عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

12
1

Upload: farid-abusaraya

Post on 23-Jul-2016

232 views

Category:

Documents


0 download

DESCRIPTION

قصة قصيرة للكاتب فريد أبوسرايا أبو سرايا بعنوان ، عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية ، وهي إحدى حلقات ملحمة عزبة ايبيل ، وتبدأ القصة بقيام ( عم مر ) بإجراء تجربة على خمسة قرود في خميلة على ضفة النهر العظيم

TRANSCRIPT

Page 1: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

1

Page 2: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

2

وألفتها ألفعال مقيتة وميمون وقشة وشاديسعدان رباح وحكاية القرود : عزبة ايبيل

لفعل تلك األفعال المقيتة دعتها التي لألسبابأن تكون مدركة دونوفعلها لها

عملية تطور تستغرق عبرليس باالمكان تحويل قرد إلى إنسان إال ربما

زمنا طويال ، ولكن من أسهل األشياء أن تحول إنسان على قرد بأن

.وال يفقه لها حكمة ا تجعله يفعل أفعاال ال يعرف لها سبب

فريد أبوسرايا

لو كان للشر المطلق مدينة ، فهي مدينة سكانها من الجهلة والعبيد ، ولو تجسد الشر المطلق في أكثر من صورة ،

لكان أقنوماه هما الجهل والعبودية .

لها أصول ترجع إلى هي حكاية قديمة ايبيل عزبة التي يعاني منها الكثير من أهل العقليإن حكاية االستالب

قام بسلسلة من و اإلنسانية ، إلى أكبر حقل للتجارب في عهده حول العزبة عزبة ، فقدلل (عم مر)حكم زمن

نتائجها في آن واحد ، وكان هدفه من هذه بكان سكان العزبة هم فئران مختبراتها والمستهدفين التجارب

يملكونه ، يكونوا قد وتاريخي وثقافي سلب االيبيليين وااليبيليات من أي محتوى علمي ومنطقيالتجارب هو

، يكرهون ما يكره ومن رات التي أرتضاها لهم بدال منه ، ليصبحوا نسخا مصغرة عنه وغرس بعض المقر

الرامي إلى استنساخ نفسه في أجساد االيبيليين هذا )عم مر( . يشبه مشروع يكره، ويحبون ما يحب ومن يحب

فرغت خلية من نواتها ، وحقنت بدال منها نواة خلية وااليبيليات كثيرا ما حدث في معهد روزلين بأسكتلندا حيث أ

المغنية الشهيرة دولي بنهديدت نعجة صغيرة سميت دولي تيمنا أخرى أخذت من ضرع نعجة ، وهكذا ول

بارتون .

( إلى تطبيقها ، هي أن يخلفه في العزبة الكثير من األعمام والعمات الذين إن الفكرة العامة التي سعى )عم مر

واللواتي تنضح منهم ومنهن المرارة .

بحكم أنه كان الوحيد الذي يريد ، أن يصبغ أهل عزبة ايبيل بصبغة تجعلهم يفعلون ما يريد (عم مر)أراد

، ولم يكن أحد في العزبة يقرر غيره أن يكون قراره هو القرار الذي يجب أن (عم مر)ويقولون ما يعيد . وقرر

وأبدا .ي قر دائما

حديثنا هنا وبما أنزبة ايبيل تعج بالقرود والحمير ، هناك مكان في العالم يعج بأي شئ أكثر مما كانت ع ليس

في باب آخر . للنقاش موضوع الحميرلذلك سنترك يتعلق بالقرود

من المعروف أن للقرود ولع خاص باللعب واللهو ، وهي في لهوها وعبثها تدمر وتخرب ، وتنشر الفوضى

.يفيض خارجها فيسمعه العالم بأسرهالعزبة و ضحكها أرجاءويمأل ، هنا وهناك وتقفز وتثب وتنط ، والضوضاء

Page 3: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

3

بيت من الشعر ذلكينشد في و للمتنبييعتذر حقيق أنكان ضحكت قرود ايبيل فضحكت الدنيا من ضحكها ، و

يقول :

