حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf ·...

35
ﻳﻘﻈﺎن اﺑﻦ ﺣﻲ ﻃﻔﻴﻞ اﺑﻦ ﻋﺎم ﻣﺮاآﺶ ﻓﻲ واﻟﻤﺘﻮﻓﻰ ﺑﺎﻷﻧﺪﻟﺲ اﻟﻤﻮﻟﻮد1185

Upload: others

Post on 31-Aug-2019

0 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

Page 1: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

حي ابن يقظان

ابن طفيل

1185المولود باألندلس والمتوفى في مراآش عام

Page 2: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

حي بن يقظان ابن طفيل

أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط االستواء، وهي الجزيرة التي يتولد - رضي اهللا عنهم -ذآر سلفنا الصالح بها اإلنسان من غير أم وال أب، وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذآر المسعودي أنها جزيرة الوقواق الن تلك

أتممها لشروق النور األعلى عليها استعداًد، وان آان ذلك خالف ما يراه جمهور الجزيرة اعدل بقاع األرض هواء؛ الفالسفة وآبار األطباء، فانهم يرون إن اعدل ما في المعمورة اإلقليم الرابع، فان آانوا قالوا ذلك ألنه صح عندهم انه

الرابع اعدل بقاع األرض وجه، وان أن اإلقليم: ليس على خط االستواء عمارة لمانع من الموانع األرضية، فلقولهمآانوا إنما أرادوا بذلك إن ما على خط االستواء شديد الحرارة، آالذي يصرح به أآثرهم فهو خطأ يقوم البرهان على

.خالفه

وذلك أنه قد تبرهن في العلوم الطبيعية أنه ال سبب لتكون الحرارة إال الحرآة أو مالقاة األجسام الحارة واإلضاءة؛ بين فيها أيضًا إن الشمس بذاتها غير حارة وال متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين فيها أيضًا إن وت

األجسام التي تقبل اإلضاءة أتم القبول، هي األجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك األجسام الكثيفة غير .يها من الكثافة فال تقبل الضوء بوجهالصقيلة، فأما األجسام الشفافة التي الشيء ف

وهذا وحده مما برهنه الشيخ أبو علي خاصة، ولم يذآره من تقدمه، فإذا صحت هذه المقدمات، فالالزم عنها أن الشمس ال تسخن األرض آما تسخن األجسام الحارة أجسام أخر تماسها، الن الشمس في ذاتها غير حارة وال األرض

.نها ساآنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنهاأيضًا تسخن بالحرآة أل

.وأحوالها في التسخين والتبريد، ظاهرة االختالف للحس في هذين الوقتين

وال الشمس أيضًا تسخن الهواء أوًال ثم تسخن بعد ذلك األرض بتوسط سخونة الهواء، وآيف يكون ذلك ونحن نجد أن من األرض في وقت الحر، أسخن آثيرًا من الهواء الذي يبعد منه علوًا؟ فبقي أن تسخين الشمس ما قرب من الهواء

حتى إن الضوء إذا افرط في المرأة : لألرض إنما هو على سبيل اإلضاءة ال غير، فان الحرارة تتبع الضوء أبدًا .المقعرة، أشعل ما حاذاها

أن الشمس آروية الشكل، وأن األرض آذلك، وأن الشمس أعظم من وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية،

األرض آثيرًا، وأن الذي يستضيء من الشمس أبدًا هو أعظم من نصفها، وأن هذا النصف المضيء من األرض في آل وقت أشد ما يكون الضوء في وسطه، ألنه أبعد المواضع من المظلمة، وألنه يقابل من الشمس أجزاءًا أآثر، وما

رب من المحيط آان أقل ضوءًا حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من األرض قط، وإنما قيكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا آانت الشمس على سمت رؤوس الساآنين فيه، وحينئذ تكون الحرارة في ذلك

متة رؤوس أهله، آان شديد البرودة جدًا، وان آان الموضع أشد ما يكون فان آان الموضع مما تبعد الشمس عن مسامما تدوم فيه المسامتة آان شديد الحرارة، وقد ثبت في علم الهيئة أن بقاع األرض التي على خط االستواء ال تسامت

.عند حلولها برأس الحمل؛ وعند حلولها برأس الميزان: الشمس رؤوس أهلها سوى مرتين في العام

.فليس عندهم حر مفرط، وال برد مفرط: ستة أشهر جنوبًا منهم، وستة أشهر شماًال منهموهي في سائر العام

.وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة

وهذا القول يحتاج إلى بيان أآثر من هذا، ال يليق بما نحن بسبيله؛ وإنما نبهناك عليه، ألنه من األمور التي تشهد .لبقعة من غير أم وال أببصحة ما ذآر من تجويز تولد اإلنسان بتلك ا

فمنهم من بت الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم وال أب، ومنهم من

انه آان بازاء تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة متسعة األآتاف، آثيرة : أنكر ذلك وروى من أمره خبرًا نقصه عليك، فقال

1

Page 3: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.وآان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سرًا على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم

ها، وضعته في تابوت أحكمت زمه بعد فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سر. ثم إنها حملت منه ووضعت طفًالأن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر، وقلبها يحترق صبابًة

اللهم انك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئًا مذآورًا، ورزقته في ظلمات : "به، وخوفًا عليه، ثم إنها ودعته وقالت .ه حتى تم واستوىاألحشاء، وتكفلت ب

.وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفًا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد

.ثم قذفت به في اليم" فكن له، وال تسلمه، يا أرحم الراحمين

.فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة األخرى المتقدم ذآرها

.ل في ذلك الوقت إلى موضع ال يصل إليه بعد علموآان المد يص

فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة، مستورة عن الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس تزاور عنها .إذا طلعت، وتميل إذا غربت

.ثم أخذ الماء في الجزر

وتراآمت بعد ذلك حتى سدت مدخل الماء إلى تلك وبقي التابوت في ذلك الموضع، وعلت الرمال بهبوب الرياح،

.األجمة

.فكان المد ال ينتهي إليها، وآانت مسامير التابوت قد فلقت، وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء في تلك األجمة

فلما أشتد الجوع بذلك الطفل، بكى واستغاث وعالج الحرآة، فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طالها، خرج من آناسه .فحمله العقاب، فلما سمعت الصوت ظنته ولدها

فتتبعت الصوت وهي تتخيل طالها حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظالفها وهو ينوء ويئن من داخله، حتى

.طار عن التابوت لوح من أعاله

.فحنت الظبية وحنت عليه ورئفت به، وألقمه حلمتها وأروته لبنًا سائغًا .ربيه وتدفع عنه األذىومازالت تتعهده وت

.هذا ما آان من ابتداء أمره عند من ينكره التولد

.ونحن نصف هنا آيف تربى وآيف أنتقل في أحواله حتى يبلغ المبلغ العظيم

وأما الذين زعموا أنه تولد من األرض فانهم قالوا إن بطنًا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينه على مر السنين

. امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوىواألعوام، حتى .وآانت هذه الطينة المتخمرة آبيرة جدًا وآان بعضها يفضل بعضًا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون األمشاج

ا شبه نفاخات الغليان فتمخضت تلك الطينة، وحدث فيه: وآان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج اإلنسانوحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدًا، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم : لشدة لزوجتها

لطيف هوائي في غاية من االعتدال الالئق به، فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر اهللا تعالى وتشبث به تشبثًا

2

Page 4: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

فمن األجسام ما ال يستضيء به، وهو الهواء الشفاف جدًا؛ ومنها ما يستضيء به بعض االستضاءة، وهي األجسام قبول الضياء، وتختلف بحسب ذلك ألوانها، ومنها ما يستضيء به غاية الكثيفة غير الصقيلة وهذه تختلف في

.االستضاءة وهي األجسام الصقيلة آالمرأة ونحوها

.فإذا آانت هذه المرأة مقعرة على شكل مخصوص، حدث فيها النار إلفراط الضياء

فمنها ما ال يظهر أثره فيه اعدم الذي هو الروح، الذي هو من أمر اهللا تعالى، فياض أبدًا على جميع الموجودات؛ األستعداد، وهي الجمادات التي ال حياة لها، وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم، ومنها ما يظهر أثره فيه، وهي أنواع النبات بحسب استعداداتها وهذه بمنزلة األجسام الكثيفة في المثال المتقدم؛ ومنها ما يظهر أثره فيه ظهورًا آثيرًا،

.ي األجسام الصقيلة في المثال المتقدموه

.ومن هذه األجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس، ومثالها

.وآذلك أيضًا من الحيوان ما يزيد على شدة قبوله للروح أنه يحكي الروح ويتصور بصورته وهو اإلنسان خاصة ".إن اهللا خلق أدم على صورته: "يه وسلمواليه اإلشارة بقوله صلى اهللا عل

فان قويت في هذه الصورة حتى تتالشى جميع الصور في حقها، وتبقى هي وحدها، وتحرق سبحات نورها آل ما أدرآته، آانت حينئذ بمنزلة المرأة المنعكسة على نفسها المحرقة لسوها وهذا ال يكون إال لألنبياء صلوات اهللا عليهم

.أجمعين

فلما تعلق هذا الروح : قالوا.آله مبين في مواضعه الالئقة به، فليرجع إلى تمام ما حكوه من وصف ذلك التخلقوهذا بتلك القرارة، خضعت له جميع القوى وسجدت له وسخرت بأمر اهللا تعالى في آمالها، فتكون بازاء تلك القرارة نفاخة

ك نافذة، وامتألت بمثل ذلك الهوائي الذي امتألت منه أخرى منقسمة إلى ثالث قرارت بينهما حجب لطيفة، ومسال .القرارة األولى؛ إال أنه ألطف منه

وفي هذه البطون الثالثة المنقسمة من واحد، طائفة من تلك القوى التي خضعت له وتوآلت بحراستها والقيام عليها،

. بالقرارة األولىوإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق األشياء وجليلها إلى الروح األول المتعلقوتكون بازاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقراءة الثانية، نفاخة ثالثة مملوءة جسمًا هوائيًا، إال أنه أغلظ من األولين وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة، وتوآلت بحفظها و القيام عليها؛ فكانت هذه القرارة األولى

.أول ما تخلق من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب الذي ذآرناهوالثانية والثالثة،

.فاألولى منها حاجتها إلى اآلخرين، حاجة استخدام وتسخير: واحتاج بعضها إلى بعض

واألخريان حاجتهما إلى األولى حاجة المرؤوس إلى الرئيس، والمدبر إلى المدبر؛ وآالهما لما يتخلق بعدهما من .مرؤوساألعضاء رئيس ال

وأحدهما، وهو الثاني، أتمم رئاسة من الثالث فاألول منهما لما تعلق به الروح، واشتعلت حرارته تشكل بشكل النار لصنوبري وتشكل أيضًا الجسم الغليظ المحدق به على شكله، وتكون لحمًا صلبًا، وصار عليه غالف صفيق يحفظه

من التحليل وافناء الرطوبات إلى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل وسمي العضو آله قلبًا واحتاج لما يتبع الحرارة .منه على الدوام، وإال لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضًا إلى تحسس بما يالئمه فيجذبه، وبما يخالفه فيدفعه

.األخرىفتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي أصلها منه بحاجته الواحدة، وتكفل له العضو اآلخر بحاجته وآان المتكفل بالحس هو الدماغو المتكفل بالغذاء هو الكبد؛ واحتاج آل واحد من هذين إليه في أن يمدها بحرارته،

بعضها أوسع من بعض بحسب : وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه ، فانتسجت بينهما لذلك آله مسالك وطرق .ما تدعواليه الضرورة، فكانت الشرايين و العروق

3

Page 5: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئًا، إلى أن آمل خلقه، وتمت أعضاؤه، وحصل في حد خروج الجنين من البطن، واستعانوا في وصف آمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة، وأنها آانت قد تهيأت الن

األغشية المجللة لجملة بدنه وغيرها فلما آمل انشقت عنه تلك يتخلق منها آل ما يحتاج إليه في خلق اإلنسان من .األغشية، بشبه المخاض، وتصدع باقي الطينة إذ آان قد لحقه الجفاف .ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه، فلبته ظبية فقدت طالها

إن الظبية : األولى في معنى التربية؛ فقالوا جميعًاثم استوى عبد ما وصفه هؤالء بعد هذا الموضع، وما وصفه الطائفة .التي تكفلت به وافقت خصبًا ومرعى أثيثًا، فكثر لحمها وآثر لبنها، حتى قام بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام

.وآانت معه ال تبعد عنه إال لضرورة الرعي

.ت إليهوألف الطفل تلك الظبية حتى آان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطار

ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية، فتربى الطفل ونما واغتذى بلبن تلك الظبية إلى أن تم له حوالن، وتدرج في المشي وأثغر فكان يتبع تلك الظبية، وآانت هي ترفق به و ترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر

جة؛ وما آان منها صلب القشر آسرته له بطواحنها؛ ومتى عاد إلى فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضي .اللبن أروته، ومتى ظمئ إلى الماء أرودته، متى ضحا ظللته؛ ومتى خصر أدفأته

وإذا جن الليل صرفته إلى مكان األول وجللته بنفسها وبريش آان هناك؛ مما ملئ به التابوت أوًال في وقت وضع .الطفل فيه

.ما ورواحهما قد ألفهما ربرب يسرح ويبيت معهما حيث مبيتهماوآان في غدوه

يحكي نغمتها بصوته حتى ال يكاد يفرق بينهما؛ وآذلك آان يحكي جميع ما : فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحالصوات الظباء يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاآاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده ما آانت محاآاته أل

.في االستصراخ واالستئالف واالستدعاء واالستدفاع

فلما ثبت في نفسه . إذ للحيوانات في هذه األحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها؛ ولم تنكره وال أنكرها .أمثلة األشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له نزوغ إلى بعضها؛ وآراهية لبعض

ك آله ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها آاسية باالوبار و األشعار و أنواع الريش، وآان يرى ما لها من وآان في ذلالعدو وقوة البطش، وما لها من األسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون و األنياب و الحوافر و الصياصي و

.المخالب

السالح، وضعف العدو، وقلة البطش، عندما آانت تنازعه الوحوش ثم يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من العري وعدم .أآل الثمرات، وتستبد بها دونه، وتغلبه عليها، فال يستطيع المدافعة عن نفسه، وال الفرار عن شيء منها .وآان يرى أترابه من أوالد الظباء، قد تبتت لها قرون، بعد أن لم تكن، وصارت قوية بعد ضعفها في العدو

.ر لنفسه شيئًا من ذلك فكان يفكر في ذلك وال يدري ما سببهولم ي

.وآان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فال يجد لنفسه شبيهًا فيهمأما مخرج أغلظ الفضلتين فباالذناب، : وآان أيضًا ينظر إلى مخارج الفضول من سائر الحيوانات، فيراها مستورة

.وبار وما أشبههماوأما مخرج وأما مخرج أرقهما فباال

.وألنها آانت أيضًا اخفى قضبانًا منه

.فكان ذلك ما يكربه ويسؤه

فلما طال همه في ذلك آله، وهو قد قارب سبعة اعوام، ويئس من أن يكمل له ما قد أضر به نقصه، اتخذ من أوراق ه حزام على وسطه، علق به الشجر العريضة شيئًا جعل بعضه خلفه و بعضه قدمه، وعمل من الخوض والحلفاء شب

.تلك األوراق فلم يلبث إال يسيرًا حتى ذوى ذلك الورق وجف وتساقط

4

Page 6: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة، وربما آان ذلك أطول لبقائه إال انه على آل حال قصير

.المدة .واتخذ من أغصان الشجر عصيًا وسوى أطرافها وعدل متنها

الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض وآان بها علىإذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته، ما : نباله، ورأى أن ليده فضًال آثيرًا على أيديها

.استغنى به عما أراده من الذنب والعذاب الطبيعي

.ل ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد األوراق التي آان يستتر بهاوفي خال

فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إال أنه آان يرى أحياء أن صادف في األيام نسرًا ميتًا فهدي إلى الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فال يتأتى له األقدام على ذلك الفعل، إلى

نيل أمله منه، واغتنم الفرصة في، إذ لم ير للوحوش عنه نفرًة فأقدم عليه، وقطع جناحيه وذنبه صحاحًا آما هي، وفتح ربط إحداهما على ظهره، وأخرى على سرته وما : ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين

نب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأآسبه ذلك سترًا ودفئًا ومهابة في نفوس جميع تحتها، وعلق الذ .الوحوش، حتى آانت ال تنازعه وال تعارضه

فانها لم تفارقه وال فارقها، إلى أن اسنت : فصار اليدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي آانت أرضعته وربته

.بة ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمهاوضعغت، فكان يرتاد بها المراعي الخصومازل الهزل والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدرآها الموت، فسكنت حرآاتها بالجملة، وتعطلت جميع

.أفعالها

.فلما رأها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعًا شديدًا، وآادت نفسه تفيض أسفًا عليهاادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فال لها عند ذلك حرآة وال فكان يناديها بالصوت الذي آانت ع

