سائق الدكتور مدحت

حالة من الذهول لم تفارق الدكتور مدحت، األمين العام

لمنظمة الدول العربية، منذ أن سمع وشاهد نشـرات أخبـار

الليلة الماضية وحتى هذه اللحظة وهـو يغـادر بيتـه فـى

اإلسكندرية، جالسا فى الكرسى الخلفى لسيارة المرسـيدس،

الطريق الصحراوى وحده مع سائقه الحاج سيد، متجها عبر

إلى مكتبة بالقاهرة، حيث سيستأنف مـن هنـاك اتصـاالته

. بمختلف األطراف لتفادى وقوع الكارثة

بوتيرة سريعة، خالل سـاعات تطورت األحداث

قليلة من مغادرته مكتبه ظهر األمـس، الثالثـاء، لحضـور

مناسبة عائلية، لم يكن بإمكانه أن يتخلف عنها، هـى عيـد

وقـد سـيق . أصغر أحفاده، التى كان موعدها البارحة ميالد

هذه التطورات خروج فريق التفتيش الدولى من بغداد، الذى

بدأ للوهلة األولى، ورغم انه جاء مفاجئا وسريعا وكأنه إيذانا

بانتهاء مهمة األعوام الثمانية التى قضـاها الفريـق يـدمر

ت، انه مخزون العراق من األسلحة، ثم ظهر بعد ذلك بساعا

خروج غاضب، أمر به رئيس فريق التفتيش، ريتشار بتلـر،

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

بحجة أن العراق يعرقل مهمته كما كتب فى تقريـره الـذى

. تناقلته نشرات األخبار

تواترت بعد ذلك األنباء التى ظـل الـدكتور مـدحت

يالحقها من خالل اإلذاعات المرئية والمسموعة والنشـرات

الت التى يقـوم بهـا عبـر التى تصل إليه بالفاكس واالتصا

الهاتف مع شخصيات عربية وأجنبية، منشغال تماما عن عيد

ميالد حفيده، الذى ال يستطيع أن يفهم، وهو فى السابعة مـن

عمره، لماذا ال يبقى جده معه طوال الوقت، يشارك مع بقية

:أفراد العائلة فى ترديد أغنية

". سنة حلوة يا جميل "

و يزداد تصعيدا وسخونة، حتى ظل يتابع الموقف، وه

ساعة متأخرة من الليل، وحتى بات مؤكدا أن هناك ضـربة

عسكرية أمريكية، بريطانية، وشيكة الوقوع، سـتوجه إلـى

العراق، ورأى على شاشة التلفاز، سياسـيين مـن أمريكـا

وبريطانيا، يعرفهم معرفة شخصية، يتحدثون بلهجة غاضبة،

ضربة التى ستكون حاسـمة ووجوه عابسة كئيبة، عن هذه ال

فى سحق كل إمكانيات القوة لدى العـراق، وظهـرت مـع

التصريحات أشرطة مصورة لقطع األسـطول األمريكـى،

وحركة إقالع الطائرات من فوق السفن، باإلضافة إلى مشاهد

من األرشيف، لتفجيرات وعمليات قصف لبغداد بالصواريخ

. والقنابل

السرعة الفائقة التى ما أذهل الدكتور مدحت ليس فقط

تطورت بها األحداث، والسماع هؤالء القادة يتحدثون عـن

ضربة عسكرية ال مبرر لها وال شرعية دولية تسندها، مـا

أذهله حقا أن ما يقولونه، يتناقض تناقضا كامال مع ما يسمعه

منهم خالل جولته األمريكية األوروبية األخيرة، التـى قابـل

ن صانعى القرار هنـاك،واتفق معهـم أثناءها طائفة كبيرة م

على نبذ أسلوب العنف والقوة فى التعامـل مـع موضـوع

العراق، واعتماد الحوار والعمل السياسى بـديال ألى حـل

عسكرى،مع استعداد المنظمة العربية ألن تكون إحدى قنوات

فهل حقا تـم اسـتنفاد كـل . االتصال مع الحكومة العراقية

ه الساعات القليلة الماضية، بحيـث الوسائل السليمة خالل هذ

أصبح العمل العسكرى،خيارا وحيدا البد بل له أن أحدا مـن

هؤالء القادة الغربيين لم يتصل بالمنظمة العربية طالبا منهـا

المشاركة فـى أى عمـل سياسـى يسـبق إعـالن حالـة

االتصال جاءه مـن أطـراف .االستنفار ودق طبول الحرب

وتطالب المنظمة بأداء دورها فـى عربية أفزعها ما يحدث

من العراق هاتفه البارحـة، وزيـر خارجيـة . درء الكارثة

العراق، يطلب الدعوة الجتماع طارئ لمجلس المنظمة ،ومن

اليمن هاتفة مكتب رئيس الجمهورية، يجـدد دعـوة الـيمن

.النعقاد القمة العربية

ومهمته أن يسابق هذا الزمن الذى يـأبى أن يتمهـل

وسرعة السيارة التى تنهب الطريق إلى القاهرة،تبـدو قليال

اآلن بطيئة، مقارنة بسرعة األحداث والمشاهدة التى تدور فى

ويمد بصره بعيدا عبر زجاج السيارة، فيـرى وكـأن . رأسه

قوس السـماء، يرسـم عنـد التقائـه بـاألرض الرمليـة

الحمراء،ساعة كبيرة األفق ويترد فى رأسه صـدى الـدقات

بة المفزعة لهذه الساعة التى تدور تروسـها العمالقـة، الرتي

وتشير عقاربهـا الكبيـرة الفزعـة، إلـى قـرب مرحلـة

وعليه . الصفر،للضربة العسكرية األمريكية البريطانية لعراق

إنه مسئول عن المؤسسة السياسـية الوحيـدة . أن يفعل شيئا

التى تمثل كل العرب، والبد أن يظهر موقف العـرب قويـا

سيباشر فور وصوله إلى المكتـب . ا ضد هذا العدوان حازم

هاتفة روبين كوك،ومادلين أوبريت،وسيعود إلى االجتماعات

التى عقدها مع االثنين، ليواجه كل منهما بنصب التعهـدات

سيحاول التنسيق مع كوفى عنان،إليقاف .التى صدرت عنهما

قـد ل. هذا الجنون الذى يدعى انتسابا كاذبا للشرعية الدوليـة

. خرج من بيته مبكرا ليكون الساعة العاشـرة فـى مكتبـه

ستكون الحادية عشرة فى المشرق العربـى، والثامنـة فـى

والتاسعة فى لندن وسيترك مكالماته ألمريكا إلى ما .المغرب

بعد منتصف النهار، لتتوافق مع الساعات األولى للصباح فى

ربة هـو أخشى ما يخشاه أن يكون موعد الض . القارة الجديدة

هذه الليلة، كما تؤكد بعض المصادر، ومعنى ذلك أن أثمـن

والساعة الكبيرة المرسومة . نعم الوقت . شيء اآلن هو الوقت

. الوقت، الوقت، الوقت:على حافة األفق تدق قائله

:وأثناء ذلك سمع الدكتور مدحت صوتا يقول

ال مؤاخذة يا سعادة البيه أصل العربية عاماللى قلق -

. النهارده

تراجعت األصوات الكثيرة التى تـدور داخـل رأس

األمين العام للمنظمة العربية لتعطى الفرصة لهذا الصـوت

القادم من خارج رأسه يتحدث عن شيء آخر غير المنظمـة

. العربية أيضاالعربية، اسمه

عاوز تقول ايه يا حاج سيد؟ -

عاوز أقول يا سعادة البيه أن فتيس العربيـة تعبـان -

لكن بتوع .ما كنتش عاوز أشغل سيادتك بالموضوع ده .شويه

الورشة رأسهم وألف سيف إال يصـلحوا التـروس اللـى

الفتيس بتاعـه مـا . أصل األوتوماتيك شغالنته شغالنة .فيه

ليح أبدا، ألحد يقول تـروس وألحـد يقـول ينفعش معاه تص

الزم يتشال كله، ويتحط بدالـه . كاوتش، وألحد يقول أسالك

لكن تقول لمين؟ . فتيس جديد

ترى ما هو فرق التوقيت بين القاهرة وموسكو،أنه لـم

بعد يذكره،لعدم حاجته لالتصال بها فى األعوام الماضية، أما

سيهاتفه كصديق فهـو . وفاليوم فإنه البد أن يهاتف بريما ك

يعرفه منذ أن كان مراسال صحفيا فـى القـاهرة وسيسـعى

لتنسيق الجهود معه لممارسة مزيد من الضغوط على اإلدارة

أما روبين كوك، الذى زار مكاتب الجامعة فـى . األمريكية

القاهرة منذ أشهر مضت فيذكره بنص كلماته التى أشاد فيها

رورة االعتماد عليهـا كقـوة بمواقف المنظمة، وأكد على ض

.إقليمية فى حل أية أزمة تنشأ بين األمم المتحدة والعراق

عفشة العربية كمان عاوزه توضيب،لكن دى ممكـن -

.عشان دى محتاجه ثالثة أيام. نصبر عليها شوية

ســيادتك عــارف إن دى فيهــا مقصــات وكبايــت

ومساعدين، وكل الحاجات دى عاوزة توضيب وأخرى عايزة

بس اللى مستعجل قوى، والزم يتعمل ساعة ما نوصل . رتغيي

.هو الفتيس

لن يكتفى بتذكيرهم بما قالوه وتعهدوا به أمامه، ولكـن

أيضا بالمواثيق واالتفاقيات التى وقعوا عليها والتزموا بها فى

األرض " المؤتمرات التى دعت إليها هيئة األمم المتحدة،عن

فأين هى حقوق اإلنسان فى " المرأة "و " حقوق اإلنسان " و "

