3205

Post on 21-Jun-2015

369 Views

Category:

Education

39 Downloads

Preview:

Click to see full reader

TRANSCRIPT

מ

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

تعودت عمري دخـول المكـان ووعـت أعمـاقي تضاريسه، أدخله متهيبا بحب يغمر قلبي وقداسة تشع بينـي

يتهامس وقع خطواتي مع أرض . وبين أبوابه العالية العريقة أدخلـه وحـدي . مدخله في تناغم شفاف يفيض رقة وحنانا

صديق عـالم أو أصـدقاء فنـانين، أحيانا، وأحيانا بصحبة أو بصحبة رفاق القلم والورق، فليس بالمكان مكـان لمعـدة

. أو نصف سفلي إلنسانمعمار أبوابه ونوافذه وغرفه وطرقاتـه مزخـرف بإحساس طفل ولد مـرة برومـا ومـرة باألنـدلس ومـرة

ومن تجتاز قدماه خطوة في هذا المبنـى العتيـق .. باألقصرف روحه وال يشعر أنه آدمي ذو جسد يأكل يغلله الصفاء فتش

. ويعاشر وينام ثم يموتالمكان مطهر من أدران العالم السفلي، ال يجرؤ على

مضت سنواتي . االقتراب منه صاحب جسد أو صاحب موت بأكملها وأنا عاجز عن اإلتيان بكلمة من قاموس لغتي أصف

مرسـم .. أهـو فنـدق عتيـق . بها هذا المبنى األسطوري أثـر بشـري .. ناد لألدباء .. بيت من بيوت العبادة .. نانينللف

أم هو الفناء في صورة وجود كائن يخترق أشعة العين . مخلد !في تحد أصيل؟

وكانت األضواء خافتـة، اقتربـت مـن .. كان الليل كان معنـا كاتـب . الباب الكبير وبصحبتي الدكتور جوزيف

ان حولنا صحافي وروائي معاصر ذائع الصيت، عند الباب ر صمت الخشوع، دخلنا بإحساس من يدخل محراب حب يتعبد

لم تكن وجهتنا محددة تماما، فقط نجتاز البـاب . في سراديبه !فتغمرنا السعادة

تكثـف . فجأة وجدت نفسي وحيدا أحملق في ذهـول بكل ما أملك . الصمت من حولي واخترق أذني بقسوة شديدة

الغرف ولـم جبت مئات . من وعي رحت أبحث عن رفاقي تصبب العرق على جبيني وتالحقـت أنفاسـي . أعثر عليهم

انتابني نوع عجيب . وتتابعت ضربات قلبي من شدة اإلجهاد من الخوف إذ كان ممتزجا بشيء من االطمئنان غير المبرر،

. وحين عجزت قدماي عن حملي توجهت إلى إحدى الغـرف لـى خلعت بدلتي وارتديت مالبس نوم نظيفة كانت معلقة ع

ارتميت على فراش وجدته مجهزا للنـوم، غفـوت . مشجبساعة أو بعض ساعة ثم صـحوت ألعـاود البحـث عـن

. أصدقائي، فلم يكن أمامي إال أن أبحث عنهمهـا مخصصـة أناقتربت من قاعة كبرى كنت أعلم

لالجتماعات، فتحت الباب بهدوء فوجدت عشـرات النـاس يقول كالما مبهما يتهامسون على إيقاع ثابت وأمامهم خطيب

نظروا إلـي باحتقـار مـؤلم، لـم . لم أفهم منه حرفا واحدا امتزجت نظراتهم المستنكرة لوجـودي بمـا يشـبه . أتراجع

الخوف منه، تشبثت قدماي باألرض فتوقفوا عـن الهمـس أمعنت النظر في وجوههم التي . وتوقف الخطيب عن الكالم

ـ دا مـن بدت لي غريبة المالمح، وكـأنني أرى نوعـا جدي . المخلوقات أتى به تطور الكائنات ألول مرة

الخوف بأشاحوا بوجوههم عني وقد امتزج االستنكار شعرت أنني الغريب عن المكان وليسوا هم . بالحقد بالغضب

الدخالء عليه، كانت مالبسهم تفتقر إلى الذوق السليم وكانـت لكن إحساسا مشتركا لديهم بملكيـة . رائحة القاعة غير طيبة

المكان كان واضحا من طريقة جلوسهم وتهامسهم، كما كان . حا على مالمح وجوههم الغريبةاضو

تمنيت العثور على الدكتور جوزيف ليـدلني بعلمـه فإن كنت أنا الغريب وجب علـي .. وفنه أهم الغرباء أم أنا؟

االنسحاب معه ألنني أنتمي إلى عالمه وهو ينتمي إلى عالمي كم كان مهمـا أن يتواجـد . ى عالم واحد وعالمانا ينتميان إل

معي الصديق الصحافي ليسجل في فرصـة سـبق عظيمـة بعضا من معالم هذا العالم الغامض المجهول الـذي سـيطر أصحابه على قاعة االجتماعات فغمروها برائحة غير طيبة، .أما صديقنا الروائي فقد ضاعت منه فرصة تأمل ال تعوض

لعلهم استنكروا . حائرا أغلقت الباب، وقفت من خلفه شككت . تطفلي عليهم بهذا المنظر المتخلف في مالبس النوم

في هذا ألنني حين عدت إلى الغرفة التي غفوت بها لم أجـد رى ذات ألوان متشابهة معلقـة خبدلتي، وإنما وجدت حلال أ

. في نفس المكان، بحثت عنها في غرف أخرى فلم أجدها لي اسـتحالة العثـور انتابني ذعر حقيقي حين تبين

. بدأت أجري في الطرقات بال هـدف . على الرفاق أو البدلة اتجهت . لم أجد أثرا لطعام في أي مكان . شعرت بجوع شديد

إلى الدور السفلي باحثا عن موظف االستقبال استند به مـن ومـن . فزعي ومن الوجوه الغريبة التي سيطرت على القاعة

صدقاء الذين اختفوا، والبدلة واأل.. الجوع الذي أصابني فجأة . التي فقدت

ابتسمت لي فكشفت . وجدت مكانه فتاة رائعة الجمال قالت سـأذهب . عن أسنان طويلة مدببة اقشعر لرؤيتها بدني

. بنفسي معك لنبحث أوال عن البدلةال إصعدت إلى الدور الثالث الذي لم أرتده من قبـل

. اصطحبتني إلى غرفة صغيرة. قليال . لي بدلة من داخل صوان كبيرانتقت

أليست هذه بدلتك؟ . ـ تفضل !!ـ إنها هي فعال

استأذنتها ألنفرد بنفسي فأخلع البيجاما وأرتدي البدلة، : قالت بثقة

ـ ال عليك، غير مالبسـك وسـأغير أنـا أيضـا .. مالبسي

لم تعرني التفاتا وبدأت تخلع مالبسها حتى صـارت سي في ركن بعيد، بدأت ترتدي عارية تماما، انكمشت على نف

بدلة وكان شكي في محله، لم تكن لبدأت أجرب ا . مالبس نوم بدلتي، كانت ضيقة تماما رغـم تطـابق القمـاش واللـون

اكتشفت هذا بعد أن انصرفت الفتاة ولم يعد لهـا . والتفصيل . أثر

تركت البدلة والبيجاما وخرجت من الغرفـة أبحـث رفعتـه وأدرت . اديو صغير تعثرت قدمي في جهاز ر . عنها

: مفتاحه ألسمع صوتا صارم النبرات يقول بلهجة آمرة قاطعةـ أستاذ سمير صادق، عليك بمغادرة المبنى فـورا

. قبل وصول الضيوف األجانبصعقت حين سمعت اسمي يتردد في الجهـاز أدرت

: سمعت نفس الصوت يقول. المفتاح إلى محطة أخرى ..غادر المكان كما أنت .. عن أي شيء ـ ال تبحث !بمالبسك الداخلية فقط

.. أدرت مفتاح المحطات مرة ثانية بأصابع مرتعشة.. ـ لو تماطلت في الخروج ستجد نفسـك عاريـا

. حولأدرت مفتاح التحويل وقـد . تبينت أنه جهاز السلكي

: قلت بثقة. جعلني الغضب أتمالك نفسيللموسيقى، ـ أنا سمير صادق، أستاذ بالمعهد العالي

.. لف كتاب فيأقرأت

حدثت شوشرة مفاجئة بالجهاز حين مسـني بتيـار ألقيت به على األرض وعدوت مسرعا إلى . كهربائي عنيف

توقفت في منتصف الطريق حين تـذكرت أن . الدور السفلي هناك مخلوقات بشرية غريبة ما زالت كائنة بالدور العلـوي

ال لكي أذوب معهـم من نفس المبنى، فكرت بالرجوع إليهم بل لكي أطردهم بأية وسيلة فأعيد إلـى . في همهماتهم الغبية

ن أيلكنني واحد رغم كوني حقيقيا، ف . المكان طهره وقداسته ذهب الدكتور جوزيف والكاتب الصحفي والكاتب الروائـي،

!ولماذا تركاني وحدي؟توقفت مكاني ثم جلست منكمشا، فقد تسربت البرودة

: العاري، حين فوجئت بالفتاة تقف أماميإلى جسدي شبه . ـ أبشر فقد وجدت بدلتك الحقيقية

ـ وأين هي؟ . ـ بالقاعة

ـ أيمكن أن تتفضلي بإحضارها لي؟ . ـ بل ينبغي أن تدخل القاعة وتحضر االجتماع أوال

.. ـ كيف هذا والجهاز يقول

ـ ما سمعته صحيح لكن لو أطعتنـي فلـن تكـون . جد مالبسكمعرضا للطرد وست

اقتربت مني الفتاة تحثني على الصعود، شـعرت أن لت عـدوي إلـى الـدور اصحياتي قاربت على االنتهاء، و

السفلي، وجدت الباب الكبير مفتوحا، اندفعت إلـى الخـارج بال وعي، لم أكد أستعيد أنفاسي حتى حدث زلزال مروع أتى

ولي على المبنى بمن فيه فأصبح كومة من التراب، نظرت ح في ذهول فوجدت أصدقائي وقد غمرتهم األتربة بعيدا عـن

كانوا مثلي ذاهلين، قـال الـدكتور . دائرة الزلزال المحدودة : بحنان شديد

.. لقد كنا طوال الوقت نبحث عنـك .. ـ أين كنت؟ . وعن بعضنا البعض

لم يكن هناك مبرر لمزيد من دهشة تنتابني بعـد أن : سألت دكتور جوزيف.. دمر المبنى الحبيب أمام عيني

ـ ما هذا الذي حدث؟ انبعثت من حولنا ضحكات مجلجلة وقهقهات ساخرة، كانوا ثالثة رجال غرباء يرتدون قبعـات، واحـدة بيضـاء

ظلوا يضحكون زمنا طويال . واألخرى زرقاء والثالثة حمراء

وعاودت سؤالي للـدكتور .. وهم ينظرون إلى المبنى المنهار : حكاتهم االستفزازيةجوزيف متجاهال ض

ـ ما هذا الذي حدث؟ : قال بابتسامة حزينة وعيناه تذرفان الحسرة

.ـ ما حدث كان ال بد أن يحدث

وا قصتي لي رجـاء، ء قبل أن تقر ..سيداتي، سادتي

هو أال تأبهوا بالمقاييس المنضبطة التي بثها النقاد في عقولكم لقراءة وال يشغلنكم التفكير في استمروا في ا .. عبر السنوات

التناقض الذي سيبرز بين واقعية القصة بمواقفها الثالثة وبين استحالة تواجدي مع الرجال الثالثة في آن واحد، وذريعتـي التي أرفعها أمامكم من اآلن هي أنني حقيقة كنت معهم فـي

أما كيف كان ذلك فهذا ما . وحقيقة لم أكن معهم . نفس الوقت فه وال أريد أن أعرفه، ولست أريد ألحد مـنكم أن لست أعر

يفكر اآلن في معرفته حتى تشـوقه القصـة فيقرؤهـا إلـى . ولي في النهاية وقفة معكم كي نناقش هذه المسألة.. آخرها

* * *

: محمد أفندي أبو دومةرأيته حامال بطيخته، عائدا لتوه من الـديوان، يبلـل

يتساقط من جبينه علـى .العرق شعر رأسه، يسيل من فوديه عينيه، لم تكن بيده اليسرى جريدة يومية، لـم يكـن البسـا

. لم تكن حلته متسخة أو بالية. لم يكن سمينا مترهال. نظارة

الشمس كانت تصب جحيمها على األرض، الحرص والتجهم كانا يؤكدان لي وأنا أنظر إلى وجهه أنني أمام محمد

ندي أبو دومة وليس أحـد محمد أف . أفندي أبو دومة الموظف عيناه ترقبان اتجاهات الطريق األربعة، لن يعبر قبـل . غيره

ـ . أن يشير عسكري المرور إلى المارة أن يعبـروا ىأعط. محمد مترددا لفترة والناس يعبرون يبق. العسكري اإلشارة

اصطدم بجسـد كـان . بدا عليه االرتباك حين حاول التحرك تجاوز هلعه الشديد وهـدأت . يجاوره وكادت البطيخة أن تقع

ضربات قلبه حين تأكد أنها لم تقع وأنها ما زالت بعـد بـين يديه، الرجل الذي اصطدم به لم يعتذر بـل عبـر الطريـق

. وابتعد عنه كثيرا ثم اختفى، صـفارة العسـكري تجلجـل سـيل . لـى أعلـى إيد العسكري تنتصب .. اإلشارة حمراء

الناس أيضـا . ون انتظار العربات المجنون يبدأ في التدفق د والجـبن .. يريدون أن يوقعوا بطيخته . كثيرون، كثيرون جدا

.. القديم ال يؤكل مع األوالد الخمسـة وأمهـم إال بـالبطيخ والالمعقول أن تشم رائحة األدام بالشقة كل يوم، لن يسـمح ألحد من هؤالء الناس أن يخطف بطيخته أو أن يتسبب فـي

ي المتقن الـذي وضـعته الزوجـة وقوعها منه، النظام المال

المدبرة ال يسمح بأكثر من طبخة لحم كل أسبوعين وتـدخين .نصف علبة سجائر صغيرة كل يوم

هذه العمارة الشاهقة تدر ظال جميال، توقف محمـد فتح علبة سـجائره . أراح يده من البطيخة . أفندي أمام عتبتها

. علبةأخرجها من ال . فكر في إشعال سيجارة . وأحصاها عددا خالل البحث لم يكن . بحث عن الكبريت في جيب آخر وآخر

يفكر في صاحب العمارة مع أنه يعرف اسمه ويعرف مهنته لم يكن يفكر في كيفية حصوله على الفـائض مـن . الحقيقية

سقطت مـن جيبـه . المال الذي يبني به اآلن عمارته الثالثة ، ولمـا التقطها بسـرعة . ورقة بالية من فئة العشرة القروش

وجد الكبريت أعاد السيجارة إلى العلبة وأعاد الكبريت إلـى كان على يقين . نفس الجيب، ثم حمل بطيخته وواصل السير

من أن القوة المغناطيسية الجبارة التي تشده صباح كل يـوم من فراشه ـ الذي قليال بالليل ما يئز ـ إلى مكتبه بالديوان،

وم من مكتبـه بالـديوان هي ذات القوة التي تشده ظهر كل ي . يتوقعونها. لتقذف به وسط ستة آدميين ينظرون عودته إليهم

يطمئنون إلى أنها مسألة ال تحتـاج إلـى . يثقون في حدوثها في تالفيف أمخاخهم يرسمون للمستقبل صورا . وقفة أو تأمل

. بعضها رمـادي . عديدة بعضها ملون، بعضها أبيض وأسود . القبعضها بغير مالمح على اإلط

راعه أن يكون أسيرا لتلك القوى اليقينية، فهو يذهب بالفعل ليعود، ويعود كل يوم ليذهب في اليوم التالي، والنظام

السجائر يجب بةالمالي الصارم، والمكتب قابع بالديوان، وعل أن تبقى ليومين، وال يمكن الدخول في تالفيف األمخاخ الستة

إبداء الرأي فيها بحكـم إللقاء نظرة على ما بها من صور و الخبرة والمعرفة وتكرار الذهاب والعودة من مكان ثابت إلى

. مكان ثابت آخر منذ آالف األيام. راعه أن يكون أسيرا لتلك القوى اليقينيـة الواثقـة

كان قد قطع بها أكثر مـن ثلثـي . ألقى بنظره على البطيخة االختبـار . المسافة إلى بيته بعد أن دفع تسعين قرشا ثمنا لها

قرر محمد أفندي أبو دومـة . اآلن صعب، لكن العقاب حق بعـد . معاقبة تلك القوى باإلفالت من حصارها كخطوة أولى

اتخاذ القرار وقبل التفكير في كيفية تنفيذه فكر فيما يسـمونه ألقى بنظرة خلفية على العمارة الشاهقة . طال تفكيره . بالحظ

. اآلن يذكر اسم صاحبها . افةالتي بدأت تصغر قليال لبعد المس ـ بدأ بعربة . هذا الرجل قد جاء إلى القاهرة حافي القدمين د ي

ثم عمارات . ثم تجارة جملة . عليها طماطم وبرتقال، ثم دكان تجر في المخدرات لفترة أنه إلكن هناك من قالوا . هذه إحداها

قطعت هذا التسلسل، هذا الرجل ال يخضع لتلك القوى التـي محمد أفندي أبو دومة الذي قرر منـذ قليـل أن يخضع لها

لكن يبدو أن قراره لم يكن حاسـما، فالبيـت قـد . يتحداهااقترب، والنظام المالي صارم، والجبن القديم به نسبة عاليـة

ح، والبطيخة ثمنها تسعون قرشا، واألوالد لـيس لجدا من الم لهم ذنب في كونهم يحملون رءوسا فوق أكتافهم بها أمخـاخ

ا تالفيف، والتالفيف على صلة وثيقة بأجهزتهم العصـبية، به . وأجهزتهم العصبية على صلة وثيقة بأمنياتهم المحتضرة

هل يلغي قرار التحدي أو يعتبره نافذا فيفعـل شـيئا هذا هو السـؤال الـذي .. يحيله إلى أمر واقع ال رجعة فيه؟

كان يشغل باله وهو يطرق باب شقته فتفـتح لـه زوجتـه، عالمات الحرص والتجهم والحيـرة الباديـة علـى لش تنده وعلـى ..تنظر إليه طويال تسقط البطيخة مـن يـده . وجهه

. األرض يتناثر قلبها األبيض الشبيه لونه بلون اللفت* * *

: عبد المتعال" األسطى " في نفس اللحظة رأيته يحمل البطيخة، عائدا لتوه من

برضاء صاحب الورشة سعيد هو . التي يعمل بها " الورشة " كبيرا من المال يخصم علـى اعنه، منذ أسابيع أقرضه مبلغ

أنقذه من ورطة محققة فالشـكر هللا . أقساط من راتبه الشهري والحمد هللا، تزوجت ابنته وزفت إلى عريسها وكـان الحفـل

منذ ساعات كان يعاون صاحب الورشة فـي . طيبا ومستورا . بواكي، البنكنوت" إحصاء

يا عبد المتعال؟ ـ كم . ـ سبعة

ـ كم يا عبد المتعال؟ . ـ تسعة عشر

. ـ ضعها في هذا الدرج . ـ حاضر

. ـ ناولني سلسة المفاتيح . ـ حاضر

وعندما أقفل صـاحب الورشـة الـدرج المـذكور : ارتسمت ابتسامة عظيمة على وجه عبد المتعال وقال بحبور

. ـ اهللا يزيدك من نعيمه يا معلمياتجه صاحب الورشة إلـى الخزانـة ليحصـي ولما

األخرى استأذنه عبد المتعال ليصلي الظهر فأبـدى " البواكي".. صاحب الورشة موافقة مصحوبة بابتسامة عطف واسـعة

ن عبد المتعـال حـين إنه يحبه حبا جما، ال شك في هذا، أل دقيق من قطعة نحاسية لم يفشل مرة في تصنيع شكل هندس

خصـم ثمـن القطعـة مـن راتـب يعترض على قراره، عبد المتعال، توقع منه صاحب الورشة احتجاجـا أو حتـى تغيرا في المعاملة، لكن لم يحدث أن قال له عبد المتعـال أن

هذه القطعة النحاسية الصغيرة هي نفس اليد تيده التي أفسد إن . التي صنعت له المئات من القطع األخرى بفن واقتـدار

جاعة فائقة في مواجهة أي شيء، فلـو عبد المتعال يتمتع بش خطرت بباله هذه الفكرة لما تردد في نقلها بلسانه إلى معلمه

. لكنها لم تخطر. على الفورعبد المتعال ال يهتم كثيرا بأن تكون معه نقود أو أن يكون مفلسا، مع أنه مسئول عن أسـرة كبيـرة كلهـا مـن

: يقول ألمهن..البنات . ـ خليها على اهللا

: يقول لزمالئه في العمل ممن يحبون وفرة المالو ـ مالي أنا بالرزق وربنا موجود؟

: ويقول لنفسه . ـ البنات رزقهن واسع

في طريقه لعبور الشارع مر أمام صاحب الورشـة حياه عبد المتعال بابتسامة عريضة مـن فمـه . راكبا عربته

يرد شارة متحمسة من يده التي ال تحمل البطيخة، ولما لم إوال إصاحب الورشة التحية تأكد عبد المتعال أنه لم يره فعال، و

لحياه مثلما حياه تماما أو بتحية أحسن منها، فما الذي يجعلـه .. نعم، ما الذي ال يجعله يفعل هذا؟.. ال يفعل هذا؟

وعندما وصل عبد المتعال إلى بناته كانت السـعادة ثلـه، دهـش توقع أن يجدهن سعيدات م . تتقاطر على وجهه

عندما اصطدم بوجوه متباينة المعاني، وجه الزوجـة جامـد . وجه واحدة من بناته يـوحي بالكـدر .".الموت .. " المعالم

وجـه ".. المسـتقبل .. " وجه أخرى يوحي بالحزن ". الفقر" ".. ال فائدة .. " أخرى يستبد اليأس بمعالمه

: قال عبد المتعال لنفسه وهو يشق البطيخة . مرهـ كله بأ

تـذكر . انعكاسات الوجوه على مشاعره قاسية كانت قلـب البطيخـة القـاني ىأشياء كثيرة مؤلمة، لكنه حين رأ

. االحمرار عاودته االبتسامة ولم يفكر في شيء على اإلطالق . فقد أذن لصالة العصر

* * *

: صفوت باشاوضعها السائق في حقيبة العربة ثـم . بطيخات ثالث

االحترام الشديد واجب، فهـو . جلة القيادة عاد مسرعا إلى ع يقود عربة ابن باشا سابق ورئيس حالي لشـركة اسـتثمار مصرية أمريكية، كان صفوت باشا يفكر بجدية في ظـاهرة

الحقيبـة . اهتمامه الشديد باألكل وولعه األشد بالتهام الفاكهة إنها شـهوة . ممتلئة بأقفاص المانجو وأسبطة الموز، ال بأس

. المشروعة لما لذ وطاب من خيرات اهللالنفس ما هذا الزحام الشديد يا سيد؟ - . وقت خروج الموظفين يا سعادة الباشا -

. ة تثير األعصابقأهم يعطلون سير العربات بطري -

. هذا صحيح -

. وال يريدون أن يكفوا عن التناسل -

. سلواهم الوحيدة يا باشا -

.المفروض أن يذهبوا إلى الصحراء ليعمروها -

. هذا سليم -

. وتتحول الصحراء إلى مدن زراعية شاسعة -

. فيخف الضغط على المدينة يا سعادة الباشا -

حينئذ تمر عربتنا بيسر في الطريق ويتوافر الطعـام - . لكل فم

. خسارتك في هذا البلد يا سعادة الباشا -

يقهقه في تواصل سـعيد . ويضحك صفوت من قلبه ثم تزداد موجة القهقهة ويضرب السائق على ظهره مالطفة،

. فيضربه على قفاه

يفتح الحارس البـاب ويحمـل " الفيال " عند مدخل يستدير صفوت باشا بوجه هاش .. بطيخة، والسائق بطيختين

: ل للسائققوباش ي

. هات عنك واحدة يا سيد -

. العفو يا سعادة الباشا -

. اسمع الكالم.. هات يا ولد -

قبله ابنته، تضحك تست. ويحمل صفوت باشا البطيخة هي األخرى بشدة حتى تكاد تسقط علـى السـلم الرخـامي

: الالمع، تسرع نحو أبيها قائلة . سألتقط لك صورة.. ـ انتظر يا أبي

تعود ومعها جريدة يومية وكاميرا، تضع له الجريدة تفك رباطة عنقه وتبعثر هندامه . تحت إبطه وهو مستسلم لها

والبطيخة تتراقص على يده عن عمد وهو غارق في قهقهاته تنفش بيدها الناعمة مجموعة الشعيرات الباقية فوق . وال تقع . تقول وهي تستعد اللتقاط الصورة. صلعته

ـ أال تستطيع أن تكشر لحظة يا أبي؟؟ * * *

وفاء بعهدي أعود إلـيكم لمناقشـة .. سيداتي سادتي قـول ولكن قبـل أن أ . القصة مالقضية ألنني واثق أنكم قرأت : شيئا أود أن أسألكم ثالثة أسئلة

قصتي؟ نوءنتم تقروأألستم معي في أنكم كنتم نياما -١ألستم معي حين أدعوكم أن تكفوا عن النوم لتعاودوا -٢