أغاية الحياة أن تضحكوا وتضحكوا ..... يا أمة ضحكت من ضحكها األمم

آفعال االخرين ، وهي حبها لتقليدمن نوعها ايبيل بخاصية آخرى فريدة قرودباإلضافة إلى الضحك ، تميزت

الكامنة في نفوس قرود الخاصيةظاهرة فقرر اإلستفادة من هذه الهذه ( ، وقد الحظ )عم مروخاصة السيئة منها

فيش على سوسية ، أو تدريب الخفااعزبته ، مثلما تقوم بعض الجهات بتدريب الدالفين للقيام بأعمال حربية وج

تدريب الكالب على إرشاد العميان. إلقاء القنابل على تجمعات األعداء ، أو

لتكون يجري فيها جدول رقراق متفرع من النهر العظيم ، بعزبة ايبيل خميلة وارفة الظالل ( أختار )عم مر

أطلعت أوراقا فنمت الشجرة و شجرة موز ، فيهازرع ، وعلى اإلطالق المجتمعيةمسرحا إلحدى أشهر تجاربه

الناظرين وتغري باألكل الجائعين ، وأضحت ثمارا صفراء لونها تسر وأنتجت عريضة طويلة خضراء ندية ،

التي تنبت تربتها أكبر عدد من أشجار الموز في كأنها قطعة من بالد اإلكوادور هذه عزبة ايبيل بشجرة موزها

عند أشهر فيلسوف سياسي شهدته خاصة مكانة ما للفالسفة وفاكهة للحكماءطعا، وبات للشجرة التي تنتج الدنيا

هي قطب الرحى ومحور األحداث في الخميلة ، وبهذا البروز شجرة الموزكانت .عزبة ايبيل عبر تاريخها

، فكانت كما يقول الفرنسيون : للمكانالمشهد الكلي والتصدر طغت على

.L'arbre cache souvent la forêt الغابة تخفيالشجرة التي

Page 4: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

4

حرم )عم ففي وقت من األوقات حازت شجرة الموز أو باألحرى ثمارها على شهرة واسعة في عزبة ايبيل ،

، جمع عائلته وألتقطوا صورا تذكارية موزبنان ، فكان إذا تحصل أحدهم على أهل ايبيل من ثمار الموز ( مر

سيسليهم في المستقبل عن فقدان هذه الفاكهة الشهية ا الموز تذكاربنان ، وأعتبروا صورهم مع قبل أن يأكلوه همع

إذا ما أفتقدوا يوما حالوتها .

( يسمح في بعض المناسبات )عم مر شديد على شراء الموز عندما كان تدافعحدث من المرات المرة ، ذات مرةو

، وأثناء هذا التزاحم د فع رجل إلى قارعة الطريق فدهسته عربة مارة ، االستهالكية القليلة ببيعه في جمعياته

بـ " قاتل يلقب فالموز ذلك ،ال غرو في والموز وتوصف هذه الحادثة في تاريخ عزبة ايبيل بحادثة شهداء

ويبدو أن هذا ، حولهابعد أن ينضج ثمرها لتكبر إحدى الشتالت الصغيرة التي ته يجب أن تقتلع ألن شجر أبيه"،

. أيضا قتل اآلخرين إلى الصيت السئ ال يقتصر على مفهوم قتل األقارب بل يتجاوزه

وضعها فوق بمياه النهر العظيم وللتجربة ، فمأل مجموعة من الدالء بإعداد الترتيبات الالزمة( قام )عم مر

القريبة من شجرة الموز، وجعل تلك الدالء متصلة بعرجون الموز بواسطة خيوط رفيعة بحيث إذا م ست األشجار

. العظمعلى من كان بأسفلها وأبتل حتى ثمار الموز أنقلبت الدالء وأنسكب الماء

يكون أجراءه عندما يكون الحافز موزا فالبد أن يكون المحفز قردا ، ومن يجعل أجرة العمل موزا ، فالبد أن

قرود .

