"العـظيم النبــأ"كتبه

سليمان مصطفي محمد الحبيب

الكتاب فهرس2...................................................................................الكتاب تعريف

2................................................................................"العـظيم النبــأ"4...................................................السماوية الكتب - بشارات األول الفصل9............................................................................المتشابهات تأويل

19............................................................................وعيسى المهدي33.................................................................................النبيين خاتم

44....................................................................وعيسى المهدي ظهور52..........................................................واحد نورها - سرج الثاني الفصل

55.....................................................................الله كتاب في التوحيد59........................................................................ونذير ومبشر شاهد65...............................................................................اإلسالم معنى73.................................السماوية الكتب في والتشبيه - التمثيل الثالث الفصل

78..............................................................................والحياة الموت84............................................................................والساعة القيامة95......................................................................................الميزان99........................................................................والكواكب الشمس

105...........................................................التجديد - دواعي الرابع الفصل108..................................................................الله بهاء حضرة رسالة

118...................................................الله بهاء حضرة أعلنها التي المبادئ

1

تعريف الكتاب"النبــأ العـظيم"

ة جميعا ﴿ ه العز ة فلل ﴾من كان يريد العز

(١٠)سورة فاطر، اآلية

الدين البهائي هو أقرب األديان الســماوية عهــدا، ويشــترك معهــاــه دين مســتقل لــه كتبــه أساســا في الــدعوة إلى التوحيــد، ولكن المقدسة ومبادئه وأحكامه. والبهائيون هم أتباع حضرة بهاء الله، مؤسس هذا الدين، ويؤمنون أن حضرته هو رسول من الله بعث ليلبي احتياجات عصر بلغت فيــه اإلنســانية مرحلــة النضــج، وأنــه صاحب ظهور إلهي حقق الوعــود كلهــا الــتي جــاءت بهــا األديــان

السابقة. لقد تعددت األذكار في الكتب السماوية في وصف رجعة موعود منتظر يــأتي إلصــالح الــدين وتجديــده وإلصــالح العــالم ومحاربــة الشر، وليمأل األرض عدال بعد أن امتألت جــورا. يــؤمن البهــائيون أن حضرة بهاءالله هو مظهر الله في زمن تحققت فيــه الوعــود،ه "مشتهى كل األمم" وهو الذي وعدت به كل الكتب السابقة: إن و"ملك المجد".وهو "رب الجنود" بالنسبة لبني إسرائيل، وعــودة "السيد المسيح في مجد أبيه" بالنســبة للعــالم المســيحي، وهــو "النبأ العظيم" بالنسبة للمســلمين، وهــو "ميــترا بــوذا" بالنســبةد "كريشنا الجديد" بالنسبة للهندوسيين، ومجيء للبوذيين، وتجس

"شاه بهرام" بالنسبة للزردشتيين.

2

واستجابة لالهتمام المتزايد بالبهائية والبهائيين، جرى تطوير هــذاــاد الموقع ليقدم للمهتمين وجهة النظر البهائية عن أســباب اعتق البهائيين بأن النبأ العظيم الذي اختلف فيه الناس إنما هو مجيء

حضرة بهاءالله. الســيد محمــد مصــطفي كــاتب هــذه المقــاالت هــو المغفــور له

، وهو بهائي، وضعها في كتابه "النبأ العظيم" الــذي ألفــهسليمان أصال باللغة اإلنجليزية بغيــة إعانــة إخوانــه من البهــائيين من غــير النــاطقين بالعربيــة ليتعرفــوا على مــا ذكــر في القــرآن الكــريم والحديث الشريف عن هذا اليوم العظيم. نقتبس هنا فقرات من كتابه مترجمة إلى اللغة العربية، نأمــل أن يســتفيد منهــا القــارئ البهائي والباحث المهتم بمعرفــة وجهــة النظــر البهائيــة في هــذاــرام إلى االطالع الموضوع. وفي الوقت نفسه ندعو القارئين الك على المعتقدات والســنن البهائيــة الــتي تتضــمنها اآلثــار الكتابيــةــع ــة المراج ــع "مكتب ــة في موق ــل وضــوح والمدرج ــة بك البهائي

البهائية" والمنشورة في كتب بلغات مختلفة في أنحاء العالم.

3

الفصل األول - بشارات الكتب السماوية الكتب اإللهية هي مشارق الهداية الــتي يســتمد منهــا المؤمنــون القيم والشرائع والمعــارف الــتي تعينهم على تنظيم مجتمعــاتهم على نحو يكفل للبشــر األمن والســعادة والتقــدم الحضــاري في

.دنياهم، ويكلل آخرتهم برضوان من الله ومغفرة ولهذا وجه أتباع كل دين اهتماما خاصــا لدراســة نصــوص كتــابهمــاطوا دراســتها بســياج من الحيطــة ليضــمنوا أن ــدس وأح المق

. ومــع هــذا الحــرصفهمهم لمعاني آياته جاء مطابقــا لمــراد الله وتــوفر حســن القصــد لبلــوغ مــراد اللــه لم يكن نجــاح الشــراحــا؛ فقــد اختلــف فهمهم، وتضــاربت آراؤهم، رين إال جزئي والمفســب للــرأي فطمس الخالف والتحزب وجه الحقيقة، وطغى التعصــــذاهب، ــددت الم ــرق وتع ــثرت الف ــل، فك ــاف والتعق على اإلنص

.واستشاط في العداء أتباعها وفضــال عن الفرقــة والنفــور واالنقســام بين أهــل الــدين الواحــد أحال بعض الكهنة والمفسرين شرح آيــات الكتب المقدســة إلى

ــولهم ــد رس ــالحق بع ــه ب ــذيب من بعثهم الل ــهدأدوات لتك . ويش التاريخ أن أكثر المعترضــين على الرســاالت اإللهيــة كــانوا كهنــة وعلماء األمم السابقة عليها، معتمدين في اعتراضهم على تأويل

. فبشارات مجيء الرسل الالحقين لمما لديهم من آيات الكتاب ترد في أي كتاب سماوي صريحة ومحددة، بل جاءت تورية وفي معــاريض الكالم بالء للنــاس، فســهل ذلــك تحريــف الكلم عن

4

رف المعــاني الجاريــة لأللفــاظ إلى معــان بديلــة مواضــعه، وصــــود ــا المقص ــرون أنه ــترض المفس ــوداف ــتبدلت وع ــذا اس . وهك

ــه وعالمات مجيء الرسل المقبلة بفروض وتصورات ما أنزل الل . وتحول ما أنــزل في الكتب المقدســة من هــدىبها من سلطان

ــرهم ــيرة في أم ــاد ح ــد العب ــة تزي ــاد وبشــرى لهم إلى فتن .للعب فالتأويل ضرب من الظن، وال يعلم مــراد اللــه على وجــه اليقين

.إال من أوحي إليه هذا المراد، وتوفر لديه حسن القصد ولعل هذا أحد األسباب التي من أجلها حذر الله الناس من تأويل

. وألنهم لم يلــتزموا بالتحذيـــر اإللهي ازدادتاآليات المتشــابهات الفرقة، وكثرت الشيع واألحــزاب، وتعــددت الطــرق ممــا أصــاب وحدة األمة في الصميم، وزاد الوضع سوءا ما شاع من أحــاديثــه عليهم وهي ليســت بشــيء ــبت إلى الرســل صــلوات الل .نس والشيع واألحــزاب، كبيرهــا وصــغيرها، وقــديمها وحــديثها، وجدت واستقرت على حساب صفاء الفكر الــديني، وتكاثرهــا المســتمر جعل إصالح الحــال ضــرورة احتلت تفكــير المصــلحين، القــدامى

منهم والمعاصرين. فدعا فريــق إلى عمـل تفسـير جديـد للقـرآن الكــريم، واشـترط فريق آخر أن يكون هذا التفسير قاصرا على المبادئ والتعـاليم، ونادى فريق آخــر بفصــل الديـــن عن الدولــة، ودعــا غــيرهم إلى

. وما زال النقاش دائرا إلى يومنا بدون نتيجةتجديد الفكر الدينيعملية.

5

وقد بذلت محاوالت عدة في القرن العشرين إلصالح شأن األمةــذلك اإلسالمية وإعادة الوحدة إلى العالم اإلسالمي، وكان ال بد ليع المتعــددة أو التقــريب فيمــا بينهــا من توحيــد المــذاهب والشــ باعتبارها العـامل األول في إيجــاد الفـــرقة واالنقســام، وعقــدتــا انتهت ــذاهب، ولكنه ــريب بين الم ــدوات للتقـ ــؤتمرات والن الم بدون الوصول إلى النتيجة المرجوة لتمسك كل فريق بما ورثوه

من آراء عن أسالفهم. كما ظهرت دعوات ملحة إلى تفاســير جديـــدة للقــرآن الكــريم، وتجديد للخطــاب الــديني تجاوبــا مــع الشــعور العــام الــذي يــرى ضــرورة إزالــة الشــبهات الــتي وقعت فيهــا التفاســير التقليديــةــاب وتناقضها مع الثابت من العلوم الحديثة، مما حــدا ببعض الكتـرين من غــير المحــترفين لشـؤون الـدين أن يـدخلوا إلى والمفك

كون بالتفاســيريســتنكرهميــدان التفســير، األمــر الــذي المتمســ . فأضــحت محــاوالت اإلصــالح عــامال إضــافيا في زيــادةالتقليدية

االنقسام والجدال.ــاؤالت وفكرة إيجاد تفاسير جديدة ال تخلو من مشاكل أثارت تس

ــية لها ــات مرض ــود إلجاب ــذينال وج ــاؤل عن ال ــك التس . من ذل . فهــل من الحكمــة أن تســتأثر بــهسيتصدون لهذا العمل الجليل

جهة معينة أم يكون باب االجتهاد مفتوحــا لكــل من شــاء الولــوجــد ــرأي إلى تحديـ ــد؟ وإن انتهى الـ ــير الجديـ ــدان التفسـ إلى ميـ المتصدين لهذا التفسير الجديد فمن - بعــد اللــه ورســله - يملــك

. ســؤاالن ال بــد منحــق تعــيين المــؤهلين لهــذا العمــل الخطــير

6

مواجهتهما بشجاعة ألن الــذين يشــغلون مراكــز القيــادة الدينيــةــه، ــالعين في ــديني أو الض ــر ال ــرورة من رواد الفك ــوا بالض ليس وأكثرهم ال يؤيــد إطالق الحريــة للمتصــدين للتفســير في اختيــار

المناهج والموازين التي يتبعونها. هناك من يبحثون بصـدق عن الحقيقـة الـتي طمسـتها الخالفـاتــتعثر ــواب، ولكن تـ ــا األب ــب في وجهه ــق التعص ــة وأغل المذهبيــاهيم والتقاليـــد ــا تمســـكهم بالمفـ خطـــاهم في الوصـــول إليهـ الموروثــة، بينمــا ينــادي أئمــة الفكــر المتفتح بــأن البحث الجــدي الصحيح المؤدي إلى نتائج يعتــد بهــا يتوقــف على االســتقالل في

.التفكير، وسالمة المنهج الذي يعتمد عليه الباحث في دراسته والمنهج الذي يوصون به يحتم "أن يتجرد الباحث من كــل شــيء كان يعلمه من قبل، وأن يتقبل موضوع بحثه خــالي الــذهن ممــا

. والناس جميعا يعلمــون أن هــذا المنهج الــذيقيل فيه خلوا تاما سخط عليه أنصار القــديم في الــدين والفلســفة يــوم ظهــر، قــد كان من أخصب المنــاهج وأقواهــا وأحســنها أثــرا، وأنــه قــد جــدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غــير مــذاهب األدبــاء في أدبهم، والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز بـه هـذا العصـر الحــديث" نعم! يجب حين نســتقبل البحث "أن ننســى عواطفنــاـة وكـل مــا القومية وكل مشخصاتها، وأن ننســى عواطفنـا الدينيــة؛ ــة والديني يتصل بها، وأن ننسى ما يضاد هذه العواطــف القومي يجب أال نتقيد بشيء وال نــذعن لشــيء إال منــاهج البحث العلمي

ــا إذا لم ننس هــذه العواطــف ومــا يتصــل بهــاالصــحيح . ذلــك أن

7

فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطــف، وســنغل عقولنــا بمــا . وهل فعل القدماء غــير هــذا؟ وهــل أفســد علم القــدماءيالئمها

1شيء غير هذا؟"

وهل أضل األمم السابقة وأبعدهم عن رساالت الله عــبر التــاريخ غير رفضهم قطع الصلة الفكرية والعاطفية بالمــأثور والمــألوف،ب والميــل إلى المــوروث؟ ولــو اتخــذوا والتحرر من قيود التعصــ هذا التجرد منهاجا إبان مراحل التجديـد الـديني الـتي جــاءت بهـا األنبياء والرســل، لمــا أعرضــوا عن هــذه الرســاالت الــتي كــانت

. فللتعرف على الحقيقة سبيل واحــد ال يكــادلصالحهم وصالحهم ينافسه فيــه منهج بــديل: وهــو طــرح العقائــد المألوفــة واألفكــار المســلم بهــا والتقاليــد الموروثــة على بســاط البحث والنقــد والتحليـل، والنظـر فيهــا بإنصــاف مــنزه عن الميــول والعواطــف

واألحكام المسبقة. وجدير بنا في هذا المضــمار أن نتأمــل نصــح حضــرة عبــد البهــاء ألحــد مكاتبيــه الــذي ســأله عن أهــدى الســبل إلخــراج أمتنــا منــركب األمم المتســابقة في ــا لتلحــق ب ــتي وقعت فيه ــدة ال الوه

"وإن كنت أيدك اللــهميادين المعارف والتقدم، فتفضل حضرته: بالرأي السديد والحذق الشديد تفكر في ما تعود بــه هــذه الملــة البيضاء إلى نشأتها األولى ومنزلتها السامية العليا، قســما بعاقــد س بنيانهــا ليس لهــا إال لوائها وشمس ضحاها ونور هداها ومؤســ قوة ملكوتية إلهية تجــدد قميصــها الــرثيث وتـــنبت عرقهــا األثيث

طه حسين، في األدب الجاهلي )القاهرة، دار المعارف، الطبعة 1 ٨السادسة( ص

8

وتـنقذها من حضـيض سـقوطها وهـاء هبوطهـا إلى ميم مركزهـاالم على من وأوج معراجها، أال هي لهــا، هي لهــا، هي لهــا، والســ

.2اتبع الهدى " وعلى ضوء هذه المقدمات يتنــاول الفصــل األول تحليــل أسـباب ظــاهرة تكــذيب الرســل المتــواترة، ورفض أثــر النــاس لألديــان

. فيبدأ بدراسة إجماليةالجديدة تمسكا بشبهات وقع فيها السلف لآليات المحكمات واآليات المتشابهات ومــا يماثلهــا من المجــاز، ليبين ما أسفر عنه إصرار المفســرين على تأويــل المتشــابهات، ويقــدم أمثلــة للتنــاقض واالختالف الــذي أوجــده المفســرون في

ــان من عنــد غـيرمعاني الكتاب الذي وصفه تعالى بقوله: "ولو ك.3الله لوجدوا فيه اختالفا كثيرا"

ثم ينتقــل البحث إلى ســبيل االهتــداء إلى مــراد اللــه من اآليــاتــة عسـرها على الفهم التي استغلق فهم معانيها على العباد، وعل

. ثم يتنــاول البحثمع أن كتاب الله تنزل ليكــون مصــدرا للهداية أخيرا مناقشــة الصــعوبة الــتي تثيرهــا معتقــدات الســلف بانتهــاء

، رغم تأكيد كتاب الله بأن سنته تعالىالوحي اإللهي وختم النبوة - ومنها تنزيــل الكتب الســماوية - ال تـــتبدل، وأن كلماتــه ال نفــاد لها، وأن وعده بمجيء المسيح - وهو رسول - من بعــد محمــد ال

بد واقع.

من مكاتيب عبدالبهاء )ريو دي چانيرو، دار النشر البهائية في 2 ٩٢( ص ١٩٨٢البرازيل،

٨٢سورة النساء، آية 3

9

تأويل المتشابهات

في ســورة األعــراف أمثلـة عديــدة لتكــذيبالكــريميذكر القــرآن الناس لرسل الله ورفضهم األديان الجديــدة ســواء كــان دافعهم

. فذكرت الرد الذي تلقــاه ســيدنا نــوح لمــاالجهل أو سوء القصدــراك فيدعا قومه إلى عبــادة اللــه: ا لن ــال المأل من قومــه إن "ق

ذكرت جواب قــوم عــاد عنــدما جــاءهم ســيدناثم ،4ضالل مبين"ك من هــود برســالة جديــدة: ا لنظن فاهة وإن ـراك في ســ ـ ا لن "إن

ــد ــان يعب ــذر مــا ك ــد اللــه وحــده ون ــا لنعب ــاذبين... قــالوا أجئتن الكــيدنا ،5آباؤنا" وكذلك جابه أهل ثمود الدين الجديد الذي جاء به ســافرون" :صالح ذي آمنتم به ك ا بال وقابــل قــوم لــوط دعوتــه،6"إن

بجواب مشابه وقاموا على أذى من اتبعه:"أخرجوهم من قريتكمهم أناس يتطهرون" وعلى النـمط نفـسه ـكان رفض أـهل مـدين 7إنــوا معــك لرسالة سيدنا شعيب: ذين آمن عيب وال ــا شــ ك ي "لنخرجن

ــا" تن وتقص ســورة األعــراف رفض ،8من قريتنا أو لتعودن في مل.فرعون لرسالة سيدنا موسى وما كان بينه وبين أهله

وتكذيب أهل كل زمــان لرســولهم أمــر معــروف لكــل من درس تاريخ األديان، وال ضــرورة إلطالـة الحــديث فيــه، وإنمــا يهمنــا أنــراف أن رفض ــورة األع ــواردة في س ــة ال ــتخلص من األمثل نس

٦٠األعراف، آية 4 ٧٠ وآية٦٦األعراف، آية 5 ٧٦األعراف، آية 6 ٨٢األعراف، آية 7٨٨األعراف، آية 8

10

الناس للرساالت الجديــدة ليس بالضــرورة وليــد العنــاد أو رغبــةك بالراســخ في أذهــان في الكفــر، بــل أكــثره ناتجــا عن التمســ

المكذبين بأن دين أبائهم وما شبوا عليه وألفــوه هــو الحــق. فاألعــذار الـتي يتخــذها :المنكرون أساسا لإلعراض واإلنكار كمــا يوجزهــا الــذكر الحكيمــا" ــا به ــا واللــه أمرن ــا آباءن .9"وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه

فاالعتراض على رسل الله قد يكون وليد حسن النية مع الجهــلــالبحث والتحقيق ــرة أيضــا أنواالســتهانة ب ــد ســورة البق . وتؤك

أساس اإلعراض عن األديان الجديدة، وتكذيب الناس لمن بعثهمــبث الله بالحق هو نتيجة طبيعية للتمسك بالتقليد األعمى، والتش بــاآلراء واألفكــار الموروثــة عن الســلف بــدون بحث في مبــادئ وغايات هذه الدعوات اإللهيــة الجديــدة، ودراســة الحجج واألدلــة

"وإذا قيــل لهم :التي بنيت عليها، وهذا ما يفهم من قولــه تعــالىبع ما ألفينا عليه آباءنا" بعوا ما أنزل الله قالوا بل نت .10ات

ويرتب القرآن الكريم على هذه السوابق المتــواترة حكمــا عامــا يصدق على جميع األديان الجديدة حيث جــاء في ســورة البقــرة:

تكبرتم" ما جاءكم رسول بما ال تهوى أنفسكم اســ أو إن، 11"أفكل شئت يمكن اعتبــار هــذه الســوابق الــتي ورد ذكرهــا في ســورة األعــراف المصـداق على سـنة إلهيــة تجعـل من مجيء كـل دين

. فتكــذيب الرســل أضــحى ظــاهرةفتنــة واختبــارا لصــدق العبــاد٢٨األعراف، آية 9

 ١٧٠سورة البقرة، آية 10 ٨٧سورة البقرة، آلية 11

11

ــات منتظمة كما يؤكــده قولــه تعــالى: ــة من آي ــأتيهم من آي ومــا تين" كانوا عنهــا معرضــ هم إال وســبب هــذا اإلعــراض هــو مــا،12رب

يتوارثه الناس من تفسير وتأويل قال به السابقون الــذين وقعــوا .في المحذور وأضلوا من بعدهم خلقا كثيرا

والبحث في األسباب التي تؤدي إلى وقوع المفســرين في هــذه األخطــاء الجســيمة تنتهي بنــا إلى أن فهمهم لمكنــون اآليــات إذا كـــانت من المتشـــابه يقصـــر عن إدراك مـــا يخفيـــه الغيب من

ــا الرجــوع إلى بعض الكتبمعانيها ــان هــذه الحقيقــة يلزمن . ولبي المقدســة القديمــة، ألن القــرآن الكــريم ال ينفــرد وحــده بوجــود

. فإننا نجد أمثلــة كثــيرة للمتشــابه في الكتباآليات المتشابهات السماوية السـابقة على القــرآن، ويســهل علينــا اآلن فهم تأويــل

.القرآن الكريم لها وبيان الرسول األمين لمعانيهاــه تعــالى: ــا بنيولنأخــذ مثال قول ــريم ي ى ابن م ــ ــال عيس "وإذ ق

وراة ــدي من الت ي رسول الله إليكم مصدقا لمــا بين ي إسرائيل إنرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمــد" فــإن من يطــالع 13ومبش

الكتاب المقدس باللغات المختلفة التي ترجم إليهــا ال يجــد فيهــا بشارة بمجيء رسالة سيدنا محمد من بعــد ســيدنا عيســى على

. فقــد تكلم ســيدناالنحــو الصــريح الواضــح الــذي ذكــره القــرآني ابن ""، ومجيءالمســــيح في بشــــاراته عن مجيء "المعــــز

"، ومجيء "الروح" ولم يرد فيه ذكر للفظ "أحمد". ومعاإلنسانــرجم من لغــة إلى افــتراض أن نص الكتــاب المقــدس - الــذي ت

 ٤سورة األنعام، آية 12٦سورة الصف، آية 13

12

ــأثر بعض الشــيء من تعــدد هــذه أخــرى أكــثر من مــرة - قــد ت الترجمات فإن سياق الكالم ومضمونه لم يتغيرا بفضــل الحــرص الذي التزم به المترجمون، فجــاءت معانيــه متوافقــة على كــثرة

.اللغات التي ترجم إليها وخالصة القول أنه رغم خلو الكتاب المقــدس من لفــظ "أحمــد" فقد اكتفى القرآن بوجود ما يدل على معناه إلتمــام الحجــة على أهل الكتاب، وهي حجة أقوى في الواقع من وجود اللفظ نفســهــا كــانت لغتهم دون أن تقتصــر ألنهــا حجــة على أهــل الكتــاب أي

يتها على األعــراب فقط . والمهم أن كالم الســيد المســيح لمحج يبلغ هــذا الوضــوح إال بعــد أن أبــان القــرآن تأويلــه، أمــا بالنســبة للسابقين على اإلسالم فهو من المتشابه الــذي ال يفهم معنــاه ال من لفظـــه وال من ســـياق الحـــديث وال يعلم تأويلـــه إال اللـــهــول ــارة لمجيء الرس ــانت البش ــو ك ــخون في العلم. ول والراس القادم صريحة لما كان فيها امتحان لصدق إيمان العباد كمــا هــو

الحال مع مجيء كل مبعوث إلهي.ــر ــ ــل يعين في فهم س ــ ــير والتأوي ــ ــيز بين التفس ــ ــل التمي ــ ولع

. فرغم أن لفــظ التأويــل كثــيرا مــا يســتعمل بمعــنىالمتشابهات التفسير، ولكن العلماء ميزوا بينهما فعرفوا التفسير بأنه اإليضاح

 والبيان، أما التأويل فيشمل أيضا ما يــؤول .إليــه األمــر مســتقبال وأغلب الجاري على ألسن الفقهاء أن تؤول اآليــات المتشــابهات وأن يفسر غيرها، مما يوحي أن للتأويــل أغــوارا أبعــد عمقــا من التفسير وهو أخص في اآليات التي جــاءت على وجــه من وجــوه

13

المجاز فكان لها مدلول غير ظاهر لفظها كما هو الحــال مثال في.األمثال والكنايات واالستعارات

ذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنقال تعالى: "هو البعــون ــغ فيت ــوبهم زي ذين في قل أم الكتاب وأخر متشابهات فأما ال اللــه ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويلــه إالــا ومــا ن ــد رب ــل من عن ــه ك ا ب ــون ءامن خون في العلم يقول اســ والر

أولوا األلباب" ر إال 14يذك

والواضح من هذه اآلية المباركة أن آيات القرآن الكــريم تنقســم . والمســلم بــه أن اآليــاتإلى آيات محكمات وآيــات متشابـــهات

ــذاتها أو ــة ب ــها واضــحة الدالل ــاب ومبانيـ المحكمــات هن أم الكت بســـياقها وال التبـــاس فيهـــا، وهن المبينـــات لشـــريعة اللـــه، والمفصالت للشعائر والعبادات واألحكام من صالة وصوم وزكــاة

وحـج وزواج . وتفســير هــذه اآليــاتوطـــالق ومــواريث وقصاصــة إلى آخــره

ــه وشرحها هما من مهام من كان على علم وقدرة من أهل الفقوالمعرفة.

ــق ولكن هناك صعوبة في تحديد مهام الفقهاء والعلماء فيما يتعلماوية: فقــد عــرف البعض بتأويل ما عداها من آيــات الكتب الســ

".التأويل على أنه: "إرجاع الكالم ورده إلى الغايــة المرجــوة منهــل نقــل وجاء في "لسان العرب" عن ابن األثير: "والمراد بالتأويــا ظاهر اللفظ عن وضعه األصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لواله م

 ٧سورة آل عمران، آية 14

14

". ومعنى ذلك أن المؤول يستبدل الكالم الذيترك ظاهر اللفظــه المقصــود من المتشـابه .استغلق فهمــه بكالم واضــح يــرجح أن فهذا التعريف يتيح المجــال الختالف المعــنى بــاختالف المــؤولين

. وقيل أيضا أن المحكم ما كان معناه جليويبعد عن الموضوعيةــتباه، ــه اش ــع في ــدا ال يق ــا واح ــل إال وجه ــاهر ال يحتم ــح ظ واض .والمتشابه فيه خفاء واشتباه يعرف معناه الراســخون في العلم وهناك قول مأثور عن جابر بن عبد اللــه أنــه قــال: "المحكم مــا علم العلماء تأويله، والمتشــابه مــا لم يكن للعلمــاء إلى معرفتــه

. وقد وصفها بعض السابقين بقولهم: "ليس لهن تصــريفسبيل" ، فقد "يــدل لفظهــا على شــيء والعقــل على15"وتحريف وتأويل

"."، و"استأثر الله بعلمهاخالفه وعلى هــذا يمكن القــول أن المتشــابهات - بصــفة عامــة - آيــاتة وأحــداثا هامــة تقــع مســتقبال في مــواقيت تخــتزن أمــورا خاصــ حددها الله تعالى في سابق علمه، وليس لألنام وسيلة لمعرفتهاــاوالتهم في هــذا المجــال كمــا مــا دامت في طي الغيب، ومح صرحت اآليــة ضــرب من اإلرجــاف، وحــدس بمــا لم يحيطــوا بــه

-. أما تأويلها على الوجه الصحيح - وفقــا لصــريح نص اآليــة علما اسخون في العلم الله والر وـما دام أن الـله.16وما يعلم تأويله إال

قد استأثر بعلم تأويل هــذه اآليــات واختص بهــذا العلم من بعــده سبحانه وتعالى الراسخين في العلم، فال بد أن يكون هذا التأويل

هـ ( المجلد١٣٩٩مختصر تفسير ابن كثير )بيروت، دار القرآن الكريم، 15٢٦٤األول، ص

قال بعضهم "والراسخون في العلم" كالم مستأنف، وقال بعضهم 16أنه معطوف على لفظ الجاللة وهو الصحيح.

15

سرا يتعــذر البلــوغ إليــه إال لمن شــاء اللــه، فالرســوخ في العلم معناه - في هذه الحالة - امتناع الشبهة وهو أمر يقارب العصــمة وليس من سجايا البشر المعتــادين، كمــا أن العلم المقصــود فيــا العلم هذه اآلية ليس العلم المكتسب الذي يتعلمه الناس، وإنم بمــا يــؤول إليــه الخــبر الــوارد في نص اآليــة، أو إن شــئت العلم

. فالراســخون في العلم الــذين ورد ذكــرهمبمراد الله من كالمه في اآلية هم أنــاس ال تزيــغ قلــوبهم وال ينطقــون عن الهــوى بــل يــوحي اللــه إليهم مــراده، وهم المصــطفون من رســله وأنبيائــه

.ومن كان في منزلتهم فتأويل اآليــات المتشــابهات يتم إذا بطــريقين أصــيلين: األول أن يكشف اللــه عن مــراده بجنــود غيبــه الــتي تســيطر على القــوى المسيرة لمجريات األمور في عالم الشهود، وما يقع من أحداث فيه، بحيث تأتى وفقا لما أنبأ به في آياته، ولو أنها ظــاهرا وقعتــه تعــالى ــة أخــرى، كمــا نجــد في قول اســتجابة ألســباب منطقي

ــه مخاطبا الرسول: ــا جمع ك به لسانك لتعجل به إن علين "ال تحرــه" ــا بيان ــه ثم إن علين بع قرءان فمــع أن. 17وقرءانه فإذا قرأناه فات

الله وعد أن يجمع القرآن فإن جمعه كان من عمــل المســلمين، ولكنهم سخروا إلنجاز ما وعد بــه الــرحمن. والطريــق الثــاني أن يوحي الله بمراده إلى من يصطفيهم من عباده المقربين ليــبينوا

. وخالصة القــول أن اآليــات المتشــابهات قــدلسائر العباد مرادهــاس وبشــرى لهم، فال يمكن أن يبقى ــة للن ــنزلت لتكــون هداي تـ

١٩-١٦سورة القيامة، آية 17

16

مدلولها سرا أبديا، وإنما يـبـين معناها ويتضــح تأويلهــا في اليــومالموقوت.

رون ومع تصريح اآلية المباركـة وتحـذيرها دأب الشـراح والمفسـ على تأويل اآليات المتشابهات بصرف األلفــاظ عن مــدلولها إلى خالفها، وال شك أنهم بذلوا قصــارى جهــدهم في ضــبط المعــانيــارة التي استخرجوها من هذه اآليات، ولكن عندما تستعمل المه حيث ال ينبغي، يقع المحذور وتترتب عليــه كــل اآلثــار الــتي نبهت

إليها اآلية المباركة. وكانت النتيجة أن كثرت وجهات نظر المفسرين والمعــاني الــتي اســتخرجوها من هــذه اآليــات ممــا يجــزم أن تــأويلهم جــاء على ســبيل الظن والتخمين، ولــو كــان قــولهم حقــا لمــا تفــرقت بهم الســبل، وليس ذلــك من الرســوخ في العلم الــذي يؤهــل المــرء

ــهلتأويل المتشابهات . ومن الحق أن أحدا منهم لم يدع بأن تأويل هو مراد الله تعالى، بل دأبوا في ختام تفاسيرهم على استعمال

ــة: "واللــه ورســوله أعلم "، وهــو اعــتراف منهمالعبــارة التقليدي بعدم بلوغهم اليقين في تأويلهم، إنما اليقين من مراد الله - كما سبق القول - ال يكون إال لمن كشف اللــه لــه عن مــراده، وهــذا اليقين ال يتأتى إال عن طريق رسله المكلفين بإبالغ مراده تعالى

. فإذا كان األمر كــذلك أال يحــق للمســلم أن يتســاءلإلى الناسمتى يأتي تأويل الله والقول الفصل باألمر اليقين؟

ولنرجع إلى التاريخ لعلنا نجــد فيــه مــا يصــل بنــا إلى فهم ســليم . وتفصيل الوقائع التاريخية لجمع القرآن كما رواهالآلية المباركة

17

ــة ــع بين المعرف ــذي جم ــاتب ال ــة الك ــدكتور طــه حســين بدق ال األزهرية للــتراث اإلســالمي وأســاليب البحث والتــدقيق المتقنــة

فقال: لما قتل أصحاب رســول اللــه باليمامــة دخــل عمــر بن الخطــاب على أبي بكر رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول اللـه باليمامــةــار، وإني أخشــى أال يشــهدوا ــراش على الن ــافت الف ــافتوا ته ته موطنــا إال فعلــوا ذلــك حــتى يقتلــوا وهم حملــة القــرآن فيضــيع

ــه وكتبته . فنفــر منهــا أبــو بكــر وقــال:القرآن وينسى، فلــو جمعتــو"أفعل ما لم يفعل رسول الله. فتراجعا في ذلك . ثم أرســل أب

. قــال زيــد: فــدخلت عليــه وعمــر محزئــل،بكر إلى زيد بن ثابت فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فــأبيت عليــه، وأنت .كــاتب الــوحي، فــإن تكن معــه اتبعتكمــا، وإن توافقــني ال أفعل

قال: فاقتص أبو بكر قول عمر وعمر ســاكت، فنفــرت من ذلــك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول اللــه. إلى أن قــال عمــر كلمــة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ قــال: فــذهبنا ننظــر، فقلنــا ال شــيء

. قال زيد: فأمرني أبو بكــر فكتبتــهوالله، ما علينا في ذلك شيء في قطع األدم وكسر األكتاف والعسب، فلما هلك أبو بكر وكــان عمر، كتب ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده، فلما هلك كانت

.الصحيفة عند حفصة زوج النبي "ثم إن حذيفة بن اليمــان قــدم من غــزوة كــان غزاهــا في فــرجــير إرمينية، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال: يا أم

. فقــال عثمــان: ومــا ذاك؟ قــال: غــزوتالمؤمنين، أدرك الناس

18

فرج إرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بمــا لم يســمع أهــل العــراق فيكفــرهم أهــل العــراق، وإذا أهــل العــراق يقــرأون بقــراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فتكفــرهم أهــل الشــام؛ قال زيد: فأمرني عثمان بن عفــان أن أكتب لــه مصــحفا وقــال: إني مدخل معك لبيبا فصيحا، فمــا اجتمعتمــا عليــه فاكتبــاه، ومــا

ــاه إلي ــه فارفع ــا في ــعيد بناختلفتم ــان بن س ــه أب ــل مع . فجع.18العاص"

ــة جمــع القــرآن هذه حقائق متفــق عليهــا، ويتضــح منهــا أن عمليـه". و الكريم إنما تمت بعد انتقــال النــبي إلى الـدار اآلخــرة "بيان

ــه" حسب تقرير اآلية المباركة - عمل يتم بعد أي"جمعــه وقرءان . وهــذا مفهــوم:في زمن غير زمن الرســول وخلفائــه الراشــدين

ــه" ــا بيان " ألن "ثم إن علين .تفيــد المســتقبل مــع الــتراخي"ثمــه" ولــو أنــه خطــاب انك لتعجــل ب ــه لســ ك ب وقوله تعالى "ال تحرــه فيوصــيها ــق أيضــا على أمت ــه ينطب موجــه إلى الرســول إال أن بــاإلعراض عن التعجيــل في بيانــه قبــل اليــوم الموعــود، ألن

كــان يعلم - بــدون "علمــه شــديد القــوى"الرسول الكريم الذي شك - ما في خــزائن كتــاب اللــه من معــان وإشــارات، ولم يكن

في حاجة إلى مزيد بيان. أعود إلى اآليتين المتقدمتين اللتين صرح اللــه فيهمــا بــأن تأويــل

. والسؤال الذي يتبادرالمتشابهات وبيان معانيها من شأنه تعالى نقال عن طه حسين، "في اآلدب الجاهلي" )القاهرة، دار المعارف، ط 18

١٠١-١٠٠( ص ٦٠

19

إلى األذهان هــو كيــف يــأتي اللــه بالتأويــل؟ هــل ينزلــه اللــه من السماء كتابا مكتوبا، أم يقذفه في قلوب أفراد األمــة فيصــبحون جميعا أئمة وأصحاب طرق بعدد أنفسهم؟ لقد جــرت ســنته عــز وجل أن يكون بيانه للنــاس بواســطة من يصــطفيهم من رســله، فقد أبان سـيدنا محمــد مــا اشـتبه على أهـل الكتـاب ممـا أنــزل

. كما أبان السيد المسيح ما اشتبه على اليهود منإليهم من قبل . فهذه هي سنة الله وبها يكون البيان فيصال ال جــدال فيــهكتابهم

وال اجتهــاد بعــده، وبــه يجتمــع شــمل األمم وتولــد حضــارتهم من . فبيان الحق للناس وإظهار المعاني المكنونة في أصــدافجديد

اآليات المتشابهات في كتابه العزيز يكون بآيات يــوحي بهــا اللــهإلى المصطفين . هذه سنة الله، وفيها يجد البــاحث جوابــا شــافيا

ول من اللــه. فالجواب بكل بساطة: هو عمن يأتي بالتأويل "رســ.19يتلوا صحفا مطهرة"

وكل من تدبر في الكتب المقدسة على اختالفها وجــد بين آياتهــا الكثير مما يبشر بظهور شخصين إلهــيين في وقت اتفقت الكتب

. وال مــراء أن اآليــات الــتيالسماوية على تسميته بــآخر الزمــان تحدثت عن ظهورهما، وعن اليوم اآلخر، وعالمات اآلخــرة كــانت من اآليات المتشابهات الـتي اسـتحالت معانيهـا على أفهـام كـل من تصدى لتأويلهــا - كمــا ســنرى فيمــا بعــد - إلى أن حــان يــوم

. هذان المظهران العظيمان همــا "المهــدي وعيســى" فيتأويلها اصـطالح األحـاديث الشـريفة، و"عـودة المسـيح على يمين اآلب

٢سورة البينة، آية 19

20

السماوي" في اصطالح اإلنجيل، و"ظهــور رب الجنــود" و"إيليــا"في اصطالح التوراة.

