3154

117

Upload: kotob-arabia

Post on 26-May-2015

419 views

Category:

Education


15 download

TRANSCRIPT

Page 1: 3154
Page 2: 3154
Page 3: 3154

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

Page 4: 3154

٣

فهرسفهرس

٤.....................................................إهداء ٥..............................................عناق السماء

١٢...................................................األب ٢٢........................من السيرة الذاتية لصبري شرف

٣١................................................ارتجاف ٣٩...................................رجوع زين إلى صباه

٥١............................................مفترق النهر ٦٩............................................انتهاء المطر

٧٦.......................................تان زفاف قديم فس ٨٤..................................دندنة في وضح النهار ٩٣................................. . بطاطس وأشياء أخرى

٩٨....................................نائية األسى والمرح ث

Page 5: 3154

٤

إهداءإهداء :إلى أحفادي

أشرف هانايشَ

زكريا الحسن .شاهي

علي عيد* * * *

Page 6: 3154

٥

عناق السماءعناق السماء .لم يتجول في قريته مسرورا وحرا كما اعتاد

أو منعه أحد في الطريق، أحد وهو سائر صحيح لم يوقفه عن إعطائه الدروس الخصوصية لألطفال، لكن منـذ ذلـك

أن حركاتـه "فاروق الشـريف "اليوم البعيد ترسخ في وعي ومتى وثمة قوى خفية ترى وتعرف متى استيقظ، مرصودة،

.نام، وماذا يفعل بين اليقظة والنوم .هذه القوى ال يراها، لكنه يحس بها ومتأكد من وجودها

ومنذ ذلك اليوم البعيد وهو يطرح علـى نفسـه أسـئلة، .عن أيامه القادمة.. ويبحث لها عن أجوبة، عن مصيره

مات من التعذيب هناك، ألنهم كانوا يعرف جيدا أن والده .يعتبرون كل من يعارضهم ولو بالنقد البريء عدوا لهم

يمكن أن يموت الواحـد "قال له والده لما زاره أول مرة .ومات" تعذيب هنامن ال

* * * * .لما تم القبض على والده حرموه من االمتحان

.ولما اعترض فصلوه من كلية األلسن !وقال ما ذنبي؟.. صرخ وبكى

Page 7: 3154

٦

.قالوا إنها التعليمات .تركهم وعاد لقريته يلعن التعليمات الغبية الغشيمة

.لةوعرف أيامها أن األفكار البريئة مستحي .وأنه محاصر وعاجز.. الكلمات البريئة مستحيلة .ما زال يذكر كل شيء

.إنهار.. تلطم خديها.. وجد أمه تسف الترابعندما عاديتفـرس .. في شوارع ضيقة، يسأل عن األصدقاء خرج .الوجوه

.تطمئنه.. وال كلمة تقنعه.. ال أثر ألي وجه مألوف .كان الجميع قد انسحبوا داخل جدرانهم

* * * * السـنوات حبس نفسه في الدار، وكأي زمن بطيء مضت

.. اقتربـوا منـه .. ولما انتبه لذلك راح يتعرف على األطفال .أعطاهم دروسا في اللغة، والتاريخ

* * * * أحضرت لنا مترجما؟: يسأل المحافظة سكرتيره .لكنها لم ترد.. ةطلبناه من الوزار:

.ابحث لنا عن أي شخص يجيد الروسية: يصرخ منفعالً

Page 8: 3154

٧

راح يتهيأ لألمر، بدت عملية البحث في تصوير السكرتير حدوتة عبثية إذ كيف يبحث عن إبرة في كوم قش، لكنه َأمر،

.والبد من تنفيذ األوامرمن يعرف الروسية في هذه المحافظة؟ البد أنه موجـود "

".ك أكثر من واحدوالبد أن هنا.. كان يقول دائما أن المحافظة بكل مدنها وقراها عاريـة

.مكشوفة . وال يستعصي علي شيءأعرف كل خباياها،

مـن .. جاء اليوم، هل يمكن أن تأتي به من جوف البيوت من وسـط .. من المقاهي والشوارع واألزقة .. بين الجدران

ء المهجورة هل هو من األشيا .. من تحت األرض .. المزارع .أو البعيدة المنال.. أو النادرة

ولما لم يكن األمر من األسرار التي تسـتدعي الكتمـان، مع كل من يقابله، مع السـعادة، وماسـحي .. تكلم مع رجاله

.بالط الحافظة، وانتشر الخبر في السابعة مساء سيزور المحافظـة وفـد روسـي غدا"

."ويبحث السكرتير عن واحد يعرف الروسية* * * *

Page 9: 3154

٨

تندفع سيارة من المحافظة نحو القرية، تثير غبارا كثيفًـا تقف األم .. طرق همجي على الباب .. على الطريق الزراعي

.وولدها مذعورين* * * *

..قبل العديد من السنوات كان الطرق المباغت ال يفزعه ..ء وأقارب، وكان يصعد للسطح وكان له أصدقاء وزمال

والسماء التـي .. ي اآلمن ينام على ظهره، يتأمل الليل القرو ادي على جدران الدور، فتهجع الكائنـات ينزل ضوؤها الرم

..الريفية تحت صمتها المقفر .يفتحان الباب

".تجيد الروسية؟: "األنيق بتأففينظره السكرتير ".وم بدور المترجمك أن تقنريد: "وقبل أن ينطق يقول له

..يومئ فاروق الشريف برأسه موافقًا صرخاتها تصفع الجدران والليل، يسحبونه فتصرخ األم،

بنفس .. بنفس القوة واللوعة واإلحساس بالفقد، كان صراخها .مساحة الصدى الذي تردد في الظلمة لحظة أن سحبوا والده

* * * *

Page 10: 3154

٩

شخصيات المعة يتوافـدون علـى الوفد الروسي وبعض وتقـف العربـة .. على القاعـة الفسـيحة .. مبنى المحافظة

.فيسحبونه لداخل القاعة بمالبسه المهترئة* * *

وكـاميرات .. خاطفة وأضواء.. اثرةن وأصواتٌ مت صخب .حركة دائبة.. و.. رجال الصحافة واإلعالم

،يتقدم السكرتير نحو المنصة وهو يدفع فاروق الشـريف ". المحافظ يا سيادةجمالمتر ":يقترب من المحافظ هامسا

بضيق فيتربك السكرتير يصاب .. على مالبسه تقع عيناه .األنيق، لكن المحافظ ينهي الموقف المتأزم بنظرة غاضبة

.يعرفه.. فاروق يتأمل المحافظة جيدا إنه هو، ياااه.. ياااه إنه هو

يتراءى له .. الكامنةتتفجر من داخله كل ذكرياته القديمة .وهو يركله بحذائه وهو يجرجر أباه إلى عربة الشرطة

.. وصـراخ أمـه المكتـوم .. وهو يصفعه صفعا وحشيا .والموت هناك.. والعري..والجوع .والمصورون يلتقطون صورا للمنصة.. و.. و

.ظ وفاروقعلى المحاف ون يركزالمصورون

Page 11: 3154

١٠

فـي المحافظ أ ساخرة لصحفية معروفة، فيبد تعلو ضحكة .الكالم ".مرحبا بالسادة الضيوف"

. أن يترجم لفاروق ولما يتوقف يشيريتكلم،.. يتكلم مـن الوفـد يقتـرب .. يعدل من هيئتـه ..ويقف فاروق

الـذي عن والده . الروسية الروسي ويروح يحكي لهم بلغتهم عـن عـذابات .. عندما كان ضـابطًا اعتقله سيادة المحافظ

. وعن أمه..الطويلةالسنين . وينتظرهاوالحياة الحقيقية التي يعشقها ويتمناها

وهـو يتـذكر، .. وراحت اللغة تمنحه أسرارها وسحرها يسـمعه والوفـد الروسـي .. ويحكي.. ويوغل في الذكرى

.الخارج من عينيه.. بالصدق الخارج من قلبه مشدوها ويسود صمت .. ولما ينهي قصته يصفق له الوفد الروسي

يعقبهـا .. لد خالله حالة من اإلعجاب الجمـاعي مفاجئ تتو .التصفيق حادا

.المحافظ واآلخرون يصفقون .وكأن فاروق ألقى بحجر في مياه عمره الراكد

.أحس للمرة األولى في حياته بلذة االنتصار العارمة

Page 12: 3154

١١

وللمرة األولى أن روحه المجروحـة طـاب أيضاوأحس ـ واخترقت سقف .. وعلت وعلت .. جرحها ة الفسـيحة القاع

زهـوا، وصـدى التصـفيق يمنحـه ..لتعانق سماء المدينة جعله يرى أنـه ويضفي على المكان الفسيح لونًا من الحلم،

والمحـافظ والسـكرتير والضـباط .. اعتقل الزمن والحركة ..والجنود

* * * *

Page 13: 3154

١٢

األباألبجئت إلى القاهرة بعد موت أبي وأمي وحصـولي علـى

.ايعدبلوم الصن ضيقة فوق سطح أحد البيـوت القديمـة استأجرت غرفة

فعملت خفيرا ليليا لم أجد، .. الخربة وبدأت أبحث عن وظيفة وصبي نقاش ونجار وخادما ألحد األثرياء، ثم عامل نظافـة

ثيرة مهينة ال أحب أن ومارست أعماالً ك . في إحدى المحالت طويلة بـال ومرت علي فترات . أتذكر تفاصيلها أذكرها، أو

.!ال أعرفه.. عمل، جعلتني أعتقد أن في تكويني خلالً ما أن أحيا على هـذا نفسي هل أنا مضطر وكثيرا ما سألت

النحو؟وال أصدقاء، وال عمل مسـتقر بال أم وال أب وال زوجة

أم أحبه؟ أليس من حقي أن أمتلك كل هذا أو حتـى بعضـه، .الحياة تجري على غير ما نحب؟

ئق واألشياء مشوشة في داخلي، وحياتي أصبحت إن الحقا غير مفهومة، على األقل بالنسبة لي، ولم تعد هناك محاوالت أو بدائل يمكنني أن أفعلها، فأنا تخطيت الثالثين، وليست لي

Page 14: 3154

١٣

واسطة أو قدرة على المتاجرة بظروفـي لكسـب تعـاطف .اآلخرين

مثل من أنجبـوني، والـدي مـات !.. نبتٌ شيطاني أنا ؟ مما بعد أن احتواه الضياع، نفس الضياع الذي يحتوينيرور.

...يااااهعشرة سنوات وأنا أنتظر وظيفة دائمة ومريحة مثل باقي

.الخلق دون جدوى .عشر سنوات علمتني أهمية أن يكون للواحد أب

منذ وقت بعيد، عندما كنت في الخامسة اكتشفته وحـدي، .في حضنه كلما يرانيكان هو الرجل الوحيد الذي يأخذني

.هذا أبوك: قالوا .أعرف: قلت

فالشيء الوحيد الذي كنت على بينة منه أنه يحبني، وأنـا . أحبه، كنا نحس بذلك معا، إحساسا صادقًا ومباشراأيضا

* * * * بين سنواتي األولى ومراهقتي كان يأخذني أحيانًا معه في

.الليل . معك دائماخذني: قلت

Page 15: 3154

١٤

.ال: قال .وابتسم

بعد فترة اعترف لي أنه يريد أن يجنبني المتاعـب التـي يحياها، وراح يشتري لي مالبس غالية، ويرمي في حجـري

: وفاكهة ويمزح قائالً كثيرة وطعامانقودا "خذ أنت وأمك"

لم يكن يعمل بالسياسة أو له عالقة برجال األحـزاب أو كان أبي، ترك له والده فدانًا من أميا ا،الخاليا التي في قريتن .األرض، هكذا قال لي

باع فدان أبيه واشترى سيارة أجرة وتعلم قيادتها وأصبح أيضـا وأنجبني، واشترى ثم تزوج السائق الوحيد في قريتنا،

.دارا قديمةمختارة باعت لنا هذه الـدار بـأوراق " بسخرية قال ألمي

تها تحلف لنا بالمسـيح أنهـا وفي الصباح جاءت أخ " مزورةستطردنا وتشرب من دم مختارة، ولما جاءت لتطردنـا رأت

.أبي ينام عاريا في الفناء . ثم راحت ولم تعدتأملته طويالً مدهوشة خائفة،

. ولم تشرب من دم أختهالم تطردنا

Page 16: 3154

١٥

عيناه الواسـعتان العسـليتان، أبي طويالً مثل مارد، كان الغزير المجعد أوقع مختارة سود األ وشعره الصافية، وسمرته لنـا فـي عمـق كانت تسهر لتراه عائدا .. عشقته ..في حبه

صوته الشجي من نافذة لتسمعالليل، تلقي عليه تحية المساء . لدارنا الضيقة المواجهةدارها

يرد عليها التحية ويدخل ليستلقي على ظهره فوق حصيرة .لينام بين األرض والسماء.. بالية

غرفـة وال دارنا دارا عادية، قريتنا قرية عادية، لم تكن .واحدة وحوش فسيح بال سقف، مفتوح على السماء

الليل وتغوص في ظالمه، أروح أبحث عـن لما يحتويها .أبي ال أجده، فألبد في حضن أمي التي ال تعرف أين هو

وكان ..قلت له وأنا أوقظه من نومه في ظهيرة يوم جمعة ".د أن أشبع منكأري: " حاراالجو

.ضمني إلى صدره ووعدني أنه سيأخذني معه كلما أردت ألنه اعتاد جازاتي المدرسية، أكنت بالفعل ال أراه إال في

ولما يعود نكون في عز أن يسهر معظم ساعات الليل بعيدا، .نومنا أنا وأمي

Page 17: 3154

١٦

وفي الصباح أترك الدار وأخرج، بينما هو ال يسـتيقظ إال ، عندما تجيء له مختارة تمازحه بشـكل في منتصف النهار

الغرفة الوحيدة تبكي في صمت، سافر، فتتركهما أمي وتدخل .وتحكي لي في المساء كل ما حدث

.كانت أمي طيبة وساذجة وتعمل ألبي ألف حساب* * * *

المرة األولى التي ذهبت فيها إلى هناك كانـت دهشـتي .اكتشفت عالمه الليليهائلة، ذلك ألنني

رجال من القرى المجاورة، تجار مخدرات ورجال أعمال يلتقـون فـي وقتله وبعض أثرياء وهالفيت، خليط من بشر

.الليل . سنذهب الليلة إلى قرية كذا يا سي عبده- . وماله-

.ويركبون سيارته، ويقودها لهم إلى القرى التي يرغبونهاتقفز بين الحفر، ولمـا كنت أجلس إلى جواره، والسيارة

يأكلون ويسكرون ويضـحكون، كانـت الخمـرة يعود بهم، . حالة سالم ونشوة يبدو معها األمر كله كأنه ال شيءتمنحهم

Page 18: 3154

١٧

في المرات التالية كنت مشغوالً بما سيحدث، ورحت أفكر مع نفسي، لكنهم كانوا يعقدون صفقات بيع وشراء بطريقـة

.تثير الريبة بعيدا كما يريدون حتى لو إلى آخر ..ويذهب معهم بعيدا

.ويأكل ويشرب.. يلف الدنيا.. في الليل معهمالدنيا ودائما.. وهـم يحبونـه .. كل أنواع األكل، وكل أنواع الشرب

كنت أتأملهم وهم يتعاملون معه باحترام شديد، وهو .يعشقونهسألته ذات مرة أال يخيفك شيء .. على سجيته الرجولية النقية