قصف األحياء المدينة وقتل قاطنيها وهم نائمون فى أسـرتهم

كما حدث فى آخر قصف ضد العراق، وأيـن هـى أناشـيد

التمجيد لألم والطفل التى عزفها الرؤساء فى مؤتمر المـرأة،

مقارنة بقنابل النار التى ستهطل فوق األمهات واألطفال عند

ير ذلك على األرض والبيئة بما فيها مـن بدء الهجوم وما تأث

البد من أسباب وجيهـة جـدا . زرع وطير وإنسان وحيوان

فهل يستحق مكتبا حزبيا صغيرا فـى . لقيام بأى عمل حربى

حى األعظيمة ببغداد، اعترضت الحكومـة العراقيـة علـى

تفتيشه، إعالن حالة االستنفار فى أكبر آلة حربية فى الـدنيا،

. اب جرائم القتل والتدميروالتهديد بارتك

وهل يتناسب هذا العقاب الذى يهددون به، مع حجـم

اإلثم الذى ورد فى تقرير السيد بتلر؟ سيقول لهم كـل ذلـك

وسيحدثهم عن ازدواج المعايير التـى يسـتخدمونها ولكـن

:صوت الحاج سيد جاء يقطع حبل أفكاره

المشكلة مش فى الفتيس، لكن فى صبى األسطى اللى -

أصل الكـالم ده مـا . اف العربية، وحط التروس الجديدة ش

وكمان حط لهـا تـروس مـش . ينفعش مع عربية زى دى

حاجه مش اليقـة . حسيت بأن دا كان إهانة للعربية . أصلية

أصل أنا أعـرف . دى أكيد زعالنة من اللى حصل . بمقامها

.. على طول لما تكون العربية زعالنة

صيرورة طويلة مليئـة إن ما يحدث اآلن هو محصلة ل

باألخطاء، ولن يستطيع الجهد الذى تبذله اآلن، أو جهد أيـة

مؤسسة أخرى، أن يغير كثيرا من النتائج التى ترتبت عـن

حالة العراق أشبه بعربيـة أدى التهـور فـى . تلك األخطاء

ــادة إلــى خروجهــا عــن الطريــق فألحقــت األذى . القي

صـطدامها براكبيها،وتسببت فى إضـرار وضـحايا عنـد ا

فهل يستطيع أحـد أن يمنـع . بسيارات أخرى وبشر آخرين

. وقوع الحادث ونتائج لذلك الصدام

فيـه .ده حتى صوت العربية النهاردة مش طبيعـى -

ممكن سيادتك تالحظ بنفسـك أد أيـه صـوتها . حاجه غلط

مع أننـى . أصلها زعالنة . دى عمرها ما عملت كده . متغير

والبوجيهـات والكوندنسـر لسه مركب لها طقم الكهربـاء،

لكن تعمل إيـه المرسـيدس لمـا . كله شغال تمام . والبالتين

ده الفتـيس بـدأ .. تزعل محتاجة لوقت عشان ترضى تانى

يعصلج معايا مش عارف ليه؟

لم يالحظ الدكتور من حث وهو غارق فى أفكاره، أن

سرعة العربية أبطأت، حتى توقفت تماما، فهو ما زال حائرا

لماذا؟ لمـاذا هـذه :جد جوابا لهذا السؤال المؤلم الحارق ال ي

الشهية المفتوحة للموت والرعب والدم والدمار، واسـتخدام

قنابل النار لقتل أناس أبرياء، ال لشيء إال لتصفية الحسـاب

مع رجل واحد، هو حاكم العراق؟ أنهم يعلمون أن هذا الحاكم

ى، بل سـتزيده القابع فى حصونه المنيعة، لن يصيبه أى أذ

هذه الضربة قوة، وسيطوعها لصالح استمراره وبقائـه فـى

وإذا كنا نقيم حمالت اإلنقاذ لحيوانات الفقمـة، دليـل . الحكم

حسنا اإلنسانى والحضارى، أفال يسـتحق ماليـين البشـر

العراقيين أن نفكر فى مصيرهم عند اإلعداد لهـذه الخطـط

وصـلت بهـذه ولكن لماذا توقفت السـيارة؟ هـل . الحربية

السرعة، إلى البوابة التى ينتهى عنـدها األتوسـتراد؟ إنهـا

تتوقف فى وسط الطريق فى بقعة يحيط بها الخالء من كـل

جانب، وتمتد من حولها المفازات الصحراوية التى تترامـى

على مدى البصر، تغطيها سماء صافيه زرقـاء، وتحرقهـا

. شمس شديدة السطوع والقوة

ج سيد حصل إيه يا حا-

حاولت لكن مـا فـيش . ما فيش فايدة يا سعادة البيه -

.مش راضية تتحرك أبدا. العربية وقفت خالص. فايدة

وهل البد للعربية أن تختار هذا الوقت بالـذات لكـى

تتعطل؟ هى الصدفة التى فعلت ذاك؟ أم شيء آخر له عالقة

بأساليبهم الجهنمية فى السيطرة على األحـداث؟ وإذا كـان

ر صدفة فهل البد لهذه الصدفة أن تعمل لصـالحهم؟ إن األم

لم يحدث معه شيء كهذا طوال . رأسه يمتلئ بضجيج األسئلة

ولكنه ال يجب أن يستغرب، فالميزانيـة . مدة عمله بالمنظمة

صارت فعال عاجزة عن توفير قطع الغيـار حتـى لسـيارة

إن استدعاء أية سيارة مـن . إنها محنة حقيقية . األمين العام

ربمـا . القاهرة أو األسكندرية سيحتاج ألكثـر مـن سـاعة

ساعتين، ومعنى ذلك أنه لن يصل إلى مكتبه قبل منتصـف

النهار، وستكون الفرص قد ضاعت إلجراء أيـة اتصـاالت

سيكون موقف المنظمة ضعيفا، وبالتـالى . ومشاورات مثمرة

فإن الموقف العربى كله سيتسم بالعجز والهوان فى مواجهـة

إنه حائر هل يفكر فى أزمة سيارته العاطلة، أم أزمة . الزمة

المنظمة العربية التى ال تجدا أرضا من الوفاق العربى تقـف

عليها، أم بوابات الجحيم التى سيفتحها جنراالت الحرب فى

.الغرب على بلد عربى عضو فى الجامعة

:وقال غاضبا يخاطب سائقه

وإيه العمل دلوقت؟-

كان األمين العام للمنظمة العربية ومرت لحظة صمت

يرفع أثناءها بصره إلى الحاج سيد أمال أن يسمع مـن هـذا

.السائق كلمة تخرجه، وتخرج المنظمة، من هذا المأزق

:ومترددا، خجوال، أجاب السائق

. العربية يا سعادة البيه، محتاجه بس لحـد يزقهـا -

. شاء اهللاأكيد حتتحرك إن.. زقة جامدة شوية، عشان تتحرك

وألنه ال يستطيع أن يفعل ذلك بمفردة، ومتحرج من أن

يسأل السيد األمين العام أن يتولى دفع السيارة بنفسه، فقـد

وقف يشير إلى السيارات التى تمرق بجواره، عله يجد أناسا

بين أصحابها وراكبيها، يحبون النبى ويتطوعون لدفع سيارة

. لها الحياةالمنظمة العربية، دفعة قوية تعيد

سلطانة

ما حدث مساء أمس لسى خليل العجوز الذى يرتدى عبـاءة

شهباء، ويتوكأ فى مشيته على عكاز من الخيزران، ويأكـل

لم يعد خافيا على أحد من أهل …لقمة عيشة من قوله للزجل

. البلدة

وسى خليل نفسه لم يجعل مما تعرض له فى هذا الحدث سرا

الخاصة إلى نشره بين هذا القطيـع بل سعى بطريقته . خفيا

البشرى الذى تضمه البلدة، فقد نام البارحة يتقلب على الكليم

المهترى، كامرأة تعانى األم المخاض وفى الصباح كان زجله

يسبق التحية متنقال بين األفواه، وتلقف الخليط مـن النـاس

الذين يعيشون تحت سقف واحـد مـع شـياههم وكالبهـم

وفى بيوت قصيرة منكمشة متقلصة تتساوى وحميرهم أيضا،

جميعها فى أنها كئيبة عجفاء كأنها مريضة بمـرض واحـد

بعضها مبنى بالطين والبعض األخر …مزمن ليس له دواء

بالجبس أما الكثير منها فحيطانها مبنية بال جبس وال طـين

ولكنها حجارة قائمة لوحدها متناسـقة ومرصوصـة وتشـد

. نها البو الطين والجبس تخرج لسا…بعضها بعضا

تلقفوا جميعهم الزجل الحديد بشيء من الغبطة والتهافت كما

. هى عادتهم دائما مع كل زجل تجود به قريحة سـى خليـل

حتى أن كل امرأة فى البلدة راحت تغنـى الزجـل الجديـد

بنبرات تشى بالكآبة والحزن كلما جلست على الرحى لترحى

رية فى تلك اللحظات أغنيـتهم طحين العيلة، ونسى أطفال الق

. المفضلة التى ال تفارق أفواههم

.. آهى جت…آهى جت

..بخالخيلها رنت

فكانوا ينتظمون فى حلقات يقفزون ويرقصون ويتغنون بزجل

. سى خليل الحديد

وأحيانا كانوا يغافلون البواب العجوز، ويشوهون المدرسـة

. نها البيضـاء الجديدة بالفحم كى يكتبوا الزجل علـى جـدرا

وخرج الكثيرون من شبان البلدة الصغار فـى مجموعـات

متفرقة بعضهم إلى الربوة القريبة، والـبعض اآلخـر إلـى

البساتين الصغيرة المحاذية للبلدة، وارتفعت حناجرهم تـردد

الزجل الجديد، مصحوبا بدقات عصيهم فوق الحجر ونغمات

بهـا، حتـى المقرونة التى يفلح كل واحد منهم فى العـزف

الشيوخ الذين يستندون بأظهرهم إلى األحجار المتراكمة على

لـم يخـل . شكل هضبة فى ظل جدار أبيض كثير الشروخ

. حديثهم من التلميح الصريح إلى الزجل الذى قاله سى خليل

أن سى خليل اكتشف ليلة البارحـة أن …والحكاية

م يمض زوجته سلطانة تخونه، اكتشف أنها تخونه رغم أنه ل

على زواجه منها سوى عام واحد، عندما رآهـا ذات يـوم

تغسل حاجياتها مع غيرها من الفتيات فى مياه الغدير التـى

أحدثتها المطر بالقرب من البلدة، فكان أن شعر بجمالها يلهب

أعماقه، ويزيد فى تتابع دقات قلبه، وللمكانة التى يتمتع بهـا

أبعادها ملكـة الزجـل سى خليل عند أهل البلدة التى حددت

عنده، وكذلك لألطيان التى يملكها تمت الخطبة، وبالتالى تـم

. الزواج

وليلة البارحة كان سى خليل يجلس مستندا بظهـره

إلى الحائط، وسط الزريبة التى نصبتها زوجته أمام الدار من

األشواك واألحطاب وجريد النخيل، وهو يقضم فى صـعوبة

ة أمامه فى الطبق، والتى كانـت من أرغفة الخبز الموضوع

ذلك أن الحساء الـذى أعدتـه . سخنة ال تزال رائحتها تفوح

سلطانة هذه الليلة كان قليال بحيث نفذ فى أقل من خمس لقات

وكان عليه لكى يمأل معدته أن يواصل أكل الخبز بال طبيخ،

بينما جلسـت . رغم الصعوبة التى يتكبدها فى عملية المضغ

ف الكليم المفروش الذى تآكلت مـع األيـام سلطانة على طر

حوافه، وكأن األيام لها أسنان وأنياب تقرض بها مـا تتفـتح

شهيتها على أكله، جلست سلطانة وبجانبها عدة الشاى ومالل

النار المحفور فى األرض وقد راحت تتلهى بالنظر إلى القطة

ذات اللون األسود واألبيض التى تتمطى وتغرز أظافرها فى

رض، وتتمسح بصهيد النار، وتلوك كسرات الخبز التـى األ

يرمى بها إليها سى خليل بين الحين واألخر، وتحدثا الزوجان

كثير عن كل شئ، إال أن انتباه سى خليل كان منحصرا فـى

الفستان الجديد الذى ترتديه سـلطانة وعنـدما سـألها عـن

ـ ه المصدر الذى حصلت منه على هذا الفستان الجديد، أجابت

ولما رأتـه يـتقلص .. بأنها حصلت عليه من حوش العرس

. بمالمح وجهه فى بالهة متذكرا أى عرس تقصد، أردفت

وفى صعوبة وتقزز ابتلع … عرس على ولد خالتى منوبية -

هذه الكذبة التى قالتها سلطانة، وهو متأكد من أنهـا تكـذب

وإذا كان هناك نوع من الكذب يأتيك فى خفـوت وعلـى …

فإن هناك . صابعه بحيث يسهل أن يمر بك وتصدقه رؤوس أ

نوع آخر من الكذب يأتى مصحوبا برنين وصـليل كسـيارة

وكذبة سـلطانة . إطفاء الحرائق معلنا أمامك أنه ها هنا كذبة

. كانت من النوع األخير الذى يجعلك ترفع كلتا يديك صائحا

هكذا كان يفكر سى خليـل فعـرس …قف ممنوع المرور

خالتها الذى تحكى عنه مضى عليه أكثر من عشرة على ولد

. أيام، بينما هى لم ترتد الفستان الجديد إال هذا اليوم

وتناهى إليه فى هذا اإلثناء رغم ما يعانيه من ثقل فى

أذنيه صوت صفير حاد، وتنبه إلى أنه سـمع مصـل هـذا

الصفير فى الليلة الماضية والليلة التى قبلها، وأثناء الصـفير

يرى زوجته تحمل على كتفيها الصفيحة الصدئة المليئة كان

بالقمامة، وتخرج بعد أن تقول دون أن تلتفت إليه

…أنا ماشية نرمى الكناسة

وبدأ يشعر بالفأر اللعين الذى اصطلح الناس على أنه

. هو الذى يلعب فى العب

بدأ سى خليل يشعر به ينط ويقفـز ويقـوم بالعابـه

. هل هذه المرأة تخونه. البهلوانية داخل عبه

هذه المرأة التى انتشلها من حياة بائسة داخل كوخ ال

ثم أليست هى التـى تقضـى .. تجد فيه الفراش وال الغطاء

الليالى الشتوية الباردة الطويلة مـع والـدها بـين الشـعاب

واألدوية والبرارى بحثـا عـن جـدور حلفـاء يقتطعانهـا

معدودة وأتى هو لينتشلها لبيعها بقروش .. ويحضرانها للبلدة

من هذا البؤس، لتعيش كأى امرأة معززة مكرمة هنيئة البال،

. وبين جدران مبنية بالحبس

وتتغطى بكذا بطانية، وتأكل .تفترش الكليم المزركش

الخبز بطبيخ البطاطس والبصل والفاصوليا الخضراء وبعـد

حقا، يا للمرأة الخائنة .. تخونه. كل هذا الذى عمله من أجلها

ويقطع على سى خليل خبـل تفكيـره، . الكافرة بالنعمة حقا

وتأكدت ظنونه فسـتان …حجر صغير يسقط بجانب رأسه

جديد، وصفير وحجارة تضرب فى قلب البيت، ثم خروج بعد

الصفير، الطفل الصغير وحده الذى يستعصى عليه فهم كـل

أم هذا واألبلة، أتظن أننى أبلة، أم تراها ال تعمل حسابا لـى

تحسبنى سأتركها تمسك السكين أمام ناظرى وتطعنـى فـى

وأصر على ما تبقى فى فمه مـن أسـنان . شرفى وكرامتى

. خاينة–وخرج صوته كفحيح ثعبان أهاجته حرارة الشمس

هذه المرأة التى تجلس أمامه مستغرقة فـى إعـداد

ها هو حجر آخـر يسـقط . خائنة، أعوذ باهللا . الشاى، خائنة

! ها هى يدها تمتد إليه بكوب الشايعلى رأسه، و

. أنا فيه صفيحة كناسة بنمشى نرميها… هيا خذ-

ولم يعد يشعر إال بدبيب النمل الذى يسرى فى جميع

وبدماء جسمه التى تتصاعد فى دفعة واحـدة .. أنحاء جسده

. لتفور كالقدر فى رأسه، وبالخائنة التى تجلس أمامه

سلطانة وينـدلق ويرفع رجله ويهوى بها على ظهر

الشاى على األرض وتتناطر السفرة فى الهواء وتغوص يـد

…ويعلو صراخها . سلطانة فى المالل المحفور فى األرض مع مواء القطة المنزعجة وينتصب هـو واقفـا ويخرسـها

. بكلماته التى تخرج من بين شفتيه كالشظايا

… يا خاينة يا فـاجرة … مطلقة … أنت من هاالساعة - …يا

وأفرغ أمامها كل الشتمات التى أثقلت أعماقه، وعلى

ذبالة مصباح الغاز الكابى الذى يفرش بلهاتـه األرض، رأى

كوجه إنسان مات منـذ .. وجهها يغدو أصفرا شاحبا ممتقعا

بعـد أن . ثم تحركت فى بطء األيـام الحزينـة …ثالثة أيام

وأرديتها القديمة، وخرجت، وسمع نبـاح ) مزاودها(ضمنت

لحظتها شعر بشيء كالغصة فـى . الب عليها فى الخارج الك

وأجال ببصره فى الـدار … ربما هى مظلومة؟ …حلقومه

كانت الدار فى نظرة كأنها جثة …كان كل شيء هامد خاوي

. غادرتها الروح التى تسكنها

حتى القطة الصغيرة التى كانت منذ لحظـة بجانبـه

. يرمى لها الخبز، تسللت من الدار

يقف وسط الفراغ حزينا مبعثرا كالتائه، .. هكان وحد

حتى ظله المصلوب على الجدار كان يبدو ساحبا باهتا كئيبا،

. وظهره بدأ أكثر انحناء عما كان عليه

. تنبه إلى حجر صغير يسقط قريبا منه…وفى وقفته تلك

وتناهى إلى أذنيه نفس الصفير الحاد الذى لم ينقطـع

لطانة ال يزال ينتظر أن تأتى إليـه وال بد أنه صاحب س . بعد

إن كان صحيحا هو كيف يواصل صفيره ورمـى حجارتـه

حتى بعد أن خرجت؟

. وطرد هذا السؤال المتطفل

( وركـل برجلـه …أنه بال شك هو ذلك الشيطان

صغيرا كان فى طريقه، وخرج ليستطلع أمر هـذا ) جردال

ه السكينة الصفيق الخائن ولم ينس قبل أن يخرج أن يأخذ مع

ذات الشفرة الحادة التى تشع بياضا فـى ضـوء المصـباح

لسوف يحسم معه الموقف، ويريه معنى انتهـاك …الغازي

…سيضربه، سيقتله إذا دعى األمر .. حرمه بيوت األشراف وعندما وصل خارج الدار، وجال ببصره فى تلك األنحاء، لم

. يغالب رغبته فى أن يفرك عينيه

الخائن المزعوم، شلة من أطفـال فقد وجد بدال من

الجيران الصغار يصفرون، ويرمون بالحجارة وطواطا لعينا

كان يختار فجوة فى جدار قريب، يركن إليها كلمـا أعيـوه

. بصفيرهم وترجيمهم

يا للحظ السيئ؟

أمن أجل ترجيم وصفير هـؤالء الصـغار يرتكـب

. حماقة طالق سلطانة

ـ نين التـى وبال شعور وجد نفسه يجرى رغـم الس

خلف األطفال الـذين فـروا أمامـه، –يحملها على كاهله

ويمسك بأول من يصادفه منهم، ثم يشـبعه رفسـا وركـال،

وضربا بالعصا الخيزران حتى تكسرت، تـم تـرك الطفـل

. يتمرغ فى التراب ويتوجد عليه األطفال

. وأسرع الخطى الحقا بسلطانة

تـى اآلن ال بد أنها ما زالت فى الطريق لم تصل ح

إلى كوخ أسرتها الذى ينكمش على نفسه فى طرف البلـدة،

سوف لن تقول شيئا عندما يعترف أمامها بأنه غلطـان فـى

وأنه يريدها أن تعود فى غد يأتى بالفقيه مصـباح، …حقها

وهو يتذكر جيدا أنه . يجدد عقد الزواج، وكأن شيئا لم يحدث

فهو مطمـئن إلـى أن لذلك.. لم يقل لها، أنت مطلقة بالثالثة

المياه سوف تعود إلى مجاريها، هو صحيح أهانهـا، لكنـه

يعرف سلطانة، فهى طيبة ومسكينة ومتسامحة وسوف تعود

فهى حتى من ناحية أخرى تعـرف نـوع .. معه بدون شك

… هى تعرف…الحياة التى تنتظرها فى بيت والدها

. سلطانة… سلطانة -

تخب بخطواتهـا هكذا صاح عندما الحت له سلطانة

. لم تقف..السريعة فى عرض الطريق

. واصلت سيرها…لم تلتفت

وهرول سى خليل حتى وصل بمحاذاتها تماما

سلطانة، اسمعينى يا سلطانة، عرفت كل شـيء يـا

سلطانة، أنا الغلطان، أنت شريفة يا سلطانة، واصلت سيرها

! وأمسك سى خليل بطرف لحافها…مسرعة الخطى

… أنت … ترجعى يا سلطانة أنت الزم

. قاطعته بصوت محشرج الهث مخنوق

إلى وين؟

.كان واضحا من كلماتها المتداغمة، أنها كانت تبكى

ترجعى لبيتك؟

هو أنا مازال عندى بيت؟

قالتها، وهى تمسح بأطراف أصابعها أثر العبـرات

…ال يا سلطانة اعتبرى كأنه ما كان شـيء . فوق خدودها . كل شيء يتصلح يا سلطانة…يتصلحوكل شيء

ورغـم الليـل … والتفتت إليه … وقفت …هنا فقط

. والظالم أحس بشيء يتقد فى نظراتها

هيا اإلهانة عندك سهلة لهذى الدرجة، ياسى خليل؟ وهنـا -

أيضا فقط، أيقن سى خليل أن األمر ليس كما كان يعتقد هـى

كـان قسـما بـاهللا مـا . صحيح إهانة لكن ما كانش قصدى

. قصدى

…كان الليل ينشر سواده فى كل مكان

والقمر توارى تماما وراء القرون البعيدة وسـلطانة

والطقـس فـى هـذه . تخب بخطواتها كأنها ال تستمع إليـه

…اللحظات من الليل كان شديد البرودة

العيش الملح اللى كلناه مع بعض، وعشرة األيام الطويلـة، -

فى .. ش هذا كله تنسيه يا سلطانة والود اللى كان بينا ما أظن

. غمضة عين

وأطارت رياح الليل طرف رداء سلطانة، فلطم وجه

. سى خليل

. والطقس ال يزال باردا. ونباح كلب أتاهما من بعيد

… أنت يا سلطانة إنسانة طيبة وبنت حـالل … سلطانة - . وقاطعته بحده.. وما يصحش

وأجهشت . خليل وعندى كرامة، الناس عندها كرامة ياسى -

. ببكاء خفيف

.. وهدها مع الليل

والسواد يلـف . والسكون من حولهما يلف كل شيء

ومواء يصلهما من سطح أحد المنازل القريبة التى . كل شيء

والطقـس .يمران بها، مواء قط، يبدو أنه يتحايل مع قطتـه

…بارد

فيه حاالت الواحد الزم يفكر فيها يا سلطانة، أنا مش قادر -

تصور الدار وهى خاوية فاضية بدونك يا سلطانة، حتى بعد ن

بدت قدام عيـونى .. ما خرجت أنت وشيعت عينى مع الدار

سلطانة، خلى أذنك معـاى، مسـألة .. كأنها خرابة مهجورة

الفراق مسألة ماهياش هينة، ما هياش هينة، ما هياش مسألة

. صغيرة

لمطبات الطريق الذى يمشيان فيه كان مليئا بالحفر وا

سى خليل كان يمشى فى الطريق بصعوبة، بـل . واألحجار

كان يتعثر أحيانا، ذلك ألن عكازه الخيزران كان قد انكسـر

. والطقس شديد البرودة ما يزال

وتكلمت سلطانة

أنا عارفة أن الفراق حاجة كبيرة، لكن فيه مـا هـو

كان واضحا من أن الجرح أوسع من أن تسده كلمـات . أكبر

يل وأراد سى خليل أن يسلك فى حديثه معها طريقـا سى خل

. آخر

ثم وأنت يا سلطانة عارفـة المعيشـة اللـى …ثم

تنتظرك فيه كوخ والدك اللى يتزاحموا فيه أكثر مـن أربـع

أنت وحدك يا سـلطانة، –وأنت معاى عندك بيتك .. أرواح

سلطانة البيت والحقيقة حتى على أنا من يوم جيتـى الـدار

ووو …وهى منوره

وقاطعته وهى ما تزال تجهش

. الكرامة ما دونهاش حاجة ياسى خليل

سلطانة أنا ما زال من رأى أننا نتسامح، ونبدأ حيـاة

. ومد لها يده. جديدة

. ياسى خليل…أيدى محروقة

وتذكر لحظتها أن يد سلطانة قد احترقت فى مـالل

ـ . النار عندما ركلها بقدمه ى فـى كان واضحا من رنة األس

بل أيضا فى قلبهـا …صوتها، أن الحرق ليس فى يدها فقط

وقفت سلطانة …كانا قد اقتربا تماما من كوخ والدى سلطانة

. ونظرت إليه كأنها تأمره بأن يعود

وكان الليل فى هذه اللحظات بـاردا، كأنـه قطعـة

. سوداء كبيرة من الثلج

. ولفظ هو آخر أنفاس محاوالته

هذا هو كالمك؟ خالص؟…سلطاته -

كالطقس فـى تلـك .. وخرجت كلمات سلطانة باردة

. ما عنديش كالم غيره يا سى خليل. اللحظات

للحظة، وقـف سـى .. وانفلتت مهرولة نحو الكوخ

خليل مزروعا حائرا، كان شيئا ثمينا ضاع منه وسط الليـل،

هذا الليل الذى يراه ينشر سواده فى كل مكان، حتى فى قلبه،

فى هذه اللحظة أن كل مفاصله وأطرافه تـرتعش، واكتشف

وبدأ له كما لو أنـه … شديدة …وأن الطقس برودته شديدة

يكتشف ألول مرة أنه عجوز وهرم، فمه بال أسنان وشعرات

. رأسه لم تعد سوداء

وعندما هم بالتحرك أفاق إلى أن عكازه الخيـزران

د فيـه كان قد انكسر، وأن مشوار الرجوع إلى البيت سـيكاب

. صعوبة كبيرة

دخل يجرر رجليـه ويـدلق نظراتـه …وعاد بيته

الذى أكلته أطرافـه ) الكليم(الكئيبة على األرض، لينام على

نام سى خليل يتقلـب شـماال . األيام ذات األنياب واألسنان

ويمينا كامرأة تعانى آالم المخاض، كى يضع الزجل الجديد،

. ثانىالذى تلقفه أهل البلدة فى اليوم ال

وكان الزجل مليئا بالنقاء والطهارة والعفة والشرف،

إلى آخره من كلمات الفضيلة التى أسبغها سى خليـل علـى

. امرأته سابقا سلطانة

سمير

عالقة عمرها اآلن أكثر من ثالثين عاما جمعتنى

وعلى مدى هذه االعوام ال أذكر أننى تبادلت معه . بسمير

، يبادرنى بها، أو "أهال " دة هى حديثا يتجاوز كلمة واح

ساعة أن يرانى أو أراه ونحن نلتقى صدفة أثناء . أبادره بها

لم أعد أذكر متى وكيف التقيت به . جوالتنا بمركز المدينة

الول مرة، وكيف عرفت أثناء ذلك أن اسمه سمير، وعرف

هو أيضا اسمى، فصرنا نتبادل التحية عندما نلتقى دون أن

. فة إلى أكثر من ذلكتمتد المعر

وصار وجهه مألوفا على مر األيام واألعوام، أحييه

دون كلفة، وأنطق اسمه، دون ألقاب، وأرى أن المالمح

الدقيقة المرهفة التى تمنح وجهه مسحة طفولية تليق باسمه

الذى كان اسم مجلة شهيرة لألطفال، ثم أرى هذه المالمح

فولى، واكتسب خشونة تتبدل بفعل الزمن، تفقد طابعها الط

وأغيب عن طرابلس . تتناقض مع رهافة االسم وطفوليته

عاما أو عامين، وألقاه بعد الغياب، وأحس أن شكله ابتعد

كثيرا عن اسمه الذى لم يعد يليق به، ومع ذلك أبادره بالتحية

:أو أرد على تحيته بانفعال وحماس قائال

أهال سمير-

للحظات ألن لعل الفضول استبد بى فى بعض ا

اقترب من سمير اقترابا أكثر إنسانية، فأعرف ماذا يعمل

وكيف يعيش وما الذى يشغله من هموم وقضايا وما الذى

طرأ على حياته من تغيير منذ أن ألتقيت به أول مرة، فالشك

انه امر غريب ان تبقى عالقتى بهذا الرجل الذى التقى به

، عند كلمة واحدة هى منذ اكثر من ثالثة عقود واقفة، متجمدة

وأن تبقى معرفتى به خالل كل هذه المدة ال تتجاوز « أهال»

ولكن مثل هذه اللحظات تأتى ثم تمضي، . اسمه االول سمير

يتقد خاللها الفضول ثم ينطفيء، فأكتفى من عالقتى بسمير

. التى نتراشق بها عبر اعوام العمر المنصرمة« االهال»بهذه

ا مر سمير بجوارى ورمى نحوى وكان خجلى عظيما عندم

تلك فاعدتها اليه على عجل وانا أتناول صحيفة من « اهال»