.تغييرًا

فكان ينظر إلى أذنيها والى عينيها فال يرى بها آفة ظاهرة، وآذلك آان ينظر إلى جميع أعضائها فال يرى بشيء منها .آفة

.ا آانت عليه فلم ياتت له شيء من ذلك وال استطاعةفكان يطمع إن يعثر على موضع اآلفة فيزيلها عنها، فترجع إلى م

النه آان يرى انه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء : وآان الذي أرشده لهذا الرأي ما آان قد اعتبره في نفسه قبل ذلكذلك ال يبصر حتى نزول ذلك العائق، وآذلك آان يرى انه اذا ادخل إصبعه في أذنيه وسدها ال يسمع شيئًا حتى يزول

.العارض، وإذا امسك أنفه بيده ال يشم شيئًا من الروائح حتى يفتح أنفهفاعتقد من اجل ذلك إن جميع ماله من االدراآات و األفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت

العطلة قد اشتملها ولم وآان يرى مع ذلك -فلما نظر إلى جميع أعضاء الظاهرة ولم ير فيها آفة ظاهرة . األفعال وقع في خاطرة أن اآلفة التي نزلت بها، إنما هي العضو غائب عن العيان مستكن في -يختص بها عضو دون عضو

.باطن الجسد، وان ذلك العضو ال يغني عنه في فعله شيء من هذه األعضاء الظاهرة

على ذلك العضو وأزال عنه ما يزال به فلما نزلت به اآلفة عمت المضرة، وشملت العطلة، وطمع لو أنه عثر .الستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت األفعال إلى ما آانت عليه

وآان قد شاهد قبل ذلك في األشباح الميتة من الوحوش وسواها أن جميع أعضائها مصمتة ال تجويف فيها إال القحف،

.والصدر، والبطن

بتلك الصفة لن يعدو أحد هذه المواضع الثالثة، وآان يغلب على ظنه غلبة قوية أنه إنما فوقع في نفسه أن العضو الذي

5

Page 7: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

هذا العضو في صدره النه آان يعترض سائرًا اعضائه آاليد، والرجل، وآان أيضًا إذا رجع إلى ذاته، شعر بمثل

واألذن، واالنف، والعين، ويقدر مفارقتها، فيتاى له أنه آان يستغني عنها، وآان يقدر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه .يستغني عنه، فإذا فكر في الشيء الذي يجده في صدره، لم يتأت له االستغناء عنه طرفة عين

.ك آان عند محاربته للوحوش أآثر ما آان يتقي من صياصيهم على صدره، لشعوره بالشيء الذي فيهوآذل

فلما جزم الحكم بان العضو الذي نزلت به اآلفة إنما هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر . اآلفة التي نزلت بها أوًال فيكون سعيه عليهابه، ويرى آفته فيزيلها ثم انه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من

! هل رأى من الوحوش وسواها، من ضار في مثل تلك الحال، ثم عاد إلى مثل حاله األول؟ فلم يجد شيئًا: ثم أنه تفكر

فحصل له من ذلك، اليأس من رجوعها إلى حالها األولى إن هو ترآها، وبقي له بعض الرجاء في رجوعها إلى تلك .إن هو وجد ذلك العضو وأزال اآلفة عنهالحال

فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من آسور األحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة، أشباه السكاآين، وشق بها بين أضالعها حتى قطع اللحم الذي بين األضالع، وأفضى إلى الحجاب المستبطن لألضالع فراه قويًا، فقوي

اب ال يكون إال لمثل ذلك العضو وطمع بأنه إذا تجاوزه ألفى مطلوبه فحاول شقه، فصعب عليه، ظنه مثل ذلك الحجلعدم اآلالت، وألنها لم تكن إال من الحجارة والقصب، فاستجدها ثانية واستحدها وتلطف في خرق الحجاب حتى

.ة بهاانخرق له، فأفضى إلى الرئة فظن أنها مطلوبه، فما زال يقلبها ويطلب موضع اآلف

.وآان أوًال نصفها الذي هو في الجانب الواحد

فلما راها مائلة إلى جهة واحدة، وآان قد اعتقد أن ذلك العضو ال يكون إال في الوسط في عرض البدن، آما في الوسط .في طوله

ة الوثاقة، فمازال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية القوة مربوط بعالئق في غاي

إن آان لهذا العضو من الجهة األخرى مثل ما له من : والرثة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها، فقال في نفسه .الجهة فهو في حقيقة الوسط، وال محالة أنه مطلوبي

الحجاب الذي ال سيما مع ما أرى له حسن الوضع، وجمال الشكل، وقلة التشتت، وقوة اللحم، وأنه محجوب بمثل هذا

.لم أر مثله لشيء من األعضاء

فبحث عن الجانب اآلخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المستبطن لألضالع، ووجد الرئة آمثل ما وجد من هذه .الجهة

فحكم بان ذلك العضو هو مطلوبه، فحاول هتك حجابه، وشق شغافه، فبكد واستكراه ما، قدر على ذلك، بعد استفراغ

.مجهوده فشد على يده، فتبين له أن فيه ! جرد القلب فراه مصمتًا من آل جهة، فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة؟ فلم ير فيه شيئًاو

.لعل مطلوبي األقصى إنما هو في داخل هذا العضو، وأنا حتى اآلن لم أصل إليه: تجويفًا، فقال

خر من الجهة اليسرى، والذي من الجهة اليمنى فشق عليه، فألقى فيه تجويفين اثنين احدهما من الجهة اليمنى واآل .مملوء بعقد منعقد، والذي من الجهة اليسرى خال ال شيء به

.لن يعدو مطلوبي أن يكون مسكنه أحد هذين البيتين: فقال

6

Page 8: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

ى هذا وال شك أنه لم ينعقد حتى صار الجسد آله إل. أما هذا البيت األيمن، فال أرى فيه إال هذا الدم المنعقد: ثم قال وأنا أرى أن - إذ آان قد شاهد الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت ولم يكن هذا إال دمًا آسائر الدماء -الحال

هذا الدم موجود في سائر األعضاء ال يختص به عضو دون أخر، وأنا ليس مطلوبي شيئًا بهذه الصفة إنما مطلوبي .أستغني عنه طرفة العين، واليه آان انبعاثي من أولالشيء الذي يختص به هذا الموضع الذي أجدني ال

واما هذا الدم فكم مرة جرحتني الوحوش في المحاربة فسال مني آثير منه فما ضرني ذلك وال افقدني شيئًا من أفعالي،

.فهذا بيت ليس فيه مطلوبي

ت آل عضو من األعضاء إنما لفعل وأما هذا البيت األيسر فأراه خاليًا الشيء فيه، وما أرى ذلك لباطل، فاني رأيفارتحل عنه ! يختص به، فكيف يكون هذا البيت على ما شاهدت من شرفه باطًال؟ ما أرى إال أن مطلوبي آان فيه

.وأخاله .وعند ذلك، طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد اإلدراك وعدم الحراك

نهدامه وترآه وهو بحاله، تحقق أنه أحرى أن ال يعود إليه بعد أن فلما رأى أن الساآن في ذلك البيت قد ارتحل قبل ا

.حدث فيه من الخراب والتخريق ما حدث

فصار عنده الجسد آله خسيسًا ال قدر له باإلضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد .ذلك

وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ والى اين صار؟ ومن أي األبواب فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء ما هو؟ وآيف هو؟خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن آان خرج آارهًا؟ وما السبب الذي آره إليه الجسد، حتى فارقه إن آان خرج مختارًا؟ وتشتت فكره في ذلك آله، وسال عن الجسد وطرحه، وعلم أن أمه التي عطفت عليه

عته، إنما آانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه آانت تصدر تلك األفعال آلها، ال هذا الجسد العاطل وأن هذا الجسد وأرض .بجملته، إنما هو آاآللة وبمنزلة العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش

.فانتقلت عالقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحرآه، ولم يبق له شوق إال إليه

ن ذلك الجسد، وقامت منه روائح آريهة، فزادت نفرته عنه، وود أن ال يراه ثم انه سنح لنظره وفي خالل ذلك نت

.غرابان يقتتالن حتى صرع أحدهما اآلخر ميتًاما أحسن ما صنع هذا : ثم جعل الحي يبحث في األرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب فقال في نفسه

فحفر ! وأنا آنت أحق باالهتداء إلى هذا الفعل بآمي! وان آان قد أساء في قتله اياهالغراب في مواراة جيفة صاحبه .حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب

غير أنه آان ينظر إلى أشخاص الظباء آلها، فيراها على ! وبقي يتفكر في ذلك الشيء المصرف للجسد ال يدري ما هو

ب على ظنه، أن آل واحد منها إنما يحرآه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي شكل أمه، وعلى صورتها فكان يغل .آان يحرك أمه ويصرفها، فكان يألف الظباء ويحن إليها لمكان ذلك الشبه

وبقي على ذلك برهة من الزمن، يتصفح أنواع الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة، ويتطلب هل يرى أو .رى لكل واحد من أشخاص الحيوان والنبات أشباهًا آثيرة، فال يجد شيئًا من ذلكيجد لنفسه شبيهًا حسبما ي

.وآان يرى البحر قد أحدق بالجزيرة من آل جهة، فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك .واتفق في بعض االحيان أن انقدحت نار في أجمة قلخ على سبيل المحاآة

، وخلقًا لم يعهده قبل، فوقف يتعجب منها مليًا، ومازال يدنو منها شيئًا فشيئًا، فرأى ما فلما بصر بها رأى منظرًا هاله

للنار من الضوء الثاقب والفعل الغالب حتى ال تعلق بشيء إال أتت عليه وأحالته إلى نفسها، فحمله، العجب بها، وبما أراد أن يأخذ منها شيئًا فلما باشرها أحرقت يده فلم رآب اهللا تعالى في طباعه من الجراءة و القوة، على أن يده إليها، و

7

Page 9: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.مازال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل، ويتعهدهًا ليًال ونهارًا استحسانًا منه وتعجبًا منهاثم

وآان يزيد انسه بها ليًال، ألنها آانت تقوم له مقام الشمس في الضياء و الدفء، فعظم بها ولوعه، واعتقد أنها أفضل وتطلب العلو، فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر وآان دائمًا يراها تتحرك إلى جهة فوق: األشياء التي لديه

وآان يختبر قوتها في جميع األشياء بأن يلقيها فيها، فيراها مستولية عليه أما بسرعة واما . السماوية التي آان يشاهدها .ببطء بحسب قوة استعداد الجسم الذي آان يلقيه لالحتراق أو ضعفه

آان قد ألقاه البحر إلى -االختبار لقوتها، شيء من أصناف الحيوانات البحرية وآان من جملة ما القى فيها على سبيل فلما أنضجت ذلك الحيوان وسطع قتاره تحرآت شهوته إليه، فأآل منه شيئًا فاستطابه، فاعتاد بذلك أآل اللحم، -ساحله

.فصرف الحيلة في صيد البر والبحر، حتى مهر في ذلك .له بها من وجوه االغتذاء الطيب شيء لم يتأت له قبل ذلكوزادت محبته للنار، إذ تأتي

فلما اشتد شغفه بها لما رأى من أحسن آثارها وقوة اقتدارها، وقع في نفسه أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية

حيوان طول التي أنشأته، آان من جوهر هذا الوجود أو من شيء يجانسه، وأآد ذلك في ظنه، ما آان يراه من حرارة المدة حياته، وبرودته من بعد موته، وآل هذا دائم ال يختل، وما آان يجده في نفسه من شدة الحرارة عند صدره، بازاء الموضع الذي آان قد شق عليه من الظبية، فوقع في نفسه أنه لو أخذ حيوانًا حيًا وشق قلبه ونظر إلى ذلك التجويف

أمه الظبية، لرأه في الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساآن فيه وتحقق الذي صادفه خاليًا عندما شق عليه في هل هو من جوهر النار؟ وهل فيه شيء من الضوء والحرارة، آم ال؟ فعمد إلى بعد الوحوش واستوثق منه آتافًا وشقه

.على الصفة التي شق بها الظبية حتى وصل القلب

، فرأى ذلك الفراغ مملوءًا بهواء بخاري، يشبه الضباب االبيض، فأدخل فقصد أوًال إلى الجهة اليسرى منه وشقها .إصبعه فيه، فوجده من الحرارة في حد آاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان على الفور

فصح عنده أن ذلك البخار الحار هو الذي آان يحرك هذا الحيوان، وأن في آل شخص من أشخاص الحيوانات مثل .يوان ماتذلك، ومتى انفصل عن الح

ثم تحرآت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها وأوضاعها وآميتها وآيفية ارتباط بعضها ببعض، وآيف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به، وآيف بقاء هذا البخار المدة التي يبقى، ومن أين

له بتشريح الحيوانات األحياء و االموات، ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد يستمد، وآيف ال تنفذ حرارته؟ فتتبع ذلك آالفكرة، حتى بلغ في ذلك آله مبلغ آبار الطبيعيين، فتبين له أن آل شخص من أشخاص الحيوان، وان آان آثيرًا

سامه في سائر بأعضائه وتفنن حواسه وحرآاته فانه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد، وانقسامه وانق .األعضاء منبعث منه

وأن جميع األعضاء إنما هي خادمة له، أو مؤدية عنه، وأن منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد، آمنزلة من يحارب

إلى ما : األعداء بالسالح التام، ويصيد جميع صيد البر والبحر، فيمد لكل جنس آلة يصيده بها والتي يحارب بها تنقسم .غيره، والى ما ينكي بها غيرهيدفع به نكيلة

إلى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح لحيوان البر، وآذلك األشياء التي يشرح بها : وآذلك آالت الصيد تنقسم

إلى ما يصلح للشق، والى ما يصلح للكسر، والى ما يصلح للثقب، والبدن الواحد، وهو يصرف ذلك أنحاء من : تنقسم . له آل آلة، وبحسب الغايات التي تلتمس بذلك التصرفالتصريف بحسب ما تصلح

آذلك؛ ذلك الروح الحيواني واحد، وإذا عمل بالة العين آان فعله أبصارًا، وإذا عمل بآلة اآلذن آان فعله سمعًا، وإذا

عله لمسًا، وإذا عمل عمل بآلة اآلنف آان فعله شمًا، وإذا عمل بآلة اللسان آان فعله ذوقًا، وإذا عمل بالجلد واللحم آان ف .بالعضد آان فعله حرآه، وإذا عمل بالكبد آان فعله غذاء واغتذاء

.ولكل واحد من هذه، أعضاء تخدمه

8

Page 10: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.وال يتم لشيء من هذه فعل إال بما يصل إليها من ذلك الروح، على الطريق التي تسمى عصبًا

.ومتى انقطعت تلك الطرق أو انسدت، تعطل فعل ذلك العضو

األعصاب إنما تستمد الروح من بطون الدماغ يستمد الروح من القلب، والدماغ فيه أرواح آثير، النه موضع وهذه

فآي عضو عدم هذا الروح بسبب من األسباب تعطل فعله وصار بمنزلة اآللة المطرحة، التي : تتوزع فيه أقسام آثيرة .يصرفها الفاعل وال ينتفع بها

ن الجسد، أو فني، أو تحلل بوجه من الوجوه، تعطل الجسد آله، وصار إلى حالة فان خرج هذا الروح بجملته ع

.الموت، فانتهى به إلى هذا من منشئه، وذلك أحد وعشرون عامًاوفي خالل هذه المدة المذآورة تفنن في وجوه حيله، واآتسى بجلود الحيوانات التي آان يشرحها، واحتذى بها، واتخذ

.ا قصب الخطمية والخباري والقنب، وآل نبات ذي خيطالخيوط من األشعار ولح .وآان أصل اهتدائه إلى ذلك، أنه أخذ من الحلفاء وعمل خطاطيف من الشوك القوي والقصب المحدد على الحجارة

واهتدى إلى البناء بما رأى من فعل الخطاطيف فاتخذ مخزنًا وبيتًا لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب

.عضه إلى بعض، لئال يصل إليه شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونهالمربوط ب

واستألف جوانح الطير ليستعين بها في الصيد، واتخذ الدواجن ببيضها وفراخها، واتخذ من الصياصي البقر الوحشية بالنار وبحروف الحجارة، حتى شبه االسنة، ورآبها في القصب القوي، وفي عصي الزان وغيرها، واستعان في ذلك

.آل ذلك لما رأى من عدمه السالح الطبيعي: صارت شبه الرماح، واتخذ ترسه من جلود مضاعةولما رأى أن يده تفي له بكل ما فاته من ذلك، وآان ال يقاومه شيء من الحيوانات على اختالف أنواعها، إال أنها آانت

ي ذلك، فلم ير شيئًا أنجع له من أن يتالف بعض الحيوانات الشديدة العدو، عنه فتعجزه هربًا، فكر في وجه الحيلة ف .ويحسن إليها بأعداد الغذاء الذي يصلح لها، حتى يتأتى له الرآوب عليها ومطاردة سائر األصناف بها

عليها وآان بتلك الجزيرة خيل البرية وحمر وحشية، فاتخذ منها ما يصلح له، وراضها حتى آمل بها غرضه، وعمل من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك ما امله من طرد الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في