أنا أكره الخوف، ألنه يحـول : "حدث، قال وقد بدا هادًئا مما ي ".الرجل إلى امرأة

.أحسست أن سؤالي كان ساذجا .أشياء مثيرة ومختلفة لكنهم اعتادوها

ربما ألنني الصبي الوحيـد مدهشوين كانوا يحدقون في ، .الذي يجلس معهم، وكنت ال أستطيع أن أخفي خجلي

.نهم تأكدوا من ذلكالبد أنه بان علي، والبد أ* * * *

Page 19: 3154

١٨

اللعنة على األيام "صرخ أبي ذات يوم في وجهي مدهوشًا اآلن أصبحت : " ثم تفرسني طويالً وقال "التي مضت مسرعة

".رجالً أجـرة لناس في قريتنا قد اقتنوا سـيارات كان كثيراً من ا

ـ يد وسيارات خاصة وسيارات نقل، وبعضهم هـدم داره وشلكن أبي ظل كمـا هـو . على أرضها بيتًا من طوابق كثيرة

إلى .بعالمه الليلي، ودارنا ذات الغرفة الواحدة والفناء العاري ا كعادته في الظالم من إحدى القـرى أن جاء يوم كان عائد

فصور له خياله المخمور أن الطرق التـي البعيدة مخمورا، ـ .. يارة انقلبـت أمامه شاسعة ممتدة، وانحرفـت منـه الس

.كاد يموت.. احترقتفي الصباح الباكر رآه رجل من قريتنا مرميا على حافـة

.حمله إلينا.. مصرف بالقرب من سيارته المحترقة* * *

كان مذهوالً، ولما أفاق وتأكد له أن العربة قد .. لم ينطق :امتألت روحه مرارة، وقال ألمي. ضاعت، وأصبحت خردة

"بت خمرا رديًئاأنا حمار ألني شر" .وراحت تبكي من الحسرة" هذه بداية الهم: "وقالت

Page 20: 3154

١٩

* * * * في الشهور األخيرة التي سبقت موت أبي، والتي هاجمـه فيها المرض، ذهبت أمي إلى طنطا واشترت بـرادا لعمـل

وأكثر من عشـرين كوبصـا بأحجـام الشاي وكنكة للقهوة، وألن دارنا كانت خالية من هذه األشـياء، وصينية .. مختلفة

ذلك ألن والدي لم يحدث أن اصطحب معه صـديقًا، أو أدخ وجاء والرجال وتدفقوا على دارنـا لزيارتـه، . علينا رجالً

كان البد مـن . وكانوا يتركون لنا ماالً وطعاما في كل مرة االحتفاء بهم، مثلما احتفوا بي في كل األمسيات التي أخـذني

.إليهم لكنهم رفضوامعه * * * *

أشاعت عز أخت مختارة أنها ستطردنا من الدار، بعد أن آه يـا أبـي، إن : "رأت أبي مريضا، فصرخت من أعماقي ومختارة تجلس على " األمان من بعدك عابر والطمأنينة كاذبة

، وحاولت كثيرا أن تأخذه مع أمـي إلـى مقربة منه وتنهنه لمستشفى الوحيد في قريتنا، لكنه رفض أن يموت في الغرف ا

.المغلقة

Page 21: 3154

٢٠

وظل مستلقيا على ظهره في حوش دارنا الفسيح، عينـاه .كان تائها.. الواسعتان تتأمالن السماء

الذي أدهشني لحظة موته أنني رأيت رجاالً يبكون، رجاالً كثيرين يبكون، ثم يحملونه إلى مثواه األخير ويرحلون إلـى

بعدها امتألت يقينًا أننـي أصـبحت . لياليهم وقراهم البعيدة .أعزالً، في قرية شاسعة

* * * * في أواخر المساء مألني الحنين إلى األب، وأحسست أنني أشد ما يكون احتياجا إليه، وتمنيت لو أن عالقة األبوة هـي

اح كنـت جائعـا وفي الصب .. القانون الذي يحكم الدنيا كلها وبـدت لـي .. سرت أتلوح مـن الجـوع .. ومفلسا وعاطالً

الشوارع والشجر والناس، شاحبة ممسوحة المالمح، وقادتني .قدماي الخائرتان إلى حديقة ضيقة جوار القلعة

وأنا في الحديقة فكرت جادا في االنتحار، ورحت أبحـث .عن كيفية فعل ذلك، ولم يكن أمامي سوى النهر

تصف الكوبري الذي يؤدي إلى الجامعـة أخـذت في من .قراري

Page 22: 3154

٢١

.. وأنا أدفع نفسي امتدت يد طويلة تمسكني مـن الخلـف لم أرد ماذا حدث، هـل اجتمـع .. كنت منهارا انهيارا كامالً

!ناس حولي؟ هل ضربوني؟ وكم من الزمن مر على ذلك؟

خـائر .. كنت على أرض غرفتي مرميا وحيـدا جائعـا .القوى

* * * *

Page 23: 3154

٢٢

من السيرة الذاتية لصبري شرفمن السيرة الذاتية لصبري شرففي البداية كنت ال أعرف، وكنت أسأل نفسي كثيرا مـاذا سأفعل بكل هذه الكتب القيمة التي جمعتها في سنوات عمري

.الطويلوفي لحظة من لحظات التجلي وتوهج العقـل، وهـوس

مـن االنتماء، خرجت الفكرة من رأسي كما يخرج الجنـين : الرحم، وكما يصرخ الجنين صـرخته األولـى صـرخت

".قريتي" .هناك التقيت صدفة بالشيخ علي أبو جبل

:قلت.. وصحبني إلى دارهرحب بي الرجل كثيرا "عدت ألقيم معكم، وسأجهز دارنا القديمة لذلك"

.. كان الشيخ علي أبو جبل واحدا من المعدودين في البلد ".مرحبا بك: "قال

عندي كتب كثيرة، لذلك فكرت أن أعمـل الغرفـة : "قلت ".التي على واجهة الدار مكتبة لبيعها

سأبيعها بتـراب الفلـوس لمـن يعشـق : "قلت.. لم يرد ".القراءة

.لم يعقب على كالمي فشربت الشاي وانصرفت

Page 24: 3154

٢٣

وداخل دارنا القديمة استقبلتني فئران كثيـرة، وبأحجـام اسـتقرت فـي راحت تجري على جدرانها حتـى .. مختلفة

وقفـت أتأمـل الغـرف . فجوات قريبة من األسقف الخشبية الثالث التي هي كل دارنا، وقد استنقع فيها ماء أصفر راكد، وتحولت إلى مستنقع، تستقر على حافاتـه نباتـات صـفراء .وخضراء معتمة كطحالب شيطانية تنبعث منها رائحة عطنة

وأرضها ما زلت أذكر أن جدران هذه الدار كانت رطبة، تنز بالماء، لكن لم أتصور أنها ستتحول هكذا إلى مسـتنقع، وقلت لنفسي ربما حدث ذلك بفعل الهجر والسنين الطويلـة، وقلت م الضروري تجديدها لتصبح صالحة إلقامتي، وكـان

.طبيعيا أن أعرض األمر على مقاول .وفي الليل رحت أحسب المسألة كلها في رأسي من جديد

.. ت قد حسمتها، وسألت عن محمد الفولي في الصباح كن قالوا البقية في حياتك، وعن أحمد شمس، ومحمود ابن الحاج

رجـال قـالوا إنهـم . رضوان وكمال الشوربجي، والمرابع .قصار العمر، رحلوا في عز الشباب

رحت أبكي، وخفت أن تكون قريتنا تأكل رجالهـا، لكـن .فيقيني أن األعمار بيد اهللا أزاح عني الخو

Page 25: 3154

٢٤

وفي الظهيرة اتفقت مع مقاول شاب على تحويل الغرفـة المطلة على الشارع إلى مكتبـة لبيـع الكتـب، والغرفتـان األخريان واحدة لنومي لصالحيتها لهذا الغرض، واألخـرى

.اخترتها لتكون مخزنًا .وعرفت كافة التفاصيل

ولما أحضر المقاول كميات من الرمل واألسمنت والزلط .لتدبير أموريعدت للقاهرة

* * * في غرفة االجتماعات قال أحدهم لزميله لقد رتبنـا كـل

لم يكن في مقدوري أن أرتـب .. شيء وابتسم ابتسامة بلهاء يختـارون لـي . شيًئا، وكان األمر يتم على شكل مسـرحي

أجلس فيقترب " هنا يا أستاذ صبري : "المكان الذي أجلس فيه ربنـا : "يقـول .. يصي ليسوي ياقة قم يمد يده .. مني أحدهم

".يمتعك بالصحة ..ثم يبتعد مبتسما

!!معقـول؟ ! جاء اليوم يا صبري، ستون عاما مضـت؟ كأنني لم أصدق زمني الذي انفلت، إنني اآلن ال أبغي ماالً أو

Page 26: 3154

٢٥

شهرة، فمعاشي والحمد هللا يكفيني، والكتب التي سأحملها إلى .هناك سأبيعها بتراب الفلوس

* * * متواضعة، وكنت أريد أن أعبر لهم عـن أعطوني هدية بعد أكثر مـن ثالثـين وأنا أودع المكان ةتلك اللحظات المر

.سنة، لكنهم تركوني ومضوا، ككلي عمري الذي مضىأن ماضيا .. وأنا أخرج أحسست أنني أنسحب من عالمي

.وتاريخًا قد انتهى وراحأصبحت مهجورا، تركتني الزوجة بعـد حيـاة طويلـة

الدرجات التسـع التـي ..وأصبح البيت آيالً للسقوط فارغة،نظرت حـولي، وألول مـرة . توصلني لشقتي تؤكد لي ذلك

أقـف .. ، غريبا علي أقول كالما مختلفًا .. أهبط الدرج وحدي .على طوار الشارع

أنظر للزحام لحظة خروج الموظفين والطلبـة، وأحـاول .جاهدا أن أعبر للطوار اآلخر

* * * كنا في أزقة قريتنا نحلم بتكـوين عالمنـا . "لفوليمحمد ا "

وكان هو يغني، كنت عاشقًا للشعر إلى حد الهوس، . الصغير

Page 27: 3154

٢٦

ولما تعثر في الدراسة وجئت أنا للقـاهرة إلتمـام تعليمـي، .انقطعت عني أخباره

وأحمد شمس وابن الحاج رضوان، وكمـال والمرابـع، " .كانوا يحبونني، وكانوا في مثل سني

شيخ علي أبو جبل فهو صديق والدي الـذي مـات أما ال يااااه، أكثر من عشرين سنة، تزوجت بعد حصولي . صغيرا

وكنـت أعـد نفسـي على ليسانس اآلداب وعملي بالقاهرة، إعدادا فنيا، اكتب اسمي على ورق أبيض وبحروف متأنقـة،

صـبري "وأروح أقرأه وحدي مرة ومرات وبصوت مرتفع تابعت بانتظـام نـدوات األدب ..وأضحك في سري " شرف

.وسماع الموسيقى، ومشاهدة المعارض والمسارح والسينما وكانت لدي دائما .. قرأتها بنهم .. وأنشأت في بيتي مكتبة

.الرغبة في شراء الكتب النادرةوحاولت كثيرا أن أكتب فكان كل ما كتبتـه ال يمكـن أن

فتراجعت عن يكون فنًا، أو حتى يقترب أو يشبه فن الكتابة، .قناعة أنني ال أصلح إال للقراءة، ورحت أقرأ

وفي أمسيات كثيرة كنت أعود متأخرا من عند أصـدقائي .الذين يعملون باألدب

Page 28: 3154

٢٧

الغريب أنني أحرضهم على فعل الكتابة ألقرأ ما يبدعون، قلت بيني وبـين نفسـي إننـي .. وإحساس بالعجز يطاردني

لست مطالبـا بـأن موظف في إحدى المصالح الحكومية، و .أكون شيًئا آخر

لكن القراءة وعشقي لها أزاح عني الجهـل واإلحسـاس بالعمى، وعرفت أن في الكتب علما وجماالً يعيدان لإلنسـان

.إنسانيته التي سلبتها عشرات األشياء الغريبة* * *

في أقل من شهر تم افتتاح المكتبة، ووقفت أنظر بدهشـة رتبـت كتـب التـاريخ واألدب لألرفف كل األرفف بعد أن

.كان الجو حارا. والدين عليهاليس هناك أعظم من الشعور بالفرح، كنـت فرحـا .. ياه

قلت اهللا يـرحم الكـل، .. برغم أنني لم تغادرني صور ماتوا ورحت أرش الماء على األرض الترابية أمام الباب، وأتأمل

".مكتبة عم صبري"الالفتة ببالي أن أصـبح صـاحب أخذت أضحك ألنه لم يخطر

.وجلست حتى المساء. مكتبة في آخر العمر* * *

Page 29: 3154

٢٨

عندك بكرة خيط : "في األيام األولى جاءتني صبية تسألني .قلت ال" أبيض

" عندك عسل أسود : "قالوا.. وجاءني صبي ورجل وامرأة ".عندك سمن نباتي" "عندك سجاير"

".ال.. ال: "قلت مستعدا أن أتحـول ومضت شهور وأنا أقول ال، فلم أكن

إلى بقال، وألح علي الشيخ أبو جبل أن أسـتجيب لطلبـات ورحت أفكر من جديد في األمر، وذهبـت . وأجربالناس،

.إلى طنطا وهي أقرب المدن إلى قريتنا ..و.. اشتريت سمنًا وعسالً وخيطًا وشايا و

وكان من الضروري لعرضها للبيع أن أنزع بعض الكتب .وأضعها على أرض الغرفة األخرىمن فوق رفوفها

.وفعلت ذلك بمساعدة الشيخ أبو جبللست أدري لماذا كان الدافع قويا لبيع كتبـي، هـل هـي

محاولة للتخلص منها؟عكس ذلك تماما، ألنه كان من الممكن بيعهـا إن الواجب

الحقيقة أنني ما جئت هنا إال لتقرأ أهـل . لتجار الكتب هناك

Page 30: 3154

٢٩

وكانت رغبتي أن أنشـر الـوعي .. لكتبقريتي ما في هذه ا .والحب في هذه المساحة الضيقة

* * * ظللت أذهب إلى طنطا وأعود لقريتي بشتى أنواع البقالة، أربتها على األرفف مكان الكتب التي أقوم بدوري بوضـعها

وجاءت الصبية تطلب صابونًا .. على أرض الغرفة المخزن ".ض نفسهالواقع يفر: "فابتسم أبو جبل هامسا

أي واقع هذا الذي يجعل غذاء العقل والروح ليس مطلبا، .إنني دخلت دور هؤالء الناس ورأيت كم هي مظلمة

* * * بعد بضعة شهور دفعني حنيني لكتبي القيمة، فتحت الباب

ألطمئن عليها، لتلمس أصابعي أغلقتها ولـو لمسـا .. ألراها ..خفيفًا

األيام وخليها على اهللا زوربا اليوناني وحضرة المحترم و ..والشرق الفنان وهموم داعية

وجدت حشرات غريبة تتحرك في تكاسل، وبعض فئران تسرع للهرب ومعظم الكتب تحولت إلى نتف متناثرة، وبـدا

ووقفت عيناي دون قصد منـي علـى . المشهد مثيرا للغثيان

Page 31: 3154

٣٠

رواية حضرة المحترم لنجيب محفـوظ فاجتـاحني أسـى، . بالخواءومألني اإلحساس

.. وسمعت أصواتًا عالية على مقربـة منـي تطـاردني :تحاصرني

"ةابونيا عم صبري هات ص" "ةيا عم صبري هات صابون"

