنھ . الشرقي المسیحي، في نوع من التنازل الزھید

المنطقة التي غدت ممرا توجب علینا إجتیاز .المدینة لإلسرائیلیین، تیسر لھم من خاللھ السیطرة على

منذ زمن بعید، تطأ فیھا قدماي كانت تلك المرة األولى،المفتوح لشرقیة، بعد أن اجتزنا خط التماسبیروت ا

. استثنائیا الى الغرب، ألجل أن یستكمل اإلجتیاح خططھعلى المقعد الخلفي من السیارة لما عبرت كنت جالسة

على مقربة من قصر بنا ممر المتحف المریع، والقائمالصنوبر، في حین منع الفلسطینیون من عبوره منعا

نا الجانب اآلخر من المتحف، طالعنا حتى إذا بلغ .باتاآلت إلیھ أحیاؤنا، ففیما كان عالم آخر، ال یشبھ بشيء ما

بدا قطاع بیروت الغربیة مدمرا بفعل أعمال القصف،أنا . الجزء الذي یسیطر علیھ الكتائبیون سلیما، أو یكاد

لتوي مدینة في حال الحرب، وھا أنا في اآلن، غادرتالمدن، بمتاجرھا تھ، في مدینة ككلعالم صاعق في تفاھ

والمتنزھین فیھا، وبمقاھیھا المكتظة بروادھا، مع أنني . أجتز سوى بضع مئات من األمتار بعیدا عن منزلي لم

مزر، بعد أیام من القصف ولما كنا ارتحلنا في وضع بلیالیھا، اقترحت علي والدتي بأن تشتري لي ثیابا

یمتلكني، أبدیت لھا لكني والغضب. لتلھیني عما بي .ممانعة ال تقبل الجدال

66

. الغربیة من سكانھا وقتا طویال استلزم إخالء بیروتفي المنطقة وكنا مجبرین على المبیت لدى أقرباء لنا

. ولساعات اللیل الطویلة كنت أجتر غضبي. الشنیعةحقدي على األرض كلھا، وعلى ھؤالء وصببت جام

وأعانوھم على فتح وا اإلسرائیلییناللبنانیین الذین استقبل .بیروت، والذین كفوا، بنظري، أن یكونوا لبنانیین حقا

وحقدت كذلك على عائلتي التي اختارت سبیل الفرار، .ولزمن طویل للغایة

المرة، من أن یذھب كل شيء وأدركني الخوف، ھذهفتكومنا وفي الغد، أعدت لنا سیارة بیجو بیضاء. سدىثم . ا عشرة ركاب، في سیارة ال تتسع إال لخمسةكن. فیھاأما الطریق فبتنا نعرف أنھا تتخللھا . اإلنطالق كان

ظھر أول حاجز حتى بادر وما أن. حواجز إسرائیلیة عمي الى تمزیق أواقنا الثبوتیة، حتى أنھ أصر

علىتمزیق بطاقة تعریف لي صادرة عن الصلیب فقد بدا . ى األمرعل وعبثا احتججت. األحمر اللبناني

وقد برزت نقاط. عمي والحال ھذه، شدید العزم، ال یلینالتفتیش التي أقامھا اإلسرائیلیون خیر مصداق لمخاوف

األخیرة نقاطا یتعرض فیھا المارة فكانت ھذه. عميفكانت تتم باللغة أما أعمال التحري. لإلھانات لیس إال

على وكنا مجبرین . العربیة، وعلى نحو متواصللساعات طویلة تحت لھیب الشمس من غیر أن اإلنتظار

رأینا طفال یبكي ألنھ وفي أحد الحواجز،. نبل شفاھناعطشان فطلب أھلھ من الجندي أن یتفضل ویتكرم

.الماء، فما كان منھ إال أن رفض بكأس من

67

حول المدینة من الجنوب، ومضت السیارة بنا والتفتإسرائیلیین ك رأینا جنوداھنا. وسارت بمحاذاة الشاطئ

في مایوھات السباحة مستلقین على الرمال ھانئین بأشعة .وكأنھم في بالدھم الشمس

وبعد ثماني ساعات من المسیر المتصل، أمكننا أخیرا .أن نبلغ دیر میماس

وكان لقائي . خمس سنوات عدت إلیھا بعد غیاب داملم و. بجدي وجدتي وعمتي یفیض بالمشاعر والتأثر

أن عاینت، في مدى بصري جیشا شبھ لي أنھ ألبثناظري، لظل جندي وتراءى لي، أنى وجھت. لبناني

إسرائیلي، وأدركت فیما بعد أن ھؤالء الرجال المسلحینوالمرتدین بزة عسكریة وطنیة إنما ھم في خدمة الدولة

استعمار القریة في زمن یسیر، وراعني. العبریةیرتدون ورأیت كل الناس. اإلسرائیلیةوإغراقھا بالسلع

مطرزات عسكریة مصنوعة لدى أعدائنا وموزعة توجھنا وجدنا جنودھم وكنا أینما. مجانا علیھم .ومعلباتھم

أقاطع كل بضاعة تأتي فقررت، وعلى نحو عفوي، أن كان ثمة مناخ ضاغط یسود القریة التي بدت. من ھنالك

المؤید، . خر معارضاألول مؤید، واآل: منقسمة شطرینإسرائیل، أما المعارض فیمثلھ ویمثلھ المتحالفون مع

ولئن ذلك أن النزوح الجماعي من بیروت،. خصومھاأعاد الى القریة عائالت تنتمي الى الیسار، شأن عائلتنا

، فإنھ حمل كذلك شبانا 1978منذ العام الغائبة عنھاوحات مع الطر كبروا في العاصمة وكانوا متعاطفین

68

التي باتت موضع تأیید في بیروت الشرقیة، وعادوا الى .القریة

الكتائبیین في البلدة أیام معدودة ولم تمض على حلولأنھم ظنوا حتى حاولوا أن یفتتحوا مركزا لھم، ذلك

غیر أن مساعیھم . أنفسھم، لوھلة، مدفوعین الى النجاحون باءت بالفشل، ألن اإلسرائیلیین ال یرض سرعان ما

وما لبثوا . حداد عن قوى أخرى سوى عن حلیفھم سعدأن خنقوا في المھد بعض الحمالت الدعائیة التي كان

شأنھا أن تشیع التوترات بین ھؤالء الكتائبیین منكان ثمة لبنانان یتساكنان وفي الواقع،. وقوات سعد حداد

في دیر میماس كیفما اتفق، غیر أن كال منھما كانفي المسائل الشائكة، وال سیما في یتجنب الخوض

كتائبیین وشیوعیین حضرة اآلخر، وكنت ترى .متواجدین في النادي الریاضي نفسھ الذي أنشئ ظرفیا

وكلما . نوفمبر/ نھایة تشرین الثاني بقینا في القریة الىخالل حاولت أن أستل غضبي الذي حملتھ معي منواجبي دروسي، عاودني التفكیر في إسرائیل وفي

وكانت بشرى والدة جبھة . عدوانھا كلبنانیة في مواجھة/ عشر من أیلول المقاومة الوطنیة اللبنانیة، في السادس

أخیرا : وقلت في سري. سبتمبر ، قد غمرت كیاني فرحا .األمل بریق

تكون ھذه البشرى زفت للناس ومن عجائب األمور، أنوالذي فتح ینبعید مقتل بشیر الجمیل، حلیف اإلسرائیلی

بوابات بیروت لجیش الدفاع اإلسرائیلي، والذي عرض ألخطار محدقة، وبات بوجودھم المرشح المدنیین

69

أمره ضحیة األبرز لرئاسة الجمھوریة، وذھب آخرولئن حزنت لموتھ على ھذا النحو، فإن . عبوة مفخخة .أراحني نوعا ما خبر مقتلھ ھذا

الكتائبیین في بلدتنا، أثار حمیة فكان تولیھ السلطة قد. نوافذ بیوتنا فأتوا یھللون فرحین بذلك اإلنتصار تحت

حتى إذا أعلن مقتل بشیر الجمیل رأیت قسما من أھالي .میماس یعلنون حدادھم واضطرابھم العمیق دیر

.وھؤالء كانوا قسما من البلدة لیس إال

. وافانا والدي الى القریة ولم تمض أسابیع قلیلة حتىإذ .كان حصار بیروت الغربیة أحدث فیھ عمیق األثرو

بقي وحده في حینا الى جانب بعض أصدقائھ من حین : األحد األسود فعاشوا سویة مرارة. جیراننا

تواصل القصف على منطقة بیروت الغربیة على مدى ولما كان منشغال على . وعشرین ساعة بال توقف أربع

ر التي أحاطت بھ، النا الدوام، على الرغم من طوفان وجدتھ غیر قادر على الطعام والشراب، لفترات غیر

فأنھك ومرض واضطر عمي الى إخراجھ . قصیرةیروي لنا على طریقتھ ھھنا، راح. وحملھ الى القریة

أرھب ساعات ) أي باستنظاقھ ودفعھ الى الكالم(. التي قضاھا في بیروت، وبنبرة بطیئة ھادئة الحصار

جریدتھم الى النور، ورفاقھ أن یخرجواكیف أنھ أمكنھ وروى . كل صباح، رافعین بذلك التحدي على المأل

رحیل المقاتلین الفلسطینیین، یقوم بحراستھم جنود كذلكذوي القبعات الزرق، وذلك إثر قوات األمم المتحدة، من

واإلسرائیلیین، اإلتفاق الذي عقد بین یاسر عرفات

70

الى التفاوض بشأنھ بین والذي سعت المنظمات الدولیة .المتقاتلین الطرفین

التي سكبت، والوھن وراح والدي یصف الدموعوالصمت المطبق اللذین حال على المدینة وھي تودع

األخوة المنھزمین والمكروھین من بعض منا، ھؤالءمبحرین ولمرة أخرى ویغادرون موطن لجوئھم البائس

لدي، فقد تملك وعلى حد ما روى وا. باتجاه المجھولذلك أن . شعور من المواساة، نادر بإجماعھ البالد

بیروت في الفترة والدتي شاءت أن توافي والدي الىعینھا، وكانت تبدي ریبة حیال أبو عمار، غیر أنھا

عبارات المواساة حیالھ وترثي لوضع مضت ترسلكان صفحة . أذكر شعبھ وقواتھ، وللمرة األولى على ما

أني ظللت على یقین بأن ھذا الرحیل لن بید . وطویتوكان من األكید لي أن . المسألة على اإلطالق ینھي

الفلسطینیة، وأحسنوا اإلسرائیلیین أثاروا الذریعةغیر استخدام انقساماتنا لیطیلوا وجودھم في لبنان، آلماد

.معروفة

إیالما كانت تلك التي وصف بھا غیر أن الكلمات األشدارتكبت ي صبرا وشاتیال، والمجازر التيوالدي، مخیم

فیھما ضد سكان ھذین المخیمین الواقعین جنوب لقوا مصرعھم في ھذه آالف من األشخاص. بیروت

المذابح، التي كان اإلسرائیلیون مجرد شاھدین فیھاوخرجت األحزاب الوطنیة . لكونھم یراقبون مداخلھما

یل ما حملت إسرائ اللبنانیة وعرفات، وسرعان وحلفاءھا، ومیلیشیات سعد حداد، والقوات اللبنانیة

.والكتائب المسؤولیة الكاملة

71

والدي قسطا وفیرا من الراحة لدینا وألسابیع عدیدة، أخذفرصة سانحة لھ، وبعد ذلك، رأیتھ یستغل. واستعاد قواه

أن یمضي ھو ووالدتي : وھي انفتاح الحدود مع إسرائیل األولى في حیاتھما قاصدین، أرض العدو، وللمرة الى

والحال أن ھذا . الشرقیة زیارة قریبة لھما في القدس النوع من العالقات العامة دأبت الدولة العبریة على

تنظیمھا بھدف المباعدة بین لبنانیي الجنوب وإخوانھم الشرقیة، راح والدي یقنع وفي القدس. في بیروت

لیسوا اللبنانیینالفلسطینیین بأنھ یشاطرھم آراءھم، وأن جمیعا عمالء لدى إسرائیل، ولم یتوصل الى إقناعھم

وبقیت لفترة طویلة أسائل نفسي . النفس بذلك إال بشقالمناضل وبمرارة، عن الدافع الذي جعل والدي،

الشیوعي منبتا، یقتنع بإمكانیة عبوره ھذه الحدود قاصدا .األخرى، وموافقا عدونا في أھدافھ الجھة

ولئن غادر، . تصویب وضعنا عودتھ، سارع الىلدى فیھ في بیروت الغربیة، منزال أصابتھ القذائف وأمعنت

تدمیرا لمرتین متوالیتین، فإنھ ظل مصرا على عدم محتلة، فیما كان اإلسرائیلیون إقامتنا في منطقة

كنت وعلى أي حال،. یباشرون اإلنسحاب من بیروتالتي ینخرط فیھا أمثالي، على یقین بأن بأس المقاومة،

وحده، بإجبار اإلسرائیلیین على سوف یكون كفیال، .التقھقر

والدتي الى العاصمة لتقدیر إذا، مضى والدي برفقةبأعمال حجم األضرار الالحقة بمنزلنا، وعلى الفور قاما

ترمیم سریعة في المنزل، وأرسال في طلبنا لموافاتھما .الى بیروت

72

أشھرا عدیدة، عدنا الى بیروت وبعد انقطاع دام .الغربیة، واستعدت أصدقائي وحللت في حي األثیر لدي

حالھ، فقد تبین لي أن كل ومع أن كل شيء بدا علىالتي ولم تعد أخبار العملیات الحربیة. األوضاع تبدلت

تنشر عبر اإلذاعة مقتصرة على القتال األخوي والعقیم، اإلسرائیلیین حیز في المقاومة ضد بل صار لعملیات

.النشرات اإلذاعیة أیضا

مدینتي، التي أرغب في أن تكون وإذ أجلت النظر في على صورتي المرجوة، شعرت للمرة األولى بأن

ومع أن اتحادنا . الجیش اللبناني یمارس علینا رقابة خفیة. إال أن كال منا صار مالحقا عن كثب لم یكن محظورا،

وعبثیا، ألن ھذا باعثا على الضحك،وجدت ھذا الوضع الجیش بنظري یخطئ الھدف كلیا، غیر أننا كنا مجبرین

.أخذ األمر بعین االعتبار على

ففي . عودتي الى بیروت حدثان كان لھما أن یطبعا نوفمبر، والذي/ الثاني والعشرین من تشرین الثاني

م یحتفل فیھ اللبنانیون بعید االستقالل، قررنا أن ننظوأعلمنا بعدم . الوجود اإلسرائیلي مظاھرة احتجاج ضد

تجاوزنا .موافقة الجیش اللبناني على ھذه التظاھرةاألمر وقررنا أن نضع في مقدمة الحشد فتیانا تتراوح

وكنا على یقین . العاشرة والرابعة عشرة أعمارھم بین. بفتیان عزل بأن العسكریین لن یجرؤوا على المساس

نا في تقدیرنا، إذ لم یتوان الجنود عن إطالق ولكننا أخطأعلى الحشود فجرحوا الكثیرین من الشبان الذین تم النار

ولم تمض على تلك الحادثة . نقلھم الى المستشفیات

73

بعض األیام حتى قام شاب لبناني یدعى بالل فحص،فقررنا . بأول عمل انتحاري ضد عربة إسرائیلیة مدرعة

نحیي فیھا بطولة الشھید، للتو أن نطبع ملصقات ومضینا نعلق ھذه الملصقات، تحت جنح الظالم، على

فكنا ننطلق اثنین اثنین، شاب وفتاة، . جدران المدینةفي عملنا اصطنعنا المغازلة وكلما صادفتنا دوریة .صرفا للنظر وتمویھا

ھذه، جرت عملیات شجاعة وفي خالل أشھر الرصاص .ة التي انتشرت في بیروتضد الفرق العسكریة األجنبی

ودفع الجنود األمیركیون والفرنسیون ثمنا باھظا لتدخلھم وعلى الرغم من أنني شدیدة التحفظ . إسرائیل الى صالح

العنف بذاتھ، إال حین حیال العملیات اإلنتحاریة وحیالھذه یكون وسیلة النضال المتبقیة في ید المظلوم، وجدت

لقد . حالل السالم في بیروتالعملیات ال مفر منھا إل. طرفا في حرب ال توفر أحدا وال شیئا كانوا في الواقع

وتیرتھ، خالل سنة والحق، أن تعلمي السیاسة تضاعفتوقد عمل اإلجتیاح اإلسرائیلي . الرھیبة ھذه1982

.قناعاتي أیما ترسیخ علىترسیخ

كنت في الخامسة عشرة من عمري، وقد أعددت نفسي لمباشرة .العمل

74

اإللتــــزام

مظاھرة في بیروت، من أجل كل المفقودین، .والمخطوفین، والموقوفین

بزھق أرواح الناس فقط، إنما الحرب األھلیة ال تكتفي تعمد كذلك الى اختطاف الرجال، فتترك عائالتھم

ذلك الیوم، كان ینبغي لكل السیارات . بانتظار ال یطاق واحدة وسط الشوارع لدقیقة أن تتوقف عن السیر،اإلتحاد ونزلت مع أصدقائي في. تضامنا مع المخطوفین

.الى الشوارع الرئیسیة في المدینة إلیقاف حركة السیر

فكانت السیارات . العملیة باءت بالفشل، ذلك الیوم إال أنورأیت . بإشارات التوقف تواصل سیرھا غیر مبالیة

تصرفھ في فأثار. اسائقا یھم باالنطالق غیر آبھ بنشاطنوعلىالرغم من أنني أضبط . نفسي غضبا عارماجیدا، فقد جعلني ھذا التصرف أفقد أعصابي ومشاعري

فرد علي . مدنیة وبختھ ودعوتھ أن یصیر أكثر. صوابيسئما، وطمأنني بأن جھودنا كلھا لن تجدي نفعا، وأنھا

.طائل بال

.وذات لیلة، حدث أمر جلل

حین أعلن خبر مقتل الشیخ نتصف اللیل،كان الوقت ملم وھو. كان أحد وجوه المقاومة البارزین. راغب حرب

یتوان عن الدعوة الى مقاومة االحتالل اإلسرائیلي، من

75

. في بلدتھ جبشیت، القریبة من صور على منبر الحسینیةأمل، وكان الشیخ حرب رجل دین وملتزما في حركة

لیون أن لھ تأثیرا كبیرا في ولما وجد اإلسرائی. في آنلم ین یحض العشرات ممن حولھ على محیطھ، وأنھ

غیابھ حزنا فأحدث في. قتالھم، قتلوه في قلب مسجده، الذي كان "علي"فمضیت، مع الفجر الى رفیقي . شدیداعن الطالب الثانویین الملتزمین في اإلتحاد مسؤوال

تھ على الخبر، وأطلع أیقظتھ. بمنطقة بیروت الغربیة فقررنا أن ننظم تجمعا في المدرسة، حدادا على الشھید

حرب، واحتجاجا على عدوان إسرائیل، على أن یلي .الى الشارع التجمع اإلنطالق في تظاھرة

مدرستي انتدبت ألسأل مدیرتنا ولما كنت الناطقة بلسانوسرعان ما اندفعت الىمكتبھا،. الموافقة على تحركنا

ولئن تفھمت المدیرة انفعالي وغضبي، . بالرفضقوبلتعلى رفضھا تعطیل الدروس لمرة فقد ظلت مصرة

أنواع جدیدة، في حین بدت حیاتنا المدرسیة مشوشة بكلوظلت معاندة، ال . األحداث الناجمة عن الحرب األھلیة

فخرجت عن طوري، ورحت . تصرفھا أغاظني. تلینربیعا تلو خامسة عشرةأقدم لھا البراھین من علیاء ال

مع ذلك، أمكنني أن . البراھین عما ظننتھ درسا بالوطنیةرأیھا، وتوصلنا الى نوع من المساومة، یقضي بأن أبدل

الیوم، ثم یسمح لنا بالتجمع نتابع دراستنا في نھار ذلك لشرح ما یجري، قبل اإلنصراف الى التظاھر في

ستي وحدھا ذلك الیوم، تظاھرت مدر. بیروت الغربیةوكالعادة ، كانت المواكب .في الشارع دون سائر الناس

تنطلق من الصنائع، وتتجھ صوب مكاتب األمم المتحدةسالكة شارع الحمراء الكبیر، ومن ثم تتجھ الى الجادة

76

غیر أننا اكتفینا . السفارة الكویتیة الكبرى، وتمر من أمام. الموال أع بالتظاھر في الحي نفسھ، من دون رایات

ورحت أطلق الشعارات في حیویة بالغة، حتى أن أحد ھذه : "من ذلك المكان رمى بھذا القول الرجال المارین

."!انتحاریة، بالتأكید الفتاة، لسوف تقوم یوما بعملیة

.تبدت لي نتیجة ھذا النھار ھزیلة

وتفكرت . وبارحني ھدوئي، من جدید، أكثر من الالزمقتي المتوقدة وحماستي في ضرورة أن أستخدم طا

.ألھداف أخرى

جبھة المقاومة اللبنانیة ضد فمنذ اإلعالن عن والدة / اإلحتالل اإلسرائیلي، في السادس عشر من أیلول

، كففت عن الضیاع وعرفت 1982سبتمبر في العام ولكن، ماذا یقتضي أن أعمل، .قررت أن ألتزم. سبیلي

جوابا عنوفي أي ظروف، ومع من؟ لم أكن ألعرف وكلما استشعرت، في صمیم نفسي، . كل ھذه التساؤالت

في ھذه المعركة التي اندلعت ھذه الحاجة الى المساھمةاتخذھا لتوھا، ازددت جھال بالسبیل التي ینبغي لي أن

ألصیر على صلة ملموسة بھذه المقاومة الشھیرة، التي ي أن تحول المقاومة الىنطاق السریة ف والحال. أجلھا

.بیروت لم یكن لیسھل أمر ذلك التواصل

الشدید الذي لبثت أحفظ فیھ وكذلك لم یكن ھذا التكتمأقربائي، قناعاتي العمیقة، سواء داخل عائلتي أو لدى

وحین كنا نناقش في اإلتحاد . لیسھل علي األمر نفسھعلى القیام بأعمال جریئة، كنت أحذر مسألة اقتدارنا

77

الشعلة التي ملكت ل في الى ھذهجیدا من إیذاء أي می فجھدت، على. سبتمبر الشھیر ذاك/ كیاني منذ أیلول

الدوام، في أن أبدو طالبة نجیبة، تنفر من الخروج الى تظل في المنزل لتعمل، ومندوبة السھرات، وتؤثر أن

المعقول، عن الطالب نشطة غیر أنھا ال تخرج عنن یكون عطاء وذات رشاد ورزانة، في حین بطل أ

بالنفس في سبیل القضیة، على حساب الذات والتضحیةالعملیة الشعارات الطنانة، أمرین محرمین منذ

االنتحاریة األولى التي نفذتھا فتاة لبنانیة في القطاع سناء محیدلي، ذات الثمانیة عشرة .1985 المحتل عام

القنبلة التي كانت تحملھا ربیعا، شاءت أن تفجر بنفسھا .لدى مرور دوریة إسرائیلیة

ولئن كنت مسالمة في طویتي، فإن ھذا المثال الذي .صعقني وجعلني مستعدة للنضال

الصعوبات، وألجلھ یضحى والنضال دونھ الكثیر منعشرة، وھا أنا وقد بلغت الخامسة. بالكثیر من األمور

ذلك العمر الذي یصیر فیھ متوقعا أن تنمو بین الشباب، المراھقة، وبین الفتیات، سواء في المدرسة ةفي مرحل

أو ... المصلحة البحتة، أم في االتحاد، مشاعر تتجاوزمشاعر الحب والھوى، وفي ھذا الشأن، كنت موضع

من قبل أحد أصدقائي، وكان عضوا في الحزب إعجاباالحتقار الى الشیوعي، وما برح ینظر بشيء مناضجین ألنھم ال أعضاء االتحاد، وینعتھم بغیر الن

ورحت أصغي إلیھ وھو یبوح لي . في اللھو یفكرون إالأثبط عزیمتي، إال لم. بحبھ، ھذا البوح األول في حیاتي

أني، وبعد تفكیر عمیق، صرت علىیقین بأن حكایة

78

ربما تحول دون المضي في مخططي الحب ھذهخدماتي وكنت، الىحینھ، ال أزال أعرض. المستقبلي

الشخص أو ذاك للعبور في سیارتھ الى لمرافقة ھذا .نقطة في بیروت

في اقتراحاتي، فألني كنت فإذا ما كنت أمضي قدما أعرف أن وجود زوجین في سیارة واحدة یثیر من

وال سیما إذا كانت –الریبة أقل مما یثیره رجل مفرد استقللتھا ناقلة لألسلحة والذخائر، على السیارات التي

.األغلب

التزامھ، ألمر یستتبع عواقب تزم المرء ویزید منفإن یلعاینتھا أضف الى ذلك، فإن األمثلة التي. غیر محسوبة

من حولي كانت تردعني عن مزاوجة المشاعر .بالمقاومة

شبكان المقاومة، تقربت وفي خالل بحثي الدؤوب عن من رفیقة في الحزب ولھا صدیق ینتمي الى تنظیم

ن ھذا الصدیق یشك في كونھ وكنت أعرف أ. ماركسيوكلما أبدت لھ صدیقتھ .مشاركا في عملیات حربیة

بالرفض رغبتھا في االلتزام والقتال الى جانبھ، واجھھالم یكن یشاء أن . القاطع، محتجا لھا بالمخاطر الكثیرة

ولھذا السبب، انتھى بھما األمر الى . شيء تخاطر فيلة نفسھا في عین المعض وفیما بعد، عرفت. اإلنفصال

كان الشاب، ھذه المرة، ملتزما في . صدیقة أخرىوكان التزامھ یستغرق منھ جل وقتھ، . حزب اهللا صفوف

ویوم قررت اإلنفصال عنھ، .ما جعل صدیقتي تنفر منھولم . قریبا علمت بأنھ مزمع على القیام بعملیة انتحاریة،

79

قھا ھذا، أیقنت أن لھا قسطا من المسؤولیة في قرار صدیأن أرافقھا الى الجنوب لمالقاة ذلك الشاب سألتني

فسررت بھذه . العملیة ومحاولة ثنیھ عن القیام بھذه .مضینا إلیھ. النعمة غیر المتوقعة، وقبلت رفقتھا

وأمكنھا، آخر األمر، أن تقنع صدیقھا القدیم بالعدول عن إن ھذا المقاتل، حین أسر لھا بكل والحق یقال،. نشاطھ

تتیح لھا موافاتھ نوایاه، وحین وفر لھا كل الوسائل التي إني أتفھم. حیث ھو، یكون قد أفسد مخططھ ونضالھ بیده

مشاعر رفیقتي ومسعاھا في سبیل استرجاع صدیقھا، .بعین اللوم حتى ولو صرت أنظر إلیھا

أنھ یمكن للمرء أن یختار ولقد نظرت حولي، فوجدتأحیانا، حد التضحیة بنفسھ،االلتزام، وقد یذھب بھ الى

. لغایات شخصیة، ال تمت بصلة الى الشعور الوطنيالغرام المحبطة، قصة قریبة لي تضاف الى حكایات

استشھدت في ، وھي الشیوعیة التي"لوال عبود"وتدعى " لوال. "خالل سلسلة من العملیات المنفذة في البقاع

ملیة التي انفصلت عن صدیقھا قبیل قیامھا بالع كانت قد .أدت الى مقتلھا

تثلج ) عن الحب المحبط(األمثلة في الحقیقة، كانت ھذهحسنا إذ صدري، ما دام لدي االنطباع بأني أبلیتومع أني . تجنبت أیة عالقة، حتى ولو كانت مع مقاوم

فتیات جیلي، راغبة في أن یكون لي كنت، شأن كلاللھا أماني خ عاشق، وأحلم بأن أحیا حیاة زوجیة، تحقق

الزوجین، في عائلة وأبناء، فقد بدا لي محاال في ظل الضاغطة التي تحیط بنا، أن أنخرط في الظروف

الحین، اقتصرت ومنذ ذلك. التزامین وفي جبھتین، معا

80

عالقاتي بالفتیان على الصداقة حتى أنني غدوت لھم على أسرارھم، ونوعا من المساعدة خیر أمینة .لعاطفیةاالجتماعیة وا

بأس بھ من صدیقاتي یسألنني وبالمقابل، وجدت عددا الكنت النصح في عالقاتھن العاطفیة، ألنھن یعتقدن أني

على درایة بھذه األمور، لمجرد أني كنت مقربة من أثر عن أعضائھ تمیزھم الحزب الشیوعي الذي

.بالتحرر

في الواقع، كان اختیاري في أال یكون لدي صدیق، قلیل إذ لم یكن یشغلني سوى أمر واحد، الدخول في . لكلفةا

.المقاومة

یتحقق ھذا الطموح، فشاركت، عانیت الكثیر ألجل أناتفاق مشاركة نشطة في الحملة التي أدت الى إسقاط

، والذي كان 1983مایو لعام / أیار 17العار، اتفاق وحلفائھا اللبنانیین الممثلین بأمین وقع بین إسرائیل

بسقوط ذلك وأدى النضال الى تحقیق غایتھ،. الجمیلوفي تلك الفترة، قابلني جمیع أفراد عائلتي . االتفاقالشدید علي، فأجمعوا على إرسالي الى بالحرصشر المصیر وكانت والدتي تجھد في تجنیبي. الخارج

الذي قد تؤول إلیھ فتاة لبنانیة أرثوذكسیة، عنیت بھ كان والدي، شأن أخي عدنان و. شاب مسلم الزواج من

البالد، ألتعلم بعیدا وعلى شاكلتھ، یرید لي أن أخرج منعن الحرب األھلیة، وعن فصول الرعب فیھا، وعن

ولئن ظننت أن . العنف التي ال تعد وال تحصى مظاھریضعني على سكة أحد أساتذة أختیى یمكنھ أن

81

لى المقاومین، فإني كنت على یقین أنھ سوف یسارع اأھلي بنوایاي لو أسررت لھ بكلمة واحدة في ھذا إخطارأن محاوالتي األولى للتقرب وزاد في الطین بلة،. الشأن

وحین .من المقاومین باءت بالفشل والصد، بكلمات جلیة، "علي"خاطرت، أخیرا، وطرحت السؤال عینھ على

الذي أولیھ تقدیري وأعرف وھو المسؤول السیاسي للسر، أجاب بأنھ األجدى لي أن أظل فيمقدار حفظھ

فھو یرى سبیلي . موضعي، داخل االتحاد، وفي مدرستيوعلیھ، فقد رأیتني . ال تلك مرسومة في ھذه الوجھة،

الوطني منتخبة، ویكاد یكون غصبا عني، في المجلسفاعتبرت ذلك بدایة . وأوردت الجرائد إسمي. لحركتنا

عمل سري، ویجده في في االنخراط ب سیئة لمن یرغبإلیھا تضییع اسمھ وسط حركة طالبیة، صرت أتردد

أقل بكثیر من السابق، لسب ظاھر على األقل، وھو .انصرافي الى الدراسة

ارتأیت التوقف عن متابعة وبعد تفكیر ملي في األمر،من دروسي في كلیة الھندسة، التي التحقت بھا بإصرار

رة عائلتي لإلقامة في كما قر رأیي على مغاد. عائلتيإن زواجي وإقامتي في : سري وقلت في. الجنوب

.الجنوب قد یكونان حال آمنا لما أسعى إلیھ

بعزمي على الذھاب الى المنطقة " علي"ذات یوم أنبأت .وكانت محض عبارة قلتھا لھ. المحتلة

إذ أتاني علي، وقد أیقن . بالحسبان فجأة، حدث ما لم یكنأیام قلیلة في ما أسعى إلیھ، ولم تمضبعزمي الثابت

یود أن " أحدھم"على سؤالي السالف، وأجابني بأن

82

یلتقیني، وأن موعدا لي معھ سوف یحدد یلتقیني، وأنالمنزل، أقفلت باب لدى عودتي الى. على وجھ السرعة

.غرفتي ووضعت الموسیقى ورحت أرقص بحمیة الفتة

!وأخیرا، ھا قد وجدت صلة

خلسة الى أحد األبنیة في وم الموعود، توجھتفي الیوقدمني دخلنا،. یرافقني" علي"وكان . بیروت الغربیة

. ھكذا كانوا یدعونھ". مازن"الى رجل أربعیني، یدعى صاحب حسن، عینان زرقاوان وشعر قامة مدیدة، بل

السكوت، وما وبدا لي كتوما، بل قل میاال الى. أشقرتكلمنا . بأي منبت اجتماعي خاصكانت عباراتھ لتنبئ

ثم رأیت علیا ینسل خارجا ویتركني .في كل شيءألستنا فتحدثنا عندئذ انطلقت". مازن"وحدي بحضرة

. عما یجري في لبنان، وعن الحرب األھلیة والمقاومةأن مشاعري الوطنیة تلزمني االنخراط فیھا، فشرحت لھ

ین، فسوف نلقى اللبنانی ألننا، إن لم نفعل شیئا، نحن وقلت لھ إنني. المصیر نفسھ الذي لقیھ الفلسطینیونولفظنتھ، جعلني . مصممة على المضي الى النھایة

الكالم، وجعل یزن حمیتي، إذ أطلق لساني في" مازن" شرح لي أنھ من الطبیعي أن یتراجع المرء حیال

أدركت قصده، فأجبتھ بأن قناعاتي راسخة . المخاطر .حالھ یزال علىوأن عزمي ال

حاضرا " علي"آخران، لم یكن وتال اللقاء األول لقاءانبسیطا؛ سألني محدثي عن قراءاتي، فكان الجواب. فیھما

في ما عدا الكتاب الذي كان أھداني إیاه عاشق شیوعي، على سرد لألعمال البطولیة التي والذي ینطوي

83

خالل اجترحھا الجیش األحمر ضد الفرق األلمانیةلحرب العالمیة الثانیة، لم أكن أقرأ شیئا خارجا عن ا

. ال جرائد، وال كتب سیاسیة أو تاریخیة .نطاق مقرراتيأعطاني، بادئ األمر، ، إال أن"مازن"فما كان من السید

والكراسة ھذه". الفییتكونغ"كراسة ذات عنوان واضح، تنطوي على خمسین صفحة، كتبت بالعربیة، وطبعت

. أقرأ أعماال عدیدة أخرى ثم اقترح علي أن. في بیروتضخم، ، وھو مجلد"الجدلیة التاریخیة"فاخترت أن أقرأ

. كان مرشدي الجدید استعاره استثنائیا من مكتبة روسیةأقرأ مھمة الى الجنوب، حال دون والحق، أني لم

.احتفاظي بھذا الكتاب أو إبقائھ في منزلي

. ت مواضیع النقاش بینناتوسع وكلما ازدادت اللقاءات، یبحث، في المقام األول، عن" مازن"واتضح لي أن

ألن ھؤالء أقل . مسیحیین لیؤدوا مھمات في الجنوبالمیلیشیات المؤیدة إلسرائیل، إثارة للشبھات، من قبل

جیش والتي تتولى حكم المنطقة المحتلة، الى جانبن الى ذلك، فقد نصحني بأال أبدل شیئا م. إسرائیل

في كنف عائلتي، وأكرس أغلب عاداتي، وأتابع العیشالتجذر وشرح لي أن ھذا. أوقاتي في الدراسة الجدیة

العائلي أساسي، ما دام أ المقاومة تسعى الىتحریر یھم .اللبنانیین جمیع

، أعددت 1986 مارس/ في غضون شھر آذار امتحاناتي، ومن ثم مضیت الى عمتي التي بقیت في

ذلك أول اختبار لي، حتى لو لم یكن ما وكان. الجنوب. للكلمة من معنى أقوم بھ بمثابة عملیة خاصة، بكل ما .ولدى عودتي، وجدت ما یشبھ الكارثة

84

" مازنا"للقائنا، لم أجد فحین قصدت المكان المألوف .الذي توارى من دون أن یترك لي أقل أثر أو رسالة

م شیئا عنھ، وبقیت، على مدى ثالثة أشھر، ال أعلفبعد أن المست . اإلحباط فتملكني الیأس وشارفت على

بمقدوري لم یكن. حلمي بیدي ھا ھو یتوارى بعیدا عني. ینبغي لي أن أنتظر. أن أقول كلمة بھذا الشأن لعلي

كان قد اختطف على ید " مازنا"أن وعلمت أخیراأفكاري ولم تشوشت. اختطف وعذب تعذیبا. حركة أمل

أعد قادرة على التركیز على دروسي، حتى انتھیت الى وبعد . االمتحان، ألول مرة في حیاتي الرسوب في

. من أمل مضي أسابیع مثقلة باالنتظار، الح بارق .ترك لي رسالة في مركز االتحاد" مازن"

ویوم لقیتھ، في . الى حالھ وأخیرا، أعید التواصلإنما .عن جلجلتھغضون أیام قلیلة، لم یرو لي شیئا

اكتفى بإعالمي أنھ لم یدل بأي معلومة في ما یخصني، .نقاشاتنا وعدنا الى

أن االنخراط في المقاومة شأن في البدء، لطالما ظننتوأعلم عن إذ یكفي أن أعطى عبوة متفجرة. بالغ السھولة

بل اكتشفت أن العملیات ھي . الھدف، حتى تتم العملیةفھي . لكثیرون، وأدق من قیاسھمیتصوره ا أعقد مما

لألرض، وجمعا تستلزم تھیئة، ودراسة میدانیةوحین أنبأت محدثي بعزمي . لمعطیات وتفاصیل ھائلة

إجازة قصیرة في الجنوب، طلب مني على قضاءورقة ثالث صفحات بحجم. أن أكتب تقریرا" مازن"

.، أخط فیھا كل ما أراه(A4) النسخ العادیة

85

ابتدع حجة قابلة للتصدیق، لك، جعلتوفي موازاة ذجیئة أبرر فیھا لعائلتي وصدیقاتي مشاویري الكثیرة،

وذھابا، الى الجنوب ومنھ، وكانت ھذه الحجة تدعى المختبر التابع لمستشفى وھو عامل في". سھاد"