مجموعة من قرود العزبة في الخميلة ، وكانت هذه القرود هي عبارة عن خنازير )عم مر( وضع بناء على هذا ،

، وقد يكون اختياره للقرود نابعا من تأثره بالمذيع التلفزيوني الالزمة لتنفيذ مخططه Guinea pigsغينيا

قوله : الذي يؤثر عنه ديفيد آتينبراالبريطاني

Page 5: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

5

في العناكب أو القرود، وهو ما تفعله ؟ يعنينيفي الطيور ، هو بالضبط ما يعنينيما

ولماذا تفعله ؟

جميع تجهيزات التجربة التي ستشتهر تاريخيا باسم تجربة ) عم مر ( وقرود عزبة ايبيل ، ترتيب بعد قيامه ب

الموز الصفراء الخميلة رنت بأبصارها إلى ثمارلما خال الجو للقرود في و انتحى جانبا لمراقبة ما يجري

بشعر أبي نواس ، وقع أحد القرود أسيرا لإلغراء وكأنه كان متأثرا .يد ال يقاوم كان إغراءها شدفقد الشهية،

حين قال : يعنيه الحسن بن هانئ بالصفراءألتبس عليه ما ف

وداوني بالتي كانت هي الداء ..... راء ـاللوم إغ دع عنك لومي فإن

راء ـر مسته س ـا حج ـلو مسه..... صفراء ال تنزل األحزان ساحتها

حتى أنقطعت أقترب القرد من شجرة الموز ، ثم أخذ يتسلقها ، وبمجرد أن وضع يده على العرجون وجذبه

. عندئذ حدث على األرض القاعدةنقلبت الدالء وأندلق الماء البارد على رؤوس بقية القرود الخيوط الرفيعة ، فأ

لحق بها من لما ، وضحكت القرود المقرورة كثيرا معبرة عن سخطها وإستياءها ووثب ونطهرج ومرج ، وقفز

بلل وقر .

كلما صعد أحد القرود الشجرة ليقطف بعض الثمار ، أندلق الماء البارد على وتكرر هذا الحدث عدة مرات ،

رسخ في رؤوسها ، أن هناك ارتباط قرود والوقر في أذهان على األرض .من رؤوس القرود المتابعين للمشهد

، وبذلك بين أي محاولة للتعدي على ثمار الموز وبين إندالق الماء البارد على رؤوسها correlation وثيق

أفعال بسيط ، وهو أن فارقكلب الجاحظ مع ما يشبه حولت تلك القرود إلى تحققت التجربة هدفها المبدئي ف

القرود، بينما أرتبطت أفعال اللحمرائحة الذي أرتبط عنده ب صوت شحذ سكينسماع أرتبطت ب قد كلب الجاحظ

. وسها بالبلل والقر بالماء الباردفي رؤ أرتبطت بدورها التيو بأي محاولة لقطف ثمار الموز

ترى بأعينها كونهاشكلت قرود التجربة بما تعانيه وتتعرض له من بلل بالماء البارد ، ومن حالة سيئة تتمثل في

تأتي بينما أشبه ما يكون بجمهوريات الموز التي تزرع فيها أشجار الموز ا ال تناله ، كيان هالكنما تحب وتشتهي و

. العم سام وشركاتهتلك األشجار أكلها في بالد

البلل والقر كان ، بعد رسوخ الفكرة في رؤوس القرود وتشعبها في تالفيف أدمغتها ، وإنغراسها في عقلها الباطن

. أول ما سينقدح في أذهانها إذا مست ثمار الموز هو بالماء البارد

( أجرى )عم مر فعندما ، حتى القرود تسقط من األشجار :حلقة األرض هفي كتاب كريس برادفوردوكما يقول

وجذبته من ذيله بتسلق الشجرة حتى أنقضت عليه بقية القرودما أن هم أحد القرود فالتجربة مرة أخرى ،

Page 6: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

6

حتى كره الموز ، وكل ما قرب إليه من قول أو وأوسعته ضربا وقرصا وخمشا وسحال وعضا وطرحته أرضا ،

يقول : الصادق النيهوموإذا كان ، فعل

لكن الجاهل يملك أعداء تحت كل حجر

ر أسود ، وتعتبره أصل متاعبها وقلة راحتها ، وتعتبر كل من يقترب منه اباتت القرود تنظر إلى الموز بمنظفقد

عدو لها ، البد من إيقافه عند حده بأية وسيلة كانت .