".ال: "قلت محاوالً أن يكون صوتي أعلى منهملكن أصواتهم العالية أصابتني بخيبة أمل، ألنها كانت تمأل

.المكان * * * *

Page 32: 3154

٣١

ارتجافارتجاف)١(

.خلقني اهللا متعلما من ظهر رجل جاهل . يقعد جنب جدار الجامع العمري..كان أبي إسكافيا قرويا

وكانت أمنيته أن أقعد جـواره .. وهو أكبر مساجد قريتنا .أساعده في إصالح األحذية البالية الملطخة بالطين والتراب

* * * وقف ينتظرها بعيدا جرت وجرجرتني معها لتلحق بالذي

كـان الضـوء رحت ألهث، وبالكاد عرفته، . وسط المزارع .شاحبا

أحتاج : قالت له بصوت بدا غريبا علي، كأنه ليس صوتها .أتكلم معك

.قال لها ال تأتي بهذا الولد مرة أخرى !!قالت ابني أريده أن يكون مثلك

.كنت أتمنى أن يكون هذا ولدي: وهمس.. تأملني .لدك و إنه- كيف؟ وهو ابن رجل غيري؟- . كنت تتهرب مني-

Page 33: 3154

٣٢

. قلت لك انتظري حتى أسوي أموري- .صمتت أمي فعال نقيق الضفادع

.أخذها في حضنه، لكنها انفلتت منه.. اقترب منها .جرت وأنا خلفها أحاول فهم ما صنعه معها

.كنت أسمع كلماته التي أرسلها خلفنا في البراح الرمادي "أ ح ب ك. .سأظل أحبك"

كنت أرتعد، سألني ماذا .. في الليل أخذني أبي في حضنه بك؟

سألني مرة ثانية قلت أمي أخذتني معها لمحمـد .. لم أجبه .أفندي المدرس

قالت رحت أستفسر منه عـن األوراق .. تركني واعتدل .الالزمة

سآخذه معـي .. ال أحب أن يدخل ولدي المدارس :صرخ .ليتعلم حرفتي ". أن يتعلم الولد في المدارس أو الطالقإما: "صرخت

.ضربها حتى رأيت دمها يسيل من فمها* * *

. أبي الدار سحبتني معهافي الضحى بعد أن غادر

Page 34: 3154

٣٣

. ال أحب أن يكون ولدي مثل أبيهتوفي دار جدي قال ورقـة :طبطب عليها فأخرجت من صدرها ورقة وقالت

.ميالد الولد .قال على بركة اهللا

صالح أمي ثم أخذني في يده وعـدنا .. جاء أبي وبعد أيام .معه

* * * تذكرت أنها كانت تحملني على كتفيها كل صباح، وتسير حافية القدمين في الوحل، لتذهب بي إلى المدرسة البعيدة عن

مطـر . دارنا، كنت في السادسة والشتاء في قريتنا ال يحتمل وأمي .. يسكن فيه .. غزير لساعات طويلة، وبرد يدخل العظم

.تغرسهما في أرض موحلة.. تضع قدميها العاريتين بحذر .تغرسهما كي ال أقع.. ترفعهما

ولمبة الجاز المعلقـة علـى .. في المساء كان الليل مخيفًا ووالدي يضـع .. جدار الغرفة الباهتة، ترسل ضوءا شحيحا .على جسده مالبس كثيرة مهلهلة ويرتعد

تي تعشق التعلـيم بـرغم في الصباح الباكر تقول أمي ال :أميتها

Page 35: 3154

٣٤

".خذ الولد واذهب به إلى المدرسة "- ".ال داعي فاألرض طين "-

:فتحملني كل أيام شتائنا القروي، وفي العودة تسألني ".ماذا أخذت ؟"

.وتقبلها.. فأرسم لها الحروف واألرقام التي تعلمتها فتفرح

)٢( كان يبهرني الغروب فوق الشجر

ومياه الترعة !!عري العيالو

* * * يمارسون المـرح حتـى . .كانوا يأتون دائما في الظهيرة

الغروب وكثيرا ما حاولت أن أهرب منهـا ألقفـز وأثيـر ا مثلهم، لكنها كانت أخوف الناس عليضجيج. .قلت إنني أحب أن استحم في مياه الترعة

.قالت سأسخن لك هنا في الدار ماء وأغسل جسمك بنفسي في كل مرة، ولما أحست خجلي ألنني فـي كنت أرفض

الثانية عشرة من عمري، تركت لي الغرفة والطست والمـاء

Page 36: 3154

٣٥

مرة أستحم لوحدي، والصابون وأغلقت الباب، ورحت ألول الحصى في المياه البنية، ورؤيـة عـري لكن رغبتي لقذف

.جعلني أستسلم لصحبة العيالالذي في مثل سني .ب معهمفي الليل قال والدي دعيه يلع

.قالت الترعة غويطة .قال ال تخافي وال تخوفيه

...قالت الولد يغر .تركيه ليصبح مثلهما.. قاطعها لم يعد صغيرا

.صرخت فيه ال أريده مثلهمفي الصباح ذهبت معي إلى المدرسة لتقول لي ال تنـزل

.الترعة سألتها لماذا يا أمي؟

لكنهـا .. تـردد تأملتني طويالً وقبل أن تنطق بان عليها ال :قالتها "محمد أفندي ال ينزل الترعة"

.هززت رأسي ومشينا في صمتوألقيت بنفسي في مياه .. في الظهيرة تجردت من مالبسي

.الترعة ألفعل مثلما يفعلون

Page 37: 3154

٣٦

.وأخرجوني مثل جثة هامدة.. أشرفت على الغرق .جاءت تولول وتضرب صدرها

صـف عيـال وحملتني بنفسها للدار وهي تبكي، وخلفها ن .قريتنا

.وفي العتمة سمعت والدي يهمس لها

)٣( .مات أبي.. لما أنهيت دراستي في جامعة طنطا

ووقفت أمي تودعني لحظة سفري الستالم عملي وكنـت .ألول مرة أرحل بعيدا عنها

* * * أنا قلبي معاك ثانية بثانية"

"لو حتى تروح آخر الدنيامي على رصيف طنطا تعود لي اللحظة التي وقفت فيها أ

.تطل من عينيها الواسعتين لهفة أمومية نادرةوصوت شادية العذب يأتينا من مذياع يحمله رجل يجلس

.على مقاعد االنتظار . وتحرك القطار إلى القاهرةكنا في الغروب،

Page 38: 3154

٣٧

راح كل واحد يبحث عن مكان يجلس فيه، لكنني أخرجت . للحظة خاطفةمن رأسي نافذة ضيقة، وتعلقت عيناي بعينيها

ولما أسرع القطار وابتعد، سحبت أمـي معهـا الشـمس .واختفت

)٤(

برغم أنني أصبحت محاسبا، وعاشت معي فـي مدينـة سأموت محسورة لو مت قبل أن : واسعة إال أنها ظلت تقول

.أراك مثله* * *

سألت نفسي هل ضاقت بها الـدنيا ولـم تجـد إال ذلـك !المدرس؟

قلت ربما هي معذورة فقريتنـا .. مناولم أعرف اإلجابة ز .ال يسكنها ضباط وال مهندسون وال أطباء فقط فالحون وعمال وبعض الطلبة

ومتشردون وقلة من المدرسين .حقيقة كان.. كان أكثرهم وسامة

Page 39: 3154

٣٨

ويوم أن ماتت أمي محسورة، وذهبت إلى قريتنا لـدفنها يد بناء على وصيتها، رأيت ذلك المدرس يبكي كما لو كان ير

.أن يلحق بها .وتغيرت أشياء كثيرة.. ومضى عمر طويل

.وذات يوم خطر على بالي فذهبت إلى مسكنه .رأيته وحيدا عجوزا قد ضاعت عنه وسامته

.نظرت في عينيه الذابلتين فارتجفت كل الذكريات البعيدة * * * *

Page 40: 3154

٣٩

رجوع زين إلى صباهرجوع زين إلى صباهت من كل قيد، حان الوقـت كـي قلت لنفسي وقد تحرر

أطير إلى هناك، وأفتح دارنا القديمة وأجهزها، ألحيا بعيـدا تذكرت أقرب وفي األيام التالية .عن سنوات القهر واالنبهار

الصحاب إلى قلبي، من كانت له نفس الرغبـات الصـبيانية لم أعرف سببا . وطرت بال زوجة وال ولد التي عشناها معا،

انهمرت وأنا أطل على مشـارفها، وال األلفـة لدموعي التي التي مألتني وأنا أتأمل الوجوه، برغم أنني لم أتعرف علـى

وفي نهاية المحطة، وعلى الزراعية، لـم أشـأ أن . أي منها أسأل أحدا عن داره، فما زالت في ذاكرتـي كـل الطـرق

.الضيقة التي تؤدي إليها معـا بـل وراحت تزاحمني األيام البعيدة التي عشـناه

..واألحداث، وقفزت بنت تفيده أمام عينيكنت طفالً صغيرا أرقبها بمشاعر مبهمة، وأتعثـر فـي

.طريقي للمدرسة، وهي تتعثر مثلي وتحمل نفس المشاعر.. كان يقف أمام نافذة داره القديم يتأمل غروب الشـمس

.تأملني مستغربا، وتأملته.. لمحني .حضنههبط الدرج مسرعا وأخذني في

Page 41: 3154

٤٠

أجلسني في غرفة برحه وراح يتأملني طـويالً كأنـه ال :يصدق، وفجأة أطلق ضحكة ماجنة وهتف

!".كيف حالك ؟.. عاش من شافك.. زين بن النجار" ".الحمد هللا" .أسمع، سوف يطول الحديث بيننا"

".أنا أذكر أنك تحب الشاي الثقيل، أليس كذلك ؟" بعد إذنك لحظة ": قال.. هززت له رأسي معجبا بذاكرته

واختفى دون أن يترك لي فرصة للرد، فتـداعت لـذاكرتي .لحظات اختفائه حادثة هروبنا معا

ورجل ريفـي .. كانت المدينة الصغيرة هادئة والجو حار يخب في جلبابه عائدا للقرية قبل أن يحل الليل، كانت رقبتـه

.رآنا عند محطة السكة الحديدية.. طويلة بشكل ظاهر . من قبل؟ قلت الاإلسكندرية صاحبي هل رأيت سألني

.كان مرتبكًا وخائفًا ويرتدي بنطلونًا وجاكت .أدخل يده في جيب الجاكت وأخرج مظروفًا أبيض

".مائة جنيه: "قال وهو يناوله ليوقال أنه ترك ورقة مكان المظروف، وبعد لحظة صمت

..".كتبت في الورقة أنني سأنتحر : "أضاف

Page 42: 3154

٤١

..ابتسمتنا أضع المظروف في جيب جلبابي المتسخ كان الفرح وأ

.الصبياني يملؤني .وفي القطار خلع الجاكت، وضعه على فخذيه

قال لماذا؟.. طلبت منه أن أرتديه ".جيوبه أكثر أمنا من جيب جلبابي"قلت

.وافق على الفور كنت مدهوشًا وفرحا وأنا أتأمل قـرص اإلسكندريةوفي

.في في مياه البحرالشمس الذهبي وهو يخت .كانت السماء تلتقي بالبحر عند األفق البعيد

".ما زلت مضطربا: "قال .نظرت حولي، كانت هناك حديقة صغيرة وقريبة منا

هالني أن رأيت جنيهات .. في الحديقة أخرجت المظروف ورجـل علـى .. رحت أعـدها . كثيرة ألول مرة في حياتي

.لجنيهاتيضع عينين واستعين على امقربة منا ".بنا نبتعد: "قال صاحبي بصوت سمعته بالكاد

عينـاه .. كانت الشوارع واسعة ونظيفة والرجـل يتبعنـا .تكادان تمسكان بنا وتأخذ المائة جنيه. ترعبنا

Page 43: 3154

٤٢

ندخل شارع فتدخل معنا، نخرج فتخرج، نـدخل ممـرا .نجري فتجري. ضيقًا فتدخل

.نبهني صاحبي أن بنسيون على بعد خطوات منانحن نصعد الدرج كان الرجل يصعد خلفنا، اندفعنا فـي و

.وجوف البنسيون .وقفت امرأة صارخة ومستغربة فأشرت إلى الرجل

".إنه يطاردنا"قال صاحبي .لم أفهم شيًئا.. طار الرجل فراحت المرأة ترطن

شـغلتني .. جدا وبيضاء الوجـه مسـتديرته كانت سمينة ".يد غرفة للصباحنر: "محاولة الفهم، فقال لها صاحبي

".ما زلت مضطربا: "في الغرفة قال صاحبيفرحت أبحث في جيوب الجاكت عن الجنيهات، وخشـيت أن تكون قد وقعت بفعل الجري واالضطراب، بل والخوف،

.لكنها لم تقعدخل علينا عجوز يعمل عند المرأة السمينة قالت أتريدان

شيًئا؟ة، ورثت هذا البنسيون سألته عنها أجابني أنها سيدة يوناني

.هززت رأسي فخرج.. عن زوجها

Page 44: 3154

٤٣

اقتربت من صاحبي، كان يقف أمام نافذة الغرفة ويرتعد، ذلك ألن الرجل من فوق رصيف الشارع راح يعلق عينيـه

.على نافذة الغرفةقلت لنغلق النافذة والباب وننام، ونمنا بالفعل لكن قريتنا لم

نجاحا باهرا هذا العام في قال أبي للناس إن ولدي حقق .. تنمدراسته، وال يوجد أي دافع لديه لالنتحـار أو حتـى لتـرك

.القرية :وصرخ الرجل الريفي طويل الرقبة

".وحياة كتاب اهللا رأيتهما يدخالن محطة السكة الحديد" "تهما؟هألم تعرف أين كانت وج: "سأله أبي

".ال: "رد ".أنت طويل الرقبة وجلف: "لعنه آخر

دار العمدة كان أبي يتصل بخالي في القـاهرة دون وفي .جدوى

هكذا كانـت تقـول أم صـاحبي " يا ولدي يا حبة عيني "زوجها يكاد يجن، يقرأ الورقة التي تركها صاحبي .. وتولول :بدهشة

Page 45: 3154

٤٤

كيف يفكر الواحد في االنتحار وفي نفس اللحظـة يأخـذ " !!".معه مائة جنيه

دفعـه لالنتحـار رسوبه المتكرر : "صرخت أم صاحبي ".والبد أنه راح ينتحر في بلد بعيد

".وابني، هل راح لينتحر معه ؟: "قالت لها أمي ".بل راح ليسرق ما معه.. ال: "أجابت

..اختلفتا فسبتها أمي وكادت تفتك بها لوال بعض النسوة ..فتشوا الغيطان.. وأخذ الرجال يهمهمون في الليل

ره ومسـتنقع الغجـر نزلوا بئر أبو الجالجل وبركة صب ..والترعة التي تشق قريتنا

وقالوا كالما كثيرا حتى راح الليل وأزاحت الشمس كـل ..ستائر الظلمة

..وتوقفت القرية تماما عن حركتها المعتادةرجـال وعيـال .. وكيوم الحشر انتشروا تحت الشـمس

ونسوة، وصاحبي أمام النافذة يرى هل ما زال اللص ينتظرنا البنت زينـب وشغلتني أخيلة كثيرة، .. الشارععلى رصيف