مرجعیون، وھي بلدة یعمل فیھا ابن عمي عصام، حیثھذا كان " ھادس. "یدیر عیادة خاصة بالتعاون مع زوجتھ

.ولھ مكانة جیدة وھیئة حسنة في السادسة والعشرین،

بھ صدیقاتي، یشیع بین والحال أن كل ما كنت أسر وجھدت أن أبوح بسري الى. الناس كالنار في الھشیمذات مساء، وبینما كنت أتنزه . أكثر نساء القریة ثرثرةكان ھذا الفتى یستأھل مشاویري مع أختي، سألتني إن

وذكرتھا على فاصطنعت الغضب الشدید،. كثیرة الیھال مع – الحقیقیة بخالف قصتي –نحو فظ، بقصة حبھا

.المعقد بیار، جارنا

للحال، بلغتھا الرسالة، كما بلغت كل من حول أختي، فلم .یعد أحد یجرؤ على مفاتحتي بأمر وجودي في الجنوب

بأن لقائي بھ ھذا سوف "مازن"وذات یوم، أخبرني ومن اآلن فصاعدا، سوف یوكل االھتمام. كون األخیری

وكان ینبغي لي أن أحمل . بي الى عضو آخر في التنظیم. وأبرزھا للمأل" الحسناء" في یدي المجلة النسائیة

فإذا . كلینا واتفقنا على أن نتبع نظاما رمزیا یتعلق بأمنظننت نفسي مالحقة أو مراقبة، ینبغي لي أن أحرك

. مارلبورو على نحو یستفاد منھ وجود خطر ماال علبةوفي . للقائي" أحمد" كنت أتوقع أن یأتي رجل، باسم

الیوم الموعود، وبعد دورات كثیرة قمت بھا في المدینة،

86

وكنت ألفت، منذ لقائي األول بـ . قصدت المقھى أخیراالوقت في زیارة المحالت إضاعة بعض" مازن"

ك التي تعمرھا واجھات منالتجاریة، وال سیما تلالزجاج العالیة، لیتسنى لي التأكد مما إذا كن أحدھم

لقد . الصلة بأحمد، كما كان متوقعا وتمت. یالحقني أم الوھا أني . السبیل أنجزت، للتو، خطوة إضافیة في ھذا

.على صلة مباشرة بأحد فروع المقاومة النشطة

یونیو من / وكان شھر حزیران .ولسوف تتعدد اللقاءات/ أیلول وبعد العطلة الصیفیة، ومنذ شھر. 1986العام

سبتمبر، من ذلك العام، سوف أمضي معظم أوقاتي في .المنطقة المحتلة

.وسوف یبدأ عمل سري جدید

87

التحضیر

لقد حول االحتالل اإلسرائیلي الجنوب تحویال كبیرا، في .خالل سنوات معدودة

تقالیدھم، منذ أن اللبنانیین وتبدلتوانقلبت أنماط حیاة ولم یكفھم ذلك، بل إن أیام. بدأوا یعملون في إسرائیل

. األعیاد لدیھم صارت الىحال ال ترضیھم على اإلطالقتجري نھار األحد، كما ھو وما عادت رتب اإلكلیل

حاصل في الكنیسة، إنما صارت تجري نھار السبت،ن المال أقدر على ذلك أ. الیھودي" للشبات"مجاراة

االجتماعیة، من وجود الفرق خلخلة العالقاتیعملن وصارت النساء الشابات اللواتي. اإلسرائیلیة

لدى اإلسرائیلیین، أو یتعاملن مع جنود اإلحتالل، ینلن . بكثیر مما تنالھ العامالت في بیروت أجورا أعلى

لیرضین بالتغزل والحال أن ھؤالء اللبنانیات ما كن لتقلصت. ن، إال طمعا بھذه القدرة الشرائیة العالیةبھ

.الزیجات، وتزاید الطالق في صفوفھن

الجنوب منطقة معدومة من حیث الحقوق، بل إذا، باتحتى إذا جلست . كافة إنھ غدا موطنا لعملیات التھریب

الى مائدة أحدھم، لم تجد لدیھ قنینة عرق واحدة، إنمالم تتوان . ع جوني ووكرترى قناني الویسكي من نواالتجار بالمخدرات وإرسالھا عصابات التھریب فیھ عن

وكل عبر الحدود، وبیع السیارات المھربة والمسروقة،وكان ھذا الوضع، لبعض . ما حرم التداول بھ علنا

88

القانون في بالدھم، ملجأ مثالیا لھم األفراد الذین یسؤوھمالذي یقوده الیوم أكثر أمنا من جیش لبنان الجنوبي،

.أنطوان لحد، بال حیاء

انكشف لي خالل زیارتي األولى بدا لي ذلك العالم الذيبیروت، بدا في" مازن"لقریتي، وبعید لقائي األول بـ

وفیھ عدت والتقیت بأقاربي، وأصدقائي، . لي شاذا. أذوب كیاني وسطھ، ألفھم طوایاه جیدا وجھدت في أن

الحسبان، على ومة فلم یكن فيأما الحدیث عن المقافھي ما برحت موضوعا محرما نظرا . اإلطالق

المخابرات القوي، سواء أكانوا مرتبطین لحضور جھازبجھاز الشین بت، وھو بجیش لبنان الجنوبي مباشرة، أم

.جھاز مكلف الحفاظ على األمن الداخلي للدولة العبریة

الذین صادفتھم معظم اللبنانیین من الظلم االدعاء بأنذلك، فقد على العكس من. كانوا مؤیدین لإلسرائیلیین

ظلوا متعلقین ببالدھم وبعائالتھم، التي غالبا ما كانت القطاعین، المحتل والمحرر وعلى جانبي خط تقیم بین

في شراء موطئ قدم بل رأیتھم یجھدون. التماس األخیر .ادیة ذلكلھم في بیروت، كلما أتاحت لھم إمكانیاتھم الم

بید أنھم حاولوا، كذلك، أن یكسبوا ما وسعھم من في مھب التاریخ وقرقعة فلما وجدوا أنفسھم. الوضع

السالح، وداخل مجتمع انعدم فیھ التوازن بفعل الحرباألھلیة، جھدوا في أن یتخلصوا بلباقة مما ھم فیھ،

أن یطرحوا على أنفسھم ویراعوا مصالحھم، من دون مقدار الذي بلغوه في ذلك الفساد، أو فيأسئلة حول ال

تحصیال ) التعامل(التعامل مع القوة المحتلة، ما دام مقتنعین بأن ھذا الوضع ال یمكنھ كلھم كانوا. للحاصل

89

التصور بأن أن یدوم، إال أن أحدا منھم لم یبلغ بھ حدفي . إسرائیل سوف تنسحب یوما الىما وراء حدودھا

الء بأن تربع قائد عسكري وسیاسي توھم ھؤ الواقع، لقدألقابا مثیرة للسخریة على سدة جیش، واصطناع األخیر

فلم .في دویلة مسخ، توھموا بأن ذلك أھل للبقاء والحیاةال یكون لبنان الجنوبي مسلوخا عن لبنان، ویرقى الى

صمام األمان بین إسرائیل وجیرانھا مرتبة الدولة،استعاد سیادتھ على لبنان متىالعرب الى الشمال؟ ثم إن

ھذه المنطقة المحتلة، فإن أفراد المیلیشیات الذین كانواتابعین لجیش لبنان الجنوبي، وھم عسكریون قدامى في

باتوا ملحقین بجیش االحتالل، جعلوا الجیش اللبناني وقدالمیسرة في یتخیلون القدرة) أفراد المیلیشیات(

م اللبناني، وذلك بفضل االنضواء ثانیة تحت لواء العلغیر أن شیئا من ھذا . للعفو یصدر لصالحھم قانون

ابنة مناضل شیوعي ذائع ولما كنت. القبیل لم یكن أكیدا الصیت، ومن قریة أثر عنھا كون أغلب سكانھا من

الشیوعیین، رأیتني مضطرة الى بذل الجھود المضاعفة تزامي أكن بعد، في مرحلة ال ولم. لدفع األنظار عني

، مكلفة بمھمة1987 و 1986األخیرة، بین عام خاصة، إال ما تعلق بنقل المعلومات الى بیروت،

االتصاالت مع اللبنانیین من وبالسعي الى مضاعفةالتابعة لجیش المنطقة المحتلة، ومع أعضاء بالمخابرات

وفي المقابل، رحت أجھد نفسي . لحد، إن كان ذلك ممكناك الفتاة البالغة األنس، والمرحة، في صورة تل ألبدو

بتاتا باألمور السیاسیة والریاضیة، وغیر المھتمة والعسكریة، التي عدت شأن المنطقة بتاتا باألمور

السیاسیة والعسكریة، التي عدت شأن المنطقة المحتلة الحصول على أذونات الدخول ورحت أستسھل. األول

90

بالتناوب انت تعدالى المنطقة والخروج منھا، والتي كبین بیروت والجنوب، لدى مركز المخابرات التابع

الجنوبي حینا ولدى اإلسرائیلیین حینا آخر لجیش لبنانعلى بیروت الشرقیة ورحت أتردد. تضلیال ألثري

وفي آخر . وعلى بیروت الغربیة، على حد سواهفي . سعیت رسمیا الى عمل في الجنوب المطاف،

بأن لدي حجة وت، كان الناس على یقینالعاصمة بیر. قویة للبقاء في الجنوب، وھي العالقة الغرامیة الملفقة

ھذه األثناء، رحت أفید، بالظاھر، من الھبة المالیة وفي .المنطقة، على نحو مصطنع التي ما برحت تمد ھذه

انقطاعا مؤقتا، طرحت " مازن" وفیما انقطعت صلتي بـعالقة مع إذا كنت مستعدة إلقامةعلى نفسي سؤاال عما

حتى أني . جندي إسرائیلي، محاولة إیقاعھ في الفخمحاولة إلغراء شاب لبناني، ألكون أكرھت نفسي على

في عالقة على بینة من الحدود التي یسعني أن أبلغھافكانت النتیجة أن فشلت فشال ذریعا، إذ بدوت . مصطنعة

مما قصدتھ، وكنت تخطي الحدود الدنیا عاجزة عنحالما وجدتني في مستعدة للقیام بكل شيء، غیر أني،

ألفة غرفتھ، أدركت أن تجاوزت حدودي بكثیر، فما كان صدیقي البائس إال أن سألني عما جرى لي ھذا من

كشیوعیة یجعلني في نظر الیوم، ال سیما وأن صیتياآلخرین امرأة متحررة، ویرفعني في نظر أصدقائي

خیر مكانة تؤھلني إقامة العالقات الغرامیة من دون الى .أیة وقایة، وبال أي قلق

. أصول البحث عن المعلومات الى جانب أحمد تعلمت كیف أتبین تحركات الفرق، وكیف أقیم عدید القوات

91

كما . المسلحة، وتسجیل أرقام الوحدات، ورسم مواقعھارة المخاطر، بأن أشار إلي بضرو علمني الوقایة من

بالمقاومة أو الحذر كلما اقتضتني الحاجة االتصال وكنت، قبل ذلك، أظن أنھ یكفي. العمل في السریة التامة

المقاتل إعداد سریع حتى یسعھ أن یمضي وبندقیتھ في یتطلب صبرا فائقا ومضاعفة یده، فاكتشفت أن األمر

التي للزیارات الى الجنوب، ألدرك، تماما، اآللیات .وفقھا جیش لبناني الجنوبيیتحرك

ومفاده . وبین مرشدي، ولحین إال أن خالفا حصل بینياألشرفیة، من أن مكتبا إسرائیلیا كان أقیم، سرا، في

وكنت . بیروت الشرقیة، فتمنى علي أن أھتم ألمره. ذلك وھي إعداد عملیة تفجیر ضده أخمن غایتھ من

. في بیروت یةفأبدیت لھ عدم استعدادي للقیام بأي عمل .فرضخ لألمر مقتنعا بحجتي

بالنسبة لي، كان ینبغي لحربنا أن تدور رحاھا في .المنطقة المحتلة، دون كل المناطق

، باتت نصب 1987العام یولیو من/ ومنذ شھر تموز :وھي تتمثل في أھداف ثالثة. عیني خطة محددة للغایة

یین، رجال األمن في جیش لبنان الجنوبي، واإلسرائیلتلك الحقبة، كانت فكرة وفي. وأنطوان لحد شخصیا

انفصال المنطقة الجنوبیة المحتلة عن سائر لبنان قدقائده المزعوم من شأنھ أن یكون . لقیت سیرورة واسعةجھود اإلسرائیلیین الذین دفعوا خیر الوسائل لتدمیر

، في "الحر لبنان"بسلفھ سعد حداد الى إعالنھ دولة وكنت مكلفة بأن . تي كانت ال تزال في قبضتھالمنطقة ال

92

. مكانیا، أي األھداف ھي األقرب الى التحقیق أعاین،أنواع االتصاالت، ورحت، في ھذا الشأن، أباشر كل

وأقبل الدعوات، واحدة تلو األخرى، ألعیاد أو احتفاالتحتى أمكنني التقرب شیئا فشیئا، من . مھماكان نوعھا

لمدینة حاصبیا، قریبا من تابعمركز المخابرات الیكن ومما ال شك فیھ، أن أحدا من محدثي لم. مرجعیون

فكنت أصنف في خانة . لیخدعھ تصرفي خداعا تاماوتحت المظاھر . غیر محددة الوصولیة، أو في خانة

بھا، الخادعة وصیغ اللیاقة التي ما برح الناس یرموننيال للتقدیر أو كنت موضع رقابة شدیدة منھم، ومجا

األسابیع دون أن ترتسم أمامي فرصة ومرت. التعییربین دیر وتوزعت إقامتي. تتیح لي التقدم خطوات

میماس، الى جانب عمتي، التي أسكنتني لدیھا، منذ أن لإلقامة لدى أبنائھما في بیروت، لكبرھما، نزل جداي

.وبین مرجعیون، لدى ابن عمي عصام

ولدیھ، جاھدا في أن بیةعصام متزوج ویعنى بتر وكنت. یجنبھما العالم الشاذ الذي یمد خیوطھ من حولھما

لھ صالت جیدة مع معظم عناصر المخابرات المولجین غیر أن تصرفھ بدا . اإلسرائیلیین االھتمام باألمن، شأن

یسعى، كان. لي أعقد مما تنبئ بھ ظواھر األمورظا على باألحرى، الى نیل ثقة اإلسرائیلیین حفا

الشیوعي في دوافعھ األولى مصالحھ، غیر أنھ حتى. وأصولھ، ظل في قرارة نفسھ معارضا لالحتالل

أن امرأتھ، جانیت، كادت تشارك، ذات یوم، في نشاط قدماي منزلھما حتى أخذ وما أن وطأت. للمقاومة

یستقصي نوایاي وقناعاتي، وھو یعرف، حق المعرفة، .لدي وعميعائلتي، وال سیما وا صیت

93

یقلني في سیارتھ، مررنا بمكان وذات یوم، وبینما كانصاعقة، معروفا، حیث نفذ المقاومون عملیة صار

بادرني بالسؤال، وعلى نحو غیر متوقع، عما أفكر بھ فلبثت متحفظة، بالطبع، ولم أبد لھ .حیال ھذا التصرف

عدم تفھمي ما یجول في صمیم فكري، إنما أظھرت لھوع من األعمال ورفضي العنف بعامة، وأرفقت لھذا الن

. الى تالقي اإلرادات الخیرة في البالد ردي ھذا بدعوة .راقت ھذه اإلجابة كثیرا البن عمي

ومنذئذ، راح ینظر الي على أني فتاة بسیطة وبعیدة كل .البعد عن الحقائق السیاسیة

، أقمت في 1988من العام یونیو/ وفي اول حزیران وعلیھ، فقد صار. لجنوب ھذه، إقامة دائمةمنطقة ا

، 1987ففي العام . االتصال ببیروت صعبا للغایةاإلسرائیلیون للھجوم أمكنني معرفة خطة كان أعدھا

یوم من حدوثھا، إال أني كنت15على كفرتبنیت، قبل .عاجزة عن إبالغ الرسالة الى المعنیین

صلة نصحت بأن أكون على ولدى عودتي الى بیروت، رفضت. مع مناوبین للمقاومة، یكونون في الجنوب

. ذلك، ألني كنت على یقین بأني موضع مراقبة عن كثبرسائل : بدیال أثبت فعالیتھ فاقترح القیمون علي حال

وفیما بعد، أمكنني أن أبعث. مرمزة عبر الھاتفبمعلومة على ھذا النحو، ومفادھا أنھ سوف ینظم احتفال

لبنانیة شھیرة وصالت غنائیة، طربةتؤدي خاللھ مومسؤولون وكان یفترض أن یحضر الحفل أنطوان لحد

غیر . لقد كانت خیر مناسبة لعملیة عسكریة. إسرائیلیون

94

فرأیت . ھذا القبیل لم یكن ظاھرا في المكان أن شیئا من. عملیة من ھذا النوع من غیر المجدي للتخطیط ألي

اتصلت ببیروت، وللحال، قصدت مركز الھاتف ویحفظ لي معھ كتابي "صدیق داعیة إیاه ألن متكلمة مع

فأدرك محدثي ". المادتین الفیزیاء والكیمیاء، مع دفتريأحمد وفي خالل لقاءاتنا األخیرة نصحني. للتو ما یجريأن أباعد بیني وبین مخابرات حاصبیا التي : بأمر واحدلو كنت أركز فحتى . لم أوافقھ ریبتھ ولكني. یرتاب بھا

أنطوان لحد، جھودي على مرجعیون، حیث یقع منزلفإني اعتبرت من الواجب أن أتردد على معارفي في

وقررت أن . علیھم، أقلھ لتضلیل األثر حاصبیا للسالموبدت لي فكرة .أبحث عن عمل، في منطقة استراتیجیة

وسرعان ما . أن أعمل في مركز الھاتف جذابة للغایةرغبتي في ھذا العمل لیتوسط لي مع ب أبلغت عصام

المسؤول، وفي ثم، أولم یقترح علي ھذا. المسؤولحضرة عصام، العمل المذكور؟ ولم أكد أتلفظ بطلبي،

یمكن القول إن للعامالت في . عصام حتى صاح بيالى كونھن فھن،. الھاتف، بالنسبة لھ، صیتا غیر حسن

یاة مرتبطات مباشرة بجھاز المخابرات، یحیین حوقد راح یصیح وكأنما . على ذمة عصام أخالقیة فاسدة،

ما تفعلین؟ أو تدركین! مستحیل: "مس بالصمیم، وقالفأجبتھ بأنھ ینبغي لي أن أجد عمال، !". إنك لساذجة حقا

أن أؤدي خدماتي للمركز الثقافي والریاضي ویسعنيتنسجم مع میلي الى في مرجعیون، وھي فكرة منطقیة

فكان أن ھدأت ھذه الفكرة من. مط من النشاطاتھذا النحتى أنھ خلص الى اعتبارھا ممتازة وأكد . روعھ، للحال

بالالزم لتدبیر اللقاء بالمسؤول عن لي أنھ سوف یقوم .ذاك النادي

95

ومضیت مع عصام الى . األخیر حدد الموعد مع ھذامحدثي فقد كان. وسار اللقاء على خیر ما یرام. المركزا، ولم أجد كبیر صعوبة في إقناعھ بأن الریاضة ودود

واقترحت علیھ أن أقدم دروسا في كرة .ھي شغفيفتنتھ الفكرة . البدنیة الطاولة، أو في التمارین الریاضیة

بال األخیرة، فاندفع یستبق آمالي الخرقاء، إذ أكد لي،تكلف، أن امرأة قائد جیش لبنان الجنوبي تبحث عن

فاندفعت .(Aerobic) الریاضیة الحیویة نأستاذ للتماریفیھ، وخالطة بحمیة ظاھرة، وأكدت لھ بحزم ال شك

بعض العبارات الفرنسیة بكالمي، بأنني ألفت ھذا النوع .الریاضات من

بید أن موقعا ! المنطقة المحتلة امرأة قائد المیلیشیا فين لحد، اآلتیة م مینرفا. بھذه األھمیة لیس باألمر الیسیر

حي األشرفیة األنیق، وھي المرأة الشابة والجمیلة وذاتالحیویة الالفتة، غالبا ما استشعرت الملل في عالم

اإلسرائیلیة، حیث كل الناس مصطنع، تدعمھ النعمةما یعرفون كل الناس ویراقبون بعضھم بعضا، وغالبا

یتنافسون في روایة حكایات مبالغ فیھا، ویجیبون وكنت فكرت، . ال توفر أحدا جابات فظةبعضھم بعضا إ

في للحظة، في أن أضاعف لقاءاتي لدى مزین للسیداتمرجعیون، أمال في لقائھا، ما دامت تتردد الى ذلك

أن ھذا المشروع لم یكن لینسجم غیر. المحل باستمراروحتى .مع شخصیتي، ثم إن تصرفي قد یثیر الشبھات

ثیاب، منذ أن ألفت لو كنت بذلت جھودا في ما خص ال- أن التي اعتدت لباس الجینز والتي العیش في الجنوب،

فلقد شرت في عز شبابي وزھو حیاتي في بیروت،بقیت آنف من التطریة بالمساحیق، ومن العنایة المفرطة

96

وبالمقابل، وجدت مشروع الریاضة آنف .بزینة الشعر .یالئمني كل المالءمة

وافیتھا الى المنزل، برفقة . لحد دبر لي لقاء مع مینرفااألمن عصام الذي أتاح لي وجوده تجاوز حواجزكان . بسرعة الفتة، وحال دون تعرضي لتفتیش طفیف

ألنطوان لحد، قائد المیلیشیا، واسعا، المنزل التابعولما . الى البقاع ومریحا، علما أن لحد یعود بأصلھ

زوجھا بكثیر،كانت مینرفا جمیلة للغایة وأكثر شبابا منإنھا امرأة ذكیة ومثقفة، . أثارت في نفسي انطباعا جیدا

بتربیة ممتازة، فجھدت في أن تكون ویبدو أنھا حظیتقلیال، على مستوى المصیر الباعث على السخریة

والذي یحتفظ لھا التاریخ بھ؛ أن تكون السیدة األولى في .الجنوبي لبنان

ولكنھا، كانت . الفرنسیةولم تكن تتحدث مع أبنائھا إالتشعر، في قرارة نفسھا، أن قبولھا في مجتمع مرجعیون

.ال یزال دونھ عقبات

األیام، في قبضة أستاذة للرقص ال وقد ألفت نفسھا، ھذهتبتز تالمیذھا ال تتوانى عن اإلفادة عن الوضع، فراحت

وجعلت تكلفني سریعا بتدریب. ماال، كلما أتیح لھا ذلكتلمیذا، حالما قدح ذھنھا عن تمارین الریاضة ثالثین

مناسبة غیر متوقعة بلغ مینرفا تقدیر وفي. الحیویة ھذهطبیب لبناني، شأني، من قبل امرأة فرنسیة، وھي زوجة

فأبدیت سروري البالغ بطرحھا، وأبلغتھا استعدادي بالدروس حالما تتیح لي دروسي في الجامعة للمباشرة

الخیار في توقیت بع تركت ليوبالط. ببیروت، ذلك

97

في الواقع، كنت أتشوق ألعلم رؤسائي بما یحدث . العملوفضلت العودة الى بیروت لمناقشة األمر، اتقاء معي،

.من المخاطر

ھذه غمرتني بالرضى الحق یقال، أن ضربة الحظوأراني . وأخیرا، ھا ھي الفرصة سانحة حقا. العارم بھدوء، في قلب جیش لبناني قید أنملة من اإلقامة، على

مركز مراقبة یكاد یكون فریدا، الجنوبي، وھو كنایة عنعادات قائد لتخزین أكبر قدر ممكن من المعلومات عن

ومنذ بدء النقاشات، جعلنا، أنا . المیلیشیا وتحركاتھنرتثي فرضیة العملیة المنظمة ضد أنطوان وأحمد،

.جسدالت لحد، وھا أن ما تصورناه أشرف على

بأحمد، خلتني فخورة حقا وفیما بعد، حین التقیتفقد كنا بالنتائج، وبدا رئیسي متحمسا للغایة، مع ذلك،

نجھل، الى حینھ، ما یمكن أن یحصل، وال من سوف مروري ببیروت، أشرت الىأحد ولدى. یؤدي المھمة

أصدقائي ممن یعتبرون متعصبین للرقص، بأن یسجلجین "ارین الریاضیة الحیویة كانت لي دروسا في التم

من البراءة، رحت أسأل أختي وفي نوع. أعدتھا" فونداقفلت بعض المفاھیم، وھي معلمة للریاضة، ومن ثم

.. عائدة الى مرجعیون ألھیئ النفس لالختبار المشھود غیاب عصام وزوجتھ، ورحت أردد فانتھزت فرصة

اإلیھام كونالتمارین على شریط مسجل، إذ ینبغي أن یووضعت في المسجلة شریطا لحفلة بالیھ، . كامال

.حركات ذات موسیقى إیقاعیة للغایة ووقعت علیھا

98

وبعد یومین من عودتي الى الجنوب، سرني أن أجتاز .التجربة األھم في حیاتي

إذ كان علي أن أعاود . األولى وأعانتني بدایات الدروسالتفاصیل س بعضالمجيء الى منزل أنطوان لحد لقیا

وقد صغت . وسرعان ما اتفقنا على راتبي. الدقیقةلي قابال للتصدیق والقبول، وما دمت مطلبي الذي بدا

. العمل، بصورة رسمیة أتیت الى الجنوب، فال بد لي منخمسة .ولم یكن األجر مرتفعا للغایة، وال منخفضا للغایةلمسجلین دوالرات عن الشخص الواحد، ھذا إذا بلغ ا

التقینا مع مینرفا، للمرة األولى، وحین. ثالثین شخصادعایة، نظرا لندرة وطمأنتني مینرفا أننا لن نحتاج الى وھي لم تسع الى. وسائل الترفیھ في المنطقة المحتلة

أستاذ للریاضة إال بتحریض وطلب من صدیقاتھا، أما ولما رأت أن . تغییر لھجتھا الیوم فسوف تحمل على

غضب الفتیات األخیرات حنثن بوعودھن، انتاب مینرفاشدید، وأیقنت أنھن یھزأن بھا، ویجھدن في استبعادھا

.على الدوام

كلیا في ھذا المشروع الذي لم یثنھا األمر، فالتزمت وراحت تجعل. اكتسب في نظرھا أھمیة غیر متوقعة

حتى إذا استشارت زوجھا، . منھ موضوعھا المحببوكان ینبغي أن . المطلق ، أكد لھا دعمھاأنطوان لحد

تباشر الدروس في جمھور محدد، ال یتعدى الخمسةبقیت مسألة . تالمیذ، مع ذلك فقد بدأت الدروس حقا

نفسي بالكثیر بھذا العدد القلیل من إذ لم أكن أمني. الماللھذه المسألة الدقیقة وألجل أن تجد مینرفا حال. التالمیذ

99

، فكانت لي أولى المناسبات التي ألتقياستعانت بزوجھا .فیھا أنطوان لحد

مضى، صورة لمالزم في كان أحمد أراني، في ماكانت كثیرا عما الجیش اللبناني، غي رأن قسماتھ تبدلت

فرأیت حیالي شخصا مختلفا . علیھ في سنوات معدودةإذ لم یكن . التي طالما حفظتھا عنھ كثیرا عن الصورة

سبیل وكان یجھد نفسھ في. طباع منفرةالرجل ذا فاقترح علي أن أعوض عن النقص في . إرضاء زوجتھ

قبلت اقتراحھ مبدیة لھ . الخاصة مردودي من نقوده .تعلقي الشدید بھذا المشروع

أن ثمة قرارا یسلك سبیلھ وحین أخذت إجازة، تبدى لي أخیرا، في فھا أنا. الى النضوح في ذھني، شیئا فشیئا

الساحة، قریبة جدا من الھدف الذي وضعناه نصب فإنھ یعود لي وحدي أن أقوم بالمھمة وعلیھ،. أعیننا

.األثناء األعظم طموحا مما كنا نتخیلھ في ھذه

.أن أقتل أنطوان لحد

100

العملیة

لقاء آخر مع رابط التواصل جرى لي، في قلبھ لقائي راح أحمد یصغي إلي وأنا أروي ل. المقاومة

وللحال أشار إلي . أنطوان لحد األول، وجھا لوجھ، معقائد بضرورة أن یحل شخص آخر بدیال عني الغتیال

فرفضت اقتراحھ، ورددت علیھ بالقول إني . المیلیشیاشخص آخر للقیام بھذا األمر، نظرا مؤھلة أكثر من أي

الفكرة قبوال لم تلق ھذه. للظروف المحیطة بالعملیةى أحمد، إذ مضى یقیس فعالیتھا، غیر أنھ كان یشك، لد

نفسھ، بقدراتي العمالنیة في صمیم

رضخ لألمر، وقبل بالمضي في تلك وإزاء إصراري،عندئذ أشار .وعلیھ فقد طرحت مسألة السالح. المخاطرة

إلي بضرورة االتصال بالمقاومة في الجنوب، التي ألني .لي السالح، فرفضت األمر یسعھا أن توفر

داخل بیروت اعتقدت بأني مالحقة أینما توجھت، حتى. حیث بات علي أن أستخدم ألف حیلة وحیلة لئال أعتقل

أردت االتصال برؤسائي وجدت نفسي وكنت كلماأتوارى مراقبة عن كثب، وأیقنت بأنھ یستحیل علي أن

. عن أنظار مالئكتي الحراس، فأعود وأعدل عن اللقاءأن أقصد شقة ألحد األصدقاء حیث وبالمقابل، ألفت

سالكة یسعني أن أبدل ثیابي وأحتجب عن العیون .رصیف الشارع، حذرا واتقاء

علینا خناقھ، قررنا أن نلتقي في ولما كان الوقت یضیق. اللقاء مكان منعزل، في مقھى حیث اعتاد العشاق على

101

وفي الیوم الموعود، حمل صدیقي معھ مسدسا، عیار وشرح لي باختصار كیفیة استخدامھ، .ترا ملیم5ر5

عودتي من وتمت رحلة. والعنایة بصمام األمان فیھإذ جعلت ألصق السالح بجلدي، . دون ما یعكرھاكنت برفقة . التفتیش بطمأنینة كلیة ومررت بكل نقاط

أنھ عصام، الذي صودف وجوده في بیروت، وأدركت عني فلم بفضلھ وبفضل عالقاتھ الكثیرة، غض النظر

القریة حتى واریت المسدس تحت وما أن بلغت. أفتشمتربع في ثم نقلتھ الى داخل جھاز للتلفزیون. شرشفي .غرفتي

دوري كمعلمة للتمارین ولم یمض زمن حتى أخذ وصرت، شیئا. الریاضیة الحیویة على محمل الجد

وكانت ھذه األخیرة تعشق . فشیئا، مقربة من مینرفااألنثوي، والتي كانت تجھزھا لي ات الطابعالثیاب، ذ

أنھا حتى. وصرت ألبسھا أكثر من أي وقت مضى. أميسألتني إذا كانت الخیاطة التي كانت تحیط لي الثیاب

فأفلحت، ھذه المرة، بالتملص من . الثیاب لھا تقبل بإعدادالقت دروس الریاضة التي فضال عن ذلك، فقد. اإلجابة

قائد ظاھرا، وبلغ الحماس بزوجةباشرنا فیھا رواجاالمیلیشیا أن اقترحت، ذات یوم، إجراء سباق مع

فجرى السباق وتناقلت . اإلسرائیلیات زمیالتنا المدرباتوجدتني في وھكذا،. أخباره وسائل اإلعالم لدیھن

منزلھا، لدى مناسبات عدیدة، إما لحمل شرائط الفیدیو وحین . طة بالدروسلحل بعض المسائل المرتب إلیھا، أو

ألعب مع إبنھا تكون منشغلة أو ضجرة، یحدث لي أن .الفتى، الذي سرعان ما كسبت وده

102

مغامرتي، تملكني الشعور وكنت كلما مضیت في حبك ففي. بأن كل أنواع المخاطر أخذت تضیق علي الخناق

بیروت، رأیت أصدقائي الذین یعرفون أني أقمت في أخذوا ینظرون إلي نظرة دالجنوب إقامة دائمة، وق

لھو أمر مثیر للریبة، أن تظل فتاة. ملؤھا االنزعاجمسیحیة تقوم برحالت مكوكیة بین بیروت والمنطقة

الفیدیو، حیث أظھر حتى أن أحد شرائط. المحتلة راقصة في حضرة إسرائیلیین وأفراد من المیلیشیا، راحال . یدور على كثیرین من معارفي، في مدینة حاصبیا

ولما كان ھؤالء ال . لبنان یخفى شيء على أحد فيجاسوسة، یریدون أن أصیر متعاونة مع اإلسرائیلیین أو

. أرسلوا أحدھم لیراني محاوال حمایتي ممن یحیطون بيفي كالم عام، كثیر العمومیة، من وجعل یحذرني

مما یمیز السھولة التي ینجر فیھا المرء وراء المال،أما أقربائي اآلخرون، فكانوا یظنون . لةالمنطقة المحت

أعیش في بیروت الشرقیة، القتناعھم بما راحت أني بت. شرور السمعة السیئة تشیعھ أمي عین، تجنیبا لي من

، الذي أخذ یحضني بجدیة "إمیل"وھذه حال ابن عمي على عدم التردد الى الكتائبیین، المتحالفین مع الفتة

". لوال"لذكري قریبتنا فاءإسرائیل، ال لشيء إال و فرحت أطمئنھ بأن لیس في نفسي أي نیة من ھذا القبیل

.على اإلطالق

أیضا، حتى أنھا أبلغتني ألمري،" أمل"واھتمت حركة فیھ رسالة مؤداھا منعي من الدخول الى الحي الذي یقیم

وفي النبطیة، أمكنني التملص من قبضة أفراد . نبیھ بريبالسعي ورائي، بفارق من الزمن من الحركة أمروا

لھا ثم إن االستجوابات التي صرت موضوعا. ضئیل

103

وفي . في المنطقة المحتلة، أخذت تطول وتتسعومحیطھ یطرحان أسئلة مرجعیون، راح أنطوان لحد

متزایدة عني، وال سیما فیما خص ذھابي الى دیر وھھنا، . وجیئتي منھا، وترددي الى بیت عصام میماسالسري الذي جرى لي، د أن أشیر الى االستجوابال ب

إثر رحلة قمت بھا الى حاصبیا، على ید أعضاء في وكنت مزمعة على الذھاب برفقة مینرفا . المحلي األمن

ألجل دروسي، غیر أن لنشتري آالت الجوق الصوتیة وخالل. األیدي الغلیظة انتھت الى مرافقتي في مشواري

. ونني حول عائلتي وأفكاريالطریق راح ھؤالء یستجوبالنوع من االستجواب، بدوت ولما كنت مدربة على ھذا

ذلقة اللسان، فأوحیت إلیھم بأن لیس لدي أي شيء .أخفیھ

اطوان لحد لم یكن من فخرجت بانطباع مفاده أنالسذاجة بحیث یصدر الدور الذي أؤدیھ كمعلمة

شك، إنما اعتبرني، بال. الریاضیة الحیویة للتمارینقدر ممكن من جاسوسة صغیرة مكلفة بجمع أكبر

التفاصیل عنھ، ولھذا أخطر رجالھ المقربین بشأني مع ذلك ، لم یخطر في ذھني أني . المراقبة علي لتشدید

المناضلة التي ال تستھین أرقى في نظره الى درجةوكان من حظي أیضا، أن . بشيء في سبیل القضیة

جھاز المخابرات التابع على وتر المنافسة بین أعزفالعسكریین لجیش لمركز حاصبیا، وبین المسؤولین

لبنان الجنوبي في مرجعیون، لعلمي أن أفراد مخابرات معظمھم من الدروز والشیعة، في أن اآلخرین حاصبیاجماعة حاصبیا، التي ومما ال شك فیھ أن. مسیحیون

104

یابتملك عني معلومات وافیة، بدت أكثر میال الى االت .بي، أكثر من جماعة مرجعیون

قررت أن أبقیھ في حوزتي، ومنذ أن سلمت المسدس،كبیرة وكانت المخاطرة. كلما شئت الدخول الى بیت لحد

للغایة، حتى أنني بت تحت رحمة أحد أعضاء الحرس لبنان الجنوبي، والذي بدا أكثر الشخصي لقائد جیش

اثنتین، مرة،. فطنة من زمالئھ، فارتأى أن یفتشنيأمكنني الدخول الى منزل لحد وفي حوزتي المسدس

.المخبأ في حقیبتي

.ذات یوم، حدث ما ال یعقل

مینرفا، إذ بزوجھا یدخل الى فبینما كنت أتحدث مع. الدروس المنزل، فوافانا وتبادلنا بعض الكلمات حول

ولما كان الجوع . واقترحت علیھ امرأتھ أن یتناول شیئا .طیب خاطره عنھده، قبل

مني، فتركتني وحدي برفقة للحال، اعتذرت مینرفاغابت واصلنا أحادیثنا، الى أن أتت بالطعام، ثم. زوجھا

أدار لي قائد المیلیشیا ظھره وأخذ یلتھم . عنا، من جدیدالفرصة . الذھول، واحترت في أمري توالني. طعامھ

. هلي ظھر في حوزتي سالح، وھو یدیر. سانحة ومثالیةأدخلت یدي في المحفظة التي أحملھا الى جانبي

تحسست حجم المسدس الثقیل لصق .مندیال.. وأخرجتلیس .خاصرتي، غیر أني ألفیتني عاجزة عن التماسك

ھكذا، لیس وھو یتناول الطعام، أیا یكن، لیس من .الخلف، من الظھر

105

.وكنت عاجزة عن قتل عدوي في ظروف مماثلة

واالرتباك یھز كیاني، بعد رت المنزلوفي لحظات، غادوعلى .أن استأذنت ضیفي الذي بدا أنھ لم یشك في شيء

الرغم من أني بقیت عازمة على إتمام عملي، فقد تبین إذ . األولى ، مقدار الصعوبة في ھذه المھمة لي، وللمرة