قراءة هذه القصة من جديد؟

لماذا تهتمون بقضية تواجدي في ثالثة أمـاكن ـ أو -٣وال تهتمـون . حتى مدن ـ متفرقة فـي آن واحـد

طيخ؟ إن مسألة البطيخ يا سيدات ويا سادة بمسألة الب ال أقصد انأوحين أتكلم عن البطيخ ف .. مسألة خطيرة

. وإنما أقصده بكل صنوفه. األحمر منه أو األقرع

ولو عرفتم اإلجابة عن أسئلتي فلن تكونوا بحاجة إلى . معرفة سري

في الحلم قتلت بيدي مئات الصراصـير والسـحالي

أيت الشواطئ مهجورة والمدينة مظلمة وأمـواج والثعابين، ر انمحـق اللـون . البحر تتصارع صراعها األبدي المرهـق

األخضر ولـم تعـد السـماء زرقـاء وال األرض بيضـاء ساد اللون الرمادي ولم أجد مـاال أدفعـه . وال الزهر ألوانا

. لطبيب خاص يسكن بالدور العلوي في نفس مسكني . ى مستشفى الفقراءلإفذهبت بها .. صرخت نرجس

تحمل الريح وباء، وتبخ المخلوقات سموما، وتنفـث في الحلم سالت دمـاء . ويسود اللون األصفر . المشاعر حقدا

ونهبت حقوق وانطفأت أضواء فعم الكون ظالم ذو لون داكن امتزجت األلوان الرمادية بالصفراء بالظلمة الداكنـة . كريه

هم أسياد الكون فال جدوى وإذا الملوثون . فتلوثت كل األماكن . من حلم أو حقيقة

سـأزيد . وما دام األمر كذلك فال بد أن أقتل الطبيب من نسبة اللون األحمر في فضاء التلوث الالنهائي الذي أشك

حيت تزيد نسبة .. في انحصاره بهذه البقعة من الكون الكبير

اللون األحمر على نسبة األلوان الرمادية والصفراء والظلمة فلن يكون هناك لون أسود، وبذلك أساهم فـي منـع . الداكنة

وقوع كارثة كبرى على بقعة من بقاع األرض التـي تـدور . حول نفسها

اختطفت آلة حادة وهويت بها بكل اقتناع فوق رأس قبل أن تصل اآللة إلى هدفها، وفي كسر من الثانية . الطبيب

ممرضـين قد يكون أحد ال . خطرت لي فكرة احتمال براءته هو المسئول عن تلوث الجرح، ولهذا قررت التراجـع فـي

صـدق إلنقـاذ لاللحظة األخيرة، وكنت صادقا في نيتي كل ا . حياته بنفس القدر حين قررت التخلص من حياته

ألـتمس الكن المشهد كما رآه الناس وفسروه ـ وأن لهم العذر ـ كان يؤكد أن هناك محاولة اعتداء همجية مـن

. ر تهجم على الطبيب المبجل بآلة حادة بغية قتلهمجنون فقيوهكذا اقتادوني إلى القسم كمجرم عتيـد، وأصـبح مستقبلي ـ الذي ال أهتم به فـي أحيـان كثيـرة ـ مهـددا

. بالخطرالجريمة ثابتة األركان، المجـرم . الشهود متواجدون

هو عبد العزيز أبو بكر العسكري المتطوع سابقا ومحصـل

ليا، والذي يعتبره بعض المخابيل فنانا تشـكيليا، الكهرباء حا أداة الجريمة هي قضيب حديدي من أحد األسـرة المهشـمة

. بالمستشفى، ثم المجني عليه وهو الطبيب المبجل ولما كان من المؤكد عندي أن هناك أشـياء كثيـرة ال معنى لها، وأن خاصية الفهم عند بني اإلنسان تكاد تكـون

أن بعض ما ال أفهمه ال يفهمـه اآلخـرون فال بد . مشتركةأنا مثال لم أفهم لماذا قال الطبيب للضـابط بعجرفـة . مثلي : شديدة

ـ هذا المخلوق الشبيه بالحشرة كاد يقتلني لـوال أن . أمسكوا به

. قلت بسرعة .ـ لم يمسك بي أحد، أنا الذي تراجعت عن قراري

: قال الضابط . ـ أسكتيضا لماذا نظر الضـابط إلـى ولم أفهم أ . ولم أنطق

: الطبيب نظرة عدوانية ثم قال له !. ـ أنه إنسان مثلك تماما وليس حشرة

ثم بلباقة غير مفهومة استطاع الضـابط أن يبسـط وأن يقنع الطبيب بالتنازل عن بالغه، ثـم . المسألة ويوازنها

خرجت من القسم وأنا أبكي نرجس بحرقة، أهملوها، تركـوا لم أستطع أن أحول دون وقوع كارثة كبرى . جرحها يتلوث

على بقعة من بقاع األرض، واألرض تدور حول نفسها وأنا أشك في انحصار التلوث بتلك البقعة دونا عن بقيـة الكـون

. الكبير . حلما وحقيقة.. ماتت نرجس. تلوث الكون

تنبهت فجأة إلى سخافة رحلة العمر الطويلـة حـين

دي أمام مكتب عليه الفتة صغيرة مكتوب تنتهي إلى مقعد جل عشـرات ".. رئيس مجلـس اإلدارة : " عليها بالخط الجميل

األعوام ومئات األماني وآالف األحـالم وحكايـات الحـب والطموح واآلمال الوردية وفتـوة الشـباب وجنـون الفـن وشطحات الخيال والتنقل بين مدن العالم والتهام مئات الكتب

جرائد والسهر حتى الصـباح للحصـول وآالف المجالت وال على الشهادة الجامعية أحيانا والستحالب المتع البريئة وغير

. البريئة أحيانا أخرىة إلى غزارة الشعر األبـيض علـى آفجأة تشير المر

رأس مثقل بالهموم والمسئوليات، وتشير نظرات السـكرتيرة الشابة إلى أنها تقف في حضرة رجل وقور ـ أو ال بـد أن

يكون وقورا ـ في عمر أبيها، بينما ينبض صدرها الناهـد بدفقات الحياة التي ولت منه دون استئذان وتركته وقورا رغم أنفه ضاغطا في أعماقه رغبة جامحة في االنطالق من أسر

. الزمان

فجأة وجدت نفسي أقف على الخط الناري الفاصـل تى عنـدما وح. بين الكهولة والشيخوخة فلم أصدق في البداية

. اصطدمت بالمرآة فإنني صممت على الـرفض واإلنكـار ولكنك تعلـم . قوانين الطبيعة ليست لعبة يستهان بها يا رجل

. كم رائعة هي الحياة حين تتعامل معها بحب في أي زمانتستعرض في تأن قائمة األحالم الطويلة التي عشت عمرك تعمل على تحقيقها فتـدرك أنـك لـم تحقـق منهـا

كان عناد األيام أقوى من عنادك إذ فرضت عليك . القليل إالأحالما لم تسع يوما إلى تحقيقها، ولكنك لم ترفضـها حـين غدت أمرا واقعـا ال يواجـه إال بـالقبول االضـطراري،

. فما ال يدرك كله ال يترك كلهال وقت لأللم وال مكابرة أمام القدر، هـذا صـحيح،

للنفس حق ينبغـي أن ينـال و. لكن في الوقت متسعا لم يزل األسـرة . اآلن خالصا لها دون مشاركة فيه لمخلوق سـواك

نالت حقها منك والعمل كذلك، أما أنت فماذا نلت من أعوامك التي ناهزت الخمسين؟

* * *

الغرفـة األنيقـة . جلس إلى مكتبه يتأمله في هـدوء واألثاث الفاخر والمنصب الذي يتوهمون أنه عظيم بالقيـاس

كلها أشياء ال تهتز لها شعرة مـن . ما أسموه بصغر سنه إلى أما ذلك االحترام الشديد الذي يلقاه من الجميـع فإنـه . جسده

فالفرعون عند المصـريين . ال يعني عنده شيئا على اإلطالق هو اإلله وهو الحاكم وهو رب األسرة ورب العمل، والرهبة

. ءأمامه واجبة وكذلك االحترام والخوف واالنحناراح يتأمل المقعد الذي جلس عليه منذ عـدة أشـهر

انتهى عهد العمل وبدأ عهـد . فقط وكان يودعه لليوم األخير لن يدع للملل فرصة بعد اليوم ليقتحم . الحياة وليكن ما يكون

أما الزمان .. دائرة وجدانه المتأجج بالرغبة في معاودة الحياة مالء فال تنفتح أبوابهـا وأما المقارنة بالغير من الز . فعلى اهللا

. إال على جحيماللعنة على هذا الوقار الكريه، وعلى الوظيفة بكـل متعلقاتها من عمل روتيني كئيب ووجوه شاحبة يراها كل يوم وأدمغة تخلو من التفكير وأرواح تفتقر إلى الحياة وجنيهـات

ال ثـروة تحققـت . ضعيفة يتقاضاها في نهاية كـل شـهر د، والحياة في هذا البلد تكاد تسـتحيل دون وال سلطة وال مج

وكيف االستسالم للموت .. أما المجد فما هو . سلطة أو ثروة !بهذه الخسة؟

أنبـئ .. تهيأ لمغادرة مكتبه للمرة األخيرة في حياته النظـارة . الصلعة تبرق . بضيف ينتظره فأمر بدخوله فدخل

ـ . الطبية سميكة للغاية ذاء الحلة قديمة والظهر مقـوس والحوزميله في الجامعة يقف أمامه متوجسا . مغبر والنظرة بائسة

لم يره منذ ربع قرن .. غارقا في االرتباك والخجل بال مبرر . أو يزيد

ـ محمود مرسي؟ . ـ نعم أنا هو

ـ أيها العجوز هل أنت زميـل دفعتـي أم عمـي !األكبر؟

. ـ ال تعجب من أفاعيل الزمن وسوء الحظوتعالت سحب الدخان في أركـان تعانقا بحب عظيم

وتكلما بشبق شديد لوصـل الماضـي . الغرفة وشربا القهوة . بالحاضر

ـ إذن فأنت لم تحصل بعد حتى على درجة مـدير !إدارة

. ما زلت أعمل بدرجة رئيس قسم.. ـ نعم كم بلغت من العمر؟ . ـ قل لي بصراحة

. ـ أشهر قليلة وأصبح في الخمسين . بثالثة أعوام على وجه التقريبـ أي أنك تكبرني

. ـ هذا ما أذكره منذ أيام الجامعةـ لعلك قصرت في عملك أو في المطالبة بحقوقـك

. منذ زمن طويل . ـ بل بذلت ما بوسعي عمال ومطالبة

وماذا عن حالتك المادية؟ .. ـ يا لسوء الحظ الغريب . ـ مستورة والحمد هللا

الشهري؟ـ هل لديك دخل خارجي غير راتبكراتبي رغم تواضعه أدبر بـه أمـري قـدر .. ـ ال . المستطاع

.. أنا في خدمتك.. ـ عموما . ال لتهنئتك بمنصبك الجديدإـ لم أحضر

شعرت بقوة إسفنجية خارقة تمتص تمردي العنيـف أي بؤس هذا الذي يمتزج بقناعة . الذي اجتاحني منذ لحظات

اسـتطال !.. ربعـة؟ فذة في نفس هذا الزميل ذي األبناء األ

الحديث عن الزمالء الذين ماتوا وعن الزميل الذي سجن في قضية رشوة واآلخر الذي قتل في الحرب والذي قتـل فـي

. حادثة بالطريق والذي أثري بالحالل والذي أثري من حرام والزميلة التي تخرجت وهاجرت إلى كندا والتي لم تتـزوج

وماذا يعني .. وراهحتى اآلن وإنما حصلت على أكثر من دكت أن أكون رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة بمجتمع مديون دون أن

! أبلغ الخمسين أو األربعين أو الستين؟دخلت السكرتيرة فلم أشعر أنني وقور رغـم أنفـي حين عاملتها مثلما أعامل ابنتي تماما، من خلفها دخل زميـل آخر يعمل معي في نفس المؤسسة ولكن بدرجة مـدير إدارة

انتظـرت حتـى تـتم . فقط، رغم أنه يكبرنا في السن معـا خرجت السكرتيرة وتصافح الزميالن . المفاجأة ولكنها لم تتم

. القديمان أمامي دون أن يعرف أحدهما اآلخر !أال تعرفه؟.. ـ عثمان منيب . ـ غير معقول

!ـ ألم تعرفه أنت اآلخر؟ . ـ غير معقول

* * *

ن يفـأ . والزمن رابعهم جلس زمالء الجامعة الثالثة محمود مرسي وقد أعلن هزيمتـه .. المعقول في هذه الحياة؟

وعثمان منيب يقهقه بنفس البالهة التي عرفت عنه . بال حياء سأل محمود عن الزميلة التي تـزوج منهـا . منذ أيام التلمذة

عثمان بعد التخرج بعامين، معبرا عن انبهاره الساذج بقصة ت بين قلبيهما وكانت موضع إعجاب الحب العظيمة التي ربط

ضحك عثمان ضحكة مسـتحيلة التفسـير . الجميع وحسدهم : وقال

. ـ خانتني بعد عام من الزواج فطلقتها : غرق محمود مرسي في هزيمته أكثر وسأله

ـ ألم تتزوج مرة ثانية؟ ـ بل تزوجت بقروية جاهلة من بلدتنا وأنجبت منها

. البنين والبناتمجلس اإلدارة نكتة ماجنة تعليقا على ما أطلق رئيس

سمعه فانفتح الباب على مصراعيه لدخول زمان ولى واندثر بالغرفة أصوات منكرة وأضيء المصـباح األحمـر وتعالت

ن من ينظر إلى الحياة بجديـة واحتـرام فمـن إوقال لهما . األفضل له أن يموت

كلما دخلت السكرتيرة الشابة وخرجت، عاود النظر وفي وجهي زميليه القديمين، وفي سـنواته . مسألة وقاره في

وفجأة سأل عثمان زميله محمـود . التي اقتربت من الخمسين : ببراءة فاضحة

ـ لماذا ال تنتقل إلى شركتنا بنفس المؤسسة فتضمن !الترقية والسند؟

.. انصبت نظرات العيون األربع على وجه الـرئيس . كان قد استعاد وقاره فجأة

* * *

محتوياتها المبعثـرة بحاجـة ال تقبـل . رأسي ثقيلة

تراكمت بداخلها نفايـات السـنين . التأجيل إلى إعادة ترتيب . ومعضالتها التي تحدت الزمن أن يصل بشأنها إلـى قـرار

نـه آن األوان أكلما عدت من سفرة خارج بـالدي أعتقـد ا ال يلزم لتصفية تلك التراكمات وتحليلها وتقسيمها واستبعاد م

في البدايـة أبـدو . منها وإعادة النظر في استبقاء ما قد يلزم متحمسا ويخيل إلي أنني مهيأ تماما إلنجاز تلـك الخطـوة، وشيئا فشيئا تستولي على كياني المترهل حالة مـن الخـدر واالسترخاء، فتهبط عزيمتي وتتضاءل في نظري أهمية مـا

. كنت مقدما عليه، وبمرور الوقت أنساهحين عدت هذه المرة من سفرتي األخيرة علمت أنه

وكنت قد عقدت العزم أال أفوت الفرصـة علـى .. قد مات ال حق لهـا أن تتمـرد علـي إو. سي مهما كانت األسباب أر

والبد أن أذكـر أنهـا سـبق أن .. وتتركني إلى غير رجعة أنذرتني بذلك من قبل حين اختفت فجأة ثم عادت بعد ساعات

كـم عمـره " بادي"يومها سألت . انها من جديد قليلة إلى مك : فأجاب دون اكتراث . ـ ال أعرف

ـ في أي عام التحقت بخدمة المصلحة؟ . ال أذكر

تركني حامال مقشته المهترئة يكنس بهـا الطرقـات بهمة يحسد عليها وإخالص ولى زمانه، تحتوي رأسه علـى

حين واآلخر أشياء قليلة يسهل ترتيبها ولكنه يسافر بها بين ال إلى عوالم مجهولة يعود منها محمـال بالطمأنينـة األبديـة

. والسكينة الخالصة. سـي أخمسة وأربعون عاما من األحمال تنوء بها ر

من عرقي ودموعي تبذل. خططت وعملت . حلمت وتمنيت فإذا بالمسألة تنتهي إلى حرب تشتعل في رأسي وأنا .. كثيرا

لحياة وابتهـاج بمسـراتها الذي كنت أثق دوما في وئام مع ا . الدنيوية المشروعة

قال لي عم بادي وهو يدخن واحدة مـن سـجائري، وعيناه غائرتان في مقشته، وروحـه هائمـة فـي أسـفاره

: المجهولة

. ـ أنت بحاجة إلى شيء من الطمأنينة !ـ كيف؟

. كن مثلي يا أخي. ـ اعمل وال تنتظر شيئا من أحدلـدخل دون أن تعبـأ صداقتنا بدأت وانتهت مـن ا

تعاملت الرموز مع الرموز بال عائق يقـف بـين .. بالسطحكانت . موظف كبير وعامل نظافة ال يعرف كيف يكتب اسمه

. صداقتي مع العم بادي قيمة غاليةهل أنا المسئول عن اشتعال تلك الحـروب برأسـي

عقل يطلق حممه النارية على وجدان يـرد .. الثقيلة أم من؟ العقل جاءني من كتب وأفكـار . الماء وال يموت على النار ب

ليه إوأبحاث وسفر ال ينقطع واحتكاك دائم بأحدث ما توصل سادة الدنيا من ابتكارات، أما الوجدان فجاءني مـن البيـت والزقاق والحبيبة والنهر والنخيل وحكايـات أمـي والبحـر وروايات مدرس الرسم وخيرزانة ناظرة المدرسـة األوليـة

وأما أنا فقد جئت من أب قـوي وأم .. القرآن الكريم لتحفيظ ولهذا عجزت عن إقرار السالم بين النار المتأججـة . حانية

. والماء الذي ال ينضب

رغم ذلك فقد كنت ـ وما زلـت ـ أدرك أن لكـل غير أن عم بادي الذي يصيبني وجوده أمـامي . شيء نهاية

خيل إلـي ـ بالرهبة لم يكن مدركا لتلك الحقيقة ـ أو هكذا وتلك كانت نقطة ضعفه التي سافرت برأسـه الخفيفـة ذات

. المحتويات القليلة المرتبة بال وداعحياتـه . لم يكن عم بادي يمتلك شيئا على اإلطـالق

تتلخص في كنس النفايات، ووجوده يتلخص فـي تجميعهـا . رغم ذلك. وحرقها لماذا لم تتظلم؟ - لمن؟ -

. للجنة شئون العاملين -

؟لماذا -

. لتحصل على حقك في الترقية -

. لست أريدها -

لماذا؟ -

. ليست لدي رغبة قوية تدفعني إلى ذلك -

. لكنه حقك -

. سوف يأتيني يوما من تلقاء نفسه -

على من تقع مسـئولية الحـرب المضـطرمة فـي جيش مدجج بالسالح يقـوم .. أنا أم على من؟ يعل.. سي؟أر

ارب جيشا آخر يح. على حراسة ما أملك وما أتمنى أن أملك الحـرب . يدعي أنه يحمي وجودي ورغبتي فـي أن أكـون

بينهما ال تعرف الهدنة مثلما تعرفها أحيانـا حـرب المـاء لكل منهما تكتيكه واستراتيجيته في محاربة اآلخـر، . والنار

أما أنـا . وكالهما يعتقد أن خصمه على باطل وأنه على حق السالم بينهمـا ولهذا فشلت في إقرار . فلست أعرف الحقيقة

ومـا زالـت . وما زالت نيران قذائفهما تشتعل برأسي الثقيلة هذه الرأس بحاجة ال تقبـل التأجيـل إلـى إعـادة ترتيـب

ولقد أحزنني كثيرا أن علمت بعد عـودتي أنـه .. لمحتوياتها . أو كما فسرت ذلك لنفسي بأنه سافر بال عودة.. مات

: قلت لعم بادي قبل سفريتينا األخيرتين ـ ما رأيك في هذا الكالم؟

قال محذرا وهو يمسح مكتبي بطرف سـترته فـي : سعادة

. ـ احذر على رأسك من االحتراق

لم تمض أيام معدودة على إنذاره الباتر حتـى جـاء في اليوم التـالي حضـر إلـى . إخطار بإحالته إلى التقاعد

أخذ مقشـته وراح يكـنس الطرقـات بحماسـه . المصلحةلى بعضهم وتهامسوا بعيدا عنـه إالناس إليه و نظر . المعهود

ولكنه لم يعبأ بشيء جاء موظف األمن ليخطره بأن حضوره إلى المصلحة عمل غير قانوني ألنه لم يعد من العاملين بهـا

: سألني في دهشة.. وال يجوز دخوله من البوابة الخارجية ـ لماذا يمنعونني من العمل؟ . ـ ألنك لن تأخذ عنه أجرا

!ومن قال أنني أطالب بأجر؟ـ طلبت لـه كوبـا مـن . لم أستطع أن أقول له شيئا

تأملت تجاعيد وجهه وسط سحابات . أعطيته سيجارة . الشايكان يبتسم ولكن فـي حيـرة مـن . الدخان المتكاثفة حولها

. اختلطت عليه األمور فلم يعد ـ مثلي ـ يفهم شيئاحملت رأسي الثقيل على كتفـي وغـادرت بـالدي

خيل إلي أني قـد . المنهكة إلى بالد أخرى تنعم باالسترخاء كانـت آالف األميـال . أستطيع محاولة إعادة الترتيب هناك

تباعد بيني وبين عم بادي ورغم ذلك فكـرت فيـه كثيـرا . وأمعنت التفكير حتى تمكنت من استحضاره أمامي

: أمسك برأسي بين يديه وقال لي بحنان أبوي بالغ . لتستريح الرءوسـ آن األوان

: ووجدت نفسي أتساءل للمرة الثالثة !ـ ترى من المسئول عن هذه الحروب؟

لكني لم أقذف بتساؤلي هذه المرة في الهـواء، بـل نبشت في ذاكـرة . فكرت في كل بالد الدنيا البعيدة والقريبة

أمي وفي طمي النيل وفي عقل مدرس الرسم وضمير الناظر فة من صور متداخلة رأيت فيهـا فاقتحمت رأسي سيول جار

أطفال فلسطين وسور برلين وتمثال الحرية والمسجد الحرام " الفاو"ة هايد بارك ومسجد قودماء بيروت وجبال األلب وحدي

وجبل قاسيون والحاسبات اآللية واألهرامات وبـرج إيفـل وحتشبسوت الملكة وآبار البترول وفينوس واألقمار الصناعية

يكن يخطر على بالي أن أفكر بهـا دفعـة وأشياء أخرى لم . واحدة

!سيأشعرت بسخونة متزايدة في ر

ه ميتا في المساء أمام البوابة بعد منعه ليـومين دووجآن األوان لتسـتريح .. " حةمتتاليين مـن دخـول المصـل

لم أستطع الوفاء بعهدي لرأسـي إذا اشـتعلت . ". الرءوسودها الوئام وبـين بداخله حرب جديدة بين األمل في حياة يس

. ما أسميته باليأس الجميل* * *

لست أستطيع التأكيد على أن واقعة بعينها هي التـي

الذي حدث هو أنني وجدت نفسي فـي . دفعتني إلى ما فعلت صحيح أن الفكرة . هذا المكان دون أن أتخذ قرارا مسبقا بذلك

كنهـا ل. طالما راودتني وداعبت أحالمي منذ سنوات طويلـة ربما لم . لم تجتز حدود حلم اليقظة أو تتجاوز أسوار األمنية

تكن أكثر من وسيلة من الوسائل الطبيعة للتنفيس عن ضغوط عنيفة تعتمل بروحـي وال يسـتطيع الحـد مـن غلوائهـا

ومن العجيب أنني أشعر اآلن بسـعادة .. إال المستحيل نفسه لها مثيال منذ ويقيني أني لم أعرف .. يرقص لها القلب طربا

. لحظة والدتي حتى وطئت قدماي أرض هذا المكانغارق في دهشتي تملؤني البراءة وتغسـل روحـي

يشملني الوجود بحب جارف تجاه كل ما يحيط . فرحة طاغية بي من حيوان ونبات وجماد فأتوحد معهم جميعـا وأسـمع

يا جسدي تغني للكون نشيدا رائعا عن أسرار هذا الملـك خالأين كانت مني تلك الفرحة الظاهرة وقـد مضـت .. العجيب

كيف فاتني أن أقتنص هـذه الفكـرة !.. أعوامي بال رجعة؟

وأحيا هذه المشاعر لمجرد أنني لم أهتد إلى سر من أسـرار . الحياة غائص في عمق ما تحويه جعبتها من أسرارخلعـت . الفضاء الالنهائي يعمر قلبي بسكينة قدسية

ورقصت في نشوة حالمة على أنغـام مالبسي دون أن أدري عميقة تفور في أعماقي متصاعدة في يسر وسالسة إلى عالم

عندما هدأ إيقاعها صار رقصي بطيئا بطيئا .. من نور علوي ال ألغتسل وإنما ألذوب، فما معنـى . فنزلت إلى النهر عاريا

أن يكون عدد ساعات العمل لمخلوق بشري أربعة أضـعاف عدد ساعات نومه؟

خرجت من النهر تزفنـي صوصـوات العصـافير وتنثال من حولي نسمات رقيقة تتراقص على هسيس أوراق الشجر، فقد تجاوزت آالت التنبيه واإلنذار واإلحصاء والقيادة