.أخذها

وانما تفنن في هذه األمور آلها ف وقت اشتغاله التشريح، وشهوته في وقوفه على خصائص أعضاء الحيوان، وبماذا .ا بأحد وعشرين عامًاتختلف، وذلك في المدة التي حددنا منتهاه

من الحيوانات على : ثم انه بعد ذلك أخذ في مآخذ أخر من النظر، فتصفح جميع األجسام التي في عالم الكون والفساد

اختالف أنواعها، والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد، والدخان واللهيب يرة وأفعاًال مختلفة، وحرآات متفقة ومضادة، وأنعم النظر في ذلك والتثبت، فرأى أنها والجمر، فرأى لها أصوافًا آث

تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض، وأنها من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ثرة تخرج عن الحصر، ومتكثرة فكان تارة ينظر خصائص األشياء وما يتفرد به بعضها عن بعض، فتكثر عنده آ

.وينتشر له الوجود انتشار ال يضبط

.آل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء آثيرة جدًا، فيحكم على ذاته بالكثرة، وآذلك على ذات آل شيء

ثم آان يرجع إلى نظر آخر من طريق ثان، فيرى أن أعضاءه، وان آانت آثيرة فهي متصلة آلها بعضها ببعض، ال فصال بينها بوجه، فهي في الحكم الواحد، وأنها ال تختلف إال بحسب اختالف أفعالها، أن ذلك االختالف إنما هو ان

بسبب ما يصل إليها من قوة الروح الحيواني، الذي انتهى إليه نظره أوًال، وأن ذلك الروح واحد ذاته، وهو حقيقة . ذاته بهذا الطريقالذات، وسائر األعضاء آلها آاآلالت، فكانت تتحد عنده

.ثم أنه آان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوانات، فيرى آل شخص منها واحدًا بهذا النوع من النظر

9

Page 11: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وآان يحكم بان الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وأنه لم يختلف إال أنه انقسم على قلوب آثيرة، وأنه لو أمكن

ان آله شيئًا واحدًا، بمنزلة ماء واحد، أو أن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد، لك .شراب واحد، يفرق على أوان آثيرة، ثم يجمع بعد ذلك

فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد، إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فكان يرى النوع بهذا النظر واحدًا، ويجعل

.رة في الحقيقةآثرة أشخاصه بمنزلة آثيرة أعضاء الشخص الواحد، التي لم تكن آثثم آان يحضر أنواع الحيوانات آلها في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس، وتغتذي، وتتحرك باإلرادة إلى أي جهة شاءت، وآان قد علم أن هذه األفعال هي أخص أفعال الروح الحيواني، وأن سائر األشياء التي تختلف بها بعد هذا

فظهر له بهذا التأمل، أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس .بالروح الحيوانياالتفاق، ليست شديدة االختصاص بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوان : الحيوان واحد بالحقيقة، وان آان فيه اختالف يسير، اختص به نوع دون نوع

.آثيرة، بعضه أبرد من بعض

منزلة اختصاص ذلك الروح الحيواني بنوع واحد، وهو في أصله واحد وآل ما آان في طبقة واحدة من البرودة، فهو ب .وان عرض له التكثر بوجه ما

.فكان يرى جنس الحيوان آله واحدًا بهذا النوع من النظر

.ثم آان يرجع إلى أنواع النبات على اختالفها

ن يقيسها فيرى آل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضًا في األغصان، والورق، والزهر والثمر، واألفعال فكا .هو لها بمنزلة الروح الحيواني وأنها بذلك الشيء واحد: بالحيوان، ويعلم أن لها شيئًا واحدًا فيه

.وآذلك آان ينظر إلى جنس النبات آله، فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في أنه يتغذى وينمو

عًا متفقين في االغتذاء والنمو، أال أن الحيوان يزيد ثم آان يجمع في نفسه جنس الحيوان وجنس النبات، فيراهما جمي

على النبات، بفضل الحس واالدراك والتحرك؛ وربما ظهر في النبات شيء شبيه به، مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة الشمس، وتحرك عروقه إلى الغذاء، بسبب شيء واحد مشترك بينهما، هو في أحدهما أتمم وأآمل، وفي اآلخر قد عاقه

.ئق ما، وأن ذلك بمنزلة ماء واحد قسم بقسمين، أحدهما جامد واآلخر سيال، فيتحد عنده النبات والحيوانعا

ثم ينظر إلى األجسام التي ال تحس وال تغتذي وال تنمو، من الحجارة، والتراب، والماء، والهواء، واللهب، فيرى أنها ن بعضها ذو لون وبعضها ال لون له وبعضها حار أجسام مقدر لها الطول وعرض وعمق وأنها التختلف، إال أ

واآلخر بارد، ونحو ذلك من االختالفات وآان يرى أن الحار منها يصير باردًا، والبارد يصير حار وآان يرى الماء بة يصير بخارًا والبخار ماء، واألشياء المحترقة تصير جمرًا، ورمادًا، ولهيبًا، ودخانًا، والدخان إذا وافق في صعوده ق

حجر انعقد فيه وصار بمنزلة سائر األشياء األرضية، فيظهر له بهذا التأمل، أن جميعها شيء واحد في الحقيقة، وان .لحقتها الكثرة بوجه ما، فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات

له طول وعرض وعمق، :ثم ينظر إلى الشيء الذي اتحد به عند النبات والحيوان، فيرى أنه جسم ما مثل هذه األجساموهو إما حار واما بارد، آواحد من هذه األجسام التي ال تحس وال تتغذى، وانما خالفها بأفعاله التي تظهر عنه باآلالت الحيوانية والنباتية ال غير، ولعل تلك األفعال ليست ذاتية، وانما تسري إليه من شيء آخر ولو سرت إلى هذه األجسام

كان ينظر إليه بذاته مجردًا عن هذه األفعال، التي تظهر ببادئ الرأي، أنها صادرة عنه، فكان اآلخر، لكانت مثله فحيها وجمادها، متحرآها : يرى أنه ليس إال جسمًا من هذه األجسام، فيظهر له بهذا التأمل، أن األجسام آلها شيء واحد

.ك األفعال ذاتية لها، أو سارية أليها من غيرهاوساآنها، إال أنه يظهر أن لبعضها أفعاًال باالت، وال يدري هل تل

10

Page 12: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وآان في هذه الحال ال يرى شيئًا غير األجسام فكان بهذا الطريق يرى الوجود آله شيئًا واحدًا، وبالنظر األول آثرة ال

.تنحصر وال تتناهى

.وبقي بحكم هذه الحالة مدة

.ثم انه تأمل جميع األجسام حيها وجامدها: نده تارًة شيء واحد وتارًة آثيرة آثرة ال نهاية لها، فرأى إن آل واحد منها، ال يخلو من أحد أمرينوهي التي هي ع

إما أن يتحرك إلى جهة العلو مثل الدخان واللهيب والهواء، إذا حصل تحت الماء واما أن يتحرك إلى الجهة المضادة لنبات، وأن آل جسم من هذه األجسام لن يعرى عن لتلك الجهة، وهي جهة السفل، مثل الماء، وأجزاء الحيوان و ا

إحدى هاتين الحرآتين وأنه ال يسكن إال إذا منعه مانع يعوقه عن طريقه، مثل الحجر النازل يصادف وجه األرض صلبًا، فال يمكن أن يخرقه، ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حرآته فيما يظهر، ولذلك إذا رفعته، وجدته يتحامل عليك

.لى جهة السفل، طالبًا للنزولبميله إ

وآذلك الدخان في صعوده، ال ينثني إال أن يصادف قبة صلبة تحبسه، فحينئًذ ينعطف يمينًا وشماًال ثم إذا تخلص من وآان يرى إن الهواء إذا ملئ به زق جلد، وربط ثم . تلك القبة، خرق الهواء صاعدًا ألن الهواء ال يمكنه أن يحبسه

ب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، وال يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، غوص تحت الماء طلوذلك بخروجه من تحت الماء فحينئًذ يسكن ويزول عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة العلو الذي آان يوجد منه قبل

.ذلك

في الوقت ما؟ فلم يجد ذلك في األجسام ونظر هل يجد جسمًا يعرى عن إحدى هاتين الحرآتين أو الميل إلى إحداهماالتي لديه، وانما طلب ذلك، النه طمع أن يجده، فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم، دون أن تقترن به وصف من

.األوصاف، التي هي منشأ التكثر

ين الوصفين فلما أعياه ذلك ونظر إلى األجسام التي هي أقل األجسام حمًال لألوصاف فلم يرها تعرى عن أحد هذبوجه، وهما اللذان يعبر عنهما بالثقل والخفة فنظر إلى الثقل والخفة، هل هما للجسم من حيث هو جسم؟ أو هما لمعنى زائد على الجسمية؟ فظهر له أنهما لمعنى زائد على الجسمية النهما لو آانا للجسم من حيث هو جسم، لما وجد إال

.وهما له

يه الخفة، والخفيف ال يوجد فيه الثقل، وهما ال محالة جسمان ولكل واحد منهما معنى منفرد ونحن نجد الثقيل ال توجد ف .به عن األخر زائد على جسميته

.وذلك المعنى، الذي به غاير آل واحد منهما اآلخر، ولوال ذلك لكانا شيئًا واحدًا من جميع الوجوه

أحدهما ما يقع فيه االشتراك منهما جميعًا، وهو : ة من معنيينفتبين له أن حقيقة آل واحد من الثقيل والخفيف، مرآب

معنى الجسمية؛ واآلخر ما تنفرد به حقيقة آل واحد منهما على االخر، وهما أما الثقل في احدهما واما الخفة في .االخر، المقترنان بمعنى الجسمية، أي المعنى الذي يحرك أحدهما األخر علوًا واألخر سفًال

إلى سائر األجسام من الجمادات واألحياء، فرأى أن حقيقة وجود آل واحد منهما مرآبة من معنى وآذلك نظر أما واحد، واما أآثر من واحد؛ فالحت له صور األجسام على اختالفها : الجسمية، ومن شيء أخر زائد على الجسمية

. تدرك بضرب ما من النظر العقليوهو أول ما الح له من العالم الروحاني، اذ هي صور ال تدرك بالحس، وانما

البد له أيضًا - وهو الذي تقدم شرحه أوًال -والح له في جملة ما الح من ذلك، أن الروح الحيواني الذي مسكنه القلب من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى ألن يعمل هذه األعمال الغريبة، التي تختص به من ضروب

آات وأصناف الحرآات، وذلك المعنى هو صورته وفضله الذي انفصل به عن سائر االحساسات، وفنون االدرا .األجسام، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس الحيوانية

11

Page 13: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وآذلك ايضًا للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه هو صورته، وهو الذي يعبر عنه

.النظار بالنفس النباتية

وهي ما عدا الحيوان والنبات مما في عالم الكون والفساد شيء يخصها به، يفعل آل : يع األجسام الجماداتوآذلك لجمواحد منها فعله الذي يختص به مثل صنوف الحرآات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها، وذلك الشيء هو صورة

.آل واحد منها، وهو الذي يعبر النظار عنه بالطبيعة

نظر على ان حقيقة الروح الحيواني، الذي آان تشوقه اليه ابدًا، مرآبة من معنى الجسمية، ومن معنى فلما وقف بهذا الأخر زائد على الجسمية، وان معنى الجسمية مشترك، ولسائر األجسام، والمعنى األخر المقترن به هو وحده، هان

بر عنه النفس؛ فتشوق إلى التحقق به فالتزم عنده معنى الجسمية فاطرحه، وتعلق فكره بالمعنى الثاني، وهو الذي يعالفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك تصفح األجسام آلها، ال من جهة ما هي أجسام، بل من وجهة ما هي ذوات

.صور تلزم عنها خواص، ينفصل بها بعضها ببعض

فعل ما، أو أفعال ما، ورأى فتتبع ذلك وحصره في نفسه، فرأى جملة من األجسام، تشترك في صورة ما يصدر عنهافريقًا من تلك الجملة، مع أنه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة أخرى، يصدر عنها ما، ورأى طائفة من ذلك الفريق، مع أنها تشارك الفريق في الصورة األولى والثانية، تزيد عليه بصوره ثالثة، تصدر عنها أفعال ما

.خاصة بها

إن األجسام األرضية، مثل التراب والحجارة والمعادن والنبات والحيوان، وسائر األجسام الثقيلة، وهي : مثال ذلكومتى تحرآت : جملة واحدة تشترك في صورة واحدة تصدر عنها الحرآة إلى األسفل، ما لم يعقها عائق عن النزول

ن هذه الجملة، وهو النبات والحيوان، مع وفريق م. إلى جهة العلو بالقسر ثم ترآت، تحرآت بصورتها إلى األسفل .مشارآة الجملة المتقدمة في تلك الصورة، يزيد عليها صورة أخرى، يصدر عنها التغذي والنمو

.هو أن يخلف المتغذي، بدل ما تحلل منه، بان يحيل إلى ما التشبه بجوهره مادة قريبة منه، يجتذبها إلى نفسه: والتغذي .قطار الثالثة، على نسبة محفوظة في الطول والعرض والعمقهو الحرآة في األ: والنمو

فهذان الفعالن عامان للنبات والحيوان، وهما ال محالة صادران عن صورة مشترآة لهما، وهي المعبر عنها بالنفس

.النباتية

انية، تزيد عليه وطائفة من هذا الفريق، وهو الحيوان خاصة، مع مشارآته الفريق المتقدم في الصورة األولى والث .بصورة ثالثة، يصدر عنها الحس والتنقل من حين إلى أخر

.ورأى أيضًا آل نوع من أنواع الحيوان، له خاصية ينحاز بها عن سائر األنواع، وينفصل بها متميزًا عنها

لكل واحد فعلم إن ذلك صادر عن صورة له تخصه هي زائدة عن معنى الصورة المشترآة له ولسائر الحيوان، وآذلك .من أنواع النبات مثل ذلك

فتبين له إن األجسام المحسوسة التي في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته من معان آثيرة، زائدة على معنى الجسمية، وبعضها من معان اقل؛ وعلم إن معرفة األقل اسهل من معرفة األآثر؛ فطلب أوًال الوقوف على الحقيقة

ئم حقيقته من اقل األشياء، ورأى إن الحيوان والنبات، ال تلتئم حقائقها إال من معان آثيرة، لتفنن أفعالها؛ لشيء الذي تلت .فأخر التفكير في صورهما

وآذلك رأى إن أجزاء األرض بعضها ابسط من بعض، فقصد منها إلى ابسط ما قدر عليه وآذلك رأى إن الماء شيء

.ورته من أفعال، وآذلك راى النار والهواءقليل الترآيب، لقلة ما يصدر عن صوآان قد سبق إلى ظنه أوًال، أن هذه األربعة يستحيل بعضها إلى بعض، وان لها شيئًا واحدًا تشترك فيه، وهو معنى الجسمية، وان ذلك الشيء ينبغي إن يكون خلوًا من المعاني التي تميز بها آل واحد من هذه األربعة عن األخر، فال

ن يتحرك إلى فوق وال إلى اسفل، وال إن يكون حارًا وال يكون باردًا، وال يكون رطبًا، وال يابسًا، الن آل واحد يمكن أ

12

Page 14: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.حيها وجمادها، فلم يجد شيئًا يعم األجسام آلها: فنظر هل يجد وصفًا واحدًا يعم جميع األجسام

علم هذا إال معنى االمتداد الموجود في جميعها في األقطار الثالثة، التي يعبر عنها بالطول، والعرض، والعمق، فالمعنى هو للجسم من حيث هو جسم، لكنه لم يتأت له بالحس وجود جسم بهذه الصفة وحدها، حتى ال يكون فيه معنى

.زائد على االمتداد المذآور ويكون بالجملة خلوًا من سائر الصور

أو ليس األمر آذلك، ثم تفكر في هذا االمتداد إلى األقطار الثالثة، هل هو معنى الجسم بعينه، وليس ثم معنى أخرفرأى أن وراء هذا االمتداد معنى أخر، هو الذي يوجد فيه هذا االمتداد، وان االمتداد وحده ال يمكن إن يقوم بنفسه آما

.إن ذلك الشيء الممتد، ال يمكن أن تقوم دون امتداد

.عرض وعمق على قدر ماواعتبر ذلك ببعض هذه األجسام المحسوسة ذوات الصور، آالطين مثًال، آان له طول و

ثم إن تلك الكرة بعينها لو أخذت وردت إلى شكل مكعب أو بيض، لتبدل ذلك الطول وذلك العرض وذلك العمق، .وصارت على قدر أخر

غير الذي آانت عليه، والطين واحد بعينه لم يتبدل، غير أنه ال بد له من طول وعرض وعمق على أي قدر آان، وال

ا؛ غير أنها لتعاقبها عليه، تبين له أنها معنى على حياله؛ ولكونه ال يعرى بالجملة عنها، تبين له يمكن إن يعرى عنه .أنها من حقيقة

أحدهما يقوم منه مقام الطين للكرة في : فالح له بهذا االعتبار، إن الجسم، بما هو جسم، مرآب على الحقيقة من معنين .هذا المثال