شرعیتھ في نظري، جرأة یقتضي االغتیال، أیا تكن، 1988 الصیف من العام وفي ھذا. على تجاوز نفسي

ثالثة عشرة عاما على اندالع الحرب األھلیة، وبعدارتكبت فیھا، أدركت آخر والفظائع من كل األنواع التي

المطاف أنني ما زلت أنفر من اللجوء الى القوةوالفظاظة، ما دمت آنف من رؤیة مشاھد العنف على

الق كان ما أراه محض اخت وحتى لو. شاشة التلفزیون وتخیل، شأن عملیات تفجیر السیارات، فإنھ سرعان ما

یذكرني بالجرحى الذین اھتممت بھم، وبصور القتى .طباعي وال مشاعري الذین لم تقس أطیافھم

فاتضح لي في اللحظة الحاضرة، ضرورة أن أتجاوز .ھذا النفور

والدتي دیر میماس لتحضیر سبتمبر، قصدت/في أیلول وكنت تنوي. جاري عادتھا كل سنةمونة الشتاء، على

والحال أن والدتي ما كانت . اإلقامة فیھا ألسابیع معدودةوفي . یزیارتھا األخیرة الى دیر میماس لتعلم أنھا تقوم

فمن . أمر ما یحذر أمي من" نایف"بیروت جعل عمي خالل خبرتھ الشخصیة في الحزب الشیوعي الذي

وكان على یقین . مابأنھ یشتم شیئا انفصل عنھ، أنبأھا

106

كنتھ بضرورة أال فأخطر. بأني في الجنوب بمھمة معینة .أمر بدیر میماس وال بمرجعیون

إذ . ما تبددت في ذھنھا غیر أن ھذه المخاوف سرعاناآلخر رأت الناس جمیعھم، أو یكاد، یكیلون المدیح تلو

فجعلوا یكبرون في عفویتي، وحیویتي ودماثة . البنتھاالى ذلك، فقد كان من . والدتي باإلطراء رتفس. خلقي

وإذا . منزلنا خیر الصدف أن یحضر عاشقي الزعوم الىبالشاب، ذي الخطو الواثق، یرجوني أن أقبل دعوتھ

األعیاد؛ حتى لكأن فصوال من روایة لحضور أحد. حضورھا غرامیة كانت تجري تحت بصر والدتي وفيدت لي فھیا فضال عن ذلك، فقد خطت لي رسالة، حد

!الزیتون، في مدى ایام قلیلة موعا لقطاف

الناحیة، سارعت الى بیروت وبعد أن اطمأننت الى ھذهالمحتلة، وكنت أشعت في المنطقة. ألالقي أحمد ثانیة

أني ماضیة الى بیروت إلجراء امتحاناتي التي ینبغي أن وحالما بلغت مكتب أحمد . المدة التي حددتھا تحصل في

ریثنما یفرغ من ي صیدا، باشرت بقراءة مقرراتيففأصابھ الذھول اھتمامي بدروسي على ھذا . انشغالھبدا لھ انصرافي الى مراجعة دروسي التي لم فقد. النحو

قلیلة من العملیة یتسن لي االطالع علیھا، قبل أیام .المزمع تنفیذھا، بدا لھ ھذا التصرف غایة في العبث

أتراني : السؤال نفسھ علي رحومن جدید رأیتھ یطبھذا العمل؟ األكثر أھلیة، من الناحیة النفسانیة، للقیام

فأجبت، باإلصرار عینھ، بأني قادرة على ذلك، وعازمة فكان لمرافعتي ھذه أن تنتھي الى ما تمنیت، أي .علیھ

107

المتمثل في عبوة ناسفة، وإذا استبعدنا الحل. النجاحات المسمومة حرصا منا أشرنا الى فرضیة الرصاص

. المزید من فرص إصابة قائد المیلیشیا وإیذائھ علىمدى نفوري من وكان أحمد یعرف، على أي حال،

5ر5وخطر لھ أن استخدام المسدس من العیار . العنف. المفاعیل المدمرة، لیس باألمر العملي ملیمترا ذي

وم الصغیر یسعھ أن یق وبالمقابل، فإن مسدسا من العیار .مقامھ

مضینا الى أرض بور، وما أن اتخذنا قرارنا حتىمعزولین عن الناس، للقیام ببعض التدریبات على

وكنا نعلم أنھ ینبغي لنا تنفیذ مخططنا على وجھ .الرمایةوشرحت . سباق مع الزمن السرعة، ذلك أننا بتنا فيفأنا لن أطلق الرصاص على . ألحمد رؤیتي لألمور

تھدف، على ما نصحني بھ، كما أني الرجل المس رأسإنما سوف . عدوي لن أفرغ كل طلقات مسدسي في جسم

أكتفي بطلقتین اثنتین أوجھھما الى القلب مباشرة، على .ما قررت منذ أن عزمت على األمر نحو

وأخذت األیام األخیرة من إقامتي في بیروت تمضي .سراعا كالبرق

المحال فیھ أن یصیر من ورحت أعد النفس إعدادا .یوحي كالمي بظل من خوف أو ارتعاش أو ما شابھ

وأشرت الى أصدقاء لي بأن یوصوا على قالب من ومضیت أحدث أختي الحلوى لالحتفال بعید قریب،

بأحادیث المشاعر والقلوب، واستأذنت والدي، من دون ولدى إصرار أحمد . أتفوه بشيء مما في صدري أن

108

لیالي الحرة خصصتھا ر لیلة منالذي قضیت لدیھ آخ لتلقي النصائح والتشجیع، أعددت رسالة أشرح فیھا

فذكرت، في ما ذكرت، الحرب . دوافعي الى العملاإلسرائیلي ومصرع أبطالنا، األھلیة، واالجتیاح

لالنتفاضة التي واإلعجاب الذي أبدیھ، في ھذه األثناء، حتلة، والتيانطلقت لتوھا في األراضي الفلسطینیة الم

ولما . أعتبرھا خیر مثال على المقاومة والثورة المثالیةلیالي في منزلنا، عمدت سرا الى إحراق كانت ھذه آخر

استخدامھا من صوري األعز على قلبي والتي أخشىمع ذلك، . قبل الحزب في الدعایة لصالح شھداء المقاومة

جعل مظھر . رئیس بعض الصور الكبیرة لي أعطیتباإلسم ه األمور یغیظني، وحین أعلمني أحمدھذ

زھرة : "الحركي الذي اختاره الحزب لھذه العملیة .لألمر ومضیت ، وضعت حدا"الجنوب

في صبیحة ذلك الیوم المقدر لرحیلي، ودعت أبي من .دون أن أعرف إذا كنت سأراه یوما

ورحت أتخیل أن األمور . ینتظرني بت ال أعرف ماذاوأن العملیة ا، أن تسیر بخالف ما أتمناه،توشك منطقی

یكمن أن تنجح أو تبوء بالفشل، غیر أني ما كنت ومن ثم . یتوقف كل شيء من حولي ألستوعب أن

النحو توجھت الى الجامعة إلجراء امتحاناتي، على. إال أني وضعت القلم جانبا، قبل الوقت بكثیر. المرسوم

حدود المنطقة وعدني بمرافقتي حتى وكان أحمد قد .فمضینا رأیتھ في انتظاري خارجا،. الجنوبیة

109

طویال، ولكن أحمد بدا متوترا لم تستغرق الرحلة وقتافي كان یخشى من أن ینكشف أمر المسدس. للغایة

وحالما بلغنا المكان، وتبادلنا كلمات . إحدى نقاط التفتیش .منا في وجھتھ قلیلة، سار كل

أن الجندیة المكلفة بتفتیش دتولما بلغت الحاجز، وج. بالمرور ولم یكن بحوزتي إذن. النساء لم تكن موجودة

أما الجندي ھذا . وھم جندي بالحلول مكان ھذه األخیرةوراحت یداه تمعنان تفتیشا في ثنایاي، . أعرفھ فلم أكن

وشعرت أنھ المس، على نحو .واستغرقتا زمنا طویال دسستھ تحت ثیابي،غیر إرادي، المسدس الذي كنت

وكان أحمد قد أحكم وضعھ، غیر أني وجدتھ ال یبدي ثم خطر لي . منشغال في أمر آخر انفعاال، ما دام خاطره

أن أرى أن أشیر إلیھ بالكف عن التفتیش طالبة منھ، مدعیة بأنھ في انتظاري، ھالھ األمر، "السید ریمون"

. كترونیةجسي، وأعفاني من البوابة اإلل فكف للحال عنالتواري بال عائق كان رئیسھ ھنا، غیر أني أفلحت في

یذكر، بعد أن تبادلنا، أنا ومرؤوسیھ، عبارات المجاملة .المألوفة

في منطقة الجنوب المحتلة، ولما نظرت من حولي، وأناإقامتي وجدت أن حاال من التوتر، أكبر مما كان إبان

ة، كانت أجھزة فمن جھ. األولى، تحیط بي من كل ناحالتابعة لحاصبیا، تسعى، ومنذ زمن األمن والمخابرات

أني كنت، ذلك. بعید، الى إقناعي بالعمل الى جانبھمبنظرھم، مثال المنضویة والمتعاملة، مسیحیة وتسكن

. الغربیة، وھي حرة التصرف، فوق ذلك في بیروت

110

یكون مناسبة وخیل إلي أن التزامي في صفوفھم سوف .بعاد الشبھات عنيجیدة إل

حتى أنبئت بأن قائد األمن، فما أن عدت الى مرجعیون. رؤیتي في جیش لبنان الجنوبي، علم الدین، یرغب في

لم تكن تلك المرة األولى التي أجد نفسي فیھا على ھذا یولیو، كنت التقیت / ففي شھر تموز . القرب القدر من

وراح یرغي سكرانا كان. بھذا الرجل في ثكنة حاصبیا اإلرھابیین الذین یقتلون رجال جیش لبنان"ویزبد حیال ، وقد بدت رزمات من الدوالرات مرمیة على "الجنوبيإرھابي واستخالص المعلومات وبعد محاولتھ. مكتبھ

مني، من دون أن یفلح في ذلك، اقترح علي أن أمررلصالحھ رسائل الىخارج المنطقة المحتلة، بید أني

القرابة بین عائلتي والحزب أخفي درجةآثرت أالألؤكد الشیوعي، من دون أن أفصل في األمر، ثم عدت

وانتھیت، . لھ إیثاري االختالط الطائفي على ما عداهالقول بأن السیاسة لم تكن شاغلي على آخر األمر، الى

.اإلطالق، وبقیت األمور عند ھذا الحد

جھاز األمن لم یعد یقین أن وفي ھذه األثناء، بت على یطیق أن یراني أجخل من نقاط تفتیش مختلفة، وھو

وإذ بدوت قلقة، . یسعى اآلن لضبط تحركاتي وحصرھافحاولت أن أفھمھ بأني . األسئلة أخذ عصام یطرح علي

بشيء ال أطیق أن أكون موضع مراقبة، وأني ال أدینفما . لجماعة حاصبیا، ما دمت حرة النفس والشخصیة

فقرر . إال أن أیدتني في شكواي ن زوجتھ جانیتكان م. بذلك عصام أن یتوسط لصالحي، من دون أن یعلمني

حتى أنھ، وخالل أحد األعراس في دیر میماس، تصدى

111

بمثابة الید الیمنى لعلم الدین، وحال وھو" كمیل"للمدعو .دون إزعاجي

أن تتراجع حدة التوتر من وانقضت األسابیع، من دون بعت إعطاء دروسي في الریاضة الحیویةتا. حولي

.منتظرة أیة فرصة سانحة لزیارة بیت أنطوان لحد

نوفمبر، إذ / أوائل تشرین الثاني حتى كان یوم األحد فيوالساعة حضر الى منزلنا في دیر میماس رجال األمن،

كان ھؤالء یسعون في . لم تبلغ بعد الخامسة صباحات لقطاف الزیتون، كنت قد خرج إثري، ولحسن حظي،

والدتي عن حتى إذا سألتھم. دقائق قلیلة سبقت وصولھمالداعي الى السؤال عني، أجابوا بكالم غامض، ومضوا

من دون أن یفصحوا لھا عن مقاصدھم خالیي الوفاض،راحت تخبرني، ولما أقلق ھذا األمر والدتي،. الحقیقیة

في وقت متأخر من ذلك النھار، عن تلك الزیارة .المتوقعة الصباحیة وغیر

مساء ذلك الیوم األحد، وحین عدت الى مرجعیون، وجدت أن أحدھم عبث بغرفتي وقلب األغراض فیھا

والحال أني كنت أحتاط لألمر، وأضع . رأسا على عقبوضعیة معینة، في خزانتي، حتى إذا ثوبا من أثوابي في

. باألمرالوضعیة تعرضت األخیرة للتفتیش، أنبأتني تلك. وحین وصلت الى مخبئي، أدركت أنھ تعرض للنبش

ولحسن حظي أنھم لم یكتشفوا . أیضا وأیضا األمنالثاني في قرارة جارور وكنت خبأت المسدس. سالحي

فتبین لي أنھم لم یسحبوا الجارور. طویل جدا وثقیل .كلھ، على ما توقعت تماما

112

لقد صرت في . واضحة للغایة غیر أن الرسالة بدت وإن ھي إال بضعة أیام حتى. مدى نظرھم القریبوكنت على یقین بأن رجال األمن لم . ینكشف لھم أمري

لحد لنزولھم ذلك الصباح الى یطلبوا اإلذن من أنطوانومرافقي منزلنا، بسبب تنامي حس التنافس بین ھؤالء

ولما كان الناس في المنطقة المحتلة . قائد المیلیشیا ذاكشيء، فقد تناھى لي أنھم سوف یمھلونني یعرفون كل

یقین، أكثر من وكنت على. قلیال قبل معاودة ھجومھمأي یوم مضى، أن مجرد اعتقالي أو سوقي الى

المألوف، من شأنھ أن یحطم كل ما بنیتھ من االستجواب .خیوط الثقة بیني وبین مینرفا لحد

.وأدركت أن الوقت سینفد مني

ألیام قلیلة خلت وجدتني .طناع الفرصما أصعب اصكان ال عائدة الى مكتب قائد جیش لبنان الجنوبي، ولكنھ

ولكن العد العكسي آخذ . یزال یتكلم مع ضابط إسرائیليوجدتني أطلب مینرفا، للمرة األخیرة، .في الجریان

بیروت، بسبب ألشیر لھا بأني مضطرة للذھاب الىا بقصدي المرور علیھا في وأعلمتھ. امتحاناتي بالتأكید

اإلثنین، ألترك عندھا مفاتیح قاعة الریاضة، یوم غد،الخاصة بالتمارین باإلضافة الى شرائط الفیدیو .الریاضیة الحیویة التي طلبتھا مني

.فوافقت

بنطلونا أزرق، وقمیصا أبیض، صباح اإلثنین، ارتدیتك البیت ذل وانتعلت بالیرین سوداء، وأمكنني الدخول الى

113

الجمیل الذي یقیم فیھ الزوجان، من دون أن أثیر ریبة .شكھ أحدھم أو

بسیارتھ الى مدخل ذلك البیت، وكان عصام قد أقلنيالسیارات وھو اعتاد االشتراك في ما یشبھ كرنفال

. الجاري في شوارع مرجعیون، تزجیة للوقت وقتال لھبعد أن قبل انطالقي، المسدس من مخبئھ وكنت استللت،

صغیرة أخفیتھ في حقیبتي، وجعلتھ وسط أغراضأما الرجال المولجون بحراسة قائد جیش لبنان . غیره

.وشأني ودعوني أدخل الى البیت الجنوبي فتركوني

.إنھا الرتابة

ھناك وافیت مینرفا وصدیقة لھا إسبانیة، وكانتا في الحدیقة، ثم عدنا والتقینا بزوج ھذه األخیرة في قاعة

.الستقبالا

كنا نتكلم . كان الجو بھجا. لحد وفیما بعد، وافانا أنطوانلعقلیات الفرنسیة، وجعلت مینرفا ترثي، مرة ثانیة،

ومن ثم انتقلنا الى . الناس الضیقة في المنطقة المحتلةوكان قائد المیلیشیا جالسا قرب الھاتف، . الجلوس قاعة

وأخذت . دكما تخیلت المشھ وكنت على یمینھ، تماما أمسكت عن الكالم، ونأیت. األحادیث تصیر عابثة

.بنفسي عن الحوارات الجاریة

.كنت أصغي

114

الخادمة وسألتنا عما نرغب في وبعد نصف ساعة أتتالوقت وقلت إن.. تمتمت ببعض الكلمات شاكرة . شربھ

وأصر مضیفي على . بات متأخرا وینبغي لي العودةأشعل قائد المیلیشیا . اقةالبقاء لی البقاء فاصطنعت

قناة المنطقة كانت ساعة األخبار على. التلفزیونوأتیح لي أن ألمح . مر تحقیق عن االنتفاضة. المحتلةوكان أنطوان لحد . فلسطینیا وھو یرمي بالحجر فتى

في ھذه اللحظة رن . انتباه یلھو بالالقط ویستمع من غیرمحدثھ كان. ھرفع السماعة وللحال تقطب وجھ. الھاتف

في الطرف اآلخر من الخط، یعالج مواضیع ال تروقھ، .في الظاھر

.وجھت نظري صوب ساعة الجدار

وبدا أنطوان لحد، . الثامنة مساء بعد كانت الساعة لم تبلغوقع نظره وللحظة. الجالس عن یمین، یواصل كالمھ

علي وأخذ یرمقني بشيء من الفضول، جذبت نحوي وكنت ھادئة ھدوءا . لدى قدمي وعةالحقیبة الموض

مینرفا بأني دسست یدي في الفتحة مشیرة الى. غریبا. جلبت لھا المفاتیح والشرائط المسجلة التي طلبتھا مني

خفیة عن األنظار، قبضت یمناي بشدة على وفيأخرجت قبضتي وفیما أنا جالسة،. أخمص المسدس

أعصاب، المسلحة بالمسدس من الحقیبة، وببرودة بذراعي الیمنى، نحو قائد المیلیشیا، وللحال صوبت،

.وأسندت معصمي بیسراي

.وعلى التخمین، صوبت نحو القلب

115

األولى، وظننت نفسي أرى وضغطت على الزناد للمرةالحرب الطلقة وھي تخترق سترة الثیاب الكاكیة لقائد

فما كان من أنطوان لحد إال أن قفز على قدمیھ، . ھذاوسمعت شتیمة تخرج من . كما توقع أحمد ھوال، تمامامذ

ثانیة، على ما فأطلقت!". بنت الكلب: "بین شفتیھ .توقعنا

.سقط أرضا

وما ھي إال . قاعة الجلوس توقفت الحیاة لثانیة في لحظة، حتى شق الصمت عویل مینرفا وقد أصابھا

اإلنھیار، وراحت تمأل الفضاء صراخا طالبة سالحا ورمیت . عسكریة إلخالء زوجھا تص مني، وطوافةلتق

اإلسبانیة من حولي بنظرة دائریة، فوجدت الصدیقةأما . باھتة، تحدق بي وفي عینیھا ما ینم عن اختالل

شلھ الرعب، فراح یرمقني وكأن دوره آت زوجھا الذيورمیت ال محالة، فاغتنمت فرصة الذھول ھذه

عن قاعة الجلوس، بالمسدس في غرفة النوم المتفرعة ولسوف یبحث الحراس . الوقت وأردت أن أكسب بعض

لن عن السالح، وحین یفتشون الغرفة یجدونھ، وھذا ما .یتأخر حصولھ

وعلى بعد مترین مني، رأیت جسد المیلیشیوي یدور .على نفسھ أرضا، ویتوقف بال حراك

.تم لي ما أردت، ونجحت في القیام بعملیتي

116

التوقیف

منذ أن قررت القیام بالعملیة الى اه یحدث لي اآلن؟ماترألف ختامھا، لم أكف عن طرح التساؤل على نفسي،في . مرة ومرة، من دون أن ألقى الجواب الشافي

أن أنجو بنفسي أو أن یأتي مخططاتنا لم یكن متوقعا ذلك أن. كان ذلك األمر بالغ الخطورة. أحد لنجدتي

ولئن . بة معسكر معنزلمنزل أنطوان لحد كان بمثاالحراس للدخول الى تسنى لي، مرة ثانیة، إلھاء

المنزل، ولزمني ساعة بالكاد حتى أطلق النار على قائدالمیلیشیا التابعة إلسرائیل، فإن الطلقتین عممتا اإلنذار

.على السامعین

.وغدا توقیفي أمرا محتوما

نني؟ بشأني؟ یعذبونني؟ یعدمو ولكن، ما تراھم یفعلون في المرة األخیرة التي سبقت مجیئي الى المنطقة

الجنوبیة ناقشت مع أحمد ما یمكن أن أصیر إلیھ في داخل . ظننت، قد أودع في السجن وعلى ما. حال توقیفي

فیھا الى المنطقة المحتلة، ما دامت أرضا ال احتكامقانون أو شرعة، بحیث یسوغ المحتلون ألنفسھم اعتقال

لسنوات طویلة، من دون أن یقدموه األشخاصتسنى لي اغتیال أما أحمد فكان مقتنعا بأنھ إذا. للمحاكمة

أنطوان لحد، قائد جیش لبنان الجنوبي، فسوف أودع في غیر أن ھذا القرار . إسرائیل، على وجھ السرعة سجن

االحتمال، ما دامت اتفاقیات بدا لھ بعید) بنقل المعتقلین(

117

سرى تمنع على الدولة المحتلةجنیف في ما خص األ .نقل الموقوفین الى بلد آخر

ذكرت لھ إمكانیة التعذیب، فرد وفي خالل ھذا النقاش،مطمئنا ،"حدثي وال حرج في ھذا الشأن: "علي بالقول

. في الواقع، لم أكن أعرف الكثیر بھذا الخصوص. إیايالحقیقي، وال " أحمد"الیوم، ال أعرف اسم وأنا الى

إنما اكتفى . الجنوب ات المقاومة التي یرتبط بھا فيشبك بتوصیتي بعدم اإلیحاء بإمكانیات عملیاتنا األخرى التي

كنا بصددھا، اختطاف إسرائیلي، القیام بعملیة ضد أنطوان لحد، وھذا اختیار جھاز األمن، اختطاف ابن

قبل أن تصدیت لھ بعنف شدید منذ بدایة تعاوننا، وحتى .بي وآلفھیألفني الص

" بسیزار"جالسة في مكاني فإذا إذا، بینما كنت ال أزالفأدرك مدیر إذاعة الشرق األوسط في قاعة الجلوس

الوضع حاال، وقفز الى جانبي واضعا یدیھ على كتفي، :بالفرنسیة وسألني

"لماذا قمت بھذا األمر؟ لم قتلتھ؟؟" • ."إنما ھو الذي یقتلنا" • "من أرسلك؟" •في المقاومة اللبنانیة، وأنتمیى الى أنا عضو " •

."الحزب الشیوعي اللبناني

سیزار یبعد مینرفا عني، وھي في ھذه اللحظات، جعل. النجدة تسعى الى ضربي، وتندفع الى الھاتف طالبة

. كان یدعى إبراھیم. دخل جندي، عرفتھ من ھیئتھ

118

انتزعني عن مقعدي، وأحاطني وحالما وصل إليأن بلغھ، وما. اي، واتجھ بي الى الباببذراعیھ مطوقا إی

فصاح . حتى سمعنا أوامر من الخارج باالستسالم "!ھذا أنا، ال تطلقوا النار ھذا أنا،: "برفاقھ

نجتاز عتبة البیت، صودف في ھذه األثناء، ونحن مرور لبناني آخر، وھو تاجر مقرب من اللحدیین، وقد

. قتي الناراندفع الى المكان مع إبراھیم حین سمعا طلصدیق الطفولة المع، وھو من قریة عرفتھ، بدوره، كانمعتقل كان والده قائد الحرس في. دیر میماس أیضا

وبدوري، لم . نظر إلي المع والذھول یمأل عینیھ. الخیامللحال، رأیتھ وقد أخذ . اكتشافھ ھھنا أخف دھشتي من

صدر من دون أن ت رأسھ بین یدیھ، ذلیال، وتابعت سبیلي .مني أي كلمة

. مراكزھم في ذلك المكان ومن ثم ساقني الحراس الى .دفع بي أحدھم الى داخلھ، ثم رماني على الكرسي

توقف، لحظة، عن . وأمسك بسوط وراح یضربني بھشعري، وعاود الضرب لینتزع حذائي ودبابیس

من . "وكانت الجلدات على إیقاع األسئلة. الضربأما أنا " ماذا یعرف عصام؟أصدقاؤك؟ أرسلك؟ أین ھم .فبقیت بكماء

األصفاد حول كف الحارس عن الضرب ووضعولم . وتركني على الكرسي، ویداي مكبلتان. معصمي

كانوا ستة . دخل فریق من الرجال تمض لحظات، حتىوأخلوا رمقوني بنظرة واحدة. أو ثمانیة إسرائیلیین

119

لحارس، وعاد ا. الغرفة من دون أن ینبسوا بكلمة واحدة .قرابھ ووضع فوھتھ على صدغي وأخرج مسدسھ من

."سبق أن قلت كل شيء" ."تكلمي، أو أقتلك"

وقد تبین لي، فیما بعد . الظروف بقیت ھادئة، رغم كلاعتباره، أن سیزار حین أعد تقریره، أخذ ھذا األمر في

فھو حالما اكتشف حضوري في قاعة . مشددا علیھاكنة الفؤاد، حتى أنني ابتسمت أزال س الجلوس، كنت العصیا على وھذا قد یبدو لسیزار. ابتسامة طفیفة

. التصدیق، إال أن أمرا أساسیا للغایة قد جرى في داخليرأیتني أنزع عني نھائیا قناع الطالبة السطحیة، وغیر إذ

لطالما عشت في حال من انفصام وكنت. المبالیةبحقیقتي، أو لتصریحالشخصیة، من غیر أن یتسنى لي ا

البوح بما أشعر بھ حقیقة ألي مخلوق، ما عدا الشخصین لقد كذبت، ألشھر وأشھر، وأخفیت ". أحمد" و" مازن"

وخدعتھم، ما أضمره حتى عن أقرب الناس إلي،ولكنني، منذ أن أطلقت النار على أنطوان لحد، صار

.التصریح عن ھویتي وعن أفكاري بإمكاني

یرا في مواجھة أعدائي، لم یعد لي من وإذا وجدتني أخ .أدوار أخرى أؤدیھا

تنھداتھ، سحب مسدسھ من رأیت الحارس یرسل صدغي، وأخرج الطلقات من ماسورتھ، وأمسك بسوطھ

فرحت أصیح من . ثم انھال علي ضربا وبال شفقة. ثانیة .األلم

120

. سمعنا إثره طرقا على الباب مضى زمن حسبتھ دھرا، كبلوا. وضع الحارس غطاء على رأسي. دخل رجالن

وللتقدم، رحت أقفز وقدماي . قدمي ومضوا بيالتزال قادرة على " :فسمعت صوتا. مضمومتان

وعاد صاحب الصوت الى الكالم، مخاطبا !". القفزأمسكني ھؤالء !". عمل جید، برافو علیك قتلتھ" :إیاي

وسرعان ما أقلعت بكتفي ورموني في صندوق سیارة، وإذا ما بلغنا مكانا بدا لي أنھ معسكر تابع لجیش. اعقةز

فتوالني . لبنان الجنبوبي، استبدل ھؤالء سیارة بأخرىباتجاه الخیام، التي تبعد بضعة انطباع بأننا صاعدون

السیارة كیلومترات عن مرجعیون، نظرا لمیالنوكان المعسكر القدیم قد تحول في خالل . صعودا

الى معتقل ذي صورة باعثة على ة،السنوات األخیراألمامي وفیما كنا نسیر، ظل الراكب في المقعد. الرعب

یشتمني، ویوجھ إلي كلمات نابیة وفظة، ذات داللة إذا كنت ضاجعت رجال : "یقول كان. جنسیة باألخص

وجعل". حاصبیا، فسوف ترین كیف تضاجعیننا نحننت منھ یمر یدیھ على جسمي بوقاحة تامة، ولكن تمك

توقف ثان وتبدیل آخر وبعد. بعضة، رغم حالي ولم. للسیارة، أنزلت، وأجلست على المقعد الخلفي

یمض زمن قصیر حتى تحققت من ھویة أحد المرافقین قادة جھاز األمن في وكان أحد. الذین أتى بھم

، صدیق قریبي عصام، "أبو سمیر"مرجعیون، ویدعى .بنانيسابق في الجیش الل وھو جندي

كیلومترات أخرى أبعد من ولما كانت السیارة تجتاز .الخیام، أدركت للتو أنھم یأخذونني الى إسرائیل

فالمسألة ھي أخطر بكثیر من أن یعالجھا اللبنانیون

121

بنا الحدود ثم توقفت في ما اجتازت السیارة. بمفردھممنھا، أنزلت. تسمرت السیارة في مكانھا. یشبھ الثكنة. ي أن أجول حرة العینین، بال غطاء الرأسسمح ل

فاتجھت، مقیدة الیدین والقدمین . المكاتب أدخلت الى أحد .الى كرسي، وجلست

أنھ یدعى طومي، جلس دخل رجل، عرفت فیما بعدقبالتي، وشرع في االستجواب، ما إسمي؟ من أرسلني

مرجعیون لقتل أنطوان لحد؟ ما ھو دور عصام في الىاألسئلة بإیجاز كلي، ورحت أجیب عن كل ھذهالمسألة؟

إن ثم راح یعدد لي سلسلة من األسماء للبنانیین، وسألنيفأنكرت معرفتي بأي . كان لدي صالت بعائلة خوري

فأمسكني ورماني بقسوة على .شخص من ھذه العائلة ومضى یصر على ھذه. كرسي أخرى وعاد الى مھمتھ

للحال، تسلم رجل . اريفكررت لھ إنك. الكنیة بالتحدیدودفعني بقوة الى إحدى الغرف، وراح آخر المھمة عنھ،

وعاد على ثم رماني أرضا،. یصفعني صفعا متواصالتحسست خدي، فعرفت أن حشوة إحدى أسناني . أعقابھ

ولم أكد أقفز أربع قفزات حتى . المعترك سقطت في ھذا. ةالظروف اآلنف سقطت أرضا، مما جعلني أبتسم رغم

وجعل . عاد الرجل وعادت معھ معامالت القسوةیھددني بألف تعذیب وتعذیب، وباالغتصاب اإلسرائیلي

وما زال . الخیام الدوري، وال سیما بنقلي الى معتقلیتقدم نحوي حتى تحسس أزرار ثیابي لیثبت عزمھ على

غیر أن االستجواب توقف عند ھذا الحد، . تھدیده إنفاذ .أخیرا

122

وعلى . بي الى خارج السجن اي ثانیة وسیقعصبت عینالى نحو ما كنت افرتضتھ، عزم اإلسرائیلیون على نقلي

المنطقة المحتلة، فھم ال یرغبون في سجینة مزعجة، .الى ھذا الحد

معدودة، حتى بلغنا المكان سارت بنا السیارة دقائقوصلت إذا،. المقصود، حیث بات علي أن أستقر نھائیا

ى داخل معتقل الخیام، الذي انقضى على لتوي الكان الوقت قد تجاوز . إال مرورنا بھ لحظات، لیس

واقفة في وكان لدي االنطباع بأني. منتصف اللیل، بقلیلأمكنة خیمة كبیرة، وقد تبین لي فیما بعد أني في

یدعى سمیر، وھو ابن أبي . لبناني دخل رجل. التعذیبفرد فیھ تقل، حیث كلأما اسمھ الحركي في المع. سمیر

وكان ھذا األخیر مولجا . ال یدعى باسمھ، فھو سامرھذا السجن الخاص ولسوف یكون لھ، باالستجوابات في

.منذ اللحظة، العنایة بوضعي

. تنزع عني ثیابي وتفتشني عھد بي الى حارسة راحت وساقتني، بعد ذلك، الى احدى الغرف المخصصة

رجل، وأنا ما زلت وألفیتني إزاء. لالستجواباتوراحت األسئلة . األطراف معصوبة العینین ومكبلة

.تتوالى علي

"ما ھو دور عصام الحقیقي؟"

ال صلة لھ البتة بالعملیة، فأكدت لھ أن قریبي عصام .غیر أن مستجوبي لم تقنعھ إجابتي على اإلطالق. فمضى یربط یدي بمسریین كھربائیین موصولین بمولد

123

وكان األلم الذي . بالكھرباء التعذیبوكان لي أن أعرفوالمتتالي ازداد تركیزا یدفعني الى الصراخ الحاد

. وجعل معذبي یدس في كمامة ألسكت. والمتصاعدالناس، تعرضت لشحنة كھربائیة ولئن كنت، شأن كل

بصورة ال إرادیة، كأن یمسني التیار من منشبضة كھربائي أو من شریط عار، فإني غدوت ألیام عر

وممتدة الى كل أطراف لشحنات كھربائیة متواصلة وتابع الرجل عملھ، من دون أن تثنیھ. الجسم وخالیاه

:توسالتي وآالمي، وظل یطرح علي أسئلتھ

."إن تكلمت، أوقفت ذلك"ولما كنت ال أزال معاندة، قام الى دلو وسكب الماء،

ورحت أصرخ . بغتة، كل یدي، فصار األلم ال یطاق :وأصرخ

."إرفع ھذا أجبك"

وسرعان ما رحت أحفھما . للحال، توقف وحل یدي .بثیابي لتجفا

:وسأل

."نعم" "ھل ینتمي عصام الى المقاومة؟"

.ترددت لحظة قبل اإلجابة

أي صلة على اإلطالق، تصرفت وحدي ولم یكن لعصام أعرف أني سوف أكدر لھ حیاتھ أیما تكدیر. بحركتنا

124

لمسألة، وھو لطالما سعى وراء بادعائي صلتھ بھذه اوالحق یقال، إنني . كیاني مصالحھ، ولكن الخوف تملك

االستجواب لم أفكر إال في كسب الوقت، وفي إیقاف ھذابالمقام األول، لفرط ما أرھبتني جلسة التعذیب األولى

لي أن جوابي أقنع الرجل، غیر أنھ وعدني وبدا. ھذه .بيبجلسة أشد إیالما إن اتضح لھ كذ

لست ساعات خلت، شرع ومنذ أن عم خبر العملیة، أفراد جیش لبنان الجنوبي وجھاز األمن بحمالت تفتیش

كان عصام أول . واسعة في المنطقة الجنوبیة المحتلةوفیما بعد، اعتقلت . في منزلھ المعتقلین ما دمت مقیمة

رسالة زوجتھ وسجنت أربعة أیام ألنھا حاولت تمریرلیسھم في " اعترافي"فما كان . زوجھابالروسیة الى

وھذا أقل ما یمكنني قولھ، . السرعة إطالقھما، على وجھ .بھذا الشأن

المفتشون الى غرفتي، وفي مرجعیون، دخل ھؤالء غیر أنھم لم یقعوا. وقلبوا كل ما فیھا رأسا على عقب

على مسدسي األول، الذي كنت خبأتھ داخل جھاز لرجال جھاز األمن مكان أحددوكان علي ان. التلفزیون

.وجوده، فیما بعد، حتى یضعوا یدھم علیھ

الجنود الى دیر میماس ، فقبضوا كما أرسلت دفعات منقطاف على والدتي وعلى عمي، الذي كان ماضیا الى

كما سیقت . زیتونھ، والذي صودف وجوده في منزلنامشددة، الى معتقل الخیام حیث والدتي، تحت حراسة

.لت ألكثر من شھراعتق

125

والمقربین مني المعتقلین حوالي بلغ مجموع أقاربيعلى أیدي الستین، ومنھم من استجوب، وأغلبھم عذبوا

وكانت صدیقتي حنان . رجال جیش لبنان الجنوبيوحین سألني اإلسرائیلیون إن . المعتقالت الخوبي أولى

بأني ال أعرف كنت أعرف آل الخوري، أجبتھم صدقابغیر اسمھا " حنانا"ذلك أني لم أكن أدعو . منھمأحدا

حتى أني نسیت اسم عائلتھا فغاب عن خاطري األول، .كلیا

بعد، أن صدیقة لي، أخرى، وعلیھ، فقد أبلغت، فیمابلیالیھا، نالھا مجد االعتقال ستة أشھر" شفیقة"تدعى

وكذلك األمر، بالنسبة لصفاء، وھي سكرتیرة لدى اإلسرائیلیین، والتي كنت مقربة معمسؤول متعاون

الحفاوة األلیمة منھا، فنالت بدورھا أربعین یوما منإال أن أیا من ھؤالء الذین رموا في السجن لم . عینھا .بالتأكید، على بینة من مخططي یكن،

كان الوقت في حدود .وانتھى االستجواب األولساقني الحراس الى زنزانة تبلغ . الخامسة صباحا

ستة عشر مترا تقریبا، وأغلقوا البوابة ورائي مساحتھاإذ تمیزت فراشین . فارغة لم تكن الغرفة. باألقفال

ورأیت امرأة. موضوعین أرضا، وأحدھما الى اآلخرأیقظھا دخولي الى الزنزانة، . شابة مستلقیة على أحدھماعن اسمي وسبب اعتقالي، فاقتربت مني وسألتني

فأخذت تھلل للبشرى. تلت انطوان لحدفأخبرتھا بأني قلقد أتوا ھذه : "وھنأتني على عملي، ثم أردفت تقول

صباحا، لیقولوا لي أني سوف أحظى اللیلة في الثانیة ."برفقة

126

البائسة لطیفة للغایة معي، إال أني بدت لي ھذه الرفیقةأحمد حذرني فقبل أن یغادرني. ظللت متحفظة حیالھاوكان یعرف أن . قودة في السجنمن الصداقات المعوما كان أیسر . بالجواسیس والجاسوسات المعتقالت تعج

المحتلة، وما أكثر أن یتم اعتقال شخص في المنطقةاألشخاص الذین یرمون في السجون للفظھم عبارة نعم

حتى إذا وجد المرء نفسھ داخل السجن، تسول لھ .أو ال تختصر آمال في أن نفسھ التعاون مع جالدیھ،