قطف ثمرة من ثمار الموز ، وأدركت أن العقاب ال ينزل بالمسئ لمحاولة أي القيام بأدركت القرود جيدا عواقب

جزيرة لوبيا جيشتبعها ي. لم تكن السيئة تعم الجميع وفقا للقاعدة التي ولم يحرك ساكنا بل بمن شاهد سيئة المسئ

بعمل أحد الجنود والتي تفسر بأنه إذا قام ، السيئة تعملكن الحسنة تخص والقائلة : في تطبيق العقوباتالعظمى

، ولم تعرف هوية ذلك الجندي لتستر بقية القانون األعمال التي يعاقب عليهاتلك غير الئق ، وغير قانوني ، من

الجنود عليه وعدم إقراره هو بذلك ، فإن الكتيبة تعاقب بكاملها بناء على ذلك . وهذه القاعدة وغيرها من قواعد

ي ما جعل تلك الجيوش تحقق االنتصار تلو االنتصار تلو االنتصار .التدريب ه

فلم يكن على عرجون الموز المتعدي( أحدا من العقاب بالماء البارد سوى )عم مر نفي تجربته الشهيرة ، لم يستث

للسيئة في هذه الحالة ذاك العموم .

لقائلة :حكمة اال( فعال هو )عم مر يطبقه ما كان إن ، واقع األمرفي

أضرب المربوط يخاف السائب

، وذات ليلة ليالء أستطاع أحد الحمارين ربطهما قرب حقل له حمارانكان لجحا أنه وأصل هذا المثل ، يحكى

أن يفك قيده وينطلق نحو الحقل ليأكل منه ما لذ وطاب . وفي صباح اليوم التالي ، أدرك جحا الصباح ، وأدرك

Page 7: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

7

على ضربا ، وأنهال بها إال أن أخذ عصا غليظة ، فما كان منهبساحته نزلت التي مني بها و المصيبةحجم جحا

الحمار المربوط ، فأستغرب الناس من فعله ذاك ، وعندما سألوه عن تفسير ضربه للحمار المربوط وتركه

ار السائب قد فعل فعلته ، وأنتهى ، رد قائال : إن الحمللحمار السائب الذي أعتدى على المزروعات بدون عقاب

لن تعيد إلي ما أكله من حقلي ، بينما هذا ـ وأشار إلى معاقبته واألمر ، وال يمكن إسترجاع ما أكله من بطنه ،

الحمار المربوط ـ لو فك قيده فإنه سيسبب لي ضررا فادحا ، وقد يكون أكثر فداحة من الضرر الذي تسبب به

ضربه ألحول دون أن تتخمر فكرة فك القيد واإلجتراء على الزرع في راسه .رفيقه ، ولهذا فأنا أ

قد ل( حكمة جحا هذه في تجربته ، وبذلك خلط القديم بالعصري ، والكالسيكي بما ما بعد الحداثة ، أدمج )عم مر

جحاكان ألفعال تي أستندت عليها تجربته الشهيرة ، كماإحدى الركائز االجتماعية ال هي كانت حكمة جحا القديمة

. أو يقولهيفعله )عم مر ( وأقواله تأثيرا بالغا في كل ما كان

في عزبة ايبيل .على األرض لنصرالدين الخوجة واقعيا ( تجسيدا حقا ، لقد كان )عم مر

عند هذه المرحلة من التجربة ، لم يعد أي من القرود يجرؤ على مس ثمار الموز ، وال السماح ألي قرد آخر

أصبحت القرود بفعل رسوخ ارتباط شرطي في عقلها ، وكانت القرود مدركة لعلة فعلها ذاك .باالقتراب منها

كانت تها بالماء البارد ، عبيدا ، بيد أنها وبين معاقب بين أي محاولة لالقتراب من الموز Subconsciousالباطن

عبيد تعرف علة عبوديتها ، وهذا ما يعرف بأحلى األمرين ، فليس هناك ما هو أسوأ من أن تكون عبدا وال تعرف

. كذلك ، وستكون راضيا عن نفسك كل الرضىعلة الستعبادك ألنك ستكون عبدا وال تدري بأنك

: ماري فون إبنر إيشنباخالكاتبة النمساوية قولة ليس أدل على هذه الحالة من م

ألد أعداء الحرية هم العبيد السعداء

هذا يعني أن العقل الباطن هو فمجموعة من األشياء ترتبط شرطيا بحدث ما ، أفعال إن جعل أفعال شئ ما أو