. وعرضها وعمقها، أو المكعب، أو أي شكل آان لهيقوم مقام طول الكرة: واألخر

.وانه ال يفهم الجسم إال مرآبًا من هذين المعنين، وان احدهما ال يستغني عن األخر

ولكن الذي يمكن أن يتبدل ويتعاقب على أوجه آثيرة، وهو معنى االمتداد يشبه الصورة التي لسائر األجسام ذوات

دة، وهو الذي ينزل منزلة الطين في المثال المتقدم، يشبه معنى الجسمية التي الصور، والذي يثبت على حال واحوهذا الشيء الذي هو بمنزلة الطين في هذا المثال هو الذي يسميه النظار المادة . لسائر األجسام ذوات الصور

.والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة

، وأشرف على تخوم العالم العقلي، استوحش وحن إلى ما ألفه فلما نظره إلى هذا الحد، وفارق المحسوس بعض مفارقة .من عالم الحس، فتقهقر قليًال وترك الجسم على اإلطالق، إذ هو أمر ال يدرآه الحس، وال يقدر على تناوله .فاخذ أبسط األجسام المحسوسة التي شاهدها، وهي تلك األربعة التي آان قد وقف نظره عليها

اء فرأى انه إذا خلي وما تقتضيه صورته، ظهر منه برد محسوس، وطلب النزول إلى اسفل فإذا فأول ما نظر إلى المسخن أما بالنار واما بحرارة الشمس، زال عنه البرد أوًال وبقي فيه طلب النزول، فإذا أفرط عليه بالتسخين، زال عنه

.طلب النزول إلى اسفل

.وصار يطلب الصعود إلى فوقالوصفان اللذان آانا أبدًا يصدران عن صورته، ولم يعرف من صورته أآثر من صدور هذين فزال عنه بالجملة

.الفعلين عنها

فلما زال هذان الفعالن بطل حكم الصورة، فزالت الصورة المائية عن ذلك الجسم عندما ظهرت منه أفعال من شأنها

13

Page 15: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.فعلم بالضرورة أن آل حادث ال بد له من محدث

.فارتسم في نفسه بهذا االعتبار، فاعل للصورة، ارتسامًا على العموم دون تفصيل

.ادثة، وأنها ال بد لها من فاعلثم أنه تتبع الصور التي آان قد عاينها قبل ذلك، صورة صورة، فرأى أنها آلها ح

ثم نظر إلى ذوات، الصور، فلم ير أنها شيء أآثر من استعداد الجسم الن يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء، فانه إذا

.افرط عليه التسخين، استعد للحرآة إلى فوق وصلح لها

أن لم تكن؛ فصلوح الجسم لبعض فذلك االستعداد هو صورته، إذ ليس ها هنا إال جسم وأشياء تحس عنه، بعد الحرآات دون بعض، واستعداده بصورته، والح له مثل ذلك في جميع الصور، فتبين له أن األفعال الصادرة عنها، ليست في الحقيقة لها، وانما هي لفاعل يفعل بها األفعال المنسوبة إليها؛ وهذا المعنى الذي الح له، هو قول الرسول اهللا

بسم اهللا الرحمن : "وفي محكم التنزيل" آنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به: "سالمعليه الصالة وال .صدق اهللا العظيم! فان تقتلوهم ولكن اهللا قتلهم؛ وما رميت إذا رميت، ولكن اهللا رمى" الرحيم

فته على التفصيل، فلما الح له من أمر هذا الفاعل، ما الح على اإلجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث إلى معروالنه لم يكن بعد فارق عالم الحس، جعل يطلب هذا الفاعل على جهة المحسوسات، وهو ال يعلم بعد هل هو واحد أو آثير؟ فتصفح جميع األجسام التي لديه، وهي التي آانت فكرته أبدًا فيها، فرأها آلها تتكون تارة وتفسد أخرى، وما لم

الفساد أجزائه مثل الماء واألرض، فانه راى أجزاءهما تفسد بالنار، وآذلك الهواء يقف على فساد جملته، وقف على .رآه يفسد بشدة البرد، حتى بتكون منه الثلج فيسيل ماء

وآذلك سائر األجسام التي آانت لديه، ولم ير منها شيئًا بريئًا عن الحدوث واالفتقار إلى الفاعل المختار، فاطرحها آلها .لى األجسام السماويةوانتقلت فكرته إ

.وانتهى إلى هذا النظر على رأس أربعة أسابيع من منشئه، وذلك ثمانية وعشرون عامًا

الطول، والعرض، والعمق؛ ال ينفك : فعلم إن السماء وما فيها من آواآب األجسام، ألنها ممتدة في األقطار الثالثة

.، فهو جسم؛ فهي إذن آلها أجسامشيء منها عن هذه الصفة، وآل ما ال ينفك عن هذه الصفةثم تفكر هل هي ممتدة إلى ما ال نهاية، وذاهبة أبدًا في الطول والعرض والعمق إلى ما ال نهاية، أو هي متناهية .محدودة بحدود تنقطع عندها، وال يمكن أن يكون وراءها شيء من االمتداد؟ فتحير بعد ذلك بعض الحيرة

طره، راى أن جسمًا ال نهاية له أمر باطل، وشيء ال يمكن، ومعنى ال يعقل، وتقوى هذا ثم انه بقوة فطرته، وذآاء خا أما الجسم السماوي فهو متناه من الجهة التي تليني : الحكم عنده بحجج آثيرة، سنحت له بينه وبين نفسه وذلك أنه قال

جهة التي تقابل هذه الجهة، وهي التي والناحية التي وقع عليها حسي، فهذا ال شك فيه ألنني أدرآه ببصر، وأما اليداخلني فيها الشك، فاني أيضًا أعلم من المحال أن تمتد إلى غير نهاية، ألني إن تخيلت أن خطين اثنين، يبتدئان من هذه الجهة المتناهية، ويمران في سمك الجسم إلى غير نهاية حسب امتداد الجسم، ثم تخيلت أن أحد هذين الخطين،

آبير من ناحية طرفه المتناهي، ثم أخذ ما بقي منه شيء واطبق الخط المقطوع منه على الخط الذي لم قطع منه جزءيقطع منه شيء، وذهب الذهن آذلك معهما إلى الجهة التي يقال إنها غير متناهية، فأما أن نجد خطين أبدًا يمتدان إلى

زء مساويًا للذي لم يقطع منه شيء وهو محال، آما غير نهاية وال ينقص أحدهما عن األخر، فيكون الذي قطع منه جأن الكل مثل الجزء المحال؛ واما أن ال يمتد الناقص معه ابدًا، بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن االمتدادمعه، فيكون

ر عن الخط متناهيًا، فإذا رد عليه القدر الذي قطع منه أوًال، وقد آان متناهيًا، صار آله أيضًا متناهيًا، وحينئذ ال يقصاألخر الذي يقطع منه شيء، وال يفضل عليه فيكون إذن مثله وهو متناه، فذلك أيضًا متناه، فالجسم الذي تفرض فيه

.هذه الخطوط متناه، وآل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط، فكل جسم متناه

.فإذا فرضنا أن جسمًا غير متناه، فقد فرضنا باطًال ومحاًال

14

Page 16: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

بفطرته الفائقة التي لمثل هذه الجهة، أن جسم السماء متناه، أراد أن يعرف على أي شكل هو، وآيفية فلما صح عنده

.انقطاعه بالسطوح التي تحده

فنظر أوًال إلى الشمس والقمر وسائر الكواآب، فرأها آلها تطلع من جهة المشرق، وتغرب من جهة المغرب، فما آان عظمى، وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب، رأه يقطع دائرة يمر على سمت رأسه، رأه يقطع دائرة

.أصغر من تلك

.وما آان أبعد عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين، آانت دائرته أصغر من دائرة ما هو أقرب

هي مدار إحداهما حول القطب الجنوبي، و: حتى آانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواآب، دائرتين اثنتين .سهيل، واالخرى حول القطب الشمالي، وهي المدار الفرقدين

.ولما آان مسكنه على خط االستواء الذي وصفناه أوًال، آانت هذه الدوائر آلها على سطح آفة

ومتشابهة في الجنوب والشمال وآان القطبان معًا ظاهرين له، وآان يترقب إذا طلع آوآب من الكواآب على دائرة .وطلع آوآب آخر على دائرة صغيرة، وآان طلوعهما معًا، فكان يرى غروبهما معًاآبيرة،

واطرد له في ذلك جميع الكواآب وفي جميع األوقات، فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة، وقوى ذلك في اعتقاده، رآه أيضًا من أنها تظهر ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواآب إلى المشرق، بعد مغيبها بالمغرب، وما

لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو آانت حرآتها على غير شكل الكرة لكانت ال محالة في بعض األوقات، أقرب إلى بصره منها في وقت آخر، ولو آانت آذلك، لكانت مقاديرها واعظامها

ب أعظم مما يراها في حال البعد، الختالف أبعادها عن مرآزه حينئذ بخالفها تختلف عند بصره فيراها في حال القر .على األول

.فلما لم يكن شيء من ذلك؛ تحقق عنده آروية الشكل

وما زال يتصفح حرآة القمر، فيراها آخذه من المغرب إلى المشرق وحرآات الكواآب السيارة آذلك، حتى تبين له

.هر له أن حرآتها ال تكون إال بأفالك آثيرة، آلها مضمنة في فلك واحد، هو أعالهاقدر آبير من علم الهيئة، وظ

.وهو الذي يحرك الكل من المشرق إلى المغرب في اليوم والليلة

.وشرح آيفية انتقاله

.ومعرفة ذلك يطول؛ وهو مثبت في الكتب، وال يحتاج منه في غرضنا إال للقدر الذي أردناههذه المعرفة، ووقف على أن الفلك بجملته وما يحتوي عليه، آشيء واحد متصل بعضه ببعض، وأن فلما انتهى إلى

آاألرض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاآلها، هي آلها في ضمنه : جميع األجسام التي آان ينظر فيها أوًالن الكواآب المنيرة هي بمنزلة حواس وغير خارجة عنه، وأنه آله أشبه شيء بشخص من أشخاص الحيوان؛ وما فيه م

الحيوان؛ وما فيه من ضروب األفالك، المتصل بعضها ببعض، هي بمنزلة أعضاء الحيوان؛ وما في داخله من الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من أصناف الفضول والرطوبات، التي آثيرًا ما يتكون فيها أيضًا حيوان،

.ألآبرآما يتكون في العالم ا

فلما تبين له أنه آله آشخص واحد في الحقيقة، واتحدت عنده أجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر الذي اتحدت به عنده األجسام التي في عالم الكون والفساد، تفكر في العالم بجملته، هل هو شيء حدث بعد إن لم يكن، وخرج إلى الوجود

، ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشك في ذلك ولم يترجح عنده أحد بعد العدم؟ أو هو أمر آان موجودًا فيما سلف .الحكمين على اآلخر

15

Page 17: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وذلك أنه آان إذا أزمع على اعتقاد القدم، اعترضه عوارض آثيرة، من استحالة وجود ما ال نهاية له، بمثل الذي يخلو من الحوادث، فهو ال يمكن تقدمه استحال عنده به وجود جسم ال نهاية وآذلك أيضًا آان يرى أن هذا الوجود ال

.عليها، وما ال يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو أيضًا محدث

وإذا أزمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض أخرى، وذلك أنه آان يرى أن معنى حدوثه، بعد أن لم يكن ال .ه، فإذن ال يفهم تأخر العالم عن الزمانيفهم إال على أن الزمان تقدمه، والزمان من جملة العالم وغير منفك عن

إذا آان حادثًا، فال بد له من محدث؛ وهذا المحدث الذي أحدثه، لم أحدثه اآلن ولم يحدثه قبل : وآذلك أيضًا آان يقولذلك، الطارئ طرأ عليه وال شيء هناك غيره، أم لتغير حدث في ذاته؟ فان آان فما الذي احدث ذلك التغيير؟ وما زال

.كر في ذلك عدة سنينيتف

.فتتعارض عنده الحجج، وال يترجح عنده أحد االعتقادين على اآلخر

.فلما أعياه ذلك، جعل يتفكر ما الذي يلزم عن آل واحد من االعتقادين، فلعل الالزم عنهما يكون شيئًا واحدًاك ضرورة، انه ال يمكن أن يخرج إلى فرأى انه إن اعتقد حدوث العالم خروجه إلى الوجود بعد العدم، فالالزم عن ذل

الوجود بنفسه، وانه ال بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود، وان ذلك الفاعل ال يمكن إن يدرك بشيء من الحواس، النه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسمًا من األجسام، ولو آان جسمًا من األجسام لكان من جملة العالم، وآان حادثًا

دث، ولو آان ذلك المحدث الثاني أيضًا جسمًا، لحتاج إلى محدث ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل واحتاج إلى مح .ذلك إلى غير نهايًة وهو باطل

فإذن البد للعالم من فاعل ليس بجسم، وإذا لم يكن جسمًا فليس إلى إدراآه لشيء من الحواس سبيل، اآلن الحواس

يمكن أن يحس فال يمكن أن يتخيل، الن التخيل ليس شيئًا إال إحضار صور الخمس ال تدرك إال األجسام، وإذا الالمحسوسات بعد غيبتها، وإذا لم يكن جسمًا فصفات األجسام آلها تستحيل عليه، وأول صفات األجسام هو االمتداد في

.الطول والعرض والعمق، وهو منزه عن ذلك، وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات األجسام إال يعلم من خلق، وهو اللطيف " بسم اهللا الرحمن الرحيم"إذا آان فاعًال للعالم فهو ال محالة قادر عليه وعالم به و

.الخبير؟ صدق اهللا العظيم

وراى أيضًا انه إن اعتقد قدم العالم، وان العدم لم يسبقه، وانه لم يزل آما هو، فان الالزم عن ذلك أن حرآته قديمة ال ن جهة االبتداء، إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه، وآل حرآة فالبد لها من محرك ضرورة، والمحرك نهاية لها م

واما أن تكون - أما جسم المتحرك نفسه، واما جسم أخر خارج عنه -أما أن يكون قوة سارية في جسم من األجسام .قوة ليست سارية وال شائعة قي جسم

.يه، فانها تنقسم بانقسامه، وتتضاعف بتضاعفه، مثل الثقل بالحجر مثًالوآل قوى سارية في جسم وشائعه ف .المحرك إلى األسفل

.فانه إن قسم الحجر نصفين

وان زيد عليه أخر مثله، زاد في الثقل أخر مثله، فان أمكن أن يتزايد الحجر إلى غير نهاية، آتزايد هذا الثقل إلى غير

ن العظم ووقف، وصل الثقل إلى ذلك الحد ووقف، لكنه قد تبرهن أن آل جسم نهاية، وان وصل الحجر إلى حد ما م فان وجدناها قوة تفعل فعًال ال نهاية له، فهي قوة .فانه ال محالة متناه، فإذن آل قوة في الجسم فهي ال محالة متناهية

ه قديمًا ال ابتداء له فالواجب على ليست في جسم، وقد وجدنا الفلك يتحرك أبدًا حرآة النهاية لها وال انقطاع إذ فرضنا .ذلك أن تكون القوة التي تحرك ليست في جسمه، وال في جسم خارج عنه

فهي إذا لشيء بريء عن األجسام، وغير موصوف بشيء من أوصاف الجسمية، وقد آان الح له في نظره األول في لتي هي استعداده لضروب الحرآات، وان عالم الكون والفساد إن حقيقة وجود آل جسم، إنما هي من جهة صورته ا

وجوده الذي له من جهة مادته وجود ضعيف ال يكاد يدرك؛ فان وجود العالم آله إنما هو من جهة استعداده لتحريك هذا المحرك البريء عن المادة، وعن صفات األجسام، المنزه عن أن يدرآه حس، أو يتطرق إليه خيال، سبحانه، وإذا

16

Page 18: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

فانتهى نظره بهذا الطريق إلى ما انتهى إليه بالطريق األول، ولم يضره في ذلك تشككه في قدم العالم أو حدوثه، وصح

وال متصل بجسم وال منفصل عنه، وال داخل فيه، وال خارج عنه، له على الوجهين جميعًا وجود فاعل غير الجسم، .االتصال، واالنفصال، والدخول، هي آلمات من صفات األجسام، وهو منزه عنها: إذ

ولما آانت المادة في آل جسم مفتقرة إلى الصورة، إذ ال تقوم إال بها وال تثبت لها حقيقة دونها، وآانت الصورة ال فعل هذا الفاعل تبين له افتقار جميع الموجودات في وجودها إلى هذا الفاعل وأنه ال قيام لشيء يصح وجودها إال من

منها إال به فهو إذن علة لها، وهي معلومة له، سواء آانت محدثة الوجود، بعد أن سبقها العدم، أو آانت االبتداء لها من معلولة، ومفتقرة إلى الفاعل، متعلقة الوجود به، ولوال جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط، فانها على آال الحالتين

وآيف ال يكون ! دوامه لم تدم، ولوال وجوده لم توجد، ولوال قدمه لم تكن قديمة، وهو في ذاته غني عنها وبريء منهاو متناه آذلك وقد تبرهن أن قدرته غير متناهية، وأن جميع األجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها، ولو بعض التعلق، ه