وليس أدل على ذلك . إفساد حياتي إلى محاولة إفساد ضميري من تلك اللحظات األليمة التي كرهت فيها وجودي على قيـد

. الحياةلو لم تثمر هذه األشجار يوما فسوف آكـل لحاءهـا

:بكل الطمأنينة، فلقد قلت له . ـ ال تخش يا سيدي على مقعدك

أقسمت له باألديان الثالثة أن جلوسي علـى هـذا والمقعد ال يدخل في دائرة أحالمي وال يقتـرب مـن نطـاق اهتماماتي ولكنه لم يصدقني، أفزعتنـي عينـاه الزائغتـان

حركتهما القلقة الثاقبـة، فتخليـت عـن حقـوقي النهمتان ب . ومصالحي وتركت له المقعد والغرفة والعمل والهواء والماء

لن تخطـو . لن أحتاج من المدينة إال إلى أقل القليل قدماي على أرضها إال عند مسيس الحاجة إلى ضرورة مـن

سوف أصـطاد األسـماك والطيـور وأجمـع . الضرورات : قلت لها. عليها طعامي بيدياألخشاب وأشعلها ألطهو

فهكذا تأمرني . ـ ال أستطيع أن أحبك أكثر من ذلك . طمأنينتي وهكذا يأمرني قلقي

أرض اهللا "قالـت ". علـى أيـن "قلت ". نرحل"قالت : قلت" واسعة

ـ وماذا أصنع بخوفي من تجوهرنا في كيان واحـد ! أفقد فيه حقيقتي وال أعود بحاجة إلى شيء؟

: ها قلت ل..بكتـ لن تستطيعي معي صبرا، فلـيس هكـذا يكـون

. الحب

جمعت الفروع واألغصان وصنعت األوتاد وشرعت أحنت علي الطبيعة . أشيد عمري الجديد في قلب الغابة النائية

فمنحتني بيتا أحب أن أتملكه دون أن أفكر في ملكيته، قال لي ا ن لم تدفع اآلن فغيرك يتقاتل على هذه الشقة ولـن تجـده إ

نني لست أمتلك هذا المبلغ البـاهظ ثمنـا لتمديـد إقلت . غدا : سدي بين جدران أربعة، فانصرف عني قائالج

. ـ هذا ليس من شأنيوالحقيقة أنه كان بإمكاني تدبير المبلغ بـأكثر مـن وسيلة لو لم يتشدد في إصراره على الدفع في التو واللحظة،

فقد أثار في قلبـي غير أني لم أجد بدا من الفرار من أمامه . الذعر منظر أسنانه وأنيابه وضروسه حين كان يخـاطبني

سال الدم من وجهي وصدري وبذلت أقصى ما أوتيت مـن جهد بشري حتى أنتزع نفسي من بين أنيابه الطويلة المدببـة وأسنانه السامة الطاعنة وضروسـه القاتلـة التـي طحنـت

ذي مضى قبل أن طمأنينتي لآلنية التي تشدق بها، ولألمس ال ضطجع هانئـا فـوق أ. أراه، وللغد الذي ال أدري عنه شيئا

فراش من أوراق الشجر، فلم تعد تفيدني اآلن بشـيء تلـك : قلت لها. األوراق المطبوعة التي أرهقتني وسرقت عمري

. ـ أنني أعيش بثالثة أرباع ثقة ونصف سعادة فقط ـ فأين الباقي؟

. في الحزنـ ضاع الربع في الفقر والنصفـ وما الحال بعـد أن تكدسـت خزائنـك وتكـاثر

. أعداؤكـ عاد إلي الربع المفقود، وبالمصادفة فقدت النصف

. المتبقي من سعادتي أن يبق. ثم سألتني عن معنى الثقة فلم أعرف اإلجابة

.. أبحث عن عنزة ألقتات بلبنها وتنام معي في بيتي الجديـد عال هدير المدافع وتطـايرت فعندما اشتد قصف الطائرات و

وحين .. الصواريخ، تتابعت ضربات قلبي تدق في جزع أليم واتتني الشجاعة أن أتنازل عن حقي ألخي وأغفر له تطاوله وتبجحه وجشعه غير المبرر وثقته الزائـدة بقدرتـه علـى

نه قتل بشـظية صـغيرة فـي إاغتصاب حق أخيه، قيل لي ساعات انطلقـت إنـذارات بعد ذلك ب . الغارة الجوية األخيرة

الورثة والمحامين بالكلمات والنبـرات واألفـانين والحيـل ونظرات العيون والضرب على الموائد بقبضـات األيـدي، اتفقوا جميعا على تسليم كأس البطولة ألقـدر المتصـارعين

حصوال على القسط األكبر من األوراق الماليـة المطبوعـة يات العالية المكونـة مـن باأللوان الخضراء والحمراء والبنا

الطوب المتماسك باألسمنت والغرف القائمة بالحديد المسـلح والفراغات الكائنة بداخلها والرائحة النتنة التـي تفـوح فـي أرجائها بجنون التملك والملكية واالمتالك، أما أنا فقد امتلكت الطبيعة بأسرها حين وهبتني جدرانا هنيئة ال تعـرف البيـع

توكيل والمحـاكم والنوايـا المسـتترة والنوايـا والشراء وال وإني لواهبها نفسي لقاء ذوباني في النهر وقيلولتي .. المعلنة

. على غصون الشجرفي منتصف النهار وعلى قارعـة الطريـق وأمـام عشرات الغادين والرائحين رأيتهما يختلفـان علـى حقيبـة

لـة حالت بيني وبينهما إشارة مرور فاتكأت على عج . مغلقةفجأة أمسك أحدهما بخشـبة . القيادة أرقب الصراع من بدايته

غليظة وراح ينهال بحدها المدبب على رأس اآلخر في آليـة تخـبط . عجيبة بوجه تخلو معالمه من لمحة انفعال أو توتر

اآلخر في دمه المتفجر من رأسه وأذنيه وترنح يمينا ويسارا لمشهد رأيـت حتى سقط على األرض، في الواجهة المقابلة ل

أربعة شبان أقوياء البنيان يتفرجون على المشهد أمام مـدخل

كانت وجوههم مطابقة فـي الشـبه . محل شهير لبيع الحلوى لوال أن ترك شـرطي .. تماما لوجه الوحش الممسك بالخشبة

المرور موقعه وجرى نحوه لما توقـف عـن فتكـه اآللـي اع ثابت كانت الخشبة تهوي على وجه الضحية بإيق . بخصمهتعاقب على كياني شروق وغروب وبدأت الطمأنينة . ال يتغير

. تسكن قلبي كمستقر أبدي ونعمت نفسي بالسكينة والصـفاء ال أنني ال أكاد أصـدق أننـي إورغم أنه أصبح أمرا واقعا

أصبحت أمتلك فراغا يكفيني أال أفعل شيئا أكثر من النظـر ار وأرقـب إلى السحاب والنجوم والشمس والقمر واألشـج

وبين الحين والحين تتجـاوب . الطيور واألسماك والحيوانات المتذبذبة في جلـدي وأنغامهـا ىأعماقي مع صمت الموسيق

المنصهرة من تحته في قلب أعصـابي ولحمـي وعظمـي السيد إبراهيم السـباعي، .. ووجداني فأعرف جيدا من أكون

. لم أتزحزح بعد عن مـوقعي علـى األرض . هكذا أنا اآلن هكذا طـار . عندما أنجب بنتا سأسميها فاطمة السيد إبراهيم

عندما تتزوج فاطمة وتنجـب يضـيع . السباعي من موقعه وعنـدما . وعندما أنجب ولدا سأسميه كمال . اسمي إلى األبد

يتزحزح اسـمي . ينجب كمال ولدا سيسميه فرج كمال السيد

.عندما ينجب فرج ولدا سيسميه أحمد فرج كمـال . مرة ثانية ظل اسمه يتزحزح جيال وراء جيل حتى تالشى . فأين السيد؟

.. ولم يعد يتردد في الهواء على ألسـنة األبنـاء واألحفـاد ذن من قبل الموت أو من بعده في التشبث باسم سيد إال فائدة

ألغيـه . من اآلن لم يعد لـي اسـم . أو عمر أو عبد الجبار . العدمبإرادتي قبل أن يتزحزح رغما عني تدريجيا إلى

عندما أصبحت بال اسم صنعت بوصة مـن الغـاب وأخذت في تهيئتها حتى أصبحت صالحة الصطياد السـمك، أما الديدان الالزمة لغرسها في السنانير فقد فوجئت بمئـات منها تتصارع تحت الصـخور الصـغيرة المتنـاثرة علـى

أريـد أن . ما كل هذا الضجيج يا أوالد األفـاعي .. الشاطئأن أسرح بخيالي وأحلم وأتمنى وأتفاعل .. يد أن أفكر أر. أنام

تصـيبني . نفاياتكم ترهقني . أصواتكم مزعجة . باأليام القادمة كـم . عوادم عرباتكم ومداخنكم وأمعائكم بالـدوار والتقـزز .يؤلمني أنني منكم، وأنني ال أستطيع إال أن أكون كذلك

: قال لي . ـ أنت كافر

: قلت له

اللبيب؟ ـ وكيف عرفت أيهاإنك تفعل كذا وكذا وال تفعل كذا وكذا حتـى " فقال

". أننا لم نعد نعرف إلى أي دين تنتمي أو أي إله تعبد : قلت له

لماذا ال تهـتم بنفسـك .. ـ وما شأنك بي يا أخي؟ . وتدعني لحالي

لكن الغبي لم يفهم، وكان ينبغي أن ألـتمس العـذر غيظ وانتابني الكدر ولـم لجهله، لكني لم أستطع فتملك مني ال

أجد خيرا من أن أفر بجلدي من كراهيته كما فررت مرارا . من غيره قبل ذلك

وأني ألعجب كيف تمكنت من .. أربعون عاما مضت االستمرار في الحياة خاللها دون أن أتذوق متعـة اإلبصـار ومشاهدة الجمال واالستمتاع برؤياه في بؤبؤ العـين يتجلـى

: قال لي!.. بأنوار العدل؟وينجلي ويتألأل !فمن تكون؟.. ـ أنا علم تجوب اآلفاق شهرته

أيامها كان لي اسم فذكرته فسخر مني وكان صاحب تأملت في تلك اآلفاق التي يتحدث عنها فتبـين . جاه وسطوة

لي أنها ال تزيد كثيرا عن حدود دائرة عمله العام في مدينتنا

ا الفقيرة القابعـة فـي الصغيرة الكائنة في أقصى شمال دولتن أحد أطراف قارتنا النائمة في زاويـة منسـية مـن العـالم

كانت فكرة قتله قد تمكنت مني في لحظـة . األرضي الضئيل كلمح البرق حين تراءى لي كوكبنا األرضي سابحا في فضاء الكون كنقطة مجهرية يحتاج المرء إلى جهد كي يدعي رؤيته

. بوضوحلعلـه . ن أذكر هذا الرجل بتسم اليوم في عطف حي أ

يصيح اآلن في مجـال جاذبيـة األرض صـارخا بأهميتـه يبح صوته وتسيل الـدماء .. القصوى للحياة فال يسمعه أحد

من حنجرته دون مقابل فأود أن أتوجه إليه بالنصح أن يلتزم أين هو اآلن مني وليس بمقدوري أن أعثـر .. الصمت ولكن

. عليهحة في صمت لكل دابة على الحياة في هذه البقعة متا

فأنا وجميع الموجودات هنا نتقاسم الهـواء والمـاء أرضها،نادرا مـا . والطعام واألرض والسماء دون اتفاقية أو معاهدة

يعبر الغابة رجل أو مجموعة من الرجال في الطريـق إلـى أتردد كثيرا قبل أن ألقـي علـيهم بتحيـة . الحدود المتاخمة

ية أندفع بقلبي نحوهم فقد سمعت فـي السالم، ولكني في النها

الماضي همهمة ووسوسة بين الزمالء تخللها تكـرار ذكـر مصحوبا بنظرات متوجسـة، " شيوعي " اسمي مقترنا بكلمة

حملت صبري فـوق . متبوعة بابتسامات خبيثة لونها أصفر سي ووضعت دماغي بين أدمغتهم فالتزموا الصمت فقلـت أر

: دون أن أقول . سمة المنافقينـ واهللا تلك

: فقيل ليـ ال مكان لك بيننا لو أردت لنفسك الراحة، فـنحن

. مختلفين معك حتى النهاية : قلت لهم

. ـ ما أبشع أن يجتمع الجهل والنفاق في عقول قومولهذا لم أشأ أن أخبرهم أال شأن لي بالشيوعية على اإلطالق، كل ما في األمر أنني أتمنى الصفاء للجميع، فضال

. عن يقيني بأن الشيوعية ال تجلب الصفاءكان طعم األرنب البري رائعا، التهمته بأكملـه فـي

. وجبة واحدة وغفوت في دفء النيران المشتعلة بـالمجمرة رائحة الخشب المحروق تسعدني وتضفي البهجة على نظرتي للكون والحياة، وال أجد أدنى مبرر للبحث عن أسباب تلـك

بحت األرنب وتناثرت دماؤه أمامي تبين لي الظاهرة، عندما ذ للمرة الثانية أنني صرت إنسانا آخر إذ تحررت من الخوف، ولعل هناك رباطا خفيا يصل ما بين تحـرري مـن اسـمي

: وتحرري من خوفي، فقد صاحوا من خلفي . إنه مجنون.. ـ امسكوا هذا الرجل

لم أصدق ما حدث في بداية األمر حتى راح هـؤالء ولما أوشكوا على اللحاق . نين يجرون باتجاهي فجريت المجا

بي تزايدت سرعة عدوى بدافع من غريزة البقاء، ولكن الذي كان يحيرني حينئذ أنني لم أكـن أعـرف لمـاذا اتهمـوني

، والذي كان يزيد يبالجنون، ولماذا كانوا يريدون القبض عل من حيرتي أن نظراتهم النارية المصوبة على وجهي لم تكن

ولهـذا .. تعبر عن التحدي بقدر ما كانت تعبر عن الخـوف فإني لم أتمالك نفسي في النهاية من الضحك أثناء عـدوى إذ لم أستطع مقاومة السخرية من فكرة تدغدغ ذهنـي ناطقـة

: بالقول . ـ خائفون يطاردون خائفا

ولما نجحت في الهرب منهم توقفت أتأمل ما حـدث ار حين نقلت لهم فكـرة واردة تذكرت بداية الحو .. في هدوء

ما إمن الغرب تقول بوحدة األديان من حيث الجوهر وتطالب ما بإلغائهـا سـعيا للسـالم بـين إبتوحيد الطقوس الثالثة و

. الشعوبوالحقيقة أن الفكرة األصلية كانت تنص على اإللغاء فحسب، ولكني أضفت التوحيد ألوسع دائرة االختيار وأرفـع

لم أشأ في البداية أن أعبر عن رفضـي . من حرارة الحوار للمبدأ برمته، فأنا أحب أن أكون مسلما، وغيـري يحـب أن

رأيت أن أؤجل إعالن رأيي حتـى . يكون مسيحيا أو يهوديا نهاية الحوار فكان ما كان، وتساقط المطر غزيرا على عشي

احتميت بداخلي في داخلـه وكانـت أطرافـي . الجديد القديم ال كتاب وال امرأة وال سيجارة وال شيء .. ةساخنة بل ملتهب

ها هو الملل يتسرب إلي من بين .. من صناعة المدينة بالمرة ثنايا األغصان واألنسام، أربعون عاما لم تعن شـيئا فمـاذا تعني األعوام القادمة وهل أمضيها بين األحراش أم أعود إلى

هؤالء المجانين؟

القتلى من الفلسـطينيين حتـى هذا وقد بلغ عدد ...

اقتحم عمالق القاعة المغلقة بالفنـدق .. اآلن حوالي تسعمائة صاح بثبات شديد في وجوه المجموعة الجالسة بعيدا . الكبير

: عن ركن التليفزيون . ـ من يشعر منكم أنه رجل فليتقدم

نظر الرجال إلى بعضهم البعض ودب الفـزع فـي وقـد .. وسقطت بعض الكؤوس قلوب النساء، ارتبك الجميع

صرح مصدر مسئول بأن االنتفاضة مستمرة ولن تتوقف إلى . تكثفت نظرات العيون في وجهه وساد الصمت المكان. األبد

.. ـ سأعطيكم مهلة دقيقتيناعتقد أحدهم أنه مخمور فدعاه ضاحكا إلـى تنـاول

تجاهل العمالق الدعوة والتزم بتثبيت معـالم .. الشراب معه وقد اندفعت الجماهير المتعطشة إلـى .. مة على وجهه الصرا

في حرص شديد رفـع الموظـف .. الحرية نحو سور برلين لمحـه العمـالق . المختص بخدمة العمالء سماعة التليفـون

: فأنذره بهدوء

. ـ أغلق السماعة من فضلكامتثل الموظف لألمر لكنه اتجه ناحيته محاوال تفادي

وصـرح .. ج من بـاب القاعـة جسده الشبيه بقلعة والخرو الزعيم العربي الكبير بأن أمته العظيمة سوف تقـف بثقلهـا خلف الشعب الفلسطيني، أشار إليه العمالق بسبابته في اتجاه

: المكان الذي قدم منه محذرا إياه بنفس الهدوء الواثق . ـ عد من حيث جئت

بمجـرد . تردد الموظف قليال ولكنه عاد على موقعه : ل له العمالق بوقارأن جلس قا

. ـ حسنا فعلتواصل البعض تناول الشراب والثرثرة كما لو كـان األمر ال يعنيهم، بينما انهمكت مجموعة الركن فـي متابعـة

انهالت نظرات اللوم على النادلين اللذين كانا .. نشرة األخبار يقومان بخدمة النزالء حين التزما الصمت فـي البدايـة ثـم

نينة فالعودة إلى ممارسة عملهما بتقديم الطعام التوجس فالطمأ . والشراب في هدوء طبيعي

: نظر العمالق إلى ساعته وقال بابتسامة ساخرة

هذا المكـان ـ . ـ انقضت الدقيقتان، كنت أعلم ذلك !كبقية األماكن ـ يخلو من رجل

: صاح أحد الجالسين بلهجة مرحةنفسي على ـ هذا ما نعرفه جميعا، أو ما أعرفه عن

األقل فماذا يضيرك أنت؟ : قال بيأس مستقر

كنت أريد فقـط أن . ـ لم يعد هناك شيء يضيرني . أتأكد من صحة نظريتي

ـ ما دمت تتحدث عن نظريات فلمـاذا ال تجلـس معنا؟

ة محاولة لفهم ما يدور يوقد صرح مسئول كبير بأن أ تنبئ . كان مظهره جذابا .. بلبنان سوف يكون مصيرها الفشل

لفتاته عن إنسان متحضر شديد الثقة بنفسه إلى درجة الجرأة لم يفكر . الفائقة، بل أنني لمحت في لمساته خفة ظل مستترة

أحد باحتمال أن يكون مسلحا، كما لم يشعر أحد بنية ارتكابه كان وجهه ـ رغم ما فعـل ـ يـوحي بـالود . لفعل أحمقأقصى ركن فـي تابعته بشغف شديد من موقعي ب . والطمأنينة

القاعة الهادئة التي ال يرتادها إال قلة من أصـحاب المـزاج . الخاص

تمنيت أن يتصاعد الموقـف إلـى درجـة اإلثـارة . استدعاء رجال األمن وما إلى ذلك من أحداث تقتل الضجر و

تعجبت أن ينتهي األمر بهذه البساطة، بـل إننـي شـعرت ـ اب القاعـة بالضيق لذلك إذ تحلى صاحبنا عن التصـاقه بب

. واتجه بثبات ناحية محدثهفي تلك اللحظة خرج موظف القاعة وعاد من فـوره

ين رأوا صاحبنا ح. مصطحبا اثنين من العاملين بأمن الفندق يجلس مع آخرين ويبادلهم حديثا وديا فإنهم تبادلوا فيما بينهم نظرات تنم عن الحيرة والتعجب، وما لبثوا أن انصرفوا في

. هدوء. ت عزلتي وضجري وانضممت إلى الصـحبة ردغا

قال المتحدث باستخفاف مسـتتر بعـد أن أشـعل للعمـالق :سيجارة

. ـ حدثنا عن نظريتكـ ... نويتوقع المراقبون أن أزمة الشرق األوسط ل

بأقل اهتمام خالل اجتماع الـزعيمين الكبيـرين فـي ىتحظ

ة مالطة على السفينتين الحربيتين، ولكني تدخلت بدبلوماسـي :غير مصطنعة قائال له

!ـ أال ينبغي أن نتعارف أوال؟نظر إلي بابتسامة صافية عبرت عن ارتياحه لمنطقي

: فقال بتلقائية مفاجئة هـاموش . ـ أنا مخلوق ينتمي إلى نفس فصـيلتكم

. ال يضر وال ينفع : قال المتحدث اآلخر بثقة

ـ كنت على يقين من ذلك حين ألقيت علينا إنـذارك . ميالجهن

: ابتسم العمالق ولم يعلق فسألته بتحفزماذا كنـت .. ـ لنفترض أنني ادعيت لك أنني رجل

تفعل؟ . ـ كنت سأوجه إليك سؤاال صعبا

ـ ما هو؟ ؟ "لماذا لم تفعل شيئا تثبت به رجولتك" ـ وسوف تستمر الزيادة في مرتبات الموظفين بنسبة ..

. د خمـس سـنوات مماثلة حتى تصل إلى مائة في المائة بع

ولكن ال مفر من تحديد النسل فهذا حالل، والحالل والحـرام . بين

ـ ولماذا لم تفعل أنت؟ وقد استقبلت جماهير أسيوط أعضاء المسـرحية .. فال مما يؤكد أصالة هذا الشـعب وحبـه للفنـون ااستقباال ح

. ورفضه للتطرف بكافة أشكاله !ـ ألم أقل لك أنني هاموش؟

!سيتن.. ـ متأسف : قال المتحدث

ـ وما هو ذلك الشيء الذي يمكن أن نفعله لنثبت به رجولتنا؟

ومرة ثانية يزدحم مطار القـاهرة بالمصـريين ... العائدين من القطر العربي الشقيق ـ أحياء وأمواتـا ـ دون

لكـن كبـار المسـئولين .. مستحقاتهم المالية ىحصولهم عل تصدير العمالة البد أن صرحوا بأنها مشكلة يسيرة الحل وأن

!وهكذا انتهت المشكلة.. يخضع لتنظيم دقيق !ـ أال تعرفه؟

. ـ نعم

ـ إذا كان األمر كذلك فاسمح لي أنك غيـر جـدير .أنت أدنى منه بكثير.. باالرتقاء حتى إلى طور الهاموش

. توقفت عن متابعة التعليق على النشرة وسألته بقلق ما ينبغـي أن أعرف كل أنـ وهل من المفروض

. أفعله . ـ بالطبع

ـ أال تظن أنه من الممكن أن أعرف وال أفعل؟ ـ إذا اكتفيت بالمعرفة فإنـك لـن تتجـاوز طـور

أما إذا تجاوزتها إلى الفعـل فتلـك خطـوة إلـى . الهاموش . الرجولة

هذا ويلقي المستثمرون الذين فقدوا أمـوالهم بـاللوم بينما يصـرح سـيادة على الحكومة وعلى أجهزة اإلعالم،

الوزير أن المشكلة في طريقها إلى الحل بإذن اهللا وأن الرقابة على مطار القاهرة قد أصبحت مشددة للغايـة، بحيـث لـن

. يستطيع مستثمر واحد أن يهرب مرة أخرى ـ وما هو الحل إذن؟

. طلب لي أوال مشروبا مركزاأـ

طلبت له ما أراد وعدت إلى متابعة التعليـق علـى كان المذيع يحاور ضيفا علـى جانـب كبيـر مـن . ألنباءا

: قال الضيف بتأفف شديد. األهمية .على الشباب إال ينتظـروا شـيئا مـن الحكومـة "

أما إذا أصروا على . الصحراء أمامهم فليزرعوها بأية وسيلة انتظار وصول الماء والكهرباء والمواصالت فليس من حقهم

". أن يشكوا من البطالة ر العمالق في الضحك وقد تابع الفقرة األخيـرة انفج

ثم ابتلع ما بالكأس في جوفه دفعـة . من الحوار مع الضيف . واحدة

. أشعل سيجارة واضطجع على مقعده بارتياح عظيم : عاودت سؤاله

!ـ لم تقل ما هو الحل : قال محدثا نفسه فقط

. ـ ليس الحل سهال كما قد يتصور البعضيـا "ادتي، وإلـيكم اآلن أغنيـة شكرا سيداتي وس ..