االرتباط الشرطي في حالة من اإلستعباد وهي المقرر لتلك األفعال ، وبالتالي تكون تلك األشياء الخاضعة لعملية

ليس. العبودية مرض عضال ، ولكن ألن ما يعيه العقل الباطن غالبا ال يعيه العقل الظاهر ال تدري بكونها كذلك

. عبودية وفوقها جهل ، ظلمات بعضها فوق بعضإنها . تكون جاهال بعبوديتك أسوأ من أن هناك ما هو

بين العبودية والجهل ، فيقول : منيفعبدالرحمن ويربط

الجهل هو دائما الوجه اآلخر للعبودية .

، أقول : إذا كانت العبودية كائن متعدد الرؤوس كالهيدرا ، فإن كل ، وإقتفاء أثر خطاه وبالسير على درب منيف

الث أجهل من الثاني ،رأس من رؤوسها أجهل من الرأس الذي يليه ، الرأس الثاني أجهل من األول ، والرأس الث

وهكذا جهاليك. الرابع أجهل من الثالث ، و

من الجهل المتعاظم . vicious circleالعبودية هي حلقة مفرغة

Page 8: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

8

( ، تلك القرود التي ال ولن تجرؤ علىالقرود المؤسسين( أحد قرود التجربة األساسية )بعد ذلك أبعد )عم مر

االقتراب من ثمار الموز ، ولن تدع قردا آخر يفعل ذلك ، وهي مدركة لعلة فعلها ذاك ، ثم قام بوضع قرد آخر

رباح أدنى معرفة بالمجريات . لم يكن لدى فأر التجارب رباح أسمهمحل القرد المستبعد ، وكان القرد الجديد

بين بقية القرود بجانب شجرة الموز حتى سولت له نفسه السابقة للتجربة ، وبمجرد أن أستقر به المقام في الخميلة

االقتراب من الشجرة ليقطف بعضا من ثمارها ، ولكن بمجرد أن هم بتحقيق مراده حتى هجمت عليه بقية القرود

ــ التي تعرف علة فعلها ــ وأوسعته ضربا لتحول دون هطول الماء البارد على رؤوسها.

من مرة ، وفي كل مرة حاول فيها االقتراب من ثمار الموز كانت القرود تهاجمه تكرر هذ الحدث مع رباح أكثر

ضربا وقرصا وخمشا وسحال وعضا حتى كره الموز ، وكل ما قرب وتشده من ذيله وتطرحه ارضا ، وتوسعه

السبب لقد كره رباح الموز بسبب ما تعرض له من ضرب مبرح ، ولكنه لم يكن يعرف إليه من قول أو فعل.

الحقيقي الذي دعا القرود إلى ضربه .

، ولكن دون رباحبفعل األلفة والتكرار ، رسخت فكرة معاقبة من يتجرأ على االقتراب من ثمار الموز في عقل

يحصل عنده ولكن دون أن الجاحظكلب من كالب إلى ما يشبه أن يبتل بالماء البارد ، أي أن رباح قد تحول إلى

بفعل عشرته وألفته لكلب آخر فقط قد تم وسيالن لعابه تحوله ذاكف، اللحمشحذ السكين وأكل صوت ارتباط بين

في عقله الباطن بين شرطيا ا ارتباطيشحذ ، وأصبح رباح عبدا بحدوث يسيل لعابه بمجرد سماعه لصوت سكين

ق أستعبد رباح دون أن يعلم ة أدرلقطف الموز وبين ضرب القرود له ومنعه من ذلك في كل مرة ، وبعبا محاولته

.بأنه مستعبد

ال تختلف حكاية رباح هذه عن حكاية الكلب األصم الذي كان كلما رأى الكالب مخرجة ألسنتها وهي تلهث من

شدة الحرة ظنها تنبح شئ ما ، فأخذ ينبح بدوره هو اآلخر .

لم يكن نباح رباح يستند حتى على نباح بواح .