لقد دارت أكــثر آيــات القــرآن الكــريم حــول التشــويق والتبشــيرــاركين. ــرين المب ــذين المظه ــويح بمجيء ه ــريح والتل وبين التص وترك النبي ألمـته، كنزا من أحاديثه الشريفة حتى ال يشتبه على

. وقصدت هــذه البشــاراتأحد أمر هاتين الجوهرتين عند تأللئهما واإلنذارات واألحاديث الشريفة إعداد األمة بأسرها - سنة وشيعةــة، - لليوم الموعــود الــذي تتجلى فيــه كــل هــذه الحقــائق الرباني

. وقــام األئمــة من آل الــبيت بتـــشويقوتـــتحقق الوعــود اإللهية المسلمين وتـشجيعهم على اتباع المعروف، والبعد عن المنكــر،

. فمــاذا كـانت عاقبــةوإقامة شريعة الله ترقبا ليوم الله الموعودكل ذلك؟

21

المهدي وعيسى

بقي االعتقاد بظهور المهــدي ونــزول عيســى محــورا لمعتقــداتــدكتورالمسلمين منذ صدر اإلسالم إلى زمن قريب . فقد أدرج ال

مصطفى غالب في بحثه عن قائم القيامة جانبا من أســانيد هــذا ويمكننــا في ضــوء األحــاديثاالعتقاد نقتبس منها جزءا يســيرا: "

ــة - وهي ــاكم وابن ماج ــذي وابن داود والح ــا الترم ــتي أخرجه ال أحاديث مسندة إلى اإلمام علي بن أبي طالب وابن عبــاس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأبي ســعيد الخــدري وأم سلمة - أن نؤكد أن فكرة المنقذ أو المخلص المهدي قد شاعت لدى المسلمين عامة، وخاصة أهل السنة، وإن لم تـتقرر كأصــل

.20من أصول العقيدة كما هو الحال لدى الشيعة" ومن المالحـظ أن إبنويواصل الدكتور مصــطفى غـالب قولـه: "

تيمية يؤكد هذا الحديث الذي رواه إبن عمر ويقر بصـحته: يخـرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يمأل

. وقــول النــبي:األرض عدال كمــا ملئت جــورا وذلــك هــو المهــديــد فاطمة ــترتي من ول ــدي من ع ــة أنالمه ــرى ابن تيمي ــا ي . كم

ــد وصــحيح ــدي صــحيحة مســتندا إلى مســند أحم ــاديث المه أح.21الترمذي وابن داود"

مصطفى غالب، اإلمامة وقائم القيامة )بيروت، دار ومكتبة الهالل، 20 ٢٧٧ و ٢٧٦( ص ١٩٨١

٢٧٧ ص السابق المرجع 21

22

ولكن أثار في القرن الثامن الهجري نفر من العلماء الشك حول األحاديث الشريفة المروية عن ظهــور المهــدي، بحيث لم تســلم أوثـــق األحـــاديث ســـندا وروايـــة من التشـــكيك في صـــحتها أو

. أما عودة المسيح عليــه الســالم فلم يــثر حولهــا خالفصراحتها.يعتد به لورود ذكرها صراحة في القرآن الكريم

ويمكن إرجاع جــذور هــذا االختالف في الفهم إلى زعم كثــير من المفسرين أنه ال مكان لظهور رسالة أخــرى بعــد رســالة ســيدناــا ــتي أتى به محمد، وال مجال لنزول أحكام جديدة بعد األحكام ال

. ويتمســك المســلمون بهــذا الفهم مــع وضــوحالقــرآن الكــريم . وهذه أراء ال جديد فيها فقد قال بمثلها أتباعمناقضته لسنة الله

. فــذهبت كــل أمــة من األممكل األديــان الســابقة على اإلســالم السابقة في تفسير آيات كتابهم على النمط نفسه وانتهوا جميعا - بــدوافع الحب والــوالء لــدينهم - إلى أن شــريعة كــل منهم هي أكمل الشرائع ومنتهاها، وأن بمجيء رســولهم ختمت الرســاالت الســماوية، ثم اعترضــوا على رســل اللــه الــذين جــاءوا من بعــد

ــواءمستندين إلى آراء مطابقة لما يقول به المسلمون اليوم . ســالمية عن انتهاء الفيض اإللهي، أو عن دوام أحكام الشريعة اإلس

. فــيرتكبونوصالحها لكل زمان مهما تغيرت الظــروف واألحــوالــه األمم ــذي وقعت في ــأ ال ــون - الخط ــذلك - من حيث ال يعلم ب

.السابقة ولعــل أقــرب مثــال لهــذا التــواتر التــاريخي في االعتقــاد بنهايــة الرســاالت اإللهيــة هــو موقــف بــني إســرائيل ألنــه مثــال كــثرت

23

. فمن األوهام التي تمسك بها أهــلمواثيقه، وتكرر أكثر من مرة التفســير في األمــة اإلســرائيلية أن دينهم هــو آخــر األديــان وأنــا أحكام التوراة نهائية وكاملة، ثم وفقوا بين هذا التصــور وبين م لديهم من بشارات بمجيء السيد المسيح بقولهم أنه عندما يأتي

. ويكــون ســلطانا جالســا على عــرش الملــك،ســيحكم بــالتوراةرا لهم يعيــد مجــدهم التليــد، وال يبــدل من شــريعة موســى ومحر

.شيئا وأضحت هذه الصورة أحد التقاليد الراسخة حتى اليوم، وما زال قادة الفكر من بينهم يعيدون ذكرها بكل تأكيد وفي كــل مناســبة

ســيأتي المســيح في الــوقت المحــددكما يقول ناحوم جالتــزر: " ليؤسس مملكة داود في المكان ذاتــه الـذي كـانت فيــه، وداخـل الحدود التي كانت لها، وسيبني المحراب ذاته، ويجمع المشــتتينــه من أبناء إسرائيل، وفي أيامه ستعود األحكام إلى ما كانت علي في زمــان الســلف... إن التــوراة وشــريعتها وأحكامهــا هي لكــل

. وال يوجد ما يمكن إضافته إليها، وال فيهــا مــا يمكن حذفــهزمان. 22منها"

وقد فند القرآن الكريم زعم تأبيــد شــريعة ســيدنا موســى عليــه السالم وقول اليهود بانقطاع الرساالت اإللهيــة من بعــد رســالته

ــوابقوله تعالى: ــديهم ولعن ت أي ــة غل ــد اللـه مغلول "قالت اليهود ي.23بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"

22 Nahum N. Glatzer, ed., The Judaic Tradition )Boston: Beacon Press, 1972( pp. 488-489

آية 23 المآئدة، ٦٤سورة

24

وجاءت بعد ذلك شهادة الرســول األمين على أن ســيدنا عيســىــه ابن مريم هو السيد المسيح الذي بعثه الله بالحق وبشر بمجيئ

. فلم يعــد هنالــك شــك في خطــأ التفســيربني إسرائيل من قبل الذي قال به علماء اليهود في هذا الخصوص، وال زال جاريا على ألسنة كهانهم إلى اليوم. ولم يكن قــولهم بأبديــة شــريعة ســيدنا موسى عليه السالم خطأهم الوحيد فقــد رســموا لمجيء الســيدــا أتى ــه، فلم ــالهم وتعظيمهم لمجيئ ــا خي المســيح صــورة أوحاهــذبوا به ــروه وك ــورة أنك ــذه الص ــيح على خالف ه .الســيد المس وقامت تفاسيرهم وتصوراتهم حــائال بينهم وبين اإليمــان برســالة

.حقة وقد تجددت هــذه االعتراضــات في زمن ســيدنا محمــد فــأعرض

"وقــالوا مــالعنه أهل الكتاب رغم أن الله قد بشرهم بمجيئــه : ــه ــزل إلي واق لــوال أن سول يأكل الطعام ويمشي في األســ هذا الر

. فبين اللــه فســاد هــذا الــوهم بقولــه 24ملك فيكون معه نذيرا" ــالى ــاتع نا عليهم م ــ ـاه رجال وللبس ـ ــا لجعلن ـاه ملك ـ ـو جعلن ـ : "ول

منوهــا إلى أن أوصــاف العظمــة والجالل والســلطنة 25يلبسون"ــة والجمــال المنســوبة إلى رســل اللــه هي صــفات وآثــار روحاني متجليــة على هيــاكلهم النــوراء، ولكن يعجــز النــاس عن إدراكهــا لكثافــة الحجب الــتي خلقهــا خيــالهم، وأبعــدهم بهــا عن الواقــع،

فضلوا عن المقصود.

٧سورة الفرقان، آية 24٩سورة األنعام، آية 25

25

ــتي وسلك المفسرون للقرآن المجيد على نمط مشــابه لألمم ال سبقتهم سواء في تجاسرهم وتكــالبهم على تأويــل المتشــابهات بحيث توهموا انقطاع الوحي اإللهي رغم الوعود األكيدة بإرســال المبعوثين اإللهيين كلما استدعت ظــروف واحتياجــات اإلنســانية الهداية واإلصالح، فذهبوا في تفسير مقام خاتم النبيين إلى إنكار

، رغم صـــراحة النصـــوصبعث الرســـل من بعـــد ســـيدنا محمدــار كــل ذلــك الشــبهات حــول نبــوءة المباركــة على العكس، فأث

. وجدير بنــا أن نلقي نظــرة عاجلــةمجيء المهدي ونزول عيسى على كل من هذه الشبهات بعد أن نستعرض بعض األمثلــة الــتي

.تبين تعسف المفسرينأوال: تعسف المفسرين

من المسلم به أن فهم النصوص المباركة ال يقتصر على ما تدل عليه ألفاظها أو يؤدي إليه سياقها، بل يجب أيضا أن تأتي معانيها

. فال يتصور من اللــه أن يطــالب النــاسوفقا لما يتفق مع العقل بأن يؤمنوا بما ال تقبله عقولهم وهو الذي أكثر من لــوم الــذين ال

. وال منـاص من التسـليم بـأن تفسـيراآلياتيعقلـون وال يفقهـون اإللهية عمل بشري ال عاصم لــه من الخطــأ، ويتوقــف في جالئــه ومــدى قربـه من الصـواب على علم المتصــدين للتفسـير، وعلمــزداد ــانهم، وي ــهم واختالف زم ــاختالف أشخاص ــف ب ــؤالء يختل ه ويرقى مع جهــود العلمــاء ومثــابرتهم على البحث والتنقيب على

. فال وجه لإلفاضة في خلع حلــل التقــديس على هــذهمدى األيام

26

الجهود البشرية، خاصة وأن لدينا اليوم الكثير من األدلة القاطعة.على خطئها

ومن األمثلــة على هــذا الخطــأ مــا زعمــه قــديما غــير قليــل منــلبة ــمتة ص ــام مص ــبع هي أجس ــموات الس ــرين أن الس المفســوذ ضــوء طبقات فوق بعضها البعض، وزجاجية شفافة ال تمنع نف األجــرام المعلقــة بهــا لتزينهــا، وأن الشــمس تــدور حــول األرض

الساكنة ومن حركتها تعاقب الليــل والنهــار . وكــان ذلــك تفســيرا "أفلمآليات القرآن الــتي ورد فيهــا ذكــر هــذه الظــواهر، ومنهــا:

اهــا ومــا لهــا من ن ماء فــوقهم كيــف بنيناهــا وزي ينظــروا إلى الســــروج" ــالى: 26ف ــه تع ــا"وقول تقر له ــ ــري لمس مس تج 27"والشــ

وتمسكوا بهذه التفاسير مع أن نص هذه اآليات الكريمة وأمثالهــاــول األرض يفيد أن الشمس تجري مع استقرارها فهي ال تدور ح

بل تدور حول محورها. والذي أوقــع المفســرين في الخطــأ أنهم أرادوا التوفيــق بين مــا جاء في القرآن وبين النظريات العلمية السائدة في زمانهم ممــاــاني مثال عن دوران الشــمس حــول ــه بطليمــوس الروم ــال ب ق األرض، فأولوا اآليات ليتفق معناها مع تلك النظريات، فقــالوا أن

. كمــا ذكــر ابن كثــير:" هي في األصل ال مستقر لها"لمستقر لها "وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم والشمس تجري

٦ آية ق، سورة 26آية 27 يس، ٣٨سورة

27

ال مستقر لها أي ال قرار لها وال سكون، بل هي سائرة ليال ونهارا.28"ال تفتر وال تقف

ــة ومثال آخر للتعسف في التفسير نجده في تفسير ســورة البينــالى: ــه تعـ ـابفي قولـ ــ ــل الكت ــروا من أهـ ذين كفـ "لم يكن ال

ــوا ول من اللــه يتل ــة رســ ن ــأتيهم البي ى ت ين حت ركين منفك والمشــمــة" حفا مطهرة فيهــا كتب قي رون بــأن 29صــ حيث قــال المفســ

األحداث التي وعــد القـرآن الكــريم بوقوعهـا في المسـتقبل قــدــيرهم ــق بين تفس ــة منهم للتوفي ــي في محاول وقعت في الماض

.لهذه اآلية مع زعمهم بانتهاء الرساالت السماويةـة"فقد ذهب أكثر المفسرين في تفسير ـ ن ى تأتيهم البي إلى"حت

، فجعلــوا معــنى اآليــةالقول بأنها إشارة إلى ظهور ســيدنا محمد أن أهل الكتاب والمشركين ما زالوا على ما هم عليه من ضــالل

. وال يستقيم هــذا التفســيرحتى مجيء اإلسالم الذي يبدل حالهم مع قواعد اللغة العربية، وال مــع المعــنى المســتخلص من ســياق

.الكالم، فضال عن مناقضته للواقعب فقواعد اللغة العربية واضــحة في أن الفعــل المضــارع ال ينصــ

ى"بعد ، وقــد جــاء الفعــل30 إال إذا دل على حــدث مســتقبل"حت منصوبا بعد حتى، فيكون المعنى المراد في هــذه اآليــةتأتيهم" "

ــه من اختالف أن أهل الكتاب والمشركين باقون على ما هم علي١٦٣مختصر تفسير ابن كثير، المجلد الثالث، ص 28٣-١سورة البينة، اآليات من 29 أنظر على سبيل المثال: علي رضا، المرجع في اللغة العربية )دار 30

وبطرس البستاني، محيط١١٧( الجزء الثالث ص ٢الفكر العربي، ط ١٤٦( ص ١٩٨٧المحيط )بيروت، مكتبة لبنان،

28

وتفــرق إلى أن تــأتيهم البينــة مســتقبال، وتواصــل اآليــات التاليــة شرح حال أهل الكتاب في وقت التنزيل فتــبين أنهم مــا تفرقــوا إال بعد أن جــاءتهم بينــة القــرآن، وأنهم منفكين على هــذا الحــال

حفا مطهرةحتى تأتيهم البينة المقبلة: "رسول من الله يتلوا صــمة". وال يحتاج اإلنســان إلى جهــد كبــير ليفهم اآليــةفيها كتب قي

المباركة فقد رتبها الله تعــالى بحيث تصــرح بــالمعنى، فأشــارت تنتهي حالــة الشــحناء بين الطوائــفالبينةإلى أن بظهــور هــذه ا

:المختلفة، وترتيبا على هذا نخرج بالنتائج اآلتيةــابإن سيدنا محمد لم يكن المقصود في اآلية المباركة ، وال الكت

. وأن اآلية المباركة تشــير إلى أكــثرالذي نزل على سيدنا محمد . ولقــد لمس العالمــة محمــد فريــد وجــدي هــذهمن كتــاب واحد

ال يــزال الــذينالحقيقة في تفسيره لهذه اآلية المباركة بقولــه: " كفروا باإلسالم من أهل الكتاب والمشركين مقيمين على ما هم عليه حتى يأتيهم دليل على صدقه، وهذا الــدليل هــو رســول من الله يقرأ عليهم صحفا مطهــرة فيهــا مكتوبــات مســتقيمة داعيــة

".إلى الصراط السوي والخالصة كما يقول العالمة محمد فريد وجدي أن لفظة منفكين معناها الدوام واالستمرار فإن النزاع والجدال لم يتوقــف بــنزول الرسالة المحمدية المباركة، وزواله منوط بظهور بينة أخرى في زمن غــير زمن الرســول وأن هــذه البينــة المرتقبــة هي رســول

جديد يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

29

وما هذه إال أمثلة قليلة من جم كثير ال نرى موجبا لإلفاضة فيه لبلوغ المقصد، وهو أن التفاسير التي كانت في األزمنة الغابرة سائغة ومقبولة في حدود ما أوتي أهل تلك األزمنة من معارف كانت في طور طفولتها،

قد تبين وثبت خطأها وانحرافها عن الحق بما أوتينا في هذا العصر من العلوم واألفكار التي تسمح لنا بفهمها على نحو آخر أقرب إلى المنطق

السليم، فلم تعد النتائج التي يتوصل إليها اإلنسان بسنوحاته وخياله كافية إلشباع فضوله العلمي، وال يرضى عقله اليوم إال باكتشاف

. فإذا كان ذلكالحقائق على أساس البراهين الواضحة والحجج القاطعة حظ السلف في فهم اآليات الواضحة الداللة فما بالك في فهمهم لآليات

التي احتوت على أمثلة وكنايات وإشارات ومعاريض؟

ثانيا: افتراض نهاية الوحي

ترسم سورة هود صــورة كاملــة عن قصــص األنبيــاءسبحان اللهذين. فسيدنا نوح قام يدعو قومــه: وما ورد عليهم ــال المأل ال فق

ذين ال بعك إال بشرا مثلنا وما نراك ات كفروا من قومه ما نراك إالكم ــل نظن ل ب ــا من فضــ أي وما نرى لكم علين هم أراذلنا بادي الر

وكذلك سلك قوم عاد مع سيدنا هود، وقــوم ثمــود مــع 31كاذبين" سيدنا صالح، وقــوم لــوط مــع ســيدنا إبــراهيم، وأهــل مــدين مــع سيدنا شعيب، وآل فرعون مع سيدنا موسى، واليهود مــع ســيدنا

. مســلكعيسى، وأهل الكتاب وعبــدة األوثــان مــع ســيدنا محمد واحد وموقف يتكــرر كلمــا جــاء رســول يــدعو النــاس إلى الحــق

ولوالهدى: ســ ــه وإلى الر "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الل

٢٧سورة هود، 31

30

ــا"، وجــواب الحــق ســبحانه علىقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنالمهلكة: الجهالة " هذه وال شيئا يعلمون ال آباؤهم كان أولو

.32"يهتدون وإيضاحا لهذه الحقيقة التاريخية، يقول السيد علي نخجــواني في

":مذكراته"بت- أمرت التوراة اليهود بأن يحفظوا الســبت: ١ نعوا الســ "ليصــ

رائيل عالمــة إلى ــديا. هــو بيني وبين بني إســ في أجيالهم عهدا أبــة شـريعة 33األبد" ويستدل اليهود بهــذه اآليــة المباركــة على أبدي

ــاهر النص ــدل، وظ ـر أو تتع ـ ــا أن تتغي ــوراة بحيث ال يمكن له الت . ولكن غفل مفسروهم عن أن األبدية المشارصريح يؤيد هذا التخريج ،بأجل أمة بني إســرائيل ال بأجــل الكــونإليها في اآلية محدودة

ـالهم""وهو ما يستفاد من قوله: ليصنعوا السـبت في أجي عهـدا . ومع ذلك نسخ سيدنا عيسى وسيدنا محمد من بعده حكمأبديا

السبت، والناسخ والمنسوخ كالهما من عند الله. - وذكر في اإلنجيل في ثالث مواضــع من رؤيــا يوحنــا الالهــوتي٢

هاية" بأن سيدنا عيسى هو: "األلف والياء البداية والن ــه أيضــا وأن وجــاء تأكيــد قــاطع بأبديــة شــريعته في ثالثــة،34"األول واآلخــر"ــزول"مواضع أخرى: ماء واألرض تزوالن ولكن كالمي ال ي 35"الس

أي كالم المسيح. وفسر القوم هــذا الكالم وفقــا لظــاهر ألفاظــهآية 32 المائدة، ١٠٤سورة١٧-١٦: ٣١خروج: 33١٣:٢٢، واإلصحاح ٦:٢١ واإلصحاح ٨:١رؤيا يوحنا اإلصحاح 34٣٣:٢١، ولوقا اإلصحاح ٣١:١٣، ومرقس اإلصحاح ٣٥:٢٤متى اإلصحاح 35

31

بما يفيد أن سيدنا عيسـى هـو آخــر الرسـل، ولن يبعث اللـه من . ومــع ذلــك ظهــر ســيدنا محمــد وجــاء بــالقرآنبعــده دينــا آخر

.الكريم، وكالهما حق من عند اللهــة شــريعة التــوراة وإنكــارهم إمكــان ظهــور فتمسك اليهــود بأبدي رسل من بعده بشرائع مغايرة، قد صرف نظرهم عن البشارات

ــةالتي ذكرتها التوراة، مثل ما جــاء في قولــه: ــذه هي البرك "وهــه ــل موت رائيل قب ى رجــل اللــه بني إســ تي بارك الله بهــا موســ الب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتالال من جبل فقال جاء الر

ريعة لهم" ــار شــ ــه ن ، 36فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمين ، وظهــور""من ســيناءوفي هذا إشارة إلى مجيء سيدنا موسى

،""من فــاران، وبعثــة ســيدنا محمــد ""من ســعيرسيدنا عيسى "المســجد األقصــى"وارتفــاع نداء حضرة بهاءالله من مشارف

الذي بارك الله حوله.وا ــة كالم الســيد المســيح وغضــ وتشــبث المســيحيون أيضــا بأبدي

ه خير لكم أن أنطلقالنظر عن قوله: ي أقول لكم الحق إن "لكنله ــ ي ولكن إن ذهبت أرسـ ــز ـأتيكم المعـ ــ ــق ال ي ـ ه إن لم أنطل ألن

معونه وكذلك قوله في موضع آخــر: ،37إليكم" ذي تســ "والكالم اللني ذي أرســ ــل لآلب ال ــدكمليس لي ب ــا عن متكم وأن وأما بهــذا كل

مكم مي فهــو يعل ذي سيرسله اآلب باســ وح القدس ال ي الر المعزركم بكل ما قلته لكم" هذا باإلضافة إلى قوله:،38كل شيء ويذك

٢-١ :٣٣التثنية األصحاح 36 ٧:١٦إنجيل يوحنا اإلصحاح 37٢٦-٢٤ ١٤إنجيل يوحنا، اإلصحاح 38

32

ذي سأرسله أنا إليكم من اآلب روح الحــق ي ال "ومتى جاء المعزذي من عند اآلب ينبثق فهو يشهد لي" ــل39ال ــل اإلنجي ويقرأ أه

هذه البشارات الكبرى فيؤولونها على أنها إشارة إلى حلول روح القــدس على التالميــذ بعــد صــعود الســيد المســيح إلى الرفيــق

األعلى. ال نزاع في أن خطأ عظيما قد وقع من كل األمم - عفوا أو عمدا - في تفسير كالم الله وفهم مراده نتيجــة للتركــيز على مــا جــاء في آية أو آيتين وإغفال ما جاء في غيرهما، أو تأويل ما جــاء فيرون من آيــات قســم من اآليــات ليطــابق مــا استخلصــه المفســ

. وال نــزاع أيضــا على أنأخرى يحبذونها وتوافق ميــولهم الفكرية اإلصرار على هذا الخطأ ال يغير من الواقع شــيئا، وال يبــدل ســنة الله وخطته، فرغم إصرار علماء اليهود على أبدية شريعة سيدنا

بن مريم قد جاءموسى نعلم على وجه اليقين أن سيدنا عيسى ا من بعده بالحق وبدل شريعته، وعلى الرغم من تمسك النصارى إلى اليوم بــأن ســيدنا عيســى هــو األول واآلخــر نعلم على وجــه اليقين أن سيدنا محمد قد جاء بالحق وأن القرآن كتاب ســماوي

. فلم يمنــعحق أنزل من بعد التوراة واإلنجيــل ناســخا ألحكامهماــد التفســير الخــاطئ، وال اإلصــرار على التفســير الخــاطئ تجدي

.الدين وفقا لمشيئة الله ولم ينجح المفسرون من األمة اإلسالمية في اتقاء مواضع الزلل

ــبقتها ــتي س ــا األمم ال ــتي وقعت فيه ــيرهمال ــر في تفس . فظه

٢٦: ١٥إنجيل يوحنا، اإلصحاح 39

33

ــر وتأويلهم ما يبعد معنى الكالم عن مراد الله، لكي يصل المفس . األمر الذي يقر به أكــابر هــذهإلى مساندة رأيه أو يناصر مذهبه

ــرق، والتطــاحن المــذهبي،األمــة: " ــه لمــا حــدثت بدعــة الف فإن والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب، وحاملو رايات الفرقــبيات المذهبيـــة والسياســـية، المختلفـــة، يتنافســـون في العصـ وامتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهــون العقــول في فهمــه وجهات تتفــق ومــا يريــدون، وبــذلك تعــددت وجهــات النظــر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمــه وتفســيره، وظهــرت في أثنــاء ذلــك ظــاهرة خطــيرة، هي تفســير القــرآن بالروايــات الغريبة... ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبــه أو عقيدتــهــاء والمتكلمين وغالة ــات الفقه ــدت تحكم ــذلك وج ــة، وب الخاص المتصــوفة وغــيرهم ممن يروجــون لمــذاهبهم، ويســتبيحون في سبيل تأييدها والدعايــة لهــا أن يقتحمــوا حمى القــرآن، فأصــبحناــؤول اآليــات لتوافــق مــذهب فالن، ومن يخرجهــا عن نــرى من ي بيانها الواضح، وعرضها المسوقة له، لكي ال تصلح لمذهب فالن، وبهذا أصبح القرآن تابعا بعد أن كان متبوعا، ومحكوما عليــه بعــد

.40أن كان حاكما" ففي مواضع كثيرة من القرآن الكريم آيــات يمكن أن يســتخلص منها معنيان متضادان، وقد انقسم المســلمون في مــوقفهم من

. فـذهب البعض إلى أن فهم هـذه اآليـاتهـذه اآليــات إلى فـرقــواجب هــو ــا من المتشــابهات، وإنمــا ال ــات ألنه ليس من الواجب

محمود شلتوت،تفسير القرآن الكريم، األجزاء العشرة األولى 40٩( ص ١٩٨٣)بيروت، دار الشروق،

34

اإليمان بها فقط، وإذا دخلنا في التفاصيل يكون من تأويلنــا نحن . بينما قال فريق آخر: "إننا نستمسكالبشر وليس من كالم الله

بآيات التنزيه ونشرحها ونحللها، ونتعرض لأليات األخرى من مثل االستواء، والوجــه واليــدين، ونتأولهــا تــأويال يتفــق والتنزيــه... وال نكتفي باإليمان الغــامض باآليــات المتشــابهة، ألن العقــل ال يقنــع

.41بالغموض" .وكذلك الحال بالنسبة لآليــات الــتي تخــبر عن معجــزات األنبيــاء

فالمعجزة أمــر يظهــر بخالففقد قال فريق بإمكان المعجزات " العــادة على أيــدي األنبيــاء إذا تحــداهم قــومهم... ولرســول اللــه معجزات منها انشقاق القمر له وتســبيح الحصــا في يديــه ونحــو

ذهب فريق آخر إلى إنكار المعجزات ألنها تناقض قوله، و42"ذلكة اللـه تحـويال"تعالى: ن ة الله تبديال ولن تجد لسـ 43"فلن تجد لسن

ورمى كل فريــق اآلخـر بـالكفر، ثم انتشـر في الدولـة العباسـية تنكيل وتعذيب المخالفين في الرأي وقتلهم ممــا حــدا بــالبعض - ومنهم عبيد الله بن الحسن قاضـي البصــرة - إلى القــول بجــواز وقبول اآلراء المتعارضة: "كل ما جاء به القرآن حق، ويــدل على

. فالقول بالقدر صحيح ولــه أصــل في الكتــاب، والقــولاالختالف باإلجبار صحيح وله أصل في الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب،

أحمد أمين، ضحى اإلسالم )القاهرة، مكتبية النهضة المصرية، 41٢٢الطبعة العاشرة( الجزء الثالث، ص

دار ) 42 بيروت، خلدون ابن أيام إلى العربي الفكر تاريخ فروج، عمرللماليين، ٣٣٩ص( ١٩٨٣العلم

٤٣سورة فاطر،آية 43

35

ومن قال بهــذا فهــو مصــيب، ألن اآليــة الواحــدة ربمــا دلت على.44"وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين

خالصة القول أن تفسير القرآن فيما عدا اآليــات الــتي اشــتملت . ومــاعلى األحكــام، أمــر ال جــزم فيــه ومثــار للجــدل واالختالف

ــبيين انتهى إليه المسلمون من إجماع بشأن مبنــاه""خــاتم الن العاطفــة، ال البحث الــدقيق، وال يختلــف في جــوهره عن إجمــاع اليهــود بأبديــة شــريعة ســيدنا موســى وإجمــاع النصــارى بأوليــة

ـة اإلقـرار بـأنوآخريـة سـيدنا عيسى . وقـد سـبق لكبـار المعتزل . فــالفيض اإللهي45اإلجمــاع ليس دليال على صــحة المجمــع عليه

متصل وإن كان على مراحل وعلى تدريج يناسب استعداد خلقــهــده بمقــدار"وطاقتهم يء عن لــذا قيــل أن الحقيقــة46"وكل شــ

"ومــا أوتيتم مننسبية وليســت مطلقــة مصــداقا لقولــه تعــالى: ــا47العلم إال قليال" أما ما عند الله في خزائن علمه ال ينضــب له

معين وال تــدخل في نطــاق الحصــر، وفيضــه تعــالى على خلقــه يظهر مكنون الكتــاب المحفــوظ من الغيب إلى الشــهود تحقيقــا للغاية من الخلــق، فكيــف يتصــور أن يكــون لكلماتــه نهايــة؟ ألم

ييصرح في كتابه العزيز: "قل لو كان البحــر مــدادا لكلمــات ربي ولو جئنا بمثله مددا" ــل48لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات رب ، ب

نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص )بيروت، المركز الثقافي العربي، 44٢١( ص ١٩٩٤

٢٩٣عمر فروج، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، ص 45٨سورة الرعد، آية 46٨٥سورة اإلسراء، آية 47١٠٩سورة الكهف، آية 48

36

مــا في األرضوأكثر من هذا إطالقا وتأكيدا قوله تعالى: ــو أن "ولبعة أبحــر مــا نفــدت من شجرة أقالم والبحر يمــده من بعــده ســ

49كلمات الله إن الله عزيز حكيم"

وكلمات الله هي وحيــه وخطابــه للبشــر، وكــل كلمــة منهــا وحيــا مــريم إنوكتاب ألجل مسمى قال تعالى: "إذ قالت المالئكة ي

ى ابن مــريم" يح عيســ مه المســ ــه اســ رك بكلمــة من 50اللــه يبشــ

فسيدنا عيسى عليه السالم، مع جالل رسالته وعظمة آثاره كان في نظر الحق جل وعال كلمة واحدة من كلماته التي ال نفاذ لها،

فنادته المالئكة وهو قائم يصلي في المحراب أنوقوله تعالى: "رك بيحيى مصدقا بكلمة من الله" وقد ذكر أبو عبيدة 51الله يبش

. وكــذلك كــان آدم ونــوحأن المراد بالكلمة هنا الكتاب أو الوحي وإبــراهيم وموســى ومحمــد وســائر الرســل أولي العــزم، عليهم جميعا صلوات الله وسالمه كــل منهم كلمــة تامــة مباركــة أحيت

. أيمكن بعد كلمن على األرض ونشرت نفحات الله في أرجائها هذا التصريح، أن نتصور انتهاء الرساالت السماوية واالعتقاد بأنه لن يظهر من بعد سيدنا محمد رسول آخر؟ أيمكن بعـد كـل هـذا

البيان أن نتصور أن كلمات الله قد نفذت والعياذ بالله؟ــرين من المؤكد أن من بين الشبهات التي أدت بالعلماء والمفس أن ينحوا إلى هذا االتجاه السلبي في تفسير القـرآن وجــود عــدد من اآليــات الــتي استعصــي عليهم فهمهــا فحملوهــا على ظــاهر

٢٧سورة لقمان، آية 49٤٥سورة آل عمران، آية 50٣٩سورة آل عمران، آية 51

37

اللفظ، ولو كان ظاهر اللفظ كافيــا إلظهــار مــراد اللــه لمــا كــانــنى ــخين في العلم بمعـ ــاص الراسـ ــذكر اختصـ ــزوم لـ ــاك لـ هنـ

. فاستنتج أكثرهم انتهاء كلمات الله وتوقف رســاالتهالمتشابهات على فهم محدود لوصف القرآن الكريم لســيدنا محمــد في أحــد

". ولم يحــاولوا تحليــل هــذا الوصــفمواضعه بأنه "خــاتم النبــيين.والمعاني المختلفة التي يحملها بين طياته

38

خاتم النبيين

ورد وصف سيدنا محمد بأنه خاتم النبيين في موضع واحد من "ما كان محمد أبا أحد منالقرآن الكريم في قوله تعالى:

ين وكان الله بكل شيء بي رجالكم ولكن رسول الله وخاتم الن قد حمل المفسرون هذا الوصف على أنه يعني انتهاء52عليما"

الرسالت السماوية وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو . مع أن القول بانتهاء األديان،آخر رسول يبعثه الله إلى الناس

وتوقف فيض الرحمن، - كما رأينا - مخالف لسنة الله منذ بدء هو علىالخليقة، ومخالف لما جاء في آيات أخرى من الكتاب. و

أي حال من أخطر األمور على مستقبل البشر الذين وعدهم الله بهدايتهم، ومورث للحيرة واالرتباك لمناقضته لغير قليل من

أسماء الله التي وصف بها ذاته العلية. لقد عهدنا تكرار النصح وإعادة التحذير وتأكيــد التنبيــه في الكتب السماوية كلما تعلق الحديث بــأمر ذي أهميــة تــذكرة للنــاس.وال يكــاد المــرء يتصــور أمــرا أخطــر في نتائجــه من توقــف الهدايــة

ين"والرحمة الربانية ومــع ذلــك لم يــرد ذكـر بي إال في"خـاتم الن موضع واحد في القرآن كله، ولم يــرد مؤكــدا بصــورة قاطعــة أو سياق الحديث عن رساالت الله، وإنما ورد ذكره مرة واحدة في معرض الثـناء على حضرة الرســول وتميـــيزه على بــاقي رجــال

تركت اآلية الكريمــة المجــال واســعا لفهم كلمــة خــاتم -أمـته، و بفتح التاء - على أنها تعظيم لقــدر الرســول بين األنبيــاء، بمعــنى

٤٠سورة األحزاب، آية 52

39

ــول من أنه ليس كأحد من رجال العرب فحسب بل هو أيضا رس.زينة األنبياءالله و

ين"وال يمكن فهم معـــنى بي والمـــراد من اآليـــة على"خـــاتم الن الوجه الصحيح بمعزل عن المناسبة التي نزلت فيها، وأخذ سياق .الكالم في االعتبــار، ولعــل هــذا هــو الخطــأ الــذي أشــكل فهمها

وتـتلخص الظروف التي أحاطت بنزول هذه اآلية أن النبي - ولمــة من الــذكور على قيــد الحيــاة - كــان قــد تبنى قبــل تكن له ذري نبوته زيد بن الحارثــة، الــذي كــان من بين أوائــل من دخلــوا فيـه لرسـول اللـه، اإلسالم، وكان يدعى زيد بن محمد، واشتهر بحب فساور البعض شك بأن زيد قد يرث النبوة من بعــده على غــرار ما جرى بين أنبياء بني إسرائيل وجــاء ذكــره في ســورة األنبيــاء، فسيدنا إسحاق ويعقوب ونـوح وداود وسـليمان وأيـوب ويوسـفــا ويحــيى وعيســى وإليــاس كلهم أوالد وموســى وهــارون وزكري سيدنا إبراهيم أب األنبياء. أال يمكن أن يكون مراد اللـه من هـذهــوة اآلية إذن قطع دابر الشك ببيان منزلة سيدنا محمد ونفي النب من بعده بدون المساس بدوام مجيء رســل اللــه؟ فــنزل قولــه

ول اللـهتعالى: ـا أحـد من رجـالكم ولكن رسـ ـان محمد أب "ما كين" بي وقد ذكر القــاموس اإلســالمي في شــرح خــاتم53وخاتم الن

ــاتم رين إلى أن المقصــود من خ ــذهب بعض المفســ ــاء: "ي األنبي النبيين )بتاء مكسورة( أي أن الرسول ال يكون له ابن يصــبح من

.54"بعده نبيا

المرجع السابق 53

40

في هــذا السـياق ال"خــاتم النبــيين"وشــعر المفســرون أن ذكـر يكفي في حد ذاته الستنباط حكم عام يبدل سنة الله في إرسال رســله ومبعوثيــه لهدايــة النــاس وحجة عليهم، على النحــو الــذي رأيناه سابقا. فالزعم بتبديل هذه السنة التي قــال تعــالى عنهــا:

تنا تحــويال"" ن لنا وال تجــد لســ ة من قد أرسلنا قبلك من رســ 55سن

يحتاج إلى دليل قاطع، فاستندوا إلى حجـــتين جديــدتين أوالهمــا: أن اإلسالم هو الـدين الوحيــد المقبــول لـدى اللــه، وثانيتهمــا: أن الرسل هم أيضا أنبياء، فــإذا فسـرنا ســيدنا محمــد خــاتم النبــيين

. وســنناقشعلى أنه آخرهم فذلك يعني أيضا أنه آخر المرســلينة األولى الخاصة باإلســالم في الفصــل التــالي، ونكتفي هنــا الحج بمناقشة الزعم بأن خاتم النبيين تعني أيضا خاتم المرسلين رغم

.عدم ذكر ما يفيد ذلك في أي موضع من القرآن الكريمولفسيدنا محمــد، بنص القــرآن الكــريم، حــائز لمقــامين: "رسـ

ين" والله" بي ولو فرضنا جــدال أن خــاتم النبــيين تعــني 56"خاتم الن آخرهم - رغم أن هــذا الفــرض ال يتفــق مــع ســياق النص - فإنــه

. ولكن ذهب كثــير منبــدون شــك ال يفيــد أنــه خــاتم المرســلين الناس إلى تعميمه ليشمل الرسالة أيضــا، والــذين يقولــون بهــذا الــرأي لم يفطنــوا إلى الفصــل الصــريح في اآليــة المباركــة بينــه ــه الل ــام الرســول، فالرســول هــو من يبعث ــبي ومق ــة الن منزل بشريعة والنبي من يسوس الناس وفقا لشــريعة موجــودة، وقــد

أحمد عطية، القاموس اإلسالمي )القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 54١٩٥(الجزء الثاني، ص ١٩٦٦

٧٧سورة اإلسراء، آية 55 ٤٠سورة األحزاب، آية 56

41

ــرذكر القرآن أن بعض الرسل كــانوا أيضــا أنبيــاء كقولــه: "واذكا" ه كان مخلصا وكان رسوال نبي ولــو كــان57في الكتاب موسى إن

.كل الرسل أنبياء لما خص القرآن بعضهم فقط بهذا الوصفــته في شــك من أمــر الفصــل بين ــترك ســيدنا محمــد أمـ ولم ي

"كانت بنو إسرائيل تسوسهمالمقامين، بل فصله تفصيال بقوله: ــدي فســيكونون األنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، ولكن ال نبي بع

.58"خلفاء فيكثرونــالة، ثم ــوة أعم من الرس ــذهب البعض إلى أن النب ــك ي ــع ذل وم

. وكل ذلــكينتهون إلى القول بأن خاتم األعم معناه خاتم األخصــأتي بالكتــاب والشــريعة، تخريج وتعقيد، واألمر سهل: الرسول يــريعة ــو على ش ــا ه ــريعة، وإنم ــاب وال بش ــأتي بكت ــبي ال ي والن الرسول، بمعنى أنه يدبر شــؤون األمــة في ظــل الشــريعة الــتي

. وتدبير شؤون األمة قد يتحقق بغــير النــبي، قــدأتى بها الرسول يتحقق باألئمة أو بالخلفاء، كما ورد في الحديث الشــريف، ولكن ال تأتي الرسالة والشريعة إال على يد رســول، فكيــف يقــال بــأن النبي هو الرســول، وأن ختم النبــوة يعــني ختم الرســالة؟ لمــاذا يعقــد البشــر األمــور على أنفســهم، ويريــدون بهــا العســر واللــه

تعالى يريد اليسر؟موا عقــولهم وحــدها، ونحن بهذا التساؤل ال نهيب بالناس أن يحكــا إلى ــوا أيضـ ــا نهيب بهم أن يرجعـ فالعقـــل قـــد يخطئ، ولكننـ

٥١سورة مريم، آية 57 رواه البخاري 58

42

. وقد اختص اللــه تعــالى رســلهالنصوص المباركة التي ال تخطئ بالكتاب والشريعة، وقصر وظيفة النبي على تدبير شــؤون األمــة وترويج الدين من بعــد الرســول، واســتبدل ســبحانه وتعــالى في دورة اإلسالم - بمعناه الخاص - األنبياء باألئمة والخلفاء، فمـا لنــا باألخص واألعم في هذه الحالة الواضحة الصريحة؟ المسألة في

. الرســول والنــبي همــا بمثابــة األصــل والفــرع -غايــة البســاطة الرسول أصل والنبي فرع، فإذا قــال تعــالى بانتهــاء الفــرع فــإن األصل باق، أما إذا قال تعالى بانتهاء األصل أي الرســول، عندئــذ فصل الخطاب - فال رسول وال نــبي. واللــه تعــالى لم يقــل بختم الرسالة، بل قال بختم النبوة، فلماذا يقول البشر ما لم يقــل بــه

الحق سبحانه وتعالى وهو أعلم بمراده؟ إذاقــال تعــالى: ول وال نبي إال ــك من رســ لنا من قبل "ومــا أرســ

ى" قال النسفي: "وهــذا دليــل واضــح على ثبــوت التغــاير،59تمن . وســئلبين الرسول والنبي بخالف ما يقولــه البعض أنهمــا واحد

النبي عن األنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فقيــل كم".الرسل منهم فقال ثالثمائة وثالثة عشر جم غفير

ــتردد إنســان في فهم "خــاتمال يمكن أمــام هــذه الحقــائق أن ي على الوجه الصحيح، فحتى على فرض أن خاتم النبــيينالنبيين"

تعني آخرهم فإنهـا ال تفيـد ختم الرسـاالت اإللهيــة على اإلطالق، .وال يمكن تصـور الحيـاة بـدون هـذه الرحمـة والهدايـة اإللهيــتين

٥٢سورة الحج، آية 59

43

وتفريعا على هذا يكون القول بعدم ظهور رسول من بعد ســيدنا.محمد انحرافا عن صريح نص كتاب الله

وا نظــرهم عن اإلشــارات واألدهى من ذلــك أن المفســرين غضــ والبشــارات العديــدة المنبئــة عن مجيء رســول من بعــد ســيدنا

، وأهملوا اآليات المتكــررة بتأكيـد سـنة اللـه وتتـابع رسـلهمحمد ودوام فيضــه، ليبنــوا رأيهم بانتهــاء األديــان على لفظــة منفــردة وردت في موضع واحــد في الكتــاب وال تفيــد االنتهــاء على وجــه

. ثم دأبوا على تكــرار ذلــك في كــل مناســبة لكيالقطع واليقين يغرسوا في أذهان الناس بالتكرار ما لم يرد به نص على محمــل

.اليقين فقد رأينا سابقا أن كل أمة اعتقدت بأن رســولها خــاتم الرســل، ودينها ختام األديان، وعلى األخص أمة اليهــود الــتي أصــرت على هذا الزعم مرتين بقولها أن الله أمسك عن إرسال الرســل بعــد ســيدنا موســى وبــه انقطــع الــرزق الروحــاني عن البشــر، فــرد سبحانه وتعالى على هـذا االفتئـات بلـومهم على إصـرارهم على

"ولقد جاءكمالباطل وتكذيبهم للسيد المسيح ثم لسيدنا محمد: ى ــه حت ــاءكم ب نات فما زلتم في شك مما ج يوسف من قبل بالبي إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسوال كذلك يضل اللــه من

وأعاد لومه في موضــع آخــر بعبــارة أشــد،60هو مسرف مرتاب"توأقسى في قولـه تعـالى: ـة غل ـد اللـه مغلول "قـالت اليهـود ي

اء" ،61أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشــ ٣٤سورة غافر، آية 60 ٦٤سورة المائدة، آية 61

44

فالمراد هنا ليس بســط الــرزق المــادي الــذي يفيض بــه الــرزاق على المؤمن وغـير المــؤمن ولكن المــراد هـو الــرزق الروحــاني

الذي يختص به الله من هو أهله.ــر على ثم يبسط سبحانه وتعالى ســنته الــتي لم تتبــدل ولن تتغي طول األزمان، ويضعها أمام الناس كقــانون أساســي واضــح كــل

ــذبوهالوضوح: "ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كـون" ـ 62فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم ال يؤمن

ونوكذلك قوله تعالى: كم رسل منكم يقصــ "يا بني آدم إما يأتينــوف عليهم وال هم ــ لح فال خـ ــ ــ قى وأصـ ـاتي فمن ات ــ ــ عليكم ءاي

.63يحزنون" نخــرج ممــا ســبق أن فهم البشــر آليــات اللــه ليس بمفــازة عن الخطأ في بلوغ مراد الله خصوصا في تأويله لآليــات الــتي جعــلــود ــوم موع ــالى في ي ــه تع ــا من اختصاص ــيانها وتأويله ــه بـ .الل

فالقرآن الكريم، وصف سيدنا محمد بخاتم األنبياء، ولم يذكر فيــوحي، وال أي موضع من كتابه العزيز انتهاء الدين، وال انقطــاع الــد تعاقبهــا واســتمرار الهدايــة توقف الرساالت الســماوية، بــل أك اإللهية: ولو أراد تعالى أن يكون القرآن الكريم ختام هدايتــه لمــا جـاءت فيــه آيـات كثـيرة أخـرى محملـة بالتأكيـد على سـنته في إرسال الرسل، ولعن األمم السابقة لقولهم بأبدية كتابهم وانتهاء

.كلماته تعالى التي ال تكفي بحور العالم وأشجاره لكتابتها

٤٤سورة المؤمنون، آية 62 ٣٥سورة األعراف، آية 63

45

وال شــيء يســاعد الطــالب الصــادق على الفهم الصــحيح، غــيرــل إغماض العين عن كل شيء سوى نور الله، وصم األذن عن كــه من مســتلزمات التحــري عن صوت سوى صوت الله، فهذا كل الحقيقة، حتى يرى كل إنسان بعينه، ويسمع بأذنه، ويفهم بعقله،

ـه ال يوجــد نبــأ أعظم من نبــأ ظهــوروال يتبــع المعرضــين ـ . ألنــأ العظيم ــذا النب ــة أشــد من اإلعــراض عن ه ــود، وال نكب .الموعــة، وســالمة القلب، هي النــور الــذي فتحري الحق وصــفاء الطوي يهدي إلى الحق، والدهن الذي يغذي مصــباح التقــوى، كمــا قــال

مكم الله"تعالى: قوا الله ويعل .64"واتــر ــق إيمانــه على رأي الغــير، بــل يفك والمتوجــه إلى اللــه ال يعل بعقلــه، وينظــر بعينــه ويســمع بأذنــه ال بــأذن اآلخــرين، وال يــتركــه، فكم من ــبيله إلى الل ــثرة في س ــر ع ــف حج ــد أن تق للتقالي التقاليد والعادات القديمة تركناها، وكم من نظرية قديمــة أخلت

. وإن لم يجتهد اإلنســان ويفتح ذهنــه للنــداءمكانها ألخرى جديدةــه يظــل في ظلمــات التقليــد مــرددا مــا قالــه اإللهي الجديــد فإن

ا على ءاثارهم مهتدون"األولون: ا وجدنا آباءنا على أمة وإن .65"إن أما السبب األساسي الذي حدا بالمفسرين على اســتنباط معـانــابقا - ــا س ــا - ذكرن ــو كم ــذكورة ه ــة الم ــاظ اآلي ــا ألف ال تحتمله افتراضــهم أن ختم النبــوة يعــني ضــرورة ختم الرســالت اإللهيــة وانتهائها، وبذلك استبعدوا إمكان ظهور رســول آخــر بعــد ســيدنا

ــة فيمحمد ــالة إلهيـ ــارة إلى رسـ ــل إشـ روا كـ ــ ، ومن ثم فسـ ٢٨٢سورة البقرة، آية 64 ٢٢سورة الزخرف، آية 65

46

. ولــو أنالمستقبل على أنها ال بد أن تعني رســالة ســيدنا محمد االجتهـــاد تجنب الفـــروض المســـبقة واعتــــنى ببيـــان الحقيقـــةــالب المذكورة في الكتاب كما وردت فيه لتجنبت تفاسيرهم المث

واهتدى بها قوم كثير. وال أظهر اليوم من الحاجــة إلى التجديــد والهدايــة واإلصــالح في

. وهكذا سد هذاعالم مضطرب صرفته الماديات عن الروحانيات التفسير أبواب الهداية في وجه المؤمنين وصرفهم عن اتباع منــزوا بعثهم الله بالحق، وأفسح الميدان لمدعي اإلصالح الــذين ركــدة الظنــون ــذه التفاســير المنحــدرة في وه حركــاتهم على ه واألوهام، وتزعم أن الفيض اإللهامي، والوحي اإللهي قــد انقطــع

.إلى األبد بعد النبي فال يظهر بعده إال المصلحون ولهذا يردد البعض أنشودة اإلصالح الــتي يطــرب لهــا العامــة في

. وطالمــاحياتهم التي جفت روحانيتها بانتشار المفاسد والشرورــدات ــوتهم على المعتقـ ــون دعـ ــالح يؤسسـ ــادين باإلصـ أن المنـ واألفكار والتفاسير المألوفة عند الناس فال بد أن يجــدوا الكفايــة من المريدين، وطالما أن وحــدة األمــة مفتـــتة بــالطرق والشــيع والمذاهب المتعــددة فلن تضــيق رقعتهــا في وجــه المزيــد مهمــا استجد ويستجد؟ وكل مدع قام في األمة زعم أن غايته اإلصالح، فمــا هــو اإلصــالح؟ أهــو مجــرد عنــوان يخلب األلبــاب، أو أفكــار

عارضة توهم بتغيير سطحي يجلب األتباع؟ إن اإلصـالح الـديني هـو تخليص المعتقــدات الدينيــة من شـوائب

. واإلصالح هــوالخرافات واألوهام التي تدخل عليها بمرور الوقت

47

إذكاء روح الــدين الــتي يعتريهــا الفتــور بمــرور الــزمن كمــا قــالـال عليهمتعالى: ـل فط ـاب من قب ـوا الكت ذين أوت "وال يكونوا كال

قون" ـير منهم فاسـ ــوبهم وكث ت قل واإلصـالح هـو،66األمـد فقسـ تشريع األحكام المناسبة لمعالجة ما يواجه حاجــات البشــر وفقــا

. واإلصــالح هـو إخضــاع النفسلظروف الحياة ومقتضيات العصرــاء ــوت إلى علي ــرقى بالناس ــتي ت ــل ال ــادئ والمث ــرية للمب البش

.الملكوت واإلصالح بهذا المعنى هو جــوهر الرســالت اإللهيــة وعمــل أوكلــه الله إلى رســله الــذين يبــدأ كــل منهم حلقــة جديــدة من حلقــات خطة إلهية متدرجة لسمو اإلنسان إلى معارج الكمال الروحاني، واإلصالح هو النور الذي هدى األنام منذ بدء الخلق وما زال يقــود

. ولم نــر فياإلنسانية قدما في الطريــق الممتــد بامتــداد الــدهرــاضالتاريخ مصدرا لإلصالح غير هذا . فاإلصالح نسمة هابة من ري

ــة رحمة الله، رقيقة منعشة شافية محيية خالقة بقدر ما هي قوي شديدة ثائرة، تحــرك عقـول النـاس وقلـوبهم كمـا تحـرك الـريحــدفع باأليــدي البحار الساكنة، وترفع األفكار نحو آفاق الــرقي، وت

.للعمل في مختلف الميادين . بعد أن رأينــا فيمــا تقــدم مــدى تمســكونعود إلى ما كنا بصدده

ــذا كل أمة بأن شريعتها هي آخر الشرائع وأكملها، رغم تناقض ه .االعتقاد مع تبشير كتابهــا المقــدس بمجيء مبعــوث إلهي مقبل

وظهرهذا التنـاقض على وجــه الخصـوص بين اعتقـاد المسـلمين

١٦سورة الحديد، آية 66

48

ين"بنزول سيدنا المسيح وبين تفســيرهم بي ــه"خــاتم الن على أن . ولرفــع هــذا التنــاقضيعني انتهاء النبوة والرسالة بسيدنا محمد

ذهب البعض بــأن مجيء ســيدنا المســيح لن يتوافــق مــع تنزيــل شرع جديد، ولكن هذا التفسير ال يتفق ومفهوم ختم النبوة، كمــا أنه ال يتفق مع اإلصالح الجذري الذي سيقوم بــه الســيد المســيح لنشر العدل وإقرارالسالم وتجديد الشــرع، كمــا جــاء في العديــدــون من من األحاديث الشريفة، وكلها تقتضي تشريعا جديدا، فيك الصواب أو األكــثر صــوابا أن نفهم خــاتم النبــيين على نحــو أكــثر اتساقا مع النصوص المباركة وعلى ضوء المبدأ الثابت بأن الدين

عند الله واحد.ــهولنتمعن في قوله تعــالى ى ب رع لكم من الــدين مــا وصــ : "شــ

ى ى وعيســ ــراهيم وموســ ذي أوحينا إليك وما وصينا به إب نوحا والــه" قــوا في لنتــبين أن القــرآن الكــريم 67أن أقيموا الــدين وال تتفر

ــرة وفقــا لمشــيئة صريح في أن الدين واحد، مع أن األحكام متغي الله وحكمته وتبعا لمقتضـيات الزمــان، بـل قـد تقتضـي الحكمـة تغيــير األحكــام حــتى في زمن الرســول نفســه، كمــا حــدث فيــة، وكمــا اقتضــى نســخ بعض األحكــام بعــد تنزيلها ــديل القبل .تب فيكون من األحرى إذا أن تتبــدل أحكــام الشــرائع المتتاليــة رغم ثبات أصــولها وثبــوت وحــدتها، بمعـنى أن إســالم العبــد وانقيــاده إلرادة الله - وهو أصل الدين - واحد في كل األديان، أما األحكامــاس فهي ــلوك الن ــتي تحكم س ــل وال ــذا األص ــة عن ه المتفرع

. فدين اإلسالم إلى الله الــذي أمــرمختلفة من رسالة إلى أخرى ١٣سورة الشورى، آية 67

49

ــر به سيدنا محمد المسلمين، هو نفس اإلسالم إلى الله الذي أم به سيدنا نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيســى عليهم صــلوات اللــه أجمعين، مع اختالف شريعة كــل منهم عن ســواها في تفاصــيلها

وشعائرها. ووحدانية الدين نتيجة طبيعية لتسليمنا بوحدانيــة اللــه ألن الــدين

. ووحدانيــة الرســاالت الســماويةكالمه وإرادتــه تتصــفان بصــفته . لقــدتستتبع اتحاد المظاهر اإللهية الذين يحملون هذه الرساالت

ــاقال السيد المسيح مبشرا حوارييــه بمجيء ســيدنا محمــد: "أن 68أذهب ثم آتي إليكم" را ، كمــا قــال لهم في موضــع آخــر مبشــ

ي"بمجيء ســيدنا محمــد: ــز ــأتيكم المع ــق ال ي ثم 69"إن لم أنطلــك: ــاف إلى ذلـ أضـ ــاألقول لكم ال ـيرة أيضـ ــ ــورا كث "إن لي أمـ

ــو تستطيعون أن تحتملوا اآلن وأما متى جــاء ذاك روح الحــق فه ، ومعنى هاتين العبارتين ومقصدهما 70يرشدكم إلى جميع الحق"

عند أهل الحقيقة والعرفــان واحــد ألن اختالفهمــا الظــاهر يرجــع إلى المراتب المتعددة التي يعبر عنهــا المتحــدثون باســم الهويــة وتختلف هذه المراتب بين منزلة التجريد ومنزلة التعــيين. فمثــل

ى"مرتبة التجريد ما عنــاه ســيدنا محمــد من قولــه: ــا عيســ ،"أنــرى حيث ينعدم في هذا المقام أي فــرق أو تفــاوت بينهمــا، وال ي في مهامهمــا تفــاوت من حيث الجــوهر، ألن كالهمــا يعــرب عن إرادة الله الواحد، وكالهما يمجد ذكــره وثنــاءه تعــالى. فالحقيقــة

٢٨-١٤انجيل يوحنا، 68 ١٧:١٦إنجيل يوحنا، 69 ١٣، ١٢-١٦إنجيل يوحنا، 70

50

التي ما دأبت ترددها آيـات الكتب المقدسـة وكلمـات المبعـوثين بها هي أن للمظاهر اإللهية الذين يبعثهم اللــه إلى بــني اإلنســان

ــلحالتين: " حالة هم فيها في علياء التجريد، ومجتمعون في هيك التفريد، وليس لهم في هذه المرتبة ســوى وصــف واحــد واســم واحــد، وال تحــركهم إال مشــيئة واحــدة، ويعكســون جميعــا أنــوار األحدية بحيث يصدق عليهم في هذا المقــام وصــف اللــه تعــالى:

ق بين أحد منهم" وهو ذات الحالــة الــتي أعــرب عنهــا، 71"ال نفرون فأنا"الرسول األمين بقوله: بي ــدس "أما الن وهذا المقام مق

عن الكثرة وعوارض التعدد ولهــذا يقــول تعــالى: ــا إال "ومــا أمرن وغني عن البيان أن مظاهر األمر الواحد شأنهم واحد، 72واحدة"

وغايتهم واحدة.ــالم ــتوى الع ــا على مس ــة هم فيه ــا حال ــة أيض ــاهر اإللهي وللمظ المشهود حيث ينزلون إلى الرتبة البشرية وهو مقام التفصــيل ال التجريد، فيكــون لكــل منهم شــأن خــاص، وأمــر مقــرر، ووصــف متميز، وأمر بديع وشرع جديد، وهو المقــام الــذي وصــفه تعــالى

مبقولــه: هم على بعض منهم من كل لنا بعضــ ل فضــ ســ ــك الر "تلدناه ــات وأي ن الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البي

.73بروح القدس" ونظرا الختالف هذه المراتب والمقامات تظهــر بيانــات وكلمــات المظاهر اإللهية مختلفة تبعا للمنزلة التي يتحدثون منها، وإال في

١٣٦سورة البقرة، آية 71٥٠سورة القمر، آية 72 253سورة البقرة آية 73

51

الحقيقة تعتبر جميعها لدى العارفين بمعضــالت المســائل اإللهيــة . ولكن لعــدم معرفــة أكــثر النــاس بهــذهفي حكم كلمــة واحــدة

المقامات يختلــط عليهم األمــر وتســري إلى قلــوبهم الريبــة منجراء اختالف الكلمات الصادرة من تلك الهياكل المقدسة.

ين" ولعل من أقوى األدلة على أن وصف بي ال يتعارض"خاتم الن ،مع مجيء المبعوثين من الله مســتقبال كمــا جــاءوا في الماضي

ــاديث ــا األح ــرآن ورددته ــا الق ــتي أورده ــارات ال ــود والبش الوعــالم بعــد أن الشــريفة عن مجيء المهــدي وعيســى إلصــالح الع

.يستشري فيه الفساد والظلم والعدوان

52

ظهور المهدي وعيسى

ى: قال تعالى في سورة النساء يح عيســ ا قتلنا المســ "وقولهم إنه لهم وإن ب لبوه ولكن شــ ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صــــاع ب ات ــه من علم إال ك منــه مــا لهم ب ذين اختلفــوا فيــه لفي شــ ال ــزا حكيمــا الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيــون ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يك وإن من أهل الكتاب إال

والواضح أن الحديث في هذه اآليات عن الســيد 74شهيدا" عليهم.المسيح

ــة"قبل موته"ولكن اختلف المفسرون في معنى فذهب الغالب إلى أن اآلية تبشر بــيوم الجمـع عنـدما يـؤمن كـل أهـل الكتـابــاني، ــه الث ــه - أي المســيح - في مجيئ بســيدنا عيســى قبــل موت وذهب البعض إلى أن اآلية تعني أن كل أهـل الكتــاب في لحظـة

. وينقل ابن كثير عن ابن جريــر قولــه:موتهم يؤمنون بسيدنا عيسى "وأولى هذه األقوال بالصحة القول األول، وهو أنه ال يبقى أحــد من

أهل الكتاب بعد نــزول عيســى عليــه الســالم إال آمن بــه قبــل مــوت."عيسى عليه السالم

ويعلق ابن كثير على ذلك بقوله: "ال شك أن هذا الــذي قالــه ابنــر ــه المقصــود من ســياق اآلي في تقري ــر هــو الصــحيح، ألن جري

ــلبطالن ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وإنه سينزل قب يوم القيامة، كما دلت عليه األحاديث المتواترة التي سنوردها إن

١٥٩-١٥٧سورة النساء، آية 74

53

شاء الله قريبا فيقتل المسيح الضاللة، ويكســر الصــليب، ويقتــلــه يــؤمن بــه الخنزير، ويضع الجزية فأخبرت هذه اآلية الكريمة أنــد ــه واح ــف عن التصــديق ب ــذ وال يتخل ــاب حيئ ــل الكت ــع أه جمي

. واستشهد ابن كثير بعد ذلك بعدد من األحاديث النبويــة75منهم" الشريفة في عودة السيد المسيح، نكتفي بذكر واحد منها: "قال البخاري رحمه الله في كتاب ذكــر األنبيــاء عن أبي هريــرة قــال، قال رسول الله: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدال، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى ال يقبله أحد، وحتى تكــون الســجدة خــيرا لــه

. وحديث نبوي آخر ورد في الفتوحات المكيةمن الدنيا وما فيها"ــا لــو لم يبقى عن رسول الله أنه قال: "فوالذي بعثني بــالحق نبي من الدنيا إال يوم واحد لطول اللــه ذلــك اليــوم حــتى يخــرج فيــه ولدي المهدي ثم ينزل روح الله خلفــه ويبلــغ ســلطانه المشــرق

ب".والمغر ورغم ذلك تركت أقوال المشككين في ظهور المهدي أثرهــا في

. فانقسموا إلى مذاهب أنكــر بعضــها الروايــاتتفكير أهل السنة الخاصة بظهور المهدي واعتبروها من اإلســرائيليات، بينمــا ذهب فريق آخر إلى أن هذه أوهام تـنـتشر عادة في البيئة التي يسود فيها الفساد والظلم والفاقة فيتشبث الناس بأمل الفرج على يدــاده بمجيء ــديم اعتق ــالث على ق ــق ث ــوث إلهي، وبقي فري مبع

. أمــا أهــلالمهــدي وإن لم نعــد نســمع الكثــير عن هــذا المجيءــائم آل محمــد - أي الشيعة، فقد بقي اعتقادهم راسخا في أن ق

٤٥٨مختصر تفسير ابن كثير، المجلد األول، ص 75

54

المهــدي – ال بــد أن يظهــر، وأن عيســى ال بــد أن يــنزل، إال أنهم يعتقدون بأن ظهورهما ال يعني نزول كتاب سماوي جديد، ألنهمــا سيحكمان بشريعة سيدنا محمد، وتكون مهمـتهما أساســا تغليب اإلسالم على سائر األديان، وهذا هو الرأي الســائد أيضــا بين من بقي من أهل السنة على قديم اعتقـاده بظهـور المهــدي ونــزول

عيسى. خالصــة القــول أن مجيء المهــدي ونــزول عيســى كــانت قضــيةــا على مســلم بهــا إجماعــا في الماضــي، وال دليــل اليــوم يحملن

. ولكن بقي أن نعـرف هـل هنـاك سـر في حـديث الالـريب فيها مهدي إال عيســى فنحــاول أن نســتعين باللــه في الكشــف عنــه؟ وهذا السؤال يسوق إلى مزيد من األسئلة: لماذا ســيدنا عيســى بالذات هو الــذي يــنزل في آخــر األيــام؟ ولمــاذا ال يكــون ســيدنا محمد أو سيدنا موسى أو سيدنا إبراهيم، أو أي رســول آخــر من رسل الله، عليهم جميعا صلوات اللــه وســالمه؟ هــل يرجــع ذكــر

نزول السيد المسيح إلى خصائص ميزت رسالته؟ نسوق هــذه األســئلة ألنهــا تســاعد البــاحث على معرفــة القيمــة الحقيقية لقول من قالوا بأن المســحاء الــذين يظهــرون من بعـد محمد هم األولياء ورثة األنبياء، على الرغم من أننا أمام نصــوصــأن واضحة صريحة في القرآن الكريم وفي األحاديث الشــريفة ب .الموعود بالنزول هو عيسى واحد فقط وليس مسحاء وال أولياء

نعم إن العلمــاء ورثـة األنبيـاء ومـع ذلـك فمقـام العلمــاء شـيء،

55

ــام ومقام األنبياء شيء آخر، مقام األنبياء يظل مقام الفيض ومق.العلماء مقام االستفاضة

ورد في القــرآن واإلنجيــل والتــوراة ذكــر عالمــة تقــدمت ظهــور سيدنا المسيح منذ عشرين قرنا، أال وهي ظهور يحيى بن زكريا،ر بظهـور أعظم يوشـك أن معلنا أنه مصـدق بكلمـة منـه، ومبشـ

. ونادى يحيى بين النــاس قــائال:يكشف النقاب عن جماله وجاللهــماوات ــوت السـ ــترب ملكـ ــد اقـ ــوا فقـ ، وعنى بملكـــوت""توبـ

ــة الــتي تجلت السماوات ظهور الحقيقــة اإللهيــة والهدايــة الرباني فعال من بعده بإشراق شمس جمال سيدنا المسيح عليه السالم، ثم قدم يحيى رأسه في النهايــة فــداء للظهــور األكــرم، وشــهادة

منه إلى الناس. تلك كانت عالمة مجيء سيدنا المسيح، إذا دققنا النظر فيها فلن نخفـق في فهم المعـنى المـراد بـنزول سـيدنا عيسـى أو بعـودةـه في آخــر سيدنا المسيح، ألن كليهما يعني شــيئا واحــدا، وهـو أن

". فــنزولاأليام يظهر مبعوث إلهي عظيم كريم كنيتــه "المســيح سيدنا المسيح ال يعني شخصـه األول لحمـا ودمـا، بـل هـو تعبــير مجـــازي لمجيء رســـالة تماثـــل في ظـــروف مجيئهـــا رســـالة

. وبعبارة أوضح، فــإن ظهــورسيدناعيسى ابن مريم عليه السالمر يهيئ لمجيئــه، مثــل يحــيى الــذي الموعود يكون مسبوقا بمبشــ

تقدم ظهور السيد المسيح.

56

اجفــةوالقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة: ــوم ترجــف الر "يما هي زجــرة واحــدة " ادفة ... فإن ومعــنى الزجــرة، 76تتبعها الر

الواحدة هي أن الراجفة والرادفة هما صــيحة واحــدة، التحادهمــا في المصدر والجوهر والغاية والزمن، ولهــذا فقــد أشــار حضــرة

ر بــه بقولــه ــه مظهــريبهاءالله إلى حضرة الباب الــذي بشــ "إن.األول"

فما وظيفة هذين المظهرين المبــاركين؟ يعتقــد المســلمون بــأن . ويعتقــد المســيحيون بــأن عــودةظهورهما يكون لتجديد اإلسالم

. وينتظــرسيدنا المسيح هي لنشر اإليمان بالمسيحية في العــالم اليهــود بــدورهم ســيدنا المســيح إلعــادة مجــد داود وإعالء شــأن

. فكل هــذه الملــل تعتقــد في أن مجيء المبعــوث إإللهيالتوراة المشار إليه بالمسيح ســيعيد شــريعتهم إلى نقائهــا األول، ويعيــدــال إلى األمة مجدها الغابر، وتترقب هذه الملل يوم ظهوره بابته وحنين، ولكن كيف سيتعرفون عليــه؟ ويعلــق على ذلــك الكــاتبــور ــا شــديدا لظه ــاك ترقب األمــريكي وليم ســيرز: "فمــا زال هن المسيح في أماكن عديدة من العالم، ولكني أدركت بأن التعرف عليه سيكون عسيرا جدا، ما دام أنه منتظر أن يكــون أبيضــا فيــى، ــرق األقص ــفرا في الش ــا، وأص ــودا في إفريقي ــا، وأس أوروب

. وتضاعفت صــعوبةوأسمرا في الجزر، وأحمرا عند هنود أمريكاــيحيا في ــون مس ــع أن يك ــدما علمت أن من المتوق ــتي عن مهم

١٣ و ٧ و ٦سورة النازعات، آية 76

57

ــا في ــا في الصــين، ويهودي الغــرب، وهندوســيا في الهنــد، وبوذي.77إسرائيل، ومسلما بين العرب، وزردشتيا بين الفرس"

هذه هي الصور العالقة في أذهان أهل العالم في ترقبهم لظهورمــا هي الموعود، وهي ال تنسجم مع منطق اآليــة المباركــة: "فإن

، فالجمع والتوحيد إنما هو جزء من الخطة اإللهيــةزجرة واحدة" الشاملة، ولكن لم يكن في مقدور المفســرين أن يتكهنــوا بهــذه الخطة قبل أن يكشف الله كنهها ويظهر تأويلها، كما لم يكن في مقــدورهم تصــور أشخاصـها المباركـة قبــل ظهـورهم من مكمن

. فالراجفـــة والرادفـــة همـــا كنايـــة عن المظهـــرينقـــدرة الله المرمــوز لهمــا المبــاركين حضــرة البــاب وحضــرة "بهــاء اللــه"

بالمهـــدي والمســـيح، وهمـــا المنفـــذان لخطـــة اللـــه بحيث يتم بمجيئهما توحيد دين الله الذي جرت سنة الله على توسيع آفاقه

.بدقة وانتظام في أزمنة متوالية وتحقق الوعد، وظهر من مكمن الغيب حضرة "الباب" وحضــرة "بهــاء اللــه" في اليــوم الموعــود وجــاءا بتأويــل الكتــاب، ووهبــا للعالم صحفا مطهرة فيها كتب قيمة، فيها فصل الخطــاب، وبهــا ينتهي الـنزاع والجــدال وتتجلى الحقـائق الـتي طمسـتها األفهــامما طريــق الفالح لتعيش األمم والشــعوب المتغايرة، وبــذلك رســ .والقبائــل واألجنــاس في ظــل خيمــة االتحــاد والوفــاق والســالم

واالعتراض اليوم على حضرة بهاءالله يعيد إلى األذهان المأســاة

77 William Sears, Thief in the Night )seventh reprint, Oxford. George Ronald, 1990(, p.32

58

ــود، ــورة ه ــيلها في س ــتي ورد تفص ــاريخ وال ــبر الت ــررة ع المتكوتكذيب األمم لكل من بعثهم الله لهدايتهم.