". حبيبتي يا مصر

1 اقتحمت العجوز مدخل المستشفى الخيـري بعويـل زلزل أركاني وكاد لوحشيته الغريبة أن يأتي على بقيـة مـا

تجسد كيانها . احتفظت به من ثبات عصبي في مواجهة الحياة اإلنساني في عود رفيع هش تكسوه مزق بالية مـن قمـاش

تولول في ألم شديد والدماء تسـيل .. أسود ملطخ بآثار الزمن . تبكي وال دموع في عينيها.. من كفها األيمن

. عضني الكلب.. ـ الكلب عضنيته صغيرا فلم ألتفت ايعندما فاجأني الورم كان في بد

له، وعندما ازداد حجمه ذهبت إلى طبيب التـأمين الصـحي كشف على صدري . ل بها المجاني التابع للمصلحة التي أعم

قال دون أن ينظر إلى وجهي ويده تسرع فـي . في المباالة . نه تمزق بسيط في أسفل عضـالت الصـدر إكتابة الدواء

غادرت طابور المرضى الطويل مـن المـوظفين التعسـاء ن هـذا الـدواء إقال لي الصيدلي .. وتوجهت إلى الصيدلية

فعـا فنصـحني لم يجد الـدواء ن . مجرد مسكن لأللم ال أكثر ابتسمت في وجهـه . ولدي األكبر بالتوجه إلى طبيب خاص وصفت لي جـارتي . فأطرق خجال وعاد إلى كتبه وكراساته

ـ ىموقع هذا المستشفى الخيري الذي يتقاضى مـن المرض . أجورا رمزية

لم يختلف طابور المرضى من عموم الفقـراء عـن فأنا في طابور المرضى الحكوميين، لم يزعجني األمر كثيرا

. النهاية أنتمي بنفس القدر إلى الفئتين معاتجمهر المرضي حول العجـوز . انفك عقد الطابور

ينظرون في ألم شديد إلى كفها المعروق وعالمـات أسـنان كان واضحا أنها . الكلب قد حفرت في عظامها أخاديد عميقة

تجاوزت الثمانين من العمر حسبما أوحت إلـى تضـاريس :قالت الممرضة بال انفعال واضح.. دةوجهها المعق

. ـ ليس لدينا استقبال للحاالت الطارئةسألتها بمرارة استقر أثرها في دمي وعلى خطـوط

: وجهي ـ أليس لـديكم ولـو قلـيال مـن صـبغة اليـود

أو الميكروكروم وقطعة من الشاش حتى يتدبر أحد أمرها؟

. ـ لألسف الري داء الكلب في هل نتركها حتى يس .. ـ وما العمل

دمها؟ بدت عالمات الضيق والتبرم على وجه الممرضـة،

: لكنها اغتصبت ابتسامة صفراء كالحة قالت من خاللهاها في عربـة ي أن شئت ـ أن تصطحب ــ يمكنك

. خاصة إلى مستشفى الكلبلو فعلت هذا فلن أستطيع دفع ثمن التذكرة وال ثمـن

استطعت تـدبيرهما األشعة وقد مضى شهران كامالن حتى : في صمت، سارعت إلى العجوز أسألها

ـ أين تسكنين؟ أجاب حارس المستشفى وهو يدخن سيجارة أخـذها

: من مريض ليضعه في مقدمة الطابور . ـ إنها تسكن في عشة صفيحية خلف المسجد القديم

لم أعبأ بقوله إذ أصابني منظره بالتقزز مذ رأيتـه، : احت تولول دون أن تنظر إليوعاودت سؤالي للعجوز فر . الكلب عضني.. ـ عضني الكلب

ـ أليس لك أبناء؟

. ـ ال أعرفحيرتني إجابتها وألقت على كاهلي بخوف من الزمان

.. رحت أتفحص يدها المصابة بذهول شـديد .. ال قبل لي به أمن المعقول أن تكون هذه العضة النافـذة العميقـة عضـة

.. كلب؟ : ن مخاطبا نفسهقال أحد الواقفي

ـ إنها تعيش في هذا المكـان وحيـدة منـذ سـنين . وال أحد يعرف لها أهال أو أقارب

لو سألني أحد نفس سؤالي لها ألجبته بأن لـي أوالدا أكبـرهم يـدرس بالجامعـة وأصـغرهم بـالتعليم .. ثالثة

: ولو سألني.. اإلعدادي ـ لماذا لم يأت أحدهم معك؟

دون علمهم حتى ال أضيع من سأجيبه بأنني أتيت هنا : ولو سألني. وقت أحدهم دقيقة واحدة

ـ فلماذا لم يأت معك زوجك؟ سأجيبه بأنه عض يدي التي امتـدت إليـه بـالخير والحب والعطاء، ثم هجرني ـ بعد أن أثري ـ إلى زوجـة

. أخرى في عمر أبنائه

قالت الموظفة الجالسة إلى شباك التذاكر بانفعال شديد :الصدق

ـ فليأخذها أحدكم إلى المستشفى الجامعي على بعـد . أربع محطات ترام

تروح العجوز وتجيء في مـدخل المستشـفى بـين عشرات الكلمات يتقاذفها المرضى ويتبـادلون النظـر فـي

لكـن .. لى بعضهم البعض أحيانا أخرى إإشفاق إليها أحيانا و أمامي الحصيلة النهائية للكلمات والنظرات والمشاعر تمثلت

على وجوههم الذابلة في أن األمر ال يمكن أن يعنـي أحـدا سوى صاحبته، وأن أحدا لن يفعل لها شيئا حتى لـو سـرى

. السم في دمها وماتت أمامهم على مدخل المستشفى الخيري

2 : في الطريق سألني سائق العربة الخاصة

!ـ أمك؟ : أجبته بال تردد

. ـ نعميزف إلـي بشـرى رائعـة حـين أعتقد السائق أنه

أخبرني انه لم يعد هناك مبرر اآلن إلعطاء مريض الكلـب لقد تطور الطب في بالدنا واستبدلت . عشرين حقنة في البطن

: سألته بلهفة. بهذه الحقن العشرين حقنة واحدة مكثفة ـ وهل تعطي هذه الحقنة بالمجان؟

: ضحك السائق كمن يداعب طفال ثم قال لي بإشفاق . ـ سوف يحدث هذا يوما، ولكن في األحالم

خيل . فوجئت بصمت العجوز عن الصراخ والعويل إلي أن مقاومة جسدها العليل قد انهارت وأن السم قد تمكـن

لعلها إرادة اهللا أن تسـتريح هـذه المخلوقـة . منها إلى األبد التائهة في خضم حياة ال تعرف الرحمة، وأن تسكن البيـت

استراحت نفسي قليال لهذه الخاطرة ولكني األخير في هدوء،

فوجئت بها تنظر إلي نظرة عميقة نافذة أصابتني بشيء مـن تجلت في نظراتها أمارات الدهشة والشك والعرفـان . الفزع

وألول مـرة أرى .. واليأس والفرحة والزهـد والالمبـاالة الدموع تتساقط من عينيها في نـدرة تشـف عـن غلوهـا

. في البقاء متحجرة بمقلتيها المنطفئتينوامتناعها ورغبتها وجيب في قلبي فمسـحت ىتحول الفزع في نفسي إل

دموعي بظهر كفي وتبددت آالم الورم المجهول فرأيت أبنائي وقد صاروا كبارا حين سافر منهم من سافر وبقي منهم مـن

وأبنائه بعيدا عنـي، وبقيـت فـي . بقي وقد استقل بزوجته زوجي القاسية ليدي وتضخم الـورم وحدتي أجتر آالم عضة

في صدري وعجزي عن االحتماء بأحد من أفاعيل الزمـان تنتهي أيامي إلى مثل ما لوتساءلت ترى ه .. وغدر المجهول

انتهت إليه أيام هذه المخلوقة التعسة القابعـة إلـى جـواري . كنفاية لفظت بها هموم المكان والزمان إلى بالوعة النسيان

3 . ف ال يوجد لدينا مصل اليومـ لألس

!ـ هل يعقل حدوث هذا في مستشفى تخصصي؟ ـ وما العمل؟

ـ اذهبي بها إلى المستشفى األميري فربما كان لديهم . مصال

استعوضت اهللا بما تبقى معي من نقود قليلة وتوجهت ذلك .. بالعجوز في عربة أخرى إلى المستشفى األميري العام

رعبا لمجرد أن يتبـادر اسـمه إلـى المكان الذي يدق قلبي . مسمعي

لم أهتم كثيرا بآلية العجوز في استجابتها االستسالمية . إلى سلوكي معها، فيقيني أن الحياة قد أنهكتها بما فيه الكفاية .. لم يعد يعنيها أن تعبر عن شعورها باالمتنان أو الغضـب

ال معنى عنـدها . تعالي تجيء . انزلي تنزل .. اركبي تركب بل إن مالزمتي لها ووجودي إلى جوارها . للقبول أو الرفض

وكأنني مسخرة مثلها تماما . في محنتها ال يعنيان شيئا عندها الـتالزم والمحنـة وبفعل قوة أكبر مني ومنها ومن الوجود

.. واألشياء ألن ننتقل من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنـا . ات الغريبةهكذا خيل إلي بتأثير صمت العجوز ذات النظر

ـ الم يتفوه السائق الثاني بكلمة واحدة بعـد أن ىكتف عاودت النظر في فضـول . بالنظر إلينا برهة في حنو شديد

. ال بد أنها عضة ذئب أو أسـد . ال مبرر له على يد العجوز . أو أنها عضة مخلوق آخر إال أن يكون كلبا

عندما تفحصت يدها هذه المرة رأيت اخـتالال قـد ناموس الحياة القائم على العدل، فأنا لم أفعـل مـا حدث في

يسيء على زوجي حتى يهجرني، وليس بنيتي أن أتـردد ـ فيما بقي لي من عمر ـ لحظة واحدة في التضحية بحيـاتي من أجل أبنائي، فلماذا فعل بي زوجي ما فعل ولماذا سـوف

!يتركني أبنائي وحيدة حين يكبرون؟فأفقت معها حين قالـت أفاقت العجوز من غيبوبتها : فجأة بصوت يحمل رنة انتقام يائس . ـ يجب أن نبلغ الشرطة

. بدأت المسكينة تستسلم لسريان لعاب الكلب في دمها ها هي ذي بوادر الهذيان، فبأي شيء تريد أن تبلغ الشرطة؟ . ـ خذيني أوال إلى الشرطة حتى يقبضوا على الكلب

نذهب إلى الشرطة بعد المستشفى . ـ ارتاحي يا أمي . بإذن اهللا

. ـ لو تأخرنا سيغلق دكانه ويهرب !ـ من هو؟

تهيأ لي أنها لم . اندفعت في الصراخ اآللي من جديد تكن تشعر هذه المرة بألم حقيقي، بل إنها تحتال لدفعي إلـى

أخيرا نطق السائق بمجرد . تباع تلك الوسيلة اتحقيق رغبتها ب . فىأن توقف بالعربة أمام المستش

. ـ هناك مركز للشرطة قريب من المستشفىفوجئت به يحملها بين يديه ويطلب منـي انتظـاره

ت، مبالعربة حتى ينتهي من مهمته التي كلف بها نفسه في ص .تنفست بارتياح وزالت عني كل أسباب الكدر دفعة واحـدة

بعد قليل عاد السائق مبتهجا والعجوز بين يديه كعـود مـن لى جواري وهو يعبر بكلمات مهذبة عـن وضعها إ . القصب

دهشته لسذاجتي إذ قضيت معها كل هذا الوقت دون أن أدري أن الذي عضها إنما هو رجل يعد الشاي في دكـان صـغير

. مجاور لعشتها الصفيحية ويبيعه للعمال : سألتها في ذهول

ـ ماذا فعلت به حتى يعضك بهذه القسوة؟

4 ضابط بـدا مـن إغـالق في مقر الشرطة لم يجد ال

المحضر وحفظه لكون الجاني من المتخلفين عقليـا بغـض النظر عن أسباب خالفه مع جارته العجوز التي ال يعرف لها

وفي طريق عودتي إلى بيتي كنت على ثقة أقرب .. أحد نسبا . إلى اليقين من أن الورم الذي ظهر في صدري ورم حميد

د فلم تستجب خلجـاتي نفذت في عينيه إلى عمق بعي

البتسامته العريضة، وإنما انتابتني قشعريرة داخلية ضاعفت كان ذهنـه يعمـل بسـرعة فائقـة . االنزعاجبمن شعوري

هناك سر . ال يخطر بباله أبدا أنني أرصدها في التو واللحظة غامض عجيب يكمن بداخلي في منطقة مجهولة، شبيه فعلـه

يد الحساسية من شأنه أن بفعل جهاز السنسور، هذا جهاز شد يستقبل حركة أو ذبذبة ميكانيكية أو تغيرا فيزيائيا أو كيمائيا لينقله بدوره إلى أجهزة أخرى تتحكم تبعا لـذلك فـي بقيـة

قال لـي السـر إن ابتسـامة . العمليات المتصلة به عن بعد ورغم أن كلماتـه تبـدو . زميلي هذا زائفة ال تنبع من القلب

أنني أرى وراء كل كلمة هدفا ووراء كـل تلقائية ودودة إال هدف محاولة مستميتة لتحقيقه ولو تم ذلـك علـى حسـاب

ني بحرارة فقال لي السر أنه ال يحبك فحصا. البشرية بأكملها عرف أيضا أنه نجح بمهـارة أ. وقلت للسر أنني أعرف ذلك

في استغفال معظم الـزمالء وخـداعهم بتواضـعه المـتقن ى اكتسب احترامهم ـ وهذا ما يسـعده وأحاديثه المرحة حت

على حد الجنون ـ كما اكتسب محبتهم وإن كانت ال تهمـه ما بور. كثيرا فالحب عند مثله من البشر أمر عسير اإلدراك

. كان ترفا ال حاجة عنده إليهفي فمه ويتحدث بعظمة فارغة " البايب " أراه يضع

ضحك منـه محاكيا أحد زعماء مصر الراحلين فال أستطيع ال كما ال أشعر باإلشفاق عليه أو الرثاء لحاله، فجهازي السري الحساس يلح على دائما بأنه رجل غير حقيقي منفوخ بهـواء

هكذا كان حالي دائما مع هذا الزميل حتى أنني غدوت .. فاسد الظـن بـه يئدائم التوجس من نظراته وأفعاله وأفكاره، س

ال الرصد أمام سري وبأمثاله ممن توقع بهم الظروف في مج . العجيب

بين " الصارخة" من الفجوة ييام قالئل اشتكى إل أمنذ جاملتـه . عقليته وعقلية زوجته، ومن إهمالها لشئون بيتهـا

نسـى . بحذر قائال إن كثيرا من النساء في هذه األمور سواء أنه كان في الماضي القريب يعبر لي عن سـعادته الشـديدة

قال لـي . زوجية الخالية من األطفال بذكاء زوجته وبحياته ال السر أنه يتمنى ولو طفال واحد، ال حبا في الطفولة أو األبوة،

ولمـا رزق . نية أمام بقية الرجـال ووإنما تجنبا للشعور بالد

بثالث بنات صار يمتدح خلفة اإلناث ويطري في محاسـنهن ويصفهن بالرقة والحنان، ناقما على خلفة البنـين مسـتنكرا

هم وجحودهم عندما يكبرون، أبرق لي السـر بشـفرة أنانيتعاجلة تفيد بأنه يتمنى الولد بحكم تكوينه الريفي مـن جهـة،

غيـره مـن جهـة ىوألنه دائم المقارنة بين ما لديه وما لد . أخرى

كنت الوحيد من بين الزمالء الذي لم تنطل عليه حيله كـل وأفانينه في إخفاء ما تعتمل به نفسه من متناقضات في

الفضل أزعمه لذلك السر الغـامض الـذي . ما يفعل ويقول هو شيء ولدت بـه فيمـا أظـن . فيه وال جمل ال ناقة لي

وفطرت عليه، وسواء أكان منحة من الخالق أو عقابـا منـه فهو قدر ليس باستطاعتي أن أجابهه بالعنـاد أو أن أتبـاهى

. بنسبة فضله إلى نفسي* * *

حقيقة هـذا السـر حـين قررت يوما أن أبحث عن خيل . شعرت أنه أرهقني وباعد بيني وبين الكثير من الزمالء

إلي أنه مستتر وراء ما حدث بيني وبين البعض من قطيعة، ولقد تطـور . وأنه حائل عنيد بيني وبين حبي لهم وحبهم لي

بي األمر حتى اتهمت نفسي بشدة الغـرور وسـوء الظـن ليه وأن أتخلص من آثاره باآلخرين، حينئذ قررت أن أتمرد ع

المدمرة على حياتي، ولو اقتضى األمر أن أنفيه تمامـا مـن سوف أتعامل مع الكون بأكملـه متجـاهال . حياتي فلن أتردد

ذلك السرطان الوحشي القابع بشكه ومكره في منطقة مجهولة . من كياني اإلنساني

* * * طالعني الزميل بنفس ابتسامته العريضة فرأيت فـي

ه سعادة حقيقية ولمست في مصافحته ودا إنسانيا صادقا، عينيووجدت نفسي منساقا إلى الحديث معه بال تحفظ فبئست حياة

سكندري األب والجـد إنني إقلت له : تخلو من الود والمحبة شكوت له مـن . وأن لي من األوالد ثالثة ومن البنات واحدة

لـي ضيق ذات اليد وضآلة الراتب الشهري الذي ال حيلـة حدثته عن منزلي األنيق المرتب الذي تجتهد زوجتـي . سواه

ـ على قدر إمكاناتنا المتواضعة ـ في جعله جنـة تتهـادى رويت له قصة حبي لزوجتي قبـل أن . السعادة بين أعطافها

أسمعته أشعارا مما حفظت وعلمته . يجمع بيننا بيت الزوجية ـ يقي كيف يحرك مؤشر الراديو إلى محطة البرنـامج الموس

لم أجد صعوبة . الخفيفة ىليستمع إلى الكالسيكيات والموسيق في أن أنقل إليه مشاعري الصادقة تجاه الحياة بوجه عـام ـ مهما بلغت مصاعبها ـ فقلت له إنها حلـوة وجـديرة بـأن

. تعاشويبدو أنني في غمرة اندماجي معه غفلت عن متابعة

ي الشيطاني نني تخليت عن سر ألأثر حديثي على عينيه، ال الخبيث، ولكن ألنني لم أكن في الحقيقة مندمجا معـه وإنمـا

كنت سعيدا بحالي، تلك السعادة التي . كنت مندمجا مع نفسي ال يعرف أحد لها سببا حين تأتي، حكيت له عـن زيـاراتي

ـ علـى مراسـلة يللعديد من الدول األوروبية وعن حرصـ ع أنحـاء األصدقاء ـ رغم انشغاالتي الكثيرة ـ مـن جمي

تشعبت األحاديث تفرعت فعرف أنني من قراء التراث . العالمالعربي والرواية العالمية، وأنني في لحظات الملل من الحياة أعزف على العود وفي لحظات الخوف منها ألجأ إلى كتـاب

. اهللافجأة نظرت إلى عينيه فأصابتني رعشة من الخوف

فكرت في . عرفلم أ . ماذا؟مالخوف . صاليوارتجفت لها أ منقذي ولعنتـي فـي آن . استلهام السر من جهازي الغامض

غصت بخوفي إلى أعماق سريرتي وقد استبدت بـي . واحدرغبة عارمة في النزول عن قراري، ولكني لـم ألبـث أن

تخلصت من قلقـي أو تخلـص . طفوت إلى وعيي من جديد وعـاودت الحـوار مـع . القلق مني دون أن أعرف كيـف

. الزميلبيه، أدثني عن األراضي الزراعية التي ورثها عن ح

وعن فقراء قريته الذي يفدون إلى منزله باإلسـكندرية مـن حين إلى حين فيقدم لهم العون بصوره المختلفة ليعودوا إلـى

نه متمسك بوظيفته في المؤسسة التـي إقريتهم راضين، قال لـى إيعمل بها كشكل اجتماعي فحسب، لكنه لـيس بحاجـة

لم أستطع أن أحجب عن . ق إلى جنيه واحد من راتبه اإلطالذاكرتي عدة مواقف سابقة أوحت لي من قبل أنه يهتم بكـل قرش يصرفه من خزانة المؤسسة، وأنه يحفظ عن ظهر قلب كل بنود الخصم من الراتب األساسي بنسبها المئوية الثابتـة

. والمتغيرةأمام تصدع جدار الطمأنينة وأصبح وشيكا أن يتهاوى

لعنت نفسي وقلـت . فرض السر نفسه علي من جديد . عيني

بالسر وبدونه أفاق، ولـن أسـمح .ن هذا الزميل أفاق كبير إ . لنفسي أن تستخف بعقلي أو تحقر من شأنه مرة أخرى

في نهاية اللقاء فوجئت به يربت على كتفي في حنان ألنني ظننت بـه ؛أخوي بالغ أصابني بشعور عميق بالذنب

فربما يكون المسكين بريئا من غرور سري القابع في السوء . عمق المجهول

تأرجحت بي الظنون في لحظة من لحظاتي الصفرية بين ما أضمرته نواياي الطيبة، وبين نبضات السر المنـذرة

رأيت أال مبرر لما أعـاني . بجهلي وانسياقي وراء عواطفي بـر، من عذاب التردد الذي لم يسفر يوما عن الرسو علـى

لت أن طمأنينتي لن تتألق قبل أن أضع غيـري موضـع قواالختبار العملي ولو لمرة واحدة، وليكن هذا على ضوء آخر

سوف أبذل المسـتحيل حتـى .ما صرح به الزميل من قول أنـا أم جهـازي السـري : أعرف الحقيقة، أينا على صواب

الغامض، كان محتما أن أبدد األوهام وأمحق الشك والظنون تواصلي مع الناس، وكان طبيعيا أن أتحرى عن حياة هذا في

لم أشعر أنني أتجسس على شريك . الزميل بكل وسيلة متاحة في اإلنسانية، وإنما كنت واثقا أنني مسخر بقوة هائلة لتأديـة

نها مهمة بالدرجة األولى، إمهمة تخلو من دوافع الشر تماما، . من دونها ال يحلو طعم الحياة

* * * ن أباه كان يعمل خفيرا لـدى إقطـاعي إ البعض قال

نـه ورث إقال آخرون . قديم عاش على سرقته عاما بعد عام لم يكن يعنينـي فـي . بالفعل ممتلكات عديدة عن هذا الخفير

المقام األول مدى شرعية ميراثه، وإنمـا كـان يعنينـي أن نه فقير مثلي ولكنه يتبـاهى أأعرف هل هو ميسور الحال أم

غيره كما تتباهى الصلعاء بشعر بنت أختها، توصلت ىبما لد في النهاية إلى أنه يعيش حقا في بحبوحة وإن كانت مجهولة

حال يعلى أ . الشرعية وإن كان حجمها أقل نسبيا مما ادعى فالرجل صادق إلى حد كبير، أما الكاذب فهـو ذلـك السـر

ر اللعين الذي أسلمت له مقاديري فأصابني باالنتفاخ والغـرو . واالدعاء بالنفاذية إلى سرائر الغير

لم أكتف هذه المـرة بمصـافحته عنـدما طـالعني بابتسامته المعهودة، وإنما اندفعت نحوه فقبلته، واللعنة علـى تلك الهواجس الكريهة التي تنتهي بالمرء إلـى عزلـة عـن

عندما كنت أتحدث معه من قبـل . الحياة باردة أشبه بالموت

رج كانت نظرات عينيه مختلفة تماما عن عن سفراتي إلى خا سـألني . اليوم قررت أن هذا الزميل يحبني بصـدق . اليوم

ببراءة عن التناقض بين إمكاناتي الماليـة وتلـك السـفرات أجبته بنفس النبرة التي أجبت بها أخي من قبل قائال . المتعددة

نني بعد انصرافي من المؤسسة أعمل بمكتب فنـي يـديره إوأنت تعلم يا أخي أن راتب الحكومة ال يكفي .. مهندس شهير

وأن اهللا أمرنا أن نتحدث دوما بنعمته، لقد اصـطحبني هـذا المهندس معه في رحالته األوروبية كمستشار فني لـه وإال

ولقد أيقنت شدة براءتـه . ما تحقق هذا الحلم يوما في حياتي من حين سألني بابتسامة رائعة عن سر التفاف نساء المؤسسة

حولي وعن شدة ثقتهن بآرائي ورغبتهن الدائمة في اإلفضاء قلت له ال تظن بي السوء يا أخي فإني أخاف . إلي بأسرارهن

اهللا وأحب زوجتي، وإنما المسألة أني أنفذ بيسر إلى قلـوبهن وأحس بوجيعتهن وال أفتقد رأيا سديدا أسديه إلى أي مـنهن

في ثقة خصوصية من خصوصيات حياتها يحين تطرح عل وأمان، وال شك أن تاريخي بالمؤسسة يخلو تماما من مجرد إشاعة عن عالقة خاصة ربطت بيني وبين إحداهن في يـوم

. من األيام

خالل حوارنا قدم خبير كندي ممن يعملـون معنـا بالمشروع الجديد للمؤسسة فتبادلت معه حوارا حول مسـيرة

مامـا عـن حين انصرف الخبير كان زميلي عاجزا ت . العملإخفاء ذهول غريب اكتست به معالم وجهه المستطيل ونطقت

والحقيقة أنني لم . به عيناه الغائرتان في إفصاح يصعب قمعه ولوال انهيار ثقتي بالسر وسـحب . أكتشف لهذا الذهول سببا

اعترافي به ألرجعت ذهول الزميل إلى مفاجأتـه بمهـارتي جز هو عن التحـدث الشديدة في التحاور باإلنجليزية التي يع

. بها دون تعثر أو أخطاء* * *

غير أن مرور األيام وتتابع األحداث والمواقف لـم منذ متى . بيقين، فلتذهب تحريات إلى الجحيم يتأت جميعا إل

خضعت أسرار الحياة إلى حكمة العقـل ونتيجـة التجربـة قرون استشعاري تؤكد لي صدق سري وحساسـية !.. فقط؟