.منقطع

فإذن العالم آله بما في السماوات واألرض والكواآب، وما بينها، وما فوقها، وما تحتها، فعله وخلقه؛ ومتأخر عليه .بالذات، وان آانت غير ماخرة عليها بالزمان

لحرآة يدك، آما انك إذا أخذت في قبضتك جسمًا من األجسام، ثم حرآت يدك، فان ذلك الجسم ال محالة يتحرك تابعًا

حرآة متأخرة عن حرآة يدك، تأخرًا بالذات؛ وان آانت لم تتأخر بالزمان عنها، بل آان ابتداؤهما معًا، فكذلك العالم إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له آن فيكون " بسم اهللا الرحمن الرحيم"آله، معلول ومخلوق لهذا الفاعل بغير زمان

.صدق اهللا العظيم

فلما راى إن جميع الموجودات فعله، تصفحها من بعد ذا تصفحًا على طريق االعتبار في قدرة فاعلها؛ والتعجب من غريب صنعته، ولطيف حكمته، ودقيق علمه فتبين له في اقل األشياء الموجودة، فضًال عن أآثرها من أثار الحكمة،

لك ال يصدر إال عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق وبدائع الصنعة، ما قضى منه آل العجب، وتحقق عنده إن ذال يغرب عنه مثقال ذرة في السموات وال في األرض وال اصغر من ذلك وال اآبر " بسم اهللا الرحمن الرحيم"الكمال

.صدق اهللا العظيم

دق اهللا العظيم أعطى آل شيء خلقه، ثم هداه ص" بسم اهللا الرحمن الرحيم"ثمتأمل في جميع أصناف الحيوان، آيف الستعماله، فلوال أنه هداه الستعمال تلك األعضاء التي خلقت له في وجوه المنافع المقصود بها، لما انتفع بها الحيوان،

.وآانت آًال عليه، فعلم بذلك أنه أآرم الكرماء، وارحم الرحماء

الذي هو في ذاته أعظم منها، وأآمل، ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن - جل جالله -من فيض ذلك الفاعل المختار .واتمم وأحسن، وأبهى وأجمل وأدوم، وأنه ال نسبة لهذه إلى تلك

وتتبع . فما زال يتتبع صفات الكمال آلها، فيراها له وصادرة عنه، ويرى أنه أحق بها من آل ما يوصف بها دونه

بريئًا منها وليس معنى النقص إال العدم المحض، أو صفات النقص آلها فرآه بريئًا منها، ومنزهًا عنها؛ وآيف ال يكون ما يتعلق بالعدم؟ وآيف يكون العدم تعلق أو تلبس، بمن هو الموجود المحض، الواجب الوجود بذاته، المعطي لكل ذي

فهو الوجود، وهو الكمال، وهو التمام، وهو الحسن، وهو البهاء، وهو القدرة، وهو : وجود وجوده، فال وجود إال هو .آل شيء هالك إال وجهه صدق اهللا العظيم" بسم اهللا الرحمن الرحيم"العلم، وهو هو، و

فانتهت به المعرفة إلى هذا الحد، على رأس خمسة أسابيع من منشئه، وذلك خمسة وثالثون عامًا، وقد رسخ في قلبه الموجودات والبحث عنها، حتى من هذا الفاعل، ما شغله عن الفكرة في آل شيء إال فيه، وذهل عما آان فيه تصفح

صار بحيث ال يقع بصره على شيء من األشياء، إال ويرى فيه أثر الصنعة، ومن حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه، وانزعج قلبه بالكلية عن العالم األدنى المحسوس، وتعلق بالعالم

.األرفع المعقول

17

Page 19: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

صل له العلم بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي ال سبب لوجود جميع األشياء، أراد أن يعلم بأي شيء فلما ح

السمع، والبصر، والشم، والذوق، : فتصفح حواسه آلها وهي: حصل له هذا العالم، وبأي قوة أدرك هذا الموجودم، وذلك أن السمع ال يدرك المسموعات، وهي ما واللمس، فرأى أنها ال تدرك شيئًا إال جسمًا، أو ما هو في الجس

يحدث من تموج الهواء عند تصادم األجسام، والبصر إنما يدرك األلوان، والشم يدرك الروائح، والذوق يدرك الطعوم، واللمس يدرك األمزجة والصالبة واللين، والخشونة والمالسة، وآذلك القوة الخيالية ال تدرك شيئًا إال أن

ل وعرض وعمق؛ وهذه المدرآات آلها من صفات األجسام، وليس لهذه الحواس أدراك شيء سواها، يكون له طووذلك ألنها قوى شائعة في األجسام، ومنقسمة بانقسامها، فهي لذلك ال تدرك إال جسمًا منقسمًا، الن هذه القوة إذا آانت

فانه ينقسم بانقسامها؛ فإذن آل قوة في جسم، فانها شائعة في شيء منقسم، فال محالة أنها إذا أدرآت شيئًا من األشياء، .ال محالة ال تدرك إال جسمًا أو ما هو جسم

وقد تبين إن هذا الموجود الواجب الوجود، بريء من صفات األجسام من جميع االتجاهات، فإذن ال سبيل إلى إدراآه

ه باألجسام، وال هو داخل فيها وال خارج إال بشيء ليس بجسم، وال هو قوة في جسم، وال تعلق له وجه من الوجو .عنها، وال متصل بها وال منفصل عنها

وقد آان تبين له أن أدرآه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده، فتبين له بذلك أن ذاته التي أدرآه بها أمر غير جسماني،

ية فانها ليست حقيقة ذاته، وال يجوز عليه شيء من صفات األجسام، وان آل ما يدرآه من ظاهر ذاته من الجسمان .وانما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي أدرك به الموجود المطلق الواجب الوجود

فلما علم أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدرآها بحواسه، ويحيط بها أديمه، هان عنده بالجملة جسمه، وجعل يتفكر الواجب الوجود، ونظر في ذاته تلك الشريفة، هل يمكن في تلك الذات الشريفة، التي أدرك بها ذلك الموجود الشريف

أن تبيد أو تفسد وتضمحل، أو هي دائمة البقاء؟ فرأى إن الفساد واالضمحالل إنما هو من صفات األجسام بأن تخلع صورة وتلبس صورة أخرى، مثل الماء إذا صار هواء، والهواء إذا صار ماء، والنبات إذا صار ترابًا، والتراب إذا

.صار نباتًا، هذا هو معنى الفساد

وأما الشيء الذي ليس بجسم، وال يحتاج في قوامه إلى جسم، وهو منزه بالجملة عن الجسمانية، فال يتصور فساده فلما ثبت له أن ذاته الحقيقة ال يمكن فسادها، أراد إن يعلم آيف يكون حالها إذا اطرح البدن وتخلت عنه، وقد . البتة

نها ال تطرحه إال إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع القوى المدرآة، فرأى أن آل واحدة منها تارًة تكون آان تبين له أمثل العين في حال تغميضها أو أعراضها عن البصر، فانها تكون مدرآة : مدرآة بالقوة، وتارًة تكون مدرة بالفعل

وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر، تكون -مستقبل ومعنى مدرآه بالقوة أنها ال تدرك اآلن وتدرك في ال-بالقوة وآذلك آل واحدة من هذه القوى تكون مدرآة بالقوة وتكون - ومعنى مدرآة بالفعل أنها اآلن تدرك -مدرآه بالفعل

مدرآة بالفعل، وآل واحدة من هذه القوى إن آانت لم تدرك قط بالفعل، فهي ما دامت بالقوة ال تتشوق إلى إدراك ء المخصوص بها ألنها لم تتعرف به بعد، مثل من خلق مكفوف البصر؛ وان آانت قد أدرآت بالفعل تارًة، ثم الشي

صارت بالقوة، فانها ما دامت بالقوة تشتاق إلى اإلدراك بالفعل ألنها قد تعرفت إلى المدرك، وتعلقت به، وحنت إليه، .صراتمثل من آان يصيرًا ثم عمي فانه ال يزال يشتاق إلى المب

وبحسب ما يكون الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن، يكون الشوق أآثر؛ والتألم لفقده اعظم، ولذلك آان تألم من يفقد بصره بعد الرؤية أعظم من تألم من يفقد شمه، إذ األشياء التي يدرآها البصر أتم وأحسن من التي يدرآها الشم، فان

غاية لحسنه وجماله وبهائه، وهو فوق الكمال والبهاء والجمال، وليس في آان في األشياء شيء ال نهاية لكماله، وال الوجود آمال، وال حسن، وال بهاء، وال جمال إال صادر من جهته، وفائض من قبله، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد

آًا له على الدوام، فانه إن تعرف به، فال محالة أنهما ما دام فاقد له، يكون في أالم ال نهاية لها، آما أن من آان مدر .يكون في لذة ال انفصام لها، وغبطة ال غاية لها ورائها، وبهجة وسرور ال نهاية لهما

.وقد تبين له أن الموجود الواجب الوجود

.متصف بأوصاف الكمال آلها، ومنزه عن الصفات النقص وبريء منها

األجسام، وال يفسد لفسادها؛ فظهر له بذلك أن من آانت له وتبين له أن الشيء الذي به يتوصل إلى أدرآه أمر ال يشبه في مدة تصريفه للبدن -مثل هذه الذات، المعدة لمثل هذا اإلدراك؛ فانه إذا أطرح البدن بالموت؛ فإما أن يكون قبل ذلك

18

Page 20: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

واما جميع القوى الجسمانية، فانها تبطل ببطالن الجسم؛ فال تشتاق أيضًا إلى مقتضيات تلك القوى، وال تحن إليها، وال

.تتألم لفقدها

.سواء آانت من صورة اإلنسان أو لم تكن: وهذه حال البهائم غير الناطقة آلها

قد تعرف بهذا الموجود، وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة - في مدة تصريفه للبدن -ذلك واما إن يكون قبل والسلطان والحسن إال انه أعرض عنه واتبع هواه، حتى وافته منيته وهو على تلك الحال، فيحرم المشاهدة، وعنده

.الشوق إليها فيبقى في عذاب طويل، وأالم ال نهاية لها

تلك اآلالم بعد جهد طويل، ويشاهد ما تشوق إليه قبل ذلك، واما أن يبقى في آالمه بقاًء سرمديًا، فأما من يتخلص من .بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين لحياته الجسمانية

واما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود، قبل أن يفارق البدن، واقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في جالله وحسن

.، ولم يعرض عنه حتى وافته منيته، وهذا على حال من اإلقبال والمشاهدة بالفعلبهائهفهذا إذا فارق البدن بقي في لذة ال نهاية لها، وغبطة وسرور وفرح دائم، التصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب

جسمانية من األمور الحسية الوجود، وسالمة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب؛ ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى ال . أالم وشرور وعوائق- باإلضافة إلى تلك الحال -التي هي

فلما تبين له أن آمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام، مشاهدة بالفعل أبدًا، حتى

.ل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألمال يعرض عنه طرفة عين لكي توافيه منيته، وهو في حال المشاهدة بالفعثم جعل يتفكر آيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل، حتى ال يقع منه أعراض فكان يالزم الفكرة في ذلك الموجود

آل ساعة، فما هو إال يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات، أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، أو يتعرضه يناله ألم في أحد اعضائه، أو يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر، أو يحتاج القيام لدفع خيال من الخياالت، أو

.فضوله؛ فتختل فكرته، ويزول عما آان فيه، ويتعذر عليه الرجوع إلى ما آان عليه من حال المشاهدة، إال بعد جهد

.الدائم، وألم الحجابوآان يخاف أن تفاجأه منيته وهو في حال األعراض، فيفضي إلى الشقاء .فساءه حاله ذلك، وأعياء الدواء

فجعل يتصفح أنواع الحيوانات آلها، وينظر أفعالها وما تسعى فيه، لعله يتفطن في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود،

.وجعلت تسعى نحوه، فيتعلم منها ما يكون في سبب نجاته

هواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح، واالستظالل فرآها آلها إنما تسعى في تحصيل غذائها، ومقتضى ش .واالستدفاء، وتجد في ذلك ليلها ونهارها إلى حين مماتها وانقضاء مدتها

ولم ير شيئًا منها ينحرف عن هذا الرأي، وال يسعى لغيره في وقت من األوقات، فبان له بذلك أنها لم تشعر بذلك

.ليه بوجه من الوجوه، وأنها آلها صائرة إلى العدم، أو إلى حال شبيه بالعدمالموجود وال اشتاقت إليه، وال تعرفت إ

.فلما حكم على ذلك بالحيوان، علم أن الحكم على النبات أولى، إذ ليس للنبات من االدراآات إال بعض ما للحيوان

، مع انه رأى أيضًا أن أفعال وإذا آان األآمل إدراآًا لم يصل إلى هذه المعرفة، فاألنقص إدراآًا أحرى أن ال يصل .النبات آلها ال تتعدى الغذاء والتوليد

ثم انه بعد ذلك نظر إلى الكواآب واألفالك فرآها آلها منتظمة الحرآات، جارية على نسق؛ ورآها شفافة ومضيئة

19

Page 21: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.لم اختص هو من بين سائر أنواع الحيوانات بهذه الذات التي أشبه بها األجسام السماوية: ثم انه تفكر

وقد آان تبين له أوًال من آمر العناصر واستحالة بعضها إلى بعض، وأن جميع ما على وجه األرض ال يبقى على دًا، وأن أآثر هذه األجسام مختلطة مرآبة من أشياء متضادة، ولذلك تؤول صورته؛ بل الكون والفساد متعاقبان عليه أب

إلى الفساد، وانه ال يوجد منه شيء صرفًا، وما آان منها قريبًا من أن يكون صرفًا خالصًا ال شائبة فيه، فهو بعيد عن ساد، والصور ال تتعاقب الفساد جدًا مثل الذهب والياقوت، وأن األجسام البسيطة صرفة، ولذلك هي بعيدة عن الف

.عليها

وتبين له هنالك أن جميع األجسام التي في عالم الكون والفساد، منها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى . ومنها ما تتقوم حقيقتها أآثر من ذلك آالحيوان والنبات- وهذه هي االسطقسات األربع -الجسمية

، آانت أفعاله أقل، وبعده عن الحياة أآثر، فان عدم الصورة جملة لم يكن فيه إلى الحياة فما آان قوام حقيقته بصور أقلطريق، وصار في حال شبيه بالعدم، وما آان قوام حقيقته بصور أآثر، آانت أفعاله أآثر، ودخوله في حال الحياة

ها آانت الحياة حينئذ آامل الظهور أبلغ؛ وان آانت تلك الصورة بحيث ال سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي اختصت ب .والكمال والقوة

فالشيء العديم للصورة جملة هو الهيولى والمادة، وال شيء من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم، والشيء المتقوم بصورة واحدة هي االسطقسات األربع وهي في أول مراتب الوجود في عالم الكون والفساد ومنها تترآب األشياء

.لصور الكثيرةذوات ا

وهذه االسطقسات ضعيفة الحياة جدًا، إذ ليست تتحرك إال حرآة واحدة، وانما آانت ضعيفة الحياة الن لكل واحد منها فوجوده لذلك غير متمكن، وحياته ضعيف، . ضدًا ظاهر العناد يخالفه في مقتضى طبيعته، ويطلب أن يغير صورته

.اة منهوالبات أقوى حياة منه والحيوان أظهر حي

وذلك أن ما آان من هذه المرآبات تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد، فلقوته فيه يغلب طبائع االسطقسات الباقية، ويبطل قواها، ويصير ذلك المرآب في حكم االسطقس الغالب، فال يستأهل الجل ذلك من الحياة آل شيئا يسيرًا، آما إن

ضعيفًا وما آان من هذه المرآبات ال تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد ذلك االسطقس ال يستأهل من الحياة إال يسيرًامنها، فان االسطقسات تكون فيه متعادلة متكافئة، فإذن ال يبطل ألحدهما اآلخر قوة اآلخر بأآثر مما يبطل ذلك اآلخر

ستولي عليه أحدها، قوته، بل يفعل بعضها في بعض فعًال متساويًا، فال يكون فعل أحد االسطقسات أظهر فيه، وال ي .فيكون بعيد الشبه من آل واحد من االسطقسات، فكأنه ال مضادة لصورته، فيستأهل الحياة بذلك

.ومتى زاد هذا االعتدال وآان أتم وأبعد من االنحراف، آان بعده عن أن يوجد له ضد أآثر، وآانت حياته أآمل

تدال، النه ألطف من األرض والماء وأغلظ من النار والهواء، ولما آان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد االع .صار في حكم الوسط ولم يضاده شيء من االسطقسات مضادة بينه

فاستعد بذلك الصورة الحيوانية، فرأى أن الواجب إلى ذلك أن يكون أعدل ما في هذه األرواح الحيوانية مستعدًا التمم

فساد، وأن يكون ذلك الروح قريبًا من أن يقال أنه ال ضد لصورته، فيشبه لذلك ما يكون من الحياة في عالم الكون والهذه األجسام السماوية التي ال ضد لصورها؛ ويكون روح ذلك الحيوان، وآأنه وسط بالحقيقة بين االسطقسات التي ال