..بنت تفيده تعاتبني وتبكي

Page 46: 3154

٤٥

قلت سنركب على ظهر مركب كبير ونسافر لبالد الفـن، وسأفعل ما قرأته في الكتاب القديم، ولن أعود يا زينب مهما كانت المتاعب إال بعد أن أتعلم من عباقرة السينما والمسرح

..ما يجعلني عبقريا في قريتنااستحلفتني بكل الرسومات الملونة الجميلة التي أرسـمها و

.وبكت.. أن أعود .قال صاحبي سأعود ألمي

ال أحب أن أكون : "صدمتي رغبته المفاجئة لكنه استطرد ".سببا في موتها

".كيف ؟: "قلتإنها مريضة بالسكر وهذه الفعلة التي فعلتها يمكـن : "قال

".أن تودي بعمرها ".ه ناس شارعنا ؟كيف تواج: "سألتهيا زين لن يغفر الفن لنا ولو نجحنا فيه وال الفشل في "قال

".الدراسة وال عتاب الصحاب ".الموت بيد اهللا: "قلت ".ال أحب أن أكون سببا فيه: "قال

Page 47: 3154

٤٦

الغريب أن أبي مات في شتاء ذلك العام وكنت في الرابعة .عشرة

ذي هو ومات النجار القروي ال .. قال سأموت في الصباح .. والدي في صباح يوم جمعه، فمالت أمي علي وهي تبكـي

:وقالتعلى وجهـه .. رأيته في جنينة واسعة يجري في البراح "

".مالمح المالئكة !".معقول ؟: "قلت ذلك لزينب بنت تفيده سألتني مدهوشة

..هززت لها راسي فقد كنت يومها أصدق األشياءنا لنعيش معه ولم يمض زمن طويل حتى جاء خالي وأخذ

وهناك ماتت أمي ودفنها خالي في حضن أمها .. في القاهرة كانت رائعة في هـذا اإلسكندريةأذكر أن . بناء على رغبتها

لم .. رحنا نسير مدهوشين على شاطئ بحرها .. الزمن البعيد نسال عن الميناء والسفن العمالقة وبالد الغرب والفن لكـن

كتاب اشتريته من بـائع كان أول .. سرنا متجاورين صامتين كتب قديمة في طنطا، كان يعرضها عل أحد أرصفة المدينة،

.سيرة أحد عباقرة الفن في بالدنا

Page 48: 3154

٤٧

قرأته بنهم إلى الحد الذي دفعني للتفكير في ترك الدراسة .وقريتنا، والبحث عن بالد بعيدة أتعلم فيها لعبة الفن مثله

يلولـة فانطلقـت ركبنا قطار العودة، ودخلنا قريتنا في الق .تبعتها زغرودات النسوة.. زغرودة أمي

* * * ما زال موكب عودتنا يتراقص في رأسي .. آه يا صاحبي

.كان بديعا موكب عودتنا.. لحظات صفاء القلب ".ثالثون سنة وأكثر: "صاح صاحبي

: قلت له .. كأنني أفقت فجأة توقفت ذاكرتي عن االستدعاء ".أن تغير وتبدل كل ما كان؟أظن أن تلك السنوات كفيلة "

".نعم: "قال بفرح سامة عذبة أحسست أنها شاسـعة بطـول وعلت وجهه ابت

لن أنساك يا زيـن والرجـل : "السنين التي افترقنا فيها وقال يحملك ويجري نحو جموع الناس، وأنت تلوح بـالمظروف

والكـل وطويل الرقبة يرقص رقصات مجنونـة .. األبيض ..".يصفق له في رسوب صـاحبي )لي يد (ض أهالي قريتنا أن ظن بع

وتفكيره في الهرب وحكاية الفلوس وسطور االنتحـار التـي

Page 49: 3154

٤٨

كتبها، لكن الحقيقة أنني لم أعرف هذه األشـياء، فقـد كـان يجري في عز الحر وسط الحقول بعيدا عن الطرق الرئيسية

كانت باردة .. التي تؤدي إلى طنطا، ولما رايته أمسكت بيده وطلب منـي .حظتها اعترف لي ل.. وع تحوم في عينيه والدم

.أال أتركهكانت مجموعات متناثرة على الزراعيـة : "قلت لصاحبي

".من الرجال والعيال والنسوة تصفق لعودتنا ضحك عاليا وبعدها راح يرحب بي ترحيبا صادقًا وحقيقيا

أكنت تتصـور بعـد رسـوبي : "ثم استطرد كأنه تذكر شيًئا اإلعدادية أعود ألواصل الدراسة وأتخرج مـن المتكرر في

".كلية التجارة وأعمل في البنك األهلي بطنطارحت أضحك كأنني لم أتصور بالفعل، فأخذ يؤكد لي أنه

.مدير لذلك البنك أن ولدي أحمد يعمل األروع: "قال" هذا شيء رائع : "قلت

ودخل علينا شـاب وسـيم يبتسـم، " نفس البنك محاسبا وفي هذا صـديق عمـري يـا : " له صاحبي بريفية محببة قدمني ".عمك زين.. أحمد

.فانحنى يصافحني

Page 50: 3154

٤٩

حدثني عن زينب بنت : "قلت صاحبي بعد انصراف االبن ".تفيده

.. ولم ينتظـر منـي اإلجابـة "أما زلت تحبها؟ : "سألني.. جلجلت ضحكاته في فراغ الغرفة ثم تركني ضحكاته تتبعه

هـذا : "قال.. رة تبتسم في ود ولما عاد عادت معه سيدة وقو ".زين الذين نتحدث عنه كثيرا

".هذه زوجتي: "قال.. وقفت ألسلم عليها :وأنا أتناول معه العشاء همس لي

سوف آخذك لزيارة صديق عزيز عليك وهناك سـترى " ".بنت تفيده

ال يوجد في قريتنا من ال يعرف أن تفيـده بعـد رحيـل جمالها وشـبابها، زوجها رفضت كل عروض الزواج برغم

"..زينب بنت تفيدة"لذلك أطلقوا على ابنتها ".وصل زين في الليل بعد اغتراب دام طويالً"

مـن : "وقالت زينب بنت تفيده زوجته .. هكذا قال زوجها !".هو زين ؟

هز رأسه ثـم .. أدرك بشعور خفي أنها تعرف زين جيدا ".ال: "قالت" أال تذكرينه؟: "سألها

Page 51: 3154

٥٠

..هاجت في أعماقها الذكرىابتعد عنها ف نلعب معا، نشيد بيوتًا من تـراب في الطين .. صغارا كنا

ولما دخل المدرسة كان يحضـر أقالمـا .. وماء ثم نهدمها زيـن دائمـا .. ملونة وورقًا ويروح ويرسم أنهارا وشـجرا

تعجبني رسوماته وأفرح بها مثلما أفرح بالشـمس والقمـر .ويطةوترعة بلدتنا الواسعة الغ

:اقترب منها فقالت في سرها .بل هي أجمل ما أملكه.. هذه الذكرى هي كل ما تبقى لي

Page 52: 3154

٥١

مفترق النهرمفترق النهر)١(

لها االختيار، لكن هذه المرة قلـت لهـا كنت أترك اأحيانًفـي : "قالت بفـرح .. إنني أحب أن نجلس على حافة النهر

".. القريب من الكوبري ؟الكازينو ".نعم: "قلت

الطريق إلى الكازينو، لم أكن أتصـور أنهـا ونحن نعبر .ستعود لتطلب مني بإلحاح أن نلتقي بعد كل هذي السنين

..كانت زوجتي، وأنجبت منها أوالدا .تركتهم بعد انفصالنا ورحلت إلى بالد بعيدة

.إنهم اليوم ال يريدونها .حتى أصدقائي، لم أجد أحدا منهم يقبل ما حدث منها

تلتصق بي، أحسست باالشتهاء القـديم عندما دخلنا كانت يعاودني، وروحي تميل لها، وتذكرت أن يدي لـم تالمـس

.امرأة طيلة سنوات انفصالنا، فمألتني الرغبة في االبتهاجكان جرسون شاب يقف عند المـدخل بقمـيص أبـيض

.ابتسم.. لمحنا.. وبنطلون أسود

Page 53: 3154

٥٢

الشمس تميـل رأيت ونحن نجلس بالقرب من حافة النهر، أنيقًا غاليا، هكذا ييرا رماديا رتدي تا ت "زوزو"ى الغروب و إل

. وجوربا أسوديبدو،كان وجهها خاليا من المساحيق وكان شاحبا، ولما اقترب

.. انحنى انحناءة بسيطة وابتعـد " شاي: "منا الجرسون قالت "كيف حالك؟: "قلت لها ".كما ترى: "قالت

" اطمئنـي : بتسمت لها والد، ا وسألتني بلهفة كيف حال األ هزت رأسها وشردت شرودا عميقًا ثم انتبهت للجرسون وهو

.. يضع أمامنا على المنضدة الصغيرة كـوبين مـن الشـاي تراءت لي كل اإلهانات .. راحت تشرب، ورحت أنظر إليها

.ثناء زواجي منهاأوالعذابات التي سببتها لي :قالت.. كانت تتفرسني.. خفت أن تخونني رجولتي فأبكي

!!إلى هذا الحد أنت حزين.. ياه --....... . حاول أن تخرج من حزنك- . طوال عمري أحاول-

أنت تتذكرين كل شيء إذن؟

Page 54: 3154

٥٣

أنس شيًئا على لم أنس شيًئا، كل ما مضى وما أنا فيه، - .اإلطالق

. أعرف أن هناك خطأ في حياتنا--....... الزمن، لـم هناك أشياء كان يجب أن أتعلمها في ذلك -

.تقل لي أمي شيًئا، زوجتني وكفىلـم أره، ثـم .. استدارت استدارة خفيفة لترى شيًئا مـا

:قالت.. اعتدلت عرفت فيما بعد أنه من المهم أن تحافظ الواحدة علـى - .بيتها

:قلت هامسا كنت أحبك--....... . أنا متأكد من ذلك- .أيضا وأنا - . إذن-

:قاطعتني .ة الخبرة بنوع العاقة كنت قليل-

Page 55: 3154

٥٤

. ال، بل كنت تكرهينني- أنا ال أكرهك ولكن كانت لي أشيائي الخاصـة، أردت -

.أن أحققها ما هي؟-أن .. أن ارتدي مالبـس غاليـة .. أن تكون لي سيارة -

.أرى بالدا كثيرة وهل تحققت لك في الغربة؟- . لألسف نعم- لماذا لألسف؟-شياء التي كانت تبهرني على ألنني اكتشفت أن هذه األ -

حد الجنون، ال جدوى منها، وأن شيًئا قويا وغامضا يشـدني .إلى هنا

!".معقول ؟: "قلت.. أصابتني دهشة، وأخذت تتفـرس أراحت رأسها للوراء لحظة ثم اعتدلت

:قالت.. في وجهي . ياااه، يبدو أنني كنت أقسو عليك--........ لماذا لم تضربني؟-

Page 56: 3154

٥٥

.أخاف عليك أن تضيعي من يدي كنت - ! إلى هذا الحد؟-

:هززت رأسي . كان علي دائما أن أتحمل-

كانت تجلس أمامي وعلى مسافة قريبة جدا، وأنا أحـدق في مالمحها، رأيت أنها ما زالت كما هي، جذابة ومعبـرة، برغم قسوة االغتراب التي بانت من كالمها، والسنين الطويلة

ة عن وطنها وأوالدها، رحت أثرثر، وأنـا التي عاشتها بعيد أثرثر رأيت عينيها تبتسمان، سألتها من هو الرجـل الـذي

تتمناه، أو بمعنى آخر ما هي الرجولة في نظرك؟ :قالت وكأن اإلجابة لديها جاهزة

الرجولة هي أن يكون الرجل إنسانًا في عالقته بالمرأة، - .غسل لهأن يحبها ويريدها لذاتها، ال ألن تطبخ وت

:قالت.. وجدتني أضحك بشكل يستفزها . المرأة تكره أن تكون خادمة للرجل- وإن كان يجب أن يأكل لقمة حلوة أو يرتـدي هدمـة - !نظيفة؟

Page 57: 3154

٥٦

هذا قول ساذج وغبي، ألن المرأة تفعله دون أن يطلب - :قالت.. نظرت إلى صفحة المياه طويالً. منها

:صمتت فجأة ثم عادت ثم تقول بأسى .كانت أحالمي كثيرة، لكن عمري انقضى -

أحس كمـا لـو أن عمـري : "صمتت فترة ثم استطردت ".انسرق مني

: قالت..خرجت مني ضحكة ال إرادية أقرب إلى البكاء ".ال نستطيع تغيير الماضي، لكن الحاضر يمكن تغييره"

".لماذا؟: "قلت لها .ال أحب أن أعيش هكذا، لتمضية األيام فقط: "قالت .. أن يكون لحياتي معنىأحب

".يجب أن أمتلك إنسانًا ما، زوجا، أوالدامليئـة .. إن أيامي تمضي تافهة : "صمتت وبعد فترة قالت

..".بالخواء . من المستحسن أال تفكري بهذه الطريقة- إذن كيف أفكر؟ امرأة في الخمسين تحيا بال رجـل وال -

احد، لذا لم أسألها أوالد، تذكرت أن أمها وأباها ماتا في عام و :قلت.. عنهما

Page 58: 3154

٥٧

. علمت أنك تزوجت في بالد الغربة- . زواجا لم يدم طويالً-

بعد أن قالتها أحسست بمرارة، وكي ال تشعر بذلك رحت أنظر للبنايات البعيدة على الشاطئ اآلخر، وأتأمـل الفتـات

.. اإلعالنات الملونة، وأسماء الفنادق التي تطل علـى النيـل :ألنيسمعتها تس

لهذه الدرجة مشغول عني؟ هه، لماذا تنظر هناك؟- .كنت فقط أنظر لإلعالنات.. ال- . آه-

عاد الجرسون يضع أمامنا كوبين مـن المـاء البـارد، جميل أن يكون المـاء : "قالت.. شربتها.. أمسكت هي واحدة

".مثلجا ".أتحب أن تشرب ؟: "ثم سألتني

".ال: "سألتني. حطت عينيها الرماديتين الواسعتين علي:

أما زلت في عملك؟- . نعم- وبنفس الراتب القليل؟-

Page 59: 3154

٥٨

. الحمد هللا- : رأسها في دهشةهزت

! كيف تتحمل هذا الهوان؟- ! بالقليل هوانًا؟ أتسمين الرضا- .لكن.. لم أقصد ذلك بالطبع- لكن ماذا؟--....... .كل منا كما هو.. نت كما أنت بعد كل هذه السنين وأ-

:قالت كمن تذكرت فجأة لماذا لم تتزوج؟- ".أعتقد أنك في حاجة لذلك اآلن: " لم أرد، قالت-

".لم أجد من تحبني: "قلت ".آه: "قالت

.قلت لنفسي هل تعرف المرأة معنى أن تنام مع رجل آخر ".إنت مش عايز زوزو ؟ ":وقالت هي بشكل بدا مباغتًا

هل تحـب أن : " كيف أرد عليها فاصلت قولها لم أعرف ".تتزوجني مرة أخرى ؟

!".ما الذي تقصدينه ؟: "قلت

Page 60: 3154

٥٩

".أن أصحح حياتي: "قالت فبدا لي أنها لم تكن تتصور هـذه سي بال، هززت لها رأ

..اإلجابةظلت صامتة ال تريد أن تنطق، حتى لمحت فـي عينيهـا

ط، وألول مـرة غريبة، بلورية صافية، تحوم ثم تتساق دموعا .في عمري أرها تضعف ويخونها كبرياؤها

.أدارت وجهها ومسحت الدمعات منكسرة، وكان الجرسون على مقربة منا، أشرت له كانت

.أن يأخذ الحساب، هرول نحوناونحن نعبر الكوبري معا خيل إلي أنها كانت في الماضي

.مالني استغراب.. أكثر طوالًغنوة بصوت نسائي، بدا شجيا كنا صامتين وكانت تتردد

.يدعو لألسى، وال هذه الكلمات التي لم أعرف من أين أتى ذلك الصوت

..دنا وتطاردها هي بالذاتكانت تطار ده كله ما كانتريا ي تقولش كنا وكانا م" وال عرفتك ريت ما شفتكا ي

.."وال كان جمعنا مكان

Page 61: 3154

٦٠

.تطاردها األغنية حتى أوشكت على البكاءظلت عند نهاية الكوبري أدركت أن الشمس قد اختفت ورأيـت زوزو تستدير ناحية اليمين، فأدرت لها ظهري، وأسـرعت

.في االتجاه اآلخر

)٢( .بعد سنوات متخمة بالخواء، جاءتني...