:بائع الصحف

. أهال سمير-

:وإذا بالبائع ينبهنى قائال

. ولكن اسمه ليس سميرا-

:رآنى انظر اليه فى فزع واستغراب، فبادرنى مؤكدا

اعرف الرجل جيدا، انه من زبائني، واسمه -

. شعبان

كيف تراه رسخ فى ذهنى ان اسمه . أذهلتنى المفاجأة

سمير ولماذا اخترت له هذا االسم من دون كل االسماء،

وكيف ارتضى أن يبقى صامتا الينطق بكلمة واحدة، تشير

الى هذا الخطأ وترغمنى على أن اناديه باسمه الصحيح، هل

هى المدينة التى تدور وتدور وتأخذنا معها فى دوامة

ان، فنغفل أثناء ذلك عن تأسيس عالقات اكثر عمقا الدور

هل كان اسمه حقا سمير، ثم أدرك مثلي، ان هذا . وإنسانية

االسم لم يعد يتفق مع مالمح وجهه، فاختار اسم شعبان بديال

السمه القديم يبدو األمر مجلبا للحيرة، فالمعلومة الوحيدة التى

ذه العالقة، يأتى اعرفها عنه، وهى اسمه، والتى كانت عماد ه

عندما جمعتنى به . اآلن من يقول انها معلومة مغلوطة

الصدفة فى المرة التالية، وسمعته يبادرنى بالتحية، وقفت

ذاهال، ال أدرى ماذا أقول، حائرا بين اسمه الصحيح الذى

عرفته حديثا، وبين اسمه المغلوط الذى ناديته به لمدة ثالثين

:العاما، ثم حسمت األمر قائ

. أهال سمير-

شمس األمهات

كان المكان شارعا خلفيا أدارت فيه معظم األبنية وجوهـا

إلى الناحية األخرى، فصار مهجورا، صامتا، خاليا مـن

الحياة والحركة، ولكن ما أن بدأت المشاجرة حتى غمرت

الشارع روح جديدة، انبثقت جموع الناس من ال مكـان،

مهرولين نحـو مكـان المعركـة، ظهورا فجأة، وجاءوا

وأنشئوا حول المتشاجرين زحاما، وامتأل الجـو صـخبا

وضجيجا وعنفا، كأنهم جميعا قد أخذوا إجازة من أعمالهم

وجلسوا ينتظرون حدوث شئ كهذا وما أن حـدث حتـى

جاءوا يتسابقون للوصول إلى الموقع ويتدافعون للحصول

شـهد عـن مكان فى أول الصفوف يرقبون منه الم على

قرب ويسعدون بلحظات من المتعة واإلثارة التـى تقـدم

. اآلن مجانا

كنت عائدا إلى سيارتى التى وضعتها فى هذا

الشارع الخلفى بعد أن جئت إلى مركز المدينة لشراء عدد

من الصحف والمجالت، وبحركة عفوية رفعت رأسى من

فوق الزحام وألقيت نظرة عرفت منها أن تشابكا عنيفا

باأليدى يحدث بين رجلين فى مقتبل العمر، بل هما ولدان ال

شك أنهما دون العشرين، يتشابهان فى المظهر، كالهما أطال

شيرت وبنطلون الجينز، " ت"شعر رأسه وارتدى قميص الـ

وبرغم محاوالت بعض الناس للتفريق بينهما إال أنها

تعاال محاوالت بدت وكأنها لم تبذل إال لكى تزيد الحنق اش

علىفإذا بالولدين المتشاجرين يزدادان تشنجا وإصرارا

توقف . المضى فى كيل اللكمات والضربات ألحدهما اآلخر

المتدخلون لفض النزع عن التدخل وتفرغوا جميعا للمشاهدة

كنت قد أرضيت فضولى . بانتظار من منهما يقتل اآلخر

ضعت فسحبت رأسى وواصلت السير باتجاه المكان الذى و

فيه سيارتى، إال أننى أحسست برعشة ال أدرى لها سببا تهز

جسمى كله، تنبهت إلى أننى رأيت شبح امرأة تقف

بجوارهما، ال بد أن المعركة لم تنشب إال من أجلها، وهى

تبدو حرجة، خجولة، تدفن رأسها بين كتفيها كأنها تريد أن

ت فجأة فى تخبئه داخل جسمها لكنها ال تجد لذلك سبيال، وقف

مكانى، فقد داهمنى شعور مباغت بأننى أعرف هذه المرأة،

ولم يكن األمر بحاجة إلى أكثر من نظرة سريعة، خاطفة،

الفور أن تلك المرأة التى تقف بجوار علىأعرف منها و

أذهلتنى المفاجأة، أى ": ليلي"الرجلين المتعاركين ليست سوى

ذه الحشود وجعلها شيطان جاء بها إلى هنا وقذف بها وسط ه

طرفا فى هذه المعركة اللعينة، رميت بحزمة الصحف إلى

األرض واندفعت فى عاصفة من الغضب والجنون نحو

المتعاركين، أخذت الفتاة بمجمع قوتى، أهزها من كتفيها

وأسألها تفسيرا لهذا الذى يحدث اآلن، لسبب وجودها فى هذا

رعين، انهمرت ليلى المكان وعالقتها بهذين الثورين المتصا

فى البكاء ولم تستطع قول شئ سألتها أن تعود فورا إلى

البيت لكى أحلق بها وأتفاهم معها فيما بعد، وذهبت بغضى

وجنونى إلى المتعاركين، صرت أضرب شماال ويمينا دون

تمييز وأتلقى الضربات دون أن أحس بشيء، سمعت من

ة التى اقتحمت بها المتفرجين بعض كلمات الثناء على الطريق

المضى إلى النهاية، لم أدر كم علىالمعركة فازددت إصرارا

مضى من الوقت، ولكن عندما جاء الشرطى يقودنا جميعا

علىإلى مركز األمن الشعبى كنت منهكا تعبا، ال أكاد أقوى

وجهى، حتى ذهنى علىالمشى، وكنت أحس بدم لزج يسيل

يعى شيئا مما حدث، أكثر من كنت أحس به بطيئا، ال يكاد

أن شارعا فارغا امتأل فجأة بالناس وصحف مرمية فوق

األرض ومعركة بين اثنين ال أعرفهما وجدت نفسى ومن

حيث ال أدرى طرفا فيها، وليلى لسبب غامض ال أجد له

تعليال تقف فى مكان من هذه الصورة التى ما تزال مشوشة

. فى ذهنى وهى مذعورة تبكي

عندما جاء دورى ليسألنى شرطى التحقيق عن و

سبب المشاجرة، لم أجد ما أقوله سوى أننى رأيت رجلين

لقد …يتعاركان حول خطيبتى فلم أتمالك نفسى من التدخل

. صارت الصورة اآلن أكثر وضوحا فى ذهني

. إذا فهى خطيبتك-

. كانت خطيبتي-

زلت وجدت نفسى أقولها دون سابق تبرير، أننى ما

ال أدرى سببا للمعركة التى حدثت، أو أعرف لماذا كانت

ليلى تقف فى ذلك المكان فقد رأيت فى األمر شيئا مريبا،

ال بد أنه سيتضح بعد قليل، وأن هذا الشيء ال محالة يمس

كرامتى وكبريائى، وأننى مطالب بأن أضع حـدا لهـذه

ة وانتهت العالقة التى ربطتنى ألكثر من عامين بهذه المرأ

من أشهر ثالثة بإعالن خطبتنا، تذكرت أمـى وفرحتهـا

عندما قلت لها أننى وجدت أخيرا المرأة التى أبحث عنها،

فلقد ظلت لسنوات طويلة تطوف بيوت األقارب والجيران

تبحث عن بنت الحالل التى تريدها زوجة لى، وكنت كلما

رفضت عرضا من عروضها جاءت بعرض آخـر عـن

أكثر علما أو ماال أو جماال وكنت أردها فـى بنت أخرى

يسر عن هذا اإللحاح وأحاول أن أشـرح لهـا كيـف أن

المرأة التى ستشاركنى حياتى يجب أن أختارها بنفسى ال

أن تختارها أمى لى، يجب أن أتعرف إليها وأرى إن كنت

أحبها أو ال أحبها وأننى لن أرضى بـزواج يـتم بهـذه

ائية حتى لو بقيت عازبـا إلـى أبـد الطريقة القديمة البد

الدهر، فهى طريقة تظلم الرجل وتظلم أيضا هذه المـرأة

التى تسوقونها كأنثى الماعز والبقر إلى بيت رجل لم تره

ولم تعرفه من قبل، كنت أحاول أن أشرح لها ذلك ولكـن

دون جدوى فقد واصلت طوافها تحمل بين الفينة واألخرى

دون أن " الشـمس "رأتها أخيرا كأنها خبرا جديدا عن فتاة

تجد منى قبوال، حتى أصابها اليأس فتوقفت منـذ بضـعة

أعوام عن البحث وأسلمت أمرها إلى اهللا وكأنها ظنت بى

عجزا فلم تعد تفتح هذا الموضوع أمامى، إلى أن جئتهـا

منذ أشهر مضت أقدم لها ليلى وأسألها عن رأيها فـى أن

لى وابنة لها، مألت المرأة العجوز تكون هذه الفتاة زوجة

الدنيا بالزغاريد وأشرقت تجاعيد وجهها وغادرها المرض

والذبول، تذكرتها وتذكرت ليلى ورسائلها إلـى، كانـت

رسائلها محتشمة خجولة كأنها تجد فى اإلفضاء بمشاعرها

إثما أو خطيئة، ولكنها كانت تقول بكلماتها الحية أكثر مما

لقد قرأت رسالتك وحفظتها عن " ريحةتقول الرسائل الص

كان هذا أقصى ما يمكن أن تبوح به، وكـان " ظهر قلب

بساطته يدهشنى ويمآلنى فرحة تـذكرت علىهذا التعبير

بهجة الخروج مبكرا من البيت فى نهارات الشتاء الباردة

بعد أن توطدت عالقتى بها، لكى أقلهـا بسـيارتى إلـى

موعد الدراسة بسـاعة أو المدرسة وأتعمد أن أذهب قبل

أكثر لكى أجد فرصة أتجول بها فـى شـوارع المدينـة

وأتحدث إليها، تذكرت كل ذلك وتذكرت األغـانى التـى

جعلتنى أحبها ألننى لم أكن أهتم كثيرا بمتابعة الجديد فى

دنيا الغناء فصرنا بعد ذلك نطرب لها سـويا فـى حـين

الشعراء القدامى جعلتها تحب الشعر مثلى وقدمتها إلى كل

الذين أعجبت بهم فصارت هى أكثر إعجابا بهـم منـى،

قصيدة أو أغنية تعبر أكثـر علىوكنا نتبارى فى العثور

من غيرها عن قوة وعمق هذا الحب الذى يجمع بيننا، لكم

يبدو اآلن مضحكا كل ذلك الكالم، كأنه مجرد مشهد فـى

الموقف، وإلى تمثيلية ساخرة، ها هو األمر ينتهى إلى هذا

هذه الكدمات التى أحس بها تمأل وجهى، وإلى هذا الخيط

جبينى وإلى هذه الكلمـة التـى علىمن الدم يسيل لزجا

. وجدت نفسى أقولها دون إرادة مني

كانت خطيبتى

لم تكن فقط خطيبتى، كانت الشيء الوحيد الجميل

المدهش فى حياتى، كان جفاف العالقات من حولى وانطفاء

الحياة االجتماعية وبؤسها، والفرص الضيقة فى إنشاء عالقة

إنسانية بين رجال هذا المجتمع ونسائه تجعلنى أحس بأن

حياتى مجرد سفر فى الصحراء، سفر مرهق، يجعل الحياة

تمضى ثقيلة، بطيئة، خاوية، ال تعد بشيء، إلى أن جاءت

ليلى، جاء حبها، مدينة هبطت من السماء ليتبدل شكل

لصحراء من حولى، كنت قد وصلت إلى مرحلة يئست فيها ا

من عقد أية عالقة مع فتاة من بنات مجتمعنا، ولم أكن أدى

ماذا يمكن أن ينتهى إليها أمرى، كنت أرى شبابى يهرب من

بين أصابعى، فها هى الثالثينات تأتى ولن تلبث أن تسلمنى

يقعى فى " ذئبا" بعد هنيهة إلى سن األربعين التى كنت أراها

نهاية العمر ليأكل ما تبقى عندى من أمل، وكنت أرفض أن

أستسلم لمنطق والدتى وأرمى بنفسى طائعا مختارا فى بئر

الجب، كنت أقول فى علىالتقاليد، أننى أفضل الذئب

خاطرى، وها قد بدأ بعض من شعر رأسى يتساقط وها قد

قوة ضد بدأ الذئب يقترب، ولكننى سأناضل ضده، سأناضل ب

الوصول إلى سن األربعين، حتى لو هزمت فإننى لن

أستسلم، ما أكثر الرجال الذين أحبو وتزوجوا وهم فوق

الخمسين أو فوق الستين، هذا ما كنت أقوله لنفسى ولكنه

مجرد كالم للتسلية والمواساة، فقد بدأت فعال أحس بهزيمتى

أتعبنى، وبأننى دخلت منذ البدء معركة خاسرة وأن السفر قد

…لقد تسلل اليأس إلى قلبى وعلى أن أعترف اآلن بفشلى و

فجأة أشرق وجه ليلى، وتعرفت إلى دفء هذا النوع من

العالقات اإلنسانية ووجدت لديها عائلة تستوعب روح العصر

فتقبل بعالقة تنشأ بينى وبين ابنتهم فى النور والهواء ورأيت

جاء ووضع بها فى أن حظا باهرا هو الذى قادنى إليها أو

طريقى فى حين أن شبانا أكثر وسامة وغنى متى ولهم نظرة

عصرية للحياة مثلى ال يجدون فرصة كهذه فيذهبون الواحد

وراء اآلخر للقفز فى ذلك البئر وتسليم أنفسهم لتلك الطريقة

البدائية فى الزواج، وصارت ليلى هى عالمى، ال أشغل

سوى لحظات لقائى معها، فكرى إال بها، وال أنتظر شيئا

أمل ذلك اليوم الذى يجمعنا فيه عش الزوجية علىوأعيش

. السعيد

تهدم اآلن كل شئ، وها أنا مرة أخرى أعود إلى

صحراء التيه وحيدا، تبخرت تلك المدينة فهى لم تكن سوى

سراب، ليفعلوا بها ما يشاءون، إننى أبرئ ذمتى منها،

المحضر إذا شئت وأن وبوسعك أيها الشرطى أن تقفل

تتركنى أمضى إلى حالى فلم يعد لى عالقة باألمر، سأذهب

أو أية خمارة أخرى أستعيد بكأس " أنطونيو"فورا إلى خمارة

" فرانكا"أو كأسين بعضا من عقلى الذى هرب منى، وأجد فى

بعض العزاء والسلوى، تذكرت أن أنطونيو قد " جانيت" و

ته ومومساته، وأن ليس أمامى ذهب إلى غير راجعة بخمارا

سوى السيارة سأذهب اآلن إليها، وأهيم بها فى شوارع

. المدية، إلى أن أسترجع شيئا من هدوئى وتوازنى النفسي

وهو ذلك " السائق اآللي"أسلمت السيارة إلى ما أسميه

الجزء من عقلى الباطن الذى يقوم بقيادة السيارة بطريقة

تدخل واع منى، وتفرغت لتأمل هذا روتينية دونما تفكير أو

إدراكى، فكل ما علىالذى حدث، كان األمر ما زال غامضا

سمعته بمركز األمن الشعبى هو أن أحد المتعاركين رأى

اآلخر يضايقها فتطوع للدفاع عنها دون أن تكون له سابق

معرفة بها، لم أجد فى نفسى شيئا يصدق هذه القصة، إن

من ذلك، لقد كانا يتعاركان وكأنهما األمر بال شك أكبر

يحمالن لبعضهما ضغينة عمرها ألف عام أو كأنهما يتقاتالن

من أجل كنز لو ظفر به أحدهما لصار أغنى رجل فى الدنيا،

ما هذه القصة سوى حيلة بارعة للتخلص مما يمكن أن يجلبه

الموضوع من مضاعفات لو أن أحدا منهما أعترف بالقصة

األمر هتك أعراض يفضى إلى المحاكم الحقيقية ففى

والمسائالت القانونية والسجن، وهما أكثر فطنة من أن يقعا

براعتهما فى تأليف علىفى هذا الفخ، هنأتهما فى خاطرى

هذه القصة، ال شك أنهما من جيل آخر أكثر ذكاء وخبثا،

مجتمع أكثر تحررا من المجتمع علىإنهما يتفتحان اآلن

ى سنهما، إنهما نتاج المدارس المختلطة فى عندما كنت ف

الجنس علىالمراحل االبتدائية، ولهذا فهما أكثر اجتراء

اآلخر وأكثر قدرة على االقتحام والمبادأة، لعل أحدهما كان

يجلس معها فى مقعد واحد وربطته بها عالقة منذ ذلك

الوقت، تساءلت عن سبب العراك ولكننى لم أجد فى نفسى

كير فيما يمكن أن تكون عليه القصة الحقيقية، كل رغبة للتف

ما فى األمر أننى وجدت نفسى مندهشا لسلوكها، غير قادر

على أن أعرف الدوافع التى تجعلها تهرب من عالقة إلى

أخرى وبهذه الطريقة التى تسئ إلى كبريائى، حقا أن ثمة

ال فارقا فى العم بينى وبينها، ولكنه ال يمكن أن يكون مسؤو

عن ه التبدل المفاجئ فى سلوكها، لقد أحبتنى كما أنا، لم

يرغمها مال أو قرابة منصب على أن تحبنى وترضى بى

شريكا لمستقبل أيامها، فهل كانت تغشنى كل هذه المدة، ولكن

، إننى لست متزمتا إلى "لماذا؟"السؤال يبقى معلقا فى الهواء

ا أن تخرج سافرة إلى الحد الذى يمنع المرأة التى ارتبط به

الشارع وأن ترتاد األسواق وتقابل الناس بل إنه ال مانع

عندى من أن تسافر بمفردها وتذهب إلى المطاعم والمسارح

وتشارك فى الحفالت، فكل هذه األمور تكون شريفة متى

فى المسرحية " عطيل"كانت المرأة شريفة كما يقول

وقف، بين رجلين الشكسبيرية، ولكن أن أجدها فى هذا الم

يقتتالن حول من منهما يفوز بها، ويجريان رهانا تكون فيه

خطيبتى غنيمة لمن ينتصر على صاحبه فى هذه المبارزة

التى أقاماها بال سيوف وال قفازات وال محكمين، فهذا بال

. شك أمر ال ترضى به كرامتى وال تقبل به تربيتي

ف بى عند وجدت السائق اآللى، ودون تدخل منى، يق

بقعة مهجورة من الشاطئ تعودت أن أذهب إليها بليلى كلما

استطعت أن أقتنص لحظة هاربة من الزمن، هذا هو البحر

إذا، أوقفت المحرك وخرجت ألبقى قليال بصحبة هذا الصديق

العظيم، استقبلتنى رائحة البحر فمألت منها صدرى،

القوية واستمعت إلى أمواجه وهى تتحدث بلغتها العنيفة

الهادرة إلى صخور هذا الشاطئ، فوجدت توازنا بين إيقاع

هذا البحر وبين هذه المشاعر واالنفعاالت التى تحتدم داخل

صدرى، يجعلنى أحس بشيء من الراحة وصفاء الذهن، وبذأ

أراجع الموقف بطريقة أقل انفعاال فرأيته اآلن أهون كثيرا

حضرة هذا البحر الممتد مما بدا لى أول مرة، رأيت وأنا فى

بال نهاية أن الحدث يكون صغيرا وتافها حتى نأتى نحن

فنلبسه من عواطفنا وانفعاالتنا ما يجعله كبيرا ومهوال بحجم

الجبال، وأنا اآلن ال أقيس ما حدث بامتداد هذا البحر واتساع

هذا الكون، وإنما أقيسه بما يحدث فى حياتنا من أشياء

أجد ليلى بين أحضان أحد العشاق أو فى صغيرة، إننى لم

فراشة حتى أثور إلى هذا الحد، لقد كانت فعال تعبر الطريق،

وإذا ما حدث من حولها نزاع فلماذا تتحمل هى تبعاته، بل

أننى صرت أضحك من نفسى لتلك الطريقة التى اقتحمت بها

المعركة، حيث كان الشيء الطبيعى هو أن آخذ ليلى من يدها

د بها إلى البيت، إننى ال أجد اآلن شاهدا واحدا فى وأعو

نفسى يؤكد لى ن القصة يمكن أن تكون شيئا آخر غير ذلك

الذى سمعته بالمركز، أننى أستحضر اآلن عمر هذه العالقة

يوما بيوم فال أجد موقفا أو كلمة أو سلوكا أو حتى همهمة

ا الذى ضعيفة خافتة بدرت منها توحى بشيء أو بأمر كهذ

ذهب إليه فكرى، فمن أين إذا نبتت هذه العالقة التى

توهمتها، إن لم يكن األمر كله مجرد شيء طارئ حدث وهى

تذهب لشراء قلم أو كراسة أو كتاب، وجدت فى نفسى

ارتياحا عميقا لهذه النتائج التى ساقنى إليها هذا الصديق

ة التى الجليل، لقد كدت أظلم هذه الصبية البريئة الصغير

منحتنى كل هذا الحب، وألول مرة أفكر فى حبها باعتباره

منحة من اهللا ال يمنحها إال للصفوة من عباده، فكيف تجرأت

على أن أرفض هذه المنحة، هذا العطاء السمح الجيل الذى

جعل حياتى شيئا يختلف عن حياة ماليين الناس الذين ال

الموحش الذى يملكون حبا كحبى يطرد من حياتهم الفراغ

يأكل أيامهم ويفضى بهم إلى المنفى النفسى، كيف أكون

جاحدا كافرا بالنعمة إلى هذا الحد، نظرت فى ساعتى

فوجدت أن الليل ما زال فى أوله، إنها بال شك قد عادت إلى

البيت وجلست تبكى تنتظر كل هذا الوقت مجيئى، ألقدم اآلن

على الفور إليها، شكرى وامتنانى إلى هذا البحر وألذهب

أخبرها بأننى سوف لن أتوقف عن حبها أبدا ولن أسمح

لشيء فى الدينا أن يكدر صفو حياتها وأننى سوف أبحث عن

…ذلك الولد الذى ضايقها حتى ألقاه وأنزل به أشد العقاب

جاءت جذلى تفتح الباب وتعاتبنى ألننى تأخرت عن

ية التى وعدت موعد زيارتى، وتسألنى عن المجلة النسائ

لم أقل شيئا حتى دخلت وجلست، رأيتها تبدى . بإحضارها

اندهاشا للجرح الذى فى جبينى وتنبه إلى آثار الدم على

قميصى فتأتى منزعجة تسألنى عما حدث، كأنها لم تكن

طرفا فى هذا كله بل سببا وحيدا لحدوثه، قلت فى خاطرى

ال تدخل غرفة لعلها تريد أن تخفى األمر عن أمها التى

الجلوس إال لتخرج منها مرة أخرى انتظرت حتى خرجت

األم وسألتها أن تنسى الموضوع كله، وأن تعتبره كأنه لم

يكن، وجدتها ال تفهم فشرحت لها كيف أننى غضبت فى

بادئ األمر لما حدث، ولكننى عرفت فيما بعد سبب

ن ذلك المشاجرة وال أرى اآلن داعيا ألن أتحدث عنها أكثر م

فهى مجرد موقف عابر ال يستحق سوى الضحك، أما ذلك

الولد التافه الذى ضايقها فقد نال من الضرب ما يستحق

ولعله خرج من المعركة بعاهة سوف لن يشفى منها أبدا،

فهى تسألنى برغم . كان األمر ما زال طلسما بالنسبة لها

ى وجودنا منفردين بحجرة الجلوس، عن أى موقف أتحدث وأ

معركة وأى ولد، ألنها لم تخرج هذا المساء من البيت، ولم

تر اليوم شارعا ولم تحضر نشوب معركة ولم تقابل ولدا وال