المعلومات التي یحصل علیھا من أحدھم، إقامتھ في وال سیما إذا كان ھذا السجن حال من أي التزام .السجناالستجواب أن تستمر أكثر من وكان لجلسات. أو قیمة

الیوم شھرین بأیامھما ولیالیھما، ثالث جلسات فيولم یكن النھار أشفى حاال من اللیل، إذ كان . الواحد

وأول من . ھذه الجلسات في عز اللیل تجريیمكن أنبعید ، وھو من دیر میماس،"عواد"استجوبني كان

، من بلدة "وائل"ومن ثم أتى دور . وصولي الى المعتقلمستجوبي الرئیس، " سمیر"ذلك، بات بعد. العیشیة

راح یبدل ، الذي"رامبو"و " أبو فارس"یعاونھ كل من . الب یحمل االسم عینھاسمھ كلما تنبھ الى أن احد الك

مجبرة، وللمرة المئة وللمرة األلف، على ووجدت نفسيتم اختیار أنطوان روایة انخراطي في المقاومة، وكیف

وجعلت. لحد ھدفا للعملیة، وكیف أعددت ھذه العملیة. تتخلل ھذه الجلسات المنھكة عملیات تعذیب بالكھرباء

، موصولتان أثناء االستجواب فغالبا ما كانت یداي .بمسریین الى المولد الكھربائي

المستجوبون یرمون علي بدالء وفي ما بعد، راح ھؤالء مملوءة میاھا مجلدة، ویتركونني لساعات طویلة،

127

موثوقة مرتجفة، في عز الشتاء، وبرد ھذه الجبال .الجنوبیة قارس للغایة

أدركت أنھا تجري في وكلما تقدمت االستجوابات،یة مع العدید من األشخاص المقربین مني، صورة مواز

وھكذا، سئلت . أسئلة المستجوبین صارت أكثر دقة وأنبكیاني كلھ حین روى لي عن االضطراب الذي أخذ

أحدھم أن أول عاشق لي، وھو شیوعي، كان أسرهصعقني ھذا . اإلسرائیلیون خالل عملیة للمقاومة

. عتقاليأو ثالث من ا التفصیل الذي یعود الى سنتینفأدركت أن عصاما، الذي رافقني الى بیروت، ذلك

.كان شاھدا على ذلك الیوم،

وما عدتھ ألومھ . شھادتھ ھذه تفھمت الداعي الى نقلھبھ، على فعلھ، إذ تخیلت مقدار اضطرابھ، وقد رمي

السجینة " جانیت"رغما عنھ في ھذه الحیلة، مع زوجتھ .بدورھا في مرجعیون،

األدنى الممكن، أو في ، جھدت في قولبادئ األمر ورغم معرفتھم. تضلیل مستجوبي عبر مسارات خاطئة

الدقیقة بتنقالتي التي أمكنني القیام بھا خالل األسابیع فقد وسعني الكذب علیھم . المنطقة المحتلة األخیرة في

أنھما سلما إلي في إذ أكدت لھم. في ما خص المسدسین غیر أني عدت، بعد جلسات من.المنطقة المحتلة نفسھا

. التعذیب، واعترفت بأني حملتھما معي من بیروتمع ذلك، . لعنات رھیبة وكان لھذا االعتراف أن أطلق

فقد أجلت األیام حدوث األمر الرھیب، الى مناسبة .أخرى

128

االستجواب األولى أني كنت ولما كنت رویت في أیام س إال،على اتصال بشخص واحد، یدعى أحمد، لیثم إنني، لما . رأیتني متمسكة بھذه الصیغة ألسابیع عدیدة

الذي ما فتئ یؤكد لي " سمیر" ضقت ذرعا بغطرسة، أنھ یعرف كل شيء عني، وعن برنامجي الیومي، وعن

أدق خطواتي في بیروت، كشفت لھ الحقیقة وأخبرتھ غیر أن ھذا المسلك، ". مازن" عن اتصاالتي األولى بـ

بین فسرعان ما صنفت. لم یكن لیالئمنيعلى جرأتي، .ذوات الرأس الصلب، العنیدات

اعتقالي، حاولت أن أستعلم في خالل األیام األولى من ومع أني كنت منقطعة عن. عن مصیر أنطوان لحد

العالم، في معتقل الخیام، فإن قرب المعتقل من وحاولت تقدیر . مھمتي مرجعیون، من شأنھ تیسیر

الجیئات لآللیات من حول معتقل الخیام، الروحات وفي المقام األول، أصیخ السمع لعلي أسمع دقات ورحت

. ولم أفلح. البعیدة الحزن تصدر من أجراس مرجعیون إذ لم أتوصل الى التقاط أي معلومة ملموسة في ھذا

لقد تمكنت من . العملیة ناجحة بالنسبة لي، كانت. الشأنمد حاسما في فاعلیة السم في وكان أح قائد المیلیشیا،نقدا ذاتیا في لكني سرعان ما أجریت. طلقات المسدس

ما یتعلق بالرصاصتین، ذلك إن إصراري على إطالق لیس أكثر كان مثارا للھزء، إن أمعنت رصاصتین

وكان . على العملیة النظر إلیھ اآلن، وبعد انقضاء زمن تاركة أمرینبغي لي أن أمضي الى ختام ھذه العملیة،

الحكم والجزم فیھا الى االختصاصیین، ولم یجدر بین أن .أفرض خیاراتي الخاصة

129

الجاریة معي، ألفیت جالدي ثم، وخالل االستجواباتمن یصححون قولي بأني قتلت أنطوان لحد، بعبارات

في البدء، لم أحسب ". أنت حاولت قتلھ، فحسب"مثل األمر حیلة لبث ظانة أن في لھذه الردود حسابا، ذات یوم، عمد مستجوب ذلك. االضطراب في نفسي

الیوم الى رفع العصابة عن عیني ألقرأ سریعا مقطعا فقرأت، ". السفیر"جریدة من مقالة منشورة فيالتي بعد محاولة االغتیال: "بوضوح، الجملة التالیةلقد كسب الشخص المقابل ..". تعرض لھا أنطوان لحد

فلما كان قد أخلي، على وجھ !". تقتلیھ ، لمأرأیت: "لي. المیلیشیا من الموت السرعة، الى إسرائیل، نجا قائد

إصاباتھ .واجترح األطباء اإلسرائیلیون العجائب إلنقاذهكانت بالغة، وظل یحمل آثارھا الى الیوم ، في شلل

.الیسرى جزئي بذراعھ

كان أن أشرح لمستجوبي أنھ وفیما بعد، حین تسنى ليفتعجب بمقدوري أن أطلق النار بمسدس من عیار ثقیل،

بالتأكید، كان یسعك أن تقتلیھ على : "األمر وصاحإذا، لم أقتل قائد ". ملیمترا5ر5الـ الفور، إن استخدمت

أشعر بالخیبة، ما دمنا جیش لبنان الجنوبي، مع ذلك، لم حققنا غایتنا، وھي إظھار ھشاشة النظام الذي أرساه

سرائیلیون، وإعطاء الشواھد الحیة على أنھم، اإلواألمان أنى تواجدوا في وحلفاؤھم لن یجدوا السكینة

.المنطقة المحتلة

واآلن، یجدر بي أن أكرس جھودي للجوھري، للبقاء

130

معتقل الخیام

، في ما كان سابقا 1985الخیام،في العام أنشئ معتقلیة، وذلك لیكون الفرنس معسكرا قدیما لقوات االنتداب

، اللذین)2(وأنصار ) 1(بدیال عن معتقلي أنصار أخالھما اإلسرائیلیون بعد انسحابھم الجزئي من لبنان، .لسنوات ثالث خلت

ویقوم معتقل الخیام على مرتفع شامخ واستراتیجي ھو وبعیدا عن ساحات المعارك، لصالح المنطقة المحتلة،

كثیرة الطرق إلیھوقریبا من إسرائیل، في حین أنأما المعتقل فقد عھده اإلسرائیلیون رسمیا الى . الوعورة

الجنوبي، حتى لو كانوا أول من أداره جیش لبناناالستجواب مباشرة لدى إنشائھ، ناقلین مسؤولیات

وغیرھا من المھمات، وفي وتیرة متدرجة، الى مرتزقة ن ، الجھاز المولج باألم"الشین بت"وكان .لبنانیین

ملفات المعتقلین فیھ، الداخلي في إسرائیل، یالحق كل وكان عمالؤه یترددون على السجن لیطلعوا على

وكانت منشآت ھذا المعتقل، المنتصبة . المستجدات فیھالبلدة التي یعود لھا فضل على مرتفع مطل على

وانعدام تسمیتھ، تضم فیھا من األبنیة ما ینبئ بظالمیتھاات لالستجواب ومجموعتان من قاع: الرحمة فیھا

التي غالبا ما تجدھا مكتظة الزنازین الجماعیة،. بالنساء بالنزالء، إحداھا مخصوصة بالرجال واألخرى

وفیھا كذلك بعض المساكن للحراس، التي من شأنھا وباإلضافة الى . بنیان ھذه المنشآت أن تكمل) المساكن(

حقول من ب كون المعتقل محاطا بالمراقب، فقد أحیط

131

األلغام من كل ناحیة، حتى لیغدو الفرار منھ أمرا بالغ .بل مستحیال الصعوبة،

بعید العملیة، كان صیتھ قد ،1988ویوم نزلت فیھ عام تتنكر وبالطبع، ظلت الدولة العبریة. ذاع، بال منتي

وجوده، كما أنكر جیش لبنان الجنوبي معرفتھ بھ، ین كانت المیلیشیات الحلیفة المعتقلین الذ غیر أن. مرارا

واآلخر، أخذوا یصفون إلسرائیل تطلقھم، بین الحین ذلك المعتقل ویمعنون في وصف ظروف الحیاة فیھ، أو

باألحرى صراع البقاء الذي صاد في داخلھ، حتى لو .. تنصحھم بعدم الكالم على ذلك كانت ھذه المیلیشیات

ھنا وھناك، وكانت نتف المعلومات المستقاة من! النعیموالتي اعتد بصدقیتھا، فقد نبھت المنظمات المدافعة عن

اإلنسان الى وجود انتھاكات مریعة في معتقل حقوقسجالت العار الخیام، فسارعت الى تصنیفھ فيوالحال، إن انتفاء . خاصتھا، وفي المرتبة التي یستحقھا

قانوني من المنطقة المحتلة، والذي یتعارض أي وضعیحول على الدوام دون ھات األمم المتحدة، كانمع توج

تحقیق مھمات االستطالع اإلنسانیة أو زیارات غیر الحكومیة لمعتقل الخیام، من مثل المنظمات

الدولیة للصلیب حتى أن اللجنة. المؤسسات الدولیةاألحمر نفسھا لم یكن یؤذن لھا برؤیة المعتقلین في

.الخیام معتقل

. إال أنھ جحیم انفرادي وسري یما،كان ذلك المعتقل جحالمقام األول ثمة في. یلتھم المعتقل نمطین من الطرائد

مقاتلو المقاومة الذین أسروا في المعركة، ثم الذین وبالنسبة لھؤالء . جھاز األمن في المقام الثاني اكشتفھم

132

عدادھم، فإنھم متشابھون المكتشفین، والذین صرت في في أول األمر، یكون. اتھم في مصیرھم ومسار معان

االستجواب والتعذیب، ویلیھما العزل، والحقا یترك عقوبة معلنة، لجالدیھ، السجین بال محاكمة وال

والحق. فیسومونھ أشكال العذاب اعتباطیا، وبال رحمةأن إسرائیل لم ترد أن تظھر مسؤولة عن ھؤالء

سرائیلي قسما من الرأي اإل ذلك أن: المعتقلین المزعجینالعام، ما كان لیرضى بمثل ھذه االنتھاكات ضد الحق

فإذا كان : ولإلثبات نسوق ھذا المثل. في رعایة دولتھمعتقلون على األرض اإلسرائیلیة، وكان ثمة لبنانیون

بغیة أن یحصلوا اإلسرائیلیون احتفظوا بھم كرھائن،بالمقابل على معلومات حول جنودھم المفقودین في

أو لغرض مأتمي، وھو الحصول على رفات ،العملیاتحالت وجثث جنودھم القتلى في المعارك، والتي

المواجھات العسكریة دون استردادھا، رأیت عددا من ومن تجمعات المحامین اإلسرائیلیین الجمعیات اإلنسانیة

كلل، لفك أسر أو الفلسطینیین یندفعون للنضال، بال معتقل الخیام مثالیابالمقابل، كان . ھؤالء السجناء

إذ ال وجود فیھ لعدالة أو . إلسرائیل، ولمكاسبھا منھفي معتقل الخیام، . محامین قضاء، وال قضاة، وال

السجناء منكرون، ومحجوبون، بل تراھم محذوفین من .عالم األحیاء وبسھولة تامة

لیكتفي باعتقال الذین ولكن جھاز األمن ما كان معتقل یغص بخلق ال یمتون بأيإنما وجدت ال. یقاتلونھم

نساء، وأطفال أو . صلة الى فرق الجنود غیر النظامیینأتي بھم من كل فج عمیق، معمرون أو معمرات،

المعامالت، وأدخلوا الى معتقل الخیام لیلقوا فیھ شر

133

. وأعظم التھدیدات وأفظع صنوف التعذیب والضغوطى لبنان الجنوبي ھو الحصول عل وكل ما یھم جیش

أو معلومات عن تحركات ألقرباء ھؤالء الموقوفینلمقربین منھم ممن تحوم حولھم الشبھات، أو لدفعھم،

والتھدید حینا آخر، للتعاون مع جھاز باالبتزاز حیناالتي یقضیھا ھؤالء أما المدة. األمن في المنطقة المحتلةفال أحد یعرف، ممن یدخل . في معتقلھم فقسمة ونصیب

إن ھو سیخرج منھ بعد أسبوع، أو .. ل الخیاممعتق الى .بعد سنوات كثیرة

المرء من معتقل الخیام حیا فضال عن ذلك، فإن خروجذلك أن .وال سیما النساء السجینات. لیس باألمر األكید

الحیاة الیومیة في معتقل الخیام كفیلة بأن تتلف أعظم اخ المحیط ویكمن ھذا األمر جزئیا في المن. بنیة السجناءاألخیر یقوم جنوب بیروت، وفي فلما كان. بالمعتقل

في مرتفع من جبال حرمون اللبنانیة، وجدتھ خانقاویحدث، كذلك، أن یحل . الصیف وجلیدیا في الشتاء

.المرتفعات الثلج ضیفا على ھذه

البلدان ذات المناخ الحار، أما األبنیة، شأنھا في كل ولیس في. على اإلطالقفلیست معدة لمجابھة البرد

الزنازین میاه جاریة، إنما حرمان النزالء فیھا من كل والمعتقالت یملكن أغطیة وفرشا عتیقة .شيء ھو المبدأ

البطانیات فكانت أما. محشوة باالسفنج لینمن علیھا نادرة، وفوق ذلك فقد رأیت المعتقالت المبنیة على أسوأ

فالرطوبة، إذ . عللھیئة تحیل أرضھا بؤرة لألمراض والبین ثنایا الفرش عبر تخرج من األرض، وتنسل

. التكاثف، تنخر عظام السجینات نخرا وتجمدھا

134

الى فرش القش وأنابیب الحدید لنقل الماء، باإلضافةالبالستیك لوضع البراز كانت السجینات یتبادلن دلوا من

ھذه وكانت. فیھا، وأحیانا یكون ھذا األخیر بال غطاءلدالء تفرغ مرتین یومیا، في عز البرد وفي قیظ ا

والواقع أن ھذا الدلو ھو بمثابة .الصیف، على حد سواءلتكون وعاء من بین أوعیة كثیرة ھیئت باألساس،

بالطبع، كانت النساء . صفائح یخزن فیھا الزیت للمطبخإذ . العنایة بأنفسھن في الحدود الدنیا محرومات من

ألنفسھن فوطا صحیة ، أن یصنعنتوجب علیھن، مثالمن خرق أثوابھن، ویغسلنھا باستمرار ویعدن غسلھا

.ومرات مرات

.إیقاع الحیاة ثابت في معتقل الخیام

. ویتناولن فطورا بسیطا للغایة توقظ السجینات فجرایتناوبن ویكون علیھن أن ینظفن الزنزانة حیث ھن، ثم

وفي االستحمام في الخروج كل بدورھا إلفراغ الدلو،أعدت لھذا الغرض، وتعود بعد أن داخل غرفة ضیقة

أوقات وكانت. تمأل صفیحة المیاه المخصوصة بھنخروجھن من الزنزانة محسوبة حسابا شبھ عسكري،

ومن تتأخر منھن تنال . لیس إال ومحددة بخمس دقائق،الى وعند الظھر، یحمل غداء ضئیل. عقوبة شدیدة

. منتصف العصر، تقدم بعض األطعمةوفي. الزنازینالنھار الثالثة ھذه وحدھا تمنح المعتقل إذا، كانت آونات

الصمت ھو القاعدة، أما بقیة الوقت فكان. حیویة الفتة وكذلك فإن السعال. ومن یجرؤ على الصیاح ینل عقابھ

وعلیھ یمكن للسجینات أن یتحادثن بصوت . ممنوع

135

إال أن تبادل األحادیث مع خافت، داخل الزنزانة نفسھا، .النساء في زنازین أخرى ممنوع، لدواع أمنیة

زنازینھن، محرومات من أي وكانت السجینات، فيأیضا، .والزیارات الیھن كانت ممنوعة. اتصال بالخارج

حتى ولو عزم القیام بھا عائالتھن المقیمة في نواحي شيء إذا، ال. بعد كیلومترات قلیلة منھا الخیام، وعلى

البائس الذي بتن بوسعھ أن یبدل ھذا الوضع الیوميوسواء أكن اعتقلن في خالل عملیة للمقاومة أو . یعشنھمن أسرتھن عنوة، فإن السجینات جمیعھن في أخذن

یرتدینھا قبیل االعتقال ظلت فالثیاب التي كن. الھم سواءألف ویرحن یغسلنھا ویخطن فیھا،. مقتنیاتھن الوحیدة

مرة، یعرنھا لرفیقات بائسات ویستبدلنھا بأخرى، مرة و. الثیاب، آخر المطاف، خرقا بالیة حتى تصیر ھذه

البحر نظریا لم یكن مخزون البناطلین، وأثوابوالفساتین لیغذى إال بمناسبة االعتقاالت الجدیدة

الحظ، كان یمكن لعائالت المعتقالت ولحسن. والواسعةالى بناتھا بالحیلة دخل األثوابمن المنطقة المحتلة، أن ت

وصار من العرف أن . وبالرشاوى تقدمھا للحارساتالسجینات، اللواتي یصدر أمر بإخراجھن من تترك

أمالكھن المنقولة األكثر المعتقل، لرفیقاتھن الباقیات، .متانة ومقاومة للزمن

الھزیل وانعدام الراحة الذي تتمیز وكان من شأن الطعامداخل أجساد أن ساھما في تنامي األمراضبھ الزنازین

أنھكھا االستجواب وھدتھا عملیات التعذیب المتواصلة والمعتقل الذي كان یؤوي أكثر من مئتي .والمكثفة

فیھ ممرضین اثنین، سجین أحیانا، رجاال ونساء، وجدت

136

أما المھارات. وغالبا ما تواجد فیھ ممرض واحد فحسبھا جسم التمریض ھذا فكانت واألدواب التي كان علی

بالسجین أال یقع مریضا في وكان أجدى. محدودة للغایةینال معتقل الخیام، ذلك أنھ من العسیر للغایة أن

المریض األذن من سلطات المخیم باإلخالء الى كما یحسن . في مرجعیون المستشفى األقرب، القائم

ألن ،بالمرء، أیضا، أال یتذمر أو یتمرد على األنظمةأعمال االنتقام في حقھ تعاجلھ، لیكون عبرة لمن اعتبر،

المتمردین والمتمردات الضرب واللكم فإذا نصیبالحبس االنفرادي في) إو إیداعھن(الشدیدان وإیداعھم

.مددا متفاوتة

الخیام، یتلقى كل منھم حین یصل الرجال الى معتقلالقماش منلباسا رسمیا واحدا باللون األزرق، ویكون

ذاتھ، الذي یخاط منھ غطاء الرأس الذي یضعھ السجناء أما ظروف حیاة ھؤالء فھي . السجن حین یخرجون من

وأھمھا أشد قساوة من ظروف النساء، ألسباب عدیدةازدحام زنازینھم بالسجناء واستخدام الحراس عندھم

ومن أھم األسباب كذلك، . مفرطا استخداما! للقسوةنحو لحبس االنفرادي في حق الرجال، علىاستخدام افإذا ما عوقبت امرأة بالحبس االنفرادي، . شائع لدیھم

العلبة ذات الخمسة والثمانین وضعت في ما یشبھارتفاعا، وتظل سنتیمترا عرضا، والمترین والخمسین

أما الحبس االنفرادي للرجال . قادرة فیھا على الحراك ال یعدو الحبس كونھ مكعبا، إذ: مثابة كابوس حقیقي فھو

التسعین سنتیمترا، وقد أعد في ال یتجاوز كل جانب فیھحبس والسجین الذي یوضع في. جانب منھ ثقب صغیر

كھذا، غائرا في األرض، منطویا على نفسھ، مكوما

137

لن یسعھ القیام، بالتأكید، وال على ذاتھ، یدرك أنھجالدوه، یرفعھویحدث أن . الحراك إال لتناول طعامھ

الى حین، لكي یغتسل، وبسرعة قیاسیة، لیعود الى الظروف الموصوفة، رأیت سجناء وفي ھذه. مخبئھ

أو یكاد، أقاموا في حبسھم االنفرادي، وفي حیاة ظلیلةأشھرا بطولھا وھم یحملون في أجسامھم عقابیل

مبرحة في العظام، أو اضطرابات في أمراضھم، وآالماالمعاملة غیر أن أحدھم صمد حیال ھذهحتى. رؤیتھم

.اإلنسانیة سنة ونصف السنة

التضامن الذي یفترض بھ أن یعم وتتویجا لھذا كلھ، كانعلى السجناء كلھم على نحو طبیعي، موضعا للشبھة

وحالما تعتقل امرأة، تخضع لالستجواب، ثم . الدواماالنفرادي، كلما انقضت جلسة ترسل الى الحبس

وحدھا؛ ذلك غیر أنھا نادرا ما تكون. ب وتعذیباستجواأن رفیقاتھا في السجن یكن مدفوعات من قبل جیش

الذي یؤملھن باختصار سجنھن، شرط لبنان الجنوبي،تسر بھا الوافدة أن ینقلن لرجالھ بأمانة األحادیث التي

في ھذا الشأن، كان قائدي في المقاومة. الجدیدة الیھنمسبقا من ھؤالء السجینات اللواتي قد حذرني " أحمد"

معي، ویظھرن تفھما مبالغا یبدین تعاطفھن الكلي ألمري، في حین یكن كامنات لي، لیغتنمن فرصة

كبوتي وإرھاقي المتراكم بعد ساعات وساعات من سوء لینتزعن مني، وعلى حین غفلة، المعاملة والتعنیف،

ثم إن .رالمعلومات التي استبسلت إلبقائھا طي الصد، المندسات في الزنازین، كن "الخراف السوداء"ھذه

السجن، الكشف عن الحیل والمھارات یتحن، لسلطاتاإلجراء التي قد تلجأ إلیھا السجینات للتملص من

138

وعلیھ، . المفروض، أو لإللتفاف على الحبس االنفراديكل سجینة أن تضبط نفسھا وتراقب فقد توجب على

الى كل من كل منا كذلك، التنبھواقتضى. األخریات. كلمة أو حركة غیر متوقعة بین أي سجینة وحارسة

. التواطآت الحاصلة في أي زنزانة وأن تظھر كل أنواعحاال منھ وال أظن األمور لدى السجناء الرجال، أشفى

.لدى النساء

برحت تمارس على السجینات غیر أن الضغوط التي ما ولطالما انطوت. حمیمیةكانت تمس أمورھن األكثر

وقد . قاعات االستجواب على أبشع أنواع المناوراتقصة شابة اعتقلت من دون روت لي إحداھن ذات یوم،

إذ. أي سبب خاص للغایة، فأغواھا أحد مستجوبیھاتوصل الى إقناعھا بممارسة الجنس معھ، موطنا نفسھ

لألمر واقتنعت بصدقیة فرضخت. على الزواج بھا. وبأن ذلك من شأنھ تیسیر تحریرھا بال شكالرجل،أنھا سرعان ما اكتشفت أنھا وقعت في الفخ الذي غیر

المفتضة إنما تجعلھا عرضة نصب لھا، وأن بكارتھا البتزاز متواصل، حتى في عال عودتھا الى كنف

ثم إنھا وجدت نفسھا فوق ذلك، عاجزة عن . عائلتھا .في نظرھا البوح ألحد بمسلكھا المشین

كن موضعا للتالعب بھن والحال أن معتقالت الخیام بالمقدار نفسھ الذي وجدن أنفسھن فیھ محرومات من أي

ماذا یجري في لبنان وفي . معلومة تأتیھن من الخارجولكم كان . شیئا عن األمر العالم؟ ال أحد یعرف

المعلومات المعتقلون یدینون لحراسھم إلدالئھم بنتف منم، على نحو ال إرادي، أو لنسخ نادرة أو المتبادلة معھ

139

الجرائد یمكن أن تختلس اختالسا في لصفحات منالطریق الى مناسبة المناقالت في السجن أو في

ویحدث، أیضا، أن یرمي . االستجوابات أو الحماماتمعلومة في وجھ ضحایاھم، إذا كانت المستجوبون

تضح لھم ی تفیدھم حقا، من دون أن یتمیزوا صحتھا أو .أنھا محض تلفیق

، 1988الموقوفة في أواخر العام وھكذا، أمكن لي، أناإذ . السوفیاتي اإلطالع على سقوط جدار برلین واالتحاد

أن یطلعني على ھذه المعلومات، " أبو نبیل"كان یسر وعبثا . ذلك من شأنھ زعزعة قناعاتي وعقیدتي ظانا أنالشیوعي اللبناني الحزب ولئن غدوت مقربة من. سعى

ھذا ألسباب ال تمت بصلة الى العقیدة الماركسیة، فإنالذي عاینت نذره قبل ) في االتحاد السوفیاتي(التداعي

لحد، لم یكن لیقدم أو یؤخر في قناعاتي عملیة أنطوان .الراسخة

متأخرا قلیال، أخبار اندالع وبالمقابل تناھت إلي، وإنالعام لعراق للكویت فيحرب الخلیج التي تلت ضم ا

، كما أنبئت بانتھاء الحرب األھلیة اللبنانیة، وقد 1990باتفاق الطائف، الذي ناقشتھ األطراف اللبنانیة ختمت

وكذلك األمر علمت . السعودیة في المملكة العربیة – بانطالق المفاوضات على المسار اإلسرائیلياضتي الفلسطیني، والتي وضعت حدا نھائیا النتف

المعقودة في أوسلو، من العام الحبیبة، إثر االتفاقات1993.

140

التعذیب واإلفراط في القسوة وفي ما یتجاوز جلساتتشرین حیال السجناء، كان لمعتقل الخیام أن یشھد في

، أزمة بالغة الحدة، إذ 1989أكتوبر من العام / األول ا التمرد الحقیقي بین المعتقلین احتجاج عمت حالة من

وكانت شرارة . یحیونھا على ظروف الحیاة القاسیة التي التمرد األولى انطلقت من زنازین الرجال، الذین مضوا

یضربون األبواب ضربا شدیدا، ویطلقون صرخات وإذ كان السجناء !". اهللا أكبر !اهللا أكبر: "موقعة مكبرین

كتلة واحدة بلغوا حد الیأس من استجابة مطالبھم، رأیتھم .ي مواجھة جالدیھمف

تتسع، تسارعت ردود وفیما أخذت حركة االحتجاجالمستجوبین والحراس وازدادت قسوتھم في قمع

في سجن النساء، " أبو نبیل"وصودف مرور .السجناءوما أن .وكان یقسو في ضرب إحداھن، وھي كفاح

انتھى حتى أشار الى إحدى الحارسات بأخذھا، فعمدت ن زنزانتھا ورمتھا في غرفة م األخیرة الى سوقھا

الطاعة الحارسات، حتى انتھى بھا المطاف الى بیتالقائم في معزلھا، وفي نفسھا قدر من الخوف أكبر من

كانت رفیقاتھا قد رفعن الصوت عالیا وأخذن ولما. األلمالقسوة المستدیمة، یحتججن، شأن زمالئھن، على ھذه

عتقالت علیھا أن تطلب من الم" أبو نبیل"أصر وللحال . فرفضت كفاح. العودة الى الصمت األخریات

واللكمات، حتى انھال علیھا بالضربات والصفعات .أشبعت منھا

تمردھم أضعافا مضاعفة، وقد أما الرجال فقد دفعوا ثمنالمكتظة، رمیت القنابل المسیلة للدموع في زنازینھم

141

وكان المخبرون الموجودون في السجون یرجون ومضى السجناء . الجرحى اس حتى یخرجواالحر

.یطالبون بالحدیث مباشرة الى اإلسرائیلیین

حتى وصل اإلسرائیلیون، وبالفعل، لم یمض وقت كثیر غیر أن القمع لم تخف حدتھ، إنما تعاظم حتى ال شفقة

أما المحرضون، أو الذین اعتبروا كذلك، . فیھ وال رحمة .تعذیب رھیبة فقد أخضعوا لجلسات

.جالن سقطا شھیدین في ھذه الحركةر

سلطات المعتقل بعض في إثر ھذا التمرد، اتخذت فقد منحنا نحن. اإلجراءات لتحسین الوضع الحیاتي فیھ

السجینات، أكیاسا إسرائیلیة عتیقة للنوم ودالء صحیة، الذین لم یتسن لھم أن یفرغوا دالءھم غیر أن الرجال،

لھم أن یحیوا في ن مقدراھذه إال مرة في األسبوع، فكا .النتانة المھینة

، شھد معتقل 1992سبتمبر عام / وفي السابع من أیلولاللیل دوي فقد مزق سكینة. الخیام حادثا من نوع آخر

ھائل قریبا من جدار السور المحیط بالمعتقل، فأخذ الھلع ماذا یجري؟ وكانت غالبیة المعتقالت، . وأوقظنا بنفوسنا

من المقاتلین تحاول أن یقین بأن مجموعةشأني، على .أطلقت صفارات اإلنذار. تشق طریقھا الى المعتقل

وكان الحراس یظنون للوھلة األولى، أن في األمر كلبا وما لبثوا أن . األلغام المحیطة بالمبنى تائھا في حقول

وسط المنطقة وجدوا رجال جریحا، مشلول الحركةبعد أن أطلقوا قنابل مضیئة المحظورة على المشاة،

142

وسمعت الممرض یحض الحارس . المعتقل على محیطیرید أن یموت فأجابھ األخیر بأنھ ال. على تقلد سالحھ

وعاود السكون . دفاعا عن اإلسرائیلیین في ھذا المكانوظل جنود جیش لبنان الجنوبي . الخیام قلیال قلیال معتقل

رائیلیین الذین ینتظرون اإلس مسمرین في مخابئھم،أمكنني .قدموا الى المكان، متأخرین ومدججین باألسلحة

. أن أتعرف الى صوت أحدھم وھو یستجوب الرجلالى أن الرجل الجریح معتقل ولما اطمأن اإلسرائیلیون

حقل في السجن، وقد حاول الفرار، قرروا إخراجھ من .األلغام

اقتلعت الرجل بترت یده الیمنى و واتضح، فیما بعد، أنمشاركا في وكان الرجل. إحدى عینیھ، بانفجار لغم فیھ

عملیة فرار قام بھا برفقة ثالثة من زمالئھ المعتقلین، وقد حالف الحظ . أفلحوا في خداع الحراس بعد أن

. األلغام بسالم زمالئھ الثالثة، الذین اجتازوا حقلورأیت اإلسرائیلیین یجھدون أنفسھم ویستقدمون

فكانت في . لیة لیبلغوا الى ذلك الرجل الجریحاآل الوسائلیحاولون بھا تمییز األلغام حوزتھم صفائح معدنیة كبیرة

وبعد .المضادة لألفراد، التي حشیت بھا األرض حشواجھود مضنیة استمرت ساعتین متواصلتین، تمكن

األمتار السبعة الفاصلة بینھم اإلسرائیلیون من اجتیازاإلسرائیلیین ساعیا الى رب أحد الجنودوما أن اقت. وبینھ

الجاثم" أبو نبیل"نقلھ على حمالة، حتى عال صوت إنتبھ، ربما : "على أحد أسطح المعتقل، تتردد أصداؤه

الجندي، منذھال، الى تركھ یسقط فسارع!" یكون مسلحایحدث، فأخلي غیر أن شیئا من ھذا القبیل لم. أرضا

.نالرجل الى مستشفى مرجعیو

143

إسرائیلیون وأفراد من جیش وفي ھذه األثناء، انطلقلھم أثرا، غیر أنھم لم یجدوا. لحد آخرون في إثر الفارین

. على الرغم من العتاد والوسائل التي كانت بحوزتھمالفارین الثالثة قد أصیب أثناء عملیة ولما كان أحد

یتركوه أرضا لئال الفرار، فقد التمس من زمیلیھ أن . فرارھمایؤخر

اإلسرائیلیون من وضع یدھم على ھذا وبھذا وحده تمكنالحیاة في ولكنھ سرعان ما فارق. الفار الجریح

أما المعتقالن اآلخران اللذان . المستشفى متأثرا بجراحھ. ركضھما، فقد أمكنھما اجتیاز المنطقة المحتلة واصال

ي في من المعتقل، مدة اعتقال ھذان كانا الفارین الوحیدین .معتقل الخیام

عملیة الفرار ھذه بتشدیدھا وردت سلطات المعتقل علىاألولى إجراءات األمان على األبواب والنوافذ، فجھزت

بقضبان إضافیة، وبتقلیص الخدمات الموكلة الى األقصى، وال سیما ما تعلق منھا السجناء الى حدھا

وا الفارین اغتنم بأعمال الصیانة في السجن، ما دام أنوصار الحراس . قیامھم بھذه األعمال لتحضیر فرارھم

.كل مساء، بتفتیش الزنازین تفتیشا دقیقا یقومون،

الموقعة على النوافذ التي وما زالت أصوات الضربات راح السجناء یؤدونھا یومیا، تضامنا مع زمالئھم

الفارین، ما زالت ھذه األصوات تتردد في مسمعي، الى .یومنا ھذا

144

ھى بشارة معتقلةس

دخلت الى معتقل الخیام وأنا في الحادیة والعشرین من عمري، من دون أن أعرف الزمن الذي قد استغرقھ في

.المعتقل

وراح االستجواب . األولى فیھ منھكة للغایة كانت األیامعلي بال توقف، ولم عن ماضي وعن العملیة یتوالى

في زنزانتي أمامیقف األمر عند ھذا الحد ، بل وجدتنيسیل من األسئلة الملحة، تطرحھا علي المتعاونات

الزنزانة نفسھا، لغایة نقل بعض اللواتي كن دسسن في. رضاھن المعلومات عني الى الحارسات، طمعا في نیل

ومنذ أن صوب أحدھم مسدسھ على صدغي، بعید إعدامي بال محاكمة، وال العملیة بالضبط، تباعد شبح

ولم ا علمت أن أنطوان لحد نجا من العملیة،سیما بعدم .تمتھ الجراح البلیغة التي أصیب بھا

على اعتقالي، وجدتني لمرة وبعد مضي أسابیع عدیدة ولم تكن العصابة على عیني،. أخرى، أمام سمیرفطرح علي مستجوبي أسئلة عامة . بصورة استثنائیة

وكان ھو من استخدم .جدا، أسئلة صحافي لیس إالوسألني عن آخر أمر أقوم بھ إن ثبت . العبارة األخیرة

فأجبت بأني قد أغني أغنیة . أني سوف أعدم لي .بالمقاومة وتمجدھا لمارسیل خلیفة، أغنیة تحتفي

قلقا حقیقیا واحدا، أثناء فیما مضى، لم أعرف إالاالستجواب ذات یوم، وبینما. االستجواب، على الدوام

145

. رة اإلنذار تقطع االستجوابجار، إذا بصوت صفا. سریعا، مكبلة الیدین ومعصوبة العینین أمرت بأن أقوم

وعھد بي الى . حولي وخیل إلي أن العالم كلھ ینقلب من. الحارسات، اللواتي رحن یصرخن بي أن أركض

ماذا یجري؟، : "أعدو، أخذت أسألھن بإلحاح وبینما أناول إنھا ال تعرف بالق فترد علي إحداھن". ماذا یجري؟

.شیئا

.وفي آخر المطاف، أعدت الى زنزانتي

.كان ذلك إنذارا خاطئا

األولى، التي مثلت فیھا أمام وفي خالل تلك األسابیع ، أو حیال أحد معاونیھ، وھي من المرات"سمیر"

النادرة، لم أكف عن المواربة والكذب في كل ما یتعلق قرى، مشوشة الذھن أقاتل القھ وكنت. بي، بالتحدید

فذكرت لھم .غالبا للتحقیقات التي یجابھني بھا مستجوبيولم تمض ساعة على . أمرا كاذبا منذ الیوم األول

بانتماء عصام الى المقاومة حتى طلبت أن أرى اإلقراربعد، كذبت بشأن وفیما. مسؤوال ألبرئ قریبي

المسدسین، مؤكدة أني ما كنت أعرف أن المسدس رصاصات مسمومة، ما بدا أمرا محال ستخدم حشيالم

جدید وكان كل كشف عن كذب. التصدیق لجالديوجعل ھؤالء . مناسبة لسیل من التھدیدات ال ینتھي

ثبت لھم كذبي ومجانبتي یؤكدون لي أنھ في حال حتى أن أحدھم زمجر. الحقیقة، فإن لي شر المصیر