.ومرة أخرى جلسنا على الشاطئ اآلخر للنهرراحت تغني بصوت خفيض، أغنية حب مشهورة وكنـت

ني، كانت صوتها الخفيض مفعم بعذوبـة مرة أسمعها تغ أول .فائقة

.اهللا يا زوزو.. الاله: قلت .توقفت عن الغناء،وراحت تضحك في ابتهاج

.إنني أشك فيما تقوله هذه الكلمات: قلت لهاأال .. الحب أن تتمنى المرأة الحياة مع رجل بعينـه : قالت

تصدق هذا المعنى؟ .إنني أشك: قلت مرة أخرى .شك يحيي الغرامال: قالت مازحة

Page 62: 3154

٦١

ضحكت لكوني أعرف أنهـا ال تمـزح إال نـادرا، وألن .مزاحها أقرب إلى الجد أتضحك؟: قالت.. بان عليها غضب

.ال أقصد: قلتونظرت إلى عينيها العميقتين، الحظت أن أثـر السـنين

.والخوف والفقر بانوا بحدة، تولد داخلي أسى.. ل ظـاهر كان جسمها امتأل كثيرا، وتدلت بطنها بشـك

.وصدرهاقلت في نفسي يبدو أن الواقع الذي تحياه أشد قسوة ممـا

أريد أن أعوضك : كانت تتصور وسمعتها تقول على استحياء صدمتني، ألن لهجتهـا المنكسـرة أصـابتني . السنين الفائتة

:باستغراب مباغت، ولم أرد عليها، فسألتني تعديت إنني.. ترى كم من الوقت ستبقى لي القوة ألتماسك

الخمسين؟ عشـرين سـنة مـرت علـى فتذكرت فجأة أن أكثر من

، بعد حياة فاشـلة، صلنا، ولم يكن ممكنًا أن أبدأ من جديد انف .وعذابات لم أحتملها

ماذا تعني؟: سألتها

Page 63: 3154

٦٢

عندما بلغت الخمسين ترسخ في وعي أنني أتغيـر : قالت .رغما عني

.لألحسن: قلت مازحا .بل لألسوأ: قالت

.أنت متشائمة: اكتراثقلت بالهزت رأسها وصمتت، فبدا لي أنها تتوغل في أعماقهـا، ورأيت في لحظات التوغل أن شعرها قـد خـف واعتـراه

.العجز، فبدا هشًا أبيضكنا في بدايات الشتاء، لم يكن البرد قارسا ونحن نجلـس على حافة النهر فوق أحد المقاعد القديمة المترامية، ووجهها

طى بمسحة من جمال راح منذ فترة بعيدة، وسطح األبيض مغ النهر هادئ، وفي األفق سحابات باهتة، وبالقرب من الحافـة

:وعجوز بداخله يرتق شباكه ويغني بأسى.. قارب صيد "واقعد فريح مركبك لحين ينعدل ريحك"

تعبر عن انكسار لكن صوته الحزين جعلها هالكلمات تعادي .القلب

خارج وجدت أن الجميع رحلوا أمي لما عدت من ال : قالت .حتى عمي الوحيد.. وأبي وخالتي

Page 64: 3154

٦٣

.اهللا يرحم الكل: قلت لها :لتنيأس.. سلطت عينيها الواسعتين على وجهي طويالً

أتريدني؟ :لم أرد فاسطردت.. أحسست بما يشبه المفاجأة .ليس أمامي اآلن غيرك

رحت أنظر لمياه النهر، ودارت في نفسي تفسيرات كثيرة .لموقف، فتأكد لي أنه من األفق أن ابتعدل

لمـاذا .. بعض الناس يحولون الماضي إلى حاضر : قالت أنت منهم؟

.لم أنس كل ما حدث: قلت هامسا .سأحاول أن أغير كل شي: قالت

:قلت مدهوشًا وبال يقين !! ستحبينني ألول مرة في حياتك- . ولم ال- ! ونبدأ من جديد؟-

".أتمنى أن أنجب ولدا: "ينيهاقالت برغبة لمعت في ع ".أو ما زلت قادرة؟: "سألتها

.نعم: قالت في شبه يقين

Page 65: 3154

٦٤

هززت رأسي مبتسما، وعرفت أن رغبة الحياة والتواصل .يدفعان للتمني

قلت يقتـرب . لفنا الصمت للحظة بعدها سألني عن دخلي من األلف فاتسعت عيناها انبهارا أو تكذيبا، لم أعرف، لكـن

:خواتيأ اتسعتا لثوان، بعدها استفسرت عن عينيهاالكبرى مات زوجها وأخي األصغر داهمه مرض وقضى " ".عليه

كانـا .. حزنت لموت أمك وأبيك :بان عليها األسى وقالت .طيبين

لماذا يرحل الناس هكذا بمنتهى السرعة؟: سألتها .هذا يجعلنا نفكر: قالت

فيم؟: أن نبدأ معا من جديد:

كمـا أقـرأ أحيانًـا، نفـس : قلت .. ضحكة خرجت مني . السريعة والنهايات الحزينةالبدايات

.أما أنا فقد قلت لك ما أريده.. اضحك ما شئت-رأيت أن هناك حدا فاصالً بـين السـماء .. نظرت بعيدا

.واألرض

Page 66: 3154

٦٥

..خيل إلى أن هناك دائما حد فاصلوقفت أمسح بعض تراب علق ببنطلوني فاتح اللون، فبدت

!سنمشي؟: قالت.. ير راغبة في االنصرافغ أتحبين أسماك الشتاء؟: قلت لها .أموت فيها: قالت

يمكنني أن أدعوك اآلن لنتناول غذاءنا سمكًا : قلت ضاحكًا .تعالى: ضحكت هي األخرى وقالت

.ووقفت تستعد معي للذهاب إلى هناك .تركنا النهر معا، تتأبطني كي ال أضيع منها

وروت لي أشياء كثيرة عـن .. كل بشراهة وهناك رحنا نأ .كنت فرحا ألنها تأكل بشراهة وتروى. نفسها

بطني وأحسست بالشبع، حاولت أن أتظـاهر ولما امتألت .بأنني ما زلت جائعا، كي ال تكف عن االلتهام

.مشينا في شوارع واسعة.. السماح طازج ولذيـذ، والسـالطة : "قالت ونحن نمشي

".والخبز ..اجهات المحالت، طلبت مني أن أتأمل معهاحين رأت و

Page 67: 3154

٦٦

كانت تقف مبهورة أمام القمصان الداخلية الحريمي التـي .وألوانها بديعة.. القمصان قصيرة جدا.. يعرضونها

لدي نفس القمصان، جئت بها مـن : التصقت بي وهمست .رحت أضحك.. الخارج ولم تكمل

ري؟ألم تعرف نساء غي: سألتني بشكل بدا لي مفاجًئا .ال: قلت لها وأنت؟: وسألتهالحظتها دارت في رأسي كـل الحكايـات التـي .. لم ترد أمسكتها من يدها، أحسسـت بطراوتهـا، .. ومشينا ..أعرفها

.ورأيت أنها بيضاء .تعالى نشرب كوكاكوال: قلت

.رحنا نشرب .كانت سعادة غامرة تتفجر منها وهي تشرب

أحبس نفسي داخـل أحب الدنيا الواسعة، وأكره أن : قالت .أي حيطان

Page 68: 3154

٦٧

ولماذا تحسبين نفسك؟: أرجو أن تعرف عنى وحدة امرأة تحاول .. إنني وحيدة :

وتأمـل .. أن تحافظ على شرفها، فتحبس نفسها عن قصـد .الزمن وهو يسرقها

.أنت تعذبين نفسك بهذه األفكار: كلما كبرنا ازداد هذا اإلحساس إيالمـا، .. بالعكس: قالت .اجة المرأة للرجلوازداد ح

:قالت.. اقتربت مني فأخذتها وابتعدناحـين التقينـا المـرة .. هذه المرة الثانية التي نلتقي فيها

خفت أن أقول .. ولم تكتمل، ففهمت، لكني لم أعلق .. األولىشيًئا يؤذي مشاعرها أو أتلعثم فتتهمني بعدم القـدرة علـى

أو هكـذا فهمها، وكان الوقت الذي قضـيناه معـا طـويال، :قلت لها.. أحسست

هل لديك وقتٌ آخر تقضينه معي؟ .ما بقى من عمري: قالت مازحة

وجدت نفسي في حيرة، أريد أن أمشي وأتركها، أو تمشي ..هي وتتركني

ماذا تفعلين لو فاجأنا أخوك اآلن؟: قلت بشكل مباغت

Page 69: 3154

٦٨

أتظن أنني أحتاج بعد هذا العمر وصاية أحد : قال ببساطة علي.

.ال: قلت .هو يعرف ذلك: قالت

فـي .. وراحت تلتصق بي، وتتعامل معي على أنها أنثى حتى أصبح من المؤكد أننـي ال أمهلـك يقينًـا . قمة أنوثتها .أو يقينًا بالالعودة.. بالعودة إليها

Page 70: 3154

٦٩

انتهاء المطرانتهاء المطرمنذ أن تركت زوجتي البيت وطفلتنـا، ورحلـت بعيـدا

صـع، وصـدرها بقميصها الوردي، وجسدها األبـيض النا البراح، وطابع الحسن، وعينيها الواسعتين التي لـم أعـرف

".لكنهما ساحرتان"لونهما حتى اآلن .منذ ذلك المساء البعيد، وأنا األب واألم والجدة والعجوز

.أغسل وأطبخ وأحكي الحكايات القديمة الشيقة .كي تنام وحيدتي في الليل نوما هادًئا

أنا حريص على أن تظل شـقتي ومنذ ذلك المساء البعيد و مهندمة رقيقة كما تركتها لنا لترى بنفسها عالما آخر، تصنعه

.برغبتها الوحشية :طويلة وشاقة، خاللها كنت أسأل نفسي.. سنوات طويلة

".هل كان علي فعالً أن أتزوج كما فعلت ؟"لكنني لم أفعل، واكتشفت في األيـام األخيـرة أن ابنتـي

!! تي السمراء التي تشـبهني تمامـا تحـب حبيبتي تحب، ابن .وجاءت بحبيبها يطلب مني يدها

.وخاصمتني عندما قلت أنه ال يملك ماالً وال سكنًا

Page 71: 3154

٧٠

قالت سيعيش معنا في شقتنا، بدالً من أن تحيا فيها وحدك تطل على ميدان فسيح، كيف تحيا فيهـا اتْحثالث غرف برِ

وحدك؟ .قلت امنحيني فرصة ألفكر في األمر

.ي أميل إلى الموافقةنكنت فرحا، ووجدتسأشتري لك بعض األشياء التي تجعلك : "في الصباح قلت ".أنثى رائعة في نظره

"ما هي؟: "قلت لها ذلك مازحا فقالت ".ستكون مفاجأة المساء: "قلت

.وخرجنا معا، هي للجامعة وأنا لوظيفتيفي الضحى أخذت إذنًا، ورحت أبحث لهـا عـن أشـياء

.علها أنيقة في نظر حبيبهاتجوبعد سير علي األقدام دام طويالً، أكثر من ثالث ساعات، كان علي أن أستريح، ووجدتني على مقربـة مـن ميـدان

.األوبرا القديمةكان الميدان مزدحما، وشمس يناير تمنحه دفًئـا جمـيالً، وعجوزان يجلسان وحدهما على مقعد خشبي متهالك، جلست

.ستريحإلى جانبهما أل

Page 72: 3154

٧١

ومرت لحظات، بعدها سمعت آذان العصر مـن جـامع .قريب

.. ووقفت أحد العجوزين، رأيت أنه قصير بشكل ظـاهر ".استأذنك حتى ال ينهرني الولد: "قال لزميله

".انتظر ألعدل لك الكرافتة: "تفحصه اآلخر وقالاقترب منه القصير، وبعد أن انتهى من ذلك، قال العجوز

:نه يعاتبهالقصير لآلخر كأ ".لماذا جعلتها بهذا الشكل الجميل؟"

:قلت للقصير.. وراح يفسدها فتدخلت بينهما ألنه أثارني "لماذا تشوه الربطة الجميلة؟"

".لتمشي مع أيامنا: "قال لي !".معقول ؟: "قلت مستغربا

نعم، إنني أحب ذلك، ليكون مظهري صـادقًا : "قال مؤكدا ".مع الواقع الذي أحياه

:بل أن ينصرف قال لآلخروق ".سأسرع قبل أن يستيقظ ولدي فيعلن كل من أنجبوني"

!!".ولده يلعنه : "وانصرف، فقلت لزميله دهشًا ".إنه في غاية األدب، فهو يلعنه فقط: "قال بأسى

Page 73: 3154

٧٢

!!".كيف ؟: "قلت ".إن ولدي يضربني: "قال

".أتمزح ؟: "لم أصدق فسألته ".أبدا واهللا: قال

:ي جلسته ليكون في مواجهتي، وراح يحكيثم اعتدل فرحلت زوجتي منذ عشر سنوات فتزوج ولـدنا وعـاش "

معي في الشقة، وهو اآلن يطلب مني اختيار أحد أمرين إمـا أن أترك له الشقة، أو أعطه كل معاشي وألنني لـم أوافقـه،

".راح يضربني ويطردني :قلت له مستغربا

! يطردك؟- مع صديق عمري، الذي رفض يريدني أن أعيش .. نعم -

.أن أعدل له الكرافتة وهل يمكن هذا؟- .هكذا قال صديقي.. ال، ألن ولده يرفضني بشدة- ! وماذا ستفعل؟- ال أعرف، إنني أقضي النهار ومعظم ساعات الليل هنا، -

.وال حيلة لي غير ذلك

Page 74: 3154

٧٣

. من المؤكد أن هناك حل- .يدي الحل أن أترك لهما الدنيا، وهذا ليس ب-

قال ذلك وحامت في عينيه دموع، تأملته فبدا لي عجـوزا متهالكًا، وكانت على مقربة منا صبية يعلو صوتها في فراغ

لكنه رفـض أن .. أشرت لها " كوال.. كوال.. بيبسي"الميدان .يشرب شيًئا

وأنا أشرب الكوكاكوال تذكرت أن ابنتي وحبيبها لم يكـن ت تعرف جيـدا أننـي ال أحد منهما يتصور أنني أفكر، كان

أرفض لها طلبا، وأنا أعرف أن رغباتها ال تقبـل التنـازل .عنها، تماما مثل أمها :قال.. كان العجوز وقورا