مسافة بين المراآز وأعلى تتحرك إلى جهة العلو على اإلطالق، وال إلى جهة السفل، بل لو أمكن أن يجعل في وسط ال .ما تنتهي إليه النار في جهة العلو ولم يطرأ عليه الفساد، لثبت هناك ولم يطلب الصعود وال نزول

20

Page 22: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

ولو تحرك في المكان، لتحرك حول الوسط آما تتحرك األجسام السماوية، ولو تحرك في الوضع، لتحرك على نفسه،

.هو شديد الشبه باألجسام السماويةوآان آروي الشكل إذ ال يمكن غير ذلك، فإذن ولما آان قد اعتقد أن أحوال الحيوان، ولم ير فيها ما يظن به انه شعر بالموجود الواجب الوجود، وقد آان علم من ذاتها قد شعرت به، قطع ذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح، الشيبة باألجسام السماوية وتبين لو انه نوع مباين

وان، وانه إنما خلق لغاية أخرى، وأعد المر عظيم، لم يعد له شيء من أنواع الحيوان، وآفى به شرفًا أن لسائر الحي أشبه األشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد، المنزهة عن - وهو الجسماني -يكون أحس جزأيه

.الحوادث النقص واالستحالة والتغيير

و الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف، أمر رباني الهي وأما أشرف جزأيه، فهيستحيل وال يلحقه الفساد، وال يوصف بشيء مما توصف به األجسام، وال يدرك بشيء من الحواس، وال يتخيل، وال

و العالم، والمعلوم، والعلم؛ يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهال يتباين في شيء من ذلك، إذ التباين واالنفصال من صفات األجسام ولواحقها، وال جسم هنالك وال صفة جسم وال

فلما تبين له الوجه الذي اختص به من بين سائر أصناف الحيوان بمشابهة األجسام السماوية، رأى إن ! الحق بجسم .يحاآي أفعالها ويتشبه بها جهدهالواجب عليه أن يتقبلها و

وآذلك رأى أنه بجزئه االشرف الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، فيه شبه ما منه من حيث هو منزه عن صفات األجسام، وآما أن الواجب الوجود منزه عنها، فرأى ايضًا انه يجب عليه أن يسعى في تحصيل صفاته لنفسه

القه ويقتدي بأفعاله، ويجد في تنفيذ إرادته، ويسلم اآلمر له، ويرضى بجميع حكمه، من أي وجه أمكن، وان يتخلق بأخ .رضى من قلبه ظاهرًا وباطنًا، بحيث يسر به وان آان مؤلمًا لجسمه وضارًا به ومتلفتًا لبدنه بالجملة

د، وهو البدن المظلم وآذلك رأى فيه شبهًا من سائر أنواع الحيوان بجزئه الخسيس الذي هو من عالم الكون والفسا

والكثيف، الذي يطالبه بأنواع المحسوسات من المطعوم والمشروب والمنكوح، ورأى أيضًا أن ذلك البدن لم يخلق له .عبثًا وال قرن به المر باطل، ويجب عليه أن يتفقده ويصلح من شأنه

األعمال التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثالثة فاتجهت عنده .هذا التفقد ال يكون منه إال بفعل يشبه أفعال سائر الحيوان

.أما عمل يتشبه بالحيوان الغير الناطق: أغراض

.واما عمل يتشبه به باألجسام السماوية

.واما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود

.زع المتفننةيجب عليه من حيث البدن المظلم ذو األعضاء المنقسمة، والقوى المختلفة، والمنا: فالتشبه األول

.يجب عليه من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، وهو مبدأ لسائر البدن، ولما فيه من القوى: والتشبه الثاني

.من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود: يجب عليه من حيث هو، أي: والتشبه الثالث

زه من الشقاء، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى وآان أوًال قد وقف على أن سعادته وفو .يكون بحيث ال يعرض بطرفة عين

ثم أنه نظر بالوجه الذي يتأتى له به هذا الدوام، فأخر له النظر أنه يجب عليه االعتمال في هذه األقسام الثالثة من

ء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو آما التشبه األول، فال يحصل له به شي: التشبيهاتتصرف في األمور المحسوسة، واألمور المحسوسة آلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا

.التشبه الستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني باألجسام السماوية

21

Page 23: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.ا الطريق،ولو آان ال يخلو من تلك المضرةفالضرورة تدعو إليه من هذ

واما التشبه الثاني، فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك .النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا

ث، فتحصل به المشاهدة الصرفة، واالستغراق المحض الذي ال التفات فيه بوجه من الوجوه اال إلى واما التشبه الثال .الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتالشت

. وعز جل وتعالى-وآذلك سائر الذوات، آثيرة آانت أو قليلة، إال ذات الواحد الحق الواجب الوجود

فلما تبين له أن مطلوبه األقصى هو هذا التشبه الثالث، وأنه ال يحصل له إال بعد التمرن واالعتمال مدة طويلة في وان آان ضروريًا، فانه عائق بذاته -التشبه الثاني، وان هذه المدة ال تدوم له بالتشبه األول، وعلم أن التشبه األول

فألزم نفسه أن ال يجعل لها حظًا من هذا التشبه األول، إال بقدر -لكنه ضروريوان آان معينًا بالعرض ال بالذات .الضرورة، وهي الكفاية التي ال بقاء للروح الحيواني بأقل منها

ما يمده من الداخل، ويخلف عليه بدل ما يتخلل منه : أحدهما: ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء هذا الروح أمرين

.وهو الغذاء من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية ونحو : ما يقيه من الخارج، ويدفع عنه وجوه األذى: خرواأل .ذلك

.ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه جزافًا آيفما اتفق، ربما وقع في السرف واخذ فوق الكفاية

لنفسه فيها حدودًا ال يتعداها، ومقادير ال فكان سعيه على نفسه من حيث ال يشعر، فرأى أن الحزم له أن يفرض .يتجاوزها، وبأن له الفرض يجب أن يكون في جنس ما يتغذى به

.وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي تكون بين العبادات إليه

إلى غاية تمامه، أما نبات لم يكمل بعد نضجه ولم ينته: أوًال: فنظر أوًال إلى أجناس ما به يتغذى، فرآها ثالثة أضرب

.وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن االغتذاء بها واما ثمرات النبات الذي تم وانتهى وأخرج بذرة ليتكون منه أخر من نوعه حفظًا له، وهي أصناف الفواآه : ثانيًا

.رطبها ويابسها .أما البرية واما البحرية: واما حيوان من الحيوانات التي يتغذى بها: ثالثًا

وآان قد صح عنده أن هذه األجناس آلها، من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود الذي تبين له أن سعادته في القرب منه، وطلب التشبه به، وال محالة أن االغتذاء بها مما يقطعها عن آمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة

.بها

.فكان ذلك اعتراض على فعل الفاعل .االعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه بهوهذا

فرأى أن الصواب آان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنه لما لم يمكنه ذلك، النه أن امتنع عنه أل ذلك

ون إلى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضًا على فاعله أشد من األول، إذ هو أشرف من تلك األشياء اآلخر التي يك .فسادها سببًا لبقائه

22

Page 24: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

فاستهل أيسر الضررين، وتسامح في اخف االعتراضين، ورأى إن يأخذ من هذه األجناس إذا عدمت آيها تيسر له،

.بالقدر الذي يتبين له بعد هذا

اعل، فأما إن آانت آلها موجودة فينبغي له حينئذ إن يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في أخذه آبير اعتراض على فعل فوذلك مثل لحوم الفواآه التي قد تناهت في الطيب، وصلح ما فيها لتوليد البزر على الشرط التحفظ على ذلك البزر، .بان ال يأآله وال يفسده وال يلقيه في موضع ال يصلح للنبات، مثل الصفاة والسبخة ونحوهما

الكمثرى واألجاص ونحوها، آان له عند ذلك إن فان تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات الطعم الغاذي، آالتفاح و .يأآل آما الثمرات التي ال يغذو منها إال نفس البزر، آالجوز والقسطل، واما من البقول التي لم تصل بعد حد آمالها

.والشرط عليه في هذين ألن يقصد أآثرها وجودًا وأقواها توليدًا، وان ال يستأصل أصولها وال يفني بزرها

هذه، فله أن يأخذ من الحيوان آو من بيضه، والشرط عليه من الحيوان إن يأخذ من أآثره وجودًا، ويستأصل فان عدم .منه نوعًا بأسره

.هذا ما رأى في جنس ما يتغذى به

.واما المقدر فرأى أن يكون بحسب ما يسد خلة الجوع وال يزيد عليها

خذ حاجته من الغذاء، أن يقيم عليه وال يتعرض لسواه، حتى يلحقه واما الزمان الذي بين آل عودتين، فرأى انه إذا ا

.ضعف يقطع به بعض األعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني، وهي التي يأتي ذآرها بعد هذاإذ آان مكتسيًا : فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من خارج، فكان الخطب فيه يسيرًا

د، وقد آان له مسكن يقيه مما يرد عليه من خارج، فاآتفى بذلك ولم يرى االشتغال به، والتزم في غذائه القوانين بالجلو .التي رسمها لنفسه، وهي التي تقدم شرحها

ثم اخذ في العمل الثاني، وهو التشبه باألجسام السماوية واالقتداء بها، والتقبل أوصافها، فانحصرت عنده في ثالثة

أوصاف لها باإلضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه إياه من التسخين : الضرب األول:أضرببالذات، آو التبريد بالعرض، واإلضاءة والتلطيف والتكثيف، إلى سائر ما تفعل فيه من األمور التي بها يستعد لفيضان

.الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود

أوصاف لها في ذاتها، مثل آونها شفافة وناصعة وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس، : والضرب الثاني .ومتحرآة باالستدارة بعضها على مرآز نفسها، وبعضها على مرآز غيرها

عنه، أوصاف لها باإلضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل آونها تشاهد مشاهدة دائمة، وتعرض : والضرب الثالث

.وتتشوق إليه، وتتصرف بحكمه، وتتسخر في تتميم إرادته، وال تتحرك إال بمشيئته وفي قبضته .فجعل يتشبه بها جهده في آل من هذه االضرب الثالثة

إن ألزم نفسه إن ال يرى ذا حاجة آو عاهة آو مضرة، أو ذا عائق من الحيوان : فكان تشبه بها فيه: آما الضرب األول

.وهو يقدر على أزالتها عنه إال ويزيلهاأو النبات،

فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب آو تعلق به نبات آخر يؤذيه، أو عطش عطشًا يكاد يفسده، أزال عنه ذلك الحاجب إن آان ما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل ال يضر المؤذي، وتهده بالسقي ما

.أمكنه

على حيوان قد أرهقه سبع آو نشب به ناشب، آو تعلق به شوك، آو سقط على عينيه آو آذنيه شيء ومتى وقع بصره .يؤذيه، آو مسه ظمأ آو جوع، تكفل بإزالة ذلك آله عنه جهده واطعمه وسقاه

23

Page 25: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق، من حجر سقط فيه، آو

.نهار عليه، ازال ذلك آله عنهجرف ا

.وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية

فكان تشبهه بها فيه إن الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه واالغتسال : واما الضرب الثاني بدنه، وتطيبها بما أمكن من طيبات النبات بالماء في اآثر األوقات، وتنظيف ما آان من أظافره واسنانه ومغابن

.وصنوف الدهون العطرة، وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب حتى آان يتألأل حسنًا وجماًال ونظافة وطيبًافتارًة آان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح باآنافها، : والتزم مع ذلك ضروب الحرآة على االستدارة

آما مشيًا، آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه حتى يغشه : ، او ببعض الكدى أدوارا معدودهوتارًة آان يطوف ببيتهفكان تشبهه بها فيه، إن آان يالزم الفكرة في تلك الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع : واما الضرب الثالث. عليه

.عالئق المحسوساتروم بمبلغ طاقته إن ال يفكر في شيء سواه، وال ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، وي

.يشترك به احدًا ويستعين على ذلك باالستدارة على نفسه واالستحثاث فيها

فكان اذا اشتد في االستدارة، غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال وسائر القوى التي إلى األألت الجسمانية، فكانت في بعض األوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها - التي هي بريئة من الجسم -وقوي فعل ذاته

.الموجود الواجب الوجود، ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله، وترده إلى اسفل السافلين

.ويعود من ذي قبل، فان لحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض األغذية عن الشرائط المذآورة

.ن التشبه باألجسام السماوية باالضرب الثالثة المذآورةثم انتقل إلى شأنه م

ودأب على ذلك مدة وهو يجاهد قواه الجسمانية وتجاهده، وينازعها وتنازعه في األوقات التي يكون له عليها الظهور، .وتتخلص فكرته عن الشوب، يلوح له شيء من أحوال أهل التشبه الثالث

.في تحصيله، فينظر في صفات الموجود الواجب الوجودثم جعل يطلب التشبه الثالث، ويسعى آالعلم والقدرة : آما صفة ثبوت: وقد آان تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل، إنها على ضربين

.والحكمة

.آتنزه عن الجسمانية وعن صفات األجسام ولواحقها، وما يتعلق بها، ولو على بعد: واما صففة سلب

الثبوت يشترط فيها هذا التنزيه حتى ال يكون فيها شيء من صفات األجسام التي من جملتها الكثرة، فال وان صفات .تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية، ثم ترجع آلها إلى معنى واحد هي حقيقة ذاته

.فجعل يطلب آيف يتشبه به في آل واحد من هذين الضربين

ا راجعة إلى حقيقة ذاته، وانه ال آثرة فيها بوجه من الوجوه، إذ الكثرة من صفات آما صفات االجاب، فلما علم انها آلهاألجسام؛ وعلم إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائدًا على ذاته، بل ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له انه

فرأى إن التشبه به من ! على ذاته، بل هو هوإن أمكنه هو إن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائدًا .صفات االجاب، هو ان يعلمه فقط دون إن يشرك به شيئًا من صفات األجسام؛ فاخذ نفسه بذلك

.واما صقات السلب، فانها آلها راجعة إلى التنزه عن الجسمية

.فجعل يطرح اوصاف الجسمية عن ذاته

.دمة التي آان ينحو بها بالتشبه باألجسام السماويةوآان قد طرح منها آثيرًا في رياضته المتق

24

Page 26: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وآل االعتناء بأمر الحيوان - والحرآة من أخص صفات األجسام -آحرآة االستدارة : إال انه أبقى منها بقايا آثيرة .والنبات والرحمة لها، واالهتمام بإزالة عوائقها

.قوة جسمانية، ثم يكدح بأمرها بقوة جسمانية أيضًافان هذه أيضًا من صفات األجسام، إذ ال يراها أوًال إال ب

.فاخذ في طرح ذلك آله عن نفسه، إذ هي بجملتها مما ال يليق بهذه الحالة التي يطلبها اآلن

وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقًا، غاضًا بصره، معرضًا عن جميع المحسوسات والقوى ي الموجود الواجب الوجود وحده دون شرآه؛ فمتى سنح بخياله سانح سواه، طرده الجسمانية، مجتمع الهم والفكرة ف

عن خياله جهده، ودافعه وراض نفسه على ذلك، ودأب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة أيام ال يتغذى فيها وال .يتحرك

، فانها آانت ال تغيب عنه في وفي خالل شدة مجاهدته هذه ربما آانت تغيب عن ذآره وفكره جميع األشياء إال ذاته

.وقت استغراقه بمشاهدة الموجود األول الحق الواجب الوجود

.فكان يسوءه ذلك، ويعلم انه شوب في المشاهدة المحضة، وشرآه في المالحظةومازال يطلب الفناء عن نفسه واإلخالص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك، وغابت عن ذآره وفكره السموات

وما بينهما، وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية، وجميع القوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات واألرض العارفه بالموجود الحق؛ وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتالشى الكل واضمحل، وصار هباًء منثورًا، ولم يبقى إال

.الواحد الحق الموجود الثابت الوجود

لمن الملك اليوم هللا الواحد القهار صدق " بسم اهللا الرحمن الرحيم: "لذي ليس معنى زائدًا على ذاتهوهو يقول بقوله اواستغرق في حالته هذه . اهللا العظيم ففهم آالمه وسمع ندائه ولم يمنعه عن فهمه آونه ال يعرف الكالم، وال يتكلم

.وال خطر على قلب بشر! وشاهد ما ال عين رأت وال إذن سمعت تعلق قلبك بوصف آمر لم يخطر على قلب بشر، فان آثيرًا من األمور التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر فال

؟ ولست أعني بالقلب جسم !وصفه، فكيف بأمر ال سبيل إلى خطورة على القلب، وال هو من عالمه وال من طورهبقواها على بدن اإلنسان، فان آل واحد من هذه القلب، وال الروح التي في تجويفه بل أعني صورة تلك الروح الفائضة

الثالثة قد يقال له قلب ولكن ال سبيل لخطور ذلك اآلمر على واحد من هذه الثالثة، وال يتأتى التعبير إال عما الخطر .علها