نضــيف إلى مــا ســبق حــديثين شــريفين لعلهمــا يســاعدان على تكــوين فكــرة صــحيحة عن طبيعــة المهــام العظيمــة الــتي ال بــد

. الحــديثلهذين المظهرين المباركين الموعودين أن يضطلعا بهاــرة أن ــتدرك األول عن أبي هريـ ــاكم في المسـ األول: روى الحـ رسول الله قال: "إن روح الله عيسى نازل فيكم فيدق الصــليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو النــاس على اإلســالم فيهلــك في زمانه المسيح الــدجال، وتقــع اآلمنــة على أهــل األرض حــتى ترعى األسود مع اإلبــل والنمــور مــع البقــر، والــذئاب مــع الغنم،

ــات ال تضــرهم " والحــديث الثــاني: روىويلعب الصبيان مــع الحي البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول اللــه صــلى اللــه عليــه وسـلم قـال: "والـذي نفسـي بيــده ليوشــكن أن يـنزل فيكم ابن مريم حكما عدال فيكسر الصليب ويقتــل الخــنزير ويضــع الحــرب ويفيض المال حتى ال يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير

".من الدنيا وما فيهاــاهر ــا على ظ رنا معناهم ــ ــديثين إذا قص ــذين الح ال يمكن فهم ه األلفاظ، ألن رعي األسود مع اإلبل، والنمور مــع البقــر، والــذئاب مع الغنم مستحيل في نظام الطبيعة، فاإلبل والبقر والغنم غــذاء األسود والنمور والذئاب، وال يمكن الجمع بينهم في وئــام إال في فرضين، األول: أن يتجــرد أحــد الفــريقين عن طبيعتــه وحينئــذ ال يصــدق عليــه وصــف األســود والنمــور والــذئاب أو وصــف اإلبــل

59

والبقــر والغنم وتصــبح حيوانــات أخــرى، وليس هــذا منطــوق أن نحمل معــنى الحــديثين الثاني: . والفرضالحديثين وال غايتهما

على المجاز فيكون مراده التوفيق بين األمم المتناحرة، وتنسيق مصالحهم بحيث ال يكون بينهم فيما بعــد آكــل ومــأكول أو طغــاة

ومستضعفون. وفي التوراة نص قريب الشبه مما ورد في الحديثين الشــريفين،ــوراة وزمن على الرغم من مرور ألفين من السنين بين زمن الت

يب منسيدنا محمــد، فقــد ورد في إشــعيا قولــه: "ويخــرج قضــب روح ــه روح الــر جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحــل عليــة ــة ومخاف ــوة روح المعرف ورة والق ــة والفهم روح المشــ الحكم

ب ب فال يقضي بحسب نظر عينيه الر ولذته تكون في مخافة الراكين ــدل للمســ ي بالع ــل يقضــ ــه. ب مع أذني ب ســ وال يحكم بحســيب فمــه رب األرض بقضــ ي األرض ويضــ ويحكم باإلنصاف لبائســكن الــذئب مــع الخــروف فتيه ... فيســ ويميت المنافق بنفخــة شــبى من معــا وصــ بل والمســ مر مع الجدي والعجل والش ويربض النة ترعيان. تربض أوالدهما معا األسد صغير يسوقها. والبقرة والدبــد الفطيم ضيع على سرب الصل ويم كالبقر يأكل تبنا. ويلعب الرــل ــل جب دون في ك وؤون وال يفســ يده على جحر األفعوان ال يســــاه ب كمــا تغطي المي ــة الــر ي ألن األرض تمتلئ من معرف قدســ

.78البحر"

٩-١أشعياء، اإلصحاح الحادي عشر، 78

60

والخالصة أنه في اليوم الموعود المعــروف بــاليوم اآلخــر يكســرــتب األمن، ــروب، ويستـ ــل الح ــر األرض، وتبط ــليب، وتطه الصس الســالم وتبطل الجزية، وتتحقــق العدالــة االجتماعيــة، ويتأســ

. فــالمراد من لفظــة كســر الصــليب الــواردة على ســبيلالعــام المجاز هو القضاء على الظلم والقسوة والتعذيب، وحلــول عهــد جديد تزول فيه الهمجية والظلم، وتحل العدالـة ويقــوى سـلطان

. وقس على هذا النمــط الخــنزير،القانون وتسود حقوق اإلنسان فإنه أطلق مجــازا على حيــاة القــذارة الــتي يــؤدي إليهــا فقــدان

ــزاألخالق والحرمان من الهداية . وكذلك لفظة القردة، فإنها ترم إلى اإلنســان الــذي يلغي عقلــه، وال يحكم على األشــياء بنفســه،

.ويرضى بالتقليد األعمى وباالختصار، كل ما جاء في الكتب المقدسة، واألحاديث الشريفة بهذا الشأن، يشــير إلى تغيــير جــذري في حيــاة اإلنســان ظــاهرا وباطنــا، فإزالــة أســباب المفاســد والشــرور، وإصــالح المجتمــع وإقامة العدل، واحترام حقوق اإلنســان، واســتتباب الســالم، هيــات ــذه اآلي ــراد ه ــان م ــو ك ــه، ول ــديني وثمرات ــائج اإلصــالح ال نت واألحــاديث معانيهــا الظــاهرة لمــا احتــاج األمــر إلرســال الرســل لكســر الصــليب وقتــل الخنــازير، فالبشــر كفيــل بــذلك، وال هي

. والمتدبر في الحديثينأعمال تليق بسمو مقامهم وجالل مهامهمــة: األولى :المبــاركين يخــرج بثالث حقــائق جوهري أن حضــرة البــاب

وحضرة بهاءالله المشار إليهمــا بالمهــدي والمســيح، يكســران . ومعنى هذا أن زمن القضاء المبرم على الظلمالصليب ويقتالن الخنزير

61

والهمجية واالنحطاط الخلقي موكول إلى المستقبل وموقوت بظهور . والحقيقة الثانية: أن حضرة الباب وحضرة بهاءاللــهالمهدي وعيسى

سيأتيان بنظام يزيل أخطــار الحــرب، ويبطــل الجزيــة، أي بشــرعــة،جديد ــان بين األمم المتعادي ــا يوفق ــة: أنهم ــة الثالث . والحقيق

ــا ــل، ويســكبان من روحهم ــة من بين المل ــداوة التقليدي ــزيالن الع ويب بكافــة أشــكاله، فيعم التعــاون الخالق مــا يطفئ نــيران التعصــ

والتآزر والسالم. ما أردنا بهذا البحث الموجز إال لفت األنظار إلى ما أحدثه تفسيرــدة المتشابهات من اضطراب في الفكر الديني بحيث مزق الوحــة والقــدرة على التميــيز الفكرية لألمة، وأضــعف الطاقــة الروحيــون ــام البشــر وظن ــه وأوه ــراد الل بين الغث والنفيس، أو بين م

. وكلمــا حــاول المصــلحون إخــراج الفكــر الــديني منالمفسرينــرق على جموده ازداد انقسامه بظهور المزيد من المذاهب والف نقيض الكلمة اإللهية الجامعة ألشتات الملــل والموحــدة لألفكــارــا في أمــة ــا وروحاني المتفرقــة، وقــدرتها على جمــع الكــل فكري

.وطيدة األركان

62

الفصل الثاني - سرج نورها واحد تحتل قضية التوحيد مكانا بــارزا بين الموضــوعات الــتي يتبــاحث فيها أهــل األديــان المختلفــة، وال خالف بينهم بخصــوص وحدانيــة

. فكـــل من اليهـــوداللــه، ولكن يـــدور النقـــاش حـــول مفهومهاــع بعض والنصارى والمسلمين يؤكدون اعتقادهم بوحدانية الله م

ــون ــا يعن ــاوت فيم ــةالتف ــل البراهم . وحــتى األمم القديمــة - مث . ولموالصابئة والوثنيين - ســلمت هي األخــرى بوجــود إلــه واحد

تكن عبادتهم لألوثان لذاتها ولكن بوصفها وسائط لالستفاضة من .الفيوضات اإللهية ووســيلة للتقــرب والتوســل إلى فــاطر البرية

وحقيقة األوثان أنها صور ورسوم ألشخاص قاموا بخدمات جليلة ألقوامهم، وكانوا أداة لتقدمهم فوضــعت تمــاثيلهم وصــورهم في .المعابد إجالال لخدماتهم، وتعظيما ألشخاصهم، وإكراما لذكراهم

وبمــرور الــزمن تحــول اإلجالل واإلكــرام بين العــوام إلى تكبــير وتقــديس فنســبوا إليهم الكرامــات وخــوارق العــادات، وتلمســوا .منهم البركة وقضــاء الحاجــات، وتشــفعوا وتقربــوا بهم إلى الله

ه الوثنيين إلى أوثان متعددة ال يناقض اعتقادهم بإله واحــد، فتوج كما أن تقديس بني إسرائيل ألنبيــاء متعــددة لم يزعــزع إيمــانهمــد ــاء عن ــد المســيحيين واألولي ــانيم عن ــد، وال نفت األق ــه واح بإل

.المسلمين وحدانية اللهــان أن الــذات اإللهيــة غيب ال ومن المتفــق عليــه بين أهــل األدي تدركه العقول وال يبلــغ إلى حمــاه المــنيع فكــر البشــر، وكــل مــا .يتصوره اإلنسان في هذا المجال هــو من قبيــل الــوهم والخيــال

63

وال ســبيل لإلنســان أن يعــرف عن اللــه ال صــفاته وال مــراده إال بواســطة من اصــطفاهم اللــه لهــذا الغــرض واختــارهم وســطاء يحدثون عن صفاته ويبلغون مشيئته ويعددون أفضــاله ويــذكرون خلقه بواجب ثنائه ولزوم التسليم ألوامره، وينبئونهم بما ستؤول

ــدونإليه آخرتهم . فأهل األديان والمؤمنون بهؤالء الصــفوة ال يعب هؤالء المرسلين، واحترامهم وتقديسهم وتعظيمهم لهؤالء األنبياء والمرسلين موجه في الحقيقة لمن بعثهم فهم مظــاهره وحملــة نوره والحاكي عن صفاته والمعرب عن إرادته والمتحدث باسمهــرى فيهم ســوى مــا وقد فنت ذواتهم وانمحت إرادتهم بحيث ال ي أفــاض اللــه عليهم، فأصــبح اإليمــان بهم عين اإليمــان باللــه،ــه وطاعتهم طاعة لله، والخشوع لهم خشوع لله، وحبهم حب الل ومع ذلك فذواتهم غــير ذات اللــه، والعبــادة ليســت لهم بــل للــه الذي ال يوصف بأوصاف البشر، وتعالى سبحانه عن مماثلة خلقه

.أو مشابهة الموجودات فالتوحيد بكل بساطة يعني أن يكون توجــه المؤمــنين - أيــا كــان دينهم - إلى الله، وأن تكون عبادتهم - مهمــا اختلفت مناســكها -

. وفي هــذه القبلــةلله من دون رسله وأنبيائه وأوليائه وقديســيه عند أعتــاب الــذات اإللهيــة يلتقي جميــع البشــر بحبهم وابتهــالهم

ومناجاتهم وتتجلى وحدة مبدئهم ومقصدهم ومآبهم. ومباحث الفصل الثاني تتناول مواضيع تــدور حــول وحدانيــة اللــه فتحاول أن توضح أن المظاهر اإللهية - الــتي اعتــدنا أن نســميها رسل الله - أهل لكل إجالل واحترام وتعظيم وحب، ولكن بــدون

64

أن تصرف العباد عن ذات الحق الذي حدثوا عنه، وجــاءوا بــأمره ودعوا إلى طاعته والعبودية له، فهذا هو القصــد الــدائم من وراء

. فــإرادة الحــق ذاتــه - أينمــا وكيفمــاكل مبعوثيه وكتبه وشرائعه تظهر - يجب أن تكون هي بؤرة االنتباه، والتســليم واالنقيــاد لهــا

ــيلةينبغي أن يكون منتهى أمنية المؤمن . ألن في ذلك وحده وس.البقاء في رحاب رضوانه تعالى

فتتفرع المناقشة من هذا األصل إلى ثالثة مباحث:

أوال: وحدانية الله ووحدة مظاهره ورسله األكرمينثانيا: شهادة كل رسول لمن سبقه وتبشيره بمن يتبعه ثالثا: حقيقة اإلسالم الذي ال يقبل الله عنه بديال

65

التوحيد في كتاب الله

. وأبــرزأتينا فيما تقــدم على مقتطفــات في بيــان معــنى التوحيد اللــه تعــالى في كتابــه العزيــز ركن التوحيــد في صــورة واضــحة خالية من كل شبهة أو تعقيد، ومنها يستشرف الطالب الحقــائق

الثالثة اآلتية: الحقيقة األولى: أن الله تعالى يتصف بالوحدانية، وأن رسله وأنبياءه

يكتسبون هذه الصفة، ألنهم يعكسون على حيز الوجود عين ما . وينبني على ذلك أيضا أن الدين واحد ألنهاستفاضوا به من وحي الله

ا باللهنور واحد وكلمة صدق واحدة مصداقا لقوله تعالى : "قولوا ءامن وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

ون بي ويعقوب واألسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" هم ال نفر .79من رب

الحقيقة الثانية: أن الشرائع التي نزلت من عند اللــه على رســل متعددين، وألمم مختلفــة، وفي ظــروف ودورات مختلفــة، كــانتــير لإلرادة ــدافها، فهي تعبـ ــدرها وأهـ ــدة في مصـ وال زالت واحـــر على وجــه الــدوام، ومواجهــة اإللهية، وغايتها تنظيم عــالم متغي

متطلبات إنسانية متطورة. الحقيقة الثالثة: أن العمل الموكول إلى رســل اللــه في مختلــف العصور، يصل بين هذه الرساالت السماوية لبناء صرح اإلنسانية

. فكل منهم يشــهد للرســول الســابق عليــه، وفي الــوقتالممتد

١٣٦سورة البقرة، آية 79

66

. وعلى هـذا النحـو تتجلىنفسه يبشر بالرسول الذي يـأتي بعـده وحدانية الله وفردانيته مع تعدد مظــاهر أمــره ومطــالع أســمائه، وتفاوت عصورهم، ألنهم جميعــا مشـارق شـمس حقيقـة واحــدة مهما تعددت اآلفاق التي تطلــع منهــا أو كــثرت المرايــا الصــافية الــتي تعكس نورهــا، فــالنور الــذي أشــرق بــاألمس على العــالم بالهداية هو نفسه النور المشرق اليوم، وهو بذاته النور المشرق

غدا.لناكفلكــل رســول إلهي ثالث وظــائف: ا أرســ بي إن ــا الن ه ــا أي "ي

ــذيرا" را ون ــ اهدا ومبش ــون في.80شــ ــة تك ــذه الوظــائف الثالث ه مجموعها التوحيد الذي جاءت كل الرساالت اإللهية لبيانه للناس في صراحة وبساطة وقوة تمكنهم - مــع تفــاوت االســتعدادات - من فهم مبدأ وحدانية الله تعالى، ووحدة رسله وأنبيائه، ووحــدة

. ولو فهم الناس التوحيد حق فهمه لما تعددت األديــان ولمــادينه . وقد حدث القــرآن الكــريم عنتفرقت األمم إلى فرق ومذاهب

ــه: " ــذا البغي بقول ينه بي ــه الن ــدة فبعث الل اس أمة واح ــان الن كاس ـالحق ليحكم بين الن ـ رين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ب مبش

ثم تستمر اآلية المباركة فيما اختلفوا فيه" ــه إال "وما اختلف فيــات بغيــا بينهم فهــدى اللــه ن ذين أوتوه من بعــد أن جــاءتهم البي الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء ال

.81إلى صراط مستقيم"

٤٥سورة األحزاب، آية 80٢١٣سورة البقرة، آية 81

67

والناس متحدون ما دام الدين يحكمهم، فإذا انحرفوا عن صراطــموا على ــرورة بينهم، وانقس ــتقيم دب الخالف بالض ــه المس اللــات ــ ــادالت والمنازع ــ ــاء المج ــ ــون في ضوض ــ ــهم فيغفل ــ أنفس والمهــاترات عن جــوهر الــدين، ويقبلــون على األهــواء ويــتركون العروة الوثقى، فيبعث الله إليهم رسوال جديدا رحمة منه تعــالى ليزيــل من بينهم الخالف، ويحكم بــالحق، ويهــدي اللــه الــذين

يؤمنون به - أي بالرسول الجديد - إلى الصراط المستقيم.ــه اآليــة المباركــة إلى وحــدة الفيض اإللهي، وفي هذا المقــام تنب

ين" فبينما يقول تعالى: بي بصيغة الجمــع، يقــول  "فبعث الله النــهبصيغة المفرد"وأنزل معهم الكتاب" تعالى ــد الل . فالكتاب عن

. فــالقرآن واإلنجيــل والزبــور والتــوراة، وسـائرواحد غــير متعـددــد، ــدر واح ــل من مص ــد، وتنزي ــاب واح ــا كت ــة كله الكتب اإللهي

. كــلواألسماء المتعددة، عبــارة عن صــحائفه المباركــة الجامعة . فالنــاظر إلى الصــحائفصحيفة منها رسالة كاملة لــدورة كاملة

. وال يوجــد كتــابيراها متعددة، والناظر إلى الكتاب يــراه واحــدا بغير صحائف، كما ال توجــد صــحائف ذات معــنى متصــل إال وهي كتاب، وهــذه إحــدى آثــار التوحيــد المتجليــة في اإليمــان الجــامع

.واإلبداع الكاملــون عن ــة التعــدد ويحتجب ــاس ينظــرون دائمــا من زاوي ولكن الن

ــدد األســماء الالتوحيد . ينظرون إلى دين الله الواحد من جهة تع . ولــومن جهة التوحيد، ولــذلك يختلفــون ويكــذب بعضــهم بعضــا

ــة اللــه، سألنا أهــل األديــان المختلفــة عن مبلــغ إيمــانهم بوحداني

68

ــه، ألجاب الجميع وبكل تأكيد أنهم يؤمنون بإله واحــد ال شــريك ل ولكن تحتفظ كل أمة بتصور معين لهــذه الوحدانيــة، وتعتــبر كــل

.تصور مخالف لتصورهم باطال وضاللة فتصور اليهود للتوحيد مثال هو اإليمان بإله واحــد وبموســى عليــه السالم الذي اختـتمت به الرساالت، حيث أنهم يعتبرون شــريعته - كما رأينا سابقا - أبدية وأن المسيح الموعود بـه سـيأتي ليحكم

. وتصـــور التوحيـــد عنـــدبهـــا من جديـــد ويعيـــد مجـــدهم التليد المسيحيين هو االعتقاد بوحدانيــة اللــه، اآلب الســماوي، ويســوع المسيح المخلص الوحيد الــذي بفدائــه خلص البشــر من معصــية آدم، وهو األول واآلخر الــذي انقطعت من بعــده نســائم الرحمــة

. وتصور أهل اإلسالم للتوحيد هــو اإليمــان بوحدانيــة اللــه،اإللهية وبنزول الوحي على ســيدنا محمــد رســوله وخــاتم النبــيين الــذي

بشريعته انتهت األديان. وهكذا التقت األمم الثالث عند اإليمـان بوحدانيــة اللـه، واختلفـوا بتمسك كل منهم برسولهم الخاص واعتــبروه آخــر مبعــوث إلهي فينتهي هذا االعتقاد بهم إلى تكذيب المبعوث اإللهي الذي يأتيهم

.من بعد واإلعراض عن دعوته الله"والخالصة أن التوحيد المتجلي في شهادة يثبت"ال إله إال

ــه من أهــلويتحقــق عنــد ظهــور كــل رســول . فمن يــؤمن بــه إن التوحيد، ومن يحتجب عنه بإشارات األسماء، فإنه ليس من أهلــر الحــرف نكص التوحيد، إنه ممن يعبد الله على حرف، فلما تغي

على عقبيه، ولن يضر نكوصه الله شيئا.

69

شاهد ومبشر ونذير

من بين سنن الله التي أقام عليها عهـده وميثاقــه مــع البشــر أن كل رســول الحــق يــأتي مصــدقا بالســابق عليــه، ويشــهد بصــدق كتابه، ولم تختلف هذه السنة الثابتة بالنســبة إلى رســالة ســيدنا

ــالحقمحمــد إذ يخاطبــه تعــالى بقولــه: ــاب ب ــك الكت ــا إلي "وأنزلن وكذلك كان ســيدنا عيســى، 82مصدقا لما بين يديه من الكتاب"

وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لماعليه السالم : "وراة وءاتيناه اإلنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لمــا بين يديه من الت

قين" وراة وهدى وموعظة للمت والسؤال الذي، 83بين يديه من الت يثور في ذهن الباحث هو ما جدوى التصــديق بالرســالة الســابقة

في حين أن الرسالة الجديدة تنسخ أحكامها؟ وإحدى اإلجابات الممكنــة على هــذا الســؤال أن صــدق الرسـالة يظل معتمدا على قول الرسول وحده إلى أن يشــهد لــه رســول الحق، فتقطع شهادته بصدق الــدعوة الســابقة وبــذلك يحكم بين الذين اختلفوا فيه، كمــا شــهد ســيدنا عيســى ابن مــريم لســيدنا موسى، وكما شهد سيدنا محمد لكل من ســيدنا عيســى وســيدنا موسى، ومع هذه الشهادة يعيد الرسول الالحــق تأكيــد الحقــائق والتعــاليم الــتي جــاء بهــا المبعــوث اإللهي الســابق، ويوســع من

. وإضــافة إلى ذلــك يزيــد الرســولدائــرة المؤمــنين بــه وعــدتهم الجديد فهم المبــادئ الــتي جــاءت في الرســالة الســابقة عمقــا،

٤٨سورة المائدة، آية 82 ٤٦سورة المائدة، آية 83

70

ويعيد جالء معانيها بفضل التعاليم واألحكــام الجديــدة الــتي يــأتيــأت بخــير بها مصداقا لقوله تعالى: "ما ننسخ من ءاية أو ننسها ن

ــة 84منها أو مثلها" ــاليم اإللهي ، كما أن الرسالة الجديدة تثبت التع التي هي في حقيقتهــا األســاس الــذي يقــوم عليــه نظــام الحيــاة

اإلنسانية. وهذا التصديق والتذكير بالمبادئ هو إعــداد الزم لتجديــد وإحكــام اإليمان بها، وإعمالها من جديد في إطار تشريع يضــمن الحفــاظــة المناســبة لتطــور العصــر، على روحها وتحقيــق غاياتهــا بالكيفي وفي أسلوب يتمشى مع التقـدم الـذي جـد منــذ مجيء الرسـالة

السابقة. فســيدنا موســى كــان حقــا من عنــد اللــه ومــع ذلــك بقيت أكــثر البشرية بعيــدة عن المبــادئ والتعــاليم الــتي أتى بهــا حــتى جــاء سيدنا عيسى الذي شهد له وللتوراة، فاتســعت رقعــة المؤمــنين

ــه اإللهية ــودبتعاليمـ ــائفتين - اليهـ ــام طـ ــاس أمـ ــبح النـ . ثم أصـ وقالتوالنصارى - كل منهما تجادل األخرى وترميها بالبطالن: "

صارى ليست اليهود صارى على شيء وقالت الن اليهود ليست النــل ذين ال يعلمــون مث ــال ال على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك ق

فكان مجيء سيدنا محمــد مصــدقا بموســى وعيســى، 85قولهم" وشاهدا لهما وللتوراة واإلنجيل، فزادت دائرة المؤمنين بتعاليمــه اتساعا كبيرا، وازداد فهم التعــاليم الــتي جــاءا بهــا من عنــد اللــه عمقــا، وإن لم يتم القضــاء على االنقســام والخالف الســائد بين

١٠٦سورة البقرة، آية 84 ١١٣سورة البقرة، آية 85

71

اتباع الرساالت الســابقة، لعلــل ســنعود إليهــا فيمــا بعد . وقياســا على سوابق هذه السنة اإللهية المنتظمة يكون منطقيا أن نتوقع

محمد وللقــرآن الكــريم لسيدنا مجيء شاهد من عند الله ليشهد.محمد للسابقين سيدنا بمثل ما شهد به

ــهادة لمن ــديق والش ــل األولى وهي التص ــة الرس ــذا عن مهم ه سبقهم، وكذلك األمر بالنسبة لمهمتهم الثانية وهي التبشــير بمن

رينيليــه وإنــذار مكذبيه . فجميــع أنبيــاء اللــه ورسـله كـانوا مبشــــذرين ــالى ومن ــه تع ــا في قول . كم لين إال ــ ل المرس ــ ــا نرس "وم

رين ومنذرين" . 86مبش ويتبين من هذا أن الشــهادة والتبشــير واإلنــذار هي وظــائف كــل رسول بال استثناء، ويتعين على كل من ابتغى اإليمان الكامل أن يحــاول فهم هــذه الوظــائف على الوجــه الصــحيح، والتأمــل في

. فال يعقــل أنحكمة كونها وظائف أساســية لألنبيــاء والمرســلين يكون المقصود بالتبشير واإلنذار مجرد تذكير األنام بالجنة والنــار

. إن عبارة القرآن صريحة على أن للتبشير معنىوأحداث اآلخرةولأبعد من هذا المعــنى الضــيق فقولــه تعــالى: را برســ "ومبشــ

مه أحمــد" ح المــراد بالتبشــير، ونجــد 87يأتي من بعدي اســ يوضــــه في ــل والقــرآن متفقــة على مجيء رســل الل ــوراة واإلنجي التــه ره الل ــ ــالم بش ــه الس ــراهيم علي ــيدنا إب ــتمر. فس ــاقب مس تع بإسماعيل وإسحاق وأنه سيباركهما ويخــرج من كــل منهمــا أمــة

عظيمة. ٤٨سورة األنعام، آية 86 ٦سورة الصف، آية 87

72

ثم جاء سيدنا موسى ليبشر بظهــور ثالثــة مظـاهر إلهيــة مباركــة "جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتألأل منمن بعده

ريعة ــار شــ ــه ن ــوات القــدس وعن يمين ــاران وأتى من رب ــل ف جبر بظهــور رســول كــريم من ، 88لهم" وقام ســيدنا عيســى ليبشــ

. وبعثبعده اسمه أحمد بجــانب اثــنين آخــرين في آخــر الزمــانــاديث ــريم واألح ــرآن الك ــدوره في الق ر ب ــ ــد ليبش ــيدنا محم ســالم من ــرين إلهيين عظيمين يمآلن الع ــور مظه الشــريفة - بظه

. والسبيل إلى فهم المقصود بلفــظ التبشــير فيبعده نورا وعدالــر فيهــا خاصــة من هذا المجال هو الرجوع إلى المواضع التي ذك كتاب الله العزيز الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه

ه قــال رب هب لي من- فمثال قال تعالى: ا رب "هنالك دعــا زكريــة وهــو قــائم ــه المالئك ميع الــدعاء فنادت ك ســ ــة إن ب ة طي ي لدنك ذردقا بكلمــة من رك بيحيى مصــ يصلي في المحــراب إن اللــه يبشــ

دا وحصورا ونبيا من الصالحين" "إذ ، كما قــال تعــالى:89الله وسييح رك بكلمة منه اسمه المســ قالت المالئكة يا مريم إن الله يبش

بين" .90عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا واآلخرة ومن المقر ونقرأ البشارات نفسها في التوراة واإلنجيل، فلماذا كانت مجــرد والدة سيدنا يحيى وعيـــسى بشــارة من اللــه للنــاس؟ أليس ألن سيدنا يحيى قدر له أن يكون نبيا وسيدنا عيسى أن يكــون كلمــة الله؟ ولننظر إلى سيدنا يعقوب، فقد كـــان لــه اثنــا عشــر ولــدا،

٢-١: ٣٣التثنية اإلصحاح، 88 ٣٩-٣٨سورة آل عمران، آية 89٤٥سورة آل عمران، آية 90

73

ولم يكن من بين هؤالء اإلثني عشــر بشــارة غــير ســيدنا يوســف ــاوحده، ألنه كان المقدر أن يكون نبيا ــك أدركن . إذا انتبهنا إلى ذل

أن المراد بالبشارة في هذه المواضع هو التنبؤ بظهور رســول أونبي جديد.

"فكــون ســيدنا محمــد يكــون معنــاه أن من وظائفــه" مبشــراــف في عــدد من المباركة التبشير بمن يظهر من بعده الذي وص

. وكمــا جعــلاألحاديث الشريفة بأنه المهدي أو عيســى روح الله الله تعالى ظهور الرسل واألنبياء بشارة بفضله على خلقه كذلك جعــل اإلعــراض عنهم، واالعــتراض عليهم، موضــوعا لإلنــذار،

والتحذير الشديد تجنبا للدمار والبوار الذي يصيب المعرضين. والرسول الجديد يأتي ضرورة برسالة جديدة، والرسالة الجديدة ال بد أن تهب الناس شريعة جديدة، وأحكاما جديــدة، وهــو بــذلك يعيد تنظيم وتدبير شؤون العباد بما يتفــق مــع ضــرورات التغيــير

. فالصالة والصوم والحج وغيرهــاالذي طرأ منذ الرسالة السابقة مـن المناسك، وكذلك القوانين المنظمــة للمجتمــع موجــودة في جميع الرســاالت، ولكنهــا تختلــف في الشــكل والرســم مصــداقا

يام كمـا كتبلقوله تعالى: ـوا كتب عليكم الصـ ذين آمن ها ال "يا أيقون" كم تت ذين من قبلكم لعل فالصوم فريضة في كــل، 91على ال

. فالصـومالشرائع ولكن صـورته تختلـف من شـريعة إلى أخـرى عند المسلمين غيره عند النصارى، وما عند النصارى يختلف عما

١٨٣سورة البقرة، آية 91

74

عند اليهود، ولكن الغاية هي هي، والمعنى واحــد، وإنمــا الشــكلوالرسم هو الذي يتغير باختالف الظروف واألحوال.

ولما كان الراسخ في األذهــان عن الــدين هــو مجمــوع المناســك والشعائر دون انتباه إلى الجوهر، فإن الناس يميلون أكثر للبقــاء على ما هم عليه، ومن ثم ينــدفعون كلمــا جــاءهم رســول جديــد

. فكل ما يرونهبأمر جديد إلى تكذيبه بدون روية أو تعقل وتفكيرــا ــالف م ــدة تخ ــدعوهم إلى شــريعة جدي ــد ي أن الرســول الجدي عندهم، ولو تفكروا وأمعنوا النظر قليال لوجدوا أن حقيقــة األمــر

الجديد غاية ما كانت تصبو إليه شريعتهم.ــه ــدين من حيث النظــر إلى حقيقت ــدة ال ــاه إلى وح ــدم االنتب فع وجوهره جعل الناس يتوقفون عند حد االسم والرسم، ويحرمون

. مـــع أنأنفســـهم من الفـــوز بنصـــيب من المـــواهب الجديـــدةــة ــديالت متتابع االختالفات الظاهرية بين الشرائع واألديان هي تع لدين إلهي واحد، لتجعلها موافقة لمقتضــيات الزمــان، كمــا قــال

.92"ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"تعالى: ونتيجة لهذه الغفلة، وكــأثر مباشــر لالنحــراف عن حقيقــة الــدين وجوهره، إذا سألت اليهودي مثال عن سيدنا المسيح فإنه يجيبــكــه ال يــؤمن بــه، ولمــاذا؟ ألنــه نقض حكم الســبت على الفــور بأن

. وإذا ســألتوخــالف شــريعة التــوراة ... إنــه جــاء بشــرع جديد مسيحيا عن سيدنا محمد قال: كيف تريدني أن أومن به وهــو لم

١٨٣سورة البقرة، آية 92

75

يحكم بشريعة اإلنجيل ... إنه غير أحكام الله الــتي علمنــا يســوع. وقس على ذلك سائر الملل.المسيح

ــة ومن أجل هذه الغفلة جرت اإلنذارات والتحــذيرات على ألسنـــه لــو لم يكن منرســل اللــه وأنبيائــه جميعــا بــدون اســتثناء . ألن

مستلزمات الهدايــة اإللهيــة إحــداث تغيــير وتعــديل في الشــرائعــذار ــبرر لإلن ــاك م ــان هن ــا ك ــة، لم ــا الختالف األزمن ــة وفق اإللهي

ــه جــاءوالتحذير . والنــاس ال يعترضــون على الرســول الجديــد ألنــا يدعوهم إلى مكارم األخالق، وإلى العدالة االجتماعية أو غيرهم من المناقب اإلنسانية العالية، وال ألنه جاء يدعـوهم إلى الله ولو اقتصر نداؤه على ذلــك لمــا وجــدوا صــعوبة في تصــديقه، وإنمــا أساس اعتراض النــاس عليــه أنــه جــاءهم بشــريعة جديــدة فيهــا

ــرفرائض وعبادات وأحكــام ونظم تغــاير مــا لــديهم منها . والمفك المنصف يعترف بــأن الرســول الجديــد لــو أتى بالشــرع القــديم،

وبدون أحكام ومبادئ جديدة، لما كان هناك مبرر لمجيئه. فالرحمة اإللهية تتجلى في رســاالته، ورســاالته تحمــل شــرائعه، والرحمــة اإللهيـــة وســعت كــل شــيء، والفيض اإللهي دائم ال

. أمــا ســنة البشــر، فهي اإلعــراض عنينقطــع، وهــذه ســنة اللهــارق ــام ومش ــوحي واإلله ــط ال ــتراض على مهاب ــة، واالع الرحم .الفضــل واإلحســان، واإلصــرار على اتبــاع األوهــام، ثم يكــذبون

ــل مــاوإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: ــرا ك "ثم أرسلنا رسلنا تت

76

ــاهم أحــاديث هم بعضــا وجعلن جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضــ.93فبعدا لقوم ال يؤمنون"

4٤سورة المؤمنون، آية 93

77

معنى اإلسالم

تقدم القول أن تعدد رسل الله واختالف األحكام التي جــاءوا بهــاــالق ــة بين الخ ــة الوثيق ــنى الرابط ــدين بمع ــدة ال ــافي وح ال ين

لزمانها. وكــل كلمــة من اللــه هي نــور بــدون اعتبــار والمخلــوق ومكانها أو األفق الذي أشرقت منه: فــالزبور والتــوراة واإلنجيــلــا والقرآن كلها كلماته ونوره ورباطه الوثيق وعهده المصون، كم

ــاءقال تعالى: ــات اللــه آن ــون آي "من أهل الكتاب أمة قائمــة يتلجدون" يل وهم يسـ ، فال شـك أن اآليـات الـتي يتلوهـا أهـل 94الل

.الكتاب هي آيات اإلنجيل والتوراة، وليست آيات القرآن الكريم "ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو وفي قوله تعالى:

بيان واضح يؤكد الوحدة التي تربط جميع آياته - بدون مثلها" تخصيص أو تحديد - والعروة الوثيقة التي توحد الرساالت اإللهية

أن بين آيات الله وحدة ال "ننسخ" . والمستفاد من لفظالمتعاقبة تنفصم بطول الزمن بين رسالة وأخرى، فاآلية الالحقة إن

تعارض حكمها أو مفهومها مع آيات سابقة حلت محلها واعتبرت تعديال لها، ألنه ال يتصور وجود تناقض في كالم الله وتفاوت في

. واآليةاألحكام التي يطلب من عباده اتباعها في زمن معين المذكورة تجزم بأن اآلية الناسخة إما تماثل المنسوخة أو هي

خير منها.

١١٣ آية عمران، آل سورة 94

78

وال يفهم من لفظ "خير منها" في هذا الموضع معــنى المفاضــلة بين اآليات سواء من حيث صوابها أو دقة إحكامها، فــذلك منــاف .للكمال اإللهي ودوامه على حال واحد ال أحســن فيهــا وال أســوأ

ــا ــا"وإنم ــير منه ــه: "بخ ــراد من قول فليســت المفاضــلة هي الم المقصود أن الله يبدل آياته وأحكامه بما يناسب مدارك اإلنســان

المتنامية، وظروف نشأته المتغيرة . وواقع الحال أنه ليس تغييراــدرج وتبديال لتصحيح أو تحسين الكالم، ولكنه استبدال اقتضاه التــه نظم في تربية اإلنسان وتهذيب فكره وتنظيم حياته، فآيات الل مكنون في كتاب محفوظ يكشف عنه رسله تعــالى بقــدر طاقــة

. وليس من شــأنأهل اإلمكان ووفقا لمــدى تقــدمهم وقابليــاتهم العبد أن يقــارن أو يفاضــل بين أجــزاء هــذا النظم، وإنمــا واجبــه

نا"التسليم واإليمان بما فيه .95"كل من عند ربــة ــة والبوذيـ ــيحية واليهوديـ ــالم والمسـ ــرى أن اإلسـ ــا نـ من هنـ والزردشــتية وســائر الــديانات الســماوية كلهــا من حيث أصــولها وغاياتها فيض إلهي واحد، وهي تختلــف بطبيعــة الحــال من حيث زمانهــا وأســلوبها وتعاليمهــا ولكنهــا متحــدة في ســعيها لعالج مــا اختل من شؤون المجتمــع البشـري بمــا يتفــق مــع درجــة بلوغــه ورشده، وإعداده لمتابعـة السـير في مراحــل التطـور الروحــاني

غير المتناهية. "اليــوم أكملتوفي هذا السياق العام يمكن فهم قولــه تعــالى:

الم دينــا" يت لكم اإلســ 96لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضــ

٧سورة آل عمران، آية 95 ٣سورة المائدة، آية 96

79

فهذا الخطاب الرحماني موجه بنــوع الخصــوص إلى أمــة ســيدنا . ولكنمحمـــد ويحتمـــل أن تكـــون اإلشـــارة فيـــه إلى رســـالته

تفيد"ورضيت لكم اإلسالم دينا" في قوله تعالى "اإلسالم"كلمة . ومن معانيهــا. فلكلمــة اإلسـالم لغــة معـان عــدةأكثر من معنى

الخضوع واالنقياد لكل ما يأتي من عند الله، وإســالم الوجــه إلى . كما أن من معانيها أيضــا اتبــاع شــريعةالله، وتفويض األمر إليه

.محمد رسول اللهــبره"اإلسالم"وهذا المعنى األخير الخاص للفظة ــذي اعت هو ال

أكثر المفسرين، فقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير لهذه اآلية هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه األمة حيث أكمل تعــالى لهم"

ــول في 97"دينهم، فال يحتاجون إلى دين غيره ويعود ابن كثير فيقــوم أكملت الصفحة نفسها تفسيرا لهــذه اآليــة: "لمــا نــزلت "الي

وذلك يوم الحج األكبر بكى عمر، فقال له النبي: مالكم دينكم"ــا في زيــادة من ديننــا، فأمــا إذا كمــل يبكيك؟ فقال أبكاني أنا كن

، ويشــهد لهــذا"فإنه لم يكمــل شــيء إال نقص، فقــال: "صــدقت المعنى الحديث الثــابت: "إن اإلســالم بــدأ غريبــا وســيعود غريبــا

98"فطوبى للغرباء

وال تـثريب على عامة المفسرين إذا عظموا دينهم ورفعوا قــدره ومدحوه مــع مالحظــة عــدم اإلســراف في ذلــك، وإال وقعــوا فيــاني ــيقوا المعـ ــابقة فضـ ــه األمم السـ ــذي وقعت فيـ ــأ الـ الخطـ المبسوطة، وخصصوا فيها بدون دليل، وأوجدوا التعصب األعمى

٤٨٢مختصر ابن كثير، المجلد األول، ص 97 ٤٨٣ و ٤٨٢المرجع السابق، ص 98

80

. وقــد رأينــا - فيمــا ســبق - أن اليهــودوأضلوا الكثــير من النــاس اعتــبروا كتـابهم كــامال حاويــا كـل شـيء، ومــا زالـوا يـرددون أن

. وقــدشريعته شريعة أبدية ال تتغير وليسوا في حاجــة إلى غيرها كــان هــذا الفهم صــحيحا في زمــان شــريعة ســيدنا موســى كمــا

ىصدق بذلك القرآن الكــريم في قولــه تعــالى: ــا موســ "ثم آتينــدى يء وه ــل شــ يال لك ن وتفصــ ــا على الذي أحســ ــاب تمام الكت

هم يؤمنون" هم بلقاء رب فكتاب سيدنا موسى عليه، 99ورحمة لعل السـالم كتـاب تـام، وفيــه تفصـيل كـل شـيء، ولكن إطالق هـذا الوصف على نحــو يســد بــاب الهــدى من بعــده، وينهي رســاالت

تضييق للمعــنى وخطــأ أدى 100"يد الله مغلولة"الله، ويزعم أن بهم إلى تكذيب رسل الله الذين بعثهم الله بالحق من بعد سيدنا

موسى.الم"فتخصيص معنى على وجــه اإلطالق ال يتفــق وســياق"اإلســ

في قوله:"اإلسالم". وحصر معنى الكالم، وينحرف عن المرادالم دينــا" يت لكم اإلســ في اإلشــارة إلى شــريعة ســيدنا"ورضــ

محمد ال مبرر له وال دليل عليه، فاآلية تحتمل أيضا المعنى العام أي تسليم الوجه إلى اللــه واإلذعــان ألوامــره"اإلسالم" للفظة

. وبهذا المعــنى وصــف اللــهتعالى وهذا هو جوهر الدين وحقيقته األمم السابقة باإلسالم كما قال في معرض الحــديث عن ســيدنا

ه أسلم قال أسلمت لرب العالميين"إبراهيم: ، 101"إذ قال له رب ١٥٤سورة األنعام، آية 99

٦٤سورة المائدة، آية 100 ١٣١سورة البقرة، آية 101

81

ــكأو دعاء سيدنا إبراهيم وإســماعيل لمين ل ــا مســ ــا واجعلن ن "ربتنا أمة مسلمة لك" ي ــا بني وكذلك وصيـته لبنيــه: ، 102ومن ذر "ي

لمون" وأنتم مســ طفى لكم الــدين فال تمــوتن إال ، 103إن الله اصــ "فلما أحسكمــا كــان حواريــوا ســيدنا عيســى أيضــا مســلمين:

ون ــال الحواري اري إلى اللــه ق ــال من أنصــ ــر ق عيسى منهم الكفا مسلمون" ا بالله واشهد بأن .104نحن أنصار الله آمن

فواضح من اآليات السابقة أن اإلسـالم بمعنــاه العـام هـو طاعــة الله وإسالم الوجه إليه تعالى وهو أساس العبودية لله وال يتصورــه إيمان المرء بدين سماوي إال إذا كان مقرونا بتسليمه ألمــر الل

"إن الــدين. وبهذا المعــنى جــاءت اآليــة المباركــة: ظاهرا وباطنا ومن الواضح أن صرف داللة كلمة اإلسالم.105عند الله اإلسالم"

- معرفة باأللف والالم - في هذه اآلية إلى رســالة ســيدنا محمــد وحــدها ينفي وصــف الــدين عن رســالة كــل من ســيدنا موســى وسيدنا عيسى، وهو ما يناقض آيات القرآن الصريحة بأن ما جاء

. والمعلومبه سيدنا موسى وسيدنا عيسى كان حقا من عند اللهــيصالدين""لغة أن كلمة - معرفة باأللف والالم - وبدون تخص

تعني أوال: الرابطة بين العبــاد وخــالقهم وال تقتصــر على رســالةمعينة بل تشملها جميعا.