بنتا ولم ترنى بعد أن عدت بها من المدرسة إال اآلن، ما

الذى حدث لعقل هذه البنت، أعدت عليها سرد كل التفاصيل

ة التى رأيتها كانت دقيقة بدقيقة، ولكنها أصرت على أن الفتا

دونما ريب فتاة أخرى، فهى ال تعرف عن هذا األمر شيئا،

كيف تريدنى أن أصدق ذلك، إننى لم أكن أنظر إليها من بعيد

لكى أقول أننى لمحت امرأة تشبهها فظننتها ليلى، لقد كنت

أقف بمحاذاتها واضح وجهى فى وجهها أتحدث إليها وأمسك

بين يدى ثم أسألها أن تعود إلى بها من كتفيها، وهى تبكى

رفضت بشكل هستيرى فكرة . البيت فتلبى سؤالى وتمضي

أن التى رأيتها فتاة أخرى فجاءت تستشهد بأمها التى أقسمت

أن ابنتها منذ عودتها من المدرسة لم تغادر البيت دقيقة

واحدة، لعل فى األمر شيئا، قلت لها، لعلها حيلة تريدين بها

موقف ال ذنب لك فيه؟ إننى أعتبر الموضوع تبرئة نفسك من

مجرد حدث صغير عابر لمن يؤثر فى حبنا أو خطبتنا فلماذا

ال تقولين الحقيقة لينتهى األمر عند هذا الحد؟ وجدت نفسى

فعال أثور وأغضب، إذ كيف يمكننى أن أخطئ التعرف إلى

ليلى، كيف يمكننى أن أخلط بينها وبين امرأة أخرى إال إذا

فهل كانت المعركة مجرد وهم . ن ما أعانيه هوسا وجنوناكا

وخيال؟ وهل كان ذلك الشارع وذلك الزحام مجرد حلم

مزعج؟ ولكن الجرح ما زال فى جبينى وآثار الدم ال زالت

بجوار أنفه لم " التالولة"عالقة بقميصى وشرطى التحقيق بتلك

. يكن خياال، لقد كان كل ذلك واقعا

ت الباب خلفى وتركتها تضع رأسها فى حنق ضرب

. فى حضن أمها وتبكي

من تكون هذه المرأة األخرى التى استعارت مالمح

ليلى وقامتها وشعرها وارتدت مالبسها وجاءت تقف فى

طريقى وتنشئ من حولها معركة تجعلنى طرفا فيها؟ إننى

أحب ليلى، وهذا وحده يكفى ألن يجعلنى أكتشف منذ اللحظة

أنها ليست هى وإنما مجرد امرأة أخرى تشبهها، األولى

لقد كانت هى وال أحد غيرها، ويقينى . ولكنها لم تكن تشبهها

من ذلك كيقينى من اسمى، ويقينى من حدوث المعركة وهذا

األثر الذى بقى منها فى جنبينى، كيقينى مما حدث فى ذلك

. الشارع وفى ذلك الموقع وفى تلك الساعة

ب فى األيام التالية ألخذ ليلى إلى عندما كنت أذه

المدرسة كما هى العادة، لم أكن أحس بأية بهجة، لم يكن ما

يدفعنى هو ذلك الشوق لمالقاتها، كان همى هو أن أجد خيطا

من الضوء ينير هذا الظالم الذى صادر يمأل عقلى، وكنت

ألح عليها فى أن تشحذ ذاكرتها من جديد ألننى قرأت عن

إلى كبت الذاكرة أحيانا فترفض التعرف على حاالت تؤدى

موقف بعينه إذا ما كان ذلك الموقف مصدر إزعاج أو توتر

شديد، وكانت ليلى تضحك لهذه األفكار وتسألنى أن أنسى

هذه القصة وتبدى استعدادها ألن تتراجع عن كالمها وتقول

. ما أريد أن تقوله إن كان فى ذلك حل لمشكلتي

تجد حال، فأنا غير قادر على أن ولكن مشكلتى ال

أتنازل للحظة واحدة عن يقينى بأن التى رأيتها لم تكن سوى

ليلى، وبرغم أننى صممت فى نهاية األمر على أن أضع هذه

القصة وراء ظهرى، وأن أمتنع عن التفكير فيها واالهتمام

بها، إال أننى أجدها تتسلل إلى عالقة االحب التى تربطنى

قى ظال ثقيال فوقها، فلم تعد للقاءاتنا نفس البهجة بليلى وتل

واإلشراق، ولم يعد لضحكاتنا ذلك الرنين السعيد البري، لم

تكن ضحكات عفوية، إننى أفتعل ضحكاتى افتعاال لكى ال

تظن أن مشاعرى قد تغيرت نحوها، فأنا أحبها، ولكن حبى

روحى ويثقلها صار يائسا كئيبا، إن تعبا غريبا بدأ يتسلل إلى

بهم آخر ال أجد له تبريرا، فهو ليس شكا فى سلوكها وليس

شكا فى قدراتى على حبها، ولكنى شئ آخر لم ألبث أن

وجدت له تفسيرا عندما لمحت ذات مساء امرأة تشبه ليلى

تدخل مطعما بصحبة امرأة أخرى واثنين من الشباب ال

وراءهم واقتربت أعرفهما، ولكى أقطع الشك باليقين دخلت

من المائدة التى قادهم إليها العامل، فاكتشفت أنها فعال ليلى،

ها قد بدا كل شئ ينكشف فى أضواء هذا المطعم الساطعة،

كانت تضحك فى خالعة، وترتدى فستان سهرة يكشف جزءا

من صدرها، وتصنع شعر رأسها فى تسريحة غريبة

األصباغ كتسريحات ممثالت السينما، وتمأل وجهها ب

والمساحيق، ما هذا التبدل العجيب الذى طرأ على سلوكها

وشخصيتها، أحسست بشيء كأنه الغثيان يصيبنى، ولكننى

تمالكت نفسى وذهبت مندفعا إلى المائدة التى تجلس إليها،

وألقيت بالتحية لكى أفاجئها، ولكنها لم تجد فى األمر مفاجأة،

ض مغشيا عليها كما لم تندهش أو تصرخ أو تسقط فوق األر

توقعت، نظرت نحوى دون اهتمام، ولكى ال أحدث فضيحة

داخل المطعم فقد اقتربت منها برأسى وقلت وأنا أكز على

د: أسنانى وأمنع أمعائى من أن تصل إلى فمي

… ما هذا الذى تفعلينه أيتها-

، تركتها معلقة بين أسنانى، وجدتها "المومس"لم أقل

ر نحوى فى استغراب واستنكار كأننى شبح ترفع عينيها وتنظ

. خرج اآلن من القبر وجاء يفسد على الناس فرحتهم بالحياة

من أنت؟ -

هل وصلت الصفاقة إلى هذا الحد، لقد وجـدت فـى

نفسى شحنة من المقت قادرة على نسف هذا المطعم بكل

من فيه من زبائن وعمال وبكل ما احتـواه مـن موائـد

ت أقصى ما يمكن إلنسان فى مثـل ومآدب، ولكننى مارس

هذا الموقف أن يمارسه من ضبط دماء وأعصـاب لكـى

أقول لها بأننى وبعكس ما ذهب إليه تفكيرها لست غاضبا

أو حزينا، إننى سعيد ألننى أرى الحقيقة تتكشـف أمـام

. عينى بعد سنوات من الكذب والغش والخداع

. إنك، بال شك، مجنون-

بالضبط ما كنت تهدفين إليه عندما نعم، نعم، إن هذا

كنت تنكرين خروجك إلى الشارع لحظة أن كان العراك

ينشب بين اثنين من عشاقك، كالهما أراد أن يستأثر بك

وحدك وكره أن يرى اآلخر يتقاسم معه جسدك فتقاتال، ثم

جاءت أمك تتواطأ معك وتتستر عليك حتى جعلتمانى أشك

ضحية عصابة ظننتها عائلة فيما أفعل وأرى وأسمع، إننى

. عرفت كيف تستوعب روح العصر فجاءت تدبر لى المكائد

أية روح هذه وأى عصر هذا، كان أحد عمال المطعم قد جاء

يهدئ من ثائرة الرجل الذى جلس بجوارها ويمنعه من

االشتباك معى، ويسحبنى بقوة من يدى نحو الباب ويهددنى

زبائن المطعم مرة باستدعاء الشرطة إن حاولت مضايقة

أخرى، ولكن الصدمة كانت أكبر من عامل المطعم وتهديده،

كان أكثر ما أدهشنى، أكثر حتى من موضوع خيانتها لى،

ومأل قلبى رعبا هو أن أجد ليلى بكل تلك الطبيعة الحية

الخجولة التى تجعلها ال ترفع عينيها عن األرض تكشف اآلن

إن الكون أقل . العة وتهتكاعن هذه الروح الداعرة المليئة خ

أحكاما مما كنت أظن، نبتت فى رأسى فكرة فقمت فورا

بتنفيذها، أخذت سيارتى وذهبت مجنونا إلى بيت ليلى، لقد

أردت قطع الفرصة على أمها كى ال تقول فيما بعد أن ليلى

لم تخرج هذه الليلة من البيت أبدا، سأرغمها على الحضور

لترى ما تفعله اآلن ابنتها وسأحضر معى إلى هذا المطعم

والدها وأخوتها وكل من أجد من أقاربها، سأجعلهم جميعا

يشهدون على خيانتها، وإن امتنعوا عن المجيء فمعنى ذلك

أنهم جميعا شركاء فى شبكة للدعارة السرية، وسأفضح أمام

قفزت من سيارتى وذهبت أطرق الباب . كل الناس أمرهم

تى ال حد لها عندما وجدت ليلى بال بعنف، وكانت دهش

مساحيق وال أصباغ وال تسريحة الشعر الغريبة وال فستان

السهرة الفاضح، تفتح لى الباب، رفعت رأسى إلى السماء

أستنجد بالكون الشاسع الفسيح، والنجوم التى تمأل السماء،

وكائنات الظالم المجهولة والمعلومة والمالئكة والشياطين

هم شيئا مما يحدث اآلن، هل استطاعت ليلى وفى ألننى ال أف

هذه الدقائق أن تستعير صاروخا يعيدها إلى البيت وأن تقوم

بغسل األصباغ عن وجهها وتغيير تسريحة شعرها وخلع

مالبس السهرة وارتداء هذا الفستان المنزلى البسيط قلت وأنا

: ألهث

هل كنت اآلن بالخارج؟ -

أكن أنتظر عليـه ردا، هـى كان السؤال سخيفا ولم

نفسها لم ترد، اكتفت بأن ضحكت ساخرة وهى تشـير إلـى

فستانها وهيئتها، لقد أدركت أننى فعال صرت أتوهم األشياء،

وأننى اآلن فقط أستطيع أن أتأكد أنها كانت صـادقة عنـدما

قالت أن المرأة التى رأيتها عند حدوث المعركة لم تكن هـى

أخرى صورها لى وهمى بصورة ليلـى لقد كانت فعال امرأة

كما فعل مع هذه المرأة التى رأيتها تجلس بجوار زوجهـا أو

صديقها هذه الليلة، بل إننى صرت أرى ليلى كثيرا بعد ذلك،

صرت أراها فى مختلف األماكن والمواقـف وهـى ترتـاد

المطاعم ودور السينما، وهى تتجول مع صاحب لهـا فـى

أراها أحيانـا تعمـل . ر فى السيارة األسواق أو تتنزه مع آخ

ممرضة فى المستشفى وأراها فى ذات اليوم ضـاربة علـى

وفى اليوم الذى يليـه . اآللة الكاتبة بإحدى الدوائر والشركات

أراها وهى ترتدى ثياب مضيفة بأحد خطـوط الطيـران أو

سائحة تأتى لتحجز غرفة بأحد الفنادق، كل ما فى األمر أننى

ليها غاضبا وأقيم معركة أخرج منها جريحـا، لم أعد أذهب إ

قد أجد نفسى وللوهلة األولى مدفوعا ألن أكلمها ظنا منى أنها

فعال ليلى، ولكننى سرعان ما أتذكر أنها ليست هى، وإنما هو

وهم يسيطر على ذهنى ويجعلنى أراها قد تجسدت فى كـل

قضـى هؤالء النسوة، وأن األمر إذا ما استمر معى فإننى سأ

بقية عمرى نزيل إحدى مؤسسات العالج النفسى والعقلـى،

كان هذا الخاطر يرعبنى ويمنع النوم من أن يزور عينـى،

فأبقى مستيقظا ليومين أو ثالثة أيام وأنام فال يبقى معى النوم

سوى ساعات قليلة ثم يعود إلى أرقى، ولم استشر طبيبـا أو

بينى وبـين نفسـى أن عالما نفسيا، كنت خائفا، وكنت أرى

مرضا كهذا لن ينتهى إال بانتهـاء عالقتـى بليلـى، وكـان

االختيار صعبا، إنه كمن يتولى بنفسه بتر سـاقه أو يـده أو

ذراعه، وعندما جئت إلى والدتى أخبرهـا بـأننى فسـخت

خطبتى من ليلى، لم يكن األمر مفاجأة لها، كأنهـا ولسـبب

شيئا كهذا، بل لعلها قد غامض ال أجد له تعليال كانت تنتظر

وطنت نفسها فعال على أنها سوف تعيش بقية عمرها دون أن

ترى البنها بيتا وزوجة وأطفاال ولكننى أخرجتها من يأسـها

: قائال

لقد قلت منذ خمسة أعوام مضت أن ألحد الجيران ابنة -

…كأنها الشمس و

لم تتركنى أكمل جملتى، ارتدت على الفور ملحفـة

خروج وغادرت المنزل، ال شك أن ابنة الشمس تلـك قـد ال

تزوجت اآلن وأنجبت خمسة أطفال ولعلهـا تنجـبهم تـوائم

فصاروا اآلن عشرة ولكن فى مكان ما قريبا من بيتنـا ثمـة

جار آخر له ابنة هى أيضا كأنها الشمس لم تتزوج بعد وترى

وجة والدتى بحسب ذوقها وخبرتها بالناس والحياة أنها تنفع ز

لى، هى التى خرجت اآلن وقبل أن أكمل جملتى لكى تبدأ مع

أهلها مراسم الخطبة، تركت والدتى تذهب إلحضار الشـمس

.فى حين دخلت إلى غرفتى لكى أنام

صفحة من كتاب الموتى

ظن للوهلة األولى، أنهم جميعا، ألمر ما، قد تغيبـوا

عبـد عن الحضور إلى المدرسة هذا الصباح كان األسـتاذ

الحفيظ قد مر وهو فى طريقه إلى الفصل بحجرة المدرسـين

وأخذ كما هو الروتين سجل الحضور وسـار يقطـع ممـرا

طويال تمأل جدرانه الصحف الحائطية ورسوم التالميذ، إلـى

حجرة الدرس وعندما رأى الباب فى نهاية الممر مغلقـا،ولم

مـا يسمع للطلبة صوتا ولم يتناه إليهم ضجيجهم وعراكهم ك

هى العادة كل صباح، أدرك أن هؤالء الشياطين قد تـدبروا

عذرا للهروب من الدرس هذا اليوم وأن عليه أن يعود إلـى

اإلدارة ويسألها بحزم أن تجد حال لهـذا الغيـاب المتكـرر،

وأقسم بينه وبين نفسه أن يسجله عليهم غيابا غير مشـروع

قين فـتح مهما كان العذر أو السبب ولمجرد قطع الشك بـالي

الباب ودون ان يهتم بإلقاء نظرة إلى الداخل أعاد قفله، وهـم

بالرجوع لوال أن تناهت إليه عند فتح الباب همهمة ضـعيفة،

فأعاد فتحه من جديد واكتشف لدهشته الكبيرة أنهـم جميعـا

هناك، يجلسون فى أدب إلى مقاعدهم ويفتحون فـى هـدوء

أو الكتابـة، كراريسهم، وينكبون فى صمت على المطالعـة

ويتصرفون كأنهم تحولوا فجأة إلى رجال كبار، دخل األستاذ

عبد الحفيظ وقد عقدت لسانه الدهشة إلى الفصل، فـتش أول

فليس هنـاك مـن ) القط الذى جاء من الوزارة (ما فتش عن

تفسير لهذا الهدوء العجيب الذى يعم الفصل إال أن مفتشا من

ختار هذا الوقـت المبكـر مفتشى الوزارة قد سبقه إلى هنا،ا

لجولته التفتيشية كى يحرجه أمام الطالب ويسجل عليه مـرة

أنه جاء إلى الدرس متأخرا، نظر إلى ساعته واطمأن إلى أن

ميعاد حضوره فى التمام والكمال،ورفع رأسه فى تحد يواجه

ذلك المفتش الذى تصور أنه يقف اآلن بمحاذاة السبورة لـم

الهزار الثقيل؟ إنه يعرف لعبة القـط يكن هناك أحد، ما هذا

. والفأر التى يتفنن هؤالء المفتشون فى لعبها معه

طاف بالسبورة والمنضدة عساه اآلن يختفـى خلـف

إحداهما لم يجد قطا وال فأرا فوقف لدقيقة مندهشا، عـاجزا

عن تفسير ما حدث، أجال بصره داخل الحجرة عله يجد شيئا

ما هو، كل ولد يجلـس إلـى غريبا قد حدث، كان كل شئ ك

مكانه الذى تعود أن يجلس إليه منذ بداية العام، النافذة هـى

النافذة ومن خلفها شجرة التوت التى اكتست حديثا بـالورق

تقف فى زهو وكبرياء والرسوم على الحـائط هـى نفـس

الرسوم بدائية وركيكة تعود أن يراها دائما، والسـبورة لـم

ها والفصل هو فصله، والتالميـذ تتزحزح قيد أنملة عن مكان

هم تالميذه، بسحناتهم الترابية الباهتة، فهو لم يخطئ الطريق

ولم يدخل خطأ إلى مدرسة فى كوكب أخر، أو وطن أخـر،

أو مدينة أخرى غير مديته، كان كل شئ فى داخل الفصـل

عاديا وطبيعيا، ما عدا هذا الهدوء الغريب الذى لم يره طيلة

لتدريس يحدث فى فصـل مـن الفصـول عمر أمضاه فى ا

الدراسية، استرعى انتباهه أن مقعدا مهجورا فى آخر الفصل

جلس إليه اآلن واحد من الطلبة ممن تعود أن يراهم أمامـه

فى أول مقعد على الشمال، هم بأن يسأله عن سر هذا التغيير

لوال أن حانت منه التفاته إلى مكانه السابق، فإذا به يكتشـف

عفريتا يجلس فى هدوء إلى ذلك المقعد، تعوذ بـاهللا فجأة أن

من الشيطان الرجيم، إنه دونما شك عفريت، تنكر فى صورة

بنت من البنات، وجاء فى صفاقة وقلة أدب وذوق مخترقـا

كل النواميس فى الدنيا ليجلس إلى ذلك المقعد قريبا منه نظر

منهم إليها مذعورا وهى تجلس بين طالبه الذكور كأنها واحد

كأنها تعرفهم ويعرفونها منذ األزل، كأنه شئ عادى وطبيعى

وال غبار عليه أن تكون فى مدرسـة للبنـين وفصـل مـن

الفصول المخصصة لتدريس األوالد بنت، استمر ينظر إليها

فى ذعر واندهاش كأنه يرى فى فصله قتيال، إذ كيف لألستاذ

العلم أن عبد الحفيظ أن يستوعب مشهدا كهذا وهو يعلم تمام

هذه ليست مدرسة للبنات، إنها مدرسة لألوالد كل مدرسـيها

رجال، وكل طالبها ذكور، كيف إذن تسللت هذه البنت إلـى

هنا وبأى حق جاءت وجلست، ليجدها قبالته هذا الصباح، إنه

لن يسمح أبدا لكائن من كان أن يأخذه هكذا على حين غـرة،

وتناول افطاره، وحلق لقد قام اليوم من نومه، وأدى صالته،

ذقنه،وصحح كراريس تالميذه، وارتدى معطفه وجـاء إلـى

المدرسة دون أن تكون له أدنى فكرة أن عفريتا تنكـر فـى

صورة بنت وجاء يجلس فى صفاقة أمامه، خالى الذهن تماما

من كل هذا الذى يحد اآلن لقد تصور دائما أن للبنات دروسا

مدرسـات مـن بنـات أخرى يجب أن يتعلمنها، على أيدى

جنسهن داخل مدارس خاصة بهن، مـدارس لهـا بوابـات

حديدية كبيرة ولها أسوار عالية ولها تكتم وسرية، وأن كل ما

يقدم من دروس لألوالد هو شئ خاص بالرجـل يجـب أن

تستحى وتحتشم أى امرأة من االستمتاع إليه، ال أن تخـرج

ـ ور عن كل أصول األدب والحشمة وتجلس فى تهتـك وفج

ودونما خجل أو حياء مع األوالد فى الفصل،وتستمع إلى ما

يستمعون إليه، وتكتب ما يكتبون، وتمتحن فيما يمتحنون فيه،

وأن هذه البنت البد قد أخطأت طريقهـا، أو تسـللت إلـى

المدرسة من الشباك، وأنها مدسوسة عليه دسا، وأنه لو سمح

ى ذلك إثـم، أو لنفسه أن يعاملها كغيرها من الطالب لكان ف

. جريمة يعاقبه عليها القانون، ويساق بسببها إلى القضاء

خشى أن يكون التالميذ قد الحظوا ما أصـابه مـن

ذعر وارتباك فتدارك نفسه وشد قامته، وعقد ما بين حاجبيه،

وخاطبها بلهجة رسمية حاول أن يجعلها خالية من أى أثر لما

. يعتمل فى صدره من انفعاالت

قيام-

إنها يا للعار امرأة قامتها فى حجم قامتـه، …وقفت

صدرها نافر، وشعرها طويل أسود يغطى الكتفـين، امـرأة

نضجت ثمارها وحان أوان ذهابها إلـى بيـت الزوجيـة ال

االختالط مع األوالد الذين وصلوا حديثا سـن البلـوغ فـى

. إن فى األمر مكيدة…مدرسة ثانوية

اسمك -

شفتيها أسرع الولد الذى ترك لها مقعده وقبل أن تفتح

. وجلس فى أخر الفصل، متطوعا إلجابة

اسمها زهرة يا أستاذ -

أغاطه تطفل هذا الولد الذى اكتشف اآلن فقط كيـف

أنه ممسوخ القامة، وأنه قميء متسخ الثياب وله أسنان متآكلة

صفراء، وأدرك أن كل ما كان يلقـاه متنـاثرا فـوق أرض

أعقاب السجائر إنما دخنها هـذا الولـد، أعـاد الحجرة من

. السؤال بغيظ ونفاد صبر متجاهال ما قاله الولد

اسمك؟

. زهرة عبد السالم-

أحس فى صوتها نبرة تحـد واسـتعالء، أى عبـد

السالم هذا الذى يسمح ألبنة فى سن الزواج أن تخرج مـن

ـ م بيتها، وتأتى دون حياء إلى المدرسة لألوالد تجلـس معه

وتختلط بهم، أى أب فى الدنيا يسمح بذلك؟

فتش عن اسمها فى سجل الحضور، كان اسمها هناك

مكتوبا بالقلم، أضيف إضافة إلى القائمة التى كتبـت باآللـة

الكاتبة، التـبس عليـه األمـر، إذن فـاإلدارة علـى علـم

بالموضوع، بل هى ال شك شريكة فى المؤامرة التى تـدبر

عبد الحفيظ فى كل أعدائه مـن مفتشـين ضده، فكر األستاذ

كرهوا صراحته فصاروا يكيدون له مـرة وراء األخـرى،

يعرقلون أحيانا ترقيته، يتسببون فى نقله من مدرسـة إلـى

أخرى، وهاهم اليوم ال يجدون ما يفعلونه به إال أن يخترقـوا

كل ما فى الدنيا فى سنن وقوانين، ويدسون عليه فى فصـل

قوم بتدريسها بنتا، إنهم ال يقصدون بهـذه من الفصول التى ي

المكيدة أحدا سواه، نسى ما قد أتم تحضيره، نسـى إن كـل

درس اليوم فى اللغة العربية أم فى الدنيا، أمسك بيد مرتعشة

أصبع الجبس، اقترب من اللوحة ليكتب شيئا، كتب التـاريخ

ووقف عنده، كأنه يكتشف ألول مرة أنها اآلن السبعينات وأن