لو أشرقت الشمس من الغرب فلـن تهتـز . جهازي العجيب صحيح أنه لم يتعمد إيذائي . ثقتي بكذب الزميل وصدق السر

صحيح أنـه .يوما، لكنه ـ يقينا ـ قد فكر في ذلك أو حاول لكن نيـة . حاول مساعدتي أكثر من مرة في أكثر من مناسبة

كيف عرفت هـذا لسـت .. المساعدة لم تكن كريمة البواعث ويوما جاءني الزميل متهلال . وكيف أوقنه لست أدري . ريأد

: وجهه بالفرحة حين قال لي في هيستيرية مزعجة . لقد أنجبت ولدا.. ـ أال تهنئني

ويوما آخر علمت من أحد الزمالء أنه التحق سـرا بأحد معاهد اللغة اإلنجليزية، كنت قد نصحته قديما بااللتحاق

لنصيحة وانحرف بالحديث إلى به لتحسين لغته لكنه تجاهل ا ورغي إدراكي أنه غير ملزم بـإطالعي علـى .. موقع آخر

شئونه الخاصة، ورغم احترامي لحرية كل إنسان في اختيار كيفية حركته في الحياة، إال أنني توقفت طـويال أمـام تلـك الواقعة وكأنني قطعت على نفسي عهدا بأال أستريح قبـل أن

. أكتشف الحقيقةد ذلك أسفار الزميل إلى نفس البالد التـي تعددت بع

زرتها من قبل مع المهندس الشهير، ولما تعجبت من غرابة غير أن مصادفات مماثلة .. نها مجرد مصادفة إالحال قال لي

أخذت تترى الواحدة وراء األخرى حتى جاء يوم جمع فيـه نظرت كعـادتي إلـى عينيـه . بيننا مجلس مع بقية الزمالء

شعرت أنني علـى وشـك اإلمسـاك . صر قلبي والحيرة تعت !لقد تالشت ابتسامته العريضة.. بالحقيقة بين يدي

1 أصدر المدير العام قرارا بإيقـاف متـولي حسـنين عبد ربه عن العمل لحين االنتهاء من التحقيق معـه بتهمـة

. تبديد المال العام

2 هالكية بالمنطقةمدير عام المجمعات االست/ السيد لسيادتكم متولي حسنين عبـد ربـه والفـراخ همقدم

المجمدة كان عددها مائتين بالتمام والكمال، أما تاريخ حياتي فكنت غافال عنه مثلما كان غافال عني لوال أن اضـطررت

. للكتابة إليك .. بعد التحية واالحترام

فإنني أعترض على نتيجة التحقيق وأطعن في صحة ستعيذ باهللا من شرور البشر وأحب رائحـة البخـور الجرد أ

.. وكنت أتمنى في صباي أن أعمل سفيرا لبالدي في الغرب

لكن عندما تصل سيارة المجمعات االستهالكية محملة باللحم نني أفرح كثيرا ألنني كنت من إالضأن والبقري والجاموسي ف

. المتفوقين في مادة الفلسفةشفية لحم البهائم ـ أي من يستطيع أن يسابقني في ت

ةاستخالصه من العظم ـ سأشد على يده مهنئـا دون غيـر . أو حسد

ويعلم كل من . تزوجت من امرأة مجففة أحبها كثيرا يعرفني أن اللحوم تصيبني بالدوار إذ تسـبب لـي رؤيتهـا أو تذوقها أو مجرد سماع اسمها مشكلة معقدة أعتقـد أنهـا

. نفسية، وكان آخر أيام االمتحانـات كان يوما حارا مرهقا

بالسنة الثانية بكلية اآلداب، عدت جائعـا، خصـتني أمـي بقطعتين كبيرتين من اللحم، بينما كان نصيب الفرد الواحـد

جلس أبي ينقل . من أفراد أسرتنا السبعة قطعة واحدة صغيرة كانت المرة األولى التي . بصره بيننا جميعا في ذهول غريب

ا الطعام النادي بعـد مضـي شـهرين نحظى فيها بمثل هذ كاملين، الحظت أنه لم يشاركنا الطعام، أقسم أن تأكل أمـي . قطعته ثم تعلل بضرورة الخروج من المنزل لقضاء أمر هام

.. مضى على ذلك اليوم أعوام ولم يعـد حتـى اآلن ويا سيدي المدير العام أنا لسـت أنـوي التعـرض ألحـد

لكني أريدك أن تثق بما أقول أو الخوض في سير اآلخرين و ورزقنا جميعا على اهللا، ال تفعل مثل اآلخرين الذين يبتسمون

لـم . لي بإشفاق حتى قبل أن أكلمهم ألنهم جميعـا كـذابون لى طبيب نفساني يحررني مـن إأستجب لنصيحتهم بالذهاب

مشكلتي مع اللحم والسكاكين والناس الطيبـين واألشـرار، أحلها ينبغي أن يبيني وبين نفسي ولك مشكلتي الحقيقية تقوم

أتخلص على الفور من فقـري الشـديد وكبريـائي الـواهم وترددي في اتخاذ القرارات المصيرية وتعقلي الزائـد عـن

. الحدلو مررت يا سعادة المدير العام على مجمعنا في أي يوم فسوف تجد معطفي األبيض الناصع ملوثا بالدماء، ولكنك

للت حتى نخاعي من تلك العالقة الغامضة لن تكتشف أنني م بين اللون األبيض واللون األحمر وانصراف خطيبتي عنـي

أما أنا فسوف . إلى حبيب جديد بعد أن حصلت على الليسانس أكتشف بعد قليل أن الملل قد أصاب سعادتك مـن شـكواي المطولة بالحديث عن نفسي ولكن هذا ال يهمني كثيـرا فـي

بق أن نصحت صديقا لي منذ عدة أعـوام واقع األمر ولقد س . بأن يخلع مالبسه ويرقص عاريا مع نفسه حين يشعر بالملل

!نني لصإاعترتني نوبة من الضحك حين قالوا عني صحيح أنني لم أستكمل دراسـتي وأن عملـي قـد اقتصر على التفنن في نزع العظام مـن اللحـوم بالسـكين

ـ ذا ال يمنعنـي مـن وتقطيعها وبيعها لرواد المجمع، لكن هالتوجه إلى سعادتك بسؤال عن معنى السرقة في إطار زمان

.محدد ومكان محدد أيضاابتك أعرفها منذ اللحظة التي اختفـى فيهـا أبـي إج

وبكت أمي وخضت تجربة ثرية في عالم المستشفيات وأقسام البوليس ومشرحة الموتى وبيوت األقارب ومنازل األصدقاء

وأمواج البحر والكتب السماوية والحيوان والمقاهي والمالهي . الوحيد الذي يطير بجناحين وال يعرف طريقه إال في الظالم

سوف يدفعك مقعدك اإلسفنجي إلى القول بأن معنـى السرقة ال يرتبط بزمان أو مكان فهو قاطع ومحـدد ويعنـي الحصول على ما للغير بدون وجـه حـق سـواء بالحيلـة

قك على هذا التعريف المطلق للسـرقة وأنا أواف .. أو بالعنف من هذا المبـدأ فلـن نتفـق اولكن لو شئت محاكمتي انطالق

ال تنزعج يا أخي في اهللا لو اتهمتك بناء على . ألسباب عديدة . ذلك بأنك أيضا لص كبير

أما لو بنيت أحكامك على أساس نسبي، للزمان فيـه كمـك نني سوف أقبـل بح إوللمكان آثار ال تعد وال تحصى ف

حتى لو كان جائرا، ال تتصور أنني أبتعد كثيرا عن صـلب الموضوع حين يتطرق حديثي على أمور أخرى، فأنا مهـتم

لى كيفية إبدرجة عالية بالنظر في وجوه الزبائن ومالبسهم، و عيونهم . سيرهم في الطريق وقبل حصولهم على اللحم وبعده

بـي ثـم أخوتي وأخواتي أعياهم البحث عن أ . تجذبني بشدة باعدت بينهم السنوات وبين أملهم الغامض فلم يعـد أحـدهم

ما زالوا يدورون فـي . يفكر في البحث عنه أو حتى يذكره فلكي غير المستقر وأنا أدور حول نفسي وأعتـرض علـى أمانة رئيس لجنة الجرد وعلى نفاق أعضاء اللجنة له وعلـى

ـ .. اكالكثير من األساليب التي تدار بها األمـور هنـا وهن !ويقولون أنني لص

زبائني من راكبي العربات الفاخرة يبتسمون كثيـرا دون أن أصدقهم ألنني أعلم أنهم يعلمون أن هذا المجمع لـم

تهمني أسنانهم بالدرجة األولى وأجدني أركـز . ينشأ ألجلهم

نفذت مرة في عمق حياة . بصري بصفة خاصة على أنيابهم كـاد يبكـي وكـدت أن أحدهم فراح يشتكي لي من الغالء و

ومـن الغريـب أننـي ـ .. أصدقه ثم تراجعت ثم صـدقته ولألسف ـ أفضلهم على غيـرهم مـن زبـائني أصـحاب

. النظرات المنكسرة والمالبس المكرمشة ذات األلوان الباهتة أنت تعرف السبب وال تملك االعتراض عليه مهما ادعيـت

فائـدة المسألة كلها تخضع لفكرة المستويات وال .. بغير ذلك سمى ثالثيا أيها المدير العام اللبيب اسمي متولي فقـط، امن نتبه جيدا إلى ما أقول فأنا جزار بارع، واللهم أعوذ بك من او

. ظلمظلم أو ُأالفقر والذلة وأعوذ بك أن َأ لنـا موينبغي أن تعلم يا كبير رؤسائي أن أبي لم يقد

ـ لقـد . الفرارتفسيرا أو توضيحا أو تلميحا يمهد به لقراره بنجح في اإلفالت من سجنه بمنتهى النذالة من وجهة نظرنـا وبمنتهى العدل من وجهة نظره، ها أنت ترى تشابه األمـور مرة ثانية، فهو نذل وعادل وأنا لص وشريف وأنت المسئول

. فهل تسمح لي أن أعاونك على اتخاذه؟.. عن اتخاذ القراربـد أن يكـون اية يجب أن تعلم أن قرارك ال دفي الب

واسعا، رغم أنني لم أسمع من قبل عن شيء اسـمه قـرار

لمـاذا . واسع، ولكن ما دامت اللغة بيدنا فلنفعل بها ما نشاء . اع إذن؟ماالست

ألن المسألة برمتها واسعة جدا يا أخـي وسـع اهللا عليك وعلينا في الرزق الحالل، السعة هنا تأتي من اتسـاع

فأنا لست نزيل سجن واحد هو رتع في زنازينه أالسجن الذي الذي وضعني في هذا المأزق كشأن أي سجين عادي وإنمـا أنا نزيل عدة سجون في وقت واحد رغم أنني لم أرتكب أية

الفعل األصلي وسع واالتساع أو الوسع يتناقض مـع . جناية والترهـل " البهوقـة "و " السبهللة"حكام األمور فتغلب عليها إ

ة التي شـاءت أن ففأنا نزيل سجن الصد وما دام األمر كذلك يهرب أبي وأرجو اهللا أن يكون قد توفاه رحمة به ألنني حين أذكر نظراته الشاردة البلهاء أمام طبـق اللحـم ال أسـتطيع تحملها فأغرز السكين فـي لحـم البهيمـة بعنـف وحـذق ألستخلصه من عظمها في لمح البصـر فتبـتهج أسـاريري

. بث أن تذوب مع الزمن الخبيثوينشرح صدري لفترة ال تلوأنا نزيل سجن الفقر الذي ال تسـتطيع قـوة علـى األرض أن تنزع مخالبه السامة من لحوم ضحاياه المختارين قبل أن يتركهم جثة هامدة، ومن الغريب أنني أقتله بسـكيني

لعنـة اهللا . وفي كل يوم عشرات المرات لكنه أبدا ال يمـوت ترى غير ذلك مـع اعتـذاري ن كنت إعليه يا أخي وعليك . لمقامك اإلداري الرفيع

وأنا نزيل سجن التزامي بأسرتي الضائعة قليلة الحيلة والرزق والتفكير والقدرة على التأمـل، واألدهـى أن هـذه األسرة هي األخرى سجينة حيز واسع من األرض والهـواء والناس يفتقد المعالم والحدود ويرتع فـي عـوالم مجهولـة

. مها إال اهللاال يعلوفي النهاية فأنا سجين أفكاري الحقيقية حينا وأفكـار

وبعبارة أخرى تلخص لك موقفي . االتساع الواسع حينا آخر مذبوح مبصـر ضـرير يسـار نفأنا إنسان معصور معجو

من هنا كان البد أن أصف قرارك المرتقب باالتساع .. يمين . وأعتقد أنك فهمتني اآلن

يس األعلى أنني لست أحـاول أن الرئ وثق يا سيادة أستدر عطفك حتى تعفو عني وتعيدني إلى سكيني وبهـائمي ومعطفي األبيض الممل، فأنا لست أخافك أو أخاف غيـرك ألنني لم أرتكب جرما في حق أحد بعينه سواء من عمالئـي

ذوي األنياب الطويلـة المدببـة السـامة أو اآلخـرين ذوي . منهزمةاالبتسامة الصفراء الباهتة ال

المسألة يا سيدي ببساطة أن مدير الجمعية فاجـأني : ذات يوم بقوله

ـ كم حصيلة اإلكراميات اليوم؟ . ـ مائة وعشرون جنيها

. ـ هات ثمانين ـ لمن؟

. ـ لي وحديـ وهل ترضى أن توزع األربعين جنيها على خمسة

عمال وموظفين؟ . ـ من اليوم سيصير هذا النظام

ـ لماذا؟ . لى مبلغ من المالإ ألنني بحاجة شديدة ـ

. ـ وكلنا أيضا بحاجة شديدة مثلك . ـ قراري غير قابل للنقاش

ـ هل علم الزمالء بهذا القرار؟ . ـ ليس هذا من شأني

ـ وإذا اعترضت فماذا أنت فاعل؟ . ـ لن تملك حق االعتراض فأنا مدير المجمع . ن جنيهاـ لن تأخذ قرشا واحدا من المائة وعشري

ـ هل جننت فوق جنونك الذي نتحمله كل يوم؟ ولكني مصر على قراري واركب أعلـى .. ـ يجوز

. ما في خيلك . ـ سيكون عقابي شديدا

. عتمد على اهللاأـ .. سيدي المدير العام

المجمـع ابلقد اعتدنا في فترة الراحة أن نغلق أبو لفـرن ويذهب أحدنا إلحضار طاجن اللحم بالبطاطس مـن ا

المجاور ثم نجلس جميعا نحن الستة نتناول الغداء ونشـرب الشاي ونشتم في المسئولين ونلعن في الغالء ونسب في الدنيا

. ونأمل الخير في اآلخرة ويقوم بعضنا للصالةأما اللحم فهو حصـيلة فـروق الميـزان ـ غيـر المقصودة ـ بين المجمع الرئيسي ومجمعنا والزبائن فضـال

خطاء الحسابية التافهة التي نبرر بهـا تلـذذنا عن بعض األ وأما البطاطس فأمرهـا . باستطعام اللحم الذي نبيعه للعمالء

هين، والحقيقة أن موازين الجمعية كلها تالفة ومستهلكة وقـد كتبنا مذكرات عديدة إلى سيادتكم لتبعثوا بمن يصـلحها دون

مل دائما الالفت للنظر أن التلف في هذه الموازين يع .. جدوى . لصالح الجمعية ال لحساب العميل

وبالطبع يحتاج األمر على ما يقرب من كيلو جـرام من الطماطم وبضع بصالت وقليل من البهارات حتى تفـوح رائحة البطاطس فيسيل لعابنا ونأكل بشراهة وننسـى الـدنيا

. لشدة انغماسنا في مرقها وسمنها ودهنهاأشـعر باتسـاع . عافي ذلك اليوم كنت أنا نفسي واس

الدنيا واألشياء بما فيها السكاكين ومؤخرات البهائم وصحراء ن لمحت الطاجن الشـهي إلذلك فإنني ما .. سيناء ورحمة اهللا

يكاد ينطق معبرا عن جماله حتى أعطيت اإلشـارة المتفـق قمت بإغالق الباب بنفسي وقاموا بتكتيف . عليها مع الزمالء

دوه على األرض، بينما وقفت أسن سيادة المدير بحبل قذر وم سكيني على الحافة الرخامية لطاولة البيع وأنظر إلى سيادته

وحـين . ستمتع بالرعب الشديد على وجهه من حين آلخر أل : قال أحدهم لي

. أعمل لك همه حتـى نخلـص .. ـ شهل يا متولي . بسرعة

: فإن سيادته صرخ مستنجدا بأعلى صوته . ـ أنا في عرض النبي

تربت منه والسكين بيدي وقد أجدت تمثيل الموقف اقرغم شرودي الشديد في تلك اللحظة إذ كنت أفكر في زوجتي العجفاء وأبي الهارب وكلمـات أغنيـة مغربيـة سـمعتها

صاح سـيادته . بالمصادفة ذات ليلة فجعلتني أبكي بال سبب : في جبن شديد

. ـ أبوس رجلك يا متولي ـ والثمانون جنيها؟

. ت أريدهاـ لس ـ كلها؟

. ـ وال قرشا واحدا منها شاهدين يا إخوان؟

: صاحوا جميعا . ـ شاهدين

ـ ولو تركناك هل تقل أصلك فيما بعد؟

. ـ بشرفي لن يحدث ـ كأن شيئا لم يكن؟ وهل كان شيء حقا؟ .. ـ كأن شيئا لم يكن . ـ فكوا قيده يا رجال

ش بشدة، وأكل معنا بشراهة رغم أن جسده كان يرتع . تملكتني رغبة شديدة في صفعه على قفاه ولكني نسيت

. في اليوم التالي فوجئت بلجنة الجردوتفضلوا بقبول وافر االحترام والتبجيل يـا مـديرنا

. العام متولي: توقيع

وجاء في مذكرة المدير العام أنه ينصح بتحويـل .. مين متولي إلى قسم األمراض النفسية والعصبية بهيئـة التـأ

ـ الصحي بعد إلغاء وق ام فه مع إعادته على العمل بعد عدة أيحتى ال يربط بين األمرين، على أن يراعي المـدير الجديـد للجمعية حسن معاملته وأن يوليه عناية خاصة تجنبا إلثـارة

. المتاعب في المجمعات التابعة إلدارة المنطقة

ر ويكون حسبته أمرا عاديا أن يجري أمامي صرصا

في متناول يدي فال أفكر في التخلص من وجوده الكريه فـي ليس هذا من باب التعاطف معه أو انعدام الرغبة . مكانه يرغ

في القضاء على حياته، وإنما لمجرد الكسل والشعور بعـدم أهمية قتله أو تركه يرتع أمامي فـي وقاحـة بـين كتبـي

لرفع يـدي ذلك أنه من الضروري أن أبذل جهدا .. وأوراقيـ بعد أن تمسك بالحـذاء ـ ومـن الضـروري أن أحكـم الضربة وأحسن تصويبها قبل أن أنقـض عليـه وإال أفلـت

ومن الضروري أيضا أن أستنفر في نفسي إرادة قوية .. منيوالحقيقة أنني لم أجد لنفسي مبررا . ال تعرف التردد في قتله

أن أبذل ورغم ذلك فقد كان البد . واحدا لكل هذه الضرورات جهدا آخر ـ وإن كان عقليا ـ للتوصل على فهم ما يبـرر موقفي الجديد تجاه الصراصير، فأسوأ ما في هذا األمر أنـه ما من شيء بهذه الدنيا إال ويحتاج إلى جهد سـواء لفهمـه

. أو الحصول عليه أو حبه أو كراهيته أو قبوله أو رفضه

لموقفي من كان إحساسي بالعدالة هو المبرر الحقيقي فلماذا أقتله ألن منظره يؤذيني ويشعرني بالتقزز . الصرصار

بينما أترك مخلوقات أخرى ظلت تؤذيني وتصيبني بالغثيـان على مدى خمسة وأربعين عاما دون أن أفكر حتى في لومها

لقد جاء هذا الصرصار في تلك اللحظـة . أو مجرد إنذارها لى قيـد الحيـاة، وإن لينبهني إلى حقيقة هامة تتعلق ببقائي ع

ن كانت العناية اإللهية هي التـي إكنت ال أستطيع أن أجزم بعثت به إلي اآلن أم أنها مجرد مصادفة كان مـن الممكـن

. أال تكون يسمونه الصرصار األمريكي وهو صـغير الحجـم

ولقد حدثت بيننا مواجهة . ال ينمو ألكثر من مليمترات محددة ة والمراوغـة والنظـرات التأمليـة ساخنة تبادلنا فيها الحيل

المنطوية على الغدر والخسة أحيانا وعلـى البالهـة أحيانـا غير أن أحدنا لم يتخذ من اآلخر موقفا إيجابيا يسـفر . أخرى

ظل ينظر إلـي متوجسـا وهـو . في النهاية عن فعل محدد . يحرك شواربه في هدوء أحيانا وفي عصبية أحيانا أخـرى

يحوم حول . ثم يعود ثانية على الخلف يمشي قليال إلى األمام

أتأمله بعمق . مساحة دائرية صغيرة في متناول يدي وبصري . ويتأملني بغموض

تعجبت كيف تحملت عيناي رؤية القبح ثم اعتـادت وتساءلت هل امتزج القبح بالجمـال . هذا التحمل زمنا طويال

أم صار القبح جماال أم أنني فقدت بصري أم أصبحت أنظر . نين غير عيني أم أنني لم أكن أنابعي

لو كان فراشة جميلة ملونة لما كان في األمر غرابة، لكنه مخلوق قذر بشع المنظر رغم صغر حجمه ودقة تكوينه وبراءة نظرته الخبيثة النابعة من شدة جبنه وتشبثه بالحيـاة

. بأي ثمن. تحرك فجأة باتجاه يدي الممسـكة بكتـاب ضـخم

من الحرص في البداية، وشيئا فشـيئا اتسمت حركته بشيء تملكته الجرأة أمام سكوني وصـمتي وشـعوري بالوحـدة

ازداد اقترابه من يدي حتى . واستقرار الملل في خاليا جسدي المسها، وبتسلل غير محسوس نفذ في جلدي دون أن أحرك

شعرت به يجري في دمي ويسبح في حرية تامة حتى . ساكنا . اوصل إلى نفسي فاستقر به

عندئذ ظهر صرصار آخر وكرر معي نفس المحاولة ثم تاله صرصار ثالث فرابع وخامس وألف حتـى امـتألت نفسي بالصراصير وأنا في حالتي الصفرية السـاكنة التـي ال تعرف الحركة إلى يمين أو يسار أو أمام أو خلف أو فوق

. أو تحتوعندما اختفت الصراصير من أمامي شـعرت فـي

لق لم يلبث أن أعقبه شعور بالسعادة ترتب ظهـوره ية بق داالبولكن ألني .. على إدراكي المفاجئ أن القلق دليل على الحياة

كنت يائسا، فقد تعادل عندي شعور القلق بشعور السعادة فلم !أعد أشعر بشيء

1 وجدت أن . أتيت فجأة إلى الحياة كما يأتي أي مخلوق

سعة وتعجبت ألنها تبدو في عيـون أرض وا الدنيا ما هي إال المخلوقات ضيقة حتى أنهم يتزاحمون عليها بتدافع العقـول واألكتاف واألجساد، وأحيانا بالقلوب، تصادف أال أجد مـن يرشدني منذ اخضرار عودي إلى كيفية التعامل علـى هـذه

في شـارع . األرض الواسعة الضيقة مع هؤالء المتزاحمين مية كنت واحدا من الهائمين فـي ذلـك سينما جيتيه باإلبراهي

منذ سنوات عديدة كان لهـذا . الطوفان البشري غير المبرر الشارع طابع خاص بمقاهيه اليونانيـة القديمـة ومطاعمـه

. الصغيرة التي تنبعث منها رائحة شواء اللحم والسمكان قليال، وعلى طول الطريق يلتقـي سككان عدد ال

د والفواكه وكان النـاس علـى السائر بباعة الزهور والجرائ وجه العموم يبتسمون، تبين لي بعد عشرات السنين أنه حتى لو كنت قد وجدت من يرشدني فذلك لم يكن ليغير من واقـع

ذلك أن المرشد نفسه قد يخونه التقـدير فتسـير . أمري شيئا الحياة على غير ما رأى، أو أنني قد ال أسـتجيب إلرشـاده

المهم أنني سرت كما يسـير . منذ البداية أو ربما ال أقتنع به لست أذكـر مـا . غيري في األرض باحثا عن وسيلة للحياة

الذي أتى بي إلى هذا الشارع ولكني كنت أشعر باألسى لمـا ذ تأكد لي أنه كلما تمر السنوات تزداد عموم األحوال إ. أرى

أصوات الميكروفونات وشرائط الكاسـيت . سوءا واهللا أعلم األرصفة والمحالت الكئيبة التي تخلو واجهاتهـا تتداخل عبر

ضجيج العربات وصـراخ الشـباب . من لمسة ذوق واحدة وبكاء األطفال وعيون النسوة علـى المعروضـات وسـالل الطعام وروائح كريهة وطوابير طويلة واقفة أمـام المخبـز وتالل من القمامة في كل مكان بحيث تمكـن منـي شـعور