وت، أعرف دوما كیف أجدك، حتى في بیر: "وقال ."وحتى بعد عشرین سنة

146

عن الوقائع التي نقلھا كل وبالمقابل، كنت كلما سئلتأو أولئك المستجوبین بالتزامن معي، أجبت بال تردد

وھكذا، حدث أن أثبت واقعة أو أخرى كان من . تحریفومثاال على ذلك، ما جرى لي . مستجوبي شأنھا أن تحیر

بنانیة حقا الى الل قبیل العملیة، إذ عبرت األراضيإسرائیل، من دون إذن، ولساعات قلیلة، وكانت

التي تعمل في اإلدارة المدنیة، وتعنى " صفاء" صدیقتيالعمال اللبنانیین العابري بتوزیع أذونات المرور الى

والنفاذ ولم یكن الختراقي الحدود. الحدود بین البلدین في الى إسرائیل أي ھدف خاص، إنما ألبین نقاط الوھن

.لحمایة الدولة العبریة النظام المتبع

االستجواب ھذه أشبھ بنفق ورأیتني أغوص في مرحلة وشق علي أن أمیز الجلسات، بعضھا عن. ال قرار لھ

وصارت األسئلة، وعملیات . بعض، لتشابھ مساراتھاشيء ینمى، في عیني، التعذیب بالكھرباء، وصار كل

.الى نوع واحد من الرتابة

منتصف اللیل، حالما تدعیت للتحقیق فيمرة، اسورحت أنزع . وصلت، أمرین أبو فارس أن أخلع ثیابي

ثم أمرني . الثیاب، شیئا فشیئا، وفي بطء الفت عني، بعد حین، وطلب مني "سمیر" ثم عاد. بالكف عن ذلك

أن أعطیھ أسماء المسؤولین السریین في الحزب،ة معروفة رسمیا فاكتفیت بإعطائھ الئحة أسماء حزبی

. یدل على بنیة الحزب السریة وعلنیا، زعمت فیھ أنھ وفیما بعد، دعاني مستجوبي الى رفع العصابة عن

وإذ رفعتھا وجدت مسدسا موضوعا أمامي، . عیني .أني لم أستجب لدعوتھ غیر!" خذیھ: "وأمرني قائال

147

وقد عبرت عتبة السجن، ومنذ ذلك الحین، ألفیتني فكلما كان. العنف واأللم في أفظع صورھماألكتشف

جالدي یضربونني أو یشغلون المحول الكھربائي حل الفراغ في الموصول الى جسمي عبر مسربین،

رأسي، وما عدت أفكر في شيء، ورحت أصیح من ما كان خوفي، من الوقفات، حین توقف وأشد. شدة ألمي

حین سباقھا، و الذراع، التي تحرك ممساك المحول،یجن الذھن تحت وطأة األسئلة، منتظرا عودة الشر،

.برعب صارخ

التي یستشعرھا المرء وھو ولكن أفظع اآلالم ھي تلكاألخریات في قاع زنزانتھ، إذ یسمع صراخ اآلخرین أو

وھو یثقب رأسھ بال انقطاع، ألنھ یدرك ما تحیاه تینك ھؤالء الرجال الذي یتعذبون ھنالك، النسوة، أو

من قبل عین لنیر الالإنسانیة نفسھا، ومعذبینخاضالجالدین أنفسھم، ومذلولین ومشوھین على أیدي

.الوحشیة نفسھا

، غیر أن ملفي ظل وتواصلت جلسات اإلستجوابوفي خالل استجواب كان یجریھ كل . عصیا على التقدم

سمیر ووائل، إستاء ھذا األخیر بصراحة من عدم منفھو الذي یستجوب . مرعب صیتلوائل . فاعلیة زمیلھ

الرجال جلسات أقل ما یقال فیھا إنھا أشد ھوال منسمیر، ال یعرف كیف یعذبك، معي . "جلسات استجوابنافقد ظل السمتجوبون یتبعون مع ذلك،!". األمر مختلف

فلم . نبیل التعلیمات الصارمة من قائد معتقل الخیام، أو .أعذب إال بالكھرباء

148

سمیر لم یضربني إال مرة واحدة، بعد الى ذلك، فإن استجواب جرى لي، في حضور والدتي، التي كانت

.معتقلة في معتقل الخیام ، بدورھا

مكبلة الیدین ومعصوبة العینین، ذلك الیوم، كنت جالسة،تطرح فیھا وكانت والدتي قد أدخلت الى الغرفة التي

وجعلت تحثني على إعطاء المعلومات، وعلى. األسئلة. جرى في ما خص العملیة وتحضیرھا روایة كل ما

وفي !". نفسك أنقذینا، وأنقذي: "وراحت تحثني قائلةحینھ لم أكن أرغب في الشعور بالذنب ألني جررت

المغامرة، حتى ولو كنت أخشى عواقبھا أھلي الى ھذهوعبر آلیة وخطر لي في ھذه اللحظات،. على عائلتي

ا الى إعالء األمور الثانویة غریبة في النفس كانت تدفعنالظاھر على ما عداھا، أن عائلة خطیب أختي في

عالقتھما، ما دامت ال وعاشقھا باتت تعترض علىترضى عن المقاومة اللبنانیة، وال تطیق ذكرھا، على

.علمي حد

استشعرت، بدوره، تضغطا ھائال والواقع أن والدتيتراني فھي. علیھا، إذ تمثلت وضعي في ھذه اللحظة

سجینة، في حین أن جھاز األمن یحال إقناعھا بأن تدخالتھ العلنیة الى جانب حزبھ زوجھا یضاعف من

غیر أني الشیوعي اللبناني القبیح، وھذا محض ادعاء،. ظللت معاندة، وصامدة كالصخر، حیال كل التماساتھا

بإرسال والدتي، " سمیر"معدودة، أمر وفي خالل دقائقعن ني على رأسي، وقد أخرجھ صمتيوراح یضرب

.طوره

149

إذ . وفیما بعد، فاجأت والدتي المستجوبین في ما خصني ."لم تتحرك قید أنملة، إنھا لقویة ھذه الصغیرة: "قالت

االستجواب والتعذیب وما وبقیت على ھذه الحال، من أشار إلي سمیر، حال. تالھما، ثالثة أشھر تقریبایبقى مفتوحا، وأنني سوف انتھائھا، بأن ملفي سوف وردتھم معلومة جدیدة في أعاد الى االستجواب إن

ال تسري كثیرا، اآلن سوت تكتشفین: "حقي، وقال ."الموت

فقدت إیقاعا للحیاة، اعتدت وبانتھاء االستجوابات،مفتقدة كذلك وجدتني. خاللھ على السجن، رغما عني

المسجونین، رغم الى االتصال المباشر والمنتظم بغیر وابتدأ، منذ اللحظة، . اإلیالم وكریھا للغایة كونھ شدید

.یفیض شكا وتقلبا شكل آخر من صراع البقاء،

.ووضعت نصب عیني ھدفا

في یدي، ألن إعدامي صار فما دمت لم أمت وسالحي مستبعدا، فقد بات علي أن أھیئ نفسي لفترة اعتقال

اریخا معینا، وھو العام ورحت أحدد في ذھني ت. طویلة .العتقالي ، خاتمة2000

اعتمدت علیھ في وضع ھذا وكان تحلیلي، الذيفي ھذا وفكرت أن اإلسرائیلیین،. التاریخ، سیاسیا بحتا

ولماذا في مدى . التاریخ، سوف یغادرون لبنان، نھائیاعاما؟ ربما ألنھم كانوا دخلوا الى لبنان اثنى عشرأخرى، أي زمنا مشابھا ھ إلثني عشر عاماواحتلوا جنوب

150

ضعفا، وربما ألن المقاومة اللبنانیة لم تبد. لذلك الماضي، 1982تزداد منعة، منذ العام . إنما رأیتھا على العكس

االستنزاف ھذه التي تخوضھا المقاومة على وأن حربلصالح األخیرة، أرضھا ضد إسرائیل ال یمكن أن تكون

، 1988كنا ال نزال في العام . ى المتوسطأقلھ في المدأردد لنفسي أنھ ال یزال أمامي، أقلھ، عشر وكنت

عشر عاما في أقصى سنوات، وھو رقم مصفر، أو اثنا وھذا ما أجبت بھ، على نحو عفوي، إسرائیلیا أتى. حد

، إذا ما كنت أعرف المدى الذي 1990یسألني، في العام إنما "، فأجبتھ "ع سنوات؟أرب أیكون في"قد أحرر فیھ

."!في عشر

نفسي لھذا الموعد البعید، إذا إذا، وبینما كنت أھیئنازلة الى جوار فالزنزانة حیث كنت. بمعاناة جدیدة تبدأ

.فتیات أخریات، كانت قائمة قریبا من غرفة الحارساتوھؤالء غالبا ما كن یدخلن الى سجننا، ویصحن فینا

وما كنت ألخرج من ھذا . دقیقا تیشالنصمت، ویفتشننا تفكان ھذا . نبیل أبو. السجن إال أللتقي قائد معتقل الخیام

األخیر في الثامنة واألربعین من عمره، طویل القامة، ذاوكانت قسماتھ النحیلة . شاربین وشعر غزاه الشیب كلھ

وجعل یوحي إلي وكأنھ ذئب . ونفاذا تبرز نظرا حادالمزاجھ البالغ وھو. اض على فریستھعلى أھبة اإلنقض

الحدة، كان یسعھ اإلتیان بأشد األعمال عنفا ألجل أن أبو نبیل ھذا، ینتمي الى . إرادة الذین عھد بھم إلیھ یحطم

فبعد أن كان جندیا . مرجعیون بلدة صغیرة قریبة منالواصلین الى رأیتھ أول. عادیا في الجیش اللبناني

سرعان ما تواله وصار تحت معتقل الخیام، الذي .سلطتھ

151

أن أحفظ ھدوئي وأن أقنع وحین التقیتھ، دعاني الى وراحت زیاراتي الى مكتبھ تبث. زمیالتي باألمر عینھ

االضطراب في صفوف المعتقالت من زمیالتي، إمكان انضمامي وعمت التساؤالت في ما بینھن حول

وكلما . الى صفوف السلطة، فأصیر متعاونة معھاوعلى أي . أبو نبیل ألبث صامتة بكماء دتني حیالوج

أن توبیخاتھ لي غیر. حال لست بالمرأة الضاجة للغایة .لم تكن سوى حجج ألمر آخر

وأخرجوني من الزنزانة، وذات یوم، أقبل الحراسرموني أرضا، . بفظاظة، ومن دون أي سبب ظاھر

یضربونني بسوط مسمر، على ساقي، وعلى وأخذواالجلدة الثانیة وفي. مي، ورحت أعد الجلداتباطن قد

. وكان أبو نبیل منتصبا أمامي. عشرة، خانتني ذاكرتياآلن، ال نرید أن نسمع لك صوتا، وال حتى : "وائل وقالبلغ بھ الغیظ أشده لموقفي أثناء وكان ھذا األخیر" تنفسا

أن یعمل االستجوابات، وقرر في الواقع أن یحطمني، .یجعلني متعاونةكل شيء حتى

وقد نقلت . وحین عدت الى زنزانتي وجدتھا فارغة .وصرت وحدي. رفیقاتي الى زنزانة أخرى

أكن ألتنبھ لألمر في بدایة لم. وراحت ساقاي تؤلمانني فكانت بعض. التأدیب، غیر أني لم ألبث أن أدركت

جروحي مفتوحة تنزف دما، وأخذت مفاصلي تتورم في القیام بتمارین، یل كلھ،وجھدت الل. تحت ناظري

وفي المشي ألتمكن في الغد من مواصلة طقوسي في

152

ترتیب الزنزانة، والحمام، والحصول على :السجن .المیاه ووجبات الطعام

صارت اآلالم رھیبة، ال وما أن أقبل الصباح، حتى ولما أخذت الشفقة بالحارسات اقترحن علي أن. تطاق

وتوصلت، . ضت اإلعانةتعینني إحدى المعتقالت، فرفمھماتي الیومیة، وظللت ثالثة أیام كیفما اتفق، الى أداء

ذات .ومضیت أسائل نفسي عما جرى لي. وحدي". مقبولة"صباح، أدخلت فتاة الى زنزانتي، وكان اسمھا

الفتاة، التي اعتقلت بالصدفة، الى حد ما، وكانت ھذه إذ أصابھا فھي. الجنون تعاني انھیارا رھیبا، یقارب

اعتقالھا بالصدمة، انطوت على نفسھا ، وراحت تكررالكلمات نفسھا تكرارا متواصال، وبالنبرة الصوتیة

السؤال محاولة أن أعرف المزید وجھت إلیھا. نفسھاإذ كانت .عن ظروف اعتقالھا، غیر أن ذلك بدا مستحیال

تبدي خوفا غیر مبرر وال عقالني، وكانت تخشى على . كل عائلتھا الى االعتقال والتعذیب وام من أن تجرالد

حاولت العنایة .وبدت یداھا زرقاوین لفرط ما لوتھماولم . ولحسن حظي، بدأت حالتي الصحیة تتحسن. بھا

.أیام حتى اختفت العقابیل من جسمي تمض ثمانیة

.وفي وقت الحق، وافتنا فتیات أخریات

التي " ةمقبول"تصرف وسرعان ما رحن یتشكین من. جعلھن مسلكھا عرضة لمحنة عصبیة قاسیة للغایة

والحال ھذه، الى مخارج معقولة، ألعاب فسعیت، .علیھا جماعیة صامتة تجنبا لتركیز اإلنتباه

153

فأنا اآلن . لھا أن تتجدد غیر أن معاناتي، سوف یكون .بت في مدى بصر أبو نبیل، الذي یرید أن یخضعني

ومفاد األمر، أنھ . مة جدیدةفسرعان ما ثقل ملفي بتھوبلوغھا المعتقل للتو، حاولت لدى وصول معتقلة جدیدة

اللواتي أن أبعث لھا برسالة محذرة إیاھا من المعاوناتفدسست الرسالة في بنطلون ھذه . یتلقفنھا في الزنزانة

بعدما ثبت لي أنھ لھا، وھي كانت نشرتھ في الفتاة،الغسیل في آن، ولم و الغرفة المخصوصة باالستحمام

تلبث ھذه المرأة الشابة أن اكتشفت الرسالة، ولشدة. دھشتھا راحت تقرؤھا أمام رفیقاتھا الثالث في الزنزانة

. الوقت حتى أنبئ أبو نبیل باألمر بالطبع، لم یطل .البطاقة فاستدعاني وأكد لي أنھ یعرف كاتب

بیقینھ، قررت أن أوضح ومع أني لم أكن مقتنعة وأعلنت. بسات البطاقة، متحملة مسؤولیة كتابتھامال

تحدي لقائد معتقل الخیام، إذ أكدت لھ أني سأفعل دوما .ما یحلو لي

باإلضطھاد والظلم طالما دفعاني والحال إن شعوريإذ أبلغني .ولم یتأخر جواب جالدي. الى التمرد علیھما

أنھ سوف یكون علي اإلقامة في الحبس اإلنفرادي، تبقین وحدك، طالما رفضت سوف: "ردف یقولوأ

."العمل معنا

باالنعزال التام عن زمیالتي وعن وھا أنا محكوم عليظھري، ثم كبلت یداي باألصفاد، ووضعتا وراء. العالم

كما " الزنزانة الصغیرة"، 7أخذت الى الزنزانة رقم كنایة عن علبة صغیرة وضعت فیھا أسمیتھا، وھي

154

ھو ان یحق لي بنظام غذائي خاص،وك. فرشة وشرشفكنایة عن وجبة طفیفة، تقدم مرة في الیوم، وینبغي لي

دقائق، المدة التي تفك فیھا یداي، قضمھا في عشربالنسبة للحمام، أما. إضافة الى كأس ماء واحدة، مساء

وھذا في . فلم یكن مسموحا لي، إال مرة في األسبوعدي غالبا ما كانوا ینسون أما الواقع فھو أن جال المبدأ،

.رفعي من كھفي

وحاولت أن أقوم . بإرادتي تملكني التحدي، فتشبثتبتمارین في موضعي، ألظل نشطة، غیر أني كنت

وقررت على الرغم من وجبتي . الى الغذاء مفتقدةأللتھمھ، أي أن آكل الوحیدة، أال أندفع الى الطعام

بید أن. معدةوجبتي في بطء ألجنب نفسي مشاكل في الالدقائق العشر التي كانت أعطیت لي راحت تمضي

البنطلون الذي أرتدیھ وصار. سریعا، وغدوت نحیلةوفي وقت . واسعا على خصري، النعدام الحزام فیھ

نسبیا، وبعد محاوالت كثیرة لاللتواء، أمكنني أن قصیر،قدمي ثم أجعلھما أمامي، مما أمر یدي المكبلتین تحت

لي النوم بأقل صعوبة ممكنة، ما دام األمرأتاح األساسي لي ھو القیام في الوقت المحدد، صباحا،

، في حال حظیت "النظامیة" ألستعید سریعا الوضعیة .بزیارة مبكرة

الحارسة الموكلة بالمرور وفي خالل أسبوعین، لقیتعلي لتضع القصعة المخصوصة بي، صعوبة بالغة في

ورحت : فقلت لھا إن ثمة حال آخر.أصفادي من یدي فكغیر مصدقة ما تراه، أمرر یدي أمامي، ولما كانت

دعتني الى معاودة ذلك، فنجحت فیھ إثر حركات

155

وكنت على یقین بأن أبو نبیل سوف یطلع على .معدودةوفي . ساعدي لن تنثني لھ األمر، وأردت أن أبین لھ أنیقید بیل أنإذ قرر أبو ن. اللیلة ذاتھا، زارني وائل

حركتي، ویجعلني في وضعیة غیر مریحة على . بالمعصم األیمن ربط العرقوب األیمن: اإلطالق

ھل أنت : "وسألني جالدي قبل أن یعود أعقابھ، ساخرافرددت علیھ، مجھدة، ". ھكذا أحسن، اآلن سعیدة؟إذ آلمني . وحشیا وكان ھذا العقاب الجدید. بابتسامة

ولم أعد قادرة على . تمرینقیامي بأي حركة أو فرأیت . ولحسن حظي، فقد أنقذني قدم اآلالت .الوقوف

تنفتح بالمفاتیح كلما األصفاد تتوقف عن العمل، وال حاول الحراس نزعھا من یدي لسحبي من حبسي ھذا،

وبعد . تمھیدا إلرسالي الى الغرفة المخصوصة بالحمامفعدت . فادخلصوا الى انتزاع األص أن أعیتھم الحیلة،

وحتى .الى وضعیتي الطبیعیة، غیر أني بقیت وحديأظل متماسكة رغم الظروف، عاندت وضعي

الریاضیة، أقوم كل یوم وأصررت على التمارین وكان تحریك. وأمشي ما یعادل األربعة كیلومترات

الجسم یقتضي مني قدرا كبیرا من التركیز، نظرا لضیق منتصف الزنزانة، وظھري الى في فكلما وقفت. المكان

وصار .الجدار، وجدتني على بعد خطوتین من البابعلي أن أدور على محوري، وأنفذ خطوتین أخریین،

محوري وأكرر آالف المرات ھذه وأعید الدوران علىالذھن، الحركة، یعینني في ذلك قدر كبیر من حضور .یقیني من عدم االصطدام بأحد الجدران من حولي

، أسجل في دفتري 1989العام سبتمبر من/ یلول وفي أومفادھا .البشرى الثانیة، بعد انتزاع األصفاد من یدي

156

وبضربة . أن إدارة السجن خصتني بفرشة وشرشفمرتبة عالیة، حازت بموجبھ واحدة، اكتسبت زنزانتي

الھدیة وكانت تلك. مكانة الفنادق ذات النجوم الخمس .قتا في اللیالي العدیمة الراحةنشوة لخاصرتي اللتین ازر

لي في الحبس االنفرادي، بعد وكان أن انتھت أول حقبة ولسوف أرسل،. ولن تكون األخیرة. عشرة أشھر

، وھي 27 أو الى الرقم 7بالتناوب، الى الزنزانة رقم .األقل ضیقا

العشرة، عمد أبو نبیل الى قطع وفي خالل ھذه الشھوراألولى، في المرة. اديإقامتي في الحبس االنفر

استدعاني الى مكتبھ لیعرض علي مقایضة جدیرة فقال " وما تكون بضاعة المقایضة؟" :فسألت. باإلعتبار

رون "الطیار إن اإلسرائیلیین ال یزالون یبحثون عنوھم یشكون في أن یكون . الذي اختفى فوق لبنان" أراد

سالة قد أمسك برجلھم ویأملون في أن تساھم ر حزب اهللاالطیار اإلسرائیلي، في ممھورة باسمي، تطالب بتحریر

:فرد بدھشة عظیمة. وعبثا سعى.. التقدم بھذا الملفغیر أني !". یسعك أن تساعدي كل الناس في السجن"

إني . "وأنكرت كلمة السجن رفضت الخضوع لإلبتزازالناس أما السجن فھو المكان الذي یودع فیھ. في معتقلون محاكمة صریحة، األمر الذي ال ینطبق حالما یحاك

."علینا

أبو نبیل أن أكتب رسائل ورغم ھذا الرد، إقترح علي وكان أول. یسعى جھده إلبالغھا الى المعنیین مباشرة

فكتبت رسالة إلیھم طالبة . من ورد في خاطري أھلي

157

التي حملتني على محاولة منھم أن یتفھموا الدوافع ونصحتھم بمواصلة حیاتھم وكأن. اغتیال أنطوان لحد

شیئا لم یكن، وال سیما عدم القیام بوساطات لدى أعدائنا ومن ثم كتبت رسالة الى رئیس .من أجل تحریري

غورباتشوف، االتحاد السوفیاتي، في حینھ، میخائیلوأخرى الى األمین العام لألمم المتحدة ، الذي كنت

حیاتنا حیث وصفت لھ مطوال ظروف أجھل اسمھ،. تواجھنا یومیا البائسة، وال سیما المشاكل الصحیة التي

وكنت على یقین بأن رسائلي ھذه لم تذھب أبعد من اإلسرائیلیین المولجین باإلشراف على معتقل مكتب

أما . حیال مسؤولیاتھم الخیام، إال أني أردت أن أضعھم الرسالة الثالثة فكانت موجھة الى األمین العام للحزب

. شیوعي اللبناني وكل األحزاب الوطنیة اللبنانیةالحثثتھم فیھ على إیالء وكانت بمثابة نص صغیر،

.الصراع ضد المحتل اإلسرائیلي كل اھتمامھم

ولم یكن لدي شك، على اإلطالق، بأن ھذه الرسالة لن .تبلغ بیروت

وعلیھ، . أبو نبیل عما كتبتھ وما أكد ظنوني عدم رضا ب من الحزب الشیوعي التوسطفقد أمرني بأن أطل

ولمعرفة مصیره، فرفضت اإلذعان " رون أراد"لصالح أعطاني إیاه ألرسم أزھارا واستعملت قلم الحبر الذي

رده سریعا، فأتاني. وقلوبا على الجینز الذي كنت أرتدیھ .بمصادرتھم ذلك الجینز، وأبدلوه بعباءة فضفاضة

نبیل لیقول لي إن مقابلة استدعاني أبو وفي المرة الثانیة،مشددا، وأمرني أمرا. سوف یجریھا معي صحافي

158

بالقول إن األمور تجري على خیر ما یرام في معتقل اعامل معاملة حسنة، وحتى أن لدي الحق الخیام، وأني

قلیل، التقیت بالنزھات في الھواء الطلق، وبعدوسألني عما أنوي . بإسرائیلي طرح علي أسئلة كثیرة

فأجبتھ بما یذكر بموقفي . خرجت من المعتقل لھ إنفعبین السجن ومعسكر األول المبدئي، مبینة لھ الفرق

فلم یتمالك عن. اإلعتقال، ما جعل أبو نبیل یشتعل غیظاغیر أن !". إنھا ال تكف عن ترداد ھذا الكالم: "الرد

رون "التفصیل وذكرني باسم اإلسرائیلي تجاوز ھذا . بأن ھذا لیس من شأنيفأجبتھ". أراد

باالستحمام، ثم وضع لم یمض یومان حتى أمرت. الغطاء على رأسي، فأیقنت إن االستجواب قریب

. زنزانتي، مكبلة الیدین، معصوبة العینین أخرجت منالمعتقل، أمرت برفع وعلى بعد خطوات قلیلة داخل

فاكتشفت حوشا واسعا بعض الشيء، وقد . العصابةكان ثمة أربعة رجال أمامي، . سیاج شائكبھ أحیط

وسیزار، ومصور، أبو نبیل،: وخلف طاولة، ھمطلب . كان صحافیا بالتأكید. وشخص رابع ال أعرفھ

فأجبتھ بأني . بوسعي الكالم بالفرنسیة مني إن كانمتابعتي الكالم أفضل العربیة، غیر أنھ أصر على

كیف. العملیةفكانت أسئلتھ األولى تركز على . بالفرنسیةاتخذت القرار باإلعداد لھا وتنفیذھا؟ وھل أنا نادمة؟

لتكرارھا؟ وظل أبو نبیل یحثنا على وھل أراني مستعدةاإلسرائیلي أن ثم أراد. فالزمن محسوب بدقة. اإلسراع

یطلع على رأیي في ما خص أخذ الرھائن، فشرحت لھ .معارضة ھذا النوع من األعمال أني ما زلت

159

ذلك أن ھذا الصحافي ما . أقول متنبھة جدا لماوكنت اإلسرائیلیین، وكنت كان لیبلغ معتقل الخیام لوال موافقة

أشك أن یكون عملھم ھذا مجانا، إنما كان محاولة جدیدةوفي نھایة المقابلة، التي ". رون أراد"منھم للتقدم بملف

دقیقة، التقط لي الصحافي بعض لم تدم سوى عشرین" أوك روجیھ" وقبل أن یغادرني قال إنھ یدعى .الصور

وأوصاني . وأنھ كان ذات یوم رھینة لدى حزب اهللافقلت . رسالة أرید إبالغھا الى أھلي أخیرا إذا كان لدي

.كما یتمنون لھ إني بخیر وآمل أن یتابعوا حیاتھم

أقرأ مقالتھ التي أخالفھ فیھا، غیر وفیما بعد، أمكنني أنما زلت حیة ي من اإلطمئنان علي، أنيأنھا مكنت أھل

وبعد ھذه الزیارة غیر الالئقة، عدت الى صمت . أرزق .الخیام المطبق معتقل

160

كفـــــــاح

ألمضي " زنزانتي الصغیرة" ھذا الصباح، خرجت منفي وبینما أنا. ستین اثنتینرالى الحمام، مصحوبة بحا

باالستحمام، الحمام، وقد خلعت الثیاب عني، وھممت. تتحسس شیئا في قفاز االستحمام فإذا بیدي المتلمسة،

الى ورغما عن أنوف حارساتي األبدیات، توصلتإدخال شيء مربع صغیر، وھو بال شك قطعة من

واصلت االغتسال كان ثم. الكرتون، في أحد حذاءي. فرحا شیئا لم یكن، حتى لو كان قلبي، في حینھ، سیطیر

االستحمام، ولما كنت أتحین فرصة دخولي وفي ختامألكتشف كنزتي، إذا بأبي نبیل یستدعني لم الى الزنزانةالذي سبقت لي كان طومي اإلسرائیلي. یكن وحده

:فقال. الحظ أبو نبیل ارتباكي. معرفتھ، الى جانبھ

أنا " "ما الذي دھاك، ماذا جرى، تبدین شدیدة االنفعال؟" ."!إسرائیلیادوما ھكذا حین أصادف

النحو، سریعا، وأمكنني أخیرا وانتھى كالمنا ، على ھذاوبقوة، من أخرجت كنزي الثمین،. العودة الى زنزانتي

! ویا لخیبتي، إنھ قطعة من الكرتون عذراء تماما. حذائيوسط ذھوبي أقلب القطعة وأعاود تقلیبھا بین ورحت،وفي ! نة عبثاالكرتو لم یدخل أحدھم ھذه. مستحیل. یدي

خالل بعض الوقت، وبعد أن وجھت القطعة صوب توصلت الى قراءة بعض كلمات التشجیع منقوشة النور،

إنھا كلمة . الحدید على سطحھا، بواسطة قطعة من .مختصرة تبدي فیھا صدیقتي كفاح دعمھا لي

161

. إنھا مقاتلة، مثلي. األخریات كفاح لیست معتقلة شأنقامت ي یدھا، في خالل عملیةكانت أسرت والسالح ف

بھا ضد إسرائیل، وكفاح لیست لبنانیة، إنما ھي في مخیمات صبرا وشاتیال، في كبرت كفاح. فلسطینیة ، یوم اجتاحت1982وكانت ھنالك في العام . بیروت

المكان على حین غرة، القوات اللبنانیة، بعد دخول ي وكانت ال تزال ف. بیروت القوات اإلسرائیلیة الى

الثانیة عشرة من عمرھا حین حصلت المجازر، التيحصدت ثالثة من أخوتھا، وتجاوزتھا، فبقیت على قید

السابعة عشرة، التزمت القتال ضد الحیاة، ولما بلغتوذھبت في إسرائیل الى جانب المقاتلین اإلسرائیلیین

أكتوبر / عملیة في الرابع والعشرین من تشرین األول .1988عام

أسر جنود إسرائیلیین مجموعتھم مزمعة علىوكانت غیر أن العملیة باءت. لمبادلتھم بسجناء فلسطینیین

فاضطرت المجموعة الى اإلنكفاء داخل المنطقة . بالفشل. أفرادھا اللجوء لدى عائلة لبنانیة المحتلة حیث ارتأى

. جھاز األمن ولسوء حظھم، كان رب العائلة یعمل فيمجموعة إثباتات، في المنزل، تدل وحین اكتشف أفراد ال

إذ أحاط رجال . انتماء األب، كان قد فات األوان علىأسر كفاح ورفاقھا، بعد األمن بالمنزل، وتمكنوا من

في البدء،. تبادل محدود إلطالق النار بین الطرفینتعرضوا للضرب المبرح، ثم نقلوا جمیعا الى إسرائیل،

.معتقل الخیامسیقوا الى حیث استجوبوا، ومنثم

لم یكن اسم كفاح غریبا ولدى وصولي الى المعتقلشاركت فقد تسنى لي أن أحیط علما بالعملیة التي. عني

162

حتى أن ھذه العملیة كانت محط اھتمامي البالغ، . فیھاوللغلیان في المشاعر الذي أحدثتھ في إلحباطھا أوال،ملیتي تأجیل ع حتى أنھا حملتني على. المنطقة المحتلة

خمسة عشر یوما أخرى، في معتقل الخیام، كانت كفاح وقد . للتعذیب الوحشي، بید أنھا صمدت حیالھ عرضة

وأمكنني تمیزھا بطرفة بدت لي ثابتة العزم وذكیة، ذات عینین حزینتین وابتسامة باھرة، جمیلة،. عین

ھي . ونشیطة، ولطالما تغزل بھا الشباب قبل اعتقالھابإیمانھا، وتضع الحجاب، ملتزمةمسلمة، مؤمنة و

.جاھدة في اتباع الھدى

الزنزانة نفسھا، لم تزل صداقتنا تزداد ومنذ أن التقینا في. یفصل بیننا متانة، ورسوخا، حتى صرنا وال شيء

كانت كلتانا ذات : كان لدینا الكثیر من األمور المشتركة قة لم تكن عال. وثابة، شابة، ومقتنعة بما تقوم بھ روح

لقد كنا . حاال من عالقتي بھ رفیقتي بأبي نبیل أحسنوكان . كلھ بالنسبة إلیھ، المرأتین العنیدتین في المعتقل

وكان یزورھا . لكفاح الحق بالمقابالت مع الصحافیینصحافیون مصریون من األسوشییتد برس، لھذه الغایة

.حتى أنھم تركوا لھا بعض النقود

على اتصال إحدانا باألخرى، وكنا توافقنا على أن نبقى وھذا ما جرى حین قرر ابو. حتى ولو كنا منفصلتین

حددنا موعدا للقاء، . نبیل وضعي في الحبس االنفراديالغرفة المعدة لتكون حماما بمثابة علبة وحاولنا أن تكون

.للبرید

163

الموعد، أي في الیوم الذي وقبل أن أوافیھا الى ذلك "كفاح"موجزة، جعلت سعلة اكتشفت فیھ كلمتھا ال

."البرید"لقد تقلیت الرسالة من . تخطرني

ماذا جرى لك؟ إني : "فیھا ولما فضضت الرسالة وجدت كانت كلمات!" قلقة علیك، فقط لو أني حبست مكانك

ال : "وسرعان ما أجبتھا برسالة. كفاح تثلج صدريزنزانتي الصغیرة، ثم إن الحیاة تقلقي ألجلي، فإني في

علبتنا وتركت الرسالة في". ي أجمل، رغم كل شيءھ، بسعلة الى أني "كفاح"البریدیة، القفاز، وبدوري نبھت

ولطالما اعتدنا على إصاخة السمع ألي .رددت علیھا صوت في السجن، حتى صرنا اختصاصیات في

وبتنا قادرات على تمییز خطو الحارسات، . اإلصغاءولما كان سمعنا متأھبا . باب كال على حدة، وصریر أي

والتي على الدوام، جعلنا نتبین التنقالت داخل السجننروح نخمنھا لمجرد مرور الظالل عبر خیط من

من یذھب الى . األبواب الضوء المنسل تحت وكانت. من عاد، ومن نقل. االستجواب، وبرفقة من

السعالت الخماسیة خیر وسیلة لنا للتواصل، أو لجلب .معدة سابقا ي ما خص حیلةاالنتباه ف

على وتیرة رسالتین في األسبوع، إذا، بقیت أراسل كفاح وكل شيء رھن. حین وضعت في الحبس االنفرادي

وكانت الطریقة ". األقالم"و " الورق"بمونتنا من باأللومنیوم الذي كانت تغلف بھ األكثر فعالیة الكتابة

وكانت . امأی قطع الجبنة التي نحصل علیھا كل ثمانیةھذه الجبنة من صنع فرنسي، ذلك أن األلومنیوم ھذا

المرء لفا یتحول الى رصاص للكتابة من حالما یلفھ

164

حیالة قدر من الصبر، النوعیة الجیدة، إن أبدى المرء حتى صار لنا أنا وكفاح، في. وكان ذا مران في أصابعھ

وھي سلة . مدة وجیزة مخبأ ثان في غرفة االستحمامالقیام بمھماتنا بأسرع ما وكان ینبغي لنا. التالمھم

یمكن، ألن الوقت المحسوب یدھمنا، والحارسات الیتھاون في عملھن وال یمكن مغافلتھن بسھولة، غیر أنھ

أن أتمون بالمواد األولیة التي تتیح أمكنني بھذه الطریقة .لنا مواصلة التراسل بیننا

إذ . ظ التواصلأتاح لنا حف لم تكن الرسائل وحدھا ما اكشتفت، في زمن یسیر، إمكانیات كثیرة تتیحھا لي

فلئن كانت ھذه األخیرة ضیقة، بال ": الزنزانة الصغیرة"بسقف عال وبنافذة، أعاله، مستطیلة شك، فإنھا تمیزت

خمسین سنتیمترا بقیاس سبعین سنتیمترا طوال وحوالي) افذةالن(عرضا، على حد ما أتاحھ لي النظر، وكانت

وكانت الزنزانة من . قضبان صلبة من الحدید ذاتجدرانھا التي ال یبعد الضیق بحیث تتیح لي أن أستند الى

الواحد منھا عن اآلخر أكثر من متر واحد، ألتسلق الىوحتى بلغت النافذة وتعلقت فیھا، صار بوسعي . أعالھا

الحوش الذي یطل على قاعات أن أراقب ما یجري في وكنت من ھذا الموقع،. اب وحمامات النساءاالستجو

قادرة على رؤیة كفاح، ومبادلتھا بعض حركات في .الوجھ لھا داللة

.أحب نافذتي حبا كبیرا

لیال، وأتحین الفرصة ألنفض أحیانا، أصعد إلیھاتتیح لي وكانت نافذتي. شرشفي منھا لمزید من التھوئة

165

بالعزلة الذي ما أن أكسر، وعلى نحو رائع، ھذا الشعور وكلما . األماكن غیر اإلنسانیة تبثھ في برحت ھذه

احتیاال على أبو نبیل، استخدمتھا، شعرت بأني أزداد وبأني أمعن في إفشال استرتیجیتھ اآلیلة الى إكراھي

إنھا نافذتي، نبع الحیاة أطل علي، . على التعاون .وعصي على النفاد ومصدر للحیویة غیر متوقع

ال بد من أن تخرج الى ن األمور في المعتقلغیر أوسرعان ما دالت حكایة نافذتي الجمیلة حین . العلنأحد المستجوبین نظارتھ باتجاه سقوف معتقل رمى

وللحال علت بیارق . األعلى الخیام، فاكتشفني معلقة فينبیل أخرجت من سجني، وعنفت من قبل أبو. القتال، وعما إذا كانوا سیبدلون وتساءلت عن مصیري. تعنیفاالى زنزانتي الصغیرة البائسة، وحین عدت. إقامتي

حكم علیھا، أما نافذتي فقد. فوجئت بالظالل الزرقاء فیھالیس من . وزجاجھا بات مغطى بطبقة من الدھان الملون

لبعض الوقت، ألن الدھان سارع إلیھ الجفاف أقلھ. نافذة .یت لي كفاحبق ولحسن الحظ،. وتساقط بالتدریج

إقامتین لي في الحبس وحین وجدنا سویة، بین اإلنفرادي، تكلمنا كثیرا ولم نكف عن التحدث في أمور

تحدثنا عن كل منا، عن أحالمنا، وعن . ال تسعھا الدنیانقابل حكایاتنا، إحدانا في مقابلة وجعلنا. أمنیاتناأثناء سجنھا فروت لي كفاح كیف أنھا تلقت في. األخرى

ي إسرائیل، والدھشة تغمر كیانھا، مساعدة من إحدى فإذ، لما كانت ال تزال في إسرائیل، وصارت ."عدواتھا"

األمرین، خطر لھا أن تستجوب بوتیرة مھلكة، وتقاسي تفید من وقفة بین االستجواب والتعذیب، وسألت حارسة