ثر من عشرين عاما قد انقضت من عمره مدرسا، أحـس اك

فجأة بالوهن واإلعياء، فجاء وجلس متهالكا علـى كرسـيه،

اكتشفت أن البنت ما زالت واقفة فأشار لها بيده إشارة ال يعلم

أن كان معناها أن تخرج أو تجلس أو تختفى أو تموت، لكنها

اد، فى هدوء جلست ورفعت رأسها الصغير تنظر إليه فى عن

فى حين قرر هو أن يقدم اليوم وبـال تـردد ودونمـا نـدم

استقالته، جلس ولم يقل شيئا، دفن رأسه بـين يديـه، نسـى

العيون التى تحاصره فكر فى هذه البدعة، هذه الضاللة، هذه

النار، لقد عاش طوال عمره ورعا شريفا مسـتقيما يراعـى

حدود اهللا ويعرف أن للمرأة حرمه يجـب أن تصـان، وأن

مكانها داخل البيت بعيدا عن أعين الرجال، وأنه مـا التقـى

رجل وامرأة إال وكان الشيطان ثالثهما، فما بالك إذا التقـت

امرأة وثالثون رجال، ال بل ألف رجـل، فمعنـى ذلـك أن

الشياطين سيملئون الكون، وأن كارثة ستحل بالدنيا، وان يوم

. القيامة بات وشيكا

ينشغلون بإعرابها، وتفـرغ أملى على الطالب جملة

هو ألفكاره، ستنتهى الحصة وسـيذهب إلـى اإلدارة يقـدم

استقالته، ها هم يدفعونه أخيرا إلى االستقالة، إن هذا بالضبط

ما يريدونه، فهم ما جاءوا بهذه البنت ووضعوها أمامـه إال

لحمله على االتيان بفعل يائس كهذا، لكنه لن يسـتقيل، لـن

جانيا كهذا وأن الحكمة كل المحكمة هى أن يمنحهم انتصارا م

. يفوت عليهم هذه الفرصة وان يبقى لهم كالشوكة فى الحلق

عندما انتهت الحصة وذهب األستاذ عبد الحفيظ حانقا

يقابل مدير المدرسة، كان على ثقة من أنه سـيلفق حكايـة،

وكانت الحكاية هى أن للبنت أبا يعمل بالحكومة انتقل حـديثا

ه الضاحية البعيدة من ضواحى المدينة، وألنـه لـيس إلى هذ

بالضاحية مدرسة ثانوية غير هذه المدرسة ولكـى ال تحـرم

البنت من تعليمها، فإن المدرسة لم تجد غضاضة فى قبولها،

وأن الوزارة وافقت وأن وضع البنت فى المدرسـة وضـع

قانونى وال غبار عليه لن ينطلى عليه األمر فهو يعرف كـل

ل هذا الجيل من األطفال الذى قفز فجأة إلـى مراكـز أحابي

التوجيه واإلدارة فى التعليم، وسيدخل معهم الصراع وحيدا،

. وسيريهم كيف أن األمر مليء بالغبار

فى اليوم التالى، قرر أن يتجاهل البنت، فال شـك أن

أبلغ رد هو أن يتناساها وأال يعمل لها حسابا على اإلطـالق

غير شاعر بوجودها، كأنها ليسـت هنـاك وأن يقدم درسه

أصال، وصمم األستاذ عبد الحفيظ بينه وبين نفسه أنـه لـن

يوجه لها سؤاال ولن يلمس لها كراسا ولن يؤشر على اسمها

بالحضور أو الغياب وأن يهملها ويحتقرها إلـى أن تسـتحى

على نفسها أو يستحى من جاء بها على نفسه وتعود ذليلـة،

. أتتمهزومة، من حيث

دخل إلى الفصل، دهشة أن يرى مرة أخـرى هـذا

الهدوء العجيب الذى ظنه أمس حالة استثنائية، اختفى فجـأة

الخصام والعراك والضجيج، األوالد كائنات من كوكب أخر،

كوكب ليس فيه زرائب وال غابات وال قـرود وال رمـال،

اختفت مـن فـوق وجهـوهم األتربـة فصـاروا يتـألقون

اعتنوا بهندامهم وتصفيف شـعورهم وارتـدوا كالمصابيح،

مالبس نظيفة أنيقة فقرهم صار فجأة غنى، وبيوتهم القميئـة

الملتصقة باألرض صارت فجأة قصورا، وأمهاتهم القرويات

الجاهالت صرن فجأة سيدات علم وذوق وثقافة، بات يتأملهم

كأنه يراهم ألول مرة، روحا جديدة لم يعرفها طوال حياتـه

تدريس تعمر اليوم هذا الفصل، وعبير لم يعهده من قبل فى ال

ينتشر فى الجو، وتنبه إلى أن حضورهم كامل للمرة األولى،

وعندما سأل عن الجواب وجد أنهم جميعا وبدون استثناء قـد

كتبوا واجباتهم، ما الذى حدث فى الكون وأى معجـزة هـذه

درس التى جاءت بهذا االنقالب الخطير، وعندما مضى مع ال

كان األستاذ عبد الحفيظ شيئا فشيئا يكتشف التحول العجيـب

الذى أصاب هؤالء الطلبة، عـن أكثـرهم خمـوال وغبـاء

وسرحانا أثناء الدرس صار فجأة يشتعل حماسـا لإلجابـة،

فالعبقرية هبطت عليه اآلن وفى هذه الساعة، والغريب أنهـا

رنـة حقا كذلك، فها هى اإلجابة تأتى على ألسنتهم سـهلة م

يقلونها بفصاحة وقدرة على لتعبير لم يعهدها فى فصل مـن

فصول الدراسة قبل اآلن، بل إنه هو نفسه يحس اآلن وألول

مرة أهمية الدروس التى يقدمها، إنهم ينصتون إنهم ينصتون

إيه ويتابعون كلماته كأن ما يقوله صار فجأة أخطر ما فـى

لم يعرفها أخطر الدنيا، وأن بحوزته كل أسرار الكون، حالة

ما فى الدنيا، وأن بحوزته كل أسرار الكون، حالة لم يعرفها

طيلة العشرين عاما فى التدريس إال هـذا اليـوم، ودون أن

يدرى وجد نفسه يسترق النظر إليها، أى سطوة تملكهـا، أى

قوة جهنمية جاءت تحملها معها، إنها تجلس فى براءة إلـى

م بمدى القوة التى بحوزتهـا، مقعدها، كأن هذه الساحرة التعل

كأن ما يحدث بمعزل عنها وال دخل لها فيه، من أى بلد من

بالد الجان جاءت لتفلح فيما فشلت كل كتب التربية ووزارات

التعليم فى العالم، بل ليست الكتب والوزارات وإنما هى دول

وأنظمة وأجهزة وأساطيل لم تلفح فى أن تجعل الطلبة، غيـر

تسكنهم روح شريرة فيملئون الدنيا شغبا وضجيجا أنهم طلبة،

وعراكا، تسليتهم الكبرى ليست الدراسة بقدر ما هـى هـذه

المناكفة والعناد وأعمال الشغب، فتأتى هـى لتحـيلهم مـن

شياطين إلى أوادم، وتحيل فقرهم إلى غنى وغبـاءهم إلـى

تأكد لدى األستاذ عبد الحفيظ أنها . نبوغ، وقبحهم إلى وسامة

طيع أن ترمى فوق األرض عصاه وتجعلها حية تسـعى، تست

وأن تخرج من كمها أسرابا من الحمام أو قطعانا من األرانب

وتأتى بأى معجزة لو أرادت وأن، فى األمر شـيئا مهـوال

عجيبا هو ال شك أعجز وأصغر من أن يعرف له تبريرا، أو

تفسيرا، عاد من جديد يسترق النظر إليها عله يجد شيئا فـى

مالمحها يضئ ما اعتراه من حيرة وذهول، كان كل شئ فيها

عاديا، بنت تحس منذ النظرة األولى أنهـا ال يمكـن إال أن

تكون ليبية، شئ موغل فى ليبيته تنطق به تقـاطيع وجههـا

وتراه فى هذه الصفرة الخفيفة التى لم تلفح فى إخفائها كـل

صفرة فإن دالئل الرخاء والنعمة فى مالمحها، ولكن برغم ال

جماال يفيض به وجهها، جماال كجمال واحات النخيل لـيس

فى إثارة، وليس له صخب أو ضجيج، لم ير فـى مالمحهـا

شيئا خارقا ينبئ بهذه القوة التى تملكها، ومع ذلك فإن األستاذ

عبد الحفيظ مازال يعتقد بأنها شيء شيطانى ينتسب إلى عالم

دما التفت إلى أسـفل غير عالمنا وتأكدت فجأة كل ظنونه عن

المقعد الذى تجلس فيه فرأى أن قدميها كأنهما حافرا حمـار

وكاد أن يطلق صرخة تهد جدران المدرسة كلها لوال أن تبنه

إلى أن هذين هما كعبا حذائها، وخشى أن تكـون اآلن قـد

قرأت أفكاره، وغضبت منه، وقررت أن تحيله على الفـور

ضفدعة، أو قطة تمـوء، إلى مسخ، إلى عمود أو شجرة، أو

أحسن برعشة تسرى فى كل بدنه لهذا الخاطر تعوذ باهللا من

الشيطان، وأقفل كتاب الدين، وخرج من الفصل قبل أن تنتهى

. الحصة

اكتشف األستاذ عبد الحفيظ وهو يصل إلى البيت أنه

ما زال يرتعش، وأن خوفا غريبا يسيطر على كل مشاعره،

عقابا مروعا مهوال سوف يحـل كأنه اقترف جريمة ما وأن

به ال محالة، ورأى أن صورتها وهى بحافرى الحمار تالحقه

فى كل مكان، أحيانا ترتدى جناحين مخيفين كجناحى خفاش

وأحيانا يراها كالتنين تقذف لهبا هائال من فمها، وأحيانا لـه

مخلب كوحش خرافى تجسدت له شيطانا يطارده أينما ذهب،

مرة يردد أسمها بصـوت عـال فـى وضبط نفسه أكثر من

خوف ورعب، وعندما اكتشف بعد صالة الفجر أن لها كراسا

قد نسى وعده وأحضره مع كراريس الطلبة جس إليه يقلبـه

بأصبع مرتعشة وبعكس ما كان يظن لم يجد فى الكراس شيئا

غريبا أو عجيبا ولم يجدها تستعمل فى الكتابـة طالسـم أو

ت، كان كل شيئا فيه عاديا كغيـره أحاجى كما فى كتاب المو

من كراريس، عدا أن خطها أكثر تنسيقا وجماال قـرر فـى

ذهنه شيئا، وبعناد كعناد األطفال أمسك القلم وكتب لها درجة

ضعيفة برغم صحة إجاباتها، سيدخل الصراع معهـا ولـن

يخشى كل الملوك المسخرين لخدمتها، ووقف عندما جاء إلى

ا لتمسخه فأرا أو قطا أو ضفدعة، فهو الدرس ينتظر رد فعله

لن يستسلم أو ينهار فالمسألة مسألة مبدأ وكرامة، وحيـاة أو

موت، رآها وهى مهمومة تقارن كراسها مع كراس زميلهـا

فى المقعد همت بأن تقول شيئا فأسكتها بشراسـة، لتبـك أو

تنتحر أو ترم نفسها من الشباك، فلن ينطلى عليـه مكرهـا

ارب إلى آخر رمق فيه هذا السحر األسـود ودهاؤها، وسيح

الذى جاءت به معها، مضى حصة وراء األخرى يتحـرش

بها، يتحين الفرصة لتقريعها، يمنحها برغم اجتهادهـا أقـل

الدرجات شأنا وقيمة وهى داخل الفصل عطرها الدافئ وتهتم

اهتماما غريبا بدرسها كأن األمر كله ال يعنيها، إنها بال شك

الهدوء وهذه المسكنة تصنعا، وأنها تبيت له أمرا تتصنع هذا

فظيعا، وتصور كل يوم أن يرى ذلك األمر الفظيع يحدث أن

يأتى فيجد المدرسة قد صارت كـوم رمـاد، أو أن طالبهـا

تحولوا فجأة إلى قرود أو أنه صحا من النوم فوجد نفسه قـد

صار أرنبا أو قنفذا أو خنزيرا، مضى يوم وراء اآلخر وهو

تظر حدوث الكارثة، أو قدوم الزلزال أو مجئ يوم القيامـة ين

لكن الزلزال ال يأتى، والقيامة ال تقوم وإن فى األمـر شـيئا

سيفصح عن نفسه قريبا دون ريب وعندما جاء يومـا إلـى

الفصل ولم يجدها هناك، أحس كأن الشيء الذى ينـى عيـه

حياته فجأة ينهار اختفى السحر الـذى كـان يمـأل الفصـل

اختفى العبير، عاد إلى األوالد قبحهم وفقـرهم وغبـاؤهم و

ورجعوا مرة أخرى انذاال كما كانوا، صار الفصـل أكثـر

تعتيما وإظالما، فالشمس التى كانت تشرق فى سقف الحجرة

انطفأت اليوم، لقد تصور دائما ان اختفاء البنت من المدرسة

سيكون انتصارا يمأل قلبه فرحا وزهوا، وأنه عـاش علـى

أعصابه كل األيام الماضية وكافح سحرها وناضل ضدها من

أجل هذه النتيجة، لكنه ال يجد لهذا االنتصار طعما، بل هـو

على العكس من ذلك يحس بكآبة غريبة تعتصر قلبه، ورمادا

يمأل حلقة، وأن حياته فقدت شيئا جوهريا كان يمأل قلبه كـل

ـ ه ويحسـن صباح تحفزا وتحديا، وألول مرة بدأ يراجع نفس

بتأنيب الضمير، عناكب تنسج شباكها داخل صدره، لقد كان

شرسا فى معاملتها، وأنه كان ظالما عندما تصورها شـيطانا

أو عفريتا أو تنيبنا فى حين كانت هى مجرد طفلة صـغيرة

بريئة، كان من الممكن لو تزوج مبكرا النجب بنتا فى سنها،

واألوالد كـأنهم وتأمل الفصل وقد صار موحشا كأنه خرابه

شياطين تسكن هذه الخرابة، وفكر جديا فى أن يذهب للبحث

عنها ليسألها الصفح والغفران، سيتجدى والدها صـاغرا أن

يعيدها إلى المدرسة وسيعاملها كأميرة أو ملكة وصمم علـى

أن يفعل ذلك فى أول فرصة، لوال أنها فـى اليـوم التـالى

وسامة وتنشـر عطرهـا جاءت، تعيد إلى التالميذ الغنى وال

الدافئ داخل الحجرة، وتزرع الشمس مرة أخرى فـى قلـب

الفصل ورأى الفرحة سربا من العصافير تحط اآلن فى قلبه،

وشجرة يبست أغصانها تخضر وتزهر اآلن فـى صـدره،

وألول مرة صارت مهنة التدريس أجمل مهنة فـى الـدنيا،

أنثـى والمجيء إلى الفصل ليس واجبا ثقـيال وإنمـا عيـدا

صغيرة جميلة، مضيئة، وهو يتودد إليها، يمنحها الـدرجات

بسخاء، يقلق إذا تأخرت عن المجيء دقيقة واحـدة ويشـده

الحنين إليها منذ أن يغادر الفصل وحتى يعود فى اليوم التالى

وفى أثناء ذلك لم ينتبه األستاذ عبد الحفيظ إلى أنـه صـار

دلـة التـى كـان يعتنى بمظهره أكثر من ذى قبـل، وأن الب

يدخرها للعيد قد نسى العيد وصار يرتديها كل يـوم، وأنـه

صار يهتم بحالقة وجهة ووضع الكولونيا فوقه كـل صـباح

بعد أن كان يهمل حالقته إال مـرة واحـدة أو مـرتين فـى

األسبوع، وألول مرة يفكر فى هذه األعوام التى انقضت من

ظـن زورا عمره ويدرك أنه دخل مجال الحياة مبكرا حتى

وبهتانا أنه قد اقترب من سن التقاعد فى حين أنه لم يتجـاوز

األربعين إال بخمسة أو ستة أعوام، وأنه برغم الزوجة التـى

جف عودها واألطفال الذين ينتشرون كالنمل داخل البيت ما

زال فى نضج رجولته وعنفوانها وأن الحياة ما زالت أمامـه

نه كان يظلم نفسه ويظلـم عريضة بكل لذائذها وطيباتها، وأ

عمره ويظلم شبابه عندما يتصور أنه صار عجوزا وينسـى

أن له جدا تزوج امرأته الثامنة أو التاسعة وهـو فـى سـن

السبعين، فيحس كأنه عاد ولدا صغيرا فى عمر تالميذه وأن

دماء جديدة تجرى كالنسغ فى عروقه، ويرى بساطا جمـيال

وفراشات قد امتد بين نقشت فوقه قوارب وحدائق وعصافير

بيته والمدرسة فيمضى كل صباح فوقه، وما إن يراها تجلس

فى هدوء إلى مقعدها وتنشر كالقنديل ضوءها، حتى يغمـر

جسمه خدر لذيذ فيدرك أن دائرة سحرها قـد زادت تسـاعا

وشملته كما شملت الطلبة، ويمضى مع درسه سعيدا، وينتهى

وينتظر بفارغ الصبر أن الوقت سريعا، فيعادوه الشوق إليها

. يراها فى اليوم التالى

– بعـد ذاك –وال يدرى األستاذ عبد الحفيظ لمـاذا

صار يكره البقاء فى البيت كأن فى صدره شئ تضـيق بـه

البيوت والحجرات واألماكن التى لها سقف وجدران وأبواب

فصار يكثر الذهاب إلى الخالء والميادين الرحبة الفسـيحة،

العامة، وتأمل البحر وإدمان التفكير فى هذه البنـت والحدائق

التى دخلت فجأة حياته كما دخلت فجأة حجرة درسه وصـار

يوما وراء اآلخر يحس بشيء غريب نحوها، شـئ ينكـره

ويخشاه ويخافه ويمأل قبله رعبا شئ ال يريد أن يفصح عنـه

أو يعترف به حتى بينه وبين نفسه،كائن غريب يرفـع مـن

الجليد رأسه ويطل بمعزل عن العقـل واإلرادة تحت أكداس

متحديا كل سنن الكـون وقوانينـه، متحـديا كـل التقاليـد

واألعراف التى آمن بها،كل المثل العليا التى كـرس نفسـه

لخدمتها، وهو يرفض أن يعترف به أو يصـدقه، ألنـه لـو

انصاع ألمره واعترف به أو صدقه، ألنه لو انصاع ألمـره

دقه لحصلت الكارثة التى كان يتوقعها، إنه واعترف به أو ص

يراها كل صباح تجلس فى براءة ووداعة إلى مقعدها كأنهـا

ال تعلم بهذا الصراع البغيض الذى يدور فى نفسه ويصـدر

دويا هائال يصم أذنيه، وهذه الخيوط الحفية المجهولـة التـى

تشده بقوة إليها وهو يرفض ويقاوم كأنه لو طاوع قلبه لوجد

ه يسقط فى هاوية مظلمة عميقة مخفية ليس لها قرار ولو نفس

سمح لفكره أن يمضى حرا طليقا يحوم حولها ويلتقـى بهـا

ألحداث ذلك اللقاء صداما هائال مروعا تسقط له كل األبنيـة

فى الدنيا، والوهج يحرق قلبه، شعور ملتهب يحس بـه ألول

ائلة من مرة فى حياته، كأنه كان دائما هناك، تغطية أكداس ه

الرماد إلى أن جاءت هذه الصغيرة تنفخ عنه الرمـاد حتـى

صار جحيما يحرق صدره، والمصيبة الكبرى أنها صـارت

تأتيه فى الحلم، ليست تنينا يقذف اللهب، أو كائنا اسـطوريا

يرتدى أجنحة خفاش، كانت تأتيه فى النوم أنثـى صـغيرة،

نهمـا أدم جميلة، مضيئة شهية، ليلتقى بها فى أرض خالء كأ

وحواء هبطا فجأة إلى األرض، وتاها عن بعضها سنينا ثـم

جاء اللقاء، على حين غفلة جاء اللقاء، بل هو الصدام، صدام

مروع هائل لذيذ بغيض جميل كريه، فيستيقظ األستاذ عبـد

الحفيظ من نومه مذعورا، ويستغفر اهللا كثيرا، ويذهب إلـى

يقوى على رفـع المدرسة خجوال مرتبكا، متعثر الخطى، ال

بصره إليها، أو إلى أحد غيرها، كأن أحدا لـو رأى عينيـه

الكتشف فيهما على الفور فعله نكراء، ويوما وراء اآلخر نما

فى ذهنه يقين كامل بأنه ضحية مؤامرة دبرت فى الخفـاء،

وأنه كان على حق عندما رأى فى هذه البنت منذ أول يـوم

مضت تخدعه بمظهرهـا شيئا شيطانيا مدسوسا عيه دسا، إذ

الوديع البريء، وترمى شباكها حوله، وتنفث سحرها األسود

فى ضلوعه، وتتفنن فى غوايته، حتـى رأى نفسـه يمشـى

كاألعمى ليقع فى بئر مظلمة مخيفة تمتلـئ فسـقا وفجـورا

وإلحادا ورجسا، وأنه اآلن ضحية عمل شيطانى من أعمـال

النبات الشيطانى فى الجن أو السحرة، فهذا الشعور الذى نما ك

صدره بمعزل عن العقل والمنطق واإلرادة، وأخـرج مـن

تحت الجليد رأسه هازئا وساخرا من المثل والتقاليد واألخالق

والفضيلة، ال يمكن أن يأتى عفوا ودونما تدبير أو عمل مـن

أعمال السحر، لقد تصور منذ البداية أن شيئا فظيعا سـوف

أت، والقيامة لم تقم، فإن شـيئا يحدث، وإذا كان الزلزال لم ي

أكثر فظاعة وهوال هذا الذى يحدث اآلن، يجره إلـى هـذه

الهاوية ويجعله وهو األستاذ والمربى يفكر فى بنـت بحجـم

ابنته لو كانت له ابنة، وتتلقى دروس الدين على يديه، بهـذه

الصورة المخجلة المرعبة المجردة مـن الخلـق والشـرف

له إال بسحر يقام سـحرها، فبـدأ والفضيلة، وان ال خالص

األستاذ عبد الحفيظ من فوره ينقب بحماس أشبه بالهستريا فى

المجلدات التى أصفر لونها عله يعثر عندها على حل يبطـل

مفعول كتابها الذى جاءت به من عالم المـوت واألشـباح،

ومضى لدهشة الزوجة واألطفال يقلب البيت رأسا على عقب

السحر ويأخذ فأسا ويحفر عند عتبة الباب عله يجد أثرا لهذا

علهم دفنوا له شيئا هناك ويمزق أغلفة الكـراريس والكتـب

المدرسية على شيئا بحجم الدبوس مدسوسا فى إحداها، ولـم

يتردد فى حالقة شعر رأسه كله عندما ظن أن جسما غريبـا

بحجم ذرة الغبار قد غافلوه ووضعوه فى شعره، وتأكدت كل

اذ عبد الحفيظ عندما رآهم يتهامسون فـى كـل ظنون األست

مكان من حوله، ورأس مدير المدرسة يقدم له إنذارا بفصـله

من العمل ورأى زوجته تأخذ أطفالها وتذهب إلى بيت أهلها،

ورأى التالميذ يضحكون فى حضوره باستهتار وقلـة أدب،

تأكدت كل ظنونه وانكشفت أمامه كل أالعيبهم وأدرك أنهـم

تآمروا ضده واستعملوا تلك الصبية لتدمير حياتـه، جميعا قد

وأن زوجته وطالبه ومدير المدرسـة ومدرسـيها ومفتشـى

الوزارة ومدرائها كلهم شركاء فى هـذه المـؤامرة، وأن ال

شيء يشفى غليله إال أن يحمل اآلن نـارا ويـذهب ليشـعل

الحرائق فى البيت والمدرسة والوزارة فمضى األستاذ عبـد

. فوره ينفذ هذه الرغبة بجزم وتصميمالحفيظ من

صورة جانبية لصانع العيد

في منطقة الباب الجديد، وبمحاذاة السور األثري

لمدينة طرابلس القديمة، كان موعدنا كل عام مع مدينة ألعاب

فهي ال . وهي مدينة ليست كمدن األلعاب األخرى". البوبو"