. إن الدنيا ال تساوي اآلن في نظري شيًئا- :وقال بأسى

!! بعد أن صرفت عليه وربيته، وجعلته رجالً، يضربني- .قلت ثمة شيء ما في األمر

.... : .ربما زوجته تحرضه عليك: قلت .ربما: قال

Page 75: 3154

٧٤

.اعطهما جزء من مالك: قلت .كنت سأفعل ذلك قبل أن يعتدي علي: قال

كانت الشـمس .. أخذت الزجاجة فارغة .. عادت الصبية كان في البدء .. حجبها غمام في األفق وسرعان ما نزل مطر

مضى كل منـا .. خفيفًا ثم راح يشتد، ووقفت ووقف العجوز .ال سبيلهإلى ح

كان العجوز .. ولما اشتد المطر احتميت بمدخل بيت قديم قد مضى، وكان في مدخل البيت فتاتان فـي عمـر ابنتـي،

.تنظران للمطر المنهمر وتمزحان ".يا مطره رخي رخي: "قالت واحدة

".على قرعة والدك: "فقاطعتها األخرىأخذتا تضحكان بصفاء، لكننـي سـرحت فـي حكايـة

ى حد البكاء، وتسرب داخلي خوف لم أعهده من العجوزين إل ..قبل

.وتصورت نفسي في الشارع بال مأوى .تمكن مني الخوف

Page 76: 3154

٧٥

كان المطر قد بدأت تخف حدته، وبدأ بعض الناس السير وهبت بـريح .. وقفزت البنتان بمرح بناتي صاخب .. ركضا .باردة

.أصبحت وحدي،وأصبح مدخل البيت القديم موحشًاطويالً قبل أن أنفلـت .. ر خلته طويالً ومضى وقت قصي

.إلى الطريق

Page 77: 3154

٧٦

فستان زفاف قديمفستان زفاف قديم .كما يحب طالب الجامعة فتاة في الثامنة عشرة، أحبني

.التقينا صدفة، وطرنا نحو النهركان مفتونًا بي، ويتحدث كثيرا عن مفاتني التي ال أعرفها

.وكنت أراه طويالً، يحاول أن يمسك السماءعرف عنه كل شيء، وشغلني التأكـد مـن في البداية لم أ

وبعد شـهور ذلـك الشـتاء .. صدق مشاعره نحوي شهورا كـان طيبـا .. البعيد، رحنا نتحدث عن أحالم األيام القادمة

.وحالما :تخرج من الجامعة، وراح يحلم

سأعمل محاسبا في بنك ثم مديرا له، أو في الماليـة ثـم " ".وزيرا لها

التجارة، ومات أبي، فرحت أبحث وحصلت أنا على دبلوم .أي عمل ألنفق على نفسي وأمي.. عن عمل

لم يجرؤ على االقتراب من شقتنا التي هي غرفة واحـدة، .ليطلبني من أمي، ألنه لم يجد عمالً في انتظاره يليق به

:وعلى شاطئ النهر قال لي "أريد أن أحيا حياتي وفق شروطي أنا، ال وفق الواقع"

Page 78: 3154

٧٧

.يد أن أحيا وفق المتاح دون انتظارأنا أر: قلت "حتى ولو كان المتاح ظالما؟ : " .حتى ولو :

".المتاح ضيع أناسا كثيرين: "صمت طويالً ثم قالوراحوا يؤجلـون حيـاتهم، .. ألنهم لم يفرحوا به : وقلت

.يؤجلونها حتى ماتوا دون أن تتحقق لهم ". نعودبنا: "أطرق وجهه نحو األرض في حزن هامسا

..عدنا.. .ومرت سنوات من العشق والالجدوى

وذات صباح هالتني شعرة بيضاء في مقدمة رأسي وأنـا نـا العمـر هكقلت أن .. أنظر في المرأة، قبل أن أنطلق لعملي

.الفائت ".يوم األحد القادم نقضيه معا: "في المساء قال لي

* * * رحنا نمشي في شوارع فسيحة، نحضن بأعيننـا النـاس

.والحوانيت .في الحديقة يلقي بجسده الطويل على األرض الخضراء

Page 79: 3154

٧٨

ولما يطول التأمل أنظـر .. وتحت شجرة خضراء يتأملني للشمس لحظة وداعها، وألسراب طيور تحلق في الجو، ثـم

.تهاجر بعيدافنظرت لعيال تلعب بسيوف خشـبية لعبـة " انظري: "قال .الحديقةالصخب العيالي كان أجمل ما في . الفرسان

.. وأمام بيتنا يودعني، وتظل المسافة بيني وبينـه تتسـع تتسع حتى يغيب، فيتأكد لي أن وحدتي في الغرفـة تـدفعني

.للجنون، وأن االنفراد بنفسي لم أعد أطيقه ..ومكرها غسل أطباق المطاعم.. حبيبي ولد فقيرا مثلي

وجاب شوارع مدينتنا مندوبا يبيع بضائع ال تساوي سعيه .الدائم ".أمشاط وصابون وآالت حاسبة"

".انتظريني: "وقال واثقًا من حبي :فقلت لكل زميالتي لماذا االنتظار؟: وسألتني صديقه

قلت لها من يعرف أن ذلك البائع المتجول خريج جامعة، .يلف طوال النهار ليصنع لنفسه زوجة وأوالدا

وِلم لم يبحث عن عمل يليق به؟: قالت

Page 80: 3154

٧٩

. مضت وهو يبحثسنوات: قلت .وماتت أمي وما زال لآلن يبحث.. مات أبي وهو يبحث

وفي كل ليلة أفرد طـولي علـى السـرير .. وأنا أنتظره .وأتمنى أن يأتي إلي، لكنه ينتظر أن تتعدل أحواله

أليس لديه سكنًا خاصا يليق بكما؟: تأملتنيإنه يعيش مع صديق أعزب مثلـه، يمتلـك عربـة : قلت

.ركه غرفته التي فوق سطح أحد البيوتمتهالكة يشا* * *

يأخذني بعيـدا عـن .. أحيانًا أتمنى لو يصبح حبيبي جنيا وأسكن جنـة .. فأعرف األسرار .. مشاكلنا، ويلف بي العالم

.وألبس مالبس ال تلبسها غيري من بنات حواء.. من صنعهويمارس معي العشق في الهواء، ممارسة جنية غير التي

.شر، بعدها أحمل، وأنجب ولدا جميالًيعرفها الب .وأصير أما كما أتمنى

* * * :قال.. جاءني يركبه الهم

دبلوم التجارة الذي معك اآلن كان له في الماضي شـأن، " ".أما أنت فتعملين بائعة أحذية

Page 81: 3154

٨٠

.إنني لم أتعلم شيًئا سوى أبجدية اللغة التي أتكلمها: قلت الواحد فيها يتعلم تعليمـا رحم اهللا األيام التي كان : "وقال

حقيقيا ولما يتخرج من المدرسة أو الجامعة يجد في انتظاره ".الحبيبة والوظيفة والمسكن المالئم

ما زالت تلك األيام تطاردك؟: سألته ..صرخ في وجهي فضحكت، لكنه لم يضحك

* * * غرفتي الكائنة في حارة ضيقة بالدور األرضـي، والتـي

.. بين أبي وأمي الفقيـرين حتـى ماتـا ولدت فيها، وعشت والكنبـات .. والمرتبـة المنبعجـة .. والسرير الخشبي القديم

والتراب الـذي اسـتقر علـى .. وكل سقط المتاع .. الثالثهذه األشياء هـي كـل ميراثـي .. الحيطان منذ فترة طويلة

.العائلي* * *

أن .. علينا أن نبدأ مـن اآلن : قلت له .. التقينا في الصباح .ذهب إلى المأذون، ونعقد القرانن

".إنها بداية غريبة: "ابتسم ابتسامة تنم عن الدهشة وهمس .لكنها الممكنة: قلت

Page 82: 3154

٨١

".كيف؟: "قالإنني أمتلك القدرة على إشاعة الفـرح : قلت في شبه يقين

:أخرجها بوجع ثم استطرد" آه"كنت أتمنى لو أنـا وأنـت فـي الـزمن البعيـد، فـي "

".الخمسينياتسرت في جسدي رعشة لذيذة، .. ذلك ثم اقترب مني قال

وأحسست بداخلي ظمأ أقوى من قدرتي على احتماله وبـدت .الرغبة في الدفء تشدني إليه

.وتمنيت أال يظهر جسدي على أحد غيره أال تريدني؟: قلت له بشكل بدا مفاجًئا

".بال مهر؟: "قال.. صمت طويالً .وفي غرفتي الضيقة.. بال شيء و: قلت

انفجر في الضحك بكل ما بداخله من فرح مؤجل .. ضحكألنه اكتشف بعد فوات األوان أن أحالمه المستحيلة، كانـت تبتلع لحظات العمر، لحظة وراء لحظة، حتى أوشك شـبابنا

.أن ينتهيكان ما يزال يختزن بداخله حزنًا على أحالمه التـي لـم

.تتحقق

Page 83: 3154

٨٢

.سنبدأ من اآلن صفحة جديدة: قلت له . رأسه فأحسست أنه قد وافقنيهز

.ذهبنا إلى المأذون الوحيد في شارعنا، وكان الجو حارا .في أول المساء استعرت من صديقتي فستان زفافها القديم

.وجاء هو .وركبنا عربة متهالكة، يقودها صديقه الذي يقطن معه

وعلى كوبري قصر النيل، وبين زحام الناس والليل وقفت .ونزلنا. العربة

كان النهر هادًئا، والناس يرقصـون، وصـديقنا يمسـك كاميرا رخيصة ويستعد اللتقاط صورا نادرة لنا، بينما حبيبي الذي عقد زواجه علي في بداية المساء راح يطوح رأسه إلى

رأيتـه ألول مـرة . الخلف، ويديه في الهواء، ويهز خصره ه عنـوة يرقص رقصا غريبا، يمنحني به فرحا حقيقيا، يأخذ

.من الليل والنهر والناسوالتف حولنا شباب، وعال الصخب، .. رحت أرقص معه

.وتوقفت عربات كانت مسرعةوارتفعت موسيقى راقصة من جهاز تسجيل يحمله أحـد

.الشباب

Page 84: 3154

٨٣

.وصديقنا يلتقط صورنا النادرة* * *

.في طريق العودة لعشنا كنت أنظر للسماء .كانت نجوم كثيرة متألقة

.تكتمل استدارتهوقمر أعـرف أن هـذا فرحـك : "وحبيبي يضمني لقلبه هامسا

".الخاص وأنت؟: قلت

بطيئة فـوق .. لم يرد ألن العربة المتهالكة تجري بطيئة ..الكوبري

Page 85: 3154

٨٤

دندنة في وضح النهاردندنة في وضح النهارشيء قابض للقلب حين يأتيني، يبدأ كطيـف أحسـه وال

.أراهيحتويني،.. يقترب.. يقترب.. لكنه يدخل علي

.ويصير في كل خالياي حزنًا غامضا غريبالكنـه .. ال أعرف سـببه .. غريب ألنني ال أعرف كنهه

.يحتوينيلحظتها استشعر خطرا ما، بشعا ومداهما، يصيبني بحالة من الشجن، تسلمني لوجع ممرور، يدفعني لغربة في البكاء،

..ويأتي البكاء وحده دون رغبة مني، فأجري إليها .طرق بابها بحذرأ.. أتردد

.يضربها.. أسمعه يسبها ..صرختها المكتومة، فينخلع قلبي.. وأسمع صرختها

.وأطرق الباب بال حذروتفتح ابنتي فآخذها في حضني، وأرى أثر أصابعه علـى

.ذراعيها البيضاوين، أصابع زرقاءوأرى عينها اليمنى تنزف دما، فأعرف أن الضرب كـان

.ضاريا

Page 86: 3154

٨٥

* * * .د الشارع الشحيح الضوء، وهما تحت بيتيأتذكر مشه

يجثو على ركبتيه، يمسك رأسها بيديه ويدق به األسفلت، :فيتورم الرأس الصغير الطري، وتعلو كلمات الرجال

. حرام عليك- . دعوني إنها زوجتي-

أجري على درج السلم، وأمام الرجال آخذها بين يـدي، .أساعدها على الصعود لشقتي

.أطرده العنًا كل من أنجبوهويصعد خلفنا ف* * *

أتحبينه يا ابنتي؟- كنت-

أعرف أنه كان لديها ولع مبكر بالرجال، وأنها صـرحت به ألمها، وأظن أنها كانت تخشى أن يفوتها قطـار الـزواج .رغم جمالها، ألنني موظف صغير، ال أملك ماالً أسترها به

...يااه .بكر بالنساءال أنكر أنني كنت أملك ذلك الولع الم

...ياااه

Page 87: 3154

٨٦

.يبدو أنها ورثت مني ذلك قلت لها مرة أخرى أتحبينه يا ابنتي؟

.وقالت مرة أخرى كنت* * *

.وبعد أيام يأتي ومعه رجال . الصلح خير- . ال- . خراب البيوت حرام--.........

أترك الرجال وأروح البنتي أكلمهـا، فأراهـا مرعوبـة . بقائها عنديفأخاف عليها منه، وأصر على .ويرجونني أال أخرب بيتها

ويأمرونه أن يقبل رأسي ورأسها ويعتذر، فينصاع ألمـر .الرجال، وتروح معهم لبيتها

* * * في الصباح أذهب على عملي، وفي المساء اتصل تليفونيا بزوجتي التي انفصلت عني لتتزوج رجالً آخر، ليس موظفًا

.صغيرا مثلي

Page 88: 3154

٨٧

لوحيدتنا، وأعتب ألنها هي التي رحت أحكي لها ما حدث .اختارت هذا الولد للبنت :وتدافع عن اختيارها

. كنا ال نملك ماالً نشارك به في زواجها- و.. وجاء هذا الولد بعربته وشقته و

:أصرخ أليس كذلك؟.. وبعنا هالة- . كنا ال نملك شيًئا-

قالت ذلك بقرف، وطلبت مني أن أطلقها، وأن أسـامحها .تيارها غير المحسوبعلى اخ

* * * في الصباح أذهب إلى البنت، أراها تفكر فـي االنتحـار

:فأحكي لها ما دار بيني وبين أمها، تفرح وتسألني وكيف؟.. متى-

:وأسألها هل هناك رجل آخر؟- . أبدا-

.وأفكر في األمر بيني وبين نفسي

Page 89: 3154

٨٨

ألن مكاتـب ؛لم أشأ أن أبوح ألحد من زمالئي في العمل حكومة أشبه بجلسات النساء، ال يتحدثون فـي السياسـة أو ال

الدين أو الفن، لكنهم دوما مشغولون بسير بعضهم الذاتيـة، لذلك أجد نفسي دائما مع نفسي، ولما تتعذر أموري أحـدث

:مطلقتي في التليفون خلسة، قلت لها كيف أطلقها منه؟-

:قالت أعرف أنه يضربها كثيرا؟- . نعم- .. حتى يحدث في جسدها أثرا ظاهرا انتظر-

.خذ هذا األثر واذهب به إلى النيابة واطلب الطالق .لم أشأ أن أعرف منها هذا

خرجت مني ضحكة ساخرة رغما عنـي، فقلـت كـأني :أعتذر لها

منذ سنوات كنا نتمنى أن يكون فـي شـقتنا تليفـون، - .تتصوري أنني أكلمك منه اآلن

. مبروك- .افقالتها باستخف

Page 90: 3154

٨٩

* * * الليلة عينها اليمنى تنزف دما، وأصابعه مرسـومة علـى

.يديها البيضاوين، زرقاء قاتمة وظاهرة* * *

قـال لـه .. أمام ضابط الشرطة اعترف أنـه يضـربها :الضابط

. ليس رجالً من يضرب امرأة- . إنني أحبها- .أنت ال تعرف الحب.. ال-

. لهمأشار.. قال ذلك بصوت مرتفع فتجمع رجال يضربونه بعنف حتى ظهرت أصـابعهم الغليظـة اراحو