١٢٨سورة البقرة، آية 102١٣٢سورة البقرة، آية 103 ٥٢سورة آل عمران، آية 104 ١٩سورة آل عمران، آية 105

82

كما تعني ثانيا: أن هــذه الرابطــة واحــدة على ممــر الــزمن، وأن تتابع الشرائع المعدلة ألحكــام هــذا الــدين الواحــد هي ســر دوام

حيوية هذه الرابطة وصالحها مع تغير الظروف واألحوال.الم"واآلية الواردة بعد ــبين بوضــوح"إن الدين عند الله اإلســ ت

"فإنالمعنى المراد إذ جاء القول فيها موجها إلى سيدنا محمد: ــةحاجوك فقل أسلمت وجهي لله" . وبهذا أوضح الله تعالى أهمي

إسالم العباد لتعاليمه وأحكامه بحيث صار اإلســالم وصــفا شــامال وشرطا لكل الرساالت اإللهية، فسيدنا نوح جاء بدين وصفه الله

ــه اإلســالم: ــالى بأن لمين"تع ــون من المســ ــرت أن أك ، 106"وأمــه الســالم جــاء أيضــا باإلســالم: "أم كنتموســيدنا يعقــوب علي

ــدي شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بع حاق إلهــا ماعيل وإســ ــراهيم وإســ ــه ءابآئك إب قالوا نعبد إلهــك وإل

لمون" وكــذلك ســيدنا موســى عليــه، 107واحــدا ونحن لــه مســنا أفرغالسالم: ما جاءتنا رب نا لـ ا بآيات رب أن آمن ا إال "وما تنقم من

لمين" وســيدنا عيســى عليــه الســالم، 108علينا صبرا وتوفنا مســــالم: ــ ــاء باإلس ــ ـوا بيج ــ ـ ين أن آمن ــ ــ "وإذ أوحيت إلى الحواريـ

نا مسلمون" ا واشهد بأن .109وبرسولي قالوا آمن

٧٢سورة يونس، آية 106 ١٣٣سورة البقرة، آية 107١٢٦سورة األعراف، آية 108 ١١١سورة المائدة، آية 109

83

وخالصة ما تقدم أن "لإلسالم" أكــثر من معــنى فهــو في موضــع يعني استجابة العبــاد إلى أوامــر اللــه وانقيــادهم لمشــيئته، وفي

موضع آخر اسم رسالة من الرساالت السماوية. "ومن يبتغ غير اإلسالم دينا فلن يقبل أما قوله تعالى:

"فيمكن حمل كلمة  110منه" في هذه اآلية على معناهااإلسالم"االعام بناء على سياق الحديث في اآلية السابقة "قولوا ءامن

بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاقون بي ويعقوب واألسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي الن

ق بين أحد منهم ونحن له مسلمون هم ال نفر ". فاإلسالممن رب بمعناه العام - كما رأينا - شرط الزم ومشترك لكل الشرائع،

ويعني رفض الله أدنى تحفظ أو تردد من عباده إزاء قبول شرائعه وأوامره قبوال غير مجزأ وغير مشروط، وال يقبل منهم

.إال تسليمهم التام لكل ما جاء فيها وبعبارة أخــرى، إن الرســاالت اإللهيــة المتتابعــة ال تبغى اقتســام العبــاد، وال تريــد التفرقــة، وال تمس بوحــدة الــدين، وإنمــا هي - كبنيان مرصوص - تكمل كل منها الرسالة السابقة عليها، فتبــدل بعضا من أحكام الشريعة السابقة بأحكام تحقق الغايات نفســها، كما بــدلت شــريعة ســيدنا موســى شــرع ســيدنا إبــراهيم، وكمــا نسخت شريعة السيد المسيح شرع سيدنا موسى، وكما نسخت شــريعة سـيدنا محمــد شــرع ســيدنا المســيح وهلم جــرا، وهكــذا

٨٥سورة آل عمران، آية 110

84

ــاس أن ــه الن تتصل كل رسالة باألخرى وتكون حبال واحدا أمر الليعتصموا به، وذلك هو عهد الله مع عباده.

والمتدبر في كتاب الله يتبين أن لله مع البشر عهدين: عهد عــام مع الناس جميعا أن يؤمنوا برساالته ويتبعوا أوامره ويســلموا لــه

ــا بني" بحكم الفطرة التي فطر النــاس عليها ــد إليكم ي ألم أعهــذا ــدوني ه ه لكم عدو مبين وأن اعب يطان إن آدم أن ال تعبدوا الش

ــنين في، 111صراط مستقيم" وعهد خاص يوثـقه الله مع المؤم كــل رســالة من رســاالته وهــذا مفهــوم من لومــه تعــالى لبــني

ــا بنيإســرائيل لحنثهم بعهــده الــذي أوثـــقه ســيدنا موســى: "يــدي أوف ــوا بعه تي أنعمت عليكم وأوف ــروا نعمتي ال إسرائيل اذك

ــارهبون" اي ف ــدكم وإي وجــاء في تفســير الشــيخ محمــد، 112بعه عبده: "عهد الله تعالى إليهم يعرف من الكتاب الذي نزله إليهم،ــوا ــه شــيئا، وأن يؤمن ــدوه وال يشــركوا ب فقــد عهــد إليهم أن يعب برسله متى قــامت األدلــة على صــدقهم، وأن يخضــعوا ألحكامــه

. وال يجــوز القــول: بــأن الخطــاب موجــه إلى بــني113وشــرائعه" إسرائيل وال يصدق على غيرهم، ألن العدل اإللهي ال يخص قوما بما يأبــاه على غــيرهم فرحمتــه تعم العــالمين ونــوره يهــدي كــل البشر، ولومه بني إسرائيل يصدق أيضا على كل أمة تعرض عنــرائيل ــني إس ــف ب ــاثال لموق ــا مم ــا موقف ــذ منه ــاالته وتتخ .رس ومضمون العهد اإللهي المشــار إليــه في اآليــة المــذكورة صــريح

٦١-٦٠سورة يس، آية 111٤١سورة البقرة، آية 112 رشيد رضا، تفسير المنار )بيروت، دار المعارف، الطبعة الثانية( 113

٢٩٠المجلد األول، ص

85

ـا بني آدم إمافي قوله تعالى موجها إلى بني اإلنسان عامة: ـ "ي لح فال قى وأصــ ــاتي فمن ات كم رسل منكم يقصون عليكم ءاي يأتين

.114خوف عليهم وال هم يحزنون" وحقيقة أخرى تؤكدها هذه اآلية المباركة أال وهي وحدة دين الله التي ال تتعدد بكــثرة رســله وتعــدد شــرائعهم على مــدى الــزمن، ومن ثم من يؤمن برسالة وال يؤمن بأخرى، كأنه حنث بعهد الله،

ــه قــد احتجب بالتعــدد عن وحدانيتــه تعــالى . وتبعــا لــذلك منألن .يـؤمن برسول دون رسول يكــون قــد غفــل عن حقيقــة التوحيد

ــدون أنوهذا قوله تعالى: له ويري ذين يكفرون بالله ورســ "إن الــر ببعض ــؤمن ببعض ونكف له ويقولــون ن ــه ورســ ــوا بين الل ق يفر ــا ــافرون حق بيال أولئك هم الك ــك ســ خــذوا بين ذل ــدون أن يت ويريله ولم ــوا باللــه ورســ ذين ءامن ــافرين عــذابا مهينــا وال واعتدنا للكــان اللــه ــؤتيهم أجــورهم وك وف ي قوا بين أحد منهم أولئك ســ يفر

.115غفورا رحيما"ــه العامــة الــذين هذا هو الكفــر بــأدق معانيــه، ويختلــف عمــا تظن

. وهـذايعتـبرون الكفـر عـدم االعــتراف بوجـود البـاري جـل وعالــد ــه واح تصور غير صحيح، فما من إنسان إال ويعترف بوجود إل

مدبر لشؤون الكون، حتى الطبيعيين - على الرغم من عدم اســتعمالهمــة مســيرة للكــون وإن لفظ الجاللة - يعتقدون بوجود قــوة خفي

ــذا التعريف ــير ه ــا بغ ــا وال يعرفونه ــدركون كنهه ــانوا ال ي .ك فالكفرالحقيقي - كما صرحت اآليــة المباركــة - هــو التفريــق بين

٣٥سورة األعراف، آية 114  ١٥٢-١٥٠سورة النساء، آية 115

86

رسل الله، والتفريق بينهم وبين الله عز وجــل، وقبــول واحــد ورفضــان ــترض على أي رســول إلهي في أي زمن من األزم ــذي يع ــر، فال اآلخ

. وقد ذكريكون في الحقيقة قد قطع ما أمر الله به أن يوصل حضرة بهاءالله هذه الحقيقة في تأكيد قاطع بقوله المنيع:

"وإنك أنت أيقن في ذاتك بأن الذي أعرض عن هذا الجمال فقــد أعــرضــدين عن الرسل من قبل ثم استكبر على الله في أزل اآلزال إلى أبد اآلب

" 116.

بهاءالله، لوح أحمد 116

87

الفصل الثالث - التمثيل والتشبيه في الكتبالسماوية

ــه ــر الل رأينا فيما سبق أن اإلسالم بمعنى التسليم واالنقياد ألوام هو جوهر الدين بصفة عامة في كل الرساالت الدينيــة المتعاقبــة ورغم أن لكــل رســالة -منهــا- خصائصــها ومظاهرهــا وآثارهــا وشريعتها، إال أن اإلسالم بقي صــفة مشــتركة بينهــا. والمقصــودــام فال بالتسليم أو اإلسالم لله أن يتحرر المرء من التقليد واألوهــادات ــاة الع ــدين مراع ــام ال ــه ألحك ــاعث على طاعت ــون الب يك والطقوس الســائدة في مجتمعــه أو تفــادي اللــوم لخروجــه عن المــألوف، وإنمــا يكــون رائــد ســلوكه هــو الحــرص على االنقيــاد

ــرادإلرادة الله وحده ــه م . فال يخضع في عقيدته لغير ما يؤمن أن . وســبيله إلى ذلــك البحث والتأمــل مــع صــفاء الوجــدانالله

ــةوخلوص النية . واإلسالم بهذا المعنى هو لباب الرابطة الروحاني.بين الخلق والحق

أما ما ذهب إليه بعض المفسرين من اعتبار كلمة "اإلسالم" في كل المواضع مساويا لرســالة ســيدنا محمــد أدى إلى الخطــأ في

ــد اإللهي ــة العه ــالم"فهم حقيق ــنى "اإلس ــييق في مع . ألن التضــاء الرســاالت انتهى بهم إلى القــول بتوقــف الفيض اإللهي وانته

ــهالسماوية برسالة سيدنا محمد . واستخرجوا هذا الظن من قولــل منــه".تعالى: وهــو خطــأ"ومن يبتغ غير اإلسالم دينا فلن يقب

على النحــو"خــاتم النبــيين"مشــابه لمــا نتج عن ســوء تفســير .الذي رأيناه في الصفحات السابقة

88

والخطأ في تفسير لفظ اإلسالم مناقض لكثير من آيــات الكتــاب فيما يتعلق ببشارتها بمجيء عيسى وما روته األحاديث الشــريفة

ــد إلى األذهــانعن مجيء المهدي . ولعل من نافلة القول أن نعيرين في الشــبهات هي أن من أهم العوامل الــتي أوقعت المفســــوارد على ســبيل المجــاز في الكتب تصــديهم لتفســير الكالم ال الســماوية أخــذا بظــاهر لفظــه، وتســليما للــوهم بأبديــة رســالة

.سماوية يكنون لها الوالء ويرون فيها الكمال ويتناول الفصل الثالث عرضــا مختصــرا لصــور من هــذا المجــاز، وعلة استعماله في الخطاب اإللهي، وبيان معانيه الــتي التبســت على المفســرين فــأوقعتهم في أقــوال هي أقــرب إلى الخرافــة

ــا إلى الحقيقة ــواردة في الكتبمنهـ ــاز الـ ــور المجـ ــثر صـ . وأكـالسماوية التشبيه واألمثال به" وزنا . ولفظ "المثل" يساوي "الش

ومعنى، وغايتهما تمثيل المعاني المعقولة بصور تدركها الحواس، وذلك على أساس وجود نسبة بين المعقول والمحســوس تجعــل

ــثرإدراك المفاهيم المجردة وتصورها أيسر على اإلنسان . وقد ك استعمالهما في الكتب المقدسة الستحالة تقــريب أســرار الغيب إلى أذهان الناس بدون استدعاء ما يقاربها ممــا عرفــوه وألفــوه

. وبدون ذلك التمثيــل يكــاد يكــون من المحــالوخبروه بحواسهم.تصور شؤون عالم الملكوت

ــاب ــوارد في الكت وليس بسر أن كثيرا من بيان السيد المسيح ال . وعنــدما ســألهالمقــدس يجــري على نهج األمثلــة والتشــبيهات

ه قد أعطي لكمالحواريون عن سبب حديثه باألمثال أجاب: "ألن

89

موات" ــوت الســ رار ملك ــه ال .117أن تعرفوا أســ ومقصــد الكالم أنــا ــا بم ــالم الغيب إال بمقارنته ــؤون ع ــة ش ــان معرف يمكن لإلنس

ــهود ــالم الش ــا في ع ــوميقاربه ــيح مفه ــيد المس ــح الس . ويوضــول: ــام فيق ــه إلى األفه ــال يقرب ــوت بمث ــوت الملك به ملك ــ "يش

ــه ــا في حقل ان وزرعه ــ ة خــردل أخــذها إنس موات حب . وهيالســــذور يرأصغر جميــع الب ــر البقــول وتصــ . ولكن متى نمت فهي أكب

انها" ــآوى في أغصــ ــأتي وتت ماء ت ــور الســ ى إن طي جرة حت .118شــ ومراد حضرته أن الملكوت هو التعاليم الروحانيــة الــتي يســتهينــافع بها اإلنسان وتبدو ضئيلة الفائدة بالقياس إلى غيرها من المنــا ــادئ ومغانمه ــذه المب ــآل ه ــة، ولكن م ــة والنعم الدنيوي المادي

حرص على ممارستها أكبر وأعظم منالروحانية لمن يهتم بها، و.كل ما عداها من ألوان النعم المادية

هموكما جاء في القرآن الكريم اس لعل : "يضرب الله األمثال للنرون" هم وقوله أيضا: ،119يتذك اس لعل ربها للن ــال نضــ ــك األمث "تلرون" وقد زخر القــرآن الكــريم باألمثــال من ذلــك قولــه.120يتفك

كاة فيهــاتعالى: ــوره كمشــ ــل ن موات واألرض مث ــور الســ "الله ني يوقــد من ها كوكب در جاجة كأن مصباح المصباح في زجاجة الزــو يء ول ــا يضــ ة يكاد زيته ة وال غربي شجرة مباركة زيتونة ال شرقي

١٠:١٣إنجيل متى، إصحاح 117٣٢ و ٣١: ١٣إنجيل متى، إصحاح 118٢٥سورة ابراهيم، آية 119٢١سورة الحشر، آية 120

90

لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرباس والله بكل شيء عليم" .121الله األمثال للن

وأســاس هــذا المنهج في تقــريب المعــاني المجــردة هــو وجــودــوس صفات مشتركة أو نسبة بين المعقول المراد بيانه والمحس

. وهــذا يقتضــي أن يكــونالــذي يماثلــه ولــو على وجــه التقــريب ضارب المثل واقفا على حقيقــة األمــر المعقــول الــذي يريــد أن يبينه حتى يتسنى له أن يأتي بمثيله المحسوس الذي يطابقــه أو يقاربه. وال يلــزم أن تكــون بين المعقــول والمحســوس مطابقــة تامة، ويندر أن يكــون الحــال كــذلك، بــل يكفي أن تكــون بينهمــاــا من ســياق ــو على وجــه التقــريب يتســنى معرفته مشــابهة ول

. وفي شرح لهذه النقاط قال الغزالي: "فــاعلم أن العــالمالكالميالملكوتي عالم غيب، إذ هو غائب عن األكثرين . والعالم الحســ

ــهده الكافة ــهادة إذ يش ــالم ش ــاة إلىع ي مرق ــ ــالم الحس . والع . فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة النسد طريق الترقيالعقلي

. ولو تعذر ذلك لتعــذر الســفر إلى حضــرة الربوبيــة والقــربإليه.من الله تعالى"

ــان ســلوك لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت، وك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي؛ وقد يعبر عنــه بالــدين وبمنازل الهدى - فلو لم يكن بينهما مناســبة واتصــال لمــا تصــورــة عــالم ــترقي من أحــدهما إلى اآلخــر - جعلت الرحمــة اإللهي ال الشهادة على موازنة عــالم الملكـوت: "فمـا من شـيء من هـذا

٣٥سورة النور، آية 121

91

. وربمــا كــان الشــيءالعالم إال وهو مثال لشيء من ذلك العــالم . وربمــا كــان للشــيءالواحــد مثــاال ألشــياء من عــالم الملكــوت

ــونالواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة . وإنما يك.122"مثاال إذا ماثله نوعا من المماثلة، وطابقه نوعا من المطابقة

وسيتناول هذا الفصــل مناقشــة بعض أمــور من عــالم الملكــوت التي وردت في الخطاب اإللهي بعبارات مناســبة لعــالم الشــهودــور وصور حسية تقربها إلى أذهان البشر وفهمهم. وكل هذه األمــرين ــير من المفسـ ــي الكثـ ــا في الماضـ ــرض لهـ ــبق أن تعـ سـ والمفكرين دون أن يقدموا مــا يشــفي غليــل البــاحث المتشــوق إلى معرفــة أســرار هــذا الملكــوت ألنهم اعتمــدوا في تفســيرها على حرفيــة النص أو على مــا اســتقوه من الفالســفة القــدماء - بعـــد أن تـــرجمت كتبهم إلى العربيـــة - ثم الـــتزموا في فهمهـــا بالنطاق الذي حددته المذاهب التي كــانوا ينتمــون إليهــا، فكــانوا ينتقون من كتاب الله ما يوافق مذهبهم ويتركوا غيره غفال، بــدالــود ــق من القي ــل على بســاط البحث الطلي ــوا الك من أن يطرح

. فأتت مؤلفاتهم مناصرة لمذاهبهم أكثر منهاوالفروض المسبقةشروحا مستقلة لكالم الله.

فقال المعتزلة مثال أن عذاب القبر ليس حسيا وإنمــا هــو عــذاب . وكــان هــذا النظــر متفقــا مــع مــذهبهم في تفســيربآالم نفســية

القرآن الكــريم بإعمــال العقــل وحمــل كالم اللــه على مــا يقبلــه العقل فلم يتصوروا أن يكون هناك عذاب حسي واقع على جسد

أبو حامد الغزالي، مشكاة األنوار )القاهرة، الدار القومية للطباعة 122٦٧-٦٦( ص ١٩٦٤والنشر،

92

. أما أهل السنة فقالوا بأن عذاب القبر يكونهامد فارقته الروحــة النص والمنقــول عن بآالم حســية اعتمــادا على أخــذهم بحرفي السلف، وذلك أيضا وفقــا لمــذهبهم في تفســير القــرآن اعتمــادا

.على ظاهر اللفظ كما قال أهل السنة بوجود مادي للصراط المستقيم وهو "جســرــيف" ــد من الس ــعرة وأح ــدود على متن جهنم أدق من الش ،مم بينما أنكر المعتزلة الصراط بــالمعنى المــادي وقــالوا إنــه عبــارة عن طريق الحق، ومال إلى هذا الرأي أبو حامد الغزالي مع أنــه أشعري وصوفي فقال: "إن عبور الصراط المستقيم عبــارة عنــر عنــه الترقي من عــالم الشــهادة إلى عــالم الملكــوت وقــد يعب

أدق منفــأعطى الوصــف المــادي " 123بالــدين وبمنــازل الهــدى" الشعرة وأحد من السيف" معنى مجازيا يتمثل فيما يتطلبه عبور ظلمات العالم المشهود إلى أنوار الملكــوت من يقظــة واحــتراز

. وكان اعتماده في التفسير على مذهب المتصوفين: أي الكشفوخشيةــنين الســاعين في ــه في قلب المؤم ــه الل ــذي يقذف ــور ال اإللهي والن

. وعلى المنــوال نفســه اختلفت أقــوالسبله والمتسابقين إلى جــواره المفسرين في فهم المراد من المــيزان، والجن، والمالئكــة، والجنــة

.والنار إلى آخره ولعل في طرح هذه األمور على بســاط البحث الحــر البعيــد عن التعصب والمذهبية، وبعد أن ثبت اتساع هوة األخطاء الــتي وقــع فيهـا السـابقون، ضـرورة لبلـوغ الحقيقـة أو على األقـل لفهمهـا

أبو حامد الغزالي، مشكاة األنوار )القاهرة، الدار القومية للطباعة 123(١٩٦٤والنشر،

93

على ضوء ما تهدينا إليه عقولنا في عصر بلغت فيه مقدرتنا على عمق التحليل، ودقة التحقيق، وبعد النظر شــأوا بعيــدا لم يتــوفر

. وفي ذلك ما يجــدد وهج جــذوة اإليمــان ويبعث الــروحللسابقين.الديني من الخمول والخمود

ــاة" والبحث األول في هذا الفصل يدور حول المراد بلفظة "الحي في الخطاب اإللهي، تليه مباحث عن عــدد من أمــور اآلخــرة من بعث وحساب وصراط وميزان وجنة ونار - وكلها أمور في حاجة ــا إلى فهم صحيح يبعدنا عن الخرافات واألوهام التي ال تقدم نفع

بيل" لمن أراد وجه الله، .124"والله يقول الحق وهو يهدي الس

٤سورة األحزاب، آية 124

94

الموت والحياة

المقصد من ضرب األمثــال في كتب اللــه - كمــا أشــرنا ســابقا - تقريب الحقائق الروحانية والمعاني غير المحسوســة إلى أفهــام

البشر ــاني إال . وعلى الرغم من أن حقيقة اإلنسان وجوهره روح أنــه يخضــع لســلطان المــادة وتســيطر على جــانب من وجــوده

ــل الحيــوان . وإنأحكام المادة وقوانين الطبيعة مثله في ذلك مثــإن وجــوده اقتصر اهتمام اإلنسان في الحياة على هذا الجانب ف

. أمــا إذاومآله ينحصران في مملكة الطبيعــة وعالمهــا المشــهودلت فيــه القيم الروحانيــة فإنــه يتحــرر من أسـر قويت ذاته وتأصــــة وهي غيب الطبيعة ويسمو وجوده ومآله إلى المراتب الملكوتي مجهول بالنسبة لمداركـه الحسـية، ولكن لهـا مقابـل ومثيـل فيــرب ــة من ض ــثرت الكتب المقدس ــة، ومن ثم أك ــوالم الطبيع عــة ــبيه لجلب القيم المعنويـ ــاليب التشـ ــتعمال أسـ ــال واسـ األمثـــني ــة لب المعقولة من مكامن الغيب وتقريبها إلى المدارك العقلي اإلنسان حتى تتيح له فرصة الخيار-والربط- بين الجانبين المادي

والروحاني. وفي هذا تنحصــر الفرصــة الفريــدة الــتي تهيئهــا ســنوات الحيــاة

. فــإن احتجب وجــدان اإلنســان عنالمعــدودة على وجــه األرض إدراك القيم الروحانيـــة بمـــا زينتـــه أهـــواؤه، وتلهى عن إنمـــاء المواهب الملكوتية الكامنة في ذاته، أضاع من يده النعمــة الــتي .وعده بها الله في الحياة الحاضرة ومن بعدها في الحياة اآلخرة

ــذي ــوق - ال وما أتى رسل الله إال من أجل حث وتنبيه هذا المخل

95

ــره، ــيرة من أم ــه على بص ــو يجعل ــه - على نح ــه تكريم أراد الل ومعاونته على االحتفاظ بمميزاته اإلنسانية وعلى رأســها وجــوده الروحــاني الــذي يفيض على عــالم الشــهود بــأنوار الفضــائل

. وكما أن الشمس هي نور الحياة المادية فإن اإليمانوالكماالت . وقــد أشــارباللــه وإســالم الوجــه إليــه هــو نــور الحيــاة الروحية

سبحانه وتعــالى في كتابــه العزيــز إلى هــذه الحقيقــة في مجــالــاهالمقارنة بين الكفر واإليمــان فقــال: ــان ميتــا فأحيين "أومن ك

ــه في الظلمــات اس كمن مثل ــه في الن ي ب ــورا يمشــ ــه ن وجعلنا ل.125ليس بخارج منها"

والمقارنة في هذه اآلية هي بين عم الرسول حمزة، وأبي جهل، ويفهم من ظاهر ألفــاظ اآليــة أن ســيدنا حمــزة، كــان ميتــا قبــل

، فلما آمن دبت فيــه الحيــاة وأضــحىإيمانه برسالة سيدنا محمد . وهكــذا شــبه اللــه تعــالى إيمــانيسعى بنــور إيمانــه بين النــاس

ذيناإلنسان بالحياة، واعتبر الكفر عين الموت فقال تعالى: "والــر يئا وهم يخلقــون أمــوات غي يدعون من دون الله ال يخلقون شــ

ان يبعثون" .126أحياء وما يشعرون أيــا ــاة بمعناه ــة: الحي ــوص الكتب اإللهي ــاة في نص ــذه هي الحي فه الروحــاني، وهــذا أيضــا هــو المــوت في متن الكتب الســماوية: الموت الروحاني، وال أدل على ذلك من نفيه تعــالى المــوت عن

بنالذين بذلوا أرواحهم في ســبيله تعــالى في قولــه: "وال تحســ

١٢٢سورة األنعام، آية 125٢١ و ٢٠سورة النحل، آية 126

96

هم ـد رب ــ ـاء عن ــ ــل أحي ـ ــا ب ــه أمواتـ بيل اللـ ــ ـوا في سـ ــ ذين قتل الــون" ــزمن.127يرزق ــر على ال ـة ال تقتص ـ ــاة الروحاني ــذه الحي فه

القصير الذي يقضيه اإلنسان في الدنيا ولكنهــا تبقى وتــدوم بعــدــق بــالروح أبــدي بطبيعتــه، وال يعتريــه خمود جسده، ألن مــا يتعل

.التغيير الذي يصدق على الماديات وما دام أن هذا هو معنى الحياة، فـإذا أشـارت النصـوص اإللهيـة بعـد ذلـك إلى البعث فإنمــا تشـير إلى بعث الحيــاة في الـروح ال

ــه:الجسد . وقد أشار السيد المسيح إلى هذا المعنى نفســه بقولــاة" ــه أتى إلى خاصــته - اليهــود -.128"أنا هو القيامــة والحي أي أن

وكــانوا أمواتــا في أجســاد تتحــرك، فــأراد أن يحــييهم من جديــد، . فالبعث المقصــود في كتب اللــه هــوويبعث فيهم الحياة األبدية

ــه ــك من قول البعث الروحاني وليس الجسماني. وال أدل على ذلــرةتعالى: ــرى اللــه جه ى ن "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حت

ــد مــوتكم ــاكم من بع اعقة وأنتم تنظــرون ثم بعثن فأخــذتكم الصــكم تشكرون" .. وهذا الخطـاب المبــارك موجــه إلى اليهـود129لعل

فهل حدثنا التــاريخ أن اليهــود، كشــعب أو أمــة مــاتوا بأجســادهمــاة في أجســادهم من بعــد المــوت الطــبيعي، ثم بعث اللــه الحي

.موتهم؟ ولو ذكر التاريخ ذلك العتبرناه من أساطير األولينــا فالحياة والموت في خطاب الحق سبحانه وتعالى، مقصود بهم

ــة والمــوت الروحــاني . وكــذلك مــا ورد ذكــره فيالحيــاة الروحي١٦٩سورة آل عمران، آية 127٢٥:١١إنجيل يوحنا، اإلصحاح 128٥٦ و ٥٥سورة البقرة، آية 129

97

ــا هي اســتعارات الكتب اإللهية من بصر وعمى، ونور وظلمة إنم يراد بها تقريب المعاني الملكوتية إلى أفهام أناس لم يشــهدوها،

ــهولم يعرفوها فكان ال بد من التشبيه . فإذا قارن تعــالى في كتب المقدســة بين الحي والميت أو بين النــور والظالم، فإنمــا يقصــد .الحي باإليمان، والميت الذي بقي في كفن الضــاللة والخســران

كما قال تعالى: ــات وال ير وال الظلم "وما يستوي األعمى والبصــور وال الظل وال الحرور وما يستوي األحياء وال األموات" .130الن

وال تقتصر هذه المقارنــة على مجــرد التنبيــه إلى المقــام الرفيــع الذي يرتقي إليه كل مقبل إلى الله وكــل ســالك في نــور هدايــةــو في الله، وإنما هي تشعر أيضا بأن الذي يعرض عن نور الله ه

مع منعداد األموات: اء ومــا أنت بمســ مع من يشــ "إن الله يســ . فال شك أن الله لم يبعث رســله131في القبور إن أنت إال نذير"

ــور تحت ــذروا من في القب ــادهم أو ين ــوتى بأجس ــاطبوا الم ليخ التراب، وإنما المراد أن المعرضين عن رســاالت اللــه هم مــوتى

روحانيا وذواتهم مدفونة في قبور أجسادهم المتحركة. والحقيقة التي ال شك فيها هي أن الــذين يحرمــون أنفســهم منــوتى ــاال من الم ــة هم أســوأ ح ــان بالرســاالت اإللهي ــة اإليم نعمــال جسديا، ألن من وارى أجسادهم التراب، لم يكن لهم خيار حي الموت ولكن المعرض عن رســالة إلهيــة إنمــا يحكم على نفســه

. هذا باإلضــافة إلى أن منبالموت األبدي بإرادته الحرة واختيارهــا أمــوات وارى أجسادهم التراب قد انقطع شرهم عن الناس أم

٢٢ إلى ١٩سورة فاطر، اآليات من 130٢٣ و ٢٢سورة فاطر، آية 131

98

الــروح الــذين يــدبون على األرض، وينشــرون الفســاد ويضــلونــوتىالعباد بأعمالهم الشيطانية فإن شرهم متواصل . حقا إن الم

في قبورهم ال يتقاتلون، والينقضون نــواميس الشــرف واألخالق، . أمــا أمــوات الــروح، فيحيلــونوال يعتــدون على حقــوق النــاس

المعمور مطمورا، وينشــرون في األرض لهيبــا من نــار التعصــبوالبغضاء.

يشــهد التــاريخ أن اإلنســان لم ينجح في إصــالح أحوالــه معتمــداــابت على وجــه ــام، والث ــوم من األي على قــواه منفــردا في أي ي القطع واليقين أن رسل الله هم الذين عاونوا البشر على السير في مراحل اإلصالح، وتحملوا في هذا السبيل كل جحــود وغــرور

. والناس يروون قصص األنبياء السابقين وهم في غفلةواستكبار . وإذا قيــل لهم أفيقــوا منعن ســوء حــالهم في الــوقت الحاضر

ســبات الغفلــة وانهضــوا من رقــاد الكســالة الــذي غلب عليكم، وأقبلوا إلى مطلع النور اإللهي الذي أراد إخراجكم من الظلمات

. مثلهم كــالمريضإلى النور، أجابوا مــا نرانــا بحاجــة لمن يهــدينا الذي يتوهم في سكرة الموت أنه على أحســن مــا يكــون صــحة

وعافية، ثم يرفض يد الطبيب الممدودة إليه في عطف وحنان. هذا هو حال عالم اليوم عنيــد يــرفض الهــدى واإلصــالح، فصــدق

ـوا"عليه قوله تعالى: ـ نات وما كانوا ليؤمن "وجاءتهم رسلهم بالبيدوا في األرض قــالواوقوله تعالى، 132 ــل لهم ال تفســ : "وإذا قي

عرون" دون ولكن ال يشــ هم هم المفســ لحون أال أن مــا نحن مصــ إن

١٣سورة يونس، آية 132

99

. ولهذا تفضل حضرة بهاءالله بوصــف هــذا العنــاد في خطابــه133 "إذا قيــل لهم أتى مصــلح العــالم قــالوا قــدإلى الملكة فكتوريا:

ــه من المفســدين أولئــك من أجهــل الخلــق لــدى الحــق تحقق أن يقطعون أعضادهم وال يشعرون، يمنعون الخــير من أنفســهم وال يعرفون، مثلهم كمثل الصبيان ال يعرفــون المفســد من المصــلح

، فالعنــاد134والشر من الخير قد نراهم اليــوم في حجــاب مــبين"ــورة الذي يرتفع من جانب المعرضين يقدم، من ناحية أخرى، ص مجسمة للدور الجليل الذي يضطلع به رسل الله في سبيل بعث

رمثل هؤالء النفوس الذين وصفهم الحق بقوله تعــالى: "إن شــذين ال يعقلــون" م البكم ال ــد اللــه الصــ ، و" إن شــر135الدواب عن

ذين كفروا فهم ال يؤمنون" .136الدواب عند الله ال فعدم اإليمان، أو رفض اإليمان هو حرمان لصاحبه من فيوضــات

ــراض عنالله التي بها وحدها يبصر ويسمع ويعقل ويحيي . واإلع النــور والهدايــة الجديــدة يهبــط بصــاحبه إلى مســتوى العمى

. وقد وصف ســيدنا المسـيح عليــه السـالم أمثــال هــؤالءوالموتــها: ــة نفسـ بالكيفيـ امعين ال ــ رون وسـ ــ رين ال يبصـ ــ هم مبصـ "ألن

ــون" معون وال يفهم ــ ــه للحــواريين فكــان على137يس ــا خطاب . أمر وآلذانكم النقيض من ذلــك: ــ ــا تبص ه ــونكم ألن "ولكن طــوبى لعي

١٢ و ١١سورة البقرة، آية 133 آثار قلم أعلى، خطاب بملوك ورؤساي أرض )طهران، مؤسسه ملي 134

١٣٧-١٣٦مطبوعات أمري( ص ٢٢سورة األنفال، آية 135٥٥سورة األنفال، آية 136١٤:١٣إنجيل متى، اإلصحاح، 137

100

مع" ــ ــا تس ه ــون138ألن ــاوة عن العي ــل الغش ــه أن يزي ــأل الل . نس.والحجب عن األفئدة، والوقر عن اآلذان

١٦:١إنجيل متى، اإلصحاح، 138

101

القيامة والساعة

تقدم القول بأن أتباع كــل رســالة دينيــة قــد ورثــوا االعتقــاد بــأن رســالتهم آخــر الرســاالت اإللهيــة، وبهــا انقطــع الــوحي، فهم الــير منهم - تحت يتوقعون أي رساالت إلهية من بعد رسولهم، وكث تأثير هذا االعتقاد - يقرأون النبــوءات الــتي تخــبر بظهــور رســالة ــوزا جديدة قراءة سطحية، عمادها تفسير اآليات التي تحــوي رم ومجازا على أن معانيها عين ما تدل عليــه ألفاظهــا مــع اســتبعاد

. من ذلــك مــا ورد في الكتباالحتمال أن يكون لها معان أخــرى السـماوية واألحــاديث النبويـة عن آخـر الزمـان والنبـوءات الـتي .تخبر عن القيامة، والساعة، ونفخ الصور، والصــيحة، ومــا ماثلها والقليل من الناس - بل وأقل من القليــل - هم الــذين يتفكــرون في المقصود من نفخ الصور، أو ما هي تلك الصيحة الــتي تصــل إلى أسماع العالم بأسره، أو كيف يتزامن مجيء المهدي ونزول عيسى مع انشقاق السماء، وتكور الشــمس، وانطفــاء شــعاعها، وتســاقط النجــوم على األرض، وتزلــزل األرض، ونســف الجبــال

.نسفا وال شــك أن في هــذه اآليــات مــا يــدعو إلى المزيــد من التفكــير المتأمل لفهم معانيها، ألن في تكور الشمس وانشــقاق الســماء وسقوط النجوم على األرض مثال نهاية محققة للحياة على وجــه

. بينما هذه اآليات نفســها تجــزم فياألرض، بل فناء األرض ذاتها الوقت نفسه بمجيء مبعوثين من اللــه في ذلــك الــوقت، وبعث

102

الموتى إلى الحياة، ونشر العدل، والقضــاء على الظلم، وإعمــار.األرض وإصالحها من جديد، وإشراق األرض بنور ربها

ولعل من الجدير بالمرء أن يتساءل - لو أخذنا معاني هذه اآلياتــذا على ظاهر لفظها - لماذا يدمر الله العمار الذي أقامه على هــداع؟ أال يمكن حســاب النــاس على مــا القــدر من التنظيم واإلب كسبت أيديهم بدون هذه الكوارث التي ال عالقة لهــا بالحســاب؟ وليس المقصد من إثارة هذه التساؤالت التشكيك فيما جــاء فيــه منها .الكتب السماوية، بل التأمل فيها بغية استخالص مراد اللرين فكل هــذه األيــات الــتي اعتبرهــا الجــانب األكــبر من المفســ محكمــات وواضــحة الداللــة، هي في الواقــع متشــابهات أشــكل فهمها على الناس ألنها في الظاهر متناقضة، وغير مقبولة عقال، فال بد من أن تكون لها معان أعمق ممــا ذهب إليهــا المفســرون

.في السابقــاعة، عن ــود، عن الس ــوم موع ــدثون عن ي ــا يتح ــاس جميع فالن القيامة، ويتحدثون عن ويالتها وأهوالها، وكل هذه أوصاف وردت لها فعال، ولكن ما معناها؟ الصور المتعــددة الــتي تــذكرها الكتب المقدسة - وخاصــة القــرآن واإلنجيــل - تبعث الحــيرة إذا أخــذت معانيهــا على ظــاهر ألفاظهــا، وأغفــل مــا تنطــوي عليــه من مدلوالت، ففي صــورة يأخــذنا الهلــع من المصــير المفــزع الــذي ترســمه وفي صــورة أخــرى نــرى مصــيرا متألقــا بــأنوار الرحمــة

الكبرى.