تختفي بقية أيام العام، تقام إال في العيدين الكبير والصغير، ثم

وال تملك من مقومات المدينة المخصصة للمالهى سوى

أربعة مراجيح وحلقة جياد خشبية معلقة بدوالب يدور، ثم

عجلة الحظ، وهى لوحة تحمل أرقاما، معلقة على الحائط

أمام عجلة، مشدود إليها سهم، ويقف أمامها صاحبها يديرها

دفع قرش ليكسب عشرة لمن يريد أن يلعب لعبة الحظ، في

قروش، أما اللعبة الرابعة واألخيرة فهى لعبة األراجوز حيث

يقف صاحب اللعبة بصندوقه ومسرحه وستائره وضجرته

المستعارة ودميتان ترتديان مالبس عروس وعروسه، يقيم

بينهما المعارك والمقومات، ويقدم بهما عرضه الذى يستمر

ينة باسم رجل أسود اسمه وقد ارتبطت المد. طوال أيام العيد

ال ألنه صاحبها، فهى مدينة ال صاحب لها، ولكن " البوبو"

ألنه أشهر وجه من وجوه هذه الظاهرة الموسمية، فهو

حاضر ال يغيب في كل يوم من أيام العيد، كأنه ليس له أهل

يذهب إليهم ويحضر معهم هذه المناسبة، قادر على تأدية كل

مسك عجلة الحظ، يدعو الناس األلعاب، فهو إن لم يكن ي

للعبته بصوت منغوم كأنه الغناء، فهو يدير دوالب الجياد

الخشبية، أو يمسك بخيوط الدمى في لعبته األراجوز، أو

. يخترع لعبة جديدة إذا سبقه اآلخرون لحيازة كل األلعاب

رجال قوى البنية أسود البشرة، واسع العينين، " البوبو"كان

تهر بارتداء صديرى شعبي كثير الزخارف دائم االبتسام، اش

ال يرتديه الناس عادة " الفرملة"والنقوش نسميه في طرابلس

في مخالفة حركية لكل " البوبو"إال مع المالبس الشعبية، ولكن

القواعد والنواميس يرتدى هذا الصديرى فوق القميص

والبنطلون االقرنجيينى، فيكسبه ذلك منظرا فريدا ويجعله

ولم أجد أحدا من أترابي . في أعين رواد مدينتهمتميزا

فسألت والدي أكثر من " البوبو"الصغار يعرف لماذا يسمونه

مرة دون أن أحظى بأي جواب، فقد اختفى اسمه الحقيقي

وكنت كغيري . وراء هذا االسم المضحك الذي ال معنى له

من أطفال يحبونه ويعجبون به ويعتبرونه بطال شعبيا ال

أال في أيام العيد مهيمنا بابتسامته على فضاء " وبوالب"يرون

ويبدو أن هناك منافسات . المدينة التي صارت محمل اسمه

خطيرة تدور بينه وبين زمالئه أصحاب األلعاب، وكلما رأى

أحدهم يستولي على لعبة كان هو صاحبها، يذهب ليبحث عن

لعبة أخرى، حتى لو اضطر إلبداع لعبة جديدة لم تعرفها

دينته من قبل، كما حدث في أحد المواسم عندما وجدهم قد م

سبقوه لكل األلعاب، فما كان منه إال أن أحضر ثالثة حمير

ألبسها البرادع وزين البرادع باألشرطة واألوراق الملونة

حتى صار كل حمار كأنه عروسة من عرائس المولد، وصار

يرة، يؤجرها لألطفال بقرش واحد مقابل ركوبها لمسافة قص

وكانت هذه بدعة جديدة اجتذبت أعدادا غفيرة من األطفال

وفي عيد آخر جاء . وصارت أكثر شعبية من بقية األلعاب

وعلق قطعة قماش ) بوالرويد(ومعه آلة التصوير الفوري

على السور يحمل رسما لقصر قال إنه القصر الملكي

البريطاني، فقد كان ذلك في بداية الخمسينات عقب انسحاب

بريطانيا من ليبيا، ووضع أمام صورة القصر كرسيا رشق

فوقه عرشا صنعه من الورق المقوى وطاله باللون الذهبي،

وصار يؤجر تاج ملك بريطانيا لألطفال ويصورهم وهم

جالسون على العرش، ولمن ال يملك بذلة تليق بالمقام، أعد

وهكذا أضحى . سترة عسكرية يرتديها فوق مالبسه إذا أراد

معلما من معالم هذه المدينة البسيطة الفقيرة من مدن " البوبو"

. األلعاب، التي تملك رغم الفقر، عرشا وصولجانا

أذكر أنني كلما جئت من قريتي إلـي المدينـة فـي

مواسم األعياد، أرغمت أهلي علي إحضـاري إلـي مدينـة

فور وصولي إلى طرابلس، فقد كنت ال أريد أن أرى " البوبو"

وال أن أذهب لزيارة عمات وخاالت وأقارب يسـكنون سوق

المدينة، وال أن أتلقى هداياهم، أو أرافقهم إلى مشاهدة السينما

أو شراء قميص أو حذاء كما يقترحون، كل ما كنت أريـده

وعند وصولي هنـاك، " البوبو"هو الذهاب إلى مدينة العاب

ألن المهـم "البوبـو "فأنا ال أريد إال تلك اللعبة التي يقـدمها

بالنسبة لي ليس اللعبة في حد ذاتها، ولكن أن أرى يضـحك

ويلعب ويغني ويرقص ويلقي فكاهاته وينادي هـاتف باسـم

لعبته، واقفا وسط حشد األطفال بمالبسه الغريبة وابتسـامته

التي تلمع وسط وجهه الداكن السواد لمعانا يدعو إلى المـرح

. والفرح واالنطالق

مرة إلى مدينـة البوبـو وكانـت وأذكر أنني ذهبت

لم يكن يغريني أن . هناك" البوبو"صدمتي كبيرة ألنني لم أجد

أركب الجياد الخشبية الدائرة في الفضـاء، أو أتطـوح فـي

المراجيح حتى تسقط الطاقية عن رأسي، أو أشتري حلويات

العيد من الباعة المتجولين، أو أركب الحميـر ذات البـرادع

يـدير هـذه " البوبو" ما أريد أن أرى عمي الملونة، كان كل

لم . العجلة أو يقود هذا الحمار راقصا فضيا كما عهدته دائما

أكن أدري ماذا أفعل بهذا األسى الذي حط في قلبـي، حتـى

أسعفني طفل في مثل سني وجدته يبكـي ويضـرب األرض

فوقفت بجواره أشاركه نفـس " أريد عمي البوبو "بقدمه قائال

جاء أطفال آخرون ينضمون إلينـا ويصـيحون المطلب، ثم

نريـد " ، "نريد البوبو " ويملئون مدينة األلعاب هتافا . مثلنا

". البوبو

يضع " البوبو"وما هي إال لحظات قصيرة حتى ظهر

هذه المرة طرطورا طويال مضحكا فـوق رأسـه ويرتـدي

وكـان قـد مالبس المهرجين المخططة باألبيض واألحمر،

أحضر معه برميال كبيرا فارغا واثنين من معاونيـه اللـذين

صارا يقومان بألعابهما البهلوانية معه، ويقدم ثالثتهم عرضا

فكاهيا في الهواء الطلق لرواد المدينة مقابل ما يتطوعون به

. من قروش يضعونها في صحن قرب البرميل

ـ " البوبو"مرت سنوات، اختفت فيها مدينة العاب ن م

الوجود، ألن المعرض التجاري الدولي، أحضر من إيطاليـا

مدينة عمالقة لأللعاب تستوعب كل سكان طـرابلس، كمـا

انقطعت األسباب بيني وبين مدن المالهي صغيرها وكبيرها،

وقادتني هوايتي األدبية وأنا شاب في العشرين من عمـري

فيه إلى مقهى شعبي بشارع الوادي اسمه مقهى عبد اهللا، يقعد

بعض المهتمين باألدب جلسة أسبوعية، وكان المقهى جـزءا

من خان قديم أصبحت غرفه مكان لإلقامة الدائمـة لـبعض

عزاب المدينة، وعرفت أثناء مجيئـي لهـذه الجلسـات أن

يقطن إحدى هذه الغرف، فترصدت له ألتأكد إن كان " البوبو"

ه هو، الذي أعرفه، وعندما رأيته وعرفت أن " البوبو"حقا هو

قدمت له التحية الحارة التي رأيتها جديرة ببطل من أبطـال

رأيته فلم . طفولتي وصانع أجمل لحظاتها في مواسم األعياد

أجد تبدال كبيرا في صورته التي عرفته عليها، حتى شـعره

كان ما زل أسود كسواد بشرته، أمـا ابتسـامته الناصـعة

واحـدة أو البياض فقد تخللتها مسافة سوداء نتيجـة سـقوط

كان واضحا عندما قدمت . اثنتين من أسنانه األماميتين العليا

، أنه تعود علـى اسـتقبال "البوبو"له التحية مناديا إياه بعمي

مثل هذه التحية الحارة من شبان المدينة الذين عرفوه وزاروا

مدينته في طفولتهم، وبطبيعة الحال فإنني لـم أتوقـع أنـه

. سيعرفني

زميل من هواة األدب أحييه فسألني مندهشا من رآني

أين أعرف هذا الرجل، فضحكت من اندهاشه قـائال بلهجـة

استنكارية، كيف يريدني أن أنسى صانع األفراح في مدينـة

لكـن . الذي منحني أجمل ذكريات طفولتي " البوبو"ألعاب

اليوم هو أكبر اسـم فـي " البوبو"الرجل أسر في أذني بأن

لمخدرات وأنه يدير أكبر عصابة تسيطر على السوق تجارة ا

السوداء، وأنه دخل السجن وخرج منه سريعا ألنه دائما يجيد

. الحماية من بعض زبائنه النافذين في الحكومة

صرت أسمع اسمه بعد ذلك يتردد كثيرا فـي هـذا

السباق، دون أن أستطيع ولو للحظة واحدة أن أصـالح بـين

رابطة في ذهني يمكن أن تربط بـين الصورتين، أو أجد إنه

الرجل الذي أسمع عنه هذه الحكايات المخيفـة وبـين ذلـك

المهرج اللطيف الجميل الذي أدخل الفرح على قلبي خـالل

. أيام الطفولة

انقطعت عالقتي بقهوة عبد اهللا، أعواما قبل أن تزال

هي والخان القديم وتحل محلهما بنايات جديـدة، وذات يـوم

أيام الربيع في لندن، حيث كنت أقـيم لمواصـلة مشمش من

الدراسة العليا، مررت بالمكتب الثقافي السـتالم أضـمومة

صحف محلية وضعتها تحت إبطي وخرجت بها إلى الشارع،

مشيت حتى وجدت مقعدا شاغرا في ميدان الطرف األغـر،

. حيث جلست أتصفحها

وقفت أمام أحد الصفحات ذاهال، فقد رأيت صـورة

فوق خبر صغير في وسط الصفحة، مبتسـما كمـا " بوبوال"

رأيته آخر مرة في مقهى عبد اهللا، تلك االبتسامة التي تتخللها

مساحة سوداء بسبب السن الساقطة، وأعرف ألول مرة اسمه

أبو "لم يكن إال تصغيرا السمه األصلي " البوبو"الحقيقي وأن

حا ، وكانت المناسبة أن صاحب الصـورة وجـد مـذبو "بكر

. ومرميا في الغابة المحيطة بمدينة طرابلس

طويت الصفحة وبقيت لحظات صامتا وسط ضجيج

النوافير التي تدفع المياه بقوه وغزارة في الفضاء، أرنو بأسى

إلى البوابة الكبيرة التي تفضي إلى القصر الملكي البريطاني،

وقد ترقرقت دمعة في العين تبكي الرجل الذي قادني في

براءة إلى هذا القصر وأجلسني على كرسي العرش زمن ال

.وسط عالم غاطس في ضباب الوهم الجميل

طائر الطفولة األزغب

. فتح الشباك ووقف صامتا

. مأل رئتيه بهواء ليل ربيعى ابتسمت نجومه

وأسدل رموشه ومالمح وجهه فـى شـبه غيبوبـة

ير جميلة، وعادت إلى الذهن أيام قديمة عن أعشاش العصـاف

. والساحة الخضراء، وصيد القنافد. وأطفال القرية. فى الربيع

وتمنى على اهللا أن يعيده طفال يحجل على قدم واحدة

فوق ساحة القرية الخضراء، ويؤسـس مـع األطفـال دول

يـامطر يـا " وهمية، ويغنى معهم وهو يرقص تحت المطر

وينصب فى السـماء فخاخـا للعصـافير، ويقـذف " خالتي

ارة أسراب طيور الحجل والسمان والقنبر وهى تجدف بالحج

بأجنحتها عبر أمواج السماء، ويتسلق صخور الجبـل حتـى

تتسلخ أصابع يديه وقدميه بحثا عن ضب أو قنفذ ينـام فـى

الليل تحت جناح جدته العجوز بعد أن تحكـى لـه خرافـة

. السلطان والبحار السبعة

. بصوت كهديل الحمام.. وهمهم فى غموض

. ما أطيب تلك األيام

ومرت بانفة وشفتيه وأهداب عيونـه نسـمة ربيـع

ذكرته بمشاتل النعناع فى بستان عمه منصـور، واستشـعر

ومـذاقها الحـار " الجرجير" على طرف لسانه طعم أعشاب

وثمار أشجار السدر والبطوم ونبتات الشيح والزعتـر التـى

. كثيرا ما أصرت جدته على أن تطببه بها

سكع بنظراته فوق صفحة السماء التـى أوقـدت وت

.. وحلق فوق رأسه طائر الطفولة األزغـب . قناديل نجومها

بجناحيه الناعمين حامال فوق ظهره ذكرى أيام قديمـة مـن

وخالجـه . ساكبا فى أذنيه ترنيمه الطفولـة العذبـة . عمره

. إحساس بالسعادة وهو يتذكر اللقب القديم الذى أطلقوه عليـه

فقد كانوا يسمونه . بعض أصدقاء الطفولة يداعبونه به ما زال

وكان هو فى طفولته نشطا خفيفا، ناعما كزغب " العصفور"