تقيأ ما في جوفه وبـال .. علي وجهه وصدره، زرقاء دامية .على نفسه

أعتقد أن هذا يكفي لردعه؟-هكذا قال الضابط فهززت له رأسـي، وأخـذت ابنتـي

.وخرجت مسرعا* * *

Page 91: 3154

٩٠

شارعنا عن بيته مسافة قصيرة، لذا تراه ابنتي يمر مـن .وكنا في الصيف.. بيتنا ساعة غروب كل يومأمام

يرفع وجهه لها ويبتسم، فتولى هي وجهها ناحية الشـمس كان يرتدي قمصانا جديدة غالية، ويهـتم بمظهـره . الغاربة

.الذي كان رثًا ومشوشًا* * *

في األيام األولى كنت فرحا بوجودها في بيتي، أعود من ـ ا، ورتبـت الشـقة العمل أجدها أعدت األطعمة التي أحبه

وانتظرتني على الغذاء، فأنسى مالمح زمالئي فـي العمـل .وأنسى عملي ذاته الذي أمارسه يوميا على مكتب قديم

* * * .بعد األيام األولى جاء يوم كنت ال أتوقعه

.عدت إلى البيتكانت ابنتي في الحمام تستحم، عرفت ذلك مـن صـوت

.ل ينساب حول رقبتهاالمياه، بعد دقائق ظهرت بشعرها المبت .إنني جائع: قلت .انتظر حتى أمشط شعري: قالت

Page 92: 3154

٩١

ونحن نتناول الطعام لفت نظري أنها تضع ظالالً حـول عينيها، وكان ذلك ألول مرة منذ وجودها في بيتي، فرحـت

.أتطلع لبنت العشرينكان وجهها مستديرا وأنفها مثل أنف أمها دقيقًا، وعيناهـا

.بان عليها خجل.. لعينيها مأخوذًاواسعتان، أطلت النظر أتحب أن أعمل لك شايا؟: قالت .نعم: قلت

.في المطبخ كانت تدندن بصوت حلو مشحون بشوق* * *

في المساء جاء ومعه الرجال وكنت متشددا، لكنه اقتـرب :مني هامسا

"يا عمي جئتك وحدي في النهار ولم أجدك" .يرةفجأة راحت تزاحمني كل التفاصيل الصغ

!!دندنتها في المطبخ.. ظالل العينين.. االستحماموقبل أن أفسرها لنفسي سحبني أحدهم وانتحى بي جانبـا

.وقال بصوت خفيض أن ابنتي تفاهمت مع الولد واتفقا .أصابتني دهشة

.الصلح خير: قالوا

Page 93: 3154

٩٢

وقام الولد قبل رأسي، كان حليق الذقن ويرتدي قميصـا .ملونًا

* * * . تماماأصبحت وحدي

.وقبل أن ينتهي الليل اتصلت بمطلقتي . البنت عادت للولد- . دعها تمارس حياتها- ! وأنا؟--.........

Page 94: 3154

٩٣

....بطاطس وأشياء أخرىبطاطس وأشياء أخرىلم تكن تعرف على وجه التحديد، أسبابا للحظات الصمت الطويلة، والتجهم، وعدم القدرة على المداعبة التي كانت فعالً

.يوميا في حياتهالت في نفسها بعد أن تأملته تأمالً خاطفًا وهـو ينتعـل قا

".أبوه اهللا يرحمه كان شباب أكتر منه: "حذاءه القديممـد " خدي: "وقف ابنها الشاب، اعتدل في وقفته وقال لها

يده لها، ومدت يدها له، أخذت منه قطعة ورقية من النقـود، !".خمسين قرشا ؟: "قالت.. أمسكتها بحذر فقد كانت مهلهلة

".نعم: "قال "يا ضناي دي تعمل إيه؟: قالت

.نظيفًا" خضارا"كانت تريد أن تشتري ولو مرة واحدة وأال تنحني على كومة الخضر المعطوبة، وكـان سـيرد عليها بلهجة تشي بالمرارة كعادته، لكنه تردد، وأشـار إلـى

.حذائه البالي فهزت رأسها في أسى ".زمن والمتبقيش إنِت: "قال متعاتبا

.قالها وخرج مسرعا

Page 95: 3154

٩٤

نظرت للشارع الضيق، وجدت .. اقتربت من نافذة الحجرة ابنها ورجاالً آخرين، يسرعون، رفعت عينيها للسماء، لمحتها

.شاحبة .ابتعدت عن النافذة

.راحت ترتبها.. كانت الحجرة تسبح في فوضى .رتبت السرير القديم، ومالبس نوم ابنها، ومالبسها

غسلت المواعين، ثم أمسكت سلة مـن ..كنست األرض .البالستيك وخرجت

* * * وسط الشارع وتحت السماء التي تألقت فجأة راحت تؤكد لنفسها أنها أنثى، وأنها قادرة على السير وسـط الطريـق،

.وقادرة على حمل السلة المليئة بالخضر.. على تحمل المسئولية وإدارة شئون البيـت أيضاوقادرة .أي بيت .لم يتزوج بعد.. كرت أن ابنها شابوتذ

صحيح أن الحجرة التي يقيمان فيها معا ضيقة، لكنها من قبل تزوجت فيها وأنجبته، وعاشوا الثالثة ينظـرون منهـا

.للسماء الصافية

Page 96: 3154

٩٥

ينظـر للبيـوت .. يجلس جـوار النافـذة .. كان صغيرا المواجهة ويستذكر دروسه ولمـا حصـل علـى الشـهادة

: بها في الحكومة قال له والده مازحااإلعدادية، وعمل" إنت بقيت راجل، ودلوقت أقدر أمـوت وأنـا مطمـن " ..ومات

* * * .. وقفت.. تنبهت على صوت سائق سيارة، كان سيدهمها

تنهدت ألن أحدا لم يحذرها أو يلتفت إليها، وراحـت تنظـر العربات والسائرين ثم واصلت المسـير بجسـدها األبـيض

دا لها أن الحياة في هذه المدينة تـدفع النـاس الممتلئ، وقد ب تنهدت .. تجعلهم يفعلون أي شيء مهما كان غريبا .. للجنون

.مرة أخرى* * *

اشتد الحر وهي .. في السوق كان الحر شديدا وهي تنحني .في وضع القرفصاء ".يا وليه كفايه: "صرخ صبي فيها

انت مـش : "ردت وهي تبحث عن حبات الخضر السليمة ".بتاخد فلوس

Page 97: 3154

٩٦

".وهي دي فلوس ؟: "رد الصبي البائع ".وهو ده خضار؟: "قالت

.أصابه انفعال مفاجئ، ركلها بكل ما في قدميه من صبا .وقعت على ظهرها فتناثرت

علق .. رآها نصف عارية .. تأملها رجل كان على مقربة تجمع حولها .. لملمت نفسها المبعثرة وصرخت . عينيه عليها

نهـروا الصـبي، وعلـت .. نها على النهوض ساعد.. نسوة .كلمات

أصر الرجل أن تنتقي ما تريده، وظل واقفًا حتى انحنـت ..مرة أخرى تفرز السليمة من المعطوبة

".بكام الكيلو من الزبالة دي؟: "قال للصبي ".بربع تمن السليم: "رد الصبي بقرف

* * * كانت تبحث عن حبات سليمة في كومة نفايات الخضـر،

رأى في عينيها الرماديتين اسـتكانة، .. الرجل يقف يتأملها و .ابتسم، وظل يراقبها حتى أن شيئا جعلها ترفع بصرها إليه

.تأملته.. أحست أه يتأملها تأمالً دقيقًا ناعما

Page 98: 3154

٩٧

وهي تضع عينيها عليه لترى ذلك التحديق البطيء المبهم، .متألقة.. كانت السماء صافية

Page 99: 3154

٩٨

ثنائية األسى والمرحثنائية األسى والمرح .قالت ال أحب أن أراك في هذه الحال

ووقفت أمام المرآة تتأمل جسدها األنثـوي الرائـع فـي كبرياء وتغني، فأحدثت بغنائها وأنوثتها جوا مفعما بالـدفء، جعلني أرغب في االقتراب منها، لكنني ترددت فاسـتدارت

.استدارة خفيفة، وبدا لي أنها لمحت أثر دموع في عيني .قلت سأجلس قليالً في الفرانده.. اعادت تتأمل جسده

.كانت تغني، وكان صوتها يأتني رقيقًا هادًئاما زلت أذكر أنها فرحت كثيرا لحظة اكتشـافها أن ثمـة حديقة على بعد ناصيتين من شقتنا، كانت تفكر معي وتبحث

.وترى .لم يحدث أن كانت هناك مساحات أو مسافات بين كل منا

. معا، فلم يحدث أن ابتعدت عنيحتى ليالي القد عشناهاكانت تتأثر بنفس الدرجة، لكنها دائما قادرة على تجـاوز

.أي تأثر وأي حزنفي الفرانده راح يلفنا الصمت، لمحت في عينيها توهجـا

سألتها بشـكل .. غريبا يشي بالصدق والتجاوز والتحدي معا ".لماذا أنت فرحة كل هذا الفرح ؟: "بدا ساذجا

Page 100: 3154

٩٩

".ولماذا أنت حزين كل هذا الحزن؟: "دون أن تفكرقالت أال تعرفين؟- . يجب أن تتعلم كيف تتغلب على الفقد مثلي-

لم أرد فراحت تستطرد دون أن توجه لي حديثها، كأنـه :حديث شخصي، أو كأنها تقول لشخص ما غيري

".أنا أتعامل مع الحياة بفرح، هذا اتفاق بيني وبينها" !!".عقول ؟م: "قلت مستغربا

:قالت دائما هناك فجر يطلع، وفي الحديقة القريبة منا أصوات -

.عصافير لكني في المساء أحس الليل مطبقا على روحي فأكـاد - .أبكي . وأنا أرى القمر فأغني-

:قلت.. كانت عيناها تتألقان.. تأملتها أتمزحين؟- .أنت تعرف ذلك جيدا.. أبدا-

لروح وهذه القدرة الفائقـة علـى أعرف أنها تمتلك هذه ا الفرح الغامر، وأنه يجب أن يملك اإلنسان هذه القـدرة ولـو

Page 101: 3154

١٠٠

لبضعة أيام أو حتى ساعات، وأعرف أنها عاشت في نفـس المستوى المادي الذي عشته تقريبا، فقد كان والدها موظفًـا

عاشت . تربطه بوالدي صداقة حميمة .. في أحد بنوك القاهرة الخلق، وتخرجت من كلية التجارة مثلي، جوارنا في حي باب

وبعد أن تزوجنا سـافرت .. وقرأت نفس الكتب التي قرأتها ..معي

..لم تتركني وحدي حتى في اختياري لهذه الشقة ".نعم أعرف: "قلت

* * * كنت أطيل النظر لعيني أبي الواسعتين الحنونتين، وأحس

.. للحببجالء النبل على شفتيه وهو يعلمني أن أفتح قلبيولما أصبح ارتباطي به صادقًا وحقيقيـا " رشدي"أحببت

..تزوجناويوم أن ماتت أختي رأيت أبي يجثو على ركبتيـه أمـام جدتي، واضعا رأسه في حجرها، يبكي بصوت أحسست أنه

.محمل بكل انكسار القلب، وضاع الدنيا .قد ماتت وهي تضع مولودها األول" زينب"كانت

.أخذ يرقبها وهي تموت.. صدرهوضعها أبي على

Page 102: 3154

١٠١

.قالو إن الموت ال يخطئ .وقالوا إنه يومها

لكنه لم يصدق، وتمكن الحزن من قلبه، وظل في الفراش .لم يغادر غرفته

* * * الماضي الذي عشـته فـي : "قلت لها في صوت كالهمس

باب الخلق صبغني، جعلني ال أرى في الحياة غير مآسـيها، يه للبكاء وأرغب فيه، حتى أن مشـهد إلى الحد الذي أميل ف

".قط عجوز يحتضر يفجر الدموع من عيني بغزارة.. أتأثر كثيرا الحتضار قط عجوز لكـن أيضاوأنا : "قالت

".أال يفرحك ميالد قط صغير* * *

يوم أن مات أبي قمت مبكرة على غير عادتي، وخرجت جـه من بيتي في نيتي أن أزوره أوال وأقبل يد أمي ثـم أتو

.لعمليطلب منـي .. هناك وجدته ينتظرني ليموت على صدري

وأنا أفعل ذلك أمسـك يـدي . بالفعل أن أضعه على صدري ..وأراح نفسه حتى خرجت روحه

Page 103: 3154

١٠٢

ساعتها أصابتني دهشة غريبة، ورحت أبكي إلى حـد أن .البكاء أنهكني

* * * في الحياة، " سلوى"أصبحت أرفض وبشدة منطق زوجتي

لقـد .. أتعامل به مع نفسي وال مع اآلخرين وال أستطيع أن رأيت والدها يموت لمجرد أن ماتـت ابنتـه زينـب، كـان

.ارتباطه بها وصل إلى حد التوحدمن أيامها تأصل داخلي هذا المعنى، لدرجة أنني أحيانًـا استشعر الفقد قبل حدوثه، فأنا أذكر أنه في اليوم الذي ماتـت

من نـومي أغنـي مواويـل قمت " نوال"فيه أختها الصغيرة حزينة كنت أحفظها عن ظهر قلب، وكنت قد تعلمتهـا مـن

.عجوز غجري :قالت زوجتي

هذه الكلمات توجع القلب وال تتناسب مع إشراقة هـذا - .الصباح . إنني-: قلت

:قاطعتني ضاحكة .طبطب على كتاف الزمان خليه يروق -

Page 104: 3154

١٠٣

:اسألته.. تذكرت أنني أحيانا أشعر بالرغبة في الضحك

من قال هذا؟- . هذه بعض كلمات األغنيات القديمة-: قالت

وعادت تضحك من جديد فأصابتني برغبة مفاجئـة فـي الضحك، لكنني لم أضحك، ودلفت إلى فراندة شـقتي أطـل على الميدان، فتأكد لي أنه صباح عادي، وأن سـماء يوليـو

وم لكن الذي لم أجد له تفسيرا أن حزنًا شفيفًا راح يح "صافية .حولي، جاهدت أن أطرده بعيدا لم أستطع

".ردي على التليفون: "قلت لسلوى .كان جرس التليفون يمأل المكان زنينًا

* * * ".البد أنها أمي: "قلت لنفسي

لقد أصبحت أكثر لهفة علي بعد موت أختي زينب، وأكثر تأثرا بالفقد وإحساسا بالوحدة والخـوف بعـد مـوت أبـي،

.شدي في مصر الجديدة بعيدا عنهاوإقامتي مع رشقتك مريحة يا سلوى لكنـي ال أحبهـا : "تقول لي دائما

باب الخلق بيت العائلة ومـوطن " ألنها بعيدة عن باب الخلق أبـي . الذكريات، علقت أمي على جدرانه صور من رحلوا