166

غیر أن ھذه األخیرة، . في السجن أن تعطیھا رشفة ماءإلیھا أو تجیبھا بالكالم، ثم ان تلتفتمضت من دون

عادت سرا وفي یدھا ربع لیمونة وانتظرت حتىعصرت صدیقتي ماء اللیموت في فمھا وعادت لتأكل

كیف أنني حرمت من الماء حینئذ، أخبرتھا. جلدتھ كاملة ثالثة أیام متواصلة قضیتھا في الحبس اإلنفرادي،

ما كنت أنفر وكیفي كنت مصممة على القیام بأمر لطالالماء من حارستي اللبنانیة، أن أطلب–منھ بكل قواي

.التي كانت ترفض دوما أن تنیلني إیاه

اللواتي كن قد حبسن لغایة وبخالف كل المعتقالتكنا أنا االبتزاز منھن وجعلھن یتعاون مع جھاز األمن،

وكفاح نعرف الدواعي التي نحن بسببھا في معتقل ورغم ھذا، كنا جاھدتین في عدم . ذلك نالقد اختر. الخیام

أن نساعد تینك انفصالنا إحدانا عن األخرى ، وحاولنا .اللواتي ال یقوین على تحمل الظلم الملقى على عاتقھن

وألم، فقد اجتزنا معا العدید من وإذ كنا رفیقتي سالحالروح، ولب ھذه المحن الجراح العمیقة في. المحن

لي، أنھا أكدت لجالدیھا، تحت ویأس كفاح حین تسر إشاركت الفدائیین لغایة وحیدة وھي المال، التعذیب، أنھا

قائدة المجموعة، وأنھا بغیة أن تخفي عنھم حقیقة كونھا كررت ذلك أمام الصحافیین الذین راحوا یسألونھا عن

أما الجراح . سبب سجنھا، في حضور جالدیھا األصلیینلك الجسد، المتمثلة في جراح ذ األشد إیالما، فكانت

التي لم "كفاح. "األكزیما الذي راح یجتاح جلد كفاحأكن أجد من وسیلة لمداواتھا منھ سوى توسلي إلیھا

167

. جلدھا لئال یسارع الدم الى ندوبھا فیھ بالكف عن حك .جلسات التعذیب كفاح ھذه التي كانت تعود ممزقة بعد

في السجن كفاح، أثناء إقامتي الحال أن مراسالتي معیوم، ذات. االنفرادي، كانت تجنبني الحوادث المزعجة

أطلقت إحداھن بین السجینات إضرابا عن الطعام، اعتقال اثنتین منھن في الحبس احتجاجا على ظروف

اإلجراء عادة، وكنا، أنا وكفاح، نعارض ھذا. االنفراديمشترطتین للموافقة أن یمضي بھ المعنیون بھ الى

إننا، كنا ندرك أن كل تحرك من ھذا النوع في ثم. ختامھبسلسلة من االستجوابات معتقل الخیام كان یستتبع

وعملیات التعذیب، لمعرفة المحرضة أو المحرضات ولم یمض وقت طویل على . ذلك، ودوافعھ الحقیقیة على

فیھ رغم تحفظي علیھ، بدء ھذا التحرك الذي انخرطت تدعوني فیھ الى حتى تلقیت كلمة موجزة من كفاح

فأشارت إلي، بذلك، أنھا . عن اإلضراب التوقف. الطعام بحذافیره ورفیقاتھا لم یكن یأخذن اإلضراب عن

. وأنھن احتفظن ببعض المونة، وكن یأكلن خفیة .من اتباعي حمیة قاسیة وغیر الزمة وخشیت كفاح

وبأجلى صورھا، ست سنوات واستمرت رفقتنا طویالمن وال أزال أذكر یوم الثالث. ا كذلكبمحنھا، وبصداقتن

، وقد صار تحریرھا عبثا 1994أغسطس عام / آب ملحا، ذلك أن محامیة كفاح على اإلسرائیلیین وأمرا

توصلت المتصلبة في رأیھا،" لیا تسیمال"اإلسرائیلیة، الى إبالغ حالتھا لمجلس القضاء األعلى في الدولة

ة للحرج البالغ، ما قضیة كفاح مثیر وكانت. العبریةكذلك فقد .جعل السلطات اإلسرائیلیة تعجل في حلھا

168

أتیح لكفاح أن تفید من التحوالت الكبرى في التاریخ، سنة على إبرام االتفاق المعقود في فبعد انقضاء

التحریر بین السلطات اإلسرائیلیة ومنظمة" أوسلو" الفلسطینیة جھد الفلسطینیون في الحصول من شركائھم

بتحریر النساء الفلسطینیات الجدد على صكوك .المعتقالت في سجونھم

أقبع، ھھنا، في الحبس وحین خرجت كفاح، كنت زنزانتي" أرث"غیر أني لم . االنفرادي، ولمرة جدیدة

ولما كان . الصغیرة، إنما ورثت أخرى، أوسع قلیالدوما، فقد تناھى الي رنین سمعي على أھبتھ، شأنھ

فاستدعیت حارسة منھن،. ى الحارساتالھاتف لدوللحال، رأیتني قفزت الى أعلى . ومضت ثم عادت

وسمعت صوتا یھتف الى .النافذة التي تنیر زنزانتي ."!سوف یخلى سبیل إحدانا: "إحدى زمیالتي

الذي اتخذتھ، كنت أراھن ومن أعلى مركز المراقبة. انةزنز یجتزن الحوش، جیئة وذھابا، ثم یتوقفن أمام!". فریدة. "یفتحن الباب ویستدعین المرأة األولى

األخیرة فأومأت لي بیدھا إیماءة وسرعان ما خرجتوكانت تساق .خفیة، حالما تبینتني من وراء القضبان

ثم عادت الحارسات . الى االستجواب األخیر لھا. ھذه المرة" منى"أخرى، فأخرجن وتوجھن الى زنزانة

اإلسم زانة أخیرة، ونادین علىومن ثم توقفن أما زنوبینما كنت متمسكة بحدید نافذتي، !". كفاح: "الثالث

ھا ھي صدیقتي تتقدم الى . في صدري اعتراني انقباضواألخیرة، سعلت سعلتي المعھودة. العتبة، غیر مصدقة

169

. ولكنھا الضطرابھا الشدید لم تكن لتسمع شیئا. خفیة .سونأحاط بھا حراسنا الشر ورحلت، وقد

.رحلت

ذلك اإلخالء لسبیل السجینتین فكان. لحقت بھا فتاتانطابعھ أكثر اإلخالءات في معتقل الخیام داللة من حیث

مضت " كفاحا"وبقیت، ولكني كنت أعلم أن . السیاسي .ثیاب ھزیلة وھي متأبطة صرة

وكان في ھذه الصرة أغراض لي، وقلت في سري، إنھا . كفاحخارجة من األسر معھا، مع

170

الخلـــــق

نصب عیني ھدفا واضحا، یوم أدخلت السجن، وضعت وھو أن أفید، قدر اإلمكان، من كل الظروف ألتعلم

. وأردت أن أظل ضابطة ساعات األسر. وأزداد تعلمااالستجواب وحین استعدت غیر أني، في ختام جلسات

لة تطبیق ھذاحیاة المعتقالت المألوفة، أدركت استحا .البرنامج

. في أشد حاالت العوز والفقر لقد كنا، نحن المعتقالت،وكانت . بالتأكید ثیاب قلیلة، ال كتب وال أوراق أو أقالم،

تركیبة معتقل الخیام منشأة على النحو الذي نحرم فیھ،نظریا، من كل وسیلة من الوسائل التي تتیح لنا الترفیھ

على اإلیقاع الیومي المفروض االحتیال عن أنفسنا، أوغالبیتھن ورأیت الفتیات في. علینا من الحارسات

وكن یندفعن . یختبلن، ما أمكنھن ، في النوم، لیال نھاراالطعام نھمات لدى كل وجبة، ویأكلن بسرعة الى

ذلك الخدر الذي بات متناھیة لیجدن أنفسھن غارقات في العالم الخارجي،ولما كنا منقطعات عن. تسلیتنا الوحیدة

صار لھونا األوحد أن نصیخ السمع لنتتبع تحركات السواء، من زنزانة الحارسات والسجینات على

الىأخرى، ولمعرفة موضع كل من السجینات في ذلك .المترامي البناء

یشاھدن شاشة التلفزیون وكلما كانت الحارساتویحضرن نشرات األخبار فیھا، جھدت كل منا في

حتى إذا حل اللیل، وضعنا . دنى المعلومات منھاأ التقاط

171

المسموعة، والتي سلبناھا سلبا، غیر في التداول ثمارناورأیتني مرة ألعن السینما .أننا نادرا ما كنا نبلغ غایتنا

وفي تفصیل األمر، أني كنت في. المصریة وعجیجھا، ورحت من 24الحبس االنفرادي، في الزنزانة رقم

أتمیز مشاھدة المسرحیة بة خاصتي،نقطة المراق وظللت متمسكة. الكومیدیة المصورة في القاھرة

بقضبان النافذة أطول مدة ممكنة لیتسنى لي أن أروي خفیة عن الحارسات ما أمكنني للبنان مجریاتھا كاملة ،

. غیر أن األمر بدا لي مثابة عقاب آخر–ذلك

. عادیةاھتمامات أخرى، أقل ولحسن الحظ، كان لدي فلما كنت ال أعرف القرآن معرفة حقة، لذ لي أن

أكتشف، لدى المعتقالت األخریات من األغلبیة الشیعیة وكانت معرفتھم األیات . المقدسة المسلمة، نصوصھ

لي تردادھا القرآنیة التي حفظنھا عن ظھر قلب، أتاحتوما دمت غیر . ومعرفة مضمونھا، حتى حفظتھا بدوري

نظرا للمناخ الذي كان سائدا حولنا، والذي ن،معنیة بالدی –ھذا التعلم أیما إفادة نشأت في وسطھ، رأیتني أفید من .ثم إن التعلیم فوق ذلك كان مجانا

شيء، صرنا سارقات ولما كنا محروفمات من كلنسرق كل شيء وال شيء، ذلك أن أقل قطعة . محترفات من زنزاناتنا ولئن كان مسیرنا. ھي كنز لنا من الورق

أو الى قاعات الى الغرفة المخصوصة بالحمام،االستجواب، قصیرا، فإن الدقائق القلیلة الفاصلة ھذه

حتى بتنا بطالت في سرقة . تطول في نظرنا كانتوغالبا . الخبز أكیاس البالستیك، حیث وضعت طلمیات

ما كنا نستخدم ھذه األكیاس في حمامات النجدة، وقد

172

سلة المھمالت، على الرغم من أوامر المنع في أفرغتعبر النوافذ من الصادرة عن الحارسات، أو مرمیة

خالل القضبان في األرض المحظرة على المشاة التي وإضافة الى أكیاس البالستیك، كنا نسعى . المعتقل تسور

من األقالم، وخیطان في إثر مزق من الورق، وقطعوصارت أیادینا . رفیعة من حدید، بل نتف من خیطان

.وبمھارة خاطفة

كذلك، ولنحاول أن نصنع أشیاء وكنا، إذا سرقنا، فلنبدعخیطا من وإذا ما أردنا. صغیرة رغما عن الحارسات

. القطن أو الصوف، كان یكفینا التضحیة بثوب أو كنزةأن نخیك بإبر الحدید المصنوعة لھذا وبھذا أمكنناھذه، كنا ید الدقیقةوإضافة الى خیوط الحد. الغرض

وھذا ما لم یكن متاحا . نحسب حسابا لنوى الزیتونحراسھم یعدون النوى الموزعة على للرجال، إذ كان

نفسھ من كل سجین، وینبغي أن تكون موافقة للعددوكنانفرك ھذه النوى ونحفرھا . حبات الزیتون المعطاة

تصیر لنا مسابح، بید أن ھذه الوسائل في الوسط، حتى .زھیدة للغایة

مسمار دقیق في نعل أحد ذات یوم، أتاح لنا اكتشاف وجعلنا، اللیل كلھ،! إبرة. األحذیة، تحقیق عمل فرید

نحك رأس ھذا المسمار الفوالذي بقطعة، ھي خیط الكھرباء، وجدناه في نحاسي كان یستخدم لوصل

توصلنا ولما كان الفجر، واأللم یشل أصابعنا،. زنزانتنا. قب خیط النحاس، وأدخلنا فیھ رأس المسمارالى ث

إبرة للخیاطة، وھذه اإلبرة صار وھكذا، صارت لناإنجاز عظیم، وبذلك تحقق لنا. بمقدورھا أن تضع أبناء

173

ذلك أن األدوات المستخدمة الى حینھ، باإلضافة الى .المشط، كانت ال تزال سریعة العطب أسنان

اطة التي باشرناھا، أعمال الخی وال یخفى على المرء أنھذه، نعد فكنا والحال. فرضتھا علینا الحاجة والعوز

" طومي"فوطنا الصحیة، الى أن طالبت اإلسرائیلي لھذه األعمال، كان . ، ونقصر ثیابنا1992 بھا، في العام

الخیط واإلبر، إال بوسعنا أن نطلب من الحارسات توفیر ونعید لھنأنھ ظل لزاما علینا أن نحوك تحت أنظارھن،

ثم إنھ كان علینا أن نواجھ . األدوات حالما ینتھي العملالذین كانوا ال یتوانون عن تحدیات المستجوبین

ألجل مصادرة األوشحة التي تضعھا الفتیات المسلماتوفي حركة من . التأثیر فیھن، ودفعھن الى التعاون

عمدت المعتقالت الى حیاكة قبعات التضامن والتحدي،كانت في ومع أن القبعات ھذه. عتقالت أخریاتلتسع م

ھیئتھا اللبدیة أقرب الى ما كان یستخدمھ روبن ھود .أنقذ الجوھري في المسألة وجماعتھ، فقد

التقنیة الى األمام، المتمثلة في وكان من شأن ھذه القفزةاإلبداع، لي، لم یكن ذلك أن. اإلبرة، أن حررت إبداعاتنا

وأن یبدع المرء فذلك ال. اإلطالقتضییعا للوقت، علىفاإلبداع، لنا قبل أي شيء آخر، أن . یعني اللعب، البتة

في التعبیر، وأن نقول كل ما نحوز من خاللھ حریةیدعوننا طالما حصرنا بھ، بینما نجد كل ما ومن حولنا

حتى أني، التي . الى الصمت والى نسیان ما نحن علیھاكتشفت في داخل جدران وذوق علمیان، أتیح لي إعداد

الرد، عنیت معتقل الخیام ھذه الحاجة العصیة علىوصارت األشیاء التي نحققھا في . الحاجة الى اإلبداع

174

وراحت كل منا . بمثابة رسائل جدیرة بالتبادل الخفیةوكان ثمة، بالطبع، .تنقش فیھا من الكلمات ما تشاء

كذلك،وثمة . كلمات الحب لألقارب واألھل واألصدقاءالرسائل السیاسیة، والشعارات ألجل بالدنا ، وألجل

.قضیتنا

.حتى صار اإلبداع حریتنا الوحیدة

من نوى الزیتون، ال لصلي وكان أول ما صنعتھ سبحة ورحت. وجدتھا جمیلة. بھا، إنما ألني أحب شكلھا

یحفزني الھوى، أنقش على كل حبة من ھذه السبحة وكان الغرض . الوطنیة رحرفا من حروف جبھة التحری

الثاني رسما لشعار كنت صادرتھ من عقب سیجارة، الى فتح العقب في شكل تویجة، ورحت أحیكھا وعمدت

ثانیة، األحرف األولى ثم رسمت. بخیوط من الحریر وفي زمن یسیر،. من مقاومتي على حلقتي البائسة

أو الشدة بالعامیة (أمكنني مصادرة ورق اللعب األلعاب التي أستعرضھا وكنت أعرف وحدي). ةاللبنانی

حان وبعد ذلك. مع زمیالتي المعتقالت، ثم أعلمھن إیاھاوقت الشطرنج، فلم أجد شریكة واحدة تشاطرني ھذا

.الھوى

تصیر الى العدم، كلما عمدت وغالبا ما كانت أعمالنا. فیھا الحارسات الى تفتیش الزنازین ومصادرة ما یجدنھ

الورق، الذي صار مسموحا، منذ العام عدا عن لعبحتى . لعبة أو لعب آخر محظورا ، اعتبرت كل1989

قلوبنا، إذا طاول التفتیش زنزانة، وضعنا أیادینا على

175

راجین أن ینجو غرض واحد على األقل من الحملة، .في سالل المھمالت، أیا تكن التي تنتھي حصیلتھا

منا على الخروج من تملكھا كل بید أن ھذه القدرة، التيمنا نفسھا قوقعتھا، تحرج إیما إحراج حین تجد الواحدة

وحین ألفیتني حبیسة في . في الحبس اإلنفرادي، لم یكن 24، وبعدھا رقم 7اإلنفرادیتین رقم الزنزانتین

مرات الحبس األولى، في حوزتي شيء، وال سیما في كوفیما بعد أمكنني أن أخفي إبرتین في قبة ثوب محی

تماما، وكنت وحدي القادرة على ارتدائھ، غیر أني لم وقلت في سري أن كل عجلة .أسارع الى استخراجھما

ھي مجلبة للشك، وأن الحارسات یمكن أن یخطر لھنوفي أي حال، كان من . إجراء فحص دقیق لما أرتدیھالبائسة في منأى عن الصعوبة بمكان إبقاء كنوزي

لغرف تكون فارغة، وال سیما حمالت التفتیش، ذلك أن احیث كنت محرومة من " الحبس االنفرادي" في

النقص بدایة رحت أعوض. الفراشن أول األمربالحركات الریاضیة، ولكن حین وجدتني وقد علق

شدید اإلیالم باألصفاد، صارت معصمي بعرقوبي تعلیقا وصحیح أني صرت أقوم بتمارین. الحركات مستحیلة

.ذلك لیس باألمر المحسوبللمعدة، ولكن

ففي . یحل دون عملي وبھذا حیل دون نشاطي، ولمالزنزانة الصغرى أو الصغیرة، نجحت في مباشرة

الحسابیة، وذلك بفضل لب الخبز الذي كنت تمارینيوبعد ذلك، . عباءتي انتشلتھ خالل الغداء وأخفیتھ تحت

وجدتني أصادر جداول رقمیة كالتي تتساوى األرقام ومضیت في ھذه التمارین الحسابیة . أفقیا وعمودیا ا،فیھ

176

متنامیة ومضاعفة، باستخدامي الرقم حتى بلغت أعداداالرضى عددا، وبھذا تنسمت49، فتحصل لدي 9ر25

ومن . وصنعت زھر نرد من صابونة مھملة. عن نفسيابتكار لعب اجتماعي، لعب : واسع ثم انفتح أمامي مجال

لقوائم ا اللعب یقتضي مني رسم موطئوكان ھذ. السالماإلوزة، یزید في تعقیده القواعد االستراتیجیة الحتالل

فالقواعد، وإن كانت معقدة، فإنھا واضحة، إذ .األراضيوالجنود لتحقیق الغلبة یجب االنتصار على الثعابین

ومن إال أن تحقیق ھذا اللعب، ذھنیا،. المؤكدة لالعبدائم بین الزنازین، وعدم بقائي غیر أن أحسب تنقلي ال

وكنت ال أزال في الزنزانة . الزنزانة الواحدة طویال فياللعبة الى صدیقاتي ، حین توصلت الى تمریر24رقم

وبقیت نقطة ضعف في ھذا . إثر انتھائي من إعدادھاوحین تناھت إلي من بعید، . صالبة زھر النرد :النسق

ن انشطار ھذه تعل ھتافات التعجب المخنوقة، وھي. القطعة الكبیرة، وقد رمتھا بعضھن بحماسة مفرطة

الحظ، لم تلبث رفیقاتي أن وجدن البدیل، نرد ولحسنوأعدن العرض إذ رحن من مالقط الغسیل الخشبیة،

یخطن قطعة من قماش صغیرة، یغلفن بھا زھر النرد من الصابون خاصتي، حتى صار، آخر المصنوع

.األمر، زھر نرد حقیقیا

الحارسات، وإنسانیتھا، في جعل وال أنسى فضل إحدىفالحارسة المعنیة .حسنا الفني یبلغ ما بلغھ إبداع الرجال

، )حبكھم(جعلت تحمل إلینا سرا، أغراضا من صنعھم مصادرة، ولكم كانت دھشتنا إذ نرى قطعھم وأخرى

وتلك ھي . قطعنا مشغولة على نحو أدق وأعقد بكثیر منالتي توصلوا الى ) من زیتون(ت ذات النوى حال السبحا

177

ثم إن الممرض . وذلك بتغلیفھا حریرا أو قطنا تجمیلھاخیاطة القلوب الصغیرة، في" شھادتھ"نفسھ أطلعنا على

الغایة وكان یستخدم لھذه. مستعینا بالكرتون والحریرإنھا كنایة من قلب، صادره . وسیلة غریبة، نوعا ما

ھو ال یزال معلقا في عنق ھر، ألیف و أحدھم، مؤقتا،بي األمر أن وبلغ. للسجن، ویتنقل بحریة في أرجائھ

غیر أن الحارسات فاجأنني وأرسلن ! جذبت انتباه الھروھا ھو یسألني عن مصدر القلب، . نبیل یخطرن أبا

.فأجیبھ بأني صنعتھ بیدي

الموضوعین في رسمي، من ثم، رحت أخلط ھذین وحاولنا أن نتبادل الھدایا من أشغال.زھرة تظلل قلبا

وسرعان ما بدوت مختصة في رسم اللوحات، . أیدیناولھذه الغایة، ضحیت . واأللوان الكانفا من كل األنواع

مشھد بسروال داخلي ألرسم علیھ أول عمل یقوم علىفكنت إذ أخیط الصوف الملون، أرسم یدین : ممیز للغایة. ا ریشة داخل محبرةبالقضبان، وأمامھم متشبثتین

االعتقال ورحت وكانت اللوحة من نصیب زمیلة لي فيأزخرف نصا صغیرا أبرزت فیھ الوعد بالتحریر،

وفیما بعد، جعلت أضاعف اللوحات التي .تحریرناالتي غدت تختلط فیھا الرموز باألوامر السیاسیة

.عمومیة، أكثر فأكثر

، "انیةاالنس"عنوان وھكذا، أنشأت لوحة حملت ولما كنت مؤمنة بالتفوق النسائي، الى حد. بالفرنسیة

إذ وضعت . مبالغ بھ، فقد قصدت ارتكاب ھفوة لغویة الكلمة الفرنسیة في أخر (e muet) حرف الـ

(Humanite e).

178

ممكنا إال حین فكت القیود غیر أن عمال كھذا لم یكن أما في فترات الحبس. عن معصمي وصارتا حرتین

وما كان . النفرادي، فكنت أقارب التجرید والشعرالم أكن مبتھجة القلب یشدني الى ھذا المیل، أني

ولئن بدوت مغرمة بالریاضیات، فلقد أثر عني. والروحقرضي الشعر وإنشاء حزني وصحتي تسقطا للوحي،

لدینا عن ھذا النوع بحسب تلك الصورة التي كانتي حفظت إحدى القصائد، وفیما مضى، أذكر أن. األدبيزمیالت لي في الصف، وكانت إحداھن قد نظمتھا، مع

راق لي األمر حتى صار بدوري، في أفق ھذا التمرین .الشعر جزءا أساسیا من حیاتي في معتقل الخیام

الكالم، وإذا وجدت العمل جدیرا ورحت أؤلف، وأزینوأردد، ومضیت أتعلم. باإلعجاب عمدت الى حفظھ

ومضیت استثمر أبیاتي لفرط ما . حافظة عن ظھر قلبالصدر، وتعلمت أن أھواھا، حصرت معانیھا في .وأجعلھا ممھورة بذاتي

وبقیت أكتب الشعر، حتى بلغ مجموع قصائدي .الخمسین، نقشت جمیعھا في ذاكرتي، فال تمحى

في خاطري إثر ظروف وكانت أولى القصائد وردت معتقلین قید التعذیب، وراح یصیحمأساویة، كان أحد ال

صیحات من األلم یقشعر لھا بدني، فأرتجف وتفیض تلك اللحظات، ما كان فحضرني في. عیناي بالدموع

یقول المستجوبون إذ یكررون مباھاتھم بتقدم إسرائیلورحت، في . على البلدان العربیة، وقوتھا وعصرنتھا

یسعھا أن التقدم ھذه التي خاطري وقلمي، أنقض نجمة

179

الشھداء تسحق البشر تحت أقدامھا، وبالمقابل، أجللتوكذلك فرق المقاومة، التي تزمع تحریرنا من نیر

قصیدتي الثانیة مستوحاة من جلسة وكانت. االحتاللكنت تعذیب أخرى، شھدت فصولھا بالصدفة، حین

فلما كان أحد المستجوبین أنھكھ . متعلقة بقضبان نافذتيوطلب من زمیل لھ أن یحل رقیبا علیھ، ،ضربھ سجینا

بالضربات من فما كان من ھذا األخیر إال أن عاجلھ. دون سبب، حتى راح السجین یصرخ صراخا مریعا

، التي "لوال"قصیدة في ذكرى قریبتي حینئذ أنشأتلؤلؤة "وأسمیتھا استشھدت في عملیة ضد اإلسرائیلیین،

الخوف یرمي بنا، وفیھا وصفت كیف أن". سھل البقاعفي زاویة زنزانتنا، منطوین على أنفسنا، منھكین،

.وعدا بالتحریر ارتسم لنا" لوال"وكیف أن استشھاد

إنما أصف . السیاسة، فحسب ال تقتصر قصائدي على في بعضھا ظروف حیاتنا في معتقل الخیام، وحكایات

الحارسات والصداقة التي تربطني ببعض المعتقالت، أنني أنشأت قصیدة كما. عزیزتي كفاحوال سیما

وأخیرا كتبت نصین حددت فیھا. وأھدیتھا الى عائلتي .رؤیتي للحب

أبیاتي عن ظھر قلب، ثم أجھد أول األمر، كنت أحفظتحسن ومع الزمن، طرأ. في نقشھا على جدار زنزانتي

في النسق الذي كنت أكتب فیھ، وذلك بفضل علب التي أمكنني الكتابة ) جبنةبال المخصوصة(الكرتون

ولكن .فوقھا بالرصاص المستخرج من ورق األلومنیومالھدیة األغلى واألجمل، التي لم یقدم لي امرؤ بقیمتھا

الخیام، إنما كان قلم الحبر الناشف الذي استل في معتقل

180

أھدتني صدیقاتي إیاه ذات یوم، من المستجوبین، والذيیغیر القلم الحبر أنوكان لھذا . عن طریق مخابئنا

مجرى حیاتي، ألنھ أتاح لي أن أكب على ذاتي، معبرة طالما ضاق صدري بھا، فصرت عن خوالجي التي

أكتب على ورق الحمام الذي كنا نسلمھ، أو على قطعوكان . القماش التي سرعان ما حولتھا الى ورق للرسائل

أن أضاعف نسخ قصائدي، ما في غایة األھمیة، لي، وكان لدي ما. أخشى وقوعھا بین أیدي الحارساتدمت

یبرر مخاوفي، إذ كانت الحارسات، ولمرات عدیدة، ویختلسن النظر الى ما أقوم یداھمنني في أعمال النسخ،

.بھ

. الحبر، جاوز ھمي القصائد ولما كنت مسلحة بقلمي ، یوم1994أغسطس، من العام / ففي الثالث من آب

ت كتابا، وأنا في حبسي أطلق سبیل كفاح، باشرورحت أخط . ال أنیس لي ، وحیدة،24االنفرادي رقم

جمال رزینة، على ورق الحمام، وقد تحول الى رق وسعیت الى تنسیق أفكاري حول . بؤس البشر حامل

وكان لب ھذه . بالدي الصورة التي أھم في إنشائھا عن علىاألفكار التركیز على المقاومة، وما تمثلھ لنا؛ و

ثم كان إطالق سبیل إحدى . الواجبات التي تلزمنا بھا/ الحادي والعشرین من تموز الفتیات من األسر، في

، مناسبة لبروز فكرة جدیدة، وھي1996یونیو عام .الشروع في كتابة یومیاتي في السجن

واجتھدت، كل یوم، في تدوین ما یجري في معتقل .الخیام، وفي تفصیل كل حدث بارز

181

.نا، تكمن حكایة الصمود والبقاء أیضاھھ

182

الزیــــــارات

ال شك أن إطالق سراح بعض السجینات یبدل حیاة .الباقیات في السجن

في الواقع، بعد إطالق سراح كفاح والمعتقالت ، حدث 1994أغسطس من العام / األخریات في آب

.ل السجنتبدل في المناخ السائد داخ

أثره على الفتیات، إذ نفحھن فكان إلطالق السبیل ھذاولم یعد . المدة باألمل الذي كان آخذا بالتالشي، قبیل ھذه

وكنا نجھل أن لجانا من . شر األمور أكیدا، بالمقابلأخذت تتشكل، وال سیما في فرنسا، وأن المحامین الدعم

ي النسیان، إلخراجنا من ط اإلسرائیلیین لبثوا یكافحونضغط وأن ھذه التحوالت قد القت ثمارھا، ال سیما وأن

المؤسسات الدولیة بات أكثر إلحاحا وفعالیة من أي وقت انقضاء سنة على تلك الرحابة التي إذا، بعد. مضى

معتقل حرمتني صدیقتي األثیرة لدي، ھا أن أبوابالخیام تنفتح لزوار آخرین، غیر المسؤولین في جیش

.والجیش اإلسرائیلي ن الجنوبيلبنا

سبتمبر، / في شھر أیلول وذات مساء من یوم اإلثنین ، وھي معتقلة نازلة الى"ھنیة"استدعت الحارسات وقیل لھا إن أھلھا سوف یأتون . جانبي في الزنزانة

المنطقة المحتلة، وھي مناضلة ھنیة من سكان. لزیارتھا اھا منفي صفوف حزب اهللا، وكان جھاز األمن رموھي . معتقل الخیام بعد حلولي فیھ بحوالي الثمانیة أشھر

183

نادتني ھنیة خفیة، . اعتقالھا السادسة اآلن، في سنةالزیارة، ورأیتھا وأبدت قلقھا واضطرابھا من ھذه

متأرجحة بین الفرح لرؤیة أھلھا، والخیبة حیال . القاسیة التي یفترض بالزیارة أن تتم وفقھا الظروفال یسعني أن أراھم إال " :شكو لي ھمھا، قائلةوراحت ت

من بعید، وفي غرفة یعلوھا الشبك في منتصفھا، وال ."نقدر ان نتعانق أو نتالمس

النعمة الھابطة من السماء حكرا مع ذلك، لم تكن ھذهالسجناء بأن أقارب ففي اللحظة ذاتھا، أبلغ. على النساء

ودة، بعشر لھم سیأتونھم عما قلیل، في زیارة محدكالما وسالما، في حین أن الوقت المعطى دقائق،

.لزیارة النساء ھو نصف ساعة

تعرف، . سیكون تصرفھا تتساءل عما" ھنیة"ومضت وتساءلت كیف یمكن أن. ھي، أن والدھا متقدم في العمر

نھار الثالثاء، صباحا، راحت ھنیة . تجري ھذه الزیارةى إذا صارت حیال حت. القلب غصة الى الموعد، وفي

بالبكاء، وكانت أمھا وأخوتھا لم تتمالك نفسھا وأجھشتعازمة، في الوقت عینھ، على الظھور بمظھر الشجاعة

" ھنیة"غیر أن . وھي لطالما أثارت قلقھم علیھا والقوة،فوجدت من حولھا كل .لم تكن وحدھا في ذلك اللقاء

جدتوللحال، و. الناس وقد أفقدھم الموقف كل مبادرةالحراس والحارسات یحضون اآلخرین، وبشيء من

أخرى ویتركوا الدموع اللطف، بأن یتحادثوا في شؤونوراحوا یكررون قولھم لألشخاص الذي . لوقت آخریلوون على شيء، في مقابلة أعزائھم السجناء وقفوا ال

184

استفیدوا من الوقت، ھیا،. "بعد طول سنوات وسنوات ."سوف یمر الوقت سریعا

بصعوبة الفتة، من أفواه كانت الكلمات تخرج، قبالة ھذه الوجوه" ھنیة"وقبل أن تصیر . المتقابلین

القریبة، أمرت بأال تتحدث في السیاسة، وال في ما . واال حرمت من المقابلة عاشتھ في معتقل الخیام،

وطلب منھا أن تقول إن كل شيء یسیر على ما یرام، عن صحة كل منھم، وعن وأن تطرح على أھلھا أسئلة

بالعائلة، من مثل الوالدات األخبار ذات الصلةوأصخت السمع حین عادت . والزیجات والوفیات

كانت ھنیة ال تزال تبكي وھي . الى زنزانتھا جارتيتروي لي المشھد، وجعلت. تجتاز عتبة الزنزانة

ونوبات البكاء تقطع علیھا مجرى كالمھا، وقالت إنھا ع ذلك ألنھا تمكنت أخیرا من رؤیة كل فرحة، م كانت .الناس

وعدھا " الصلیب األحمر الدولي لجنة"إذا، لقد أنجرت أشخاصھا ویعود الفضل الى نجاحھا الى عناد. األول

لقد أمكن لھا أن تنتزع انتزاعا، من . وصالبة مواقفھموبعد صراع حقوقي مریر معھم، حق اإلسرائیلیین

الصلیب األحمر لجنة"ما حصلت ك. السجناء بلقاء اھلھمھذه إنجازا آخر، یتمثل في تحسین ظروف " الدولیةیكن السجناء، الى حینھ، قد تلقوا إال بعض ولم. حیاتنا

المقیمات في المنطقة الثیاب المرسلة من العائالت ومنذ تلك اللحظة، سوف یكون لكل العائالت. المحتلة

ى ألبسة اللبنانیة الحق بإرسال طرود تحتوي علالمعتقلین ھذه الطرود الى إذ تحمل عائالت. وأطعمة

185

وتعمد. مكاتب الصلیب األحمر الموزعة في لبنانبالمقابل، لجنة الصلیب األحمر الدولیة، الى تجمعیھا

وبعد تفتیش تلك الطرود، . الخیام وإرسالھا الى معتقلالطرود األولى وكانت. تسلم الى المعتقلین من أصحابھا

ة من األطعمة، إنما احتوت على محارم وصابون خالیومن ثم أتى . األمر كان بمثابة الثورة لنا ھذا. وشامبو

والقھوة، والثمار دور البسكوت، والسكاكر، والسكر، .المجففة، والحبوب على أنواعھا

الزیارة الى ھنیة، وكان یوم وفي الصبیحة التي تلتالمعتقلون األربعاء، حصل أمر مفاجئ آخر، إذ تلقى

وكان أن سرى الخبر في السجن . رسائل للمرة األولىوحین سلمتني . الھشیم، من زنزانة الى أخرى كالنار في

الى أن أقرأھا الحارسات رسالتي األولى، دعیننيبصوت عال، وكانت الرسالة ھذه من ذوات الشكل

والتي ال " منظمة الصلیب األحمر الدولیة" المتبع لدىتكاد أسطرھا تتجاوز ال رسائل موجزة، والتنقل فیھا إ

وأردت . تعرفت الى خط والدي، فیھا. الدزینة الواحدةدعتني . أقرأ، ولكن الكلمات یبست في حلقي أن

ولم یكن لدي سوى .الحارسات لشأني، وأعطینني قلما وفي زنزانة. ربع ساعة ألخط فیھ جوابا بإیجاز مماثل

اثنتان منھن أمیات، مجاورة، حیث تنزل ثالث فتیات،تنسخ الرسالة التي كتبتھا مرتین جعلت المتعلمة الوحیدة

ھذه وكانت. أخریین، مع تبدیل طفیف في األسماءاسرع طریقة إلنشاء الرد على الرسالة، في الوقت

.المحدد

186

والتي تحسن الكتابة، ال تني وكانت الفتاة المتعلمة،إیاھا للكف ، داعیةتؤنب المعتقلة زمیلتھا، تأنیبا رقیقا .عن البكاء وإعطائھا أسماء أقاربھا

أما أنا فكتبت اإلجابة على وجھ السرعة وعاودت قراءة .الرسالة التي بعث بھا أبي

استعاد ریشتھ وأخذ یكتب، وھذا ما لم إنھ والدي، إذا منوشرح . المتزن عرفت، في الرسالة، أسلوبھ. یفاجئني بھ

تسنى لھ الكتابة وأحاطني علمالي في كلما معدودة كیفوأعلمني . بمستجدات العائلة، وال سیما ما خص والدتي

كان لقدومھا الخیر أن أغنت حیاة بالوالدات الجدیدة التيأن كل العائالت لدى كل من أخوي وأختي، وأكد لي

وأخیرا، أبدى لي . األمور تسیر على ما یرام في عملھذلك أن ھذه . یب العاجلحرة في القر أملھ بأن یراني

.بكلمات مداعبة وأجبتھ. الرسالة، ھي خیر عالمة لھ

عالیة، وأن رسالتھ مألت كیاني فطمأنتھ بأن المعنویاتینقصني شيء، وأخبرتھ أني آكل جیدا وأنھ، حین. فرحا

كالبصل الستكمال طبق الفول، فیكفي أن أنادي على الطعام، حتى یأتین لي بالمقوم الناقص في جاراتي بأن

.یحضر على ید الحارسات

كانت لي ھذه الرسالة فریدة للغایة، ألنھا الرسالة األولى .التي خطتھا یداي لعائلتي

حتى استدعیت للخروج من لم یمض یوم على الرسالة، وكانت". یجب ان تأخذي حماما: "زنزانتي، وقیل لي

187

الحارسات یعلمن أني استحممت البارحة، فأدركت، في استدعیت لدى . لي ري، أن ثمة زیارة تھیأس

المستجوبین وحالما مثلت أمام سمیر سألني إذا كنت فأجبتھ بأن أعضاء من الصلیب . قد یحدث لي أخمن ما

: فصحح لي سمیر قائال .األحمر قد یكونون أتوا لزیارتي بل إنھا والدتك، أترین، نحن أناس أوادم، ولسنا مثلك"