. وكانت العصافير هى حبة وهوايته…صغار الطيور

طائر هرم بـال . وها أنا هنا يا طائر الطفولة العذب

لم أعد عصفورا يغنى ويضر بجناحيه الهواء فـى . جناحين

وبانـت جروحـى .. فقد سلخوا عن بدنى الـريش …سعادة

وأنـا …المتورمة التى تحرق بدنى هجرتنى أسراب الطيور

أعيش فى قفص خيبتى وجبنى وعجزى، أصبغ شعر الفودين

وأغطـى عربـى . وأزيف شهادة المـيالد . األبيض بالسواد

وأزحف على أرصـفة مدينـة ال تعـرف . بالجرائد القديمة

". ى طالبا رزقى وأعو. األعشاش والعصافير

وفى رحلة الربيع عنـدما تحمـل األسـرة خيامهـا

المطلوبة فى المخازن وتغادر بيت القرية لتنصـب الخيـام

وسط أعشاب ربيع الوادى، كان همه األكبـر البحـث عـن

أعشاش العصافير حيث يضع أرجاما من الحجارة يهتدى بها

تـات إلى العشاش التى يعثر عليها تحت الصخور أو بين نب

السبك والرتم والعجرم، وكان يراقب بيضـها حتـى يفقـس

يتابع نموها، . فراخا صغيرة مسلوخة تفتح مناقيرها باستمرار

كثيرا …ويأخذها أحيانا بين يديه يستمتع بلمس زغبها الناعم

ما كان ينشغل بالعصافير عن رعى الخراف والجديان حتـى

حتمـى بجدتـه فكان عليه حيذاك أن يدبر كيف ي .. تتوه منه

. العجوز من تهديد وعصا أبيه

وها أنا يا طائر الطفولة عجوز ال يعرف كيف يحمى

ها أنا دقيق ونخالة بعد أن طحنتنى جيدا رحى طاحونة . نفسه

بحثت فيها دون جدوى عن . تأز دونما انقطاع اسمها المدينة

حتى جف ماء .. ضب وقنفد وعش عصفور وساحة خضراء

وأحسست أنى أمتلـئ تيبسـا وشـيخوخة الحياة فى عروقى

كليمونة معصورة منذ عام وعام، بعد أن أهرقت ماء حيـاتى

. فوق أرصفة المدينة وجففت جثتى فوق سـطوح عمارتهـا

دفنتـه تحـت رمـاد .. وقتلت طفل القرية القديم فى أعماقي

. وسقيت قبره بأقداح الشراب.. التبغ

. أنا… أنا…وما عدت

مـن أيـن لـك؟ . اجرا عرفتنـي فكيف يا طائرا مه

.. وزرتنى من أين لك؟ وأنا انفسى أكاد أن ال أعرف نفسـي

ورقـم … ورقـم شـقتي …أننى فقط أحفظ كرت عنواني

ورقـم . ورقم تلفوني .. ورقم بطاقتى الشخصية …سيارتى

. فأنا لم أعد عصفورا يا طائرى الصغير .. رصيدى فى البنك

وأنـا .. المدينة أرقـام نحن فى .. وأنا رقم ككل هذه األرقام

". …لست سوى رقم من األرقام

وعندما يأتى الليل كانت جدته دائما تفتح فمـا بـال

أسنان لتقول

ومـن عليـه . كان فيه سلطان وما سلطان إال اهللا -

فكان يقول وقد امتزج فـى ذهنـه . ذنوب يقول أستغفر اهللا

. إحساس باإلثم وإحساس بالتوبة

. أستغفر اهللا

تح له بعد ذلك صوت جدتـه قصـورا وكنـوزا ليف

ويحمله إلى عوالم بعيدة جميلة طالما حن وتشـوق للـذهاب

. وكان يحلم بأنه عندما يكبر سوف يجعل نفسه سلطانا . إليها

. وسوف يجتاز بسفينته البحار السـبعة بحـرا وراء بحـر

وهى تجر جدائل "" شمس"وسيأتى من آخر الدنيا بزينة النساء

ألسود الطويل فوق األرض المفروشة ببسط من بالد شعرها ا

وسوف يبنى لنفسه قصرا عظيما طوبة ذهب وطوبة . العجم

فضة ويجعل للقصر حديقة مليئة باألزهار وأشـجار التـين

وتأتى العصافير فى الربيع وتبنى األعشاش . والتفاح والكروم

وستكون للقصر ساحة خضراء كساحة القرية . فوق أغصانها

ه بها وهو راكب جوادا أشهب كجواد الشيخ بلعيد الـذى يتنز

وسيمأل أركان القصر بوسائد . يعدو به فى األعراس والموالد

وسقوفه المنقوشة بماء الذهب يجعلها تضيء . من ريش النعام

وكثيرا ما فكر بأنه يجب أن .. وتتوهج بقناديل وثريات الفضة

على أعوادها يقيم فى مكان ما من القصر مشنقة سوف يشنق

كل األطفال الذين يخاصمونه أو يعتدون على األعشاش التى

ثم يعود بعد ذلك لينام على صدر شمسه راضـيا، .. يكتشفها

. سعيدا، مرتاح الضمير

فقدت ها هنا يا طائرى األزغب الجميـل …لكننى

أعيش حـامال .. فقدت نعمة الطهارة والرضا . راحة الضمير

أبحرت عبر البحار السبعة يا . ى المدينة ذنوبى وأثام غربتى ف

عصفورى األزغب وحرثت بمجاديفى أمواج البحـر، بـال

فقد عدت من رحلتى الطويلة خائبا بال غنيمـة بـال . جدوى

وقصر الطفولة الذى بنيته فـى أعـوام . طويلة الشعر شمس

وحديقة القصر لم . عمرى األولى خربته أعوام عمرى الثاني

ر والعسج الذى أدمى بأشـواكه بـدنى تنبث لى سوى الصبا

والجواد الـذى .. وجعل حياتى جرح ينزف باستمرار . وقلبي

والبسـط . حلمت به مات منذ أن مات الشيخ بلعيد وحصانه

العجمية انتزعوها من تحت قدمى منذ أن هاجرت فى سيارة

. شحن إلى المدينة

لمـاذا …فلماذا زرتنى أيها الطائر األزغب الصغير

ألم تدرك يوما أن الناس . ل ذكرى طفولة ال أعرفها جئت تحم

بشكل يستحيل معـه .. فى المدينة يسدلون مالمحهم فى وقار

". أطفاال.. التصديق بأن هؤالء الناس كانوا يوما ما

والصور القديمة فى ذهنه تتداعى سعيد بهـا، كأنـه

كان عالما قـديما مـدفونا تحـت . يكتشف طفولته من جديد

…نفض تراب الزمن وانتصب واقفا فى شـموخ .. األرض

أحواض الغدير وقد تزاحمت حولها عصافير عطشى تلـتقط

بمناقير حمراء قطرات الماء قطرة قطرة وهو يرقبهـا مـن

صورته وهو طفل مبلل يرفع وجهه للسماء ويسـتقبل . بعيد

ويضع يده فى أيدى بقية األطفـال . خيوط المطر فى شجاعة

كبيرة يرقصون على إيقاع المطر كـأنهم ينتظمون فى حلقة

شياطين صغيرة وقد استبدت بهـم هسـتيريا مـن الفـرح

غير عابثين بعقاب األباء وال الزكام الذى يأتى بعد . والسعادة

صورته وهو يالحق أرنبا أبيض فـر مـذعورا مـن .. ذلك

يعدو وراءه إلى أبعد المسافات حتى يدركه الظـالم .. أمامه

وهو فخور بأنه استطاع أن يمشى . ى البيت فيركض عائدا إل

وأن يغيب الساعات األولى من الليل كما يفعل …فى الظالم

…الكبار

وقال فى حيـاء .. وابتسم فى نفسه لذلك الطفل القديم

. وخفوت كأنه يدلى بشهادة زور

. لقد كان طفال رائعا

. وأحس بطائر الطفولة يرفرف بجناحيه قريبا منـه

. أنت هذا الطفل. كره قائال أنك أنت هذا الطفلكأنما يذ

: وردد بينه وبين نفسه فى دهشة كدهشة األطفال

ألست أنا حقا هذا الطفل؟

. وبدا له كأن عينيه تفتحتا فجأة على هذا االكتشـاف

وأحـس . ألول مرة صار يدرك أنه كان طفال رائعا ذات يوم

أن باستطاعته أن يكون وبدا له . بالفخر والسعادة لهذا الطفل

. هذا الطفل الرائع من جديد

وامتأل المكان فجأة بشذا طيب كأن قارورة عطر قد

واحتوى بعينيه السماء والنجوم . فتتسم عطر القارورة . فتحت

وأسطح البيوت التى بدت وقد لفها ليل المدينـة كصـناديق

األلعاب جميلة ومضيئة ورأى الكون جميال رائعا، فـأغمض

نيه إغماضة صغيرة كى يختزن كل هذا الجمال فى حدقتى عي

. عينيه ويبقيه هناك إلى األبد

وأحس فى هذه اللحظة براحة نفسية عميقة تضـاءل

بجوارها حجم همومه وأحزانه فرآها ضئيلة صغيرة كاصفار

أنه اآلن أكثر شبابا وأطول قامة وأعفـى . على هامش حياته

يعد شارة هزيمة وإنمـا هـو وشعر فوديه األبيض لم . بدنا

والبحار السبعة سيجتازها فى غمضـة عـين . شارة البطولة

ولم يعد عاريا مسلوخا . وسيعود حامال طويلة الشعر إلى بيته

وصار قادرا على أن يعود . لقد نبت له اآلن ريش وجناحين

سوف يسدل الريش النـاعم فـوق . من جديد عصفورا رائعا

الريح بجناحيـه ويسـافر مـع جروحه فلن تؤلمه ويضرب

. أسراب الطيور فى رحلة كل يوم

. وتهيأ له أن النجوم تقيم من أجله مهرجانا فى السماء

.. اآلن.. وأن خشب الشباك الذى يقف عنده سـيطرح اآلن

وأسن بنفسه قويا منيعا قادرا علـى أن . أقحوانا وقرنفال وفال

لمستحيل وأحـس وقادرا على أن يهزم ا . يرتفع فوق أحزانه

بالدماء جديدة حارة تتدافع فى عروقه فقرر على الفـور أن

يمد يده إلى السماء وأن ينتزع من قبتها العالية عرجونا مليئا

.بالنجوم

عندما رحلوا

وقف الحاج عبد الحفيظ قريبا من ميدان الشهداء يرقب فى

سعادة ترحيل آخر بقايا الطليان الفاشيست، يشاهدهم وهم

درون طرابلس مطرودين بعد أن جاءوا إليهـا غـزاة يغا

. محتلين فاتحين

إنها لحظة قصيرة فى الزمان، ولكنهـا تسـاوى

هطلـت . عمرا كامال من االنتظار والحرقة إلى يوم الثأر

الدموع تبلل لحيته البيضاء وهو يرقب مشهد االنتصـار،

ويسترجع ذكريات عمر قضاه فى الجهاد ضـد هـؤالء

. الطليان

ح على األرض سجادة للصالة جـاء بهـا معـه، طر

وصلى هللا ركعتين حمدا له وشكرا ألنه أطال فى عمره حتى

. رأى هذا اليوم

كان الحاج عبد الحفيظ شيخا طاعنا فى السن، إنـه ال

يعرف على وجه اليقين فى أى يوم أو فى أى عام ولد، ولكنه

فتـى يذكر أنه عندما دخل الغزاة الطليان إلى بـالده كـان

صغيرا، لعل عمره كان أربعة عشر أو خمسة عشر عامـا،

لكنه منذ األيام األولى للغزو وجد نفسه يتحمـل مسـؤوليات

الرجال، ففى ذلك الوقت تحول كل الفتيان الذين فى عمـره

. إلى جنود ومقاتلين فى صفوف المقاومة

لقد تحامل على نفسه وأخذ عصاه، وسأل شـابا مـن

ن ينقله إلى الشاطئ ليشاهد بنفسه إجالء أحفاده يملك سيارة أ

كان الفتى ينظر إلى جده مندهشا وهو يراه .. آخر بقايا الغزاة

وقـد .. يتوهج فرحة وانفعاال كأن شبابه قد عاد فجـأة إليـه

تحولت السعادة فى عينيه إلى دموع تخضـب لحيتـه كأنـه

فى طريق ... يشاهد اليوم معجزة تتحقق أمامه فوق األرض

لى البيت بدأ الشيخ عبـد الحفـيظ يسـرد لحفيـده العودة إ

.. الذكريات المحفورة فى ذهنه بالدم والبارود

من أين لجيلك يا ولدى أن يعرف تلك األهـوال التـى

.. عشناها

مهما قرأتم فى الكتب واستمعتم إلى الروايـات، فـإن

. شيئا ال يمكن أن يفلح فى تصوير تلك األيام

بشرى أن يتصـور ذلـك ال أعتقد أن فى إمكان عقل

الذى حدث خالل أكثر من ثالثين عاما مـن حكـم هـؤالء

ال يمكـن ألى عقـل .. األعداء الذين تطردهم بالدنا اليـوم

بشرى أن يتصور تلك الطريقة التى دخلوا بها إلـى مدينـة

.. طرابلس عندما احتلوها ألول مرة

" نزهـة بحريـة " لقد ظنوا أنهم جاءوا فيما أسـموه

أن يشاهدوا شعبا وقد انتفض بكل رجاله لمقاومتهم، فأرعبهم

وعلى طريقة الجبناء لم يجدوا أمامهم إال األطفـال والنسـاء

.. والعجائز ينتقمون منهم

أرسلوا بجنودهم إلى المزارع التى تحيط بالمدينة وإلى

األحياء والمساجد واآلبار وعيون الماء يقتحمـون األكـواخ

الرصاص كل طفل وكل امرأة والبيوت واألسواق يمطرون ب

وكل شيخ عجوز وكل رجل أعيته العاهة أو المـرض عـن

. الحركة

لم أكن قد التحقت بعد بالمجاهدين، فلم أكن فى عـرف

المجتمع سوى طفل من األطفال الذين يذهبون إلـى الكتـاب

. لتعلم القرآن

وذات يوم كنت أحضر صالة الجمعة بالمسجد، وما إن

رجنا إلى الفناء حتى فوجئنا بعساكر الطليان أتممنا الصالة وخ

يطوقون المسجد بعرباتهم من كل جانب، ثم بدءوا من فورهم

.. هكذا دونما سبب أو دافع أو مبرر .. يمطروننا بالرصاص

حتى إمام المسجد تجنب أن يذكر فى خطبته شيئا عن الغزو

انهمر الرصاص كالمطر فوق رؤوسـنا، .. مداراة لشرورهم

ى أسقط بين مئات الرجال واألطفال الذين ارتموا وجدت نفس

فوق األرض بعد أن حصدهم رصـاص الطليـان، كانـت

إصابتى خفيفة، ولكننى تظاهرت بالموت، أغمضـت عينـى

وجعلت أنفاسى تتجمد وكأننى جثة هامدة، ودسسـت رأسـى

بين األجسام التى تكدست من حولى حتـى عنـدما جـاءوا

ين سقطوا للتأكـد مـن مـوتهم يركلون بأقدامهم الشهداء الذ

ويركلوننى معهم لم أتحرك أو تصدر عنى آهة واحـدة، ثـم

سمعت عرباتهم تنطلق بعد أن أكملوا المجـزرة، وسـمعت

الصراخ والعويل فقد انتشرت األخبار وخرجـت األمهـات

واألرامل صارخات ناحبات يبحثن عن أبنائهن وأزواجهـن

صدق أننى فعال قـد الذين حصدتهم نيران الطليان، لم أكن أ

رفعت رأسى ألرى القتلى وهم مطروحـون فـوق .. نجوت

فهذا الشيخ قريـب والـدتى .. كنت أعرفهم جميعا . األرض

وهذا الصبى صديقى وابن جار لنا، وآخر زميلى فى الكتاب،

وهذا الرجل الطاعن فى السن هو صاحب دكان البقالة، وهذا

ث أبكـى وأنـا هو إمام المسجد، جلست فى مكانى بين الجث

أحس بالحقد على هؤالء الوحـوش يصـبح نـارا تحـرق

.. صدري

لم يكن صعبا بعد ذلك أن أهتدى إلى الرجل الذى يعمل

ضابط اتصال بين منطقتنا وبين المجاهدين، والذى تدبر لـى

من فوره بندقية أحارب بها، وأرشدنى إلى استعمالها، كنـت

الذى يقع خـارج أريد أن ألتحق بسرعة بمعسكر المجاهدين

مدينة طرابلس، وقد اقتضى األمر أن أنتظر ثالثة أيام حتـى

يستطيع الرجل أن يؤمن لى الوصول إليهم، وعنـدما حـان

الوقت جاءنى ليال وسألنى أن أستعد للذهاب مع مطلع الفجر

ألن أغلب دوريات الطليان ستكون مشغولة بهجـوم رتبـه

مع الفجر أخـذت المجاهدون فى الطرف اآلخر من المدينة،

بندقيتى، وخبأتها تحت العباءة وسرت فـى الطريـق الـذى

رسمه لى بعد أن زودنى بكلمة السر التى يجـب أن أطلقهـا

عندما ألتقى بحرس المجاهدين، وما إن سرت فـى طريقـى

بضع ساعات حتى الحت لى على البعد دورية من دوريـات

ا جميـع الطليان، كان األمر مفاجأة لى فهاهم بعد أن سـحبو

دورياتهم يتركون هذه الدورية لتقابلنى فى هذا الموقع الذى ال

أجد فيه مكانا آمنا اختبئ به، كانت أشـجار النخيـل كثيـرة

تنتشر من حولى فلم أطل التفكيـر ألنـه ال وقـت للتفكيـر

تسلقت أول نخلة وجدتها بجوارى حتى وصلت إلى .. والتدبر

بفضل هذه النخلة التى قمتها واختبأت بين جريدها، وأنا أحس

اقتربت .. غرسها األجداد تطعمنا من جوع وتأمننا من خوف

سيارتهم من النخلة التى صعدت إليها، أوقفوا السيارة وطافوا

بالمكان يستطلعون الموقع، وعندما لم يجـدوا أحـدا رمـوا

ببنادقهم، وجلسوا فوق العشـب يخرجـون علـب الطعـام

بـى رغبـة كبيـرة ألن المحفوظ يتناولون إفطارهم، كانت

أرميهم بالرصاص فأنا أعرف أننى سأتمكن من قتلهم جميعا

قبل أن يصل أى منهم إلى بندقيته أو يهتدى إلى هذا المكـان

الذى تحصنت به، ولكننى ضبطت أعصابى عنـدما رأيـت

مزارعا كهال، ال بد أنه صاحب هذا البستان جاء للعمل بـين

لعسكرية التـى دخلـت مزروعاته، فوجئ الرجل بالسيارة ا

المزرعة فأدرك الخطر المحدق به، وولى هاربا، ولكن أحـد

.. الجنود الطليان جرى خلفه، وجاء يجـره إلـى أصـحابه

ربطوه إلى جذع النخلة وهم يتضاحكون كـأنهم اصـطادوا

كان الدم قد صار .. أرنبا، وأخذ أحدهم بندقيته وصوبها نحوه

سيطر على غضـبى، لم أعد أستطيع أن أ .. يغلى فى عروقي

وقبل أن يضغط الجندى االيطالى على الزناد لقتل المـزارع

الكهل كانت رصاصاتى قد استقرت فى ظهره تصيب منـه

مقتال، هرول بقية الجنود إلى بنادقهم وقد هالهم األمر، وأخذ

منهم الرعب كل مأخذ يحاولون عبثا معرفة االتجـاه الـذى

.. شماال وجنوبـا .. اجاءت منه النار، وينظرون شرقا وغرب

فال يجدون أحدا، انتهزت فرصة االرتبـاك الـذى أصـابهم

هبطت مسرعا من النخلة .. وأجهزت عليهم الواحد بعد اآلخر

ألفك قيد المزارع الكهل وأسأله أن يرحل فورا عـن هـذه

المزرعة قبل أن يعرف الطليان بأمر جنودهم الـذين قتلـوا،

ولكن لـم .. يأتى معيرجانى أن أنتظره حتى يحضر عياله و

أكن أستطيع االنتظار وأنا أحمل سالحا معي، وصـفت لـه

الطريق إلى معسكر المجاهدين حيث سيجد حمايـة لعيالـه

خلف خطوط المجاهدين، وسيجد من يمنحه سالحا ويدربـه

. على استعماله ليدافع هو أيضا عن أرضه ووطنه

واستأذنته فى الذهاب ثم أسـرعت الخطـى أللتحـق

. المقاومةبصفوف

كانت تلك أولى الخطوات التى خطوتها فـى طريـق

طويل انتهى بى إلى حكم باإلعدام أصدره الطليـان غيابيـا

ضدى، وإلى حياة بعد ذلك فى أرض المهجر دامت لسنوات

.. وسنوات

.. وقامت الحرب العالمية التى هزمت فيهـا إيطاليـا

بجهادنا وجاءت االخبار تقول بأن المجتمع الدولى قد اعترف

وعدت أنا وغيـرى ... وحقنا فى االستقالل وتقرير المصير

من المجاهدين إلى بالدنا التى قالوا لنا إنها قد تحررت مـن

عدنا والفرحة تغمر قلوبنا بعد حياة التشـرد .. ربقة الطليان

والغربة، ولكن الفرحة لم تدم طويال فقد وجـدنا أن أولئـك

طفال والشيوخ ما زالوا هـم الطليان الذين ذبحوا النساء واأل

والمزارع التى اغتصبوها بعد أن قتلوا أهلها ما .. أسياد البالد

. تزال ملك أيديهم

كيف يسمونه اسـتقالال والطليـان مـازالوا يملئـون

ويمتلكـون شـوارعها .. يسكنون أجمـل بيوتهـا .. المدينة

.. وحوانيتها ومزارعها

إال أن أطوى كان العمر قد تقدم بى فلم يعد فى إمكانى

الجراح فى صدرى، وأسأل اهللا أن أرى اليوم الذى تتحـرر

.. فيه بالدى من نير هذا العدو

وها هى قد جاءت الثورة تحقق أملى وتطرد هـؤالء

.. الغزاة

كيف ال تريدنى أن أبكى فرحا، وأنا أرى االسـتقالل

الحقيقى يتحقق اليوم، وأرى األرض تعود إلى أهلها والوطن

. ابنائهيعود إلى

فالحمد هللا الذى جعلنى أرى هذا اليوم لكى أموت بعد

.. ذلك وأنا مرتاح الضمير

قالها المجاهد الشيخ وهو يمد بصره إلى البعيد يحتضن

بعينيه أشجار النخيل التى تقف شامخة تعانق األفـق كأنهـا

رمز لكبرياء هذا الوطن، كان ينظر إليها نظرة حب ووفـاء

ن من بينها نخلـة قـدمت لـه األمـان وعرفان بالجميل أل

. وشاركته ذكريات ذلك اليوم البعيد

قصتان من عنبر األطفال

أدخلته الممرضة إلى عنبر المواليد الجدد، وضـعته

فى عناية فوق السرير، كان يبكى فوضعت فى فمه زجاجـة

الرضاعة، توقف الطفل عن البكاء وتظاهر بأنـه مشـغول

ب الممرضة من طـرف خفـى، بالزجاجة فى حين ظل يرق

غادرت الممرضة العنبر، فتنهد بارتياح كأن الممرضة كانت

جبال فوق صدره، رمى زجاجة الرضاعة من الشباك وقفـز

فر رشاقة من سريره ومضى يطو بـالعنبر يتعـرف علـى

زمالئه الصغار الذين ولدوا منذ لحظات صغيرة مثله طاف

يعا بسالمة الوصول، باألسرة يصافحهم فردا فردا ويهنئهم جم

كانت مفاجأة مفرحة عندما اكتشفت أنهم فى مستشفى الوالدة

ال يعارضون االختالط، وأنهم على عكس المعلومات التـى

كانت لديه يضعون األوالد والبنات فى عنبر واحد، وابـتهج

ألن عددا كبيرا من أطفال العنبر كان من الجـنس اآلخـر،

ب يتعرف إليها، لم يكن لها اسم اختار أكثر البنات جماال وذه

( ومنح نفسه اسما وقال ) ليلي(فمنحها اسما، وقال لها كونى

ولم ينتظر أكثر من هذا فمضى يصارحها ) وأنا مجنونك قيس