. بالقرف من الحياةستمد منها ثقتـي أرتي مسلحا بالفطرة يكنت في مس

بالمستقبل وفي الوقت ذاته كنت مفتقرا إلى كثير من المصادر ها في نفسي، لهـذا كنـت خالواقعية لتثبيت هذه الثقة وترسي

أعاني دائما من الخوف والتردد، مثلما كنت وما زلت أعاني .من تلك الثقة التي لم أعرف كيف أضع يدي على مصدرها

غير أنني كنت أشعر في بعض اللحظات شعورا طيبا عرفت ني ودفيما بعد أنه السعادة لم يكن يلبث أن يزول فجـأة ليعـا

مرة أخرى في زمن آخر ثم يزول ثانية دون سـابق إنـذار . ودون أن يبرر بشكل أو بآخر ظهوره أو اختفاءه

. لمحته يسحب أطفاله األربعة في مالبسـهم الرثـة ستسالمه للزمن وكان جبينه مقطبا وأساريره أعلنت صلعته ا

منقبضة وملبسه شديد البالء بينما ازدادت عدسات نظارتـه زميـل الدفعـة . مرسي عبد الجبار. سمكا فوق سمكها القديم

هل مضى كـل هـذا . آه أيتها السنوات البالية . كلية اآلداب برأيت فيه نفسي وقلت أنه لو رآنـي .. العمر دون أن نلتقي؟

يخدع في ملبسي المتأنق وحلتـي الزاهيـة وحـذائي فسوف فكرت أن أسارع إليـه ألصـافحه وأقبلـه ولكنـي . الالمع

تراجعت في اللحظة األخيرة ووجدت نفسـي منسـاقا مـع . الطوفان إلى حيث ال أدري

2 وجدت الناس يشيدون ألنفسهم المأوى قـرب النهـر

عض إلـى أحيانا وقرب البحر أحيانا أخرى، كما اضطر الـب

يد مأواهم في الصحراء، وبدأت حيرتي ـ التي ستصـبح يشتأزلية ـ أمام االختيار األول فتبين لي أنني إنسان ال يسـتقر

. ن لم أبحث حتى اآلن في سر تلـك الظـاهرة إعلى قرار و على أية حال كان اختياري للموقع مثاليا من وجهة نظـري

لـى النهـر إذ كان يقع في بقعة صحراوية تطل من ناحية ع ومن الناحية المقابلة على البحر، ويبدو أن هذا االختيار قـد

نحو المواجهة األولى مـع المتـزاحمين، يدفعني رغما عن : انشقت األرض عن رجل قال لي بجفاء

ـ ماذا تفعل؟ . ـ ابني جحري

. ـ أبحث لك عن مكان آخر وإال كانت نهايتك ـ لماذا؟

مضـيت عمـري ـ هذه الوظيفة محجوزة لي وقد أ . استعدادا لشغلها بالترقية إليها

حملت معولي ومعداتي ومالبسي وطعامي وآثـرت السالمة فاألرض واسعة ـ على األقل في نظري ـ وذهبت ألحفر لنفسي جحرا آخر في مكان بعيد له نفس المواصـفات

. الجغرافية

سألت زميال عن مرسي عبد الجبار فعلمت أنه يعمل ذهبـت . حكومية منذ تخرجنا في الجامعة بإحدى المصالح ال استقبلني بمودة غامرة حتى . طرية طاغية فإليه مدفوعا بقوة

أنه كاد يبكي لشدة فرحته بلقائي بعد مرور ربع قـرن مـن لو فديته بعمري فمـا تالزمان، أسرني عطفه الشديد وودد

عهدت فيمن عرفت من الناس كل هذا القـدر مـن المحبـة سألته بإشفاق عن أحواله وكانت صورة . والتعاطف اإلنساني

: هيئته البائسة مع أبنائه ما زالت عالقة بذهني فأجاب متنهدا . ـ نحمده ونشرك فضله

. لم تغير وظيفتك منذ تخرجناأـ . ـ نعم

ـ أال تعرف الملل؟ . ـ لقد تصادقت معه وانتهى األمر

. ـ زمالؤنا أصبحوا وكالء وزارة يا مرسي . يا أخيحظوظ.. ـ هه

بعـد . رفع السماعة بآلية مميتة . رن جرس التليفون ـ دة عاقليل وجدت أساريره قد انفرجت إلى مداها وبانـت الس

: قال لمحدثه بتركيز واهتمام شديدين. على وجهه طافحة

لـى إـ ألم أقل لك أننا سنهزم هذا الفريق ونصـل كأس العالم؟

يثـه أصابني وجوم ممتزج بالدهشة، بعد انتهـاء حد حاولت إن استكمل معه ما انقطع من حوار ولكنـه واصـل

ارتفـع . الكالم عن كرة القدم بتأثير فعل مغناطيسـي منـوم . ت شرايين رقبتـه رزصوته واحتد، وتحمس وهاج وماج وب

: مسح العرق على صلعته وقال . بإذن اهللا. ـ سوف ننتصر

وبعد أن صافحته وغادرت مكتبه شـعرت بهزيمـة . وحي وتعصرها ولكني تحملت األلمساحقة تطحن ر

خرج من باطن األرض مخلوق إنساني آخر، كـان : أكثر جماال من سابقه، قال لي بتأدب شديد

. ـ هذا المكان لي وحدي ـ لماذا؟

ال بأبنـاء إـ نفوذ أبي كبير، وهذا الموقع ال يليـق . األكابر

. ـ فلنتنافس عليه بشرف

دة لغات وأستطيع ـ ال تضيع وقتك فأنا ثري أجيد ع تمثيل بالدي في الخارج فماذا عندك أنت؟

ـ عندي ما عندك وربما يزيد في بعـض القـدرات . وينقص في البعض اآلخر

لن يكـون لـك . ـ توكل على اهللا وال تضيع وقتي . ا بأي حالنجحر ه

. ـ إذن فهي دعوة للقتالـ لو نظرت من حولك جيدا إلى الحراس واألتبـاع

ـ مختفين وراء األشجار ألدركت أن االنسحاب أ والعبيد ال رم ك . لك من اإلهانة المؤكدة

توجهت إلى ربي بدعاء من القلب أن يلهمني الصبر والتوفيق إلى مكان أشيد فيه جحري حتى أشبع وأرتوي ثـم أنام آمنا، ولكن اهللا لم يستجب لي في حينه ورغم ذلـك لـم

عبر لي عن .وجاءني مرسي باكيا كطفل .. تهمأيأس من رح فرحته باستعادة صداقتنا من الزمن بعد أن أوشك أن يطويها

سألته عن أحواله فأخفى عنـي أنـه . تحت جناحيه الحارقين يعيش مع زوجته وأبنائه األربعة في حجرتين صغيرتين أشبه

. بكهف ذي شعبتين وأن حياته تعاني من ارتباك مالي شـديد

ة سياسية، وال عـن لم يحدثني عن أخيه الذي اعتقل في قضي ولكن بعـد صـمت . أبيه الذي مات حزنا على ولده الغائب

طويل قال لي إنه لم يكن يتصور يوما وهو في أشد حـاالت التشاؤم أن تصل به األيام إلى هذه المحطة ليقف عندها منهكا

. مكدودا فاقد العزم والحيلة، عاجزا عن الفرحة واألملمـال أعددتـه كنت أحمل في حافظتي مبلغا مـن ال

ألشتري بعض اللوازم المنزلية الهامة التي سبق تأجيلها منذ دعوته لقضاء الليلة في أحد المالهي الليلية حتى . عدة أشهر

. أخفف عنه توتره الشديد وانقباضه الشبيه بظلمة الموت

4 واصلت السير حتى فوجئت بجندي يشهر سالحه في

: وجهي ويصيح غاضبا . ـ كلمة السر

أخفض سالحك من فضلك . ـ لست أعرفها يا أخي . فما أنا إال مدني أعزل

. ـ ربما كنت جاسوسا . يبحث عن مكاننـ أنا مجرد إنسا

ـ لو بقيت هنا فعليك بطاعتي واالئتمار بأمري حتى . الموت

ـ لماذا؟ ـ أنا هنا صاحب القـرارات واألوامـر والنـواهي

. عاوأعرف كيف أحميها وأدافع عنها جمي ـ وما المقابل؟

ـ أوفر لك الجحر وقدرا من الطعـام يقيـك مـن . الموت

: قلت لنفسي . ـ اللعنة على مثل تلك الحياة القاتلة للروح

كـان .. ومضيت أبحث عن مكان جديـد لجحـري مرسي مسلوب اإلرادة تماما حين دخلنا الملهى وجلسنا إلـى

. رتخـاء عصابه تعرف اال أبعد أن شرب كثيرا بدأت . مائدة والـرقص والغنـاء، ىعبر لي عن إعجابه الشديد بالموسيق

تماديت في تشجيعه على المزيد من الشراب واللعنـة علـى . البيت ولوازمه وعلى أيامنا وسنواتنا المنصـرمة والقادمـة

قال إن الخوف . وانطلق مرسي يتحدث في فضاء ال نهاية له لعمى ويظـل يتصور أحيانا أنه أصيب با .يطارده بال هوادة

يتخيل أحيانـا . يفكر كيف سيدير شئون حياته وقد فقد بصره أنه أصيب بالكساح والشلل ويمضي الليالي الطويلة محيرا في

وت األوالد وكيـف قأمره وكيف يمشي وكيف يحصل على يرى نفسه أياما أخرى وقد انحرف فسـرق . ستحتمله األيام

ه وارتشى وكذب واحتـال علـى اآلخـرين ليحـل مشـاكل االقتصادية وإذا بقوة مسلحة تهاجم منزله قرب صالة الفجـر

طلبت لـه مزيـدا مـن . لتقبض عليه وتزج به إلى السجن كان يقـف فـي . الشراب حين بدأت الضحكات تتخلل حديثه

بعض األحيان ليواصل الحديث لفترة تطول وتقصر ثم يجلس . مرة ثانية ويشرب وال يكف عن الكالم

5 ن السير عبـر الصـحاري والبحـار بعد سنوات م

فرحت بـه . فوجئت يوما بحمار يعترض طريقي . واألنهارن اقتربت منه حتى انفجـر إما . وأملت بوجوده في الخالص

قال . في الكالم متدفقا بغير توقف وعلى فمه ابتسامة ساخرة : لي ضمن ما قال

أعرف أنك تبحث عن مكان لجحـر منـذ زمـن " من عنـت مـن اآلخـرين ممـا طويل، وأعرف ما القيت

اضطرك إلى النوم في العراء عرضة للضواري والعواصف كما أعرف الكثير عن تكوينك الشخصي وتركيبك . واألمطار

: سألته في قلق". النفسي الوجداني . لقد تعبت.. ـ إذن فبماذا تنصحني أن أفعل؟

. ـ التزم بتوجيهاتي . ـ سمعا وطاعة

.ـ أوال عليك بنسيان نفسك ـ كيف؟

. ـ لتكن إنسانا آخر غيرك ـ وكيف يكون ذلك؟

.ـ أنت ال تصلح للمعيشة بيننا كما أنت ـ لماذا؟

ـ الرفض بيننا متبادل فأما أن تترك أرضنا وترحل . وأما أن تعيش مثلنا ـ كيف؟

. ـ سبق أن قلت لك

. ـ ولكني ال أستطيع . ـ ما دمت ال تستطيع فليس من حقك أن تريد

. ن الجحر أمر حيوي لحياتيـ لكـ مشكلتك أنك ترفضنا وتريد منا وفي هذا تنـاقض

. صارختبين لي صحة وجهة نظره فحاولت أن أركبه قلـيال حتى أريح قدمي المتورمتين وأضع عليه أسفاري وأحمـالي وأواصل به الطريق، لكنه دفعني بعنف مـن فـوق ظهـره

هـددني . فوقعت وتألمت وقمت وحاولت مرة أخرى وفشلت بعينيه وأذنيه حين تمكن مني ولما انتابتني الدهشة ورفضـت تصديق ما يحدث فإنه فاجأني برفصة قويـة كـادت تحطـم

. ضلوعي فتركته وجريت هاربا إلى بعيد ىأنا أطبل على المائدة ومرسي يرقص على الموسيق

بينما يواصل حكاياته على إيقاعه ومجموعة مـن الشـباب ص والتصفيق وبهجة غير عاديـة تسـتبد حولنا تشاركه الرق

بالمكان دون مبرر ولقد أفقدتني زوجتي صـوابي فطردتهـا تقتلنـي . ولكني حزين علـى نفسـي .. وعشت حرا بال قيد

وال مفر من القيام حاال للرقص مـع مرسـي . الوحدة ببطء . على كل شيء

6 لم تصبح الثقة اآلن محال لألهميـة فأنـا أريـد أن

وأخيرا ولو طارت مني تلك الثقة بال أمل فـي أستريح أوال ا بثقة عارمة لم تعرف لهـا هولقد تحدت الحبيبة أهل .. العودة

هي األخرى سببا، وراحت تنسج اآلمال مع مرسـي فأخـذا يتحدثان عن المستقبل ويمشيان على البحـر والنهـر وفـي الغيطان وكانا يشمان رائحة الزهر في نشوة ما بعدها نشـوة

. نهما سيبنيان مستقبلهما معا ويشقان طريقهما بالحـب إوقاال ولقد عوال على ذلك القول كثيرا وظنا أن الكـون والحيـاة

ولكن عند أول منعطف وجد . والناس لن يعترضوا طريقهما مرسي نفسه فجأة وحيدا بغير أمل فتزوج على الفور بفتـاة

أنني اعتبرت الجحر ىواألده. نها بنت حالل ومنكسرة إقال من حقي والشبع واالرتواء من حقي والنوم من حقي فقررت مواصلة السعي تحت أي ظروف ألنني لم أشأ أن استسلم في

. بساطة إلى الموت

ادتني خطواتي الهائمة إلى جحر يعلو عـن سـطح قكنت قد رأيت جحورا عديدة متشابهة له من قبل أن . األرض

ولكني لم أشأ يقبل مرسي مع حبيبته التحدي فتصدمه بخيانتها أن أعرض روحي لقسوة المقارنة بين جحـري الـذي لـم أحصل عليه حتى اآلن وبين تلك الجحور التي تعلـو علـى

. األرض وال أرى ألصحابها أثراكان البناء عاليا تحيط به األشجار واألسوار وتتوسط مساحته نافورة تنبعث منها المياه في أشكال دائرية تـنعكس

تناثرت في أرجـاء . لة ال تبين عن مصدرها عليها ألوان جمي الحديقة الفسيحة تماثيل عديدة تثير في النفس كوامن الجمـال

أنعشـني رذاذ . جلست تحت شجرة احتمي بظلهـا . والرهبةسي بأكملهـا تحـت أوضعت ر . الماء المتناثر في تلك البقة

مسقط مياه النافورة فشربت وغسلت وجهي ودب في جسدي لـيكن .. أكد وأشقى وأمامي كل هذا الجمال؟ لماذا. خدر لذيذ

. جحري ولو على حينفي . وجدتها تقف أمامي في كبرياء ال يخلو من حنان

عينيها نظرات قوية عارفة، وفي ابتسامتها الصادقة كنز من : سألتني كما لو كانت تعرفني منذ سنين. خيرات الحياة

هل راق لك المكان؟ - .بل عشقته -

. ي حبهوأنا أيضا أهيم ف -

. لقد عرفته وأحببته قبل أن أراه -

. وهكذا حالي تماما -

أهو جحرك؟ -

. نعم ولكنه اغتصب مني -

أال تعيشين بداخله؟ .. كيف؟ -

. أعيش بداخله اسما ولكني ال أجرؤ على ذلك فعال -

ومن الذي اغتصبه منك؟ -

مجموعة من الدجالين خدعوني بالقـانون والعسـكر - . والبلطجية

وأين تنامين؟ -

. ام في كوخ صغير على طرف الجحرنأ -

ال تشعرين بالخوف أو التهديد من أحد؟ أ -

لقـد اكتفـوا .. أبدا، فكلهم جبناء فوق ما تتصـور - . بصمتي

ولكن معذرة فأنت مهددة بالفعل، إن لم يكـن اليـوم - . فغدا، على األقل في طعامك

نهم يلقون إلي بفتات موائدهم ويعيرونني بذلك فـي إ - . كل يوم

ك؟ ما اسم -

. بستان -

هل تأتين معي نبحث عـن جحـر .. ما أجمل اسمك - آمن؟

ال أستطيع مغادرة المكان طالما بقيت على قيد الحياة - . حتى لو أمروني بذلك

فهل تسمحين لي بالبقاء معك؟ -

. أنا ال أمانع ولكنهم لن يقبلوا -

!وإذا تحديتهم؟ -

. بمفردك لن تستطيع -

ر طيلة حياتي فـي لم أكن مسلحا ببندقية ألنني لم أفك كان مرسي يمتلك مسدسا مرخصا ولكنـه . مثل هذا االحتياج سيفا فصادروه فأخفى في جيبـه سـكينا ىسرق منه فاشتر

لقوا به في البحر فأنجب أربعة أطفال مـن فتاتـه أفأخذوه و

تـرددت .. المنكسرة رغم حرمانه األبدي من وقت الفـراغ انتشـلتني مـن .أردت أن أقول لها شيئا فلم أسـتطع . قليال

: صمتي الحائر حين قالتـ عليك أوال أن تبحث عن زمالئك الذين لم يهتـدوا

. ـ مثلك ـ على جحر حتى اآلن ـ ثم ماذا بعد؟ . ـ لست أعرف

غضـبت اخيل إلي أنه .. قالت عبارتها األخيرة بحدة مني ففكرت في االعتذار لها عن إلحاحي وقلة حيلتي ولكنها

نهار مرسـي باكيـا اوخها في هدوء و تركتني ومضت إلى ك على مشروعاته الطموح التي تبخرت في الهواء، بينما داعي لي أنه كان يبكي صديق عمره الذي قتل في حرب ال معنـى لها على ارض تبعد كثيرا عن أرضنا التي نقيم بها جحورنا

. بشق األنفساختلطت األمور على ذهني فجأة بحيث لم أعد أميـز

حاولـت أن . مفقود والشارع اليونـاني القـديم بين جحري ال نها حالة مؤقتـة مـن إأخفف على نفسي شدة الصدمة فقلت

فقدان الذاكرة تنتاب الفرد أحيانا لشدة إجهاده ولكـن الـذي

حدث بعد ذلك أفقدني صوابي واتزاني إذ لم أعد أميز بينـي وبين مرسي ككائنين مختلفين التقيا فجأة بعد ربع قرن مـن

كنت أتصرف في حياتي أحيانا كما لـو كنـت أنـا . الزماناستجمعت إرادتي وقواي العقلية . وأحيانا كما لو كان مرسي

بعد جهد عنيف من محاولة التركيز ورأيت أن الحل األمثـل ليطمئن قلبي هو أن ألتقي بمرسي وجها لوجه وفـي مكـان محدد أعرفه تماما حتى ال تكون هناك أدنى فرصـة للخلـط

. تباسأو االلوكان رواد الملهى منفجرين في الضـحك وهـم ..

وقد التفوا في دائرة من حولنـا ىيصفقون على أنغام الموسيق . وأنا ومرسي نؤدي معا في وقار شديد رقصة بلدية معروفة

دق جرس الساعة معلنا السادسة مـن صـباح يـوم

ـ . جديد، انتفض من نومه مذعورا ككـل يـوم يـة بتح ىألقالصباح العاجلة في وجوه المخلوقات التي تعيش معه مدركا في كل تحية أن هذا التعايش ـ ككثير من األشـياء ـ أمـر

ارتدى . ن أمكن بحنان إ بأدب و هواقع ال مفر من التعامل مع العالقة بين السرعة . مالبسه في ارتباك معتاد وسرعة مألوفة

ال مفـر . تفسيره ن استحال إواالرتباك أنشأت قانونا مطاعا و من إنجاز النصف األول من هذا اليوم ككل نصف يوم آخـر

هـو فـأر فـي . من أيام الوجود التي ذهبت والتي ستجيء بعينين زائغتين يقـرض .. الساعات األولى من هذا النصف

لقيمات صغيرة ويجلس بضع قطرات من الشاي ثـم يـدخن ربة الهيئة يهرول بذيله متجها إلى السلم فع .سيجارة كالرجال

تنتظره أمام الباب، والويل له من تكرار هذا االنتظـار منـذ . آالف أنصاف األيام

نصف حياة هي بمقياس وال حياة بمقياس آخر، أمـا ن إأي مقياس هو الصحيح فهذا ما لم يعرفه حتى اآلن، مـا

تصل العربة إلى الهيئة حتى يستحيل إلى ذئب بري جارح ـ عة ثم ذئبا فيستحيل فأرا، وقد ينهكه بعد دقائق يصير قطة ودي

تعاقب التحوالت حتى يصير في بعض اللحظـات ال شـيء ال يعرف تماما . يكاد ال يشعر بمجرد وجوده .. على اإلطالق

لماذا كان عليه أن يكون آدميا يتعايش مع آدميين يسـتنفدون مع األعمار يتكلمـون ويتمنـون ويتصـارعون ويـأكلون

ومئات األفعال األخرى .. نا يتحابون ويشربون وينامون وأحيا . قـل . خذ.. التي ال تنتهي أبدا ومنها على سبيل المثال هات

ولكنه يعـرف أنهـم فـي معظـم .. رح. تعال. ادفع. اكتباألحيان كذابون ولهذا ال يجد بأسا في ابتسامة تالزم شـفتيه

. كي يستعين بها على نفسه* * *

ر أممتتالية فهذا أن تكون حياتي سلسلة من الهزائم ال على أي األحوال ال بد من وقفة اضـطرارية . يستحيل قبوله

. تتسم بالرزانة للتفكر في هذه المسألة البالغة اإلزعاجكعادتي في مثل تلك الوقفات تعريت مـن مالبسـي وجلدي ونخاعي وتحولت إلى سمكة ونزلت إلى البحر ألرى

ـ ا دام اهللا موقعي من هذه المعضلة بمنظار مختلف، وقلت م

وما .. خالقي ورازقي فال مبرر للشعور بالسخف أو االنزعاج أروع لحظات االتكال عند واع بوجوده لدرجة المـرض، إذ

نة بـالهزائم وقال لي أحدهم محذرا بعد أن قدمت له قائمة مد : المتتالية

ـ ال تجهد نفسك أكثر من ذلك فـأمراض الكهولـة . تطرق بابك

.. منـ ولكني لم أحقق شيئاقاطعني بابتسامة ساخرة وهو يقول ما يشبه التشـفي

: غير المبرر .. لست الوحيد الذي لم يحقق ما أراد.. ـ ليكن

. ـ ال شأن بغيري، وال بديل عندي عن المثابرة : خاطبني بلهجة تهديدية

!ـ أنت حر : وكان من الواضح أنه أراد أن يقول لي ! إلى هزائمك؟ـ إن كنت تعرف البديل فلماذا تشكو

* * * في الرابعة من عصر اليوم نفسه ـ أو أي يـوم ـ

فـتح صـندوق . نزل مسرعا . أوصلته العربة إلى باب بيته

. قرأ االسم في دهشة وكأنه يكتشـفه للمـرة األولـى . البريدال جديد في األمر، عدد درجات السلم أربعون، مفتاح بـاب

جزء وفقد بريقه تآكل منه . الشقة صار ملمسه شديد النعومة أحيانا يرفض الدخول في مجـراه وأحيانـا . المعدني القديم

في جميع األحـوال . يكتفي باالستعصاء ثم يرضخ في النهاية يفتح الباب عن جدران أربعة تحيط بفراغ يحتـوي بعـض

. اآلدميين واألشياءيبدأ النصف الثاني من اليوم باالستعداد للذهاب إلـى

وه البريئة داخل الجدران األربعة تمنحه العمل اإلضافي، الوج نظرات حب مفزعة، الشعور بمسئولية هـذا الحـب يكـاد يمزقه، يتمنى لو لم توجد هذه األرواح التي ساهم في إيجادها من خالل ممارسات عاطفية ـ غير مسئولة ـ لم تتجـاوز

. يتنـاول معهـم الغـذاء . الواحدة منها أكثر من بضع دقائق ان بالغ وهو ال يتحدث، يستمع إليهم باهتمام يتحدث إليهم بحن ال مفر بعد ذلك من استرخاء يـدوم ربـع . عظيم وهو أصم

يغيـر مالبسـه ينـزل . يشرب كوب الشاي الكبير . الساعة العمـل الثـاني . أربعين درجة بجهد يعادل جهد صـعودها

يعمـل . يصل إلى مكتبه . يتجه إلى الترام . ال يوفر له غربة

في طريق العودة ينـام . نصف حتى التاسعة من الخامسة وال مرة أيقظه الجالس بجواره وقال له أنه كان يشـخر . بالترام

مرة أخرى قال له صاحب . بعمق كالنائم على فراشه بالمنزل نه يحسده على هذا الشخير ألنه ـ صاحب العمـل ـ إالعمل

بالجسد وبدونه يتجه كل شيء إلى .. أدمن األقراص المنومة . األطفال نـائمون . يصل إلى بيته منهكا ككل األيام الزوال ف

ذ قال خطيب منبري مفـوه إيتساءل متى يجد وقتا لتربيتهم، ن هؤالء األطفال هم قادة المستقبل، فتذكر أنه قد استمع من إ

"!أنت حر: "قبل إلى عبارة غريبة قيلت له على سبيل التهديد* * *

ة الضـخمة علقت حريتي في ذيل آلتي الحاسبة الكاتب ، وجذبت زعانفي بشدة نحو فراغ ىذات الذاكرة التي ال تمح

أزرق ال نهاية التساعه المطلق، حين دقت أجـراس الكـون بآالف الكلمات وماليين األحرف وجدت نفسي في سباق مـع

كانـت . زرافات األسماك الهائمة اللتقاط نصيبي من الرزق ن الكائنـات إا األحرف كحبيبات البطارخ وقيل الكافيار وقالو

راحت تأكل نفسها فلم أجد ما أبحث عنه وصرت حوتا فـي : لمح البصر وعال هدير األمواج فقال لي إحداهن

. ـ ادفع تحصل على ما تريد . ـ ما معي دون المطلوب

. ـ إذن فليس من حقك أن تريد !!ـ بعد خمسة وأربعين عاما من الدأب والمثابرة؟

. برة دائمـا بالنتـائج الع. ـ ليست أعوامك مشكلتي . غيرك لم يكدح لكنه استطاع أن يريد

. كم أنت ظالمة.. ـ ياهلم يفد شيئا من تحوله يبرر إصراره علـى التشـبث بالحياة، بل إنه شعر بظلم يستبد به وظالم يكتنـف الطريـق أمامه حيث فرت مذعورة كل األسماك والحيتـان، ارتطـم

شيء بالـداخل بصخرة فسقط منظاره وعجز عن رؤية أي أو الخارج فجمع ذيله وأمله وحريته وماله وزوجـه وأوالده وجهوده المتواصلة وألقى بهم جميعا في خيشومه الكبير وقفز

. في يأس إلى األرض* * *

ارتديت مالبسي وعدت إلى قلبي أقاسـمه الصـمت والوحدة والوجوم، وما الفائدة أن أريد أو ال أريـد، ومـاذا

ت هزيمتي أمام اليأس إلى قائمة هزائمـي يضيرني لو أضف !بدال من االستسالم له دون قتال؟

. لم يكن أمامي بد من إضافة عمر جديد إلى عمـري يتنفس مـن . عمر يحتوي على السنوات والعضالت واألفكار

رئتين ورديتين خاليتين من القطـران والنيكـوتين وأتربـة لشـباب المدينة، يضخ دماءه قلب حديدي ينـبض بحيويـة ا

أما االبتسامة فلن أتنازل عنها .. وحكمة السنين في آن واحد . حتى لو كانت تقطر حزنا

* * * في صباح اليوم التالي أسكت الساعة عنـدما دقـت السادسة وعاود النوم، اسـتيقظ فـي الثامنـة، أدى بعـض التمرينات الرياضية وكان يطيل النظر فـي إعجـاب إلـى

دخل إلى الحمـام . ديدة عليه أعضاء جسده ويبتسم بفرحة ج . وخرج منتعشا بفرحته ونظراته المستقرة

أطلق الفئران والذئاب . لم يكن مخلوقا آخر غير نفسه والكالب بعيدا عن ساحته وقرر أن يستقيل من عملـه األول

أجازة من األيام المتشابهة طولهـا شـهر . وأيضا من الثاني ظفين وال حكومـة بال عمل وال عربة هيئة وال ترام وال مو

ال بد أن هناك عمال جديدا يختلف فـي . وال أصحاب أعمال طبيعته عن العملين السابقين، وفي أي مدينة أخرى غير هذه

. المدينة !جمع كل مدخراته وقرر تبديدها عن آخرها..