سوف ترین والدتك، ولكن إیاك . لتھیئین لعملیات اغتیاالسیاسة، أو في ظروف االعتقال، أو وكلمة واحدة في ."نوقف كل شيء

اخترت ثیابا خاصة للمناسبة، في الصباح الیوم التالي،أعلم أن وأنا. الوشاح والكنزة اللذین تركتھما لي كفاح

ھذه األخیرة سوف تسأل والدتي عن أخباري حال والدتي سوف تروي لھا كل وأنعودتھا الى بیروت،

االلتفاتة وأخال أن كفاحا قد تسر بھذه. ھذا المشھد .نحوھا

. علي فغادرت زنزانتي وضع الحراس غطاء الرأسوساقني ھؤالء الى قاعة یفصل ما بین طرفیھا شباك

من جھتي، كان جمھور من الناس، . من فوالذ طویلجوبین المست ولكن نظرة فاحصة أظھرت لي أنھم كلانفتح . إنھ وائل: ورجل مقنع أمكنني التعرف إلیھ سریعا

ظھرت والدتي، وھي تتقدم على . في مقابلتي البابتقدمت بنذورھا أن إذ كانت. ركبتیھا باتجاه الشباك

. تزحف على ركبتیھا إن ھي عادت ورأت ابنتھا حیةكانت ترتدي تنورة، وصدارا . لنذرھا وظلت وفیةكانت ال تزال لت في نفسي، ولربمافق. وفوقھا سترة

188

ثم نظرت. تشعر بالبرد، ما دامت التنورة ال تقیھا كفایة .إلیھا فرأیت الشیب قد غزا شعرھا

"أنا جیدة، وأنت؟" "كیف حالك، یابنتي؟: "قالت

فسألتني عما إذا كانت تغیرت كثیرا .وانطلقت المحادثةتي، وأخ عما مضى، ثم أطلعتني على أخبار أخوتي،

وللحال، رددت علیھا راجیة بأال تجلب . وأوالدھمنحو الحضور، ثم توجھت والدتي. ھنا األطفال معھا الى

نوع من شأن محامي الدفاع في محكمة الجنایات، فيإنھا تلمیذة . إبنتي لیس إرھابیة: "المرافعة الرنانةتحب الدروس، وتستحق أن یطلق مجتھدة، وھي

."الماضي مضى. عتھاسراحھا لتعود الى جام

حتى أعلنت استعدادھا واستعرت المشار في صدرھا للقاء قائد جیش لبنان الجنوبي، ضحیتي، أنطوان لحد،

."ماما لیس اآلن وقتھ: "إال أني أوقفتھا وقلت

إثر ". انتھى: "أحد الحراس ثم قال. وطالت محادثتنا ذلك، وضعت والدتي یدھا على أحد القضبان وسألتني

. كنت أعرف أن ذلك ممنوعا، فلم أحاول. ل مثلھاأن أعمأخذي، حین دست والدتي یدھا في وسارع الحراس الىفأجبتھا بأن ."!حملت لك سندویشا: "الحقیبة وصرخت

ولم أكد أنھي ھذه . ال شيء ینقصني ھنا، ألطمئنھالن . غدوت خارج لقاعة، مخفورة بالحراس الجملة حتى

وال یدیھا ن عینیھا،أقوى، ما حییت، على نسیا .بالمتشبثتین بالقضبان

189

رحت أجري حساب ھذه ولدى عودتي الى زنزانتي وتبین لي أن امتیاز اللقاءات. األیام التي ال تصدق

األولى ھذه یعود الى القدامى من المعتقلین أو ولما كنت حذرة حیال كل .المعتقالت، على حد سواء

العبر واآلمالاألمور، رأیت أن أمتنع عن استخراج .العراض، أو أتخیل إخالء لسبیلي قریبا

. األولى أن تبدل وضع المعتقلین إذا، أمكن للمراسالتعائالتھم، وسمعت الرجال یبلغون جیرانھم أخبار

. وبصوت عال، وینشرون آمالھم ومشاعرھم على المألالرسائل والزیارات یمكن أن تشكل وكنت أظن أن

أنھ لى أي حال، قلت في سريع. وسیلتي ضغط علینالن تكون لي زیارة من عائلتي، إال قبیل خروجي من

االحتمال األخیر مستبعدا من ذھني وكان ھذا. السجنالصلیب األحمر ألسباب عدیدة، ألني كنت أعلم أن لجنة

الدولیة قادرة على زیارة المعتقلین، غیر أنھا عاجزة عن .إخالء سبیلھم

ورأینا أعمال . التجدید بجو من 1995واستھل العام وفي ما خص النساء، فقد. الترمیم جاریة في المعتقل

أعدت ثالث زنزانات وأثثت على طراز في غایة لإلستحمام مجھزة بمغاسل الرفاھیة، وھذا یعني قاعاتإسرائیلیة كما أن أسرة. وبرشاشات للماء حدیثة للغایة

ب كانت مستخدمة في الجیش، وزعت على أغلوكان أبو نبیل مصرا . زنزانتي الزنازین، إال ما خص

وكانت الحارسات. على أن أتقدم منھ بطلب شخصيیصررن دوما على قیامي بھذا الدور، غیر أني بقیت

. مھما كان الثمن. معتقل الخیام أرفض التعاون مع قائد

190

رأیت حتى إذا مضى شھر على الزیارات األولى ھذه،نزانتي، واستدعى حارسة وأمرین عدوي ماثال أمام ز

فاستنتجت أنھ سوف تحصل أمور جدیدة، .بأن ألحق بھا .في القریب العاجل

فتح الباب واستدعیت ألمثل وفي صباح الیوم التالي،بعد كان ثمة لجنة لإلستقبال، قائمة على. على العتبةفعرفت منھا، أبو نبیل، والحارسات، . أمتار أمامي

العسكري للمعتقل، أي ما مجملھ سبعة والحراس والقائدمن أربعة وكان ھؤالء یحیطون بفریق مؤلف. أشخاص

أشخاص مجھولین، وتعلو بزاتھم شارات اللجنة الدولیة وكان المسؤول عن ھذا الفریق . األحمر للصلیب

أنت : "اكتشفني الصغیر یبدي استغرباه بالفرنسیة حال فیما بیننا على ثم انعقدت األحادیث!". سھى ، بالتأكید

، "بلتازار"وأخبرني الرجل ذاتھ، . دقیقتین اثنتین مدىثم أنبأني بأنھ سوف یعود بأن والدتي كسرت ساقھا،

قریبا، على ما أكده عامر، المسؤول العسكري في .معتقل الخیام

.وأغلق باب زنزانتي

وتواصلت زیارة اللجنة الدولیة للصلیب األحمر في .الغد

اللجنة بأفرادھا القالئل، من استطالع حال وھكذا تمكنت كل فرد من المعتقلین في معتقل الخیام، وإن بصورة

.سریعة

191

الدولیة للصلیب األحمر بصورة ولسوف تعود اللجنةبدءا من منتظمة الى معتقل الخیام، لتنظر في أحوالھ،

الذي تفاوض مع أنطوان " بلتازار"وكان . ذلك التاریخن دخول الصلیب األحمر الدولي الى شأ لحد شخصیا في

األمور لصالح معتقل الخیام، توصل أخیرا الى دفع .المعتقلین، أكثر فأكثر

اللقاء حتى حظي عضو من ولم یمض زمن على ذلك المنظمة السویسریة باألذن بدخول أیة زنزانة للتحدث

الى عریني، " كالرا"ذات صباح، دخلت . مع السجناءھي امرأة شابة بھیة .لحارساترغما عن تحفظات ا

تفھم العربیة وتعبر بھا. الطلعة في الثالثین من عمرھافأسرت لي برضاھا بعد كل الجھود . بیسر عما ترید

السنوات السابقة، وأكدت لي أنھم التي بذلت، على مدار سوف یبذلون قصارى جھدھم في سبیل أن یشھد

ة تتعلق مصیرنا تحوال إیجابیا، ثم طرحت علي أسئلفكان أن أثرت . عشتھا، ھھنا بظروف الحیاة التي

تأثیرا تجربتي في األسر، التي رویت لھا فصوال منھا،وراحت تضاعف األسئلة وتدون . دفعھا الى البكاءثم عاینني طبیب، فأثرت انتباھھ .المالحظات الكثیرة

األدوات الصحیة الى الحالة المزریة التي صارت إلیھا، والى حاالت النزیف الحادة والخطیر، التي في السجنجلسات التعذیب في النساء اللواتي ال یزلن في تحدثھا

.فترة حیضھن

فرحت أروي، . زنزانة فارغة وجرى لقاء آخر لنا فيالتي تفاصیل اعتقالي، وجلسات االستجواب، والمرات

تطلب " كالرا"وكانت . وضعت فیھا بالحبس االنفرادي

192

الدواعي التي جعلت أبو نبیل یقرر لھامني أن أحددانضم وفي نھایة الحدیث،. وضعي في االنفراد

وقال لي أنھ لن یكتفي بھذه الجھود التي . إلینا" بلتازار"وأوصى بكتب وبأدوات یسعنا أن نستخدمھا في .قام بھا

مداعبا، من كوني وجعل یعتذر مني،. أوقات فراغناءة أعمال كارل ماركس مناضلة شیوعیة وال یسعھا قرا

وأدركت، بعد ذلك ان الرقابة المفروضة على .وأنجلزغیرھا، ھي التي الكتب ذات الصبغة الشیوعیة دون

فأكدت لھ أن القرآن وحده ھو . حالت دون وصولھا .األعظم فائدة لصدیقاتي المسلمات الكتاب

عاودت التأكید لھ على انعدام ،"بلتازار"وقبل أن یغادر رأیت حتى. الصحیة واألدویة من المعتقلالعنایة

الحارسات، إثر ھذه الزیارات، وقد اعتراھن القلق، . وظنن أن شیئا ما یحاك ضدھن وساورتھن الشكوك،

للجنة الدولیة فجعلن یسألننا، ألف سؤال، لمعرفة ما قلناهوأبو نبیل كذلك، رایتھ شدید . للصلیب األحمر

یستدعي المعتقالت حتى أنھ أخذ. والقلق االضطرابوعلى الرغم . الزیارات األكثر طواعیة لیستنطقھن عن

من مخاوفي، فقد استمرت الزیارات ولم تنقطع الرسائل .عبر البرید

والدتي للمرة الثانیة في كانون وقد تسنى لي أن أقابلاتسمت فكان أن. 1995دیسمبر من العام / األول

وإذ . طف من السابقأحادیثنا، ھذه المرة، بنبرة أخف وأللم تتغیر منذ رأیتھا، ردت بأنھا وضعت في أنبأتھا بأنھا

ولم تحدثني عن . بھا البراد بعید العملیة التي قمتوقد علمت، فمیا . ظروف اعتقالھا، ھي، في ھذا السجن

193

أنھا، قبل اعتقالھا، أخطرت من قبل زوجة عمي، بعد،لیة في لمرات متتا المناضلة المشھورة والمسجونة

الماضي، من كونھا وضعت قید المراقبة في منزلھا، حتى صار مجموع . میماس، لشھرین متواصلین بدیر

في جدران معتقل المقابالت التي جرت لي مع والدتيأغسطس من العام / الخیام ستا، وآخرھا كانت في آب

1998.

، تحققت 1995من العام دیسمبر/ وفي كانون األول وھا أن. الدولیة للصلیب األحمر وعود اللجنة

. الحارسات یوزعن علینا الكتب من مختلف األصنافانتظرتھ فلم یبلغني إال في أما طرد الكتب الذي طالما

وكنت قد. دیسمبر/ الثامن عشر من كانون األول تلقیت، قبل ذلك بأسبوع، أول كتاب لي منذ سنوات،

حیظت في حین. العربیة وھو كتاب اإلنجیل باللغة وصرنا،. زمیالتي المسلمات بالقرآن، لكل منھن كتاب

بدءا من تلك اللحظة، نزود بالمجلدات المرغوبة التي جدیدة، بعد قراءتھا، لنحظى كان علینا أن نعیدھا

تضمنت وھكذا بات لنا مكتبة متنوعة للغایة،. بغیرھاوأذكر منھا (اعدادا كبیرة من األعمال المتنوعة كالسیر

، أو كاألبحاث العلمیة )یتناول حیاة غورباتشیف باكتااالستاذ الجامعي دومینیك شأن الكتاب الذي أصدره(

، أو)شوفالییھ والذي خص فیھ بالدراسة جبل لبناناألعمال الروائیة، التي ال تلیق البتة بإطار الخیام

وبالمقابل كنا . الى بربارا كارتالند ومعتقلھا، والتي تعودمؤلفوھا یمجدون مال الدینیة التي راح فیھانقرأ األع

أعمال المقاومة ضد المحتلین، وذلك في توطئة الكتب، فیھا روایة تاریخیة تجري في ظل االنتداب كما تجد

194

ھذا الكتاب یروي والشیق في األمر أن. البریطانيحكایة مقاوم أردني تصدى لالنتداب البریطاني، وقد بلغ

ه حدا، إذا ما قارنتھ ھذا المقاوم ومشاعر وصففیھ ألطلقن العنان القارئات في معتقل الخیام بما ھن

.لضحكھن وسخریتھن، حتى ادرار الدمع

مدرسیة لتعلم اللغات األجنبیة، كما أننا تلقینا كتبالنا على كالفرنسیة واإلنكلیزیة، غیر أنھ لم یتسن

اإلطالق، أن نألف مجاال جامعیا محددا، كالذي وضع نظرا لظروف السجن وحداثة عھده بالشأن ي تصرفنا،ف

نفسي باتباع نظام والحال ھذه، فقد ألزمت. التربويصارم في ما خص القراءة، إذ لیس ھناك مجال ألن

الخمسین صفحة في الیوم، تجنبا لمشاكل في أتعدىالسنوات التي قضیتھا الرؤیة والنظر، بعد كل ھذه

فضلت، من بین كل الكتببید أني. محرومة من الكتب، "رجال وسالم واحد"الموضوعة في التداول، كتاب

داغر، والذي تروي فیھ مسار لمؤلفتھ اللبنانیة كارولوالذي العربي بعد حرب الخلیج،–السالم اإلسرائیلي

بلغ أوجھ في االتفاقات المعقودة بین اإلسرائیلیین بعات ھذا ذلك، یفصل الكتاب في ت الى. والفلسطینیین

ھذا الكتاب وكان. السالم على لبنان واألراضي المحتلةمناسبة فریدة لي ألطلع على ما جرى في بالدي، وفي

خالل السنوات األخیرة التي طبعتھا نھایة المنطقة ككل، .الحرب األھلیة بمیسمھا

إلینا اللجنة الدولیة للصلیب أدخلت1996وفي العام األسالك،–تظارھا األحمر المواد التي طال ان

. والكرتون، والورق، وأدوات التلوین، وأحرف للطباعة

195

الدفعة المدھشة، بزمن قصیر، كنت وقبل أن تأتینا ھذهللصلیب األحمر أھدیت كال من أعضاء اللجنة الدولیة

" بدیعة"قفازا صغیرا من عمل یدي، فحصلت وكل اآلخرین على " كالرا"، و"بلتازار"و المترجمة،

جیب صغیر، وھو عبارة عن. احد من ھذه القفازاتوذلك أن عمل . نسجت في داخلھ زھرة ذات ألوان عدیدة

بالنسبة لي، ھو أن یمد المرء ید العون الى أخیھ النجدة،المحمیة براحة الید إال الكائن اإلنسان، وما الزھرة

ولـ " كالرا" ثم إني حبكت ورودا لـ. البشري، بنظريلعضو آخر من اللجنة الدولیة للصلیب ، و"كورین"

ذلك، أنھ یوم فتح باب الزنزانة حیث أضف الى. األحمرالحارسات كنت واثنتان من زمیالتي، ووضعت

. األدوات في كیس، امامنا، لم نصدق ما تراه عیونناتستخدمان األدوات " فاطمة"و " ھنیة" وللحال، مضت

، وكانتا تبقیان وعقودا وتجھزان أساور، وأقراطا لألذن،أنا أما. لساعة متأخرة من اللیل مثابرتین في عملھما

فانكببت على رسم فني ذي خطوط ھندسیة بالغة التعقید، ثم قر رأینا . الدولیة للصلیب األحمر ألتمھ ھدیة للجنة

أرسم وزمیالتي أنا: على أن ننظم جھودنا في مشاغل .یلون

یحیرنا في وجھ أیدینا، وظل الكرتون، لوجوده بینلألمر، ولما أسقط في یدنا ولم نجد مخرجا. استعمالھ

أن تكتشف لنا عما یفعلھ " سمیرة"طلبنا من الحارسة إذ : فجاء جوابھا صاعقا لنا. بالكرتون السجناء الرجال

الشأن، حتى لیفوقوننا قالت إنھم یتدبرون أمرھم في ھذا. بینھم نین، منوتفكرنا في أننا ربما وجدنا فنا. كثیرا

حتى أتتنا الحارسة . وظللنا مصرات على معرفة المزید

196

األغراض التي صنعوھا من الكرتون، وفي یدھا بعضورحنا ننسخ . المجال فاعترفنا لھا للحال بتفوقھم في ھذا

نماذج السبحات التي جعلوا یصنعونھا، واستوحینا ما ول. من خبراتھم یوم ابتكرنا بطاقات للمعایدة كذلك،

كبیرا من الشیعة، فقد جعل كان السجن یحوي عددااإلمام المعتقلون یرسمون شعارا بات مألوفا، وھو قبضةومن ثم . علي بن أبي طالب وھي ممسكة بالسیف، سیفھ

العام لحزب اهللا حسن نصر اهللا، رسما ھو أھدینا األمینالكرتون، وقد أقرب الى الخط العربي محبوكا على

:جانس بین األلفاظ فیھجعلنا ن

بید أن الحارسات كن لنا بالمرصاد، ". النصر نصر اهللا". فصادرن نتاجنا، في اول حملة تفتیش أتیحت لھن

.فالسجن ھو السجن

197

حنــــــان

حریتھا، في العام " كفاح"ما أن استعادت صدیقتي ، حتى عدت ألغور ثانیة في عادیات السجن 1994 .وھمومھ

كل لحظة، ضد ھذا العالم یقتضي ذلك صراعا،وكانشقوقھ للجدار. الحابس، وضد قواعده التي فرضت علینا

. ونقاط ضعفھ، وعلیھ لم یكن للصراع وجھة وحیدةنبیل في تحطیم جبھة المعتقالت وبمقدار ما جھد أبو

األدوار ضد التجسس الداخلي، رأیتنا ساعیات إلى أداءحتى . جابھنا بھا الحارساتالمقیتة التي یمكن أن ت

من التواطؤ مع إحداھن، وھي تدعى انتھیت إلى نوعمعاملتھا ، على الرغم من كونھا األشد في"جمانة"

وھي كانت تكره جو التشكیك المعمم في السجن، . للنساءرغب أبو نبیل في إشاعتھ، وأبدت امتعاضا والذي طالما

ة التي الوحید وكانت الحارسة. من تصرف زمیالتھاتأنف من إدخال الحراس إلى القسم المخصص للنساء،

ولما كانت ال تؤثر . وأللف سبب وسبب من المعتقل،أنیستھا صداقة زمیلة من زمیالتھا الحارسات، صرت

فوجدتني، ھكذا، من دون أن أطرح . وحافظة أسرارھامطلعة على أدق التفاصیل حول اآللیة أي سؤال علیھا،الشابة جعلت حتى أن المرأة. معتقلالتي یسیر بھا ال

تسمح لي، بالخروج من زنزانتي، خفیة عن عیون .بما عندھا األخریات، لتسر لي

198

الحریة، المسروق من أبي نبیل، وكان ھذا الھامش منبالمقابل في یسرني سرورا بالغا، حتى أنني، جھدت

حض المتعاونات على البقاء في معقلھن، إذ أثرت في لشكوك فأكدت لھن أن قائد معتقل الخیام إن ھو ا نفوسھن

تختلف بشيء عن ظروفنا، إال مخادع، وأن ظروفھن ال وأنھن المرمیات في الزنازین شأننا، كلما دعت الحاجة

قائد معتقل الخیام إلى طلب بعض المعلومات منھن، ونجحت . السجینات من زمیالتھن یأخذنھا عنوة من شفاهالتي انطوت بیر، للقدرة اإلقناعیةھذه الجھود إلى حد ك

علیھا، حتى أمكنني أن أشیع نوعا من التسویة، تقوم بموجبھا بنقل تفاصیل مجردة من األھمیة ھؤالء

اھتماماتنا للمستجوبین، راضیات على السكوت على .السریة الكبرى والصغرى

إذ أقمنا . یصبھا الكلل، على اإلطالق ذلك أن إبداعیتنا لماألخریات كان التصاالت فیما بین السجیناتنظاما ل

أكثر تقدما وفعالیة من صندوق البرید الذي جعلناه فيوقد توصلنا إلى ربط الزنازین المتجاورة . الحمامات

بخیط، جعلنا نمرره لیال، عبر بعضھا بالبعض اآلخروبھذا أمكننا أن الكوى التي تعلو كال من ھذه الزنازین،

أشیاء صغیرة كالسجائر وعلب نمرر الرسائل أو. تسعى إلیھا بعض المعتقالت سعیا حثیثا الكبریت، التي

أو " المصعد"دعوناه وكان نظام اتصاالتنا ھذا، الذي ، شاھدا على إدارتنا وقدرتنا علىبناء حیاة"الحمار"

موازیة لمعتقل الخیام، والتي أراھا استمرارا للمعركة .ا خارج المعتقلغمارھ التي یخوض المقاتلون

199

القناعة وصول معتقلة جدیدة وكان أن ثبتتني في ھذه" حنان" فقد اكتشفت في. 1996إلى معتقل الخیام عام

. صدیقة جدیدة ومناضلة بكل ما في الكلمة من معنىمؤتمنة على حكایة " كفاح"األولى وإذا كانت رفیقتي

" حنان" كفاح الفلسطینیین ضد إسرائیل، فإن شخصیام حركة سیاسیة جدیدة وصاعدة، في المجتمع یبرز ق

."حزب اهللا"بھا اللبناني، عنیت

الجذري، المنغرس في صفوف ولقد بات ھذا الفریقالجنود الطائفة الشیعیة، یوما بعد یوم من أعتى أعداء

اإلسرائیلیین ومرتزقتھم من اللبنانیین، حتى أنھ، أي ھذا .لوعد بدحر اإلسرائیلیین وفع الفریق،

اعتقلت بحجة واھیة، في العام إذا، كانت حنان قداألمن فلما كان أخوھا، معتبرا من قبل جھاز. 1996

مسؤوال في حزب اهللا، أراد أفرادھا ھؤالء من حبسھا على معلومات ثمینة في ما خص عمل أن یحصلوا منھا

عسكریة ھذه المیلیشیا التي راحت تحصد انتصارات، ولدى وصولھا، راحت حنان الواحدة تلو األخرى

التي أطلقھا " عناقید الغضب" تروي لنا تفاصیل عملیةبیریز، رئیس الوزراء اإلسرائیلي في حینھ، شمعون

. ، بأسابیع قلیلة1996قبل اإلنتخابات التشریعیة للعام من عملیات القصف المدمرة والعنیفة، وكانت الغایة

غیر . اهللا التي عاودت ضرب لبنان، تحطیم بنیة حزبأن ھذا الجیش األعظم قدرة في المنطقة عجز عن

المنغرزین في صفوف شعبھم زعزعة المقاومین اللبناني، أو زحزحة قواعدھم العاملة، وكانت رشقات

صواریخ الكاتیوشا التي یطلقھا الحزب تصیب شمال

200

والحق أن . سكانھ إسرائیل وتبث الرعب في صفوف صداءه في معتقل الخیام أدىوابل النار الذي كنا نسمع أ

إلىھدف معاكس تماما، وال سیما بعد المجزرة المرتكبة لألمم المتحدة في جنوب لبنان، إلى في قانا، داخل مركز

وكان . إلیھ حیث كان المئات من المدنیین قد لجؤواالتفاق الناقورة، الذي وضع حدا لألزمة، أن خرج بما

ھذا التفاھم أنھ یقر وأھم ما في". بتفاھم نیسان" سميلالحتالل، بشرط أن تتجنب بحق المقاومة في التصدي .المدنیین من كال الطرفین

الخیام، كنت المرأة الوحیدة ولما بلغت حنان إلى معتقللحظوتھن كانت زمیالتي قد أطلق سراحھن،. الباقیة فیھ

ما دام أنطوان لحد یرفض رفضا . بالعفو من دونيإلسرائیلیون في موقفھ، شملي بھذا ا قاطعا، ویدعمھ

الدروس العادیة وراحت ھذه السجینة الجدیدة تتبع. العفوالتي یمنحھا السجن لكل داخل إلیھ فمن الحبس

إلى جلسات االستجواب، ومن ثم إلى اإلنفرادي ،وبعد . الواحدة جلسات التعذیب، حلقات في مسار المعاناة كل صالتي طول غیاب، قررت التحري عنھا، فجندت

أمكنني التعرف إلى ھویتھا، وبوقت بالحارسات حتىمناضلة في فعرفت اسمھا كامال، وتبین لي أنھا. وجیز

صفوف حزب اهللا، وأجریت أول اتصال بھا، إذ فاجأتھا الزنزانة االنفرادیة، شأني لسنوات متمسكة بقضبان

.عدیدة خلت

بأسرع ما مصلحتھا غلق النافذة فأبلغتھا، باإلیماء أن منذكاء ھذه ولكن فاجأني. یمكن لئال تثیر حنق الحراس

وفیما بعد، . المرأة الشابة التي تفھم الوضع بطرفة عین

201

االتصال بھا، متوسلة األغاني الدینیة التي رحت أمكنني .أدندنھا بصوت منخفض

.كنا نقدر األمور، عن بعد

یرنا وإذا ما باغتتنا مقاد. بیننا وسرعان ما رسخت الثقةإلبالغي في السجن، رأیتھا لم تتوان عن المخاطرة

رسائل تتعلق بالمناقالت الجاریة على وقع لي االتصال باللجنة الدولیة وحالما أتیح. االستجوابات

وكانت ،"حنان"للصلیب األحمر، أبلغت أفرادھا بوجود .إدارة المعتقل أغفلت ذكر المعتقلة الجدیدة

تقلتان اثنتان، ولم یبق في وفي ھذه األثناء وصلت معمعتقل الخیام إال ثالث نساء في مقابل عشرات السجناء

.من الرجال

تقنیة االتصال الحدیثة التي سریعا من" حنان"أفادت رماد كنا أقمناھا في الزنازین الحدیثة، المبنیة لذر

العنایة بالسجناء في عیون الزائرین من اللجنة الدولیة انت مجاري المغاسل ألشھر كثیرة وك .للصلیب األحمر

أكثر خلت بمثابة قنوات لالتصال، نتبادل خاللھااألحادیث سریة، في حین بدت الیوم على ھیئة من

كان یكفي إحدانا أن تتكلم، الرفاھیة ال تصدق، إذ بصوت خافت، فوق فوھة المجرى، ثم تصیخ السمع

وإضافة . لتتلقى الجواب من الصدیقة المقصودة، "حنان"أبعث بھا إلى سائل الموجزة التي كنتإلىالر

وقد واریتھا بأغان ذات طابع محاید، جعلت أنبئھبالفخاخ المنصوبة حول معتقل الخیام، ورسمت لھا

202

الذي تصدت لھم بقساوة صورة سریعة عن المستجوبین .شدیدة

اقتنعوا بأن المرأة الشابة ھذه لیس ولم یلبث ھؤالء أنإنما ھي ي في حزب اهللا فحسب،قریبة لقائد عسكر

كذلك مناضلة نشطة، وقد استخدمت كساعیة بین فرق جھتھا، لم تكن حنان لتتراخى حیال ومن. المقاومین

جالدیھا، كلما مستجوبیھا، فیأخذ بھا الغضب الشدید من، "حسن نصر اهللا"ذكروا اسم األمین العام لحزب اهللا

یؤكد نسبتھ إلى ، الذي "السید"من لقبھ المھیب مجردا .غضبھم العارم من عقالھ ساللة النبي، مما كان یطلق

لي معھا، أمكن ھذه المرأة وبفضل األحادیث التي جرتأنبأتھا بھویة وھكذا،. الشابة أن تتجنب إثارة مستجوبیھا

أحد ھؤالء المستجوبین، وھو مسلم، في حین ظل مصرا نت في ادعائھ االنتماء إلى المسیحیة، كلما كا على

حقیقتھ، ینتمي إلى قریة ولما أخبرتھ أنھ في. حضرتھممسمرا ذات أغلبیة مسلمة، بعد أسابیع من حوارنا، ظل

.في مكانھ وقد تملكھ الذھول واالرتباك

تدبیر مقلب آخر، طریف، یوم نجحت في" حنانا"ثم إن وضعت في حضرة إحدى المعاونات، وقد حاولت ھذه

لة السیئة من قبل جالدیھا في إحدى األخیرة إدعاء المعام" حنان"ولما كنت أفضیت إلى .جلسات االستجواب

االستجواب والتعذیب. بالكثیر من مجریات التحقیقومن قوام المتعاونات أیضا، فقد تبینت على الفور بعض

وسرعان ما رحات . شفتي محدثتھا معالم التطریة علىالمسحوق ةتكیل لھا اإلطراء تلو اإلطراء على جود

203

العالیة، فأخذ اإلضطراب المعاونة، وأكدت لھا أن ذلك ولم تقف حنان عند ھذا الحد، . الطبیعي ھو لون بشرتھا

استجوابھا أسئلة بل راحت تسأل محدثتھا عن ظروف دقیقة، لتعود فتسجل األخطاء الكثیرة في وصفھا األمكنة

ثم وجھت إلیھا. واألشیاء التي جاورتھا ساعات طواالالدلو الصحیة المستخدمة في سؤاال مفاجئا عن لون

الذھول ھذه فتولى. الزنزانة التي یتدعي الخیرة ارتیادھاالمتعاونة، وقالت وھي متلجلجة، أن لونھا مائل إلى

عندئذ لم تتمالك ھذه الفتاة عن إطالق فرحتھا .الفوشیا وھي الفتاة الشیعیة التي ال ،(بھذا الكشف المیسر للكذب(

باألساس تني تذكر بأن ھذه الدالء إنما ھي مصنوعةلتكون صفائح للزیت وأنھا ال تعرف أنواعا من الدالء

وفیما . اللون األقل شیوعا، على اإلطالق تستخدم ھذا، یحتلم أن "میكرو" بعد، حثثت حنانا على الكشف عن

وبالفعل، فقد أمكن لھا أن. یكون مخفیا في زنزانتھاود أحدھا، بعد ساعات وساعات من تكشف عن وج

وسرعان ما عملت على التفتیش والتنقیب الدقیقین، .تعطیلھ بأھدأ ما یكون

لما أدرك أن أول عمل قامت بھ حتى أن أبا نبیل نفسھ،االستجواب حنان ھو رفعھا المرآة المعلقة في قاعة

للتأكد مما إذا كانت تخفي وراءھا آلة للتنصت، لما علم ر تھیب ھذه الفتاة، وحیاھا مؤكدا لھا أن اختبارا األم بھذا

غیر أن حنانا لم . تأتي بھ شابة بعمرھا كھذا ال یمكن أننضالھا منذ فھي باشرت. تكن مبتدئة في الواقعإال أنھا ارتكبت خطأ في . طفولتھا، إذا صح التعبیر

معتقل الخیام، إذ أبلغتھ باسمھا الحركي في مواجھة قائدضالة جھاز األمن، وكان ھذا االسم. زھرة: المقاومة

204

الذي اكتشف رجالھ في وثائقھم أن خططا في نقل وفي غیرھا، كانت سرقت فنسخت، وردت األسلحة

وتوقیعھا، التي "زھرة"األصلیة منھا، وقد مھرت برسم لم تكن سوى حنان، وكانت في الرابعة عشرة من

.عمرھا، لیس إال

صیرھا إلى حد بعید، وما أدرانا بم وكان مصیري شبیھاوتقلبت .أن القدر سوف یلعب لعبتھ، لدى كل مناوكانت . الظروف، فرأیت حنانا موضوعة في زنزانتي

التي أقاسم فیھا زمیلة لي في االعتقال ھذه المرة األولىثماني سنوات في مدة طویلة من الزمان، بعد أن عشت

الم والتجاري عینھا،وظللنا نتقاسم اآل. ما یقارب العزلةطوال ثمانیة أشھر، إلى أن ردت إلي الحیاة، في كانون

.1998العام ینایر من/ الثاني

مختلفة، كانت حنان امرأة شابة لقد كانت طباع كل مناذات . قلیال جازمة في األمور، وال تمیل إلى التنازل، إال

قامة طویلة، وجمیلة للغایة بحیث تثیر حسد الحارسات،ولئن . المتأنقة طبیعیا، ولھا مزاج حزین في طبیعتھ ھي

وإذا . سرعان ما تشتعل غضبا كانت بطبعھا ھادئة، فھيعلى أثارھا المستجوبون ولكزوھا، وجدتھا وقد ردت

التحدي بمثلھ، ما دامت غیر قادرة على إخفاء مشاعرھا كونھا مغتصبة، من قبل جالدیھا، فقد ومع. الصادقة

بید أن ذلك لم . بإیمانھا اعتصامھا بحزبھاظلت معتصمةیحل دون انفتاحھا على األخریات من الطوائف والمثل

كذلك، لم تجد فیھا أي أثر من . عما لدیھا المختلفة .التبشیریة

205

ومسیحیة فلم أجد أي صعوبة أما أنا، المعتبرة شیوعیةالثابتة في إقامة عالقة متینة وعمیقة مع ھذه المناضلة

فكان أول ما یھمھا في الدنیا مقاتلة المحتل . ھافي عزموإذا ما لمست في محدثتھا ظال من الشك أو .اإلسرائیلي

أدراجھا وتحفظ حرمتھا عدم التقدیر، أمكنھا أن تعود كانت حنان في نظري، امرأة نشطة، مستعدة. المأمونة

للبذل أیا تكن الظروف، في حین ظللت مستعدة طوال الزمن والوسیلة الذین یتیحان النتظارالزمن المنقضي

.لي النضال

نتقاسم الرؤیة نفسھا في مقاومة ضد في واقع األمر، كنامكانھ جیش االحتالل، مقاومة حیث یجد كل لبناني

وفضال عن ذلك، فقد كنت أعد لوحة . ودوره الفاعلین، وھو رقم القرار الذي 425الرقم كبیرة تختصر في، 1978العام دة وسبق أن اعتمد فياتخذتھ األمم المتح

وھو یدعو إسرائیل إلى االنسحاب من المنطقة المحتلة وقد احتطت لجعل . لبنان دون قید أو شرط من جنوب

وبالطبع، كان مجرد .ھذا الرقم مرئیا من رجال المعتقل .ذكر ھذا النص في معتقل الخیام، محظورا

حدیث ، نقضیھا في "حنان" ومرت األیام إلى جانب عرفتھا بمارسیل خلیفة. السیاسة والغناء والقراءة

وبالمقابل جعلت تعلمني أناشید حزب . وأغانیھ الملتزمةالبدء، كنا نحیا حیاة ملؤھا الحماس وفي. اهللا العسكریة

لھا، غالبا ما كنا وفي خالل الزیارات المأذون. والفرحا وعائلتانا متواجدین، جنبا إلى جنب، ما كان یسرن

.الحراس ویغیظھم ویمض

206

یطلبون من كل منا أن تھتم لشأن وجعل أفراد عائلتینادامت األخرى، ویلح كل منھما على ھذه الصلة، ما

الصورة الراسخة في أذھان الجالدین عنا، أننا امرأتان .مغامرتان

المرض حنان، فكان ألما ولم تمض أسابیع حتى تملكاء وضعھا، وسرعان ما س. ماكرا یجتاح معدتھا

وھا ھي تبصق دما . في معتقل الخیام ال یرحم والمرضبطنھا ال یمكن مداواتھ وااللتھاب الذي بات ممتدا إلى

إذا،. في ھذه األمكنة، وفي غیاب الممرضین األكفاء" حنان"توجب علي إقناع إدارة المعتقل بإخراج

وبعد صراع مریر .مخفورة إلى مستشفى مرجعیون فخرجت حنان، یداھا مقیدتان وعیناھا. وافقةحظینا بالم

معصوبتان، إلى المستشفى إلجراء الفحوصات .الضروریة لھا

أجریت في المستشفى، لم تتح ولكن نتائج التحلیل التيزیارات حنان ومنذ ذلك الحین ، توالت. تشخیصا حقیقیا

إلى المستشفى، حتى صرت قلقة على حالة صدیقتي، لزیارتھا أنكرت كل إشاعة حول أھلھا وكلما أتى

من جھتي، .صحتھا، وطمأنتھم إلى أنھا في حال جیدةصرت أخشى أن تحمل األیام لي أخبارا سیئة عن

.صحتھا

وماذا لو كان المرض شكال من السرطان؟

وطالت إقامتھا في وكلما تكاثرت زیارات حنان دیدوبات غیابھا ش. المستشفى، ازددت قلقا وخوفا علیھا

207

رغم أن المستشفى لم یكن مكانا مجھوال . الوطأة عليحالة طارئة لالستفسار عن أسئلة لي، إذ أدخلت إلیھ في

على قدر وكان الطبیب الذي داواني. تتعلق باألسنانوكنت أعرف أن سجناء معتقل الخیام، . قلیل من المھارةحساب جھاز األمن الذي یخشى فرار النازلین على

وما . إقامتھم فیھ كانوا ییدون بأسرتھم طوالسجنائھ، كان االستشفاء یوما لیحول دون ممارسة القسوة في حق

ففي إحدى االستشفاءات الكثیرة، . ھؤالء المرضىحلیق الرأس، الستجواب من شخص" حنان"خضعت

وراح یسألھا، من نافذة غرفتھا، إن كانت ترید شیئا، ت ممانعة، وال تلین، ولكن صدیقتي ظل. سؤالھ وألح في