( أحد القرود األساسية ، تلك القرود التي ال ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ، عم مرمرة ثانية ، أبعد )

آخر محل القرد الذي أستبعده ، وكان ا قرد وضعولن تدع قردا آخر يفعل ذلك ، والمدركة لعلة فعلها ذاك ، ثم

أي معرفة بما تعرضت له القرود في المراحل السابقة سعدان. وبالطبع لم يكن لدى سعدانالقرد الجديد يسمى

من التجربة ، وبمجرد أن أستقر به المقام في الخميلة بين بقية القرود بجانب شجرة الموز والنهر العظيم حتى

ن حديث ابدأت نفسه تحدثه بتسلق الشجرة للحصول على بعض ثمار الموز الصفراء الشهية ، ولما وضع سعد

وطرحته أرضا وأوسعته ضربا . رباحلتطبيق ، أندفعت نحوه القرود بما فيهم نفسه له موضع ا

كررت هذه التجربة عدة مرات ، وفي كل مرة كان سعدان يضرب ضربا مبرحا حتى وقر في ذهنه أن هناك

ارتباط بين محاوالته لالقتراب من ثمار الموز وبين ما تعرض له من ضرب على أيدي القرود في كل مرة يفعل

كرباح عبد ال ولى عبد آخر ، إ conditioned reflexذلك ، وهكذا تحول سعدان بفعل هذا االرتباط الشرطي

Page 9: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

9

يعرف علة لعبوديته فقد كان يجهل السبب الحقيقي الداعي إلى ضرب كل من يقترب من ثمار الموز . لقد ضربت

ــ وهو تفادي إندالق الماء البارد من الدالء على حفزها لذلك الفعلالذي المحفزالقرود رباح وهي تعرف

في ضرب سعدان ، ولم يندلق على رأسه ماء بارد قط ، وإنما فعل ذلك رباح شارك القرود بيد أنرؤوسها ــ

وكما يقال ال يجهل الجاهل إال من وراءه جهالء .نه ألفى القرود تفعل ذلك ففعله ، أل

( أحد القرود األساسية المتبقية ، تلك القرود التي ال ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار ومرة ثالثة ، أبعد )عم مر

الموز ، ولن تدع قردا آخر يفعل ذلك ، والمدركة لعلة فعلها ذاك ، ثم جلب قردا آخرا ليحل محل القرد الذي

خميلة بين القرود بجانب شجرة . أستقر المقام بشادي في ال شاديأستبعده ، وكان القادم الجديد للتجربة يسمى

الموز وجدول الماء الرقراق المتفرع من النهر العظيم ، ولم يكن على دراية بما حصل للقرود قبل مجيئه .

ما حصل بعد ذلك يمكن وصفه بأنه كان حب من أول نظرة ، فمبجرد أن لمح شادي ثمار الموز الصفراء الشهية

تلك البقع السوداء الصغيرة التي ومثلت، بعض منهاالحصول على التي يعلوها نمش أسود حتى صمم على

فإن السبيل الوحيد أوسكار وايلدتبرقش ثمار الموز على وجه الخصوص إغراء قويا لشادي . وكما يقول

، ولكنه ما أن رفع واالنقياد للغوايةإلغراء لقرر شادي االستسالم ف، للتخلص من اإلغراء هو االستسالم له

Page 10: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

10

وجذبته من ذيله وطرحته أرضا ، وأوسعته ضربا وقرصا وخمشا ية البيضاء حتى أنقضت عليه بقية القرود الرا

. كررت هذه التجربة عدة مرات ، وفي كل مرة كان شادي ينال نصيبا وافرا من الضرب وسحال وعضا

والقرص والخمش والسحل والعض حتى ترسخ لديه ارتباطا قويا بين محاوالته للحصول على ثمار الموز وبين

شارك كل من ، و يجهل أنه عبدما تعرض له من ضرب ، وكسابقيه رباح وسعدان ، تحول شادي إلى عبد آخر

رباح وسعدان في ضرب شادي وهما ال يعرفان العلة التي دعتهما إلى ذلك سوى إنهما ألفيا القرود تفعل ذلك

شاهدا الكالب تلهث من شدة الحر فظنا أنها تنبح شئ ما، كلبين أصمينوقف مكرباح وسعدان موقف كان ففعاله.