تجديد أثاث المنزل أو مغادرتـه : أمسك بقلم وورقة . البس جديـدة م. إلى منزل آخر أو إلى كوكب آخر لو أمكن

وطـرب ىموسيق. أصدقاء جدد . مطاعم وفنادق . رحلة بعيدة .. ورقص وغناء وقراءة وتأمل

وجديد جديد جديد حتى ينتهـي آخـر جنيـه مـن المدخرات واللعنة على سلسلة الهـزائم المتتاليـة وقائمتهـا

. وليكن بعد ذلك ما يكون.. الكريهة

قد قال لـي بـالحرف ل. واقع األمر أنه لم يسب أمي

: الواحد . ـ أتظن أنني أشتغل عندك يا روح أمك

فاقت حيرتـي طاقـة . ولكنني لم أستطع النوم ليلتها إذ لم أستطع أن أفهم لماذا يهنني . سنواتي التسع على التفكير

ته أننـي لكل ما فع . إنسان يخاطبني بهذا االستعالء واالحتقار . ناديته بعفوية

.. بس.. ـ بسجد وسيلة غير هذا النداء أللفت نظره إلى وقوفي لم أ

الطويل أمامه ومعي العينة دون أن يلتفت إلي رغـم رؤيتـه لم أكن أعرف اسمه أو درجته الوظيفية حين طلبت منـا . لي

المدرسة تقديم شهادة طبية تفيـد بخلونـا مـن البلهارسـيا كان يجلس في نهاية المعمل األميـري العـام . واألنكلستوما

. ن سيجارة، وكنت واقفا أمام شباك العيناتيدخحين قال لي تلك الكلمات شعرت بكياني يرتج بقـوة

كان ألمي عظيما ولكني لم أعـرف . وخفت منه خوفا شديدا

ماذا أفعل معه، فقد حرمت علي أمي مجادلة الكبار وأوجبت علي احترامهم وطاعتهم، سحب من يدي العينة بعنف وألقى

د إلى مقعده وأخذ يهمهم بكالم غاضـب بها في الحوض وعا . وانصرفت.. لم أسمعه

كنت أمشي شاعرا بالدماء تنزف من قلبي الصـغير وفي المنزل لم أعرف . دون أن أجد سبيال إليقاف هذا النزف

. لى صورة أبي الراحلإكيف أوجه السؤال ـ لماذا أهان؟

في لحظة كومض البرق رأيته يبتسم لي من داخـل ما زلت أذكر معالم تلك االبتسامة بمكوناتهـا . ضيإطاره الف لم تكن تنم عن إشفاق أو مودة بقدر ما كانت تنم عن . الدقيقة

طمأنينة توحي إلى النفس بثقة راسخة مـا لبثـت شـحنتها . الغامضة أن انتقلت إلى روحي فاستقرت بها

* * * في هدوء سحبني األستاذ شـنواني مـن الفصـل،

المواصالت ووصف لي مكان النـادي أعطاني قرشين أجرة شد . الذي تقام به مسابقة المدارس لسباحة المسافات القصيرة

تعجبت . على يدي مودعا وهو يؤكد لي أني سأفوز بالبطولة

أهمل زمالئي المرشـحين . لطيبة أستاذي وقوة يقينه الغريبة للمسابقة جميعا وجاء يبحث عني وقد اختفيت داخل الفصـل

شتراك في المسابقة التي يتقاتلون عليهـا كـل غير عابئ باال . عام

في النادي أصابني ارتباك شديد، فهي المرة األولـى . التي أرتاد فيها محفال اجتماعيـا بهـذه الفخامـة واألبهـة

بصعوبة بالغة استجمعت إرادتي واهتديت على مكان السباق لم أجرؤ على االنتظار في . حيث أبلغني المختصون بموعده

ان من األماكن العديدة المتناثرة بأرجاء النادي والتـي أي مك يقوم على خدمة روادها رجال يلبسـون األزرق واألصـفر واألحمر ويقدمون لهم الطلبات مصحوبة بانحناءة واضحة لم

جلست أرقب رواد . انتظرت أمام حمام السباحة . أتبين سببها اللغة النادي وكأنني أشاهد قوما من كوكب آخر ال يتحدثون ب

. التي أتحدث بهالم يعبأ مخلوق بوجودي على اإلطـالق، وال حتـى

الـذين . الطلبة المشتركين في السباق من المدارس األجنبيـة في غرفة المالبس تحـدث . كانوا يرتدون مالبس رعاة البقر

لم أشعر بقدر من المساواة معهم إال بعـد . بعضهم بالفرنسية

االستحمام، عندما رأيت أبـي أن خلعنا مالبسنا وبقينا بلباس شعرت بشيء من االطمئنان فسألت نفسي بصوته الذي لـم

: هأسمعـ لماذا تخاف يا ولد من هؤالء الناس، أليسوا بشرا

مثلك؟ سمعتهم يطلبون أطعمة لـم . حمت حولهم مرة ثانية

أسمع يوما باسمها فازداد خوفي منهم وانسحبت بعيدا علـى . استحياء

رة السباق وجدت نفسي منطلقا فـي حين أطلقت إشا الماء كطوربيد بحري كاسح، وكانت أمي تحتل ذاكرتي فـي

". ربنا يحرسك"تلك اللحظات وهي تدعو لي قائلة في لمح البصر رأيت حال الدنيا ينقلب أمـامي إلـى النقيض، فالجميع أحاطوا بي وراحوا يقبلونني ويلتقطون لـي

ارات التهنئـة لفـوزي الصور الفوتوغرافية ويمطرونني بعب وحين عدت إلى بيتي القابع في حارة ضـيقة . ببطولة السباق

بمواجهة البحر، كانت سعادتي تفوق الوصف بالمرة األولـى لتي أذوق فيها طعم االنتصار، لكن شعورا غائرا افي حياتي

. لقد كنت خائفا.. في أعماقي كان يشوب فرحتي

* * * ثل عمري، أتواصـل أراسل فتاة فنلندية جميلة في م

معها بمخلوقات اهللا األخرى عبر المحيطات، فملكه يستهويني متعتي بالغة وأنا أكتـب .. باتساعه وغموضه وسحر عظمته

. لها باإلنجليزية فتقول لي أن لغتي رائعة وتفوق لغتها بكثير تأخرت خطاباتها زمنا طويال وكنـت أرى السـاعي يسـلم

: لتهالخطابات لبعض الطلبة، ويوما سأ ـ ألم يصلني خطاب من الخارج يا عم منعم؟

. ـ ال أعرف، عندك مكتب البريد بالكليةأخاطبه مخاطبة العم، أحبه، أتعاطف مع شـيخوخته

ذهبت إلى . التي لم تحظ بالراحة، لماذا يعاملني بهذا الجفاء؟ مكتب البريد فوجدت خطابين يحمالن اسـمي وقـد وصـل

يه أسأله بنفس حيرتي أمام الرجل أحدهما منذ أسابيع، عدت إل . األنكلستومي البغيض

ـ لماذا لم تحضر لي رسائلي كبقية الزمالء؟ . ـ ألن يدك مغلولة

هكذا أطلقها صريحة في وجهي بال حياء، أما الحقيقة .. فإن يدي لم تكن يوما مغلولة، وإنما كانت فارغة رغم أنفي

التي ال تنتهي ثم تعجبت لدهشتي . لهذا دهشت .. دائما فارغة لكني لم أكن خائفا هذه المرة من .. دائما إال بالشعور بالخوف

. عم منعم، بل كنت خائفا من أشياء أخرىقرب الفجر انتفضت من فراشي مذعورا ال أصـدق

رأيت عم مـنعم يقـف . عيني وقد سال من فمي لعاب كثير يضحك مقهقها بشدة يهتـز معهـا جسـده النحيـل، . أمامي

ن جيوبه ومن طيات مالبسـه المهترئـة مئـات فتتساقط م الجنيهات ويتساقط معها جلد وجهه وبعض من ضروسه ثـم

: يصرخ في وحشية قائال ـ أكنت تظنني فقيرا يا دكتور؟؟

حين اقترن خوفي بضياع فرحة العمر ورعشة القلب تفـوق .. وصفاء األيام، رأيت الحياة شيئا مفزعا ال يطـاق

انشطار جسدي بفعل قنبلـة مـن قسوته على الروح بشاعة قنابل الجبناء، أودت بي النكسة على لهيـب سـيناء، كنـت أتحرق شوقا إلى االنتقام من هؤالء األنجاس الذين يستحلون ألنفسهم اغتصاب األرض والحياة وبقـر بطـون الحوامـل

. وتكسير أذرع األوالد وإلقاء أصحاب الدار فـي السـجون أيام طفولتنا الرائعة حين كنا بعثت بخطاب إلى عادل أذكره ب

نصطاد السمك معا ونلعب الكرة في الزقاق ونذاكر الـدرس اسم مـن أسـماء اهللا " العادل " قلت له أن . في حديقة الملك

. الحسنى، ولهذا فأنا على يقين من انتصارنا على الصـهاينة أمي وحبيبتي وصديق : لم أكتب خالل فترة تجنيدي إال لثالثة

يقول لي في كل خطاباته أنه يرى العبث يسود طفولتي الذي وقال صهري لعادل .. وبعد ذلك طالت غيبتي .. أرجاء الدنيا

الذي يفوقني علما وماال ووسامة ويعلم مـا بينـي وبـين " ": حبيبتي

ال بعد حصولها إـ سوف ال أتكلم مع أحد بهذا الشأن . على البكالوريوس

غتصـاب انصرف عادل سعيدا يحدوه األمل فـي ا وفي اليوم التالي تركـت . أرضي وحياتي وطمأنينتي وخوفي

حبيبتي أوراق امتحاناتها بيضاء ناصعة، فلم تخط بها حرفـا وفـي . حتى تضمن رسوبها عن جدارة، لحين عودتي إليهـا

تحقـق ١٩٧٣تمام السادسة من مساء الخامس من نـوفمبر . يقيني ثم تزوجنا فتحقق للمرة الثانية

* * *

مقابل مادي كبير وافقت على العمل كمستشـار لقاء اشترطت علـى رئـيس المؤسسـة . بمؤسسة دوائية عالمية

االستعانة بزميل لي كنت أعلم أنه بحاجة ماسة إلـى عـون مادي عاجل ليواجه به أزمة طاحنة ألمـت بحياتـه فجـأة، . وكانت بداية العمل جولة طويلة في بعض البلدان األوروبية

دارية مفاجئـة إئرة بقليل ظهرت عقبة قبل إقالع الطا بجواز سفري إذ كان يخلو من تأشيرة تفيـد بانتهـاء لقتتع

ثار الرئيس على المسـئولين بالمطـار إذ . خدمتي العسكرية تجاوز سني تلك المرحلة بعدة أعوام، واتهمهم بالبيروقراطية

لحـق بهـم بعـد أسافرت البعثة بدوني علـى أن . والتعنت . تياستكمال إجراءا

بعد مرور يومين ساور القلق الرئيس فراح يجـري اتصاالته من لندن بمقر مؤسسته متعجال قدومي، حين قال له

: زميلي بابتسامة عرفت فيما بعد أنها كانت صفراء اللونـ لماذا تعتقدون كل هذه األهمية على قدومه بينمـا

يمكنكم االستغناء عنه بوجودي؟ انتحى بي الرئيس جانبـا عندما لحقت بهم في فرنسا

: وقال لي بأدب شديد في لهجة تشبه األمر

ـ اسمح لي لقد أعفيت زميلك مـن العمـل معنـا . مستقبال

في رحلة العودة تعمدت أن أجلس إلى جـواره فـي كنت في غاية الحزن ألجله والرثاء لحاله بقدر . مقعد الطائرة

ا الغضب ما كنت في غاية الذهول لهذا السلوك من جانبه، أم خيل إلي أنه سينهار على مقعده لحظة مواجهتـه . فقد أجلته

: بتنازله عن إنسانيته بال مقابل، لكنه ابتسم ببرود قائال .لم أكن أقصد شيئا يسيء إليك.. ـ صدقني

حين صافحني شعرت ببطن صرصار كبير خـارج لتوه من بالوعة عفنة يزحف في لزوجة على يـدي، فكـان

. جا بشيء من التقززشعوري الخوف ممتزويوم عاد من العراق محفوظا في تابوت خشبي بـال تقرير طبي يفيد بسبب وفاته، بكيت عليه وعلـى عروبتـي

.ودنياي* * *

رن جرس التليفون ذلك الرنين الطويل المتوصـل، المبشر المنذر، سمعت نسمة الفجر دقات قلبـي المتالحقـة،

لسماعة فسمعت صوته المحيرة بين الرجاء واليأس، رفعت ا

". حفر الباطن "يحدثني من . الشاب يتفجر حماسا وحمدت اهللا سنعود سالمين . أوشكت مهمتنا على االنتهاء . اطمئن يا خالي

بعد أن وضعت السماعة هاجت في كياني ذكـرى . بإذن اهللا . أمه الراحلةمصطحبا طفلي الصغير، مررنا ـ قبل عامين ـ ..

ء حزينا صامتا، وبـدا المستشـفى كان مسا . أمام المستشفى حين سـألني .. تحت أضواء قناديله كبقعة من الخوف هائلة

: ابني ببراءة ـ ألن نزور العمة نادرة يا أبي؟

عاجز أنا عن رؤية شـقيقتي . لم أكن قادرا على ذلك ذات الوجه الجميل والخلق األجمل، وهي تصارع المـرض

بعد خروجهـا مـن ال في بيتها إصممت أال أزورها . اللعين : قلت له. المستشفى

ـ قريبا إن شاء اهللا سأشتري لك باقة مـن الـورد . وأصحبك إلى منزلها لتقدمها لها

وحين رحل ذلك المساء الغائم ليفسح الطريق األزلي . ماتت نادرة.. أمام فجر جديد

متأمال في هدوء أرقب .. اليوم أبلغ الثامنة واألربعين . تي وفتور طـاقتي علـى العمـل انكماش عضالتي وشهوا

أعرف جيدا أن ما بذلته من جهد مضن خالل تلك األعوام قد وعزائي .. أرهقني تماما، ورغم هذا فمعظم أحالمي لم تتحقق

في هذا أنني لم أفقد حتى اليوم دهشتي من األشياء، فيما عدا بس بس والتابوت العراقي ويقين األستاذ .. الموت والرزق و

البطولة وخـط بـارليف وورقـة االمتحـان شنواني وكأس الفارغة من اإلجابة ودعاء أمي وباقة ورد لنادرة وصـوت ابنها وهو يحدثني عن الخراب والـدمار وآبـار البتـرول المشتعلة والنساء التي اغتصبت واألطفال الذين ماتوا جوعـا

.. وزميل مددت له يدي، فما معنى أن يتخلى إنسان عن نفسه اه يراسل األصدقاء هو اآلخر عبر المحيطات رأفيكبر ابني و

فأتأمل بكل ما أوتيت من قدرة على التركيـز هـذا العـالم المرتبك الذي ينتظـره وأتسـاءل تـرى هـل يـنجح فـي

.. مواجهته؟ : جاء اليوم يسألني

لماذا تعيرني صديقتي األلمانية بأنني مـن .. ـ أبي العالم الثالث؟

لفت بتقديم تقرير تفصيلي شامل عن كل ما يتعلـق ك

منذ ولدت وحتى هـذه .. بحياة المواطن عبد الصبور الجالد نني سـوف أكلـف بأشـياء إاللحظة يكلفونني بأشياء، ويقال

. أخرى بعد الموتقدموا لي العديد من ملفاته التي استطاعوا الحصـول

بد أنه رفض ال. عليها من كل مكان دبت عليه قدماه الكليلتان التكليف أو أبدى وجهة نظر مخالفة يعتقد أنها أكثـر حكمـة

. وعدالسألت نفسي عن أهمية هذا العبد الصبور فعلمت أن مسألته تعالج في سرية تامة وتكتم شديد مما أثار في نفسـي

ممتزجا بالحرص والتوجس، كالحكمة .. فضوال شديدا تجاهه مع نظيريهمـا عنـد والعدل عند عبد الصبور قد تتعارضان

عبد الستار، وال مجال هنا لتعارض أو اختالف، فعلى الجميع ال نضب البترول وعدنا إلى عصر إأن ينفذوا ما يكلفون به و

!الجمال وابتلعتنا الرمال المتحركة

أمـر . ابتسم كبير الحراس في وجهـي ألول مـرة بوضع منضدة أمامي ثم أعطاني كراسة وقلما وقـال بتـودد

: كريه . ـ اكتب يا أستاذ

ثم ألقى أمامي بعلبة سجائر تظاهرت بأنني لم أرهـا تعجبـت . لى تدخين سـيجارة إرغم أنني كنت بشوق حارق

لهذه المهمة التي ألقوا بها على كاهلي كما لو كنت واحدا من .. رجالهم، ولم أفهم فلسفتهم القابعة خلف هذا المطلب الغريب

نجانا مـن القهـوة فـولعي وأمام تودده هذا تجرأت فطلبت ف أجابني إلـى . بالحياة ال يختلف كثيرا عن استهتاري بالموت

طلبي ثم أغلق علي باب الزنزانة الحديدي وانصرف واضعا . ذيله الطويل في فمه

انفجرت في الضحك حتى دمعت عيناي، مـا الـذي جاء بي إلى هنا هذه المرة وأي جناية ارتكبت ولماذا لم يحقق

!.. يف أكون متهما ومصدر ثقة في آن واحـد؟ معي أحد، وك وأخيرا قلت لنفسي أنهم يعانون بال شك من نقص في العمالة . المدربة على كتابة التقارير عن أمثالي من المتهمين األبرياء

بشراهة الدنيا دخنت السيجارة وشربت القهوة وأكلت راسبها البني المحروق، حين اقتحمتني لحظة سعادة حقيقيـة

أن شعرت بمثلها عدة مرات في وطني الحقيقي قبل أن سبق !وفتحت الملفات في شغف.. يزجوا بي إلى هذه الزنزانة

. ١٩٤٠من مواليـد . عبد الصبور ياسين الجالد .. أ ـ " فصيلة الـدم . متزوج ويعول ثالثة أبناء. مسلم. عربي

مهنة األب . محل الميالد والمهنة مكشوطتان بفعل فاعل " ب . اسم الزوجـة أنيتـا أندرسـون ). ظهورات(اليومية عامل ب

ال تدين باليهودية أو المسـيحية أو اإلسـالم . سويدية المولد شقراء رائعة الجمال كما . نما تدين بهم جميعا في آن واحد إو

عيناها تتفجران باألمومـة، أمـا . تبدو في صورتها الملونة . روحها فشرقية خالصة

. مبهـرة " توجينيـة فو" مالمح وجه عبد الصبور الشفتان تجمعان بـين . األنف طويل بارز مفلطح دون مبالغة

الغلظة والتدبب والعينان تشعان بريقا مذهال يوحي باالنتصار على الوجه ابتسامة طفل كبير تكشف عن أسنان . على الحياة

خيل إلي للحظة عـابرة أن هنـاك تشـابها . ناصعة البياض اخل تعاريج الزمن على هذا ملحوظا بين صورته وبيني، تتد

الوجه في خطوط تضفي عليه سحرا غريبا جذبني إليه بشدة وجعلني أمعن في تأمل صورة هذا الكيان اإلنساني المطـارد

تسـاءلت هـل ... باهتمام المسئولين في كل زنزانة أزج بها المسئولين في هذا الوطن بعبد الصبور ثـواب موراء اهتما

راهن على أاستي للمرة المليون و أم عقاب، ورحت أختبر فر ن هذه االبتسامة ال يمكن أن تسـفر إحدسي فقلت من البداية

عن ضمير مدنس أو نفس شريرة، لكن العالقات الغامضـة المتشابكة بين مهنة عبد الصبور المكشوطة ومهنة أبيه، وبين جنسيته غير المسجلة وجنسية زوجته، وبين إسالمه وإلحادها

أثارت فـي ) اعتناق األديان الثالثة إلحادا البعض يرون في ( . بشيءمذهني تساؤالت عديدة جعلتني غير قادر على الجز

في زنازين البالد األخرى اكتفـوا بالسـؤال عـن !.. هنا فأوراقه أمامي وهناك تقرير مطلوب أماعبد الصبور،

استبدت بي الدهشة وأنا أقرأ ملفات هذا الرجل، حين وزوجتي التي ال تنتمـي ) عتال(الراحل تذكرت وظيفة أبي

..ني األصلي وفصيلة دمي التي هي أيضـا أ ـ ب طإلى وي أنها مجرد مصادفات غريبة وواصـلت قـراءة لنفسوقلت . الملف

طـالع علـى بعـد اال .. جامعة. الملكية.. جمهوريةنتيجة االمتحـان بكليـة الحقـوق قـرر مجلـس الجامعـة

لصبور ياسين الجـالد بـن ا د منح عب ١٩٦٧../ ../ بتاريخ ميالديـة درجـة ١٩٤٠عـام .. ياسين الجالد المولود في

.. الدكتوراه في القانون وموضوع الرسالة.. توقيعات العميد والمدير ورئيس الجامعة والـوزير . كلها مكشوطة مثل اسم البلد والجامعة وموضوع الرسالة

رحت أتصفح أوراق الملفات عشوائيا وكأنما أبحـث توقفت أمام ورقة مدموغة ومكتوبة بخـط .. يء أعرفه عن ش

يده حاملة في ذيلها توقيعه األنيـق بتـاريخ بدايـة التحاقـه تحية طيبـة .. السيد األستاذ الدكتور عميد الكلية .. " بالجامعة

وبعد، فرغم تمتعي باإلعفاء مـن المصـروفات الجامعيـة أرجو من األساسية بسبب تفوقي في الشهادة الثانوية إال أنني

سيادتكم التكرم بالنظر في إعفائي من الرسوم األخرى غيـر الخاضعة لإلعفاء وقدرها ثالثة جنيهات وخمسـة وسـبعون

وأني ..ن والدي ال يستطيع اإلنفاق على تعليمي إقرشا، حيث أعدكم يا سيدي بتسديد قيمة تلـك الرسـوم للجامعـة فـور