103

والقرآن الكريم يعرض صورا متباينة ألحــداث القيامــة على نحــو . وترســم إحــدىملحوظ بحيث تحتل مكانا هاما من انتباه القــارئ

هذه الصور المصير المفزع الــرهيب الــذي ينتظــر النــاس في اليــومماء انشقت"الموعود: ماء فهي يومئذ139"إذا الس قت الســ ، "وانشــ

جوم انكدرت"وكذلك 140واهية" مس كورت وإذا الن إذا" و141 إذا الشا" ــاء منبث ــانت هب ا فك ــال بســ ت الجب "إذا و،142رجت األرض رجا وبس

ــاف143زلزلت األرض زلزالها وأخرجت األرض أثقالها وغير ذلك من أوصــاب، ــوم العق من قبيل: يوم العذاب، ويوم الحسرة، ويوم الحساب، وي

. ويصف القرآن الكريم حالة الناس في ذلــكويوم الخزي، ويوم التغابنــذهلاليوم الرهيب: ــا ت اعة شيء عظيم يوم ترونه "إن زلزلة الس

اس ــرى الن ــل ذات حمــل حملهــا وت ع ك عت وتضــ عة عما أرضــ كل مرضــ "فإذا جــآءت144سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد"

ة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه" .145الصاخورة ثانيــة للقيامــة تفيض بالرحمــة وتشــرق ويرســم القــرآن صــــاء الســماء بأناشــيد ــا ورق بالبشــارة الكــبرى وتغــرد على أفنانه

"يوم يقوم  البهجة والمصير المشرق: فا ال ــة صــ وح والمالئك الــروابا" ــال صــ حمن وق من أذن له الر مون إال ، 146يتكل :وقولــه أيضــا

١سورة االنشقاق، آية 139١٦سورة الحاقة، آية 140١سورة االنشقاق، آية 141٦-٤سورة الواقعة، آية 142٢ و ١سورة الزلزلة، آية 143٢ و ١سورة الحج، آية 144٣٦-٣٣سورة عبس، آية 145٣٨سورة النبأ، آية 146

104

ك والملك صفا صفا" أنوكــذلك:، 147"وجاء رب "هــل ينظــرون إالي األمـر وإلى ـة وقضـ ـل من الغمـام والمالئك يأتيهم اللـه في ظل

موات148الله ترجع األمور" ، و"يوم تبدل األرض غير األرض والســها"149وبرزوا لله الواحد القهار" .150، "وأشرقت األرض بنور رب

ــا على مــدلول ألفــاظ هــذه اآليــات ومعانيهــا فــإذا قصــرنا فهمنــة الظــاهرة انتهينــا إلى نتــائج ال يقبلهــا العقــل، فاالنقالبــات الكلي المذكورة لو حدثت لن تترك فرصة إلنسان حــتى يفــر من أخيــه وأمه وأبيــه، وال للمرضــع لتــذهل عمــا أرضــعت، وال لإلنســان أن يكون سكرانا وما هــو بســكران. فمــاذا يكــون حــال اإلنســان إذاــفت، والشــمس ــال نس الســماء انشــقت، واألرض رجت، والجبجرت إلى آخــره؟ هــل ــورت، والكــواكب انكــدرت، والبحــور ســ ك

يمكن تصور بقاء كائن حي بعد حصول هذه االنقالبات؟ ومع ذلك نص كتاب الله ال يترك مجاال للشك في استمرار وجود .الناس على قيد الحياة رغم ورود كل هــذه االنقالبــات الخطــيرة

إذا فمن المعقول أن تكون هذه األوصاف قــد وردت على ســبيل التمثيل والتشبيه مشيرة إلى أمر عظيم بظهوره تحدث كل تلـك

. وهل هناك أمر أعظم من الوعد بوروداالنقالبات بصورة معنوية؟الله، ولقاء العباد به تعالى

٢٢سورة الفجر، آية 147٢١٠سورة البقرة، آية 148٤٨سورة آبراهيم، آية 149٦٩سورة الزمر، آية 150

105

ولكن علمنا رسل الله أنه سبحانه مــنزه عن خصــائص األجســام . إنه غيب منيعوصفاتها وأنه أعظم من أن يحد ذاته حيز أو مكان

ــة وذاتيصفه حضرة بهاءاللــه بقولــه عــز بيانــه: "إن غيب الهويــة كــان مقدســا عن الــبروز والظهــور والصــعود والــنزول األحدي والدخول والخروج، ومتعاليا عن وصف كــل واصــف وإدراك كــل مــدرك، لم يــزل كــان غنيــا بذاتــه، وال يــزال يكــون مســتورا عن األبصار واألنظار بكينونته، ال تدركــه األبصــار وهــو يــدرك األبصــار

.151وهو اللطيف الخبير" أال يكفي هذا لالقتناع بأن معاني هذه اآليــات غــير مــا يــدل عليــه ظاهر لفظهــا؟ وهــل هنــاك طريــق آخــر غــير المجــاز لفهم هــذه اآليات المباركة على نحو يقبله العقل؟ أال يمكن أن نقبــل معــنى مجيء اللــه على أنــه مجيء مبعــوث من اللــه في يــوم موعــود موسوم بهذا االسم المقدس العزيز المنيع؟ أال تتحقــق بواســطة هؤالء المبعوثين معرفة الله والقرب منه ولقاؤه، وبدونهم يكــون

؟الطريق مسدودا والطلب مردودا وهناك صورة أخرى يعرضها القرآن الكريم عن القيامة والساعة تعتبر بحق مفتاحا لما أغلق فهمـه على األذهــان، وتعين المتأمــل فيها على إدراك معان أبعد وأعمق مما يقــول بــه القــانع بظــاهر لفظها، وهي بذاتها تكفي لإلقناع بأن معانيها - مــا لم تؤخــذ على المجاز - ال سبيل إلى فهمها إال بقدر ما يفقه الطفل من أســرار

.الحياة بهاء الله، كتاب اإليقان )ريو دي جانيرو، دار النشر البهائية في 151

٧٦-٧٥( ص ٣البرازيل، ط

106

ــأتيهمقال تعالى: ــه أو ت "أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الليشعرون" ال وهم بغتة اعة تعالى: ،152الس وقال يوم" وأنذرهم

" يؤمنون ال وهم غفلة في وهم األمر قضي إذ وقال 153الحسرةأيضــا: كم بعضــا كم ببعض ويلعن بعضــ ــوم القيامــة يكفــر بعضــ "ي

ار وما لكم من ناصرين" والسؤال كيف يمكن أن.154ومأواكم النــمس، ــور الش ــماء، وتك ــقاق الس ــة انش ــوم القيام ــدث في ي يح وسقوط النجوم، مع غفلة النــاس عن وقوعهــا وعــدم شــعورهم

بهذه األحداث المهولة؟ وهل من المعقول أن يكفر الناس بعضهم البعض ويلعن بعضــهم بعضــا بينمــا األرض تــتزلزل وأحــداث الســاعة تهــز كــل ذرة من ذرات وجـــودهم؟ وهـــل يمكن أن يوجـــد مجـــال - وســـط تلـــكــر في قولــه األحداث الهائلــة - الســتمرار الســب واللعن؟ ولنتفك

ــرتعالى: ــوا غي م المجرمــون مــا لبث اعة يقســ ــوم تقــوم الســ "ويذين أوتوا العلم واإليمــان لقــد ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الكم كنتم لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكن

. فهل يمكن عقال أن يقع انشــقاق الســماء، وتكــور155ال تعلمون" الشمس، وسقوط النجوم، بمعانيها الحقيقيــة والنــاس في غفلــة من هذه األمور المهولة؟ فال منــاص إذا من حمــل هــذه األلفــاظ

١٠٧سورة يوسف، آية 152٣٩سورة مريم، آية 153٢٥سورة العنكبوت، آية 154٥٦ و ٥٥سورة الروم، آية 155

107

على معــان معنويــة وروحانيــة تســمح بوقــوع الزلزلــة والرجفــةوالناس عنها في غفلة وعلى غير علم.

وهناك صورة أخرى ليوم القيامة. فقد رأينا للقيامــة صــورة فيهـا تنشق السماء، واألرض تــرتج وتــتزلزل، والجبــال تنســف وتقلــع،

. وصورة ثانيةوالشمس تتكور وتظلم، والكواكب تـنـتثر وتسقطــديل األرض ــه، وتب ــه، وورود الل ــرب ومالئكت فيهــا جالل مجيء ال

. وصورة ثالثــة فيهــا جــدالوالسموات، وإشراق األرض بنور ربهاونزاع بين الناس حتى يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا.

وها هي صورة رابعة تقــدم لنــا القيامــة في نفخــتين متتــابعتين - نفخة تصعق كــل من في الســموات واألرض إال من يشــاء اللــه، وتتبعها نفخة يقوم بها الناس وتشــرق األرض بنــور ربهــا ويجــري الحساب ويتم الثواب والعقاب على هذه األرض، كما قال تعالى: موات ومن في األرض إال عق من في الســ "ونفخ في الصور فصــرقت من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشــي هداء وقضــ ين والشــ بي ــالن ها ووضع الكتاب وجــاء ب األرض بنور رب

.156بينهم بالحق وهم ال يظلمون"

. فــإذا قيــل بــأنفاآلية تشير إلى كتاب وقضاء بين الناس بــالحق الكتاب المقصود هو القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم واإلنجيل والتوراة كانت موجودة وقت نزول هذه اآلية الكريمة، ولكنها معور مــرتين، وبعــد ذلك تشير إلى كتــاب يــأتي بعــد النفخ في الصــ انصعاق من في السموات واألرض وقيــامهم مــرة أخــرى، وبعــد

٦٩ و ٦٨سورة الزمر، آية 156

108

. فال بــد أن يكــون الكتــاب المشــار إليــهإشراق األرض بنور ربهاكتاب آخر غير القرآن واالنجيل والتوراة.

ويشير سبحانه وتعالى في موضع آخــر من كتابــه العزيــز إلى أن الخلود في الجنة والنار خلود دائم بدوام السموات واألرض، مما

. فقد قال تعالىيؤكد أن السموات واألرض باقيتان بعد الحسابقيعن يوم القيامة: ــه فمنهم شــ بإذن م نفس إال "يوم يأت ال تكل

هيق ار لهم فيهــا زفـــير وشــ قوا ففي الن ذين شــ عيد فأما ال وســك ك إن رب ما شاء رب موات واألرض إال خالدين فيها ما دامت الســا مــا ــدين فيه ة خال عدوا ففي الجن ذين ســ فعال لمــا يريــد وأما ال

ــر مجــذوذ" ك عطاء غي ما شاء رب موات واألرض إال .157دامت الس وهذا تأكيــد بـدوام األرض والسـماء أثنــاء قيــام السـاعة وبعــدها، األمر الــذي ينـاقض تكــور الشـمس، وانشـقاق السـماء، وزلزلـةــا ــاظ على معانيهـ ــذه األلفـ ــا هـ ــال إذا حملنـ األرض، ودك الجبـ

.الظاهرةــات ــا، هي آي ــير غيره ــة وكث ــات المبارك ــذه اآلي ــة أن ه والخالص متشابهات ظلت طوال األجيال الماضية مختومة بخــاتم المســك حتى جاء حضرة بهاءالله وفض ختمها بإصــبع إرادة اللــه، وكــانت من قبله غامضة. وزادهـا غموضـا مـا جــرت بـه أقالم القــوم من

ور الــذي نفخشروح وتعليقات . فظهور حضرة بهاءالله كــان الصــــا روح الحياة من جديد في هيكل الوجود كما سيأتي تفصــيال فيم

بعد عند الحديث عن رسالة حضرة بهاءالله.

١٠٨-١٠٥سورة هود، آية 157

109

. فقــد قــدمتولنحــاول اآلن فهم هــذه اآليــات على نحــو مختلفمــا انصــرف إليــه انتبــاه سورة يونس أحد مفاتيح سر القيامــة قل

ــون متى هــذا الوعــد إنالناس، وذلــك في قولــه تعــالى: "ويقولاء اللــه مــا شــ كنتم صادقين قل ال أملك لنفسي ضرا وال نفعا إال اعة وال ــ ــ تئخرون س ــ ــ ــاء أجلهم فال يس ــ ــل إذا ج ــ ـل أمة أج ــ ـ لك

تقدمون" ، وهــذا نص صــريح يقــرن قيــام الســاعة والبعث158يســ بانتهاء أجل األمة، ويحدد لكل أمة أجال إذا حان أجلها حــان أيضــا

. فكأن لألمم آجــاال كمــا أن لألفــراد آجــاال، وكــذلك لألممحسابهاــراد. ــوع من األف ــاألمم جم ــابا. ف ــراد حس ــا أن لألف ــاب كم حس

. ويروي القرآن الكريم أمثلةوحساب كل أمة يحين بحلول أجلها لحساب األمم السابقة عندما حــانت آجالهــا وتم حســابها، ولهــذا يجب علينا أن نراجع أنفسنا ونتفكر مليا في المــراد من عالمــات

ــدالساعة . وعلينا في خالل هذا البحث أن نستلهم الجواب ونعتم في فهم هذا اليوم على نور نصوص كتاب الله، ال على ما ورثناه

.من روايات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان . حدثـتنا سورة هود عن رسالة نوح والطوفان الذي حل بقومه١

ــذين صــدقوا جــزاء إعراضــهم واســتكبارهم، ولم ينج منهم إال البرســالته، وأطــاعوا أمــر اللــه واعتصــموا برحمتــه: "فقــال المأل

بعك إال بشرا مثلنا وما نراك ات الذين كفروا من قومه ما نراك إالــل ل ب ــا من فضــ ــرى لكم علين أي ومــا ن ذين هم أراذلنا بادي الر ال

ــاذبين" كم ك :واســتمر القــوم في غــرورهم واســتكبارهم 159نظن٤٩ و ٤٨سورة يونس، آية 158٢٧سورة هود، آية 159

110

ــل زوجين ــا من ك ور قلنا احمــل فيه ن ى إذا جاء أمرنا وفار الت "حت ــه إال من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن مع اثنين وأهلك إالي اها إن رب م اللـه مجراهــا ومرســ ــوا فيهــا باســ ــل وقــال اركب قلي

.160لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال". وحدثـــتنا أيضــا عن قــوم هــود: ٢ ــودا ــا ه ين ــا نج "ولما جــاء أمرن

يناهم من عذاب غليظ " ا ونج ذين ءامنوا معه برحمة من .161والينا٣. وحدثـتنا السورة نفسها عن قوم صالح : "فلما جاء أمرنا نج

ك ا ومن خــزى يومئذ إن رب ــه برحمــة من ذين ءامنوا مع صالحا والبحوا في ــ يحة فأص ــوا الصــ ذين ظلم ــذ ال ــز وأخ ــوي العزي ــو الق ه

.162ديارهم جاثمين"هم٤. كما حدثـتنا أيضا عن قوم إبراهيم: ك وإن ه قد جاء أمر رب "إن

.163ءاتيهم عذاب غير مردود"افلها٥. وحدثـتنا عن قوم لوط: ــا ســ "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليه

.164وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود"ــوم شــعيب: ــتنا عن ق ٦. وحدثـ عيبا ــا شــ ين ــا نج "ولما جــاء أمرن

يحة ذين ظلمــوا الصــ ا وأخــذت ال ــه برحمــة من ــوا مع ذين ءامن وال.165فأصبحوا في ديارهم جاثمين"

٤٢-٤٠سورة هود، آية 160٥٨سورة هود، آية 161٦٧ و ٦٦سورة هود، آية 162٧٦سورة هود، آيه 163٨٢سورة هود، آية 164٩٤سورة هود، آيه 165

111

: "كأن لم يغنوا فيها أال بعــدا لمــدين٧. ثم حدثـتنا عن قوم ثمود.166كما بعدت ثمود"

ــة فأما٨. وجاء في سورة الحاقــة: ــاد بالقارع ــذبت ثمــود وع "كــة ر عاتي ــريح صرصــ ــة وأما عــاد فــأهلكوا ب ثمود فــأهلكوا بالطاغيــا ــرى القــوم فيه ام حسوما فت سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أي

هم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية" .167صرعى كأنــاء ــائج الحســاب فن ــار أن من نت ــذه األخب ــا نستخلصــه من ه وم

واستمرار "ال ترى لهم من باقية"،المستكبرين المكذبين بحيث الحياة بالمؤمنين ودوامها بدوام أسماء الله وصــفاته العليــا، كمــا

استمرت الحياة ودامت بعد انقضاء األمم الغابرة.ــيحة ــة والص ــة والحاق ــرى، أن القارع ــة أخ ــتخلص من جه ونس والصاخة ويوم الحشـر وغيرهـا، جميعهـا مترادفـات ذات مــدلول واحد عام، وآثار واحدة عامة، وهي التفاعل الحتمي الذي يحدث .عند دعوة كــل رســول إلهي مــع األمــة أو األمم الــتي بعث إليها

فالدعوة في ذاتها صيحة هائلة ترج األفكار رجا، وتهتز من شدتها الشرائع القائمة اهــتزازا، وتـتزلزل من وقعهـا األوضـاع السـائدة زلزلة شديدة، فتورد المعارضين والمستكبرين المهالــك، وتقــرع المبطلين، ويحــق القــول على المكــذبين المتمــادين في غيهم

. ثم تخلق خلقا جديدا ليسعى في هدى النور الجديد.وأهوائهم

٩٥سورة هود، آية 166٨-٤سورة الحاقة، آية 167

112

والحقيقــة واحــدة ال تتعــدد بتعــدد األســماء، فــالمعنى واحــد بينــأ العظيم ــة والنب ــة والصــيحة والصــاخة والقيام ــة والحاق القارع

إذ إن كل هذه التعبيراتالحساب"." و "أمر الله"وأمثالها، وبين ــا كــان تصدق في اليوم الذي يرتفع فيــه نــداء الرســول اإللهي أي

. ويخــاطب اللــه العــالم في شــخص األمــة اإلســالميةذلــك اليــوم ليبلغهم أن الحســاب قــريب ال ريب فيــه، رغم انصــراف النــاس عنــه

وعدم تقديرهم لنتائجه الحاسمة، فكل ما عدا النــداء اإللهي في . فقــال تعــالى:نظــر اللــه لعب وعبث ال خــير فيــه وال دوام له

ــون" هم محدث إال استمعوه وهم يلعب ،168"ما يأتيهم من ذكر من ربهم محــدث". فقولــه تعــالى والذكر هنا معناه الكتــاب ــر من رب "ذك

. ومعــنى نــزول الكتــابيعني كتاب من الله جديد، ومجــدد لشــريعتهــه الجديد هو انتهاء أجل أمة ونهاية دور وبداية آخر مصــداقا لقول

أنا بعــدهاتعالى: ــانت ظالمــة وأنشــ ــة ك منا من قري "وكم قصــ.169قوما ءاخرين"

والخالصة: أن هالك األمم السابقة جزاء إعراضهم واستكبارهم - . واألمة اإلسالميةالذي فصلته سورة هود - أمر ثابت في الكتاب

كغيرها من األمم تجري عليهــا ســنة اللــه كمــا جــرت على األممــه ــزول عيســى روح الل ــدي ون ــور المه ــد ظه الســابقة، فهي عن

ــه األمم الســابقة ــذي ابتليت ب ــان نفســه ال . ثمســتواجه االمتح . وقد نبهتنقضي نشأة، وتبدأ نشأة أخرى، ويأتي الله بخلق جديد

ــل غيرهــا من األمم الســابقة، الرسول األمين أمـــته أن مثلهــا مث٢سورة األنبياء، آية 168١١سورة األنبياء، آية 169

113

بلتخضع لسنة الله التي ال تتغير وال تتبــدل فقــال: "لتســلكن ســ من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حــتى إذا دخلــوا جحــر ضــب

ــا رســول اللــه؟ قــال:لــدخلتموه . قــالوا: "والنصــارى واليهــود يــابقة ال 170ومن؟" ومنه نفهم أن الحساب الذي قدمته األمم الس

بد واقع أيضا لألمة اإلسالمية.

بخاريالرواه 170

114

الميزان

الميزان لغة هو األداة الــتي تعــرف بهــا أثقــال وأوزان األجســام، ويعني مجازا تقدير المعاني واألعمــال بنســبتها إلى قيم أخالقيــة

. ويعني أهل الفلســفة بــالميزان العالمــةوروحانية متعارف عليها الــتي تتــبين بهــا األشــياء والمعــاني فيتيســر الحكم عليهــا، وفي اصطالح الكتب المقدسة الميزان هو ما يعين العبــاد على تقــديرــة سلوكهم بمقارنتها باألوامر اإللهية لتتــبين مــدى مطابقتهمــا بغي

. وبعبارة أخرى الميزان ألهــل األديــان هــو ســبيلتقويم سلوكهم لمعرفـة مـدى مناسـبة تصـرفات اإلنسـان وسـلوكه للقبــول في ساحة الحق، فهو القسطاس الذي يوزن به وفاء المرء بعهد الله وميثاقه، وبه يتحدد صدق النوايا، كالصــراط المــؤدي إلى النجــاة

.والفالح والرقي في معارج الكمالــاتوهذا ما يستفاد من قوله تعــالى: ن لنا بالبي لنا رســ "لقــد أرســ

اس بالقســط" ، وفي171وأنزلنا معهم الكتاب والمــيزان ليقــوم الن اســمعوا مــا تتلــوهذا المعــنى نفســه يقــول حضــرة بهــاء اللــه: "

ــه رب السدرة عليكم من آيات الله إنها لقسطاس الهدى من اللــه من،172اآلخرة واألولى" وفي موضع آخر يحذر حضرة بهاء الل

الخلط بين ميزان الله وموازين البشر فيتفضل بقوله عز بيانه: "قـل يـا معشـر العلمـاء ال تزنــوا كتــاب اللـه بمـا عنــدكم من

ــد القواعد والعلوم إنه لقسطاس الحق بين الخلق قد يوزن ما عن٢٥سورة الحديد، آية 171١٤٨، فقرة الكتاب األقدس 172

115

األمم بهذا القسطاس األعظم وإنه بنفســه لــو انتم تعلمــون".

ــدة فبظهور المظهر اإللهي الجديد ينبض عالم الشهود بحياة جدي وروح جديــد، وفي ظــل أحكامــه الجديــدة تصــبح األعمــال مــرآةــة الربانيــة تعكس أنــوار الفضــائل اإلنســانية المنبعثــة من الهداي

. وفي ظل أنوار وهــدى الرســول الجديــد يســود الوفــاقالجديدةــروا نعمــة اللــه عليكم إذواالتحاد رحمة من الله كما قال: "واذك

ف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على كنتم أعداء فألــه ن اللــه لكم آيات ــذلك يبي ار فأنقــذكم منهــا ك فا حفــرة من الن شــ

ــدون" كم تهت فــالميزان بهــذا المعــنى عــون للمــؤمن في 174لعل محاسبة النفس ومراقبتها وهو الحكم المبرم المفــرق بين النــور

ــنى يســتويوالظلمة، وبين الخطأ والصواب . والميزان بهذا المع مفعوله في الدنيا واآلخرة، ولو كان قصرا على اآلخرة لما أنزلــه

الله والكتاب على رسله في الحياة الدنيا . وجاء ذكر ذلــك ســابقافي تفصيل معنى القيامة والساعة.

أما نفع الميزان في الحياة الدنيا فيمكن فهمه من نصــح حضــرة : "حاســب نفســك فيبهاء الله للمؤمنين بــالتفكر في ســلوكهم

ــة وتقــوم على كل يوم من قبل أن تحاسب ألن الموت يأتيك بغتــك" ــذا الحســاب 175الحســاب في نفس ــد في ه ــئولية العب فمس

مسئولية شخصية وفردية، وبها يصارح المرء نفسه في خلوة مع٩٩، فقرة الكتاب األقدس 173١٠٣سورة آل عمران، آية 174الكلمات المكنونة 175

116

ــه عن ضميره ويواجه بعزم وحزم جنوحه وميوله، ويكشف لنفس . وفي ذلك مواجهة العبد لنفسهحقيقة بواعثه، ويعترف بافتقاره

بالحقــائق العاريــة ال بــدافع اللــوم والتبكيت أو اســتثارة الشــعورــالح، وكبح ـة اإلص ـ ــه، ولكن بغي ــدر نفس ــط من ق ــذنب أو الح بالــعيا إلى ــوى، وس ــرر من اإلثم، والخالص من اله ــاح، والتح الجم السمو، ومناشــدة للعــزة، وأمال في الحريــة، والتقــرب إلى اللــه

تعالى بمشابهة صفاته واالمتثال إلى وصاياه ونواهيه. وكما أن للمــيزان كفــتين فكــذلك لهــذا الحسـاب جانبــان: األول:ــالم ــه من الع ــهواته، وهي ميراث ـه وش ـ ــه وهوان ــان بنقائص اإلنس .المادي الذي انبثق منه جسده، والــذي ينشــد الخالص من ربقــه والثاني: السعادة الحقة والنعيم األبدي والهدى الربــاني المتأللئ في األحكام اإللهية، والرحمة الكبرى المتشعشــعة من مواعظــه

. ولكن ليتسنى للمرء إحكــام الزمــام في حســابتعالى وكلماته النفس ينبغي عليه أن يتوفر على عدد من الوسائل يسـتعين بهــا

. فعالوة علىعلى الفــوز في هــذا االمتحــان المليء بــالعثراتـدرك ـ ــة يجب أن ي ــه بدق ــه وأفعال ــة أقوال ــه على مراقب مواظبتــتي يتخــذ المعاني السامية والصفات العالية التي يريد بلوغها وال

. وإن لم يكن هنــا موضـع للتوسـع في هـذامنهـا معـايير ألحكامه الموضوع تفصيال، إال أن ما ال يقال كله ال يترك كله، فال أقــل من الوقوف لحظــة على شــاطئ هــذا البحــر المتالطم األمــواج غــير

المحدود.

117

ــا أن ــة من خلقــه، مؤمن فعلى الطــالب أوال: أن يتأمــل في الغاي وجوده لم يكن عبثــا، وعليــه أن يــؤمن بــأن خلــق اإلنســان، ومــا

ب النظرأوتي من قدرات ومواهب كان لهدف . وما عليه إال أن يقلــأن لكــل في مشاهد هذا الكون غير المتناهي، لكي يصل إلى اليقين ب

موجود فيه مهما كانت رفعته أو دناءته وظيفــة يتوقــف عليهــا وجود آخر، وأن مراتب الوجود مرتبطة برباط وثيق، ويتوقــف وجــود كل منها وبقاؤه على وظيفــة ووجــود كائنــات أخــرى، فــأجزاء هــذا

الكون الفسيح كلــه تفتقــر إلى بعضــها البعض، ويتوقــف بقاؤهــا ونماؤها وكمالها على ما تؤديه األجزاء األخرى بدون أدنى استثناء،

. فخاصية الوجودوال يوجد في الخلق مستغن أو مستقل عن غيره . وعلىالمادي الترابط والتبادل لمقومــات الوجــود والــرقي في مراتبه

العبد أن يعلم أن تقويم نفسه هو ســهم في تقــويم المجتمــع وإصالح العالم، وبقدر محاسبته لنفسه يكون سهمه في عمران

.العالم ولقد فصل حضرة بهاء الله الغاية من خلق اإلنســان في الصــالة

"أشهد يــا إلهي بأنــك خلقتــنيالتي يؤديها البهائي وقت الزوال: . وليس المقصــود بالعرفــان عرفــان الــذاتلعرفانــك وعبادتــك"

المنزهة عن اإلدراك، ولكن عرفان مظاهر الله وعرفان الصفاتــال المنسوبة إلى الله وهي على قدر بعدها عن النسبة إلى الكم اإللهي هي منتهي ما يصــل إليــه إدراك البشــر، والتحلي بهــا هــو

. على أنغاية ما يستطيعه اإلنســان في حياتــه الــدنيا على األقلك المــرء بالصــدق الصــرف مــع المهم في هذا الجهــاد هــو تمســ

118

ــة ــ ــه، وال يخفي حقيق ــ ــاذير عن هفوات ــ ــه فال يلتمس المع ــ نفس.البواعث على تصرفاته

. وهما نورفهذا معنى الميزان، والحساب الذي يأتي مع كل رسول . وكما كان سيدنا محمد والسيد المسيحتتجلى في ضوئه حقائق األشياء

من قبله في زمانهما هدى للسابقين، يشرق اليوم النور نفسه منكلمات حضرة بهاء الله لينيرالسبيل ألهل العالم.

119

والكواكبالشمس

ولنتناول اآلن باختصار تفصيل ولو جانب من االستعارات البديعــة الخاصة بالشمس والكواكب وبيــان مــدلوالتها الروحانيــة، خاصــة لما شاع بين الناس أن من عالمات القيامة تكور الشمس وتناثر النجوم، واختالط الدواب والوحوش، وتسجر البحار وما إلى ذلك

. والمتأمل النبيــه في هــذه الصــورةمن انقالب في طبيعة الكون يرى أن بمجرد أن يذهب عن الشــمس حرهــا ونورهــا، يســتحيلــية ــة الشمس ــاة في المجموع ــور الحي ــورة من ص ــود أي ص وج

ــمسبأسرها بما في ذلك الجنة والنار . ألن الله جعل إشعاع الش . حــتى الكائنــات الــتي تعيش تحتهو مصدر الحيــاة كمــا نعرفها

األرض وال تــرى نــور الشــمس يتوقــف وجودهــا على إشــعاع.الشمس

وقــد ورد في آيــات الكتــاب ذكــر لبعض االســتعارات الــتي انبنت عليها هذه المعتقدات فال يمكن تجاهل ورودهـا، ولكن يلـزم فهم هذه الرموز على ضوء ما جاء ذكره في مواضع أخرى من كتــاب الله حتى ال يشوب آياتــه شــييء من التنــاقض أو االختالف، وهــو

. فتكــور الشـمس وســقوط النجـومالكتاب الذي ال يأتيــه الباطل وتسجر البحار - لو أخذت على معانيها الحرفية - يســتتبع انعــدام كل صورة من صور الحيــاة، فضــال عن تبــديل عظيم لســنة اللــه التي ذكر سبحانه وتعالى في أكــثر من موضــع من كتابــه العزيــز

أنها ال تتبدل عمــا عهــدناها عليــه، وال تتحــول عن مســارها: "وال

120

ــويال" تنا تح ن ــ ــد لس ــه أيضــا: ، 176تج ــه وقول ة الل ن "ولن تجــد لســة الله وتأكيده المكرر في سورة فاطر: ،177تبديال" "فلن تجد لسن

ة الله تحويال" .178تبديال ولن تجد لسن فإن قيل أن الحيــاة اآلخــرة يمكن أن تكــون على صــورة أخــرى ومن طبيعة لم يعرفها اإلنسان: فال يكــون نبــات الجنــة مثــل مــا عرفنا وال تكــون أنهارهــا كــالتي تجــري في األرض، وال حيواناتهــاــة مثل حيواناتنا، وال فواكهها مما نأكل، فنقول أن في هــذه الحالــرة تكون جميع األوصاف التي وردت في القرآن الكريم عن اآلخ

، بــل جــاءت على وجــهوالقيامة وأحــداثها ليســت وصــفا حقيقيــاــراد ــون الم المجاز وعلى سبيل التشبيه، تقريبا إلى األذهان، ويكــة منها هو تصوير العالقات الضرورية فيما بين هذه األشياء الغيبي

التي تماثل العالقات بين األشياء التي عرفناها . فكما رأينا ســابقا ال بد أن يكون بين الحقيقة والمجاز نسبة وإال لما استقام للكالم

.معنى وقد ذكر أبو حامد الغــزالي شــيئا من هــذا القبيــل - وإن لم يكن بهذا التفصــيل - في كتابــه مشــكاة األنــوار: "واعلم أن الشــهادة باإلضـــافة إلى عـــالم الملكـــوت كالقشـــر باإلضـــافة إلى اللب، وكالصورة والقالب باإلضافة إلى الروح، والظلمــة باإلضــافة إلىــالم ــذلك يســمى ع ــو، ول ــفل باإلضــافة إلى العل ــور، وكالسـ الن

٧٧سورة اإلسراء، آية 176٦٢سورة األحزاب، آية 177٤٣سورة فاطر، آية 178

121

. وفيالملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النورانيمقابلته السفلي والجسماني والظلماني".