إلى تبریر عدم السماح وأدركت أن في األمر فخا، یؤول .لھا، من قبل أبو نبیل، باستشفاء آخر

" حنان"القلق واأللم، أطلق سبیل وبعد أسابیع طویلة منحنانا باتت ذلك أن. أخیرا، بناء على ملف طبي متراكم

ھذه عبئا على جھاز األمن ، الذي راح ینفر من تحمل .التي تكثر من روحاتھا وجیئاتھا إلى مرجعیون المعتقلة

وھا أني أضیع ولمرة أخرى، صدیقة غالیة، ولكن على یقین من أنھا سوف تلقى العنایة الصحیة األسلم خارج

.معتقل الخیام

.وھا ھو معتقل الخیام یحبط، للمرة الثانیة

208

إخــالء السبیــل

لصلیب األحمر بیننا، عبر كان لوجود اللجنة الدولیة لزیاراتھ ومراسالتھ، عظیم األثر في تغییر مجرى

.حیاتنا

والدتي للمرة األولى منذ فبعد أن تسنى لي أن أرى ثماني سنوات على اعتقالي، صارت لقاءاتي منتظمة

وعینت . على نحو ما، ولكنھا بقیت رھن إرادة سجانینابر من العام دیسم/ كانون األول لنا زیارة ثانیة في

وحرمت ، وحق لنا فیھا العناق، غیر أني عدت1995إذ جعل أبو . من ھذه الخطوة لخمسة أشھر متواصلة

ونظمت زیارتان . بالفظاظة نفسھا نبیل یواصل معاملتيالفرصتین، وفي إحدى ھاتین. 1996أخریان في العام

لقیت والدي الذي ظل صامتا، ال ینبس ببنت شفة، مما إن كنت أتیت لتبقى : "فاندفعت تقول دتيأغاظ وال

عادت اللقاءات ثم..". صامتا، فال حاجة لك بالمجيءبین السجناء وعائالتھم الى االنقطاع عشرة أشھر

.متواصلة

، شرعت 1994في العام ومنذ أن أطلق سراح كفاح وكان. أبواب معتقل الخیام أمام السجناء والسجینات

لنا جمیعا، وال سیما نحن إطالق سراح كل سجین عیدارأیتني فرحة برؤیة ھؤالء .. السجن الذین بقینا في

بینھن أو السجینات یخرجن الى الحریة، ولیس من لومفإذا كنت على یقین بسبب وجودي ھھنا، فلیس . عتب

النساء اللواتي رمین في زنازین النسیان ذلك شأن أغلبیة

209

تحویلھن في سنوات وسنوات ألن جھاز األمن رغب .الى متعاونات مع رجالھ، لیس إال

تفاؤلي رحیل صدیقتي فضال عن ذلك، فقد شدد من فھي باستعادتھا حریتھا جعلتني آمل. األسیرة، حنانوصرت أقول في سري إنھا مسألة وقت . بتحقق حریتي

ذھني ذلك التاریخ لحسب، وأستحضر من طوایا إلطالق األسطوري الذي اعتمدتھ، فیما مضى، زمنا

وفي حین وجدت الرجال في . 2000العام سبیلي،قاسیة للغایة، معتقل الخیام كثیرین ویعانون ظروفا

رأیت عدد النساء وقد صار ضئیال، والحیاة الیومیة وقد إذ بات بوسعنا أن . عن السابق على نحو كبیر تبدلت

.یجاور الزنازین نتنزه في الحوش الصغیر الذي

. لتراني خارجة من األسر ة الصبربدت والدتي نافد وكانت تطرح علي السؤال عینھ، ظانة أن لدي معلومات

وكنت أكتفي باإلجابة أني سوف أخرج بعد . بھذا الشأن .وقت طویل، ولیس اآلن

إشاعات في بیروت حول ، سرت1996وفي العام ومضى والدي الى المسؤولین . إطالق سراحي

ألمر، فرد ھؤالء یجھد في استیضاحھم ا السیاسییناهللا أنھ یناضل في وأكد حزب. بتطمینات لھ بھذا الشأن

ومضى بعض أصدقائي . سبیل إطالقي من األسربلدة النبطیة، قریبا من المنطقة المحتلة، وصحافیون الىرفضت دعوتھم غیر أن والدتي. لینتظروني فیھا

بالذھاب، ولكنھا ظلت على أحر من الجمر في منزلھا، من الصبر بشرى إطالقي من األسر بفارغتنتظر

210

الجنوب أرسلوا بید أن أصحاب األمر الواقع في. األكیدةیبدون دھشتھم من وجود أصدقائي، وسارعوا الى تبدید

.اآلمال ھذه

لئن صح خبر إطالق بعض األسرى من معتقل الخیام، ما أصاب والدتي، في بیروت، . فإنني لن أكون بینھم

.باإلنھیار

. لنا الصبر، بعدینبغي

باب الزنزانة، ونادت الحارسة في اللیلة نفسھا، انفتح خذي: "، وقالت"فاطمة"على إحدى صدیقتي، جمعت المرأة الشابة ". أغراضك، سوف ترحلین

ودعت المرأة ثم عادت الحارسة نفسھا،. أغراضھا: ، وقالت لھا"ھنیة"الشابة الثانیة التي بقیت معي باإلسم

."!ن أیضا، ھیئي كیسكترحلی سوف"

مصیري، بینما كانت أما أنا فرحت أتساءل عن تسارعت الدقائق، ولكن. المعتقلتان تتھیآن للخروج

ودعت المرأتین، . الحارسة لم تعد للدعوة األخیرةومن ثم غادرتا السجن، وھنأتھما باإلفراج عنھما،

وظللت وحدي، یحدوني األمل نفسھ والعزم نفسھ، حتى . ألبي نبیلأتصدى

معتقل الخیام واالنفراد داخل لم تتح لي الوحشة فيصار زنازینھا أن أفھم تماما أن إطالقي من األسر

الھدف الذي تسعى إلیھ العدید من لجان الدعم التي فقد تشكلت في . األوسط، وفي فرنسا أنشئت في الشرق

211

سراح جمعیة العمل على إطالق"باریس لجنة باسم ، وقد بذلت ھذه الجمعیة جھودا متواصلة "سھى بشارة

الخیام، كما تشكلت الى جانبھا ھیئة من للتعریف بمعتقلبالطبع، أن الحزب وكنت أجھل،. األساتذة الجامعیین

مونیك بیكار "الشیوعي كان كلف محامیة فرنسیة تدعى وھذه المحامیة، ذات الحزم . بالدفاع عني " ویل–

إسرائیل، عبر فيوالحیویة، مضت تالحق ملفي وجعلت ھذه المحامیة ". لیا تسیمیل"المحامیة

.معركة قانونیة ضد دولتھا نفسھا اإلسرائیلیة تخوض

إثبات أن إسرائیل تكفل : للغایة وكان الرھان بسیطاعلى إجراء اعتقالي في معتقل الخیام، وبالتالي اإلصرار

ومضت الحرب . محاكمة عادلة ونزیھة في شأنھاوثبات تكسب أكیدا لصالحي، حین رحاھا ببطءالدائرة یملك جواز إثبات أن أطوان لحد" للیا تسیمیل"أمكن

. سفر إسرائیلیا، وعلیھ فھو یخضع للقانون اإلسرائیليفرنسا، حیث تسكن عائلة قائد جیش لبنان وكذلك فعلت

حركت عالقاتھا الجنوبي منذ قیامي بالعملیة، إذاغیر أن . اإلسرائیلیینوضاعفت من اتصاالتھا مع

أما . الظل ھذه لبثت تتقدم بخطى بطیئة للغایة دیبلوماسیةإذ . دوره في ھذا الشأن الرأي العام الفرنسي فقد أدى

أرسلت عریضة موقعة من كبار الشخصیات الفرنسیة، "لوموند"مطالبة باإلفراج عني، وقد نشرت في جریدة

الخلق بعدا عن والدتي، ھي أكثر وكذلك فعلت. في حینھ السیاسة، حین سافرت الى باریس، ومنھا الى

ستراسبورغ، لتمثل أمام النواب األوروبیین، ولینتھي ) أمنسیتي(مدعوة من جمعیة بھا المطاف الى كیبك،

.العفو الدولیة

212

، وفي السادس 1998العام یونیو من/ وفي حزیران مثیال عشر منھ تحدیدا، في المعتقل غلیان لم یشھد لھ

ومفاده أن عملیة إفراج واسعة ھي . منذ التمرد السالفوما الداعي؟ إنھا عملیة تبادل، یتم خاللھا .قید اإلعداد

الذین سقطوا في آخر تسلیم اإلسرائیلیین جثث جنودھمعسكریة في الجنوب اللبناني المحرر، ) أنصار(عملیة .مقابل اإلفراج عن سجناء من معتقل الخیام في

األسماء طویلة، بلغت التداول بقائمة منوجرى وظلت تختلط في أسماعنا التھالیل بصفق. الخمسین

وكان بمقدورنا . األبواب، على مدى زمني غیر بسیطاإلفراج عنھم، وھي تتلى على أن نسمع أسماء المزمع

فقلبت ."محمد"وتناھى الى سمعي اسم . المأل في السجن إذا كان محمد في اإلسم في ذھني، وقلت في نفسي،

وھو الذي خطط لعملیات كثیرة ضد قائمة المفرج عنھم،مشمولة اإلسرائیلیین، فھذا یعني أنني سوف أكون

وأصاب الذھول امرأة معتقلة، لدى . باإلطالق، أیضاالسالف " محمد"، زوج "فاطمة" سماع اسمھا، وھي

.ذكره

الجھة األخرى خلف الجدار وكانت تتناھى إلینا، منلم .لذي یفصلنا عن الرجال، أصوات االستعداد للرحیلا

ثم عاد الھدوء لیخیم . یزرنا أي شخص لھذا الغرضنحن النساء، أعدن الى النسیان، فأیقن أننا،. على السجنجالدیھا، وراحت فاطمة تعلن ھزءھا من. مرة أخرى

.فھي واثقة بأن زوجھا أطلق سبیلھ

213

لم تبلغ مرتجاھا، أن الفرحة ولم یمض زمن حتى أدركناجرى نقلھ لم یطلق سراحھ، إنما" محمدا"حین علمنا أن

. من زنزانة الى أخرى في الحبس االنفرادي المطبقإشارات دالة على وجوده، بأن یقول وظل یبث لنا

. مجاورة لھ بصوت عال أسماء المعتقلین في زنزانةبصوت عال، لكي یفھم " فاطمة"فنادیت بدوري على

.ما تزال ھنا، بدورھا بأن زوجھ" محمد"

.أیضا، كان ذلك حدثا من غیر طائل

/ في منتصف شھر آب وانقضت أیام الصیف، وصرناسرتني ھذه . أغسطس، وبت محظیة بلقاء والدتي

وكانت عودتي الى نوع من الرتابة تحول دون اللقاءاتكانت . سبتمبر/ أیلول تخیلي ما قد یجري في الثالث من

شیر الى الثامنة إال عشر دقائق، ھذا الصباح،الساعة تھیئي : "علیا وقالت لي"إذا دخلت حارسة تدعى

أبو نبیل معاقبتك ماذا فعلت حتى یقرر! أغراضك ال: " فأجبتھا الھیة". ؟1وإرسالك الى الزنزانة رقم

.وكنت واثقة من أنھ سوف یفرج عني قریبا". شيء

قبیل، إال أني كنت على ھذا ال لم تقل الحارسة شیئا منفي معتقل ولم یبق. والزمن ھو ھذا الیوم. یقین من ذلك

الخیام إال أربع نساء، وقلت في نفسي أنھ حان دوري والحال أن الحملة . جدران معتقل الخیام للخروج من

إذ . الى نتیجة مؤكدة الدولیة وإصرار المحامیتین أفضیات مزعجة لھا قررت إسرائیل أن تطلق سراح معتقلة بات

وما أن . جمعت أغراضي وبدلت زنزانتي. حد كبیر الى .شعري دخلتھا حتى استحممت ومشطت

214

.ثم انتظرت

بعد ذلك مضت بي الحارسات الى الطبیب المعتمد لدى سألني عن وضعي الصحي العام . جیش لبنان الجنوبي .وكتب تقریرا موجزا

م إلي كلمات التشجیع وقد التفت نحوي، ووجھ إلي بعض خذي ھذه األدویة قبل أن: "لویحة فضیة، وقالت

."ترحلي، مضى زمن طویل لم تستقلي فیھ سیارة

.كانت الساعة تشیر الى الثامنة والنصف

وھا ھو عدوي . أبي نبیل أخذتني الحارسات الى مكتب .القدیم ینتظرني خلف مكتبھ، مشدود األعصاب قلیال

إنھ : ي تبین ھویتھفأمكنن. وكان رجل آخر منتظرا لدیھخفرني الى إسرائیل بعید تنفیذ أبو سمیر، الرجل الذي

قد وكان الشیب. عملیة االغتیال، لسنوات عشر خلتأنت خارجة من : "بادر أبو نبیل الى القول. غزا شعره

ثم أشار . یعلق على األمر بكلمة من دون أن". األسرھذه، لدیك كان: "بیده الى أغراض موجودة أمامھ، وقال

ونظرت الى مكتبھ، فرأیت ". یوم دخولك، الى ھناوسألني قائد .. التطریة، والعطر حقیبتي، وحنجور

القیمة وكانت األغراض" أینقصك شيء؟: "السجن قائال. توضع نظریا في صندوق لدى دخولنا الى السجن

األخیر یبتلع ساعتي، ما دمت وعلى األرجح، جعل ھذا تي رحت ألمسھا بطرفلم أجدھا بین أغراضي ال

وكان ینقصني، كذلك، بعض شرائط التسجیل . أصابعي –موسیقى الدیسكو التي كانت رائجة في حینھ،

215

ولكن ھذه األغراض التي سلبتھا لم ! ومسدسي، طبعالتفسد شیئا من ذلك الشعور بالطمأنینة الذي راح تكن

أما أبو نبیل فلم یقو على .یجتاح كیاني شیئا فشیئا اطمئناني، فأرسل آخر شروره وذكر اسم إحدى: صدیقاتي في السجن، وقد أطلق سراحھا وقال

وبقیت ال ". متزوجا؟ أتعرفین بأنھا تزوجت رجال كان" .عندئذ عھد بي الى أبي سمیر. أرد، مدركة ما یثیره

ألخذ أغراضي المتبقیة 1وقصدت زنزانتي رقم ھي زمیلتي فيوبینما أنا أسیر، لمحت وج. وأرحل

األسر سمیرة وانتصار وقد بللتھما الدموع، وھما كنت عشت مثل ھذه اللحظات، ولما. متعلقتان بنافذیتھما

كلما أطلق سراح زمیلة أخرى غیري، كنت أعرف أنھذه العیون طالما ارسلت دموع الحزن والفرح مختلطة،

.حتى ال تمییز بینھما

.الخیامومن ثم توجھنا الى بوابات معتقل

مرتین في السنوات العشر لم أخرج من المعتقل إال كانت یداي. الماضیة، ألمضي الى مستشفى مرجعیون

مقیدتین وعیناي معصوبتین، ولم أر شیئا من السجن أو وھذه المرة، أراني أغادر . نجتازه من المسیر الذي كنا .األماكن منتصبة القامة

راء قبل أن أجتاز ولم ألتفت، ولو مرة واحدة، الى الو .عتبة ھذا الجحیم الذي طالت إقامتي فیھ عشر سنوات

216

التي راحت تقلني في طریق كنا أربعة في السیارة السائق، وأبو سمیر، وعمیل من جھاز األمن. الحریة

–وأخذت السیارة تنحدر بنا الوھاد . یراقبني من الخلف مفتوحتان على وسعھما، وأمكنني تبین فنظرت، وعیناي

وأسجل القرى الصغیرة، ورحت أتحزر المنعطفات،وھا أننا نصل . بعض التبدالت في المنطقة، ھنا وھنالك

.الى مرجعیون

وماذ لو لم یطلق سراحي؟ وماذا .للحظة، انتابني الشكلحد؟ لو كنت أخرجت ألكون وجھا لوجھ مع أنطوان

ورحت أھیئ نفسي ألي طارئ، والسیارة تجاوزت بنا غیر . قائد جیش لبنان الجنوبي اللحظات منزلفي ھذه

أن السیارة جرت في خطھا القویم، ولم تنحرف بلفتابع السائق . اتجھت الى البناء من حیث بدأ كل شيء

.األمر، أمام مكتب أبو سمیر مسیره وتوقف، آخر

.ترجلنا من السیارة ودخلنا

في جیش لبنان الجنوبي وما أن مثلت أمام المسؤولأتعرفین أن قریبك عصام : "درني الى القولحتى باولم أكن أعرف، في حینھ، أنھ توفي في فرنسا، "مات؟

ولكني عدت ورددت إثر حادث اصطدام في سیارتھ، وإذ فوجئ باألمر رد". ما اسمك؟: " علیھ بسؤال قلت

ثم دس أمامي، وبحركة بطیئة، !". أبو سمیر: "قائالقرأت . أن أوقعھوجب علي ورقة ھي بمثابة كتاب

بأي عمل الجملة األولى فیھ، التزاما من قبلي بعدم القیامیمس أمن البالد، وبأن أمتنع عن نشر أیة معلومة یمكن

فقرأت الكتاب مرة أولى . الجیش اللبناني أن یفید منھا

217

ذلك أن الكتاب ال . سریعا وثانیة وثالثة وأمكنني قراءتھ .وجھة والجھةفھو مجھول ال. یتضمن أي ترویسة

ھذه "ومضى أبو سمیر یشرح لي بأن . ابتسمت لألمروأعطاني قلم الحبر، ووقعت ."إجراءات شكلیة، لیس إال

أن أسفل الورقة، وأنا أھز كتفي وسألتھ إن كان یرید .فأجاب بال. أوقع لھ أمرا آخر

فعھد بي . الى المكتب" باربرا"وفي ھذه األثناء، دخلت . الصلیب األحمر الدولیة، رسمیاأبو سمیر الى لجنة

.وھا أنا محررة

.ألقیت نفسي في ذراعي باربرا

معھا ثیابا أكثر لیاقة بي مما وأسرت إلي بأنھا حملتكنت قد شكرتھا، غیر أني. أرتدیھ، وھي بنطلون وسترة

قررت أن أحتفظ بثیاب األسر التي كنت أرتدیھا الى بلوزة زرقاء بنطلون جینز، و – حینھ، منذ الصباح .وحزام من صنع یدي

أبو سمیر، سیارة للجنة وكان في الحوش، أمام مكتبمتنھا صعدنا الى. الدولیة للصلیب األحمر، في انتظارنا

. سلكت السیارة بنا طریقا لم أعرفھ. واتجھنا الى بیروتجاوزنا بعض . تلتھمان المشھد التھاما وراحت عیناي

وللحال رأیتني أسجل یة،الوحدات العسكریة اإلسرائیل وكان الفرح یغمر كل من في. أرقامھا، علىنحو آلي

وال شك في . بید أني غدوت أكثر سكونا منھم. السیارة

218

تصدقان ھذا التحول السریع في ذلك، ما دامت عیناي ال .الزمن

.وكانت الساعة تشیر الى التاسعة وخمسة عشر دقیقة

إطالق "صوت الشعب" وسرعان ما أعلنت إذاعةسراحي، ثم ما لبثت كل وسائل اإلعالم اللبنانیة أن

وكان . إرسالھا معلنة الخبر، وال سیما في بیروت قطعتالسیارة حیث كنت، أمال في حشد من الصحافیین یتبعالمعطاة الى وكانت التعلیمات. اإلدالء برأیي، ولكن عبثا

اللجنة الدولیة للصلیب األحمر تقضي بعدم إجراء أي .المنطقة المحتلة مقابلة في

منذ آخر رحلة لي الى أعرف أن سنوات عشرا مضت المنطقة المحتلة، بالسیارة، ولكنني ظللت غیر قادرة

وأعارتني . علىتمییز أثر ھذه السنوات في ما یحیط بيخاصتھا ألتصل بوالدتي، فكان باربرا الھاتف الخلیوي"

. قلیل بعدحدیثنا یفیض بھجة، وتواعدنا على اللقاءولمست من !". نعم، أنا في حال جیدة، الى اللقاء قریبا"

الصلیب األحمر نوعاص من رد الفعل على ھذه مندوبةإذا . لم أبد دھشتي لذلك اآللة السحریة الجدیدة، إال أني

تماما مطابقا. وجدت وصفھا، أي آلة االتصال الخلیویةفي . یام الجدیداتلما كانت تنقلھ الینا سجینات معتقل الخ

وكانت باربرا تشك في . وضعنا الموسیقى السیارة، .فبینت لھا العكس .معرفتي األغاني التي اسمعھا للتو

المعتقالت في أرجاء وقلت لھا إنھ بفضل تنقالت المعتقل، وبفضل جھاز الرادیو الذي كانت الحارسات

219

یشغلنھ لیسمعن األغاني، أمكن لنا االطالع على آخر .تجدات في ھذا الشأنالمس

الطریق الذي یجب أن یسلكھ ومضى سائقنا یسأل عن لیصل، وبأقصى سرعة، الى السراي الحكومي، حیث

ولما أدرك . نتظر وصول اللجنة الدولیة للصلیب األحمرالرئیسیة، ودلف الى طریق الخط، انعطف عن الطریق

. الھدف ولم أدرك تصرفھ ھذا إال حین بلغنا الى. أخرى. ھذه األثناء، بدأ الھاتف العربي یعمل ھذه المرةفي

وترجلت من . الصلیب األحمر الدولي وتوقفت سیارة. ھنا وھناك السیارة، وإذا صرخات من الفرح تنطلق من

وفي البدء، وأنا ما زلت تحت وقع الذھول، عرفت أبي، ینتظرني وحده، ویحوط بھ الحرس الشخصي الذي كان

السراي، تعرفت أنا أصعد درجوفیما. لرئیس الوزراءكان أصدقائي . الى وجھ، ثم الى آخر، وثالث ورابع

تبینت لي قسماتھم التي لم یبدل . یحفون بي كلھم ھنا،الزمن المنقضي لم یحسب فیھا الزمن شیئا، كما لو أن

وراحت األیادي تلوح، ملھوفة، متسارعة، حتى. قطثم . لمشاعرلنتالمس، في ھذه اآلونات التي تفیض با

في انتظاري وسط بھو القصر وافیت عائلتي التي كانت .الرئاسي

وكان أحرى بساعات الحریة األولى ھذه أن تحملني في .دوامة من الحیاة حقیقیة

الوزراء في حینھ، رفیق حتى إذا استقبلني رئیس .الحریري، أخذت لنا صور جدیرة بتسجیل ھذه المناسبة

یا طویال، وكنت محاطة ومن ثم أجریت لقاء صحاف

220

اللبناني ممن ال أعرفھم إال بقیادات الحزب الشیوعيوعدد وكان في عدادھم األمین العام، وخلفھ،: باإلسم

أما الشیوعیون الذین كانوا . كبیر من المحازبین اآلخرینعضوا في مجلسھم الوطني أثناء األسر، انتخبوني

.فكانوا الى جانبي، جمیعھم

على أسئلة اإلعالم والوسائل نفسي لإلجابةلم أكن ھیأتأولئك اإلعالمیة، وأمكنني، فقط، أن أشیر الى مصیر

الذین ال یزالون ھنالك في األسر، حین تساقطت علي وسئلت إن كنت مستعدة لمعاودة .األسئلة من كل صوب

عن أعمال العملیة التي من أجلھا أسرت، وسئلت طویال .معتقل الخیام، وال تزالالتعذیب التي مورست في

. الصحافیین، إال أن تدفقھم علي لم ینتھ مع وانتھى لقائيبالعودة الى المنزل، حتى إذا استقلیت السیارة وھممنا

رأیت الكامیرات تواكبنا، وإذا بمنزلنا بتحول الى قاعةخاصة للصحافة، یعج الناس فیھا، بحیث بتنا نقلق على

ل ھذا العدد الكبیر من على حم صالبة المنزل وقدرتھاإلرھاق وفي منتصف اللیل، وإذ بلغ بي. الوافدین إلیھ

وفي الصباح الباكر، . حده، قصدت منزل عمي للراحةمعاكس لذاك الذي توالني في استیقظت وبي شعور

ففي معتقل الخیام، كان. السجن طیلة عشر سنواتیتملكني الشعور نفسھ، صباحا، وقبیل أن أفتح عیني،

ولما . في منزلي ببیروت وھو شعوري بأني ما زلتصرت في بیروت، أخذ یتوالني الشعور بأني أستیقظ

األسر، ولم یبارحني ھذا الشعور وظل معي لزمن في .طویل

221

استمرت اللقاءات والمؤتمرات وفي األیام التالیة،حد لم أعد وحدي، فوالدتي حریصة علي الى. الصحافیة

ب الشیوعي أن یرسل حرسا من وقر رأي الحز. كبیر .أثار انزعاجي لدنھ، یقیمون لدینا، ما

كانت ترى بعین الرضا نفاذ زد على ذلك، أن والدتي ما وفي خالل أیام، أقنعت. الحزب الى وسط حمیمیتنا

الرجل المنوط بحمایتي بأني ال أحتاج أحدا، وطمأنتھ .ھذا الحرص بأن حالي ال تدعو الى

التالیة، المتالحقة تباعا، لتتیح لي بیعوما كانت األسااحتفاء، حتى فكان إطالق سراحي موضع. العیش بسالم

وظل المنزل ومركز . بلغت أبعاده حد العید الوطنيیستقبالن اآلالف واآلالف من الزوار، الحزب الرئیسي

الثالثة التي في صفوف ال تنتھي، وعلى امتداد األشھروالحق أنني . سبتمبر ھذا/ أعقبت الثالث من أیلول

وأقلھ، –التأثر، بھذا التعلق بقیم المقاومة تأثرت، غایة .ھذه التظاھرات ھذا ما كان یجدر بي حفظھ من

أقیس ھذه السنوات المسروقة وفي ھذه األثناء رحتغیر ولئن عدت الى الحیاة بقسوة، أجدني اآلن. مني

یھ بوجود قادرة على استعادة ذلك اإلیقاع، الذي أھنأ ف. الجھد نوعا آخر من االلتزام وكان ھذا. معافى

االعتكاف وارتسمت في خاطري، والحال ھذه، فكرة. بعیدا عن بیروت وعن لبنان، ألجل أن أستعید نفسي

ذاتھ، الذي أعلن فیھ إطالق سراحي، اتصل وفي الیومالى أن باریس بي سفیر فرنسا في لبنان وأشار إلي

وبعد. لدیھا المدة التي أریدھا، أیا تكنمستعدة الستقبالي

222

أسابیع من التفكیر، قبلت الدعوة، وما أعظم فرحة أمي التي مضت تتخیلني، كلما اجتزت بھذا القرار، وھي

المنطقة عتبة بیتنا، أني مزمعة على عملیة جدیدة في .المحتلة

كنت تلقیت رسالة من وقبیل انصرافي الى السفر، .فعرفت للتو مصدرھا. لحزب الشیوعيالمكتب الدائم ل

وللحال، وتبعا . المسؤول عني في المقاومة. إنھ أحمد. ننسھا، عینا موعدا لنا خفیة لقواعد السریة التي لم

.وعدنا، والتقینا سویة، بمنأى عن العیون

دفعي الى شدق التنین، وأنا التي ھو الذي كان السبب فيیفكر أنھ ما برحوأسر لي. تحرقت طویالص ألدخلھ

في مقاومتھ، كل صباح وكل مساء، بعد أن وقعت في .فخ معتقل الخیام

.ذلك الیوم، بدت الكلمات نافلة، أو تكاد

223

خاتمـــــة

، تحرر 2000مایو، عام / أیار في الرابع والشعرین منأیضا الجنوب اللبناني، وسقطت أسوار معتقل الخیام،

ء، وبقبضات القرویین الذین باألیدي العزال. وأیضاالسنین، مسكونین بصرخات المعذبین ظلوا، طوال ھذه

تتوافد وراحت صفوف المدنیین. الصادرة من المعتقلولم یبد الحراس فیھ وال الحارسات أي . الى المعتقل

كانوا جمیعھم قد أخلوا المكان من دون مقاومة تذكر، إذنوا في المعتقل، كا أن یسألوا عما تركوه وراءھم، وعمن

وقد أعادوا الروح الى الرجال والنساء الذین. تلك العشیةبدوا متعبین، ومندھشین لھذا التحول التاریخي الذي

.یجري أمام عیونھم

أعقبت سقوط المنطقة وفي األسابیع األولى التيالمحتلة، وسقوط معتل الخیام كذلك، رأیت قائدھا

وكانت اللجان . أبیبلحد یعود القھقرى الى تل أنطوانلتحریر السجناء من معتقل التي تحركت في فرنسا دعما

األخیر الخیام ینتظرون، والعزم ثالثھم، أن تطأ قدمافرنسا، ویدخل الى شقتھ الباریسیة خائبا، حیث كان

قیامي بالعملیة ضده، وذلك لترفع في أودع عائلتھ إثر وجھھ دعوى مضمونھا ارتكاب جرائم حرب ضد

أما الحراس والحارسات في معتقل الخیام، فقد . إلنسانیةاإسرائیل، وأنزلوا لھذه الغایة في مضوا بغالبیتھم الى

ما مخیمات مؤقتة، حیث یأملون الفرار، وبأسرعأمكنھم، الى بالد أخرى، تكون أرحم لھم، لماضیھم في

كانت حال أبو نبیل وغالبیة وھذه. وطنھم األم .ى معتقل الخیاماألشخاص القیمین عل

224

آثرت أن تبقى " علیا"تدعى إال أن حارسة واحدة وھي ویوم عدت الى زیارة تلك األماكن للمرة. في لبنان

.األولى، أخبرت أن أحدا ال یعرف عنھا شیئا

الخیام، وعودتي الى قریتي دیر وبعد زیارتي لمعتقلعملیتي في میماس، حیث لم تكن قدماي قد وطئتاھا منذ

، صرت أنقل خطوي ووقتي بین كل من 1988م العاعائلتي، وباریس، حیث تعلمت اللغة لبنان، قریبا من

تزوجت وواصلت مراسةل عزیزتي كفاح التي. العبریةمن لبناني وباتت تحیا في بیروت مع ولدیھا، الصبي

أما . على اسمي" سھى"والفتاة تدعى ویدعى أیمن،الذین یحیون فیھ نانكفاح، شأن كل الفلسطینیین في لب

بید أنھا. مواطنین من الدرجة الثانیة، فال یسعھا أن تعملكانت تناضل إلخراج المعتقلین القدامى من معتقل

اإلسرائیلي من المنطقة الخیام، وألجل انسحاب الجیش كذلك عدت والتقیت بحنان، التي غدت، ھي. المحتلة

ھما وصار ل. وزوجھا، یناضالن في صفوف حزب اهللا .ولدا أطلقا علیھ اسم عباس

بالنسبة لھما، شأنھا بالنسبة لي، وقد وجدت أن الحیاة،واتخذت، ھذه ثم عادت. إنما بدأت بعد معتقل الخیام

وكان ذلك . الحیاة، أبعادا رائعة بعد تحریر الجنوباللحظة التاریخیة النادرة التي جعلت اللبنانیین التحریر

انقسامھم خمسة عشرة عاما، الیتحدون حیالھا، بعدما طإثر والسالح لغتھم الوحیدة، وبعد أن واصلوا تشتتھم

سالم ال یسعھ أن یعف عما ارتكبوه حیال بعضھم القدر الكبیر من التفریط البعض، وقد ظھر منھم

أمرا بمسؤولیاتھم، بحیث غدت بلسمة الجراح البلیغة،

225

انت حربنا ولقد أظھر ھذا التحریر كم ك. عسیرا للغایةوعبثیة، شأن كل الحروب األخویة، حیال األھلیة واھمة

االحتالل ذلك االنتصار الذي حققتھ مقاومتنا ضد .اإلسرائیلي

المحررة أن یجد عشرات األشخاص إذا، أتاحت الخیامیعانون ألف الجرحى، جسما وروحا، والذین ما برحوا

لى الحیاة علة وعلة، أتاحت لھم التداوي، علھم یعودون اذلك ان معتقل الخیام، نظیر كل المعتقالت من .الحقة

البشري المعتقل فیھ، نوعھ، یھدف الى إخضاع الكائن ویسعى الى تحطیم إرادتھ وإنكار إنسانیتھ التي أعطیت

.لھ في جبلتھ

رأیتني أقاتل في سبیلھا أما القضیة الجوھریة التي جعلھ حرافكانت نشر السالم في ربوع بلدي لبنان، و

وھذه كلھا تنمى الى . وقائما على الحق والدیموقراطیةما انصرف اللبنانیون الى ھذا وإذا. الذاكرة الحیة

لبنان النسیان، فإن األمل المنشود في تحقیق صورةالموصوفة لن یرى النور، وتكون جذوة المقاومة قد

.انطفأت الى غیر رجعة

ولئن شعرت . سبیل بالدي إن رضیت بفكرة الموت فيلبنان بأني مرتبطة بالكون كلھ، وباإلنسانیة جمعاء، فإن

الذي ولدت فیھ، كبرت فیھ، یوجب علي العمل على وال یمكن . كالھواء الذي اتنشقھ وبالدي، ھي لي،. منعتھ

.من حولھ المرء أن یقدر ثمن الحریة إال حین تنعدم

226

یرة یحرموني من ھذه البقعة الصغ ولقد سعى األعداء أنالنحو، إذا فصرت ابنة الحرب، على ھذا.. من األرض

كان یبتغي لآلخرین أن یعرفوا كم كان یعني لنا أن ننمو االحتالل، وأن نكون تحت رحمة األذن في ظل

محرومین من بالمرور، أو أن نحیا في ظل منع التجول،وفي لحظة من اللحظات، جعل الدم . الحریة والھویةفي المجازر ومعارك األخوة، حولي، المھدور من

االلتزام، فاخترت. یمضني ویحرق كیاني في الصمیموال یسع أي تعبئة إیدیولوجیة أن تدفع رجال أو امرأة

ال تعتقده جدیرا بالقضیة، وما لم تفھمھ، وما لم لتعمل ما. كنت أعرف ما ینتظرني .تقرر عیشھ حتى النھایة

من أن توقفوكانت ھذه الفكرة، في الواقع، أعجزوحین انخرطت في صفوف المقاومة، بعد . مسیري

كانت . لم أكن وحدي أربع سنوات من البحث الدؤوب، عائلتي، واألصدقاء، والشعب كلھ، كان كل من أسھم في

وعلى النحو ذاتھ، فأنا . تكویني یرافقني في مقاومتي ھذه. شخصي، وبمعزل عن اآلخرین لم أتصرف بمحض ین أن اللبنانیین جمیعھم یمدوننيإنما كنت على یق

بل كان عملي، أو العملیة ذاتھا التي قمت بھا، . بالتأییداللبنانیین، في وجھ الجنون الذي تمثل بمثابة رسالة الى

.الحقیقي لھم جمیعا في الحرب األھلیة، وفي وجھ العدو

أردت أن أواصل المقاومة، ویوم بلغت معتقل الخیام، وكان المحتل. ا، وإن بغیر وسائلوكانت الحرب نفسھ

. عینھ الذي وجب علي أن أقاومھ وأن أتصدى لجبروتھلحظة بات یومیا، وسلیل كل وكان الصراع ھو إیاه، وقد

.من لحظات األسر

227

إرادتھم فكانوا أولئك الذین أو أما الذین خانوا أو حطمتاالحتالل اللواتي لم یحسنوا التقاط واقع كل من

. ولم یتحسسوا تحذر الحریة في تراب الوطنوالمقاومة، حالما وجدتھم في السجن، صاروا سجناء وھؤالء،

أما أنا، . بالذنب طباعھم وأوھامھم، أو سجناء شعورھم فلم یكن ذا شأن أن ینظر إلي كفتاة، أو أبرز أوھامي، أو

إنما كان امتناعي عن النضال، تنكرا . أعاني األسر .إلنسانیتي، إلنسانیتنا

یوم، وكل دقیقة، وأن أتماسك وكان علي أن أقاتل، كلالرھیب لئال أخرج من ھذا السجن الى السجن اآلخر،وكان . واألبدي، عنیت بھ مستشفى األمراض العصبیة

أصوات الرجال الصائحین ألما، علي، كذلك، أن أسمعالمرأة وأصوات النساء اللواتي یتوسلن، وأن أرى ھذه

نھا، وھذه الجدة التي تساق الى قاعة التي أخذ منھا ابوأن أشجع جارتي في الزنزانة حتى ال تواصل التعذیب،

وكان .. جلدھا التھاما حك بقع األكزیما التي أخذت تلتھم علیك ، أنت ذاتك، أال تنھاري، وأال تكشفي عن أي

وأنت التي یشد السجن من . شعور، وإال انتصر العدوارك وحدھا، والزمن یھزأ أفك خناقھ علیك، وتحویك

.الخوف یصقلك.. بذكریاتك، وبحنینك وطفولتك

وھا أنت تعرفین عدوك األخیر في نفسك، وتعرفین أنھ وكان علیك أن . علیك تجاوزه، لتجدي حریتك المنشودة

..تقاومي، لمرة بعد، ولمرة بعد

المرء ضحكة، أو مشھد مسرحي في المعتقل، كان یكفي .، لیتجاوز الرعب من حولھصغیر أعد عفو الخاطر

228

والیوم ، یحدث أن أمضي بخیالي، بطرفة عین، وبسبب الموضع، الى أرض الزنزانة ظرف تافھ، الى ذلك

ما لیس. وللحظة فقط. المطروقة ، وفي زاویة زنزانتيإنما تشغلني ذاكرة شعب . یشغلني ھذه الذاكرة، ذاكرتي

ذلك أن ما . تشغلني روح المقاومة فیھ .بأسره، ومستقبلھالساعة قمت بھ ھو ألجل أطفال الغد، وألجل ھذه

الھشة، التي ال یسعنا فیھا أن نراھم یلعبون، أو نسمع الالھي في األرجاء، أو وھم یستظلون أصداء صراخھم

.فيء الشجر، في ربوع بالدي