. بالنباحبدورهما فأخذا

سلمنا بهذه الحقيقة فيجب علينا أن نصغي جيدا لمن هو أقدر الناس على الحديث عن إن الجهل بؤس فكري ، وإذا

: Les Misérables، صاحب البؤساء فيكتور هوغوالبؤس ، ففي هذا السياق يقول

La liberté commence où l'ignorance finit تبدأ الحرية حيث ينتهي الجهل

ساد الجهل حوربت كون هناك حرية ، وحيثماي، فلن طالما كان هناك جهلأنه يفهم من عبارة هوغو هذه

شمس حتى يأفل الجهل ويأفل معه جميع مظاهره وتوابعه وآثاره . للحرية الحرية. لن تشرق

.ترفع الظلمة أستارها الحرية والجهل كالنور والظالم ، فلن يتنور المكان حتى

Page 11: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

11

( أحد القردين األساسيين المتبقيين اللذين ينتميان لتلك القرود التي ال ، ولن مروفي المرة الرابعة ، أبعد )عم

تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ، ولن تدع قردا آخر يفعل ذلك والمدركة لعلة فعلها ذاك ، وأستبدل القرد

ضا مع قشة ، فقد ، ومثلما جرى من قبل مع رباح وسعدان وشادي فقد جرى أي قشةالمستبعد بقرد آخر أسمه

شاركت في ضربه القرود التي ال تعرف علة لفعلها باإلضافة إلى القرد األساسي الوحيد المتبقي الذي يعرف علة

. جاهل بعبوديته، وتحول قشة إلى عبد آخر أفعاله

ن تدع قردا ( آخر القرود األساسية التي ال ، ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ، ولوآخيرا أبعد )عم مر

ليحل محل القرد المبعد ، وكان القادم الجديد فعلها ذاك ، ثم قام بإشراك قرد آخر آخر يفعل ذلك والمدركة لعلة

الجديد ميمون أدنى معرفة بالمجريات السابقة للتجربة ، اغينيلم يكن لدى خنزير . ميمونللتجربة يسمى

وبمجرد أن أستقر به المقام في الخميلة بين بقية القرود بجانب شجرة الموز حتى سولت له نفسه االقتراب من

الشجرة ليقطف بعضا من ثمارها ، ولكن بمجرد أن هم بتحقيق مراده حتى هجمت عليه القرود رباح وسعدان

ألنها ألفت من قبلها يفعل ذلك ففعلته. إال فعالها ــ وأوسعته ضربا ال لشئ ألــ التي ال تعرف علة وشادي وقشة

:عن القرودعلى اإلطالق حال ليس بغريب ةوكأنه يصف حالة القرود ، وهو على أي الصادق النيهوميقول

إن الجاهل حارس مقبرة غير مرئية .

سبقته دون أن يكون لديه تفسيرا لما أدركه .أدرك ميمون ما أدركته القرود التي

( من تحويل مجموعة كاملة من القرود إلى أشياء تكره تمكن )عم مرو ،من التجربة يتحقق الهدف النهائ وهكذا

إال النواة التي حولوال تعرف الداعي لكرهها ، وتفعل وال تدرك علة فعلها ، ولم تكن مجموعة القرود هذه

إلى حاويات للجهل وبذور للعبودية . عزبة ايبيل( معظم من في )عم مر بواسطتها

في مصنع الجهل ، Assembly Line شكلت القرود ، رباح وسعدان وشادي وقشة وميمون خط التجميع األول

تتالت بعده خطوط تجميع أخرى ، وبدأ انتاج الجهل على نطاق واسع .ثم

، لذاته تضربه حبا في الضرب قرد المتعدي على الموز ، فإنها لم تكنالالقرود بضرب قامتفي البداية عندما

بل تضربه لتفادي الكرب ، فالضرب أو الحرب في نظرها وسيلة تتخذها لضمان أمنها ولتعيش بها بسالم ، ولكن

، بل مجرد وسيلة لتحقيق السالم على أنهالضرب ينظر إلىيعد فال عندما يضرب الجهل أطنابه بين القرود

، وتصبح قضية القرود هي قضية الضرب من أجل الضرب ، والحرب من ينظر إليه على أنه هو السالم بعينه