"وال تظن أنا نعني بالعالم العلــوي الســموات، فإنهــا علــو وفــوق .في حــق عــالم الشــهادة والحس، ويشــارك في إدراكــه البهــائم

ــدل ــا إال ويب وأما العبد فال يفتح له باب الملكوت وال يصير ملكوتي في حقه األرض غير األرض والسموات، فيصـير كـل داخــل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السموات، وكــل مــا ارتفــع عنــفره الحس فسماؤه، وهذا هو المعراج األول لكل سالك ابتدأ س

.179إلى قرب الحضرة الربوبية" وقد أبان حضــرة بهــاء اللــه في كتــاب اإليقــان المعــاني الجليلــة المستورة في أصداف هذا المجاز، وال يســعنا إال أن نــورد قبســا

. والــذيمن بيانــه األحلى رغم ضــيق المجــال في هــذه الورقــات يقرأ كتاب اإليقان يخرج منه بأن المراد بــالنور النــور الروحــاني

. ولمــا كــان مركــزالذي هو نظير النور المادي يهدي سواء السبيل النور في العالم المشهود هو الشمس، فكذلك مركز النور لعالم

الــروح هــو الرســول أو الكتــاب اإللهي الــذي هــو أصــل الهــدى، وبمثابــة . فالمرادالشمس الساطعة ينير أفاق اإلمكان بالفضائل والعلوم

ضعف سلطان الرساالت :من تكور الشمس وإظالمها، أمران: األول اإللهية بمرور الزمن وسيطرتها على قلوب البشر، وبضعف نفوذهاــمس ــابهة للظالم، والثــاني إشــراق الش ــر الضــاللة المش تنتش ــه ســابقا ،الروحانية في يومها التالي بدرجة أقوى مما كانت علي

أبو حامد الغزالي، مشكاة األنوار )القاهرة، الدار القومية للطباعة 179٥٠( ص ١٩٦٤والنشر،

122

ــدة ــة إذا قيس بش ــة الظلم ــابق بمثاب ــور الس ــون الن بحيث يك سطوعها الالحق، وذلك تمشيا مع التــدرج في ارتقــاء البشــرية

وتهذيبها. أما المقصود بالسماء فهو كل ما يعلو فكر اإلنســان، والمقصــود بــاألرض كــل مــا هــو دان، والمعقــوالت على درجــات في رقيهــا وسموها، وهي طبقات بعضها فوق بعض، ولكنها جميعا أدنى من

، فهــو الــذي يصــدق عليــه اســمالدين الذي يســمو عليهــا جميعــا . ومن هــذه الســماء العاليــة تطلــع شــمسالسماء بوجه اإلطالق

الظهور اإللهي ويشرق نــور الرســالة الربانيــة. وكمــا أن شــمس الدنيا دائمة اإلشــراق على الــرغم من ســحب قــد تحجب نورهــا حينا من الوقت بعد صعود بخارها من األرض، كذلك أنوار العــالم الروحاني فيضها دائم على الدوام على الرغم من سحب األوهام

. فــإن أظلم العــالموالخرافــات الــتي تحجبهــا من وقت إلى آخرحب بفعل شمس الحقيقة وقوتها. فإلى حين، حتى تنقشع الس

وكـــذلك بيـــان المقصـــود من النجـــوم، فهي ترمـــز إلى األئمـــة الروحانيين الذين يظهرون في سماء الدين بعد تمام كل رســالة

ــةورحيل مبعوثها عن عالم الفناء . وتساقط النجوم وانتثارها كناي عن حالتين: األولى سقوط مقام األئمة الذين كانوا يوما ما نجوماء الهدى، والثانية طلوع الشمس من جديــد لتخفي بنورهــا الوضــ

.تأللؤ هذه النجوم مهما عظم شأنهاــق بين معــاني وعلى ضــوء مــا تقــدم يســتطيع اإلنســان أن يوف القيامــة وأحــداثها الهائلــة من انشــقاق الســماء، وزلزلــة األرض،

123

وتكور الشمس، وتساقط النجــوم، وبين مــا ورد في الكتــاب عن إشراق األرض بنــور ربهــا، ومــيراث األرض للمتقين يتبـوءون من

. أمــا إذا أخــذنا معــاني هــذه اآليــات على ظــاهرالجنة حيث يشاءون ألفاظها فإننا نباعد بين نص الكتاب والحقــائق المشــهودة بحيث

.يستحيل فهم المعاني المقصودة واستيعابهاور األولى وتلخيصا لكل ما تقدم في هذا البــاب، فــإن نفخــة الصــ المتبوعة بالنفخة الثانية هي إشارة إلى ظهــور مظهــرين إلهــيين عظيمين، أي رسالتين إلهيتين، واحدة تلو األخرى مباشرة، وذلك

في يوم أطلق عليه اسم "يوم القيامة".ــاب وكما سنرى فيما بعد، قد تحققت النفختان بظهور حضرة الب

، والــذينالمبشر أوال، وظهور حضرة بهاءالله موعــود األمم ثانيــاــان حفظهم الله من صعقة الصور هم الذين أوصلوا حلقات اإليم بدون إنقطاع، وبادروا إلى مناصرة هذين المظهــرين المبــاركين،

وكانوا شهود الحق في يوم الله.اقور فــذلكولنتدبر مرة أخرى في قوله تعالى: "فإذا نقر في الن

ير ذرني ومن خلقت ــر يســ ــافرين غي ير على الك ــوم عســ يومئذ ي وحيدا وجعلت له ماال ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيــدا ثم قر ال تبقي وال يطمع أن أزيد ... سأصليه سقر ومــا أدراك مــا ســ ار إال حاب الن ــا أصــ ر ومــا جعلن تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشــذين تيقن ال ذين كفــروا ليسـ ــة لل ــا عــدتهم إال فتن مالئكة ومــا جعلنــوا ذين أوت ــاب ال ــوا إيمانــا وال يرت ذين ءامن ــزداد ال أوتوا الكتاب وي

124

ــافرون ــرض والك ذين في قلوبهم م الكتاب والمؤمنون وليقول ال.180ماذا أراد الله بهذا مثال"

ورة الــتي رســمتها ســورة ولنا اآلن أن نحاول معا فهم هذه الصــ المدثر: نحن أمام ناقور نقر فيه، ونار تسعرت. فهــل أمــام مثــل هذا األمر الواقع يكون هناك مجال لفتنة بعد أن مضى وقتها؟ ها هي الجنة، وها هي النار، وقضي األمر: أهــل الجنــة للجنــة وأهـل النار للنار، فمن أين تــأتي الفتنــة؟ وهــل يكــون أمــام هــذا األمــر المبرم مجال لمرضى القلوب ليقولوا مــاذا أراد اللــه بهــذا مثال؟

أيظل األمر مثال حتى بعد أن أزلفت الجنة وسعر الجحيم؟ سبحان الله، كيف يســتطيع العقــل أن يقبــل هــذه الصــورة على معناها الظاهري؟ إن تأويلها قد تحقق كــامال بوجوهــه المتعــددة: فهؤالء التسعة عشر كانوا أصحاب الجنة بالنسبة للمتقين، وكانوا أصحاب النار بالنسبة لمرضى القلوب - فسلوكهم وصبرهم على الشدائد والباليا التي أحاطت بهم وهم ينشرون نفحات الله، كان العامل األول في تقوية وتشجيع كل مقبل، واطمئنان كل متوجه

. وكــان أيضــا العامــل في إثــارة المعانــدين، وانطالقإلى مــواله مرضى القلوب في إثارة الضجيج والفتنة من حول هـذه الزمـرة القليلة، مستهزئين - كما استهزأ الذين من قبلهم - بالحق وأهلــهــرد بقولــه جــل قائلين: "ماذا أراد الله بهــذا مثال"، واللــه تعــالى ي

اء ومــا يعلمشأنه: اء ويهــدي من يشــ ل اللــه من يشــ "كذلك يضــ ذكرى للبشر" هو وما هي إال ك إال .181جنود رب

٣١-٢٦ و ١٥-٨سورة المدثر، آية 180٣١سورة المدثر، آية 181

125

ل في إيجــاز وإعجــاز الحالــة الــتي كــان فالسورة المباركــة تفصــ . فمن النــاس من شــرحعليها الناس عندما ظهــر حضــرة البــاب

الله صدره ودخل في دعوته وازداد إيمانه واطمئنانه، واســتعذب البالء في سبيله، ومنهم من لم يقو على الثبات في وجــه الفتنــة

. ومنهم مرضى القلوب الذين استهزأوا وسخروا بالحقالشديدة.وأهله، ثم هي في البداية ذكرى للبشر، وفي النهاية حجة عليهم

126

الفصل الرابع - دواعي التجديد رأينا في الصفحات السابقة أن كل الشــرائع واألديــان تعبــير عن إرادة كلية واحدة أرادت تربية اإلنسان وهدايته إلى سبل التقــدم والرقي والعرفان. والنظر إلى الرساالت الدينيــة المتعاقبــة على أنها حلقات متتابعــة لــدين واحــد جــوهره إســالم العبــد إلى اللــه وإذعانه للكلمة اإللهية هو التوحيــد الحــق. والــدين بهــذا المعــنى يسمو على الشكليات والفرعيات الــتي اختلفت من شــريعة إلى أخرى تمشيا مع اختالف ظروف الحيــاة وضــروراتها في األزمنــةــل من ــاني في ك التي بعثت فيها، فضال عن تفاوت الوعي الروح

.األقوام التي بعثت إليها األديان وبعبارة أخرى كـانت الرسـاالت الدينيـة المتعاقبـة بمثابـة تجديـد للرابطــة الوثيقــة بين اإلنســان وبارئــه، وغــوث الرحمــة اإللهيــة الدافع لإلنسانية نحــو آفــاق التجديــد والتقــدم والــرقي بنوعيهمــا الروحاني والمادي، وكالهما في تطــور متواصــل ال يتوقــف حــتى أن الفهم القديم للدين على أنه مجموعة من الشـعائر واألحكــام لم تعد تتفق مع وجدان اإلنسان في العصر الحــديث. لقــد اتســع مفهوم الدين ليشمل االستقالل في التفكير الشخصي، والرقابــة ــا ــياء وفق ــلوك، والحكم على األش ــاعر والس ــة على المش الذاتيلمبادئ تتوخى الموضوعية واإلنصاف واحترام آراء وحقوق الغير

.

127

فأي تصور أو زعم بأن أيا من هذه الرساالت الدينية المتسلســلة الحلقات أبدية، أو القول بتوقف هذه الرساالت وانتهائها بالنسـبة للمستقبل هو فهم مرفوض، وال يستند ال على الحقائق التاريخية وال على نصوص الكتب السماوية، وإنما هو قول يستغل غمــوض الكالم الــوارد في الكتب المقدســة على ســبيل المجــاز ليفــرض على العامة فكرا يعوزه الدليل ويكذبــه الواقــع.فــدوام الــدورات الدينية وتجددها ضرورة يتطلبها الواقع اإلنساني، وكان لكل منها أجل معين قادت في أثنائه األمم إلى حضارة مزدهرة بالمعارف والفضائل التي أفلت عندما حان أجلها، وقل نفوذها على وجدان النــاس عنــدما عجــزت عن تنظيم العالقــات البشــرية المتغــيرة، والحفاظ على متابعة اإلبداع الفكري. وبذلك ضاقت آفاق الفكر،ـع إلى ــ ــير من التطلـ ــ ــاج العلمي، وانقلب التفك ــ ــف اإلنت ــ وتوق المستقبل واإلعــداد لــه إلى النظــر إلى الماضــي والتمســك بــه،

.واالكتفاء بالموروث عن السلف في العصور الغابرة وقد رأينا أيضا أن مهام المرسلين في الماضي شملت التصــديق بما سبق، والبشارة بما لحــق والتحــذير من التــورط في أخطــاء األمم السابقة، فإلى أي مدى نفع نصحهم وها هي أممهم غارقةــال، والتعصــب، والتحــزب، وإنكــار ــة الخالفــات، واالقتت في هاوي

الرساالت اإللهية الجديدة؟ والمتأمل الفطن الــذي يــرى التخلــف يحكم قبضــته على ناصــية أمتنا، ويشاهد الجمود الفكري ضاربا أطنابه في قلوبنــا وعقولنــا، ويدرك تشتت آمالنا، وانفراط نظمنا، وانحالل أخالقنا، لن يفوتــه

128

عرفان العلة األولى لهــذه العلــل. وال ريب أن الخيــار الــذي بقي أمامنا ال يخرج عن أمرين: إما أن نلحق باألمم التي فنت وانعدم ذكرهــا، وإمــا أن نســرع إلى مســيرة التقــدم الحضــاري ونلحــق بركب اإلصالح والتجديد. وما نقصده هو ذاك اإلصالح الــذي تلــدهــه ــذي تدخل ــد ال ــور الجدي ــيه الط ــماوية، ويقتض ــاالت الس الرس البشرية، ذاك السراج الوهــاج الكفيــل بــإخراج األمم من الظالم

.الديجور إلى أنوار صبح الهدىــذا ــادئ األساســية له ــا من المب ــرض قبس ــة تع والســطور التالي اإلصالح والتجديد الذي ما زلنا في شــك من أمــره بينمـا تهــافتت عليه أمم أخرى عرفت فيه الوعــد الصــادق بعلــو قــدر اإلنســان، وقربه إلى أعتاب تقدست عن مــدارك البشــر، أمم وجــدت فيــه األمل الوطيد بسكينة يفيض بها عــالم تحققت فيــه ســبل العــدل والسالم والوفاق. فهل تضيع من أيدينا الفرصة الســانحة بســبب

ما توهمه السلف في عصور غابرة؟

رسالة حضرة بهاء الله

ــدد من ــاع في ع ــوي االقتن ــر ق ــع عش ــرن التاس ــل الق في أوائــدة المذاهب الدينيــة بقــرب تحقــق نبــوءات آخــر الزمــان، المؤكــدي ــائب، ومجيء المه ــام الغ ــور اإلم ــيح، أو ظه ــوع المس لرج المنتظر، ولكن لم يشمل االقتناع جميع الناس حيث أنكر البعض

ســط هــذه التكهنــات،إحتمــال مجيء مبعــوث إلهي آخــر. وفي و ظهرت فرقة الشيخية التي أسسها الشــيخ أحمــد بن زين الــدين

129

بن ابراهيم األحسائي، المولــود في شــبه الجزيــرة العربيــة عــامم.١٧٤٣

واهتم الشــيخ األحســائي بإصــالح معتقــدات الشــيعة: فقــال بــأن اإلمــام الموعــود لن يخــرج من الخفــاء أو يــنزل على الســحاب، وإنما سيولد وفقا لسنة الله في صورة شخص من أشخاص هــذا العالم، وأن المعاد يكون بــالجوهر ال بالعنصــر الــترابي، فالجســد يبلى بعد المــوت، أمــا الحشــر والنشــر فيكــون بــالروح وهــو من

م١٨٢٦الجواهر التي ال يعتريها الفناء. وتوفى الشيخ أحمــد ســنة .182ودفن بالبقيع، بالمدينة المنورة

وتابع أعمال األحسائي من بعده تلميذه الشــيخ كــاظم الرشــتي،ــذه ــدد لتالمي ــود"، وع ــور "الموع ــيخه في ظه ــل رؤى ش وواص أوصافه وعالماته، وأعلن في أواخر أيامه أن تعاليم الشيخية قــد استوفت غرضها في التهيئــة لمجيء الموعــود، وأوصــى تالميــذه

. وما أن توفاه الله حتى هــاموا فيبالتشتت في األرض بحثا عنه183 أرجاء إيران بحثا عن صاحب الزمان.

في غضــون عــام من انتشــارهم بحثــا عن "القــائم"، التقى أحــد أئمتهم، وهـــو المال حســـين بشـــروئي، بالســـيد علي محمـــد الشيرازي، أحد أشراف مدينــة شــيراز، الــذي دعــاه إلى منزلــه. وسرعان ما انبهر المال حسين بشخص مضيفه، إذ وجده فذا في رقته ووقار شخصيته، فريدا في وداعته وصــفاء ســريرته، جــذابا

( جزء١٩٧٦أحمد عطية،القاموس اإلسالمي )القاهرة، مكتبة النهضه، 182٢٠٧ ص ٤٢١المرجع السابق، الجزء األول ص 183

130

. وفيفي حديثه، قويا في منطقه، يأســر مســتمعيه بســحر بيانه الهزيع األول من تلك الليلة الخامســة من جمــادي األولى ٠٦٢١ه الموافقة لليلة ٢٢ مايو )آيار( ٤٤٨١م كشــف الســيد علي محمــد لضيفه النقاب عن حقيقة كينونته، وصرح له بأنه هو "الباب- وهوــه"، وهــو ــره الل ــة لمجيء "من يظه ــه مقدم لقب يفصــح عن أن

الظهور" ذاته الذي بشر بقرب مجيئه الشيخان أحمد األحسائي" وكاظم الرشتي، وجاء ذكره في كتب الديانات الســابقة بأســماء

وأوصاف متفارقة في ظاهرها، متوافقة في جوهرها وحقيقتها. اســتولت الحــيرة في أول األمــر على قلب المال حســين لشــدة المفاجأة، ولكن سرعان ما اســتجمع ثقتــه بوصــفه أخص تالمــذة السيد كـاظم، وأكـثرهم إلمامــا بأحاديثـه عن الموعـود وأوصـافهــرف على ــد نفســه للتع ــذي أع ــاحث ال ــاره الب ــه، وباعتب وعالمات

الموعود"، فطلب من محدثه الدليل تلو الدليل، حتى نزلت في" قيوم األسماء"، فرأى المال حسين في الهيمنــة،حضوره سورة "

واالقتـــدار، واإللهـــام، المتجلي أمـــام ناظريـــه، اليقين القـــاطع، والبرهان الســاطع على نــزول الــوحي اإللهي، فــأذعن إلى نــداء الله؛ وكان أول من صدق بدعوة حضرة البــاب الــذي لقب أيضــا

ب"النقطة األولى" و"حضرة األعلى".ــك تالمــذة الشــيخين أحمــد األحســائي وكــاظم ــوالى بعــد ذل وت الرشتي في التعرف على شخص الموعود، واعتناق دعوته، ولما بلغ عدد المصدقين بدعوة حضرة البــاب الجديــدة ثمانيــة عشــر، اجتمــع بهم حضــرة البــاب، وأمــرهم باالنتشــار في األرض إلبالغ

131

الناس بتحقق الوعد اإللهي، مذكرا إياهم بــأنهم حملــة لــواء اللــه . وأمرهم أن يتحلوا بصفات المقدسين عنفي هذا اليوم العظيم

الهــوى، فيكونــوا في أقــوالهم وأعمــالهم مصــداقا لتقــوى اللــه، . وأن يشــهد حلهموإســالم الوجــه إليــه، واالعتصــام بــأوامره

ــانهم، وترحالهم على نبل مقصدهم، وكمال فضائلهم، وصدق إيموخلوص عبوديـتهم.

وخرج حضرة األعلى بعد ذلك حاجا إلى بيت اللــه الحــرام، وبعــدــه، ــة المكرمــة، عــاد إلى مدينت ــه إلى شــريف مك أن أعلن دعوت شــيراز، ليواجــه معارضــة علمائهــا المســتكبرين، وشــر حاكمهــا

، بعد أن أتاح غياب حضرته في األراضي الحجازية الفرصةالعاتي للمغرضين لينشروا األكاذيب عن دعوته. فعمــل بعــد عودتــه من الحج على تهدئة خواطر النــاس، وعنــدما اجتمــع علمــاء المدينــة ليوجهوا إليه الكثير من االتهامات الكاذبــة، رأى حضــرته االكتفــاء بإنكار األباطيل المنســوبة إليــه، دون الــدخول في شــرح تعــاليم بعثـته، فأشاع مناوئوه أنه رجع عن دعوته، بينمــا يتضــح للمتفكــرــه قصــد التــبرأ من مفتريــاتهم، دون أن يتطــرق إلى في كالمه أن

إنكار الدعوة التي أمره الله بالنداء بها بين الناس.ــاب إزاء االهتمام المتزايد في الداخل والخارج بدعوة حضــرة الب أرسل شاه إيران أوثق علمائــه وأقــدرهم لتحــري حقيقــة األمــر، فحضر السيد يحــيى الــدارابي لمباحثــة حضــرة األعلى، وانتهى - بعد البحث والمناقشة لعدة أيــام - بالتصــديق بالــدعوة الجديــدة، وانخرط في زمرة أتباع حضرة الباب، فاتهمــه عــدد من العلمــاء

132

بالجنون، مــع أنهم كــانوا يعتبرونــه حــتى األمس أرســخهم علمــا،ويعترفون بأنه أقدرهم على تمحيص دعوة حضرة الباب.

وحمل ذلك المال محمد علي الزنجاني - وهــو من كبــار مجتهــدي الشيعة في زمانــه - أن يرســل أحــد خاصـــته لبحث حقيقــة أمــر حضرة الباب، وما أن عــاد رســوله بالنبــأ اليقين حــتى أنهى المالهيرة: "طلب العلم محمــد مجلس تدريسـه مصــرحا بكلمتــه الشــ

بعد الوصول إلى المعلوم مذموم". وقرر النفعيون من علمــاء شــيراز ضــرورة التخلص من الــداعي الجديد لوقــف انتشــار دعوتــه، ولكن في ذات الليلــة الــتي قبض فيها عليه، ظهر وباء الكوليرا بين أهل المدينة، وشاع بين الناس أنه انتقــام إلهي على إهانــة حضــرة البــاب والقبض عليــه، فــأمر حاكم مدينة شيراز بــإطالق ســراح حضــرته، راجيــا منــه مغــادرة

. فقصد حضــرة األعلى مدينــة إصــفهان، ففــزع علماؤهــاالمدينة . ولمــا دعــاهم حاكمهــا لمباحثــة حضــرةوأفتوا على الفور بكفره

الباب في أمره، رفضوا ذلك متعللين بــأن المنــاظرة تجــوز فيمــا أشكل، أما خروج حضرة الباب على الشــرع فواضــح كالشــمس

ــك، فصــدرفي رائعة النهــار . وأوصــلوا شــكواهم إلى ســاحة المل األمر بإقصاء حضرة الباب إلى قلعة مــاه كــوه ومنهــا بعــد فــترة

وجيزة إلى قلعة چهريق بإقليم أذربايجان. وكــان اختيــار الــوزير الشــرير أقاســي قلعــة مــاه كــوه ثم قلعــة چهريق من بعدها مكانا لســجن حضــرة البــاب، وكلتاهمــا بــأرض نائية في أذربايجان، أمال في عدم اهتمام سكان تلك الجهات من

133

األكراد السنة بهذه الدعوة المنتشــرة بين الشــيعة، ولكن مــا أن حضر إليها حضرة الباب حتى انبهــر أهلهـا بدماثــة أخالقــه، ورقــة طباعه، وقوة إيمانه، وخوارق أعماله؛ فالتفوا حوله، ورحبوا بكلــدا عن من قصد لزيارته، وأضحى سجنه مكانا يؤمه الحجــاج، بعيــة انتشــارا، وزاد بــذلك هم مكائــد علمــاء الشــيعة؛ فــزادت البابي

العلماء وزاد تباعا الضغط على الحكومة للتخلص من حضرته. خلف في هذه األثناء األمير ناصــر الــدين شــاه أبــاه محمــد شــاه على العرش ولمـا يتجــاوز السادسـة عشـرة من عمــره، وتــولى ميرزا تقي خان الوزارة طليق اليد في أمور الدولة، ومتصورا أن إرهاب البابيين كفيل بوقف انتشار دعوتهم، وكسبه تأييد العلمــاء لسياسته ومآزرتهم في دعم سلطته. فأقحم السلطة المدنية مع

. ولم تحــرك ســلطات الدولــةالسلطة الدينية في محاربة البابيةــابيين؛ ساكنا عندما أغار الغوغاء - بتحريض من العلماء - على الب فاغتصبوا أموالهم، وأراقوا دمــاءهم، وانتهكــوا حرمــاتهم، ونكلــوار عن أنفســهم، ــدى عليهم دفــع الشــ بذويهم، وحيثما حاول المعت

اتهموا بإثارة الفتن واالضطرابات. جمع حضرة الباب آنذاك أوراقه وأرسلها مــع قلمــه وخاتمــه إلى حضـرة حضـرة بهـاء اللـه في طهـران إشـارة إلى وشـك انتهـاء

. وبالفعل نقل بعد ذلك بقليل، مــع أربعــة من أتباعــه إلىمهمـته اليوم التالي لوصوله، أصدر لقتله. وفي تبريز، حيث أعدت العدة

علماء تبريز فتواهم بإعدامه بدون مواجهته، وكلف الضابط سام خان رئيس فرقة الجنـود األرمن، بتنفيـذ اإلعــدام: فـأوق حضـرة

134

ــة من الجنــود اصــطفوا في ثالث الباب ورفيق له في مواجهــة ثل صـــفوف على مـــرأى ومســـمع الجمـــوع الغفـــيرة الـــتي دعيت

. ثملمشاهدة هذه المذبحة لتشيع فيما بعد أخبارها بين الجماهير .صدر األمر بإطالق البارود؛ وعال دخان كثيف تعذرت معه الرؤية

وبعد انقشاع سحب الـدخان، انصــعق المشـاهدون لرؤيــة رفيــقــد بهــا، حضرة الباب قائما بمفرده، وقد تمــزقت الحبــال الــتي قي

دون أن يصاب هو بأذى، وال أثر للباب نفسه. كان حضرة الباب سالما وجالسا داخل الغرفــة الــتي اقتيــد منهــا

. وبعــدمنــذ لحظــات، يتــابع في هــدوء إبالغ آخــر وصــاياه ألتباعه انتهائـه من الحــديث، قـال للحـارس المشـدوه ببـاب الغرفـة أن وقت شــهادته قــد حــان، ولكن رفض الحــارس اصــطحابه مــرة أخرى، وكذلك رفض رئيسه سام خان بعد هذه الحادثة أن يكــون له يد في قتل حضرة الباب، وأمر سام خــان جنــوده باالنســحاب

من المكان. لم يكن بد أمام العلماء وقادة الجيش من إتمــام المــؤامرة على حياة حضرة الباب خوفا من زيادة انتشار الدين الجديد إن ذاعت

. فأحضــرت على الفــور فرقــة أخــرى منتفاصــيل هــذا الحــادثــاص؛ الجنود، واقتيد حضرة الباب إلى المكان ذاته، وأطلق الرص

فتحققت بشهادته نبوءة خطها يراعه في مستهل دعوته: "يا سيدي األكبر * مــا أنــا بشــيء إال وقــد أقــامتني قــدرتك على األمر * ما اتكلت في شيء إال عليك * وما اعتصمت في أمــر إالــة اللــه قــد فــديت بكلي لــك ورضــيت الســب في إليــك * يــا بقي

135

ــه العلي ــك * وكفى بالل ــل في محبت ــا تمنيت إال القت ســبيلك وم.184معتصما قديما وكفى بالله شاهدا ووكيال"

ــد أثرت واقعة قتل حضرة الباب المذهلة على القوى العقلية ألح الذين قاموا على خدمته وتعلقوا بشخصه إلى حــد بعيــد، فتصــور هذا المخبول أن واجب الوفاء لسيده يفــرض عليــه االنتقــام لــه،

. ولكنــه - وهــذا من دالئـل ضـعف عقلـه -وعــزم على قتــل الشـاهــروح طفيفة . ولكناســتخدم أداة ال تميت؛ فأصــاب الشــاه بج

وجد أعداء البابية في هــذا االعتــداء فرصــة للفتــك بالبــابيين منهم البــابييون جميعــا بالتــآمر جديد ونهب ما تبقى من أموالهم، فات

هادة كمــا امتألت على حيــاة الشــاه؛ واقتيــدوا أفواجــا إلى مقــر الشــ.السجون بمن بقي منهم على قيد الحياة

قضت موجة الفتك والتنكيل والسلب والنهب على آالف األبرياء،ــران وبلغت ولكن مضت دعوتهم قدما وامتد نفوذها إلى خارج إي شرق األرض وغربها، وترجمت كتبها إلى لغات مختلفة، وأضحى مرقــد حضــرة البــاب محجــا تؤمــه الماليين، بينمــا خــوت قصــور

، وأضــحتالملوك والوزراء الذين حاربوه، واندكت عروشهم دكا.قبورهم هشيما تذروه الرياح

أما الدين البهائي فهو النور اإللهي الذي هيأت لــه دعــوة حضــرة . وأحداثهما التاريخيــة مرتبطــة، يتعــذر تحديــد خــط فاصــلالباب

بينهما، إال أن حضرة بهاءالله أوضح أن بعثـته بــدأت أيــام ســجنه . وبهاءالله هو اللقب الذي عرف به ميرزافي سياه چال بطهران

نسائم الرحمن )المحفل الروحاني المركزي للبهائيين بشمال غرب 184٧( الطبعة الرابعة، ص١٩٩٣أفريقيا،

136

حسين علي النوري، وهو سليل مجد وشرف، إذ كان أبوه مــيرزا عباس المشــهور بمــيرزا بــزرگ، أحــد النبالء المقــربين إلى بالط

.الملك فتح علي شاه، وحاكما على منطقة بروجرد ولرستان واتصــف حضــرة بهاءاللــه منــذ طفولتــه بحميــد الخالل، وجميــلــجاعة ــل، والش ــة العق ــذكاء، ورجاح ــدة ال ـز بح ـ ــال، وتمي الخصــائقتين في حــل واإلقدام، وأبدى منذ بكرة صباه كفاءة ومهارة ف أعقد المشاكل، وأظهر معرفة وعلما لدنيا أدهشــا من حولــه من

. ورغم كــثرة مــا عــرض عليــه من المناصــبكبــار رجــال الدولةـة إلى ـ ــرف كلي ــا وانص ــرته قبوله ــة، أبى حض ــة في الدول الرفيع أعمال البر، ورعاية المساكين، منفقا ماله الخــاص على الفقـراء

والمعوزين. وبعد محاولة االعتداء على حيــاة الشــاه، قضــى حضــرة بهاءاللــه أربعة شــهور ســجينا في طهــران، بوصــفه أحــد أقطــاب البابيــة، وبات ينتظر دوره لإلعدام بدون أي تحقيق أو محاكمــة. فتصــدى بعض أصــدقاء عائلتــه الكريمــة للــدفاع عنــه ونجحــوا في إقنــاعــإجراء التحقيــق في حقيقــة التهم الموجهــة إلى هــؤالء ــك ب المل األبريـــاء. وفعال ثبتت بـــراءة حضـــرة بهاءاللـــه من التـــورط فيــادة ــا لزي ــأطلق ســراحه، ولكن - تفادي ــداء على الشــاه، ف االعت انتشار البابية - أمرت الســلطات اإليرانيــة بإبعــاده من أراضــيها،

وصادرت أمواله، فقصد إلى العراق. وبعد إقامة قصــيرة في بغــداد قــرر حضــرته االعــتزال في جبــالـدا في خلـوة دامت عـامين، لم يكن السليمانية حيث انقطع متعب

137

ــا مكانه ــد يعلم خالله ــهأح ــالت علي ــه انه ــرف مكان ــدما ع . وعن التوســالت للعــودة لجمــع شــمل البــابيين، وتنظيم صــفوفهم من

جديد. اهتم حضرة بهاءالله أثناء مقامه في بغـداد بشـرح وبيــان تعـاليم

ــا . ومنحضرة البــاب على نحــو ال يمكن أن يكــون إال إلهامــا إلهيــة، بين مآثر هــذه الفــترة رســالتان على جــانب عظيم من األهمي وهما: الكلمات المكنونة، وكتاب اإليقــان تتعــدى الرســالة األولى حدود التصوير، بالغة اللفــظ، ورقــة التعبــير، إلى عمــق المعــنى، وسمو الفكرة، مــع شــدة االختصــار وســحر البيــان، وهي مــوجز للفضائل واإللهيات التي جاءت بها األديان سابقا، أو كما قدم لها

حضرة بهاءالله نفسه:ــزل من جــبروت العــزة بلســان القــدرة والقــوة على "هــذا مــا ن النبيين من قبل، وإنا أخذنا جــواهره وأقمصــناه قميص االختصــار فضال على األحبار، ليوفوا بعهد الله ويؤدوا أماناتــه في أنفســهم،

قى في أرض الروح من الفائزين". وليكونن بجوهر التــات الكتب ــه األحلى بتفســير آي ــة يفيض بيان وفي الرســالة الثانيــبرز وحــدة معانيهــا ومقاصــدها، المقدســة الســابقة على نحــو يــالتها ــة رس ــدم محدودي ــان، وع ـة األدي ـ ــار إلى أبدي ويلفت األنظـز زمـــاني. وخلت ــ الروحانيـــة رغم انحصـــار أحكامهـــا في حيــاب ــد، ولكن فتح كت ــره الجدي الرســالتان من أي إشــارة إلى أم اإليقـــان آفاقـــا فســـيحة أمـــام الفكـــر الـــديني لكـــل المهتمين

بالروحانيات، مهيئا األذهان إلعالن دعوته المباركة.

138

ــا بقي حضرة بهاءالله في بغداد قرابة عشر سنوات، علت أثناءهــتي شكوى البالط الفارسي من ازدياد نفوذه في تلك المنطقة ال يحج إليها الشيعة من أهل إيران، وزادت مخاوف البالط اإليراني من ازدياد نفوذها بعد زيــارة عــدد من أفــراد هــذا البالط الملكي نفســه لحضــرة بهــاء اللــه في منزلــه المتواضــع ببغــداد. وأبلغت الحكومة اإليرانية مخاوفها وشكواها إلى عاصمة الدولة العثمانية التي كــانت تتبعهــا العــراق آنــذاك، فــأمر الســلطان عبــد العزيــز

. وبينمــا كــان يتــأهب ركبــهبحضور حضرة بهاءالله إلى إســتنبول للرحيل عن بغداد في ربيــع عــام ٣٦٨١م، أعلن حضــرة بهاءاللــه ألصحابه بأنه الموعود الذي بشر بظهوره حضــرة البــاب، والــذي

.بظهوره تـتحقق نبوءات ووعود األديان السابقة وبعــد وصــول حضــرة بهاءاللــه وصــحبه إلى مدينــة إســتنبول في

م، بعــد رحلــة دامت ثالثــة شــهور١٨٦٣منتصف أغســطس )آب( ونصف على ظهور الــدواب، خالل جبــال وعــرة، نمــا إلى علمهم

ــوم ديســمبر )كــانون٢١قرار إبعادهم إلى أدرنة، التي وصلوها يــنة ــدأول( من نفس الس ــه بع ــرة بهاءالل ــام حض ــاك ق . وهن

ــتي دام ــة الســنوات الخمس ال ــة، وطيل ــذه المدين ــتقراره في ه اس بقاؤه فيها، بتفصيل أصــول دعوتــه، وشــرح النبــوءات والوعــود

اإللهية الخاصة بمجيئه، وتهــذيب وتقــويم أخالق أصــحابه وأتباعــه، ومنذرا بانتشار الفساد وازدياد الخالفات بين أمم العــالم نتيجــة

ــة، واالســتهانة بشــأن الــدين، النصــراف النــاس عن التعــاليم اإللهيواإلعراض عن النداء اإللهي الجديد.

139

ووضع حضرة بهاءالله في تلك األيام هيكــل نظــام عــالمي جديــد كفيل بحفظ األمن في العالم، وإرساء السالم على قواعد العدل والتآزر، فأمر بالحد من التسلح، ونصح بفض المنازعــات الدوليــة بــالطرق الســلمية. وضــمن المبــادئ الــتي يقــوم عليهــا نظامــهــالم من ــام الحكم في الع ــدهم زم ــائله إلى من بي ــالمي رس الع

، داعيــا إيــاهم ليعيــدوا تنظيم المجتمــعملوك ورؤساء وســالطين اإلنساني على األسس الجديدة التي وضعها، منذرا إياهم - جمعا

مؤكدا لهم أنه ال يطمــعووترا - مغبة رفض هذه الدعوة اإللهية، و في جاه أو شهرة، وال يسعى إلى كسب دنيوي، وإنما ينادي بأمر

. وعــدد لكــل منهم مــا ينتظــره إنإلهي ال يملك حياله إال الطاعةهو ألقى بكلمة الله عن ورائه واستصــغر الحــق . وقــد حــاق فعال

ة وخســران مــادي ومعنــوي نتيجــة بكــل منهم مــا أنــذره من مذلــانوا استكبارهم وعدم مباالتهم بهذه الرسالة السماوية رغم ما ك

. وبعد إقامــة دامت خمس ســنوات في أدرنــةعليه من عز مبين صدر فرمان الســلطان عبــد العزيــز بنفي حضــرة بهاءاللــه وآلــه وصحبه إلى مدينة عكا، المعتبرة آنــذاك مــآل المجــرمين العتــاة،

والمغضوب عليهم في الدولة العلية. أعاد سجن حضرة بهاءالله في عكا إلى األذهان األحاديث النبوية الشريفة المروية عن منزلتها والــتي لم يعــرف الســابقون مغــزا لها في تاريخ تلك البقعة الخربــة من العــالم. ومــع ذلــك لمــا ورد

م لم يخــرج أهلهــا١٨٦٨ أغســطس ٣١حضرة بهاءالله إليها يــوم ــوا ــتها، ولكن اجتمع ــدينتهم قدسيـ ــاض على م ــبين بمن أف مرح

140

ــة، الــذي ليسخروا بمن وصفه فرمــان الســلطان بمــدعي األلوهي .حكم عليه وأفراد عائلته - بدون محاكمة - بالسجن مدى الحيــاة

ــة االختالط وزاد الفرمان تحذيره ألهالي عكــا ومــا حولهــا من مغببهؤالء األشرار أو معاشرتهم.

ــة الــتي فرضــت على حضــرة بهاءاللــه في واقــع األمــر أن العزلــة سجن عكا كانت دعامة لهذا الظهور المبارك، فبدأت فــترة غنيــه بتـنزيل اآليات واأللواح، وواصل حضرته من السجن إبالغ دعوتل معــالم النظم العــالمي الــذي إلى ملوك ورؤساء العالم، وفصــــدة، ــام الشــريعة الجدي ــاب األقــدس أحك ــزل في كت أبدعــه، وأن وأجــاب على أســئلة مستفســريه، وحــرر كتــاب عهــده وميثاقــه، وحدد الهيئات والقيادات المستقبلة إلدارة أمر دينه، وبين وظيفة وسلطة كل منهــا، وعين ابنــه البكــر ليتــولى إدارة شــؤون أمــره

ــا حــتىوتفســير تعاليمــه من بعــده . وبقي ســجينا في مــرج عك صعدت روحه إلى الرفيق األعلى في فجــر يــوم ٢٩ مــايو )أيــار(

سنة ٢٩٨١ميالدية.