ان، ويطلب ومن رام التعبير عن تلك الحال، فقد رام مستحيًال وهو بمنزلة من يريد أن يذوق األلوان من حيث هي األلو

.أن يكون السواد مثًال حلوًا أو حامضًالكنا، مع ذلك، ال نخيلك عن إشارات نومئ بها إلى ما شاهده من عجائب ذلك المقام، على سبيل ضرب المثل، ال على

.سبيل قرع باب الحقيقية

.إذ ال سبيل إلى التحقق بما في ذلك المقام إال بالوصول إليه

وشرطي ! حدق ييصر إلى ما أشير به اليك لعلك أن تجد منه هديًا يلقيك على جادة الطريقفأصغ اآلن بسمع قلبك، وعليك أن ال تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما أودعه هذه االوراق فان المجال ضيق، والتحكم

.باأللفاظ على آمر ليس من شأنه أن يلفظ به خطر

ن جميع وعن جميع الذوات ولم ير في الوجود إال الواحد القيوم، وشاهد ما شاهد، ثم انه لما فني عن ذاتهوع: فأقولعاد إلى مالحظة االغيار عندما آفاق من حالة تلك التي شبيه بالسكر، خطر بباله انه ال ذات له يغاير بها ذات الحق

المغايرة لذات الحق، ليس شيئًا في تعالى، وان حقيقة ذاته هي ذات الحق، وان الشيء الذي آان يظن أوًال انه ذات .الحقيقة، بل ليس ثم شيء إال ذات الحق، وان ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على األجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها

25

Page 27: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.فانه وان نسب إلى الجسم الذي يظهر فيه، فليس هو في الحقيقية شيئًا سوى نور الشمس

.ر الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبهوان زال ذلك الجسم زال نوره، وبقي نوومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور، قبله، فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول، ولك يكن له معنى، عنده هذا الظن .هابما قد بان له من إن ذات الحق، عز وجل، ال تتكثر بوجهه من الوجوه، وأن علمه بذاته، وهو ذاته بعين

.فلزم عنده من هذا أن حصل عنده العلم بذاته، فقد حصلت عنده ذاته، وقد آان حصل عنده العلم فحصلت عنده الذات .وهذه الذات ال تحصل إال عند ذاتها، ونفس حصولها هو الذات؛ فإذن هو الذات بعينها

اها أوًال آثيرة، وصارت عنده بهذا الظن وآذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقه التي آان ير

.شيئًا واحدًا

وآادت هذه الشبه ترسخ في نفسه لوال أن تدارآه اهللا برحمته وتالفاه بهدايته، فعلم إن الشبهة انما ثارت عنده من بقايا .ظلمة األجسام، وآدورة المحسوسات

فتراق، هي آلها من صفات األجسام، وتلك الذوات فان الكثير والقليل والواحد والوحدة، والجمع واالجتماع، واال

المفارقة العارفة بذات الحق، عز وجل، لبرائتها عن المادة، ال يجب إن يقال انها آثيرة، وال واحدة، الن الكثرة انما .هي مغايرة الذوات بعضها لبعض، والوحدة أيضًا ال تكون إال باالتصال

.مرآبة المتلبسة بالمادةوال يفهم شيء من ذلك إال في المعاني ال

غير إن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جدًا النك إن عبرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا .هذا، أوهم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة

.وان أنت عبرت بصيغة اإلفراد، اوهم ذلك معنى االتحاد، وهو مستحيل عليها

لقد : من يقف على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم يتحرك في سلسلة جنونه، ويقولوآأني ب

افرطت في تدقيقك حتى انك قد انخلعت عن غريزة العقالء، واطرحت حكم معقول، فان من أحكام العقل إن الشيء آما نفسه، وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو واحد واما آثير، فليتئد في غلوائه، وليكف من غرب لسانه وليتهم

أطباقه بنحو ما اعتبر به حي بن يقظان حيث آان بنظر فيه بنظر فيراه آثيرًا آثرة ال تنحصر وال تدخل تحت حد، ثم .ينظر فيه بنظر آخر، فيراه واحدًا

المحسوس منشأ الجمع واإلفراد، وفيه هذا فالعالم. وبقي في ذلك مترددًا ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون اآلخر

االنفصال واالتصال، والتحيز والمغايرة، واالتفاق واالختالف، فما ظنه بالعالم اإللهي الذي ال يقال فيه آل وال بعض، وال ينطق في أمره بلفظ من األلفاظ المسموعة، إال وتوهم فيه شيء على خالف الحقيقة، فال يعرفه إال من شاهده؛ وال

. حقيقته إال عند من حصل فيهتثبت

.حتى انخلعت عن غريزة العقالء، واطرحت حكم المعقول: واما قولهفنحن نسلم له ذلك، ونترآه مع عقله وعقالئه، فان العقل الذي يعنيه هو أمثاله، انما هو القوة الناطقة التي تتصفح

.أشخاص الموجودات المحسوسة، وتقتنص منها المعنى الكلي

ء الذين يعنيهم، هم ينظرون من هذا النظر والنمط الذي آالمنا فيه فوق هذا آله، فليسد عنه سمعه من ال يعرف والعقالوهم . يعملون ظاهرًا من الحياة الدنيا" بسم اهللا الرحمن الرحيم"سوى المحسوسات وآلياتها، وليرجع إلى فريقه الذين

.صدق اهللا العظيم. عن اآلخرة هم غافلون

ممن يقتنع بهذا النوع من التلويح واإلشارة إلى ما في العالم اإللهي، وال تحمل ألفاظًا من المعاني على ما فان آنت جرت العادة بها في تحميلها إياه، فنحن نزيدك شيئًا مما شاهده حي بن يقظان في مقام أولي الصدق الذي تقدم ذآره،

قيقة الوصول، وشاهد للفلك األعلى، الذي ال جسم له، ورأى انه بعض االستغراق المحض، والفناء التام، وح: فتقول

26

Page 28: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

فارقة من الكمال والبهاء والحسن، ما يعظم عن إن يوصف بلسان، ويدق إن يكسى بحرف آو وراى لذات ذلك الفلك الم .صوت، وراه في غاية من اللذة والسرور، والغبطة والفرح، بمشاهدة ذات الحق جل جالله

احد الحق، وال وشاهد ايضًا للفلك الذي يليه، وهو فلك الكواآب الثابتة، ذاتًا بريئة عن المادة أيضًا، ليست هي ذات الو .ذات الفلك األعلى المفارقة، وال نفسه، وال هي غيرها

وآأنها صورة الشمس التي تظهر في المرآة قد انعكست إليها من مرآة أخرى مقابلة للشمس، ورأى لهذه الذات ايضًا

.من البهاء والحسن واللذة مثل ما راى لتلك التي للفلك األعلى

هذا، وهو فلك زحل ذاتًا مفارقة للمادة ليست هي شيئًا من الدواب التي شاهدها قبله وال وشاهد ايضًا للفلك الذي يلي هي غيرها؛ وآأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من مرآة مقابلة للشمس؛ وراى لهذه .الذات ايضًا مثل ما راى آمل قبلها من البهاء واللذة

اتًا مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئًا من الذوات التي قبلها وال هي غيرها وآأنها ومازال يشاهد لكل فلك ذ .صورة الشمس التي تنعكس من مرآة على مرآة، على رتب مرتبة بحسب ترتيب األفالكلى وشاهد لكل ذات من هذه الذوات من الحسن والبهاء، واللذة والفرح، ما ال عين رأت، وال أذن سمعت، وال خطر ع

.قلب بشر

.إلى أن انتهى إلى عالم الكون والفساد، وهو جميعه حشو فلك القمر

.فرأى له ذاتًا بريئة عن المادة ليست شيئًا من الذوات التي شاهدها قبلها، وال هي سواها

ولهذه سبعون ألف وجه، في آل وجه سبعون ألف فم، في آل فم سبعون ألف لسان، يسبح بها ذات الواحد الحق،ويقدسها ويمجدها، ال يفتر؛ ورأى لهذه الذات، التي توهم فيها الكثرة وليست آثيرة، من الكمال واللذة، مثل الذي رآه

.لما قبلها

وآأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج، وقد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى .م من المرآة األولى التي قابلت الشمس بعينهاإليها االنعكاس على الترتيب المتقد

.ثم شاهد لنفسه ذاتًا مفارقة، لو جاز إن تتبعض ذات السبعين ألف وجه، لقلنا انها بعضها! ولوال اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا إنها لم تحدث! ولوال إن هذه الذات حدثت بعد إن لم تكن، لقلنا إنها هي

تًا، مثل ذاته، الجسام آانت ثم اضمحلت، والجسام لم تزل معه في الوجود، وهي من الكثرة وشاهد في هذه الرتبة ذوا .في حد بحيث ال تتناهى إن جاز أن يقال لها آثيرة، أو هي آلها متحدة إن جاز إن يقال لها واحدة

ين رأت وال أذن سمعت، وال وراى لذاته ولتلك الذوات التي في رتبته من الحسن والبهاء واللذة غير المتناهية، ما ال عوشاهد ذواتًا آثيرة مفارقة للمادة آأنها . خطر على قلب بشر، وال يصفه الواصفون، وال يعقله إال الواصلون العارفون

مرايا صدئة، قد ران عليها الخبث، وهي مع ذلك مستدبرة للمرايا الصقيلة التي ارتسمت فيها صورة الشمس، ومولية هذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم بباله قط؛ وراها في أالم ال تنقضي، وحسرات ال عنها بوجوهها، وراى ل

.تنمحي؛ قد أحاط بها سرادق العذاب، وأحرقتها نار الحجاب، ونشرت بمناشير بين االنزعاج واالنجذاب

لنظر إليها، فرأى هوًال عظيمًا وشاهد هنا ذواتًا سوى هذه المعذبة تلوح ثم تضمحل، وتنعقد ثم تنحل، فتثبت فيها وأنعم ا .وخطبًا جسيمًا، وخلقًا حثيثًا، وأحكامًا بليغة، وتسوية ونفخًا وإنشاء ونسخًا

فما هو إال إن تثبت قليًال، فعادت إليه حواسه، وتنبه من حاله تلك التي آانت شبيهة بالغشي، وزلت قدمه عن ذلك إذ لم يكن اجتماعهما في حال واحدة، إذ األخرى والدنيا : اإللهيالمقام، والح له العالم المحسوس، وغاب عنه العالم

آضرتين، إن أرضيت احدهما أسخطت األخرى، فان قلت يظهر مما حكيته من هذه المشاهدة، إن الذوات المفارقة إن لحيوان آانت لجسم دائم الوجود ال يفسد، آاألفالك، آانت هي دائمة الوجود؛ وان آانت لجسم يؤول إلى الفساد آا

الناطق، فسدت هي واضمحلت وتالشت، حسبما مثلث به في المرايا االنعكاس، فان الصورة ال ثبات لها إال ثبات ما ألسرع ما نسيت العهد، وحلت عن : بثبات المرآة، فإذا فسدت المرآة صح فساد الصورة واضمحلت هي؛ فأقول لك

27

Page 29: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

واما الذوات اإللهية، واألرواح الربانية، فانها آلها بريئة عن األجسام ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها، فال ارتباط

ألجسام أو ثبوتها، ووجودها أو عدمها؛ وانما ارتباطها وتعلقها بذات وال تعلق لها بها، وسواء باإلضافة إليها بطالن االواحد الحق الموجود الواجب الوجود، الذي هو أولها ومبدؤها وسببها وموجدها، وهو يعطيها الدوام ويمدها بالبقاء .والتسرمد؛ وال حاجة بها إلى األجسام بل األجسام المحتاجة إليها

تعالى وتقدس عن ذلك؛ -سام فانها هي مبديها، آما انه لو جاز إن تعدم ذات الواحد الحق ولو جاز عدمها لعدمت األج لعدمت هذه الذوات آلها، ولعدمت األجسام، ولعدم العالم الحسي بآسره، ولم يبق موجود، إذ الكل -! ال اله إال هو

.مرتبط بعضه ببعض

الظل له؛ والعالم اإللهي مستغن عنه وبريء منه فانه مع ذلك قد والعالم المحسوس وان آان تابعًا للعالم اإللهي، شبيه يستحيل فرض عدمه، إذ هو ال محالة تابع للعالم اإللهي، وانما فساده إن يبدل، ال إن يعدم بالجملة، وبذلك نطق الكتاب .العزيز حيثما وقع هذا المعنى منه في تسيير الجبال وتسييرها آالعهن والناس آالفراش

.الشمس والقمر، وتفجيرالبحار يوم تبدل االرض غير األرض والسمواتوتكوير فهذا القدر هو الذي امكنني اآلن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان في ذلك المقام الكريم فال تلتمس الزيادة

.عليه من جهة األلفاظ فان ذلك آالمعتذر

وهو انه لما عاد إلى العالم المحسوس، وذلك بعد جوال نه حيث : ى فسأتلوه عليك إن شاء اهللا تعال-واما تمام خبره جال، سئم تكاليف الحياة الدنيا، واشتد شوقه إلى الحياة الدنيا، واشتد شوقه إلى الحياة القصوى، فجعل يطلب العود إلى

فيه ثانيًا مدة أطول من ذلك المقام بالنحو الذي طلبه أوًال حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أوًال ودام .األولى

.ثم عاد إلى عالم الحس

.ثم تكلف الوصول إلى مقامه بعد ذلك فكان ايسر عليه من األولى والثانية وآان دوامه أطول

وما زال الوصول إلى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة، والدوام يزيد فيه طوًال مدة بعد مدة، حتى صار يصل إليه

وال ينفصل عنه إال متى شاء؛ فكان يالزم مقامه ذلك وال ينثني عنه إال لضرورة بدنه التي آان قد قللها، متى شاء، وهو في آل ذلك آله يريد إن يريحه اهللا عز وجل من آل بدنه الذي يدعوه إلى مفارقة . حتى آان ال يوجد اقل منها

من األلم عند األعراض عن مقامه ذلك إلى ضرورة مقامه ذلك، فيتخلص إلى لذته تخلصًا دائمًا، ويبرأ عما يجده .البدن

.وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه وذلك خمسون عامًا

.وحينئذ اتفقت له صحبة أسال وآان من قصته معه ما يأتي ذآره بعد هذا إن شاء اهللا تعالى

ي بن يقظان على أحد القولين المختلفين على صفة مبدئه، انتقلت إن جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها ح: ذآروا

.إليه ملة من الملل الصحيحة الماخوذه على بعض األنبياء المتقدمين، صلوات اهللا عليهموآانت ملة محاآية لجميع الموجودات الحقيقية باألمثال المضروبة التي خياالت تلك األشياء، وتثبت رسومها في

رت به العادة في مخاطبة الجمهور؛ فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة وتقوى وتظهر، حتى النفوس، حسبما ج .قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها

28

Page 30: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وآان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى أحدهما أسال واآلخر سالمان فتلقيا هذه الملة وقبالها احسن

.ى بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع أعمالها، واصطحبا على ذلكقبول، واخذ على أنفسهما علوآانا يتفقهان في بعض األوقات فيما ورد من ألفاظ تلك الشريعة في صفة اهللا عز وجل ومالئكته، وصفات الميعاد

.والثواب والعقاب .ة واطمع في التأويلفأما أسال فكان أشد غوصًا على الباطن، وأآثر عثورًا على المعاني الروحاني

واما سالمان صاحبه فكان أآثر احتفاظًا بالظاهر، وأشد بعدًا عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل؛ وآالهما مجد .في األعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى

يهما؛ واقوال أخر تحمل على وآان في تلك الشريعة أقوال تحمل عن العزلة واالنفراد، وتدل على إن الفوز والنجاة ف

.المعاشرة ومالزمة الجماعة

فتعلق أسال بطلب العزلة، ورجح القول فيها لما آان في طباعه من دوام الفكرة، ومالزمة العبرة، والغوص على .المعاني، وأآثر ما آان يتأتى له أمله من ذلك باالنفراد

.ا آان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرفوتعلق سالمان بمالزمة الجماعة، ورجح القول فيها لم

.فكانت مالزمته الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس، ويزيل الظنون المعترضة ويعيد من همزات الشياطين

.وآان اختالفهما في هذا الرأي سبب افتراقهما

الخصب والمرافق والهواء وآان أسال قد سمع عن الجزيرة التي ذآر أن حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من

.المعتدل، وان االنفراد بها يتأتى لملتمسه، فأجمع إن يرتحل إليها ويعتزل الناس بها بقية عمره

فجمع ما آان له من المال، واشترى ببعضه مرآبًا تحمله إلى تلك الجزيرة، وفرق باقيه على المساآين، وودع صاحبه . إلى تلك الجزيرة؛ ووضعوه بساحلها؛ وانفصلوا عنهاسالمان ورآب متن البحر؛ فحمله المالحون

فبقي أسال بتلك الجزيرة يعبد اهللا عز وجل؛ ويعظمه ويقدسه؛ ويفكر في اسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فال ينقطع .خاطره؛ وال تتكدر فكرته

.واذا احتاج إلى غذاء تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد بها جوعته