بول وافر وطن وتفضلوا بق التخرجي والتحاقي بأي عمل في ". العرفان والتقدير واالمتنان

ثين عاما عجزت أمي عن تدبير منذ ما يقرب من ثال مصروفات التحاقي بالجامعة وخيرتني بين االكتفاء بشهادتي الثانوية والتحاقي بعمل حرفي أنفق من إيراده على تعليمـي الجامعي فاخترت الثانية وتعلمت النجارة وواصلت دراسـتي

. بنجاح بالملف على حيثيات تحقيق أسفر عن بـراءة عثرت

عبد الصبور من االتهام الموجه إليه بعد اشتباكه في نـزاع عنيف مع طالب عربي عقب أحداث االنفصال بين قطـرين

كانت إجاباته على المحقق الذعة متفجـرة . عربيين متحدين عي الحاد، فعبد الصبور ال يرى بديال عن وبالثقة مشحونة بال

.. لشاملة إلنهاء ما أسماه بالمهزلة العربيـة الكبـرى الوحدة ا وكنت قد اشتركت في مظاهرة طالبية ثائرة عقـب اغتيـال باتريس لومومبا حيث تسلقت مع زمالئـي بـاب القنصـلية البلجيكية فنزعنا العلم المعدني البلجيكي من عليه وألقينا بـه

لم لكن أحدا .. في عنف إلى األرض قبل أن يداهمنا البوليس غيـر أن رجـال .. يحقق معي أو مع غيري من المتظاهرين

أجنبيا سبنا ووصفنا بالتخلف، ولما طلبت منه أن يكف عـن ثم صفعني علـى . سفاهته راح يسخر مني بإنجليزية ركيكة

وجهي فنطحته برأسي فنزف الدم غزيرا مثيرا من فمه وفر وبعد ذلك بأعوام طويلة حصـلت . من أمامي مذعورا كجرذ

شهادة الدكتوراه ونسيت تلك الواقعة تماما فلم أتـذكرها علىاألولى ذات مساء عندما اقترب مني هيكل إنسان : إال مرتين

حـين تراجعـت . عظمي يماثل في طوله طول ذلك األجنبي فزعا لكنه تجاهلني وجلس على المقعد المجاور لي وأمسـك

عدة سماعة التليفون بيسراه العظمية وأخذ يدير قرصه بيمناه : مرات ثم قال لمحدثه المجهول

الدم . مخططاتنا تحقق المزيد من النجاح .. ـ اطمئن !للركب

ا أستعد لقراءة ملف جديـد مأما الثانية فهي اآلن بين . لعبد الصبور الجالد

تفيد التقارير الدورية للدكتور عبد الصبور بامتيـازه تـاريخ الدائم منذ التحاقه بالعمل في المؤسسة الدولية حتـى

اختفائه وقبل أن يظهر بوضوح في مكان خطير وبصـورة رغم ذلـك فملفـه . ال تمكن أحدا من التخلص منه إلى األبد

نه إمليء بالبالغات الكيدية المقدمة ضده من أقرانه، يقولون عنيد متغطرس ال يعرف غير العنف وسيلة للتفاهم، كما أنـه

شـتراكية ال يعلق صورة رئـيس الجمهوريـة الملكيـة اال الديموقراطية في غرفة مكتبه طبقا لتعليمات البالد التي يقـيم بها بل يستبدل بهذه الصورة صورة طبيعية ملونة ألشـجار

. رية لبنانيةق فياألرزقال في كلمته أمام جمع غفير من العاملين بالمؤسسة

في إحدى المناسبات أن سمة المجتمع الفاشل ) الفرع العربي (محاربة النجـاح والتميـز، أمـا المجتمعـات الرئيسية هي

ـ ر العـدوى المتحضرة فإن النجاح ينتشر فيهـا كمـا تنتش من كلمته هتف الحاضرون في آلية وبعد أن انتهى .. الوبائية : جامدة

. ـ اهللا أكبر والنصر للعرب . ثم انصرفوا إلى نسائهم

وفي تحقيق إداري مع زميل له ـ كان آخـر مـن : ـ ورد النص الحواري اآلتي قبل اختفائههحادث

ـ ما الذي جرى لك يا عبد الصبور؟

كانت أحواله في اآلونة األخيرة تدعو إلـى الدهشـة إذ تبرع مرة براتبه الشهري لمجاهدي أفغانستان، وبعد ذلـك بعدة أسابيع طلب سلفه من الخزانة، وأخيرا فإنه امتنع عـن

. الكالم . ـ ال شيء

غير عبد الصبور الـذي ـ لقد صرت مخلوقا آخر لماذا؟.. نعرفه

. ـ ليس لكل شيء سبب . ـ لعلها أزمة وتزول

!ـ وما قيمة زوال أزمة أمام زوال صاحبها؟ . ـ لكنك جالس أمامي حفظك اهللا

. اهللا يعطيك العافية.. إنها تهيؤات.. ـ عيوني : وقال زميله للمحقق

مـرة ـ بعد حديثنا هذا بأيام قالئل لم أره بالمؤسسة . أخرى

ازدادت ضربات قلبي وشعرت بـذهني مشوشـا .. حين تذكرت احتداد رئيسي األعلى في غرفة مكتبي عنـدما

لمح صورة مكبرة لعملة الجنيه الفلسطيني القديم معلقة مـن . خلفي

ـ لماذا ال تعلق صورة القائد الملهم الزعيم الملـك حفظه اهللا ورعاه؟ ىالرئيس المفد

هم وتماثيلهم، في كـل الشـوارع ـ أال تكفيك صور !والميادين واألزقة وقمم الجبال؟

ـ ما دام األمر كذلك فلن أنظر في طلب السلفة التي . تقدمت بها

ن كانـت إنها مجرد مصادفة أخرى و إوقلت لنفسي تدعو إلى الدهشة، ولكن الذي حيرني في تلك اللحظـة هـو

ـ على إصرار عبد الصبور ـ كما ورد في الملف الخامس الزواج من السويدية رغم معارضة األهل واألقـارب مـن الطرفين، لكن عبد الصبور يعترف بأن هذه السـيدة كانـت مثاال للزوجة المخلصة الوفية التي تعرف كيف تدفع برجلها إلى األمام حتى لو انتهى به األمر إلى الحبس االنفرادي فـي

ـ تقبله زنزانة صغيرة مظلمة تعزله تماما عن ماضـيه ومس . وأحضان أنثاه وقبالت أبنائه

يقول عبد الصبور ـ بعد أن استشهدت زوجته فـي نـه كـان إعملية فدائية جريئة تولت قيادتها دون علمـه ـ

لم أستطع السيطرة على أعصـابي .. " مصريا في ذلك اليوم لقد استمرأ ذلك .. تجاه التعليمات الصارمة بعدم إطالق النار

نا والسخرية منا يوما بعد يوم، إلى أن الجندي اإلسرائيلي سب جاء ذات مساء بفتاة وخلعا مالبسهما ونزال عـاريين علـى القناة وراحا يسخران مني بصـفة خاصـة حـين تعالـت ضحكاتهما الماجنة تهتك الصمت المـوحش المطبـق علـى أنفاسي لدرجة الموت، ثم خرجا من القناة وتضـاجعا علـى

قفا حتى أطلقت عليهما النـار ن و إرمال الضفة السليبة، فما وأنا جاهز للمحاكمة العسكرية معتـرف .. فسقطا على الفور

". بعصياني لألوامر ومستعد لتحمل أقصى عقوبة ممكنة سه أفوجئت بكبير الحراس يقف أمامي وقد استبدل بر

: كرة أرضية تدور حول رقبته بال توقف هل انتهيت من كتابة التقرير؟ .. ـ هاه

:اخرا دون أن ينتابني الفزعقلت له س . ـ لم أنته بعد من قراءة الملفات

تالشت ابتسامته وقال لي محذرا بكل ما أوتي مـن : غباء في رأسه الدائرة

. ـ أمامك ثالث ساعات فقطمنذ عدة أعوام اتخذت لنفسي سكنا مؤقتا بحي رشدي

من أداء بعض المهام المهنية ألعود يباإلسكندرية حتى انته بعدها إلى مقر المؤسسة في وطنـي الثـاني أو الثالـث من

كنت مصرا على رفض التفتيش الذاتي .. أو الرابع أو المائة كلما غادرت منزلي أو عدت إليه، فالقنصل اإلسرائيلي سكن

انقضوا علي فـي مهـارة .. فجأة في الطابق األعلى للبناية حد لم يعتد علي أ . يحسدون عليها وأحاطوا بي من كل جانب

: بالقول أو الفعل وإنما قال كبيرهم باحترام شديد.. ـ أعددنا لسيادتك جواز سفر خاص، جهز حقائبك

. أمامك ثالث ساعات فقط .ـ ولكني لم أنته بعد من مهمتي بمصر

. ـ عليك باستكمالها في بغدادفي بداية األمر كان فضولي عنيفا من يكـون هـذا

ن تسـاؤال إ بشدة، أما اآلن فالعبد الصبور الجالد الذي أحببته

جنونيا أصبح يفرض نفسـه حتـى المـوت علـى حيـاتي : الحاضرة

!ـ من أكون؟* * *

: المقدمة

فجأة وجدت قلبي واقفا على برج عام جديد ليس ككل من فوقه سحابة ملونة ومن خلفه تـاريخ ال يعـود . األعوام

مات االستفهام تتحداه أن وال يتغير، ومن أمامه تالل من عال ن دق أو توقـف فهـذا إو.. يعرف عم يسأل أو بماذا يجيب

قراره وحده، ذلك الكائن العضلي القابض الباسط ذو األنسجة أما أنا ـ مالكه الوحيد ـ فلم أعد منذ . واألوردة والشرايين

. عدة ساعات أملك من أمره شيئاـ وي وكنت أرى الدنيا تسير من تحتي سيرها الفوض

الطبيعي، فأتصور أنني واحد من عقالء هذا الزمان يبحـث . عن مفقوداته الغالية فال يجدها

لقد أبرق لي مع بداية وقفتي بإنذار شـفري عاجـل ينبهني إلى أنه قد حل به التعب لطول نبضه بال انقطاع على

حد عشر شهرا وتسعة وعشرين أمدى تسعة وأربعين عاما و ه كثيرا، وأنه قد ال يستطيع تحمـل أخبرني أني أجهدت . يوما

نه قالهـا لـي إالمزيد فيما تبقى أمامي من طريق السفر، بل : بصراحة

. ـ ارحمنيولقد كنت أود ذلك حقا، لكنما يؤلمني أن قدرتي على رحمته مرهونة بغياب وعيي وتبلد مشاعري وانخالعي مـن

يفكيف أعف .. كل ما حدث ومما قد يحدث وما سوف يحدث من شهقة حنين أو لوعة فراق أو دمعة عجـز أمـام نفسي

عالمة استفهام واحدة؟ * * *

: الممنوعاتأنت ممنوع من الـدهنيات والنشـويات والسـجائر -١

.والقلق والمجهود الذهني والبدني بأنواعهأنت ممنوع من تغيير سكنك وعملك وأمـك وأبيـك -٢

. وزوجتك وأبنائك وحكامك

ـ -٣ ر وكـذلك مـن أنت ممنوع من العزلة عـن البش . االندماج معهم لدرجة التفاعل المؤثر سلبا أو إيجابا

** *

ومن عل أرقب مباني مدينتي الظالمة وقد تضـاءلت وانكمش حجمها فبدت وكأنها عاجزة عن تحمل واسـتيعاب واحتواء ما يمور داخلها من تقوى هي الدنس، وكـذب هـو

ـ و الصدق، وإسالم هو الحل، وتخمة هي الهزال، وضجيج ه . أما الزاهد في الصراع فعقوبته الجلد حتى الموت الصمت،

فكرت بإخالص شديد أن أقفز مـن أعلـى البـرج ال منتحرا، وإنما راقصا مصفقا في ليلة أنس أسـتقطر فيهـا متع الدنيا بنسائها الخمريات والبيض والسـمر وبقناطيرهـا

.. المقنطرة من الذهب والفضة جنيهات ودنـانير ودوالرات ف بنيويورك والبوسنة واإلسكندرية وبيروت وفلسـطين أطورى بطرس غالي حاكم العالم، واإلسحاقين شامير ورابـين أو

لقـي أحاكمي العرب، والشيخ الضرير حـاكم المسـلمين، و . بنظرة على أطالل العراق المدمرة

لكني تراجعت متخاذال عن القفز خشـية أن يتهشـم ة حب الحياة رغم عظمي وتفارقني روحي، تغلبت على نزع

قائمة الممنوعات، غير أن تراجعي لم يكن نهائيـا، فأخـذت أمشي مترددا في حركة دائرية حول سور البرج، حتى لفـت

منظري انتباه بعض السائرين على األرض، فتوقفـت قلـيال . لهماأرقب ردود أفع

* * *

: المسموحات . سمع واسكتا -١ نمنعـك إذا أردت أن تتكلم أو تكتب أو تشكو فلـن -٢

. ولكن سننقصك بعض الدرجات

هاجر إلى حيث شئت غير مأسوف عليك وال علـى -٣ . أهلك

* * * نها حالة نفسية، إنه داء القلب، وقال آخر إقال طبيب

أكد كل منهما على صحة قائمته ـ ممنوعات أو مسـموحات تحولت حركتي الدائرية على قمة . ـ واتهم الثاني بأنه حمار

اقصة وكنت محتفظا بتوازني إلى أعلـى البرج إلى حركة ر ورغم أني كنت مبتسما فقد كـان يـؤرقني شـعور . درجة

ذ كيف أستمر معتليا البرج حتى نهاية إبالخوف من المستقبل، األجل، بينما المدد ال يكفي والفائت ال يستعوض، واآلتي لن

..يحتمل؟

صحت مناديا عابري الطريق لعلـي ألـتمس مـنهم يتصايحون بردود .. وا يقفون على أبراجهم كان. بعض األمان

: ممتعة . نالـ دعنا لحا

. ـ كن في شأنك . ـ كن مع اهللا

. ـ نحن الذين بحاجة إلى عونكأسعدني الرد األخير وبدأت حدة شعوري بـالخوف من المستقبل تخف تدريجيا، ولما ازدادت ثقتي بنفسي بـدأت

لـى الشـارع لقي بها إ أخلع مالبسي قطعة وراء األخرى و أبينما تعالـت أصـوات .. دون أن أتوقف لحظة عن الرقص . التهليل والتكبير من أسفل إلى أعلى

* * *

١٩٩٣/ ٥/ ٥الوادي الجديد *

* *

الشمس نجم قريب النجوم* *

األرض البعيدة *

اختالف النظر للنجوم

.. فراااجيا... يا محمد يا فرااااج

لمحته يعبر الشارع وسط مجموع من مرافقيه بعد أن كانوا متجهين ناحية أحـد المبـاني . غادروا عرباتهم األنيقة

جسده العمالق يشغل الحيز األكبر مـن . الباريسية الضخمة حجم البقعة التي يتحرك عليها وما يحيط بهـا مـن مكـان

. وزمانـ م أره منـذ عـدة صرخت أناديه بأعلى صوتي وأنا الذي ل

سنوات، وكأنه كان يعبر هذا الشـارع خصيصـا ـ وقـد أعطاني ظهره العريض ـ حتى أتمكن من رؤيته فأستنجد به

. وهو ال يكاد يذكرني ولو بنظرة استطالع عابرةالتفت الفرنسيون يتأملونني وهم في دهشة من لغتي الغريبـة

اعهم ومن الضجيج الذي أحدثته صيحتي المفاجئة فلوثت أسم بدا عليهم التأفف من مشاركتي إياهم عبور الشارع . الرهيفة

. وخروجي على منظومة الصمت المطبق والوجوم المشبوهألنك صرت مـن أ.. لماذا ال تلتفت يا فرج لترى من يناديك؟

أصحاب المؤسسات الديناصورية الكبرى الذين ال يفكـرون

نا فـي مدرسـة نك نسيت زمالتأالبد .. االبتالع؟ إال بمنطقرأس التين الثانوية حين كنت أسخر من طولك الزائد وطبعك

ما كان أسهل أن . الذي لم يختلف في شيء عن طبع األطفال تندهش وتتعجب في براءة ألي شيء، وأن تصدق أكـاذيبي

كنـت . المفتعلة حتى أستجلب عليك ضحك الزمالء وتندرهم ار، لـم سك الصغير المحمول على جسدك الجب أأسخر من ر

. أكن أعرف أنها تحوي كل ذلك القدر من الذكاء والحكمةلكن شيئا خفيا في صدرك ـ يكاد ينطق به لسانك وتشي بـه مواقفك ـ كان يشدني دوما إليك بخيوط غير مرئيـة مـن

لقد كنت أنظر إليك ـ وأنت زميلـي بـنفس . حرير فوالذيالفصل ـ نظرتي إلى كائن غير أرضي معظم جسده قلـب،

. ف به المالئكة أينما كانتح. ويفرق بيننا الزمان كشأنه بين الناس، ولكني ال أنساك أبـدا

لست أدري لماذا أتذكرك كلما مررت بمحنـة إذ يـداهمني يقول الـبعض . دكجالحنين إليك وأسأل عنك في مصر فال أ

نـك فـي لنـدن أو فـي إنك في الكويت، ويقول آخرون إأمريكا أو كندا، فال أعثـر السعودية، ويؤكد البعض أنك في

. وأنساك ألعود فأذكرك.. لك على أثر

لسنا أخوة فـي اهللا كمـا علمـك أ... لماذا ال تمد إلي يدك؟ .. أستاذنا الشيخ عبد العظيم الضرير في نفس المدرسة؟

* * * : قالت لي في برود كالموت

ـ ال تنزعج فإنها حالة طارئة ال تلبث أن تزول بعـد أيـام . يع قليلةأو أساب

نما تعجبت لماذا ال يحدث لي هـذا مـع إفلم أقل لها شيئا، و : إنها على النقيض تسألني في دهشة ملتهبة. األخرى

أال تشبع من الحب أبدا؟؟؟.. ـ أال تتعب؟وحين .. فأرتوي وأنتشي وأتمدد وأنام وأشخر يا فرج

أصحو يقتلني الندم، فما كنت أتصور يوما أن أهـين نفسـي بها إلى مدارك الفسق والفجور، فاألولى حالل والثانية وأهبط

حرام، ولكني بشر يا فرج، األولى أحببتها وتزوجتها، والثانية . أحبتني فخذلتها

* * * نني غيـر راض إ ..لماذ ال تتوقف لتستمع إلى كلمات أخيك؟

فمتى تسمعني قبـل أن .. أزجرها. أعنفها. ألومها. عن نفسي

الكبرى فيخيب آخر آمالي في الحب تبتلعك أبواب مؤسستك . رغم أني عولت عليه كثيرا

انطلقت في أثره مسرعا حتى اقتربت منه، جوقة المستفيدين . تصب في سمعه كلمات عالمية التداول منذ األزل . تحاصره

ال تسرفوا في نفاقكم يا حضرات السادة فأنتم ال تعرفون فرج هـذا . عمال كبير أنكم تهمسون في أذن رجل أ . مثلما أعرفه

. لكن اسألوني أنا عن عقله، بل اسألوني عن قلبه.. صحيحكنت متعثرا فـي كـل . منذ سنوات عديدة وجدته في مصر

حاصـر أعـدائي . شيء فأقالني من عثراتي وشد من أزري تعجبت لفطنته وحسـن . وفتح لي بابا للرزق لم أكن أحلم به

كبار القوم تصرفه أكثر مما تعجبت من نفوذه وسطوته على وأصحاب الكلمة العليا، لكني لم أفهم السبب جيـدا، ومـا إن

. سافر حتى تآمروا علي، وعدت إلى حيث كنت مـن جديـد : حينئذ قال لي أحدهم

. ابتعد فالتيار قوي عليك. ـ يا بني ال تتعب نفسك . ـ أريد أن أعيش . العب على قدرك فقط.. ـ هذا كالم إنشائي

قدري ومن الذي يقرره وما هي حدوده يومها تساءلت ما هو وهل يمكن أن يتغير هـذا .. وكيف تكون تلك الحدود ولماذا؟

القدر بين يوم وليلة، ومن هو صاحب القرار النهائي في هذا .. كله؟

أعياني التساؤل وكنت أرى الناس يمشـون فـي الشـوارع واألزقة ويسكنون الخيام والقصور وأرى النساء يلدن اإلناث

كور، والشمس تشرق من الشرق وتغرب فـي الغـرب، والذوالناجحون يأخذ بهم الكبر والعجب وأصحاب الجاه يتيهـون بأقدارهم وأنا أبول في قدري ويحتـرق صـدري وتزهـق أنفاسي، ولكني حين أذكرك يسري األمل في روحي وأواصل

أجبني يـا محمـد .. لى متى؟ إ لماذا و ىلست أر .. الصمودلمستحيل ولكني ال أستطيع وال أملـك أن يقيني أنني أتعقب ا

. أتوقفتوقف وامنحني من رحابة صدرك ما يتسـع لهمـي

أنا لم أذنب في حقك بالقدر الـذي يجعلـك . ووجدي ولهفتي قد أكون نسيتك طيلة أعـوام مضـت فلـم . تتجاهلني هكذا

أذكرك إال عند الحاجة، ولكن معذرة يا أخي فما أنت إال بشر تخرج وتجـامع وتنـام لفتـرة طالـت مثلي تأكل وتشرب و

مـن صحيح أنك من علية القوم وأنـا . أو قصرت ثم تموت . أسافلهم ولكن مصيرك هو مصيري، عنده نتسـاوى تمامـا

. وأنت مـدرك لهـذا . الطريق إليه فقط هو الذي يفرق بيننا . يا فرج.. يا محمد يا فراااج. يا محمد. لكني بحاجة إليك

يوما إلى صديق غيرك، صورت لي سذاجتي أن ألجأ جلسـت أمامـه ال ألسـأله رد . طالما كنت له العون والسند : قال لي بابتسامة مخزية. الجميل وإنما ألساله المشورة

.ـ آسفتحسـب للموقـف والتـزم . أن أورطه معي ي خش

: قلت له، .الحذر وأخذ باألحوط .. ـ ولكني جئت

قاطعني خشية أن أعيره بأفضالي ـ ولم يكـن هـذا واردا ـ يعلم اهللا ذلك ـ وراح يثرثر بغبـاء حـول أشـياء هالمية كمصاعب الحياة وضيق الرزق والوقـت والمكـان

تركته وانصرفت آسفا وتذكرت مقولة سيدنا علـي . والزمانآه من قلة الـزاد وبعـد السـفر ووحشـة " بن أبي طالب

. ثم تذكرتك يا فرج".. الطريق

ـ . تكلم. واآلن نطق . ف منصـور أنا صـديقك يوس متفحصـا هيئتـي ينظر إل .. هل يعقل هذا؟؟ .. أال تعرفني؟

: بعينين بريئتين وقال في أدب جم . أنا لست أذكرك. ـ معذرة يا أخي.. أنا الذي وأنا الذي وأنت الـذي . قلت له أنا يوسف

حدثته عـن األيـام . ذكرته حين كنا وحين ذهبنا وحين جئنا بـل أن تسـتحيل إلـى الخوالي وعن بسمة الزمن الغـابر ق

: ابتسم في وجهي وكرر قوله. عبوس . ـ لكني لست أعرفك

. التفت الزبانية من حولي ومـنهم بعـض حراسـه صمت قليال ثم قال بطيبته . حاولوا إبعادي عنه بالقوة فمنعهم

: المعهودةليس أ. أنت مصري . ـ على أية حال أنا في خدمتك

كذلك؟ أهذا سؤال يا محمد؟ . ـ طبعابت نظراته كسهام نارية في وجهـي لوقـاحتي انص

. إذ أناديه باسمه مجـردا دون ألقـاب وتطاولي على سيدهم، : سألني بحنان أبوي

ـ ماذا تريد بالتحديد؟تسمرت أمامه في األرض وتشعب الجذر إلى عمـق

بذلت أقصى ما لدي من جهد حتى استطعت انتزاعـه . بعيدحياتي ثمرة جذريـة لم أر في . من أرض وكان ثقيال للغاية

ووجدت نفسي أقود عربة مسروقة وأجري بها .. بهذا الحجم في شوارع باريس ألجد نفسي في النهايـة واقفـا بميـدان

كانـت السـماء حمـراء . رمسيس في القاهرة ومعي الثمرة واألرض غير ممهدة والناس يهرولون ويتصادمون في كـل

كينة يحسده يقف بعيدا تغمره س . رفنيعاالتجاهات وفرج ال ي لم أستطع إجابته عن سؤاله المحدد .. عليها الملوك والقياصرة

.فعاود سؤالي دون أن ينفذ صبره بعثـة ..ما الذي جاء بـك إلـى فرنسـا؟ . ـ حسنا

أم عمل أم نزهة؟ أي نزهة يا صديقي الذي ينكرني وأنا العاجز عـن

نني علـى إهل تصدقني لو قلت لك . التنزه حتى في بالدي؟ داد ألن أجوب الدنيا بحثا عنك يا ذا العطر الجميل؟استع

. لماذا جئت إلى هنا يا يوسف.. ـ هه؟

ظللت أكلمك سنينا وأنت ال تسمعني، والناس يظنون ـ هأني أكلمهم، ولما غمرت في شوقي إليك سبحت في موج

وعبرت البحار والمحيطات وأنا ال أملك القارب وال الشراع . وال المجداف

.. إال ألحظى برؤياكـ ما جئت * * *

top related