141

المبادئ التي أعلنها حضرة بهاء الله

ــتي أمــر بهــا ــادئ والتعــاليم واألحكــام ال ال يمكن التعريــف بالمب حضرة بهاءالله في العجالة التي يفرضــها الحــيز المحــدود لهــذه الصفحات، ولكن يكفي أن يتعــرف القــارئ - مؤقتــا - على بعضــاول ــائي وتتن ــدين البه ــا ال ــتي يقــوم عليه ــدعائم األساســية ال ال تفصيلها تعاليمه وأحكامه، حتى يتسنى له أن يلمس بنفسه مدى قدرتها على إبراء العــالم من عللــه المميتــة، ويــرى بعينــه النــورــد من البحث اإللهي المتشعشع من ثناياها، فتتاح لمن يريد المزي

والتحري أن يواصل جهوده في هذا السبيل.ــرة ــا حض ــتي أعلنه ــادئ ال ــاه في المب ــترعي االنتب ــا يس وأول م بهاءالله طبيعتها الروحانيــة البحتــة، فهي تأكيــد بــأن الــدين ليس مجــرد نعمــة ســماوية فحســب، بــل هــو ضــرورة ال غــنى عنهــا ــه ماديــا الطمئنــان المجتمــع اإلنســاني واتحــاده وهمــا عمــاد رقي

"إن الدين هو النور. وفي ذلك يتفضل حضرة بهاءالله: وروحانيا المبين والحصن المتين لحفظ أهل العالم وراحتهم، إذ أن خشية

كما يتفضــل 185الله تأمر الناس بالمعروف وتنهاهم عن المنكر" ــةأيضا في موضع آخر: "لم يزل الدين اإللهي والشــريعة الرباني

ــر االتحــاد وإشــراقه .السبب األعظم والوسيلة الكبرى لظهــور ني

بهاءالله، اإلشراق األول، ألواح حضرة بهاءالله )بروكسل، دار النشر 185٢٣( ص ١٩٨٠البهائية في بلجيكا،

142

ــاد وراحــة من في البالد ونمو العالم وتربية األمم، واطمئنان العب.186منوط باألصول واألحكام اإللهية"

ولكن القدرة والحيوية واإللهام التي يفيض بها الدين على البشر ال يدوم تأثيرها في قلوبهم إلى غير نهايــة، ألن القلــوب البشــرية بحكم نشأتها خاضــعة لنــاموس الطبيعــة الــذي ال يعــرف الــدوام بــدون تغيــير. وقــد ذكــر ســبحانه وتعــالى في مواضــع عــدة من القرآن الكريم قسوة قلوب العباد من بعد لينها لكلماته كما جــاء

ــوبهم في سورة الحديد مثال: ع قل ــوا أن تخشــ ذين آمن "ألم يأن للـاب من ـ ذين أوتوا الكت لذكر الله وما نزل من الحق وال يكونوا كالـير منهم ــ ـ ـوبهم وكث ــ ـ ت قل ــ ــ ــد فقس ــ ـال عليهم األم ــ ــل فطـ ــ قب

.187فاسقون" فبدار الناس إلى االستجابة ألوامر الله محدد بأمد معين، تقسوا قلوبهم من بعده وتـتحجر فتضعف استجابتها لكلمة الله وبالتالي

ة. فتعاقب إلسالم الوجه إليه، فينتشر الفساد إيذانا بحين الكر األديان ليس مجرد ظاهرة مطردة فحسب، بل هي تجديد

متكرر للرباط المقدس بين اإلنسان وبارئه، وتجديد للقوى التي عليها يتوقف تقدمه، وتجديد للنهج الذي يضمن بلوغه الغاية من

خلقه، فهو بمثابة الربيع الذي يجدد عوده المنتظم نضرة ولذا يصدق عليه اسم البعث الذي يطلق الطاقةالكائنات،

الروحانية الالزمة لنماء المواهب الكامنة في الوجود اإلنساني. "هذا دين الله من قبل وفي هذا المعنى يتفضل حضرة بهاءالله:

٢٨بهاءالله، اإلشراق التاسع، المرجع السابق ص 186١٦سورة الحديد، آية 187

143

ومن بعد من أراد فليقبل ومن لم يرد فإن الله لغني عن.188العالمين"

ــدء النشــأة األولى، فتجديد الدين إذا، سنة متواترة بانتظام منذ بــذلك وهو تجديد ألن أصول الرساالت السماوية ثابتة وواحدة، وك ــا ـر وفق ـ ــر المتغي ــا هي العنص ــدرها، ولكن أحكامه ــا ومص غاياتهــه، ألن مشــاكل ــر في ــذي تظه ــر ال ــة في العص ــى الحاج لمقتض المجتمعات اإلنسانية تتغير، ومدارك البشرية تنمو وتتبدل، وال بدــع من أن يواجه الدين هذا التغيير والتبديل فيحل مشاكل المجتمر عن تحقيــق ويخــاطب البشــر بحسـب نمــو مــداركهم، وإال قصــ

رورة على قــدرمهامه. فما جــاء بــه األنبيــاء والرســل كــان بالضــ طاقة الناس في زمـانهم وفي حـدود قـدرة اسـتيعابهم، وإال لمـا صلح كــأداة لتنظيم معيشــتهم، والنهــوض بمــداركهم في التقــدم

المتواصل نحو ما قدره الله لهم.ب يــرى في والمتأمل في دراســة األديــان المتتابعــة بــدون تعصــ تعاليمها السامية خطة إلهية تتضــح معالمهــا على وجــه التــدريج، غايتها توحيد البشر. فالواضح في تعاليم األديان المختلفة ســعيها المتواصل لتقارب البشر وتوحيد صفوفهم على مراحل متدرجــة وفقــا لإلمكانيــات المتــوفرة في عصــورهم. ولهــذا فــإن المحــور الذي تدور حوله جميع تعــاليم الــدين البهــائي هــو وحــدة الجنسب ديــني البشري قاطبة؛ اتحاد ال يفصمه تعصب جنســي أو تعصــب قــومي، وهــذا في ب طبقي أو تعصــ أو تعصب طائفي أو تعصــ

بهاءالله، منتخباتي من آثار حضرة بهاءالله )آنكنهاين، لجنة نشر اآلثار 188٧٠األمرية، الطبعة األولى( فقرة

144

نظر التعاليم البهائية أسمى تعبير للحب اإللهي، وهـو في الواقـع.أكثر ما يحتاجه العالم في الوقت الحاضر

ولكن ال يمكن تحقيق هذا الركن الركين لسالم البشرية ورخائهاد بشديد وهنائها إال بقوة ملكوتية، ومدد من المأل األعلى مؤي

القوى، ألنه هدف يخالف المصالح المادية التي يهواها اإلنسان ويسعى إليها بحكم طبيعته، وكلها مصالح متباينة ومتضاربة

ومؤدية إلى االختالف واالنقسام. وقد نبه حضرة عبد البهاء إلى "إن البهائي ال ينكر أي دين،التزام البهائيين بهذا المبدأ بقوله:

وإنما يؤمن بالحقيقة الكامنة فيها جميعا، ويفدي نفسه للتمسك بها، والبهائي يحب الناس جميعا كأخوته مهما كانت طبقتهم أو

جنسهم أو تبعيـتهم، ومهما كانت عقائدهم وألوانهم سواء أكانوافقراء أم أغنياء، صالحين أم طالحين".

ولو أعدنا قراءة التاريخ وتفسير أحداثــه بمعـايير روحانيــة لتحقق لنا أن هذا الهــدف لم يهملــه الرســل الســابقون، وإنمــا اقتضــت ظروف أزمنتهم تحقيق أهداف كانت حاجة البشرية لها أكبر في عصورهم، واالكتفاء بالتمهيد للوحدة اإلنسانية انتظارا لحين توفر الوسائل المادية والمعنوية لتحقيقها. وقـد وحــدت تعـاليم السـيد المسيح بين المصريين واألشوريين وبين الرومان واإلغريــق بعــد طول انقسام وعديد من الحــروب المهلكــة. كمــا وحــدت تعــاليم اإلسالم بين قبائل اتخــذت من القتــال وســيلة للكســب، وجمعت أقواما متباينة مآربها، مختلفة حضاراتها، متنوعة ثقافاتها، متعددة

145

أجناســها؛ من عــرب وفــرس وقبــط وبربــر وأشــوريين وســريان.وترك وأكراد وهنود وغيرها من األجناس واألقوام

د التعــاليم وهكذا تهيأت بالتــدريج الوســائل والظــروف لكي تشــي البهائية االتحاد الكامل الشامل للجنس البشري بأســره في هــذاــق بين ثقافــات وحضــارات ــه التوفي ــذي يستعصــي في العصــر ال الشـرق والغــرب، ويقــدم توحيــدهما تحــديا أعظم من التحــديات

.التي اعترضت سبيل توحيد األمم في العصور السالفة أال يــذكرنا التوافــق بين ظهــور رســالة حضــرة بهاءاللــه والتغيــيرــة الــتي حققتهــا الــذي شــمل أوضــاع العــالم بــالتغييرات الجذريــذا ــدعونا ه ــاة البشــر؟ أال ي ــة الســابقة في حي الرســاالت اإللهيــتي التوافق إلى التفكير في الرباط الوثيق بين اآلفاق الجديدة ال جاءت في رسالة حضــرة بهاءاللـه وبين التفتح الفكــري والتقـدم العلمي والتغيير السياسي واالجتماعي الذي جد على العالم منــذ

إعالن دعوته؟ ومهما بدت شدة العقبات وكثرتها فقد حان يــوم الجمــع بعــد أن

ــرى من فيأعلن حضرة بهاءالله: "إن ربكم الرحمن يحب أن ي ، ويتمــيز المجتمــع البهــائي العــالمي189األكــوان كنفس واحــدة"

اليوم بالوحدة الـتي تشـهد لهــذا األمــر والـتي جمعت نمـاذج من كافة األجناس واأللوان والعقائد واألديــان والقوميــات والثقافــات وأخرجت منها خلقا جديدا، إيــذانا بقــرب اتحــاد البشــرية وحلــول السالم والصلح األعظم، إنها المحبــة اإللهيــة الــتي تجمــع شــتات

١٠٧بهاءالله، منتخباتي من آثار حضرة بهاءالله، فقرة 189

146

البشر فينظر كــل منهم إلى بــاقي أفرادهــا على أنهم عبــاد إللــه واحد وهم له مسلمون. إن فطرة اإلنسان التي فطره الله عليها هي المحبــة والــوداد، واألخــوة اإلنســانية منبعثــة من الخصــائصــق إرادة ــرها خل ــانية بأس ــر، فاإلنس ــراد البش ــتركة بين أف المش واحدة، وقد خرجت من أصل واحد، وتســير إلى مــآل واحــد، وال وجــود ألشــرار بطــبيعتهم أو عصــاة بطبعهم، ولكن هنــاك جهلــة ينبغي تعليمهم، وأشقياء يلــزم تهــذيبهم، ومرضــى يجب عالجهم. حينئذ تنتشــر في األرض أنــوار الملكــوت، ويمألهــا العــدل اإللهي

.الموعود كان االتحاد دائما هدفا نــبيال في حــد ذاتــه، ولكنــه أضــحى اليــوم

ــة لإلنســان . فالمشــاكل الــتيضرورة تستلزمها المصــالح الحيويــد، تهدد مستقبل البشرية مثل: حماية البيئــة من التلــوث المتزاي واستغالل الموارد الطبيعية في العالم على نحو عــادل، والحاجــةـة في ـ ــادية واالجتماعي ــة االقتص ــروعات التنمي ــة إلى مش الماســال ـة عن األجي ـ ــرب النووي ــبح الح ــاد ش ــة، وإبع ــدول المتخلف ال القادمة، ومواجهة العنف والتطرف اللذين يهددان بالقضــاء علىــات والحيــاة اآلمنــة، وعديــد من المشــاكل األخــرى، يتعــذر الحري عالجها على نحــو فعــال إال من خالل تعــاون وثيــق مخلص يقــوم على أسس من الوفاق واالتحاد على الصعيد العــالمي، وهــذا مــا

ــه: ــه حضــرة بهاءالل ــاء أنأوجب ــل الصــفاء والوف "يجب على أهوح والريحــان ألن المعاشــرة لم يعاشروا جميع أهــل العــالم بــالر تزل وال تــزال ســبب االتحــاد واالتفــاق وهمــا ســببا نظــام العــالم

147

. طوبى للذين تمسكوا بحبل الشفقة والرأفــة وخلتوحياة األمم.190نفوسهم وتحررت من الضغينة والبغضاء"

ـه العلمنا التاريخ، ومــا زالت تعلمنــا أحــداث الحاضـر المريــرة، أن سبيل لنزع زؤان الخصومة والضغينة والبغضاء وبذر بذور الوئام بين األنــام، وال ســبيل لمنــع القتــال ونــزع الســالح ونشــر لــواء

الصـــلح والصـــالح، وال ســـبيل للحـــد من األطمـــاع والســـيطرة واالستغالل، إال باالعتصام بتعاليم إلهية وتشريع سماوي تهدف

من خالل نظــام عــالمي بــديعأحكامه إلى تحقيــق هــذه الغايــات، و يرتكز على إرساء قواعد الوحدة الشاملة لبني اإلنســان وتوجيــه

.جهوده إلى المنافع التي تخدم المصالح الكلية لإلنسانيةــدبير مســاهمان ــير والت ــع أن حســن التفك ــة والواق وفي الحقيق وشريكان للهداية التي يكتســبها اإلنســان من الــدين في تحقيــق مصالح المجتمع وضمان تقدمه. فإلى جانب التسليم بأن اإللهــامر، ال يجــوز أن والفيض اإللهي مصدر وأساس للمعــارف والتحضــ نغفل دور عقل اإلنسان أو نبخس حقــه في الكشــف عن أســرار الطبيعة وتسخيرها لتحسين أوجه الحياة على سطح األرض، فهوــاني للمعــارف الالزمــة لمســيرة من هــذا المنظــور المصــدر الثــالم ــائق الع ــق في فهم حق ــدن، والتعم ــرية على نهج التم البش

.المشهود وقــد تعــاون العلم والــدين في خلــق الحضــارات وحــل مشــاكل

، وبهمــا معــا تجتمــع لإلنســان وســائل الراحــةومعضــالت الحيــاة

٥٢بهاءالله، مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، ص 190

148

ــا ــا وروحاني . فهمــا لإلنســان بمثابــة جنــاحيوالرخاء والرقي مادي الطير، على تعادلهما يتوقف عروجــه إلى العلى، وعلى توازنهمــاــل العلم يقوم اطراد فالحه. أما إذا مال اإلنسان إلى الدين وأهم ينتهي أمره إلى األوهام وتســيطر على فكــره الخرافــات، وعلى العكس إذا نحا نحو العلم وابتعد عن الــدين، تســيطر على عقلــه

، مــع مــا يجــره الحــاالنوتفكيره مادية مفرطة، ويضــعف وجدانه على اإلنسانية من إسفاف وإهمال للقيم الحقيقية للحياة. ولعــل البينونة التي ضاربت أطنابها بين الفكر الــديني والتفكــير العلميــدبير شــؤون هي المسؤول الرئيس عن عجز كليهما عن حسن ت

المجتمع في الوقت الحاضر. لقد وهب الله العقل لإلنسان لكي يحكم به على ما يصــادفه فيــوقن الحياة فهو ميزان للحكم على الواقع، وواجب اإلنسان أن ي بصــدق مــا يقبلــه عقلــه فقــط، ويعتــبر مــا يرفضــه عقلــه وهمــا كالسراب يحسبه الناظر ماء ولكن ال نصيب له من الحقيقة. أمــا إذا دام اإلصرار على تصديق ما يمجه العقل فمــا عســاها تكــونــتي من اللــه بهــا على اإلنســان ــدة هــذه المنحــة العظمى ال فائ وميزه بها عن الحيوان. فكما أن اإلنسان ال يكذب ما يراه بعينيــه أو ما يسمعه بأذنيه فكذلك ال يسعه إال أن يصدق بما يعيه ويقبله عقله. والحق أن العقل يفوق ما عداه من وســائل اإلدراك فكــل الحواس محدودة في قدراتها بالنسبة للعقــل الــذي ال تكــاد تحــد قدراته حدود، فهو يدرك ما ال يقع تحت الحواس ويرى ما ال تراهــا ال تصــله إلى ســمعه اآلذان، ويخــرق حــدود العين وينصــت لم

149

الزمان والمكان فيصل إلى اكتشاف مــا وقــع في غــابر األزمــانــه. ويبلغ إلى حقائق الكون ونشأته والنــاموس الــذي يحكم حركتــا عرفـــه اإلنســـان من علـــوم وفنـــون ومن الحـــق أن كـــل مـ واكتشــافات وآداب هي من بــدع هــذا العقــل ونتاجــه. أفال يكفي عذرا إذن لمن ينكرون الدين في هذه األيــام أن كثــيرا من اآلراءــة عقال، ــدماء مرفوض ــرون الق ــا المفس ــال به ــتي ق ــة ال الدينيــا ومناقضة للقوانين العلمية والقواعد المنطقية التي توصــل إليه

العقل؟ والمبدأ المرادف للمبدأ السابق هو مسئولية اإلنسان في البحث عن الحقيقة مستقال عن آراء وقناعات غــيره، وبغض النظــر عن التقاليد الموروثة واآلراء المتوارثــة عن الســلف والقــدماء مهمــا بلــغ تقــديره لمــنزلتهم ومهمــا كــانت مشــاعره بالنســبة آلرائهم. وبعبارة أخرى يسعى ألن تكون أحكامــه على األفكــار واألحــداث صادرة عن نظر موضوعي نتيجة لتقديره ورأيه تبعا لما يراه فيهاــبب في ــير تس ــام وآراء الغ ــاد على أحك ــائق. إن االعتم من حق اإلضرار بالفكر الديني والتفكير العلمي وملكــة اإلبــداع في كثــير من األمم، فإحباط روح البحث والتجديد التي نعــاني منهــا اليــوم كانت نتيجــة التقليــد األعمى واتبــاع مــا قالــه الســلف والتمســك بالموروث بدون تدقيق في مدى صحته أو نصيبه من الحقيقــة أو

.اختبار أوجه نفعه فواجبنا اليوم أن نتحرى الحقيقة ونترك الخرافات واألوهام التي تشوب كثيرا من تصورات ومفاهيم وتفاسير السلف في مختلف

150

الميـــادين وعلى األخص فيمـــا يتعلـــق بالمعتقـــدات والتفاســـير الدينية. لقد خلق الله العقل في اإلنسان لكي يطلع على حقائق األشياء ال ليقلــد آبــاءه وأجــداده تقليــدا أعمى. وكمــا أن كــل منــبين األشــياء، وأن كــل من أوتي أوتي البصــر يعتمــد عليــه في ت السمع يعتمد عليه في التمييز بين األصوات، فكــذلك واجب كــل من أوتي عقال أن يعتمــد عليــه في تقــديره لألمــور ومســاعيهــه اإللهي حيث لتحري الحقيقة واتباعها. وذلك هو النصــح والتوجي

رقال تعالى: مع والبصــ ــه علم إن الســ ــك ب "وال تقــف مــا ليس ل.191والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئوال"

وإهمال المرء االستقالل في بحثه وأحكامه يــورث الندامــة. فقــد ســيدنامحمد المســيح ورســالة سيدنا رفض اليهود كال من رسالة

نتيجة إلحجامهم عن البحث المستقل عن الحقيقة واتباع التقاليد سيدناالمســيح - الــتي واألفكار الموروثة، من ذلك نبوءات مجيء

وفقا للتفاسير الحرفية التي قال بها السـلف - أنـه سـيأتي ملكــا المســيح فقــيرا وجــاءهم سيدنا ومن مكان غير معلوم بينما بعث

ــة ــام الســلف عن رؤي ــذلك أضــلتهم أوه ــدة الناصــرة، وب من بلــاني ــارهم ومنعتهم عن إدراك المع ــام أنظ ــة أم ــة الماثل الحقيقــوءات. ثم أدى التشــبث ــك النب ــا في تل ــة المرمــوز إليه الروحاني بمفــاهيم الســلف إلى بث الكراهيــة والعــداوة بينهم وبين أمم أخرى دامت إلى يومنا هذا. ومــا ذلــك إال بســبب االنصــراف عن

.إعمال العقل واالستقالل في التعرف على الحقيقة

٣٦سورة اإلسراء، آية 191

151

ــوان التعصب ــع أل ــدين البهــائي التحــرر من جمي ــادئ ال .ومن مب فالتعصبات أحكام ومعتقدات نسلم بصحتها بــدون مزيــد بحث أو تحر لحقيقتها، ونتخذها أساسا لتحديد مواقفنا، وعلى هــذا تكــون التعصبات جهالة من مخلفــات التفكــير القبلي، وأكــثر مــا يعتمــد عليه التعصب هو التمسك بالمــألوف وتجنب الجديــد، لمجــرد أن .قبوله يتطلب تعديال في القيم والمعايير التي نبني عليها أحكامنا

فالتعصب نوع من الهروب، ورفض لمواجهة الواقع. بهذا المعنى، التعصب أيا كــان، جنســيا أو عنصــريا أو سياســيا أو عرقيا أو مذهبيا، هو شر يقوض أركــان الحــق ويفســد المعرفــة، بقدر ما يدعم قوى الظلم ويزيد سيطرة الجهل. وبقدر ما للمرءــته في الحكم ــدم حريـ ــيره وتنع ــاق تفك ــيق نط ب يض ــ من تعص

الصحيح . ولوال هذه التعصبات لتجنب النــاس في الماضــي كثــيرا . وال زال هــذامن الحروب واالضطهادات والمظالم واالنقسامات

الــداء ينخــر في هيكــل المجتمــع اإلنســاني، ويســبب الحــزازاتــة والــوداد ــةواألحقاد التي تفصم عرى المحب . إن الرســالة البهائي

بإصرارها على ضرورة القضاء على التعصب، إنما تحرر اإلنسانــة من نقيصــة مســتحكمة، وتــبرز دوره في إحقــاق الحــق وأهمي

.التمسك بخصال العدل والنزاهة واإلنصاف في كل األمورــراد ــآزر بين أف ــدأ التضــامن والت ــائي مب ــدين البه ــادئ ال ومن مب

. فــالعوز قــدالمجتمع اإلنساني بغية القضــاء على الفقــر المــدقععادة البشــرية ويحــرم الفقــراء من كــان ومــا زال داء يهــدد الســ الضروريات ويسلبهم الحياة الكريمة، كمــا يزعــزع الفقــر أركــان

152

ــي االستقرار واألمن في المجتمع. وقد اقتصرت محاوالت الماضــانت أم ــة أك ــة فردي دقات الخيري ــ ــان على الص في معظم األحي جماعية، ولم يصل العزم على القضــاء على الفقــر في أي وقت سابق إلى درجة الوجوب واإللزام على المجتمع. ولذا طال أمــد الفقر واستشرى خطره في وقتنا الحاضر، وأصــبح أقــوى عامــل

، وامتــدتيعــوق جهــود اإلصــالح والتنميــة في أكــثر المجتمعــات شروره إلى العالقات بين الــدول والجماعــات لتجعــل منــه ســببا

ألزمات حادة وأخطار عظيمة. وال يعــني ذلــك أن المســاواة المطلقــة بين النــاس في النــواحيــاءات ــا دامت كف المادية للحياة ممكنة أو أن من ورائها جدوى م البشر غير متساوية. إال أن من المؤكد أيضا أن لتكديس الثروات

يفي أيدي األغنياء مخاطر ونكسات ال يســتهان بهما . ففي تفشــ الفقــر المــدقع إلى جــوار الغــنى الفــاحش مضــار محققــة تهــدد السكينة التي ينشدها الجميع، وإجحــاف يتنــافى مــع العــدل ومــع مشـاعر األخــوة الـتي يجب أن تسـود بين النــاس، ولــذلك ينبغي إعادة تنظيم وتنسيق النظريات االقتصادية على أســس روحانيــة حتى يحصل كل فرد على نصيب من ضــرورات الحيــاة الكريمــة كحق ال صدقة. فإن كان تفاوت الثروات أمرا ال مفــر منــه، فــإن في االعتدال والتوازن ما يحقق كثيرا من القيم والمنــافع، ويــتيح

. لقــد أرســى حضــرة بهاءاللـه هـذالكل فرد حظا من نعم الحياة المبدأ على أســاس ديــني ووجــداني، كمــا أوصــى بوضــع تشــريع يكفــل المواســاة والمــؤازرة بين بــني اإلنســان، كحــق للفقــراء.

153

ــيرة من وصــاياه: ــالفقراء في مواضــع كث "الوأوصــى حضــرته ب تحرموا الفقراء عما أتاكم الله من فضــله وإنــه يجــزي المنفقين ضعف ما أنفقوا إنه ما من إله إال هو له الخلق واألمر يعطي من يشــاء ويمنــع عمن يشــاء وإنــه لهــو المعطي البــاذل العزيــز

.192الكريم" ومن واجبات البهــائي الســعي إلى اكتســاب الصــفات الملكوتيــة

"الخلــقوالتخلق بالفضائل األمر الذي أكد عليه حضرة بهاءاللــه: إنــه أحســن طــراز للخلــق من لــدى الحــق، زين اللــه بــه هياكــل

. من فــاز بــهأوليائه، لعمري نوره يفوق نور الشــمس وإشــراقها ، فمن193"فهو من صفوة الخلق، وعزة العالم ورفعته منوطــة بهــان وتهذيبه ــدين تعليم اإلنس ــة لل ــات الرئيس ــا منبين الغاي . وم

ــد على هــذا الهــدف الجليــل الــذي ينشــد تطــوير رســول إال وأك اإلنسان من كائن يريد الحياة لذاتها، إلى مخلوق يريد الحياة لما هو أسمى منها، ويسعى فيها لما هــو أعــز من متاعهــا وأبقى، أال ــا ــة تقرب وهو اكتساب الفضائل اإلنسانية والتخلق بالصفات اإللهي

"إن أوامره هي الحصن األعظم لحفــظ العــالم وصــيانةإلى الله .194. نورا لمن أقر واعترف ونارا لمن أدبر وأنكر"األمم

ــل أمر حضرة بهاءالله في الكتاب األقدس: "زينوا رؤوسكم بإكليــوى، وألســنكم بالصــدق ــرداء التق ــوبكم ب ــاء، وقل ــة والوف األمان الخالص، وهياكلكم بطراز اآلداب، كل ذلك من سجية اإلنسان لو

١٢٨بهاءالله، منتخباتي من آثار حضرة بهاءالله، فقرة 192 ٥٢بهاءالله، مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، ص 193٦٨بهاءالله، مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، ص 194

154

كوا بحبــل العبوديــة للــهأنتم من المتبصرين . يا أهل البهــاء تمســ الحــق بهــا تظهــر مقامــاتكم وتثبت أســماؤكم وترتفــع مــراتبكم

195وأذكــاركم في لــوح حفيــظ" . فــالقرب إليــه تعــالى ليس قربــا .ماديا، ولكن قرب مشابهة وتحل بصــفاته بقــدر كفــاءة اإلنســانعي للتعــرف على التعــاليم وهــذا يفــرض على البهــائي أوال: الســ ،واألحكــام الجليلــة الــتي أظهرهــا مشــرق وحيــه ومطلــع إلهامه

"إنوثانيــا: اتباعهــا في حركتــه وســكونه، وفي ظــاهره وباطنــه: ــال واألخالق ــور هي األعمـ ــذا الظهـ ــورة في هـ ــود المنصـ الجنـ

ــزل196المرضية، وإن قائد هذه الجنود تقوى الله" . فالعمل بما أن اللــه هــو فــرع من عرفانــه، وليس المقصــود بعرفــان الصــفات اإللهية التصــور الــذهني لمعانيهــا، وإنمــا االقتــداء بهــا في القــول والعمل وفي ذلك تتمثل العبودية الحقة لله، تـنزه تعالى عن كل

. وقد أوجز حضرة بهاءالله هذه الحقيقــة فيوصف وشبه ومثال "قــل إن اإلنســان يرتفــع بأمانتــه وعفتــه وعقلــه وأخالقــه،قوله:

. لعمــري ال يســمو اإلنســانويهبط بخيانته وكذبــه وجهلــه ونفاقه.197بالزينة والثروة بل باآلداب والمعرفة"

ينهي الدين البهائي عن ارتكاب الفــواحش ومــا ال يليــق بمرتبــةوــة، ــرقة والخيان ــجاج، والس ــرب والش ــل والض ــان من القت اإلنس والغش والخداع، والسلب والنهب وحــرق الــبيوت، ويحــرم الزنــاــواط والخمــر والمخــدرات، والقمــار والميســر، ويحــذر من والل

١٢٠الكتاب األقدس، فقرة 195٢٥بهاءالله، مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، ص 196 بهاءالله، مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله )بروكسل، دار النشر 197

٧٥( ص ١٩٨٠البهائية في بلجيكا،

155

الكذب والنفاق والغيبــة والنميمــة والجــدال والــنزاع. كمــا تنفــرد تعاليم الدين البهــائي بتحــريم الــرق والتســول وتعــذيب الحيــوانــة وتقبيل األيدي والرياضات الشاقة، فضال عن رفع أحكام الرهبن

. وتــأمر بالصــوموالكهنوت واالعتراف بالخطايــا طلبــا للغفــران والصالة، وتالوة اآليات في كل صــباح ومســاء، والتأمــل في معــاني الكلمات اإللهية، وتقوى اللـه، وإسـالم الوجــه إليــه في كـل األمــور، والعفة والطهــارة، والعــدل واإلنصــاف، والعفــو والتســامح والصــبر وسعة الصدر، وتحصيل العلوم والفنــون النافعــة. وتوصــي بــإكرام

الوالــدين ورعايــة حقهمــا، وبتربيــة األوالد وتعليمهم بنينــا وبناتــا،.وبالتزام المجتمع بتعليم األوالد عند عدم مقدرة األبوين

ومن مبادئ الدين البهائي المساواة في الحقوق والواجبــات بينــةالرجال والنساء ــا لعبودي . ألن ملكات المرأة الروحانية وكفاءته

ــة ال تفــترق عمــا أوتي ســاحة األحديــة فضــال على قواهــا العقلي الرجل منها، وهذه هي جوهر اإلنسان وحقيقته، فالمرأة والرجل متساويان في الصفات اإلنسانية، وقد أكد سبحانه وتعالى مــرارا أن خلق اإلنســان جــاء على صــورة ومثــال الخــالق، ال فــرق في

ــين فيذلك بين الذكر واألنثى . وليس التماثل الكامل بين الجنس وظائفهما العضوية شرطا لتكافئهما طالما أن علة المساواة هي

ــة، ال الصــفات العرضــية . إناشــتراكهما في الخصــائص الجوهريــة تقديم الرجل على المــرأة في الســابق كــان ألســباب اجتماعي

. وال دليــلوظروف بيئية لم يعد لهما وجود في الحيــاة الحاضــرة على أن اللــه يفــرق بين الرجــل والمــرأة من حيث اإلخالص في

156

ــا ــة؛ فــإذا كان عبوديـته واالمتثال ألوامره والتحلي باألخالق المثالي متســـاويين في ثـــواب وعقـــاب اآلخـــرة، فلم ال يتســـاويان في

الحقوق والواجبات إزاء أمور الحياة الدنيا؟ عـدم اشـتراك المـرأة في الحيـاة العامـة في الماضـي اشـتراكا متكافئا مع الرجـل، لم يكن أمـرا أملتـه طبيعتهـا بقـدر مـا بـرره نقص تعليمهـا وقلـة مرانهـا، وثقـل أعبــاء عائلتهـا، وعزوفهــا عن

. أما وقد فتحت اليوم أبواب التعليم أمام المــرأة،النزال والقتالــأت الوســائل وأتيح لها مجال الخــبرة بمســاواة مــع الرجــل، وتهي إلعانتها في رعاية أسرتها، وأضحى السالم بين الدول والشعوبـــة للجنس ضـــرورة تقتضـــيها المحافظـــة على المصـــالح الحيوي البشري، لم يعد هناك لــزوم للحيلولــة بينهــا وبين المســاواة. إن تحقيق المساواة بين عضوي المجتمــع البشــري يــتيح االســتفادة التامــة من خصائصــهما المتكاملــة، ويســرع بالتقــدم االجتمــاعيــرص الجنس ــاعف فـ ــي، ويضـ ــادي والعلمي والسياسـ واالقتصـ

البشري لبلوغ السعادة والرفاهية واالستقرار. ومن مبــادئ الــدين البهــائي إيجــاد نظــام تتحقــق فيــه الشــروط

. وبناء هذا االتحـاد يقتضــيالضرورية التحاد البشر وضمان دوامه دعامة سندها العدل ال القــوة، وتقــوم على التعــاون ال التنــافس،ــة لعمــوم البشــر، حــتى تحظى وغايتها تحقيق المصــالح الجوهري البشرية بعصر يجمع بين الرخاء والنبوغ على نحــو لم يســبق لــه

. وقد فصل حضرة بهاءالله أســس هــذا النظــام البــديع فيمثيلــان وجــوده في رســائله إلى ملــوك ورؤســاء دول العــالم في إب

157

ــا، وكــان من بينهم نــاپليون الثــالث، والملكــة ڤكتوريــا، سجن عك وناصــر الــدين شــاه، ونيقــوال األول، وبســمارك، وقداســة البابــا بيوس التاسع، والسلطان عبد العزيز، ودعاهم للعمل متعاضدين على تخليص البشـــرية من لعنـــة الحـــروب وتجنيبهـــا نكبـــات

المنازعات العقيمة. ولكن قوبل نداؤه هذا آنذاك باالستنكار والــرفض لمخالفتـه لكــل

. لكن وجـدت هـذهما كان متعارفا عليه في العالقات بين الــدول التعاليم طريقها إلى تفكير المسئولين عن تدبير شئون البشرية،ــا وفرضت نفسها على مجريات األحداث الدولية، ووجد جزء منه طريقه للتطبيق بالتدريج حتي أضحت اليوم مبــادئ هــذا النظــام الدولي - في نظر أهل الخبرة والتدبير - الحل األمثــل للمشــاكلــرون في زماننــا من مســلمات أي نظــام العالمية، ويراهــا المفكــرية عالمي جاد في إعادة تنظيم العالقات بين المجموعات البش على نمط يحقق األمن والرفاهية والعدل في العالم. ومن أركان

هذا النظم الذي أعلنه حضرة بهاءالله حوالي سنة ٨٦٨١م : نبذ الحروب كوسيلة لحل المشــاكل والمنازعــات بين األمم، بمــاــة للنظــر فيمــا يطــرأ من يستلزمه ذلك من تكــوين محكمــة دولي

منازعات، وإعانة أطرافها للتوصل إلى حلول سلمية عادلة.ــة ــدولي لحماي ــاق ال ــريعي على النط ــيس مجلس تش تأس

ــة للبشــر وســن القــوانين الالزمــة لصــون المصــالح الحيويالسالم في العالم.

158

تنظيم إشراف دولي يمنع تكــديس الســالح على نحــو يزيــد عن حاجة الدولة لحفظ األمن والنظام داخل حدودها.

إنشاء قوة دولية دائمة لفرض احترام القانون وردع أي أمة عن استعمال القوة المسلحة لتنفيذ مآربها.

ـة تأخـذ مكانهـا إلى جـانب ـة ثانوي إيجاد أو اختيار لغـة عالميـة تســهيال لتبــادل اآلراء، ونشــرا للثقافــة ـ اللغــات القومي

والمعرفة، وزيادة للتفاهم والتقارب بين الشعوب. وخير ما تختم به هذه المقتطفات من المبادئ والتعاليم البهائيــة

نصح حضرة بهاءالله ألوليائه المخلصين:ــر وجــه العــدل ــا ننصــح العبــاد في هــذه األيــام الــتي فيهــا تغب "إن وأنارت وجنة الجهل وهتك ستر العقل، وغاضت الراحــة والوفــاء وفاضت المحنة والبالء، وفيهــا نقضــت العهــود ونكثت العقــود، ال

.يدري نفس ما يبصره ويعميه وما يضله ويهديه قل: يا قوم دعوا الرذائل وخذوا الفضائل، كونوا قدوة حسنة بين الناس وصحيفة يتذكر بها األناس، من قــام لخدمــة األمــر لــه أنــة، قــل أن يصدع بالحكمة ويسعى في إزالة الجهل عن بين البري اتحدوا في كلمتكم واتفقوا في رأيكم واجعلوا إشــراقكم أفضــل

. فضــل اإلنســان فيمن عشــيكم، وغــدكم أحســن من أمســكم الخدمــة والكمــال ال في الزينــة والــثروة والمــال، اجعلـوا أقــوالكم

ــل المقدسة عن الزيغ والهوى وأعمالكم منزهة عن الريب والرياء . ق تصــرفوا نقــود أعمــاركم النفيســة في المشــتهيات النفســية وال

ــافعكم الشخصــية ــور على من ــوا إذا وجــدتمتقتصــروا األم ، أنفق

159

واصــبروا إذا فقــدتم إن بعــد كــل شــدة رخــاء ومــع كــل كــدر صفاء، اجتنبوا التكاهل والتكاسل وتمسكوا بما ينتفع به العالم

ــاكم أن تزرعــوا زؤان من الصغير والكبير والشيوخ واألرامل، قــل إي.الخصومة بين البرية وشوك الشكوك في القلوب الصافية المنيرةــة قل: يا أحباء الله ال تعملوا ما يتكدر به صــافي سلســبيل المحب وينقطع به عرف المــودة، لعمــري قــد خلقتم للــوداد ال للضــغينةــاء جنســكم، ــاد، ليس الفخــر لحبكم أنفســكم بــل لحب أبن والعن

ــوا فيوليس الفضل لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم . كون الطرف عفيفا، وفي اليد أمينا، وفي اللسان صــادقا، وفي القلب متذكرا، ال تسقطوا منزلة العلماء في البهاء وال تصغروا قدر من يعدل بينكم من األمراء، اجعلوا جندكم العــدل وســالحكم العقــل

.198وشيمكم العفو والفضل وما تفرح به أفئدة المقربين"

١١٨-١١٧بهاءالله، مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله، ص 198

160