. على تلك الحال مدة وهو في أتم غبطة وأعظم أنس بمناجاة ربهوأقام

.وآان آل يوم يشاهد من ألطافه ومزايا تحفة وتيسره عليه في مطلبه وغذائه ما يثبت يقينه ويقر عينه

بوع وآان في تلك المدة حي بن يقظان شديد االستغراق في مقاماته الكريمة؛ فكان ال يبرح عن مغارته إال مرة في االس

لتناول ما سنح من الغذاء، فلذلك لم يعثر عليه أسال ألول وهلة، بل آان يتطوف بأآناف تلك الجزيرة ويسبح في أرجائها، فال يرى أنسيًا وال يشاهد أثرًا فيزيد بذلك أنسه وتنبسط نفسه لما آان قد عزم عليه من التناهي في طلب

.العزلة واالنفراد

وقات إن خرج حي بن يقظان اللتماس غذائه وأسال قد ألم بتلك الجهة، فوقع بصر آل إلى إن اتفق في بعض تلك األ .منهما على اآلخر

.فإما أسال فلم يشك أنه من العباد المنقطعين، وصل تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس آما وصل هو إليها

.ينه وبين أملهفخشي إن هو تعرض له وتعرف به إن يكون سببًا في فساد حاله وعائقًا ب

29

Page 31: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

.واما حي بن يقظان فلم يدر ما هو، النه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي آان قد عاينها قبل ذلك

.وآان عليه مدرعة سوداء من الشعر والصوف، فظن إنها لباس طبيعي

قظان أثره لما آان في طباعه وولى أسال هاربًا منه خيفة أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن ي. فوقف يتعجب منه مليًا .من البحث عن الحقائق

.فلما رآه يشتد في الهرب

.خنس عنه وتوارى له، حتى ظن أسال انه قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة

.فشرع أسال في الصالة والقراءة، والدعاء والبكاء، والتضرع والتواجد، حتى شغله ذلك عن آل شيء

منه قليًال قليًال، وأسال ال يشعر به حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد فجعل حي بن يقظان يتقرب

.خضوعه وبكائه

.فسمع صوتًا حسنًا وحروف منظمة، لم يعهد مثلها من شيء من أصناف الحيوان

وانما هي لباس ونظر إلى أشكاله وتخطيطه فرآه على صورته، وتبين له أن المدرعة التي عليه ليست جلدًا طبيعيًا،متخذ مثل لباسه هو، ولما رأى حسن خشوعه وتضرعه وبكائه لم يشك في انه من الذوات العارفة بالحق؛ فتشوق إليه واراد إن يرى ما عنده، وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه؛ فزاد في الدنو منه حتى أحس به أسال؛ فاشتد في العدو،

فالتزمه وقبض - لما آان أعطاه اهللا من القوة والبسطة في العلم والجسم - واشتد حي بن يقظان في أثره حتى التحق به .عليه؛ ولم يمكنه من البراح

فلما نظر إليه أسال وهو مكتس بجلود الحيوان ذوات االوبار؛ وشعره قد طال حتى جلل آثيرًا منه، ورأى ما عنده من

عطفه ويرغب إليه بكالم ال يفهمه حي بن يقظان وال يدري سرعة العدو وقوة البطش، فرق منه فرقًا شديدًا، وجعل يست .ما هو، غير أنه يميز فيه شمائل الجزع

.فكان يؤنسه بأصوات آان قد تعلمها من الحيوانات، ويجر يده على رأسه، ويمسح أعطافه

.ويتملق إليه، ويظهر البشر والفرح به

.حتى سكن جأش أسال وعلم أنه ال يريد به سوءًا

.أسال قديمًا لمحبته في علم التأويلآان

.قد تعلم أآثر األلسن، ومهر فيها

فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه ويعالج أفهامه فال يستطيع، وحي بن يقظان في ذلك آله

.يتعجب مما يسمع وال يدري ما هو

.غير أنه يظهر له البشر والقبول

.ا أمر صاحبهفاستغرب آل واحد منهم

30

Page 32: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

وآان عند أسال من زاد آان قد اصطحبه من الجزيرة المعمورة، فقربه إلى حي بن يقظان فلم يدر ما هو، النه لم يكن .شاهده قبل ذلك

فأآل منه أسال وأشار إليه ليأآل ففكر حي بن يقظان فيما آان ألزم نفسه من الشروط لتناول الغذاء، ولم يدر اصل ذلك

.فامتنع عن اآلآل! له ما هو، وهل يجوز له تناوله أم الالشيء الذي قدم

.ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه

.وقد آان اولع به حي بن يقظان فخشي إن دام على امتناعه إن يوحشه، فاقدم على ذلك الزاد وأآل منهه، وأراد االنفصال عن أسال فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط غذاء، وندم على فعل .واإلقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى مقامه الكريم، فلما تتأت له المشاهدة بسرعة

فرأى أن يقيم مع أسال في عالم الحس حتى يقف على حقيقة شأنه، وال يبقي في نفسه هو نزوع إليه، وينصرف بعد

.ذلك إلى مقامه دون إن يشغله شاغل

ولما رأى أسال أيضًا انه ال يتكلم، آمن من غلوائه على دينه، ورجا أن يعلمه الكالم والعلم والدين، فالتزم صحبة أسال .فيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى عند اهللا

فشرع أسال في تعليمه الكالم أوًال بأن آان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه ويحمله

.ق بها مقترنًا باالشارة، حتى علمه األسماء آلها، ودرجه قليًال قليًال حتى تكلم في أقرب مدةعلى النطق، فينط

فجعل أسال يسأله عن شأنه ومن أين صار إلى تلك الجزيرة، فأعلمه حي بن يقظان انه ال يدري لنفسه ابتداء وال أبًا .ى بالمعرفة، حتى انتهى إلى درجة الوصولوال أمًا أآثر من الظبية التي ربته، ووصف له شأنه آله وآيف ترق

فلما سمع أسال منه وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس العارفة بذات الحق عز وجل، ووصفه ذلك الحق تعالى وجل بأوصافه الحسنى، ووصف له ما أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وأالم

ل في أن جميع األشياء التي وردت في شريعته من أمر اهللا عز وجل، ومالئكته، وآتبه، المحجوبين، لم يشك أساورسله، واليوم اآلخر، وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خطره

ي الشرع إال تبين له، وال مغلق إال وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل فوعند ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير، . انفتح، وال غامض إال اتضح، وصار من أولى األلباب

.وتحقق عنده أنه من أولياء اهللا الذين ال خوف عليهم وال هم يحزنون

.مال الشرعية التي قد تعلمها في ملتهفالتزم خدمته واالقتداء به بإشارته فيما تعارض عنده من األعوجعل حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه، فجعل أسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من العالم، وآيف آانت

.سيرهم قبل وصول الملة اليهم

نار، وآيف هي اآلن بعد وصولها إليهم، وصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم اإللهي، والجنة وال .والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط

.ففهم حي بن يقظان ذلك آله ولم ير فيه شيء على خالف ما شاهده في مقامه الكريمفعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به محق في وصفه، صادق في قوله، ورسول من عند ربه؛ فأمن به وصدقه وشهد

.برسالته

من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصالة والزآاة، والصيام والحج، وما ثم جاء يسأله عما جاء به .أشبهها من األعمال الظاهرة؛ فتلقى ذلك والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه امتثاًال لآلمر الذي صح عنده صدق قوله

ما ضرب هذا الرسول األمثال ل-أحدهما : إال انه بقي في نفسه أمران آان يتعجب منهما وال يدري وجه الحكمة فيهما

31

Page 33: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

ها، والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان آالزآاة وتشعب: وآان يرى ما في الشرع من األحكام في أمر األموال

إن الناس لو فهموا اآلمر على حقيقته العرضوا عن هذه البواطل، وأقبلو على : يستغرب هذا آله ويراه تطويًال، ويقولالحق، واستغنوا عن هذا آله، ولم يكن الحد اختصاص بمال يسأل عن زآاته، أو تقطع األيدي على سرقته، أو تذهب

.س على أخذه مجاهرةالنفو

وآان الذي أوقعه في ذلك ظنه، أن الناس آلهم ذوو فطر فائقة، وأذهان ثاقبة، ونفوس عازمة، ولم يكن يدري ما هم .عليه من البالدة والنقص، وسوء الرأي وضعف العزم، وأنهم آاألنعام بل هم أضل سبيًال

يديه، حدثت له النية في الوصول إليهم، وإيضاح الحق فلما اشتد إشفاقه على الناس، وطمع أن تكون نجاتهم على

هل تمكنه حيلة في الوصول اليهم؟ فأعلمه بما هم فيه من نقص : لديهم، وتبييه لهم ففاوض في ذلك صاحبه أسال وسأله .الفطرة واألعراض عن آمر اهللا فلم يتأت له فهم ذلك، وبقي في نفسه تعلق بما آان قد أمله

ن يهدي اهللا على يديه طائفة من معارفه المريدين الذين آانوا أقرب من التخلص من سواهم، وطمع أسال أيضًا أ

فساعده على رأيه، ورأيا أن يلتزما ساحل البحر وال يفارقاه ليًال وال نهارًا، لعل اهللا إن السني لهما عبور البحر فالتزما .ذلك وابتهال اهللا تعالى أن يهيء لهما من أمرهما رشدًأ

.ن من أمر اهللا عز وجل أن سفينة ضلت مسلكها، ودفعها الرياح وتالطم األمواج إلى ساحلهافكا

.فلما قربت من البر رأى أهلها الرجلين على الشاطئفدنوا منها فكلمهم أسال وسألهم أن يحملوهما معهم، فأجابوهما إلى ذلك، وأدخلوهما السفينة، فأرسل اهللا إليهم ريحًا

نة في أقرب مدة إلى الجزيرة التي أمالها فنزال بها، ودخال مدينتها، واجتمع أصحاب أسال به، رخاء حملت السفيفعرفهم شأن حي بن يقظان، فاشتملوا عليه شديدًا وأآبروا آمره، واجتمعوا إليه واعظموه وبجلوه، وأعلمه أسال أن تلك

لناس، وانه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الطائفة هم أن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذآاء من جميع ا .الجمهور أعجز

وآان رأس تلك الجزيرة سالمان وهو صاحب أسال الذي آان يراه مالزمة الجماعة، ويقول بتحريم العزلة، فشرع

فما هو إال أن ترقى عن الظاهر قليًال وأخذ في وصف ما سبق. حي بن يقظان في تعليمهم وبث أسرار الحكمة إليهمإلى فهمهم خالفه، فجعلوا ينقبضون منه وتشمئز نفوسهم مما يأتي به، ويتسخطونه بقلوبهم، وان اظهروا له الرضا في

وما زال حي بن يقظان يستلطفهم ليًال ونهارًا، ويبن لهم ! وجهه اآرامًا لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم أسالفارًا، مع أنهم آانوا محبين للخير، راغبين في الحق، إال انهم لنقص الحق سرًا وجهارًا، فال يزيدهم ذلك إال نبوًأ ون

فطرتهم آانوا ال يطلبون الحق من طريقة وال يأخذونه لجهة تحقيقه، وال يلتمسونه من بابه، بل آانوا ال يريدون .معرفته من طريق أربابه

.فيأس من أصالحهم، وانقطع رجائه من صالحهم لقلة قبولهم

الناس بعد ذلك، فرأى آل حزب بما لديهم فرحون، قد اتخذوا ألههم هواهم، ومعبودهم شهواتهم، وتصفح طبقات

وتهالكوا في جميع حطام الدنيا، ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر، ال تنجح فيهم الموعظة وال تعمل فيهم الكلمة .الحسنة، وال يزدادون بالجدل إال إصرارا

32

Page 34: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

إليها، وال حظ لهم منه، قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما يكسبون ختم اهللا على واما الحكمة فال سبيل لهم

.قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوًة ولهم عذاب عظيم

ال يتمسكون من ملتهم - إال اليسير -فلما رأى سرادق العذاب قد أحاط بهم، الظالمات الحجب قد تغشتهم، والكل منهم وقد نبذوا أعمالهم على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمنًا قليًال، وألهاهم عن ذآر اهللا تعالى إال بالدنيا،

التجارة والبيع، ولم يخافوا يومًا تنقلب فيه القلوب واالبصار، ألن له وتحقق على القطع، أن مخاطبتهم بطريق ال يتفق، وأن حظ أآثر الجمهور من االنتفاع بالشريعة إنما هو المكاشفة ال تمكن وأن تكليفهم من العمل فوق هذا القدر

في حياتهم الدنيا ال يستقيم له معاشه، وال يتعدى عليه سواه فيما اختص هو به، وانه ال يفوز منه بالسعادة األخروية إال .الشاذ النادر، وهو من أراد حرث اآلخرة وسعى لها سعيًا وهو مؤمن

الدنيا فان الجحيم هي المأوى، وأي تعب أعظم وشقاوًة أطم ممن إذا تصفحت أعماله من واما من طغى وأثر الحياةوقت انتباهه من نومه إلى حين رجوعه إلى الكره ال تجد منها شيئًا إال وهو يلتمس به تحصيل غايًة من هذه األمور

فه به أو جاه يحرزه أو عمل من أعمال المحسوسة الخسيسة آما مال يجمعه أو لذة ينالها أو شهوة يقضيها أو غيطًا يتشالشرع يتزين به أو يدافع عن رقبته، وهي آلها ظلمات بعضها فوق بعض في بحر لجي وان منكم إال واردها آان

.على ربك حتمًا مقضيًا

نطقت به فلما فهم أحوال الناس وان أآثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق علم أن الحكمة آلها والهداية والتوفيق فيما بسم "الرسل ووردت به الشريعة ال يمكن غير ذلك وال يحتمل المزيد عليه ولكل عمل رجال وآل ميسر لما خلق له

.سنة اهللا التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة اهللا تبديًال صدق اهللا العظيم" اهللا الرحمن الرحيمليهم منه وأعلمهم أنه قد رآه مثل رأيهم واهتدى بمثل فانصرف إلى سالمان وأصحابه، فاعتذر عما تكلم به معه وتبرأ إ

هديهم، وأوصاهم بمالزمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع واألعمال الظاهرة مقلة الخوض فيما ال يعنيهم، واإليمان بالمتشابهات والتسليم لها، واألعراض عن البدع واألهواء واالقتداء بالسلف الصالح والترك لمحدثات

، وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشريعة واإلقبال على الدنيا، وحذرهم عنه غاية التحذير، األموروعلم هو وصاحبه أسال أن هذه الطائفة المريدة القاصرة ال نجات لها إال بهذا الطريق، وأنها إن رفعت عنه إلى يفاع

.جة السعداء وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتهااالستبصار اختل ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدر

وان هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين فازت باآلمن وآانت من أصحاب اليمين، والسابقون السابقون .أولئك المقربون

.فو دعاهم وانفصال عنهم وتلطفا في العود إلى جزيرتهما حتى يسر اهللا عز وجل عليهما العبور إليها

حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أوًال حتى عاد إليه، واقتدى به أسال حتى قرب من أو آاد وعبدا وطلب .اهللا في تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين

ما آان من نبأ حي بن يقظان وأسال وسالمان وقد أشتمل على حظ من الكالم ال - أيدنا اهللا وأياك بروح منه -هذا

تاب وال يسمع في معتاد خطاب، وهو من العلم المكنون الذي ال يقبله إال أهل المعرفة باهللا، وال يجهله إال يوجد في آ .أهل الغرة باهللا

.وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانا به والشح عليه

ده نبغت بها متفلسفة العصر إال أن الذي سهل علينا إفشاء هذا السر وهتك الحجاب، ما ظهر في زماننا من أراء فاس

وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان وعما ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد األنبياء صلوات اهللا عليهم، وارادوا تقليد السفهاء واألغبياء أن يظنوا أن تلك اآلراء هي األسرار المضنون بها على غير أهلها، فيزيد بذلك

.فيهاحبهم فيها وولعهم .فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر األسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدهم عن ذلك الطريق

ولم نخل مع ذلك ما أودعناه هذه األوراق اليسيره من األسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعًا لمن هو .أهله، ويتكاثف لمن ال يستحق تجاوزه حتى ال يتعداه

33

Page 35: حي بن يقظان - al-hakawati.la.utexas.edual-hakawati.la.utexas.edu/pdfs/books3/28.pdf · نﺎﻈﻘﻳ ﻦﺑ ﻲﺣ ﻞﻴﻔﻃ ﻦﺑا ﺪﻟﻮﺘﻳ ﻲﺘﻟا ةﺮﻳﺰﺠﻟا

34

إخواني الواقفين على هذا الكالم، أن يقبلو عذري فيما تسائلت في تبينه وتسامحت في تثبيته، فلم أفعل ذلك وأنا أسئل

.إال ألني تسمنت شواهق يزل الطرف عن مرآها

.وأردت تقريب الكالم فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق

. به الصفو، انه منعم آريموأسأل اهللا التجاوز والعفو، وأن يوردنا من المعرفة .والسالم عليك أيها األخ المفترض إسعافه ورحمت اهللا وبرآاته