Page 105: 3154

١٠٤

وزوزو أختي، هكذا كنا ندللها، وجدي وخالي الكبير وجدتي ..ألبي

الملونة واسـتبدلتها بمالبـس سـوداء، وخلعت مالبسها وأخذت تطيل النظر إلى صورهم وتنهنه، ولما يتعبها البكـاء

تتصل بي لتطمئن علي. كانت الغطاء الذي استدفئ به، والسـتر الـذي يسـترني ويداري عيوبي حتى أمام نفسي، وال أنام حتى أطمئن عليها،

لصـباح، وال أذهب إلى عملي إال بعد أن ألقي عليها تحيـة ا :وأدعو اهللا لها بالشفاء من مرضها

"أمي.. ألو" "أنا عصام زوج أختك نوال"

انتظريني في المطار في الثالثة بعد الظهـر : "قال عصام ".فأنا في الطريق

.كان صوته حزينًا عل غير عادته ".هذه إرادة اهللا"في المطار نظرت إليه مستفسرة

ي كانت تـرفض قالها عصام وابتعد عني، فتذكرت أن أم سفرها معه، بل كانت ضد زواجها منه أصالً، وأنا التي قلت

Page 106: 3154

١٠٥

.. البد أن تعيش نوال مع زوجها حتـى لـو تحـت األرض .وسافرت نوال من أجل خاطري

لم أسأل نفسي ماذا أفعل، وكان رشدي زوجـي معـي، وعزمت على أال أقول .. رحت أتصرف كما لو كنت مدربة

ة إال بعد الدفن، فقد خشيت من ألمي أن نوال ماتت في الغرب وعندما نزلت القبر، وكشفت الكفـن عـن . وقع الخبر عليها

وجهها األبيض الباهت، أدهشني أن رأيت مالمحهـا تنطـق بعتاب، وأحسست أنها ماتت وذلك العتاب األخوي يكسو كل

وتأكد لي أنه كان من الممكن أن أمنعها من السفر . مالمحهاوتذكرت على الفور أن المـوت .. للكنني لم أفع . مع عصام

ال يخطئ فبكيت وأنا أجاهد أال يكـون لبكـائي صـوت أو . دموع، أن يكون داخليا، ألظل أمام رشدي والناس متماسكة

سألني خالي الذي يسكن في نفس الحوش الذي بـه مقبـرة :العائلة أين أمك؟-

. ال تعرف-: قلتـ -: قال ن ال نقـدر إنها امرأة عاتية مثلك يا سلوى ونح .عليها

Page 107: 3154

١٠٦

وبعد أن أتم أختي الصغيرة نوال تركت خـالي والنـاس ..والمقابر، وذهبت مع زوجي إلى بيت أبي

في الطريق كان صامتًا حزينًا مثلي، قلت له بصوت خرج :بصعوبة من داخلي

. الفقد يباغتنا دوما- . هذا صحيح- . علينا أن نهرب منه- كيف؟- . نحاول-

يرتمي في حجر أمي ويقـول بصـوت وهناك فوجئت به وقفت أمي، سلطت عينيهـا ". نوال الصغيرة : "اختنق بالبكاء

وانـدفعت " ال، ال أصـدق : "قالت بصوت بدا غريبا .. علينا .خارج البيت

وفي الشارع كانت بجلباب بيت رخيص أسـود، حافيـة ظلت تجري أكثر من ساعة . القدمين وقد ذهب عنها المرض

كنا في الليل، وكنت منهكـة .. ة العائلة حتى وصلت إلى مقبر .القوى وقد تجمع بعض الناس ".البد أن أراها: "صرخت أمي في الليل

Page 108: 3154

١٠٧

.كانت حالتها سيئةفي البداية لم يرض أحد، لكن أمام حالتها السيئة المرعبة

:قال.. وافق رجل حكيم . بشرط أال تصرخي أو تبكي-

نزلت .. قبرةفتح الم .. وعدته أمي، فذهب وأحضر الحفار ..أمي

لحظتها استبد بها .. قبلته.. انحنت وكشفت عن وجه ابنتها الفزع، لكنها نظرت إلى الجثة وجاهدت أن تحبس دموعهـا وقهرها الهائل داخلها، ثم خرجت من المقبرة مسحت أمـي المكان بعينين عميقتين فيهما شيء مبهم كالموت، وانسـحبت

تطلب من أحـد أن عادت على قدميها دون أن .. في صمت .. صـعدت السـلم . يقترب منها، لكنني ورشدي كنا نتبعهـا

. ومكثت في حالـة تيـه .. نامت في فراشها .. دخلت غرفتها عادة ال أحب أن أتذكر الماضي كثيرا، ولست ممن يعيشـون في ماضيهم، وأمل إلى أن أعيش يومي بل لحظتـي فقـط،

وكـم وأحب الرقص والغنـاء، .. وأهرب من مناطق الحزن تمنيت أن أكون راقصة مثل فريدة فهمي، أعبر عن فرحتـي

Page 109: 3154

١٠٨

وتعلمت العزف على األورج في مدرسـة .. بالحياة بالرقص .البهية اإلعدادية

وأستطيع أن أقول أنني كنت أعزف بشكل جيد في حفالت وتقول إحـدى صـديقاتي .. وأرقص في رحالتها .. الجامعة

.وسامةالقصيرات أن قامتي الفارعة تجعلني أكثر ورشدي زوجي يعيش في ماضيه، ال يريد التخلص منه، وال ينسى كل ما جرى فيه، وأحب األحياء إلى قلبـه بـاب

وأحب األصدقاء .. الحواري الجوامع المقاهي الناس .. الخلق .أصدقاء دراسته

وقد حدث في األيام الفائتة أنني كنت أنتظـره فـي أول األوساط الفنية كثيرا، المساء، لنشاهد معا تحدثت عن روعته

ظللـت أنتظـره . قالوا أنه رسالة حب عظيمة للحياة والناس حتى منتصف الليل، لكنه وقت طلوع الفجر عاد، ولم يكـن غريبا على ذلك، فأنا أعرف جيدا أن روحه ما زالت معلقـة هناك بجدران البيت القديم ومقهى الحاج إبراهيم وأصـدقائه

لكن الغريب أن يجلس في .. ن الدنيا األربعة الذين طلع بهم م أرق .. الفراندة يفكر حتى تمأل الشمس سماء مصر الجديـدة

.واهتمام ال حد له

Page 110: 3154

١٠٩

وقع واحـد مـن أصـدقائي فـي : "اقتربت منه فبادرني ".ورطة وما ذنبك؟:

أفكـر لـه فـي حـل : "قال كمن يريد أن ينهي الحوار ".لمشكلته

.تركته وحدهقال دون أن .. نشرح الصدر في الظهيرة رجع من عمله م

:أسأله ".لقد وفقني اهللا لحل مشكلته"

وراح يتحرك في الشقة بشكل صبياني مرح، فقفزت على ما رأيك في الذهاب إلـى : "لساني إحدى رغباتي القديمة قلت

".الحديقة المجاورة غداوفـي الحديقـة .. أطال النظر إلى ثم هز رأسه بالموافقة

التي ال تكف عن الحركة والغنـاء، كنت أقف أمام العصافير يملؤني اإلحساس أن ثمة شيء مشترك بيني وبينها في فهـم

.الحياةفي المساء تسلل ولدي من غرفته وألقـى ببدنـه القليـل البسيط في حضني ونام، لكني لم أنم، فقد راحت تزاحمنـي

Page 111: 3154

١١٠

بعض ذكريات علقت بذاكرتي من طفولتي وصباي وشبابي، قه بل ارتباطه الجنوني بي وبولـدنا، وعالقتي برشدي، وعش

هذا العشق الذي أتصور أنني ال أستطيع أن أحيا بدونه، فهو احتياج إنساني بالدرجة األولى، عرفته منذ نعومة أظـافري، ويمكنني أن أقسم أنه ليست في طفولتي ذكريات أحلى مـن تعلقه بي، وصعوده السلم المتآكل خلفـي، وانتظـاري كـل

وزينـب .. ا حتى مدرسة أبي بكر الصديق صباح لنسير معووالـدي .. أختي تنظر إلينا من خلف نافذة غرفتها الضـيقة

يقف على مقربة منها يربت على كتفها، فتدير رأسها له فيقبل .جبهتها السمراء فأضحك في سري وأواصل المسير

".المالك األسمر زوزو" هكذا كان يحلو لوالدي أن يناديها، ولم يغمض لـه جفـن

ويطمئن وينام إال بعد أن يقلبها في جبهتهـا ويراهـا وهـي تبتسم، حتى بعد أن تزوجت كان يذهب إليهـا فـي مصـر

لم تكن قـادرة علـى مواصـلة .. القديمة ليراها وهي تبتسم ولمـا ماتـت وضـاعت . الدراسة لكنها قادرة على االبتسام

ابتسامتها، ضاعت من حياته البهجـة، وأوصـى أن يـدفن .فراحت أمي تجلس على قبرهما تهذي... ماتو. جوارها

Page 112: 3154

١١١

وعند كل مساء تغلق باب غرفتها وتتأمل صورا سـوداء .علقتها على الحيطان وتبكي

تذكرت أن الفقد كان يصيبني دائما بالشجن، فسألت نفسي لماذا ينسحب اإلنسان من الحياة بهذه الطريقة؟ فيحبس نفسـه

أجد إجابة لسؤالي، ولم.. مع من رحلوا ويتمنى أن يلحق بهم .. لكن في صباح أحد األيام أعلن األطباء حيرتهم إزاء حالتها

تركت شقتي وعشت معهـا .. كنت أعايشها في هذه المرحلة .ليل نهار

وكان يأتيني بكاؤها فـي الليـل، .. أعطيها دواء، أرقبها صوت لم أسمعه من قبل، صوت الحزن الحقيقـي العميـق،

.بكيتو.. كأنه ينفجر من القلبكانت هي المرة األولى التي أبكي فيها بصدق، ال لبكائها المر الموجع، وال لرحيل زوجهـا وزوزو ونـوال، لكنهـا لحزنها وعزلتها، ولهذه الطريقـة المخيفـة التـي اتبعوهـا ومارسوها جميعا في حياتهم، أبـي وهـي وحتـى رشـدي

..زوجي ..وهذا األسلوب الذي ال أفهمه وال أستطيع أن ألبيه

".آه لو يعرفون أن الحياة عابرة: "همست لنفسي

Page 113: 3154

١١٢

أول ما خطر ببالي لحظة خروجي من عملـي أن أزور وبالفعل ذهبت إلى هناك، كانت تضع صورا " نينه أم سلوى "

كبيرة على الحائط لتستطيع أن تراهم وهـي فـي السـرير، . أن تكلمهمأيضاولتستطيع

ا لو كنت أراهـا اقتربت منها، جلست، أمامها، تأملتها كم أصابتني رؤيتها بغم مفاجئ لـم أتوقعـه، هـي .. ألول مرة

لكني لم أتصـور .. بالفعل تغيرت كثيرا في السنوات األخيرة أنها وصلت إلى هذا الحد، كما لو كانت أحزانها أكلتهـا دون أن تترك لها شيًئا سوى عينين غائرتين منطفئتـين، ووجـه

هكـذا .. مومياء. جسدها ذابل مليء بالتجاعيد ضامر كباقي ولـو أنـي ال أعـرف .. أصبحت، وهكذا فعلت بها أحزانها

عمرها الحقيقي لظننت أنها تجاوزت المائة عام، لكنها فـي وقد أحسست أنها .. أعرف جيدا أنها في الخمسين .. الخمسين

.ال تحزن فقط، بل تتوغل في الحزنوكانت سلوى قد عادت إلى مصر الجديدة ومعهـا الولـد

ساعتها " أن أمها تحاول أن تودعنا "وقالت لي بسخرية مريرة لم أصدق، لكن يمكنني اآلن أن أقول لسلوى أن أمها ودعتنا

..بالفعل لتذهب إلى عالم هي تحبه وتتمناه

Page 114: 3154

١١٣

.وإلى أناس هي تريد أن تحيا بينهم .ال أملك أن تحيا بينهم: "قالت نينه

".وال الصحة: "صمتت قليالً وأضافت ".أنت تدعين المرض: "لت لها مداعباوحين قال أظن أنني مريضة بمرض يمكن شفاؤها علـى : "قالت

أيدي أطباء وبأدوية وحقن، لكن مرضي أنا أعـرف شـفاءه ".جيدا

عدت أنظر إليها، تراءت لي بوضوح حياتنا الجافة التـي .. وأحزاني التي يمكـن أن تـأكلني مثلهـا .. نصنعها بأيدينا

.. خفتولسـت .. ي للعودة لمصر الجديدة كنت أسرع وفي طريق

أدري ماذا حدث داخلي، لكن وعيا جديدا بما تفعلـه سـلوى راح يتولد ويتشكل ويتضـح أمـامي، أكـاد أراه وأعرفـه،

لقـد .. ضحكت من قلبي بصوت خرج مني عاليـا .. وأحبه .بدأت سلوى تزرع في نفسي الرغبة في المرح

* * * مالمحه السمراء الحلـوة، عندما يضحك رشدي تتألق كل

لكنه لم يضحك دوما، فقد كانت لديه دائمـا تلـك اللحظـات

Page 115: 3154

١١٤

واأليام المتخمة باألسى، والتي امتألت روحه بهـا فجعلنـي وقررت بالفعـل الـذهاب إلـى إحـدى .. أفكر في الهرب

أخذت ولـدي فـي يـدي .. صديقاتي المرحات، للحياة معها فع الولـد داخلهـا ونحن أمام باب الحديقـة انـد .. وخرجت

:فاندفعت خلفه، ولما أمسكته قال كأنه يعتذر ".سامحيني يا أمي، أريد أن ألعب هنا قليالً"

كانت مجموعة من األطفال على مقربة منـا، يصـنعون .وقف ولدي مترددا فجذبه طفل من يدي.. دائرة ويرقصون

وأنا أنظر إليهم كان جسدي يهتز بنشوة هادئة، وشـفتاي وفـي لحظـة بالغـة .. لى اتساعهما بمتعة هائلة تنفرجان ع

القصر لمحت السماء صافية، وأشجار الحديقة تتمايل، ومرح .وطفلي يرقص بمهارة.. األطفال يعلو وغناء العصافير

.كدت أطير في الهواء.. رحت أرقص مثلهم

Page 116: 3154

١١٥

::المؤلفالمؤلف علي عبد الفتاح عيد

.مواليد قرية محلة مرحوم مركز طنطا غريبة - . باتحاد كتاب مصرعضو عامل -

تنشر قصصه في جرائد ومجـالت مصـر والعـالم - .العربي

.عضو عامل بنادي القصة -

:للمؤلفالمركـز . ١٩٨٥ مجموعة قصص –زمن الفيضان -

.القومي للفنون واآلداب الهيئة المصـرية ١٩٨٨أبناء النهر مجموعة قصص -

.العامة للكتاب

هيئـة ١٩٩٣ مجموعة قصص –حلم السكك البعيدة - . أصوات–ور الثقافة قص

الهيئـة – ١٩٩٩ روايـة –أيام األسـى والمـرح - .المصرية العامة للكتاب

Page 117: 3154

١١٦

الهيئة المصرية – ٢٠٠٠ مسرحية –عيال في الليل - .العامة للكتاب

آفاق " هيئة قصور الثقافة – ١٩٩٩ مسرحية –السقف - ".المسرح

. اتحاد الكتاب٢٠٠١ رواية –حصان الليل -