عندها أجل سواد عيون الحرب . وتستمد القرود القوة الالزمة لدعم مجهودها الحربي من الجهل نفسه ، فالجهل

سا على عقب ، فتصبح الحرية في نظرها عبودية، ، ثم تنقلب المعايير رأهو القوة المحركة آللة الحرب والعدوان

إعتاقهم ، ورفع نير العبودية عن أعناقهم . الذين يجب ويصبح األحرار هم العبيد

في كتابه ) ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون ( عن إيديولوجية جورج أورويلما ذكره يشبه هذا المآل كثيرا

مقولة :وفق التي يحكمها األخ األكبر إنغسوك وجمهورية أوشانيا

Page 12: عزبة ايبيل : صناعة الجهل والعبودية

12

الحرب سالم ، والحرية عبودية ، والجهل قوة .

للجهل عدة مظاهر ، وليس من قبيل الشطح أن نقول أن الظلم نفسه أحد هذه المظاهر ، فالظالم ال يظلم نفسه إن

المبتدأ.و األصل إال إذا كان جاهال في

عن الجهل وآثاره في كتاب ) طبائع االستبداد ومصارع االستعباد ( ، فيقول : عبدالرحمن الكواكبيويحدثنا

أضر شئ على اإلنسان هو الجهل ، وأضر آثار الجهل هو الخوف .

أحسب أن الخوف الذي ذكره الكواكبي هو الخوف غير المنطقي ، أو الخوف غير المبرر ، فالخوف المستند على

وهو شئ محمود ، بينما ، ي ، وهو سبب من أسباب الوقاية والسالمة واألمانالتجربة والخبرة ، هو خوف واقع

األفق ينتهي العالم وفيفيتصور أن األرض مسطحة ، الخوف المذموم هو الخوف الذي ينشأ في مخيلة الجاهل

يمنع الجهلة عند هوة سحيقة تسقط فيها المراكب . إن مثل هذا الخوف الذي ال يستند إال على الترهات واألباطيل

إن الحديث من االبحار إلى ما بعد المحيط األطلسي ، ويظلوا متقوقعين في أماكنهم ال يستكشفون وال يكتشفون .

وكالمه عن الجهل ، فنجده يثرثر فوق النيل قائال : نجيب محفوظعن الجهل وآثاره البد أن يجرنا إلى

ليتفرجوا علينا بدل اآلثار .إذا لم ينقرض الجهل من بالدنا ، سيأتي السواح

، لم يعالج نجيب محفوظ مسألة آثار الجهل المتولدة في النفوس والعقول ، ولكنه نظر إلى األمر من زاوية أخرى

ومن منظور أكثر مأساوية ، فيقول أن مصيبة الجهل وبلواه ال تكمن فيما يخلفه من آثار قبيحة ومذمومة في

يحول الجهلة فالجهل ،نفوس الجهلة وعقولهم ، بل إنها تكمن في قدرة الجهل على تحويل الجهلة أنفسهم إلى آثار

بحها وبشاعتها .إلى أكوام بشعة من الحجارة يقف عندها المرء متعجبا من ق

يجعل الجهل من الجهلة فرجة للعبرة واالعتبار .

)عم مر( إلى خميلة القرود وأطلق من صدره زفرة حارة ، وقال : تحيا خميلة ألتفتعند فراره من العزبة ،

التي الزفرة المرة ، نسبة إلى المرارة القرود . وإلى هذه اللحظة يطلق على هذه البقعة من عزبة ايبيل اسم ،

، وعبر )عم مر( النهر العظيم ، ووقف على جسر التنهدات وأستدار موليا أحسها )عم مر( وهو يزفر تلك الزفرة

وجهه شطر العزبة وقال مناجيا نفسه وكأنه يوجه خطابا لاليبيليين ولاليبيليات : سأترككم وأنا أقول أن قرودي

لي تركة ، ولن يندثر لي إرث طالما لهذه تضيعونواياي ، ولن االيبيلية هي األمين والوصي على أفعالي وأقوالي

.القرود لسان يضحك وي ضحك

وما توفيقي إال باهلل

فريد أبوسرايا

هـ 1436جمادى األول 9م الموافق 2015فبراير 28، السبت