بحبه سألته ليلى وزجاجة الرضاعة ما تزال فى فمها إن كان

فى حياته قصص غرامية أخرى فأقسم لها إنها الحـب األول

ا تجاربه السابقة سـوى مغـامرات صـبيانية فى حياته وم

اطمأنت إلى كلماته واستجابت إلى حبـه وأبعـدت زجاجـة

الرضاعة عن فمها وقبلته فى جبينه شكر لها هـذه البـادرة

وصارحها بأن هذا العنبر يبعث فى نفسـه القلـق والضـيق

واقترح الذهاب إلى مكان شاعرى يليق بعاشـقين صـغيرين

ذى ال يوحى بأية شاعرية تمنعت قليال بدال من هذا المكان ال

وقالت له إن فى عائلتها رجـاال يمتلئـون جهـال وتعصـبا

وانغالقا وإن لها أبا يعيش متخلفا عـن عصـره بعشـرات

القرون وإن له عقلية متحجرة ترفض االعتراف بمبدأ تحرر

المرأة وخروجها سافرة والتقائها بمن تحب، إن خروجها معه

أحد يدرى عواقبها، وهم الطفل الذى ولـد سيكون مغامرة ال

منذ لحظات قصيرة أن ينفض يده من أمرها ويـذهب إلـى

واحدة أخرى يصارحها بحبه ويجعلها لياله، إال أنها سرعان

ما استدركت قائلة إنها تغامر بكل شئ فى سبيل حبها، شـبك

يده فى يدها وقفز بها من النافذة وانطلقا يعدوان فى الشوارع

حتى ابتعدا عن المستشفى ووقفا فى زاوية مهجـورة الخلفية

من أحد الشوارع يلتقطان أنفاسهما، ويفكران فى أنسب مكان

يذهبان إليه، كانت المشكلة أنهما ال يعرفان شيئا عـن هـذه

المدينة، فهذا هو يومهما األول فى الحياة وأنه البد من طريقة

يا به سهرة ما يتعرفان بها إلى مكان آمن يستطيعان أن يقض

طيبة قبل أن يعودا فى آخر الليل إلى عنبر األطفال اقترحت

عليه أن يشترى الصحيفة ليتعرفا على برامج المساء والسهرة

وأماكن الفسحة واللهو ويضعان من خـالل ذلـك برنامجـا

للوقت الذى يقضيانه معا، أعجبته الفكرة وذهب مهروال إلى

ة وعاد إليها يقلبان أقرب كشك لبيع الصحف، اشترى الصحيف

ء إلى أمـاكن صفحاتها ويبحثان معا عن دليل يهتدى به القرا

الترويح والفسحة والسهر لم يكن فى الصحيفة شئ من هـذا

القبيل أعادا تقليب الصحيفة مرة أخرى، كان األمر عجيبـا،

أين يذهب الناس فى أوقات فراغهم، كل أبـواب اإلعالنـات

تتحدث عن أناس يعدلون أعمارهم وآخرين يعدلون أسماءهم

ات فـأين إذا وتعازى وتهانى ثم عطاءات، عطاءات، عطاء

يذهب الناس؟

كانت ليلى خائفة، وزادتها الصحيفة خوفا، وكانـت

ترى أن من الحكمة العودة السريعة إلـى عنبـر األطفـال

وزجاجة الرضاعة فليس هناك ما يوحى بأن فى هذه المدينة

مجاال للفسحة والسهر واالستمتاع بالحب والحياة، لكن حبيبها

لتردد رأى على البعـد مقهـى، الصغير لم يترك لها مجاال ل

فأخذها من يدها وقادها إليه، وما إن جلسا إلى المقهى حتـى

ترك األعمال المقهى اعمالهم وترك رواد المهقى مقاعـدهم

وعقدوا من حولهما دائرة ويقوا ينظرون إليهما فى انـدهاش

فمنظر ولد يدخل مع فتاته إلى المقهى كان شيئا يثير الدهشة

سكان العمارات المجاورة للمقهى بأن بنتـا والفضول، وسمع

تجلس هناك، فخرجوا بلباس نومهم يتفرجـون علـى هـذا

المشهد، وتكون من حولهما زحام كبير كان يزداد كل دقيقة،

وهما يرتعشان خوفا ورعبا، وال يعرفان سببا لهـذا الزحـام

الكبير وهذه األعين المفتوحة كالفناجين تضـرب حصـارا

أمامهم سوى الهرب فأخذ الطفل لياله مـن حولهما ولم يكن

يدها وتسلال من تحت أقدام الناس، وذهبا عدوا حتى ابتعـدا

عن الزحام، ووقفا ينظران إلى بعضـهما فـى انـدهاش، ال

. يعرفان تفسيرا لما حدث، قالت ليلى فى أنفاس متهدجة

ماذا لو سمع أبى؟

ماذا لو سمع؟

! سيقتلنى أيها األبلة

ن يعيدها إلى العنبر، وأن يتخلى عن أوهام وطالبته بأ

الحب فى هذه السن المبكرة وأن ينتظرها حتى تكمـل سـن

الرضاعة وتبدأ فى الذهاب إلى الروضة، حيث يسـتطيع أن

يلتقى بها أمام بوابة المدرسة، فهذا أضمن وأسلم، لكنه مضى

يرجوها أن تصبر قليال، وأن تكون أكثر شجاعة ووعـدها

يارة فى أقرب فرصة يتجوالن بها، ومر مـن بأن يشترى س

أمامهم رجل وامرأة فاقترح عليها أن يتبعاهما فال شك أنهما

يعرفان مكانا للسهر وهما اآلن فى طريقهما إلى، انطلقا وبعد

مسافة صغيرة وجدا نفسيهما فى السوق، إذن فالسـوق هـو

مكان السهر والمتعة واللهو والسياحة فى هذه المدينـة كـان

ألمر مخيبا لآلمال، لكن ما باليد حيلة، وجدا جهازا لإلذاعة ا

المرئية بواجهة أحد المحالت، فوقفا أمامه يشاهدان تمثيليـة

كان يعرضها كانت التمثيلية تتحدث عن الحب، وتحكى عـن

رجل وامرأة يعيشان تجربة عاطفية مثيرة أدخلت التمثيليـة

ـ ا الطمأنينـة، السعادة على قلبيهما الصغيرين، وأعادت لهم

فالحب ما زال بخير فى هذه المدينة ما دامت إذاعتها تحتفـل

به وتعرض عنه أشرطة للناس، وانتهت التمثيلية فجاء شـيخ

فاضل على وجهة عالمات الصالح والهداية يقدم درسا دينيا،

وقفا يشبكان أيديهما فى حب ومودة وينصتان إلـى فضـيلة

عالمات رقى المجتمع هذا الشيخ بسعادة، فقد كان عالمة من

التعايش والتجانس على الشاشة الصغيرة بين حديث فى الدين

وتمثيله عن الحب، لكن شيخ اإلذاعة المرئية مـا أن رآهمـا

حتى استشاط غضبا، وتخلى عن درس الدين وصار يصرخ

فيهما، وينعتهما بأقبح النعوت ويمـد يـده خـارج الشاشـة

ى مجيئهما إلى السوق على الصغيرة ليمسك بخناقهما ويرى ف

هذه الحالة وتشابك أيديهما مروقا علـى الـدين واألخـالق

وفجورا ودناءة ثم بصق فى وجهيهما، مسـح كـل منهمـا

البصاق عن وجهه، لكنه لم يكتف بهذا فقـد أخـذ يصـرخ

ويستنجد برجال الشرطة والمطافئ واإلسعاف والمـرور، أن

ريـة، يضـمون هـذه يأتوا جميعا بسياراتهم ودراجاتهم النا

التى تتجول فى األسواق، انهمر الطفل فى بكـاء ) الرذيلة (

متواصل، وأصاب الطفلة الصغيرة رعب ال حد له فمضـت

وجرى وراءها الولـد ) ماما ماما ماما (تجرى وهى تصرخ

وسحبها من يدها حتى أخرجها من السوق، ومضى مهـروال

الفضـيحة حتى وصل بها إلى مستشفى الوالدة، كانت أخبار

قد وصلت إلى المستشفى وكان أهل الطفلين قد تبرءوا منهما

ورفضوا استالمهما، وجمع مدير المستشـفى هيئـة مكتبـه

يفكرون معه فى طريقة للخروج من األزمة والتخلص مـن

هذين الطفلين المارقين، وبعد نقاش استغرق ساعات طويلـة

!ى قررت إدارة المستشفى أن تحيل أوراقهما إلى المفت

كالب ال تعض

لم يعد أمامي غير حل واحد، هـو أن أجـد كلبـا

. يعضني

ذابت النقود القليلة التي أحضرتها معي مـن دولـة

صحارستان يوم أن يممت صوب لندن بغـرض االلتحـاق

بعمل يعينني على مواصلة الدراسة العليا، وأهـداف جانبيـة

ي أخرى تتصل بالبحث عن حلول ألمراض الكبـت العـاطف

والجنسي التي تصيبنا بها المدن الصحراوية الموحشة، وهي

أهداف صرت أخجل من ذكرها أو التفكير فيها حتى بينـي

وبين نفسي بعد أن تضاءلت حالتي إلـى حـد الفشـل فـي

. الحصول على كسرة الخبز

راودتني فكرة العودة إلى صحارستان بعد أن أخفقت

ومخـازن في الحصول على عمل لدى أصـحاب المطـاعم

الغالل، ممن يستخدمون العمالة الرخيصة غير القانونية، ولم

يكن ممكنا بطبيعة الحال أن أستعين بإجازة الحقـوق التـي

أحملها، ألن من يطلب عماال في مجال نقل الغالل وتعبئتهـا

في األشولة، وتنظيف المخازن والمطابخ ال يأبه لمثل هـذه

.الشهادة أو يعترف بخطورتها

وامتنعـت . ازلت أحتفظ معي بتذكرة العودة كنت م

في األيام األخيرة عن شراء أي طعام غير الخبز الحاف، كما

امتنعت عن استخدام المواصالت العامة لكـي أدفـع أجـرة

، وهـي منطقـة "كالبهام " سريري في بيت الشباب بمنطقة

فقيرة يسكنها الزنوج والهنود الذين كنت أرى فقـرهم ثـراء

كنت قد قررت الرحيل عن لنـدن . إليه أمري بجوار ما آل

والتخلي عن أحالم الشهادة العالية في القانون الدولي والترافع

أمام المحاكم األجنبية باللغة اإلنجليزية، فقد جئت إلـى هـذه

البالد الجئا علميا يبحث عن الشهادة العالية، والجئا اقتصاديا

لعالم الثالث يبحث عن مستوى معيشي أرقى مما توفره دول ا

لفقرائها، والجئا عاطفيا يبحث عن صدر امرأة ناعمة يـدفن

فيه كبثه وحرمانه، والجئا لغويا يبحـث عـن لسـان ثـان

يتخاطب به مع كائنات االنترنت، ويستخدمه إذا داهـم بيتـه

الغزاة القادمون من الفضاء الذين ال يجيدون سوى لغة األفالم

ن مساحة للشهيق والزفير األمريكية، والجئا سياسيا يبحث ع

ال تتيحها التقاليد العريقة التليدة في صحارى بنـي قحطـان،

وهاهي لندن توصد أبوابها في وجهي ألعود بال شـهادة وال

لغة وال نقـود وال عـالج لمشـاكلي العاطفيـة والجنسـية

والسياسية واالقتصادية والعلمية، وال أجد وسيلة أبـدد بهـا

في صدري، غيـر أن أذرفهـا سحائب الضيق التي تتراكم

عبرات ساخنات ساعة الظهيرة، عندما أعـود إلـى العنبـر

الفارغ الذي خال من ساكنيه الليليـين، أبكي حظـا عـاثرا

يطاردني، و يحول بيني وبين هذه الفرصـة التـي الحـت

سأنتظر نهاية األسبوع، بأمل أن يحـدث . للتحرر واالنعتاق

ر االنكفاء راجعـا مـن شيء يفك أزمتي، وإال فال خيار غي

. حيث أتيت، حامال معي حصــاد الخيبة والفشل

أراحني كثيرا البكاء في اليوم األول فعدت في اليوم

التالي بعد جولة فاشلة بين األندية والمطاعم بحثا عن عمـل،

ألمارس طقس البكاء بحرقة أكثر هذه المرة، ولكـن سـوء

ضع فـي طريقـي الحظ الذي ال يطيق فراقي أبدا شاء أن ي

رجال يغني فرحا، ويعود إلى العنبر في وقت ال أحد يعود فيه

إليه، ورغم أنه كان يضم أمتعته ويضعها في حقيبة قديمـة،

إال إنه بدا غير مكترث بالوقت، ثم أوقـف الغنـاء والتفـت

نحوي يخاطبني بحديث ضاحك لم أفهم منه كلمة واحدة، ولم

كنت قد باشرت أكل نصف أستطع أن أتكهن بأية لغة يتكلم،

الرغيف اليابس الذي احتفظت به منذ األمس فـي حقيبتـي،

وأبلغته بلغة اإلشارة وبفم ملـيء بالطعـام ال يجيـد نطـق

اإلنجليزية عدا بعض الكلمات القليلة الدارجة، إنني لم أفهـم

شيئا مما يقوله، فتقدم مني رافعا كم سترته عن ذراعه، فظهر

ألبيض، شارحا بكلمـات إنجليزيـة معصمه ملفوفا بالشاش ا

مصحوبة بقهقهاته العالية وتقليده لعواء وحركـات الكـالب

قصته التي عرفت منها أن كلبا عضه فـي معصـمه هـذا

الصباح، وكان حزينا غاضبا في بادئ األمر، ولكنه عنـدما

عرف الحقوق التي ترتبت له نتيجة هذه العضة تحول حزنه

ث معه منذ أمد بعيـد، فقـد إلى فرح، وتمنى لو أن ذلك حد

صار من حقه اآلن أن يحصل على إيواء في مكـان مـريح

وعالج وطعام لمدة ثالثة أشهر حتى يتأكد لـديهم أن تلـك

العضة لم تترك أي أثر في صحته، مع مبلغ لم يكـن يحلـم

بامتالكه تعويضا عما عاناه من متاعـب وآالم، وهـو اآلن

.ي ستنقله إلى مأواه الجديدبانتظار سيارة الجمعية الخيرية الت

قال قصته بطريقة ممزوجة بالرقص والغناء، غيـر

مصدق وهو العامل البسيط القادم من طوابير الجوع والبطالة

في النيبال، المهدد بأن تشحنه الشرطة اإلنجليزية إلى بـؤس

الشوارع الخلفية في كاتمامندو أنه قد صار اآلن تحت رعاية

ه األمن والحماية وتطعمـه وتكسـيه جمعية إنجليزية توفر ل

. وتؤويه لثالثة أشهر قابلة للتجديد

لم أتركه يكمل حديثه فقد غـادرت العنبـر عـدوا،

تغمرني أمواج من السعادة وتحملني فوق ظهرها وكأنني أنا

كم كنت . الذي عضني الكلب ال رفيق العنبر القادم من النيبال

ة التي تكفل لـه ساذجا غشيما، ال يعرف أن الحلول السحري

الحياة الهانئة الكريمة تحت أقدامه، وهو غافل عنها، غـارق

في بؤس أفكاره وكوابيسه، يهيئ نفسه للرجوع إلى العـوالم

القاحلة الماحلة التي هرب منها، في حين أن عوالم البهجـة

والفرح قريـبة دانية، ال تفصل بينه وبينهـا، غيـر عضـة

ائق لنـدن وأكثرهـا قررت أن أذهب إلى أشهر حـد . كلب

استخداما من قبل األغنياء والموسرين ممن يسكنون األحيـاء

الراقية المحيطة بها كما قرأت وسمعت، وهي حديقـة هايـد

فلو أن كلبا يعضني من كالبها لحظيت بحياة ومعاملة . بارك

. أرقى كثيرا مماسيحظى بهما الرجل النيبالي

يمثل ذروة كان الجو بديعا خاليا من السحب السوداء،

أيام الربيع في عاصمة الجزر البريطانية، وكان بعد الظهيرة

موعدا مناسبا لهؤالء المتقاعدين من شيوخ وعجائز األحيـاء

لـيس صـعبا أن . المجاورة للتنــزه بكالبهم في الحديقـة

أتخير رجال أو امرأة ممن تبدو عليـه أو عليهـا مظـاهر

وأسـتفزه حتـى الوجاهة والثراء وأعاكس كلبـه أو كلبهـا

يعضني، غير أن أغلبهم يمسكون بسيور طويلـة موصـولة

بأطواق جلدية تحيط بأعناق الكالب، مما يتعذر معه االنفراد

ولكي أكون عمليا فقد تخليت عـن فكـرة . بالكلب الذي أريد

اختيار الكلب الذي سيعضني أو باألحرى اختيـار أصـحابه

كلب مـن وركزت على الهدف األساسي وهو أن أجعل أي

. هذه الكالب المتناثرة في أرجاء الحديقة الواسـعة يعضـني

خاصة هذه الكالب التي تتجول حرة دون رباط، والتي يمكن

اقتناصها بعيدا عن أعين أصحابها وأعين رواد الحديقة، فـال

ينـتـبه أحد منهم إلى ما يحدث إال بعد أن ينشـب الكلـب

التي سأبذل أظافره في معصمي وتنطلق من فمي الصرخات

جهدي كي أجعلها مدوية قوية قادرة على أن تصل إلى أذني

وحيث إننـي . الملكة نفسها التي يجاور قصرها سور الحديقة

أستخدم اليد اليمنى في أداء كافة المهمـات التـي يحتاجهـا

اإلنسان من يده، فقد كان أمرا طبيعيا أن يقع اختياري علـى

فهي يـد قليلـة الخبـرة يدي اليسرى للقيام بهذه التضحية،

والمران، عاطلة أغلب الوقت عن العمل، ولن أكون ظالمـا

غير أن عمرا . لها عندما أطلب منها أن تساعدني في محنتي

قضته وهي تنعم بالبطالة والتدليل ال يمكن أن يمضي دون أن

يترك أثرا، ألنها ما إن تلقت األمر باالستعداد للمهمة حتـى

أحسست . هيب من تقديم هذه التضحية بدت حرونا، شديدة الت

بها باردة متخشبة تكاد تتجمد خوفا من هول المهمـة التـي

كلفت بها، فحمدت اهللا أنها ليست حرة فيما يمكن أن تفعله أو

ال تفعله بنفسها، وأن هناك قوة أعلى تتحكم في تصـرفاتها،

ومهما اعتراها من خوف وعجز، فإنني أملك من اإلرادة مـا

. عل أي شيء مهما بدا مؤلما أو مرعبا بالنسبة لهايجعلها تف

استطعت أن أسيطر على خوف يدي، وأمنعها بحزم

من التردي في هذا الوضع المهين، ألن هناك أهدافا كبـرى

تتصل بمستقبل حياتي يتوقف نجاحها على األداء الجيد لكـل

بدءا بالطريقة التي أستخدمها لجذب انتبـاه . أطراف جسمي

فيدا من كل ما تملكه مالمح وجهي من قدرة على الكلب مست

التمويه والمخاتلة والخداع وما تملكه األعضاء الموجودة في

فمي كالحلق واللسان واألسنان من قدرة على التفنن والتلوين

في إخراج األصوات ورسم أنواع من التعبير تتـراوح بـين

االبتسام والضحك إلى العبوس والتكشـير، وفقـا السـتجابة

الكلب، مع مجاراته في المشي والهرولة بطريقـة ال بـد أن

تتقنها قدماي وساقاي ومداعبات ومعاكسات ال بد أن تشارك

فيها اليدان بأصابعهما العشرة والذراعان والمرفقان والكتفان

وقد يحتاج األمر إلى االستعانة ببقية أجزاء الجسم، وصـوال

فيها اليد اليسـرى إلى اللحظة الفاصلة الحاسمة التي تتحرك

بخفة ورشـــــــاقة وبراعة في التوقيت والتصويب،

أعطيت لنفسي فرصـة أن . لتضع معصمها بين أنياب الكلب

أتجول لمدة ساعة أو ساعتين في أنحاء الحديقـة أسـتعرض

الكالب الموجودة بها قبل أن أحدد الكلب الذي أجعلـه هـدفا

األبهى، إذ ليس من الستفزازي وبابا أدخل منه إلى عالم الغد

الحكمة أن أقفز باتجاه أول كلب ينــزوي خلـف إحـدى

األشجار وأنتظر نجاح المهمة، فالمجازفة ممنوعة في مثـل

هذه القضايا المصيرية، والفشل ال محل له فـي مثـل هـذه

العمليات التي تتصل بتأمين لقمة العيش، ولهذا فإن كل شيء

. ال بد أن يتم بعناية وإتقان ودهاء

سرت متمهال عبر الطرقات المرصوفة التي تشـق

ألول مرة انتبه لغـزارة التنـوع . أعشاب الحديقة وأشجارها

ال أدري إن كنت قد رأيـت فـي . والتعدد في عالم الكالب

حياتي كالبا بكل هذه األشكال واألحجام واأللوان، حتـى إن

كنت قد فعلت، فإن وجودها في مكان واحد بهذا العدد الكثيف

كلها نظيفة، يتوهج فروها النـاعم . ل األمر مثيرا للدهشة يجع

الحريري تحت شمس الحديقة، وقد بدا واضحا أن أياد حنونة

عطوفة هي التي اعتنت بحمامها وتمشيط شعرها ومنحتهـا

من عطفها وحنانها ما يجعلها هانئة سعيدة، وتـأتي لتمـرح

فوق أعشاب الحديقة وهي مطمئنة آمنـة، ال تـدري طبعـا

وجود واحد مثلي يتحين الفرصة لإليقاع بواحد منها وجعله ب

في نظر القانون مجرما، ألن ما يترتب لي من حقوق نتيجـة

العضة سيترتب مقابلها عقوبات للكلب الذي سيجري التحفظ

عليه ودراسة حالته الصحية والعقلية، وقد يتم اعتباره كلبـا

لـى ان انتبهـت إ . مجنونا يستحق اإلعدام رميا بالرصاص

أفكاري ستدخلني إلى زقاق ضيق من التحسر واألسى علـى

مصير الكلب الذي سيعضني مما قد يوهن عزيمتي ويضعف

اإلرادة التي أريدها قوية حازمة تأمر اليد الحـرون فتطيـع

مرغمة ذليلة، فتوقفت عن التفكير ووجـدت مقعـدا فارغـا

أحسست بشيء من الراحة وأنـا أمـنح . رميت جسمي فوقه

افي فرصة أن تتمدد دون عائق فوق هذا المقعد، خاصة أطر

ذراعي األيسر الذي كان شديد التوتر، إذ تحرر تمامـا مـن

توتره بمجرد أن ألقيت به دون مباالة فوق المسـند الطويـل

وأعفيته للحظات قصيرة من مشقة أن يتدلدل بجوار جسمي،

ني الحظت أن . أثناء ساعات المشي، حامال تلك اليد المذعورة

لم أسمع خالل هذه الساعة التي قضيتها في الحديقة أي نباح

يصدر عن كلب من كالبها، ورغم أنني تفاءلت خيرا بهـذا

االمتناع عن النباح تمشيا مع المثل الشعبي الذي يقول بـأن

الكالب التي تنبح ال تعض، إال أن األمر بدا مخالفا لنواميس

أعرف طبعا أن . حةالطبيعة التي جعلت الكالب حيوانات ناب

كالبنا غير كالبهم، فأنا ال أذكر أنني شاهدت قبل وصـولي

إلى هذه المدينة كلبا واحدا بهذا الجمال وهذه النظافة واألناقة،

يدلـله أصحابه بمثل ما يفعل هؤالء الناس الـذين يتركـون

مشاغلهم من أجل التـنـزه بالكالب والترفيه عنها لكـي ال

أعرف الكالب في قريتـي إال كائنـات تصيبها الكآبة، و ال

شديدة القبح والوساخة، عابسة على الدوام، مكشرة عن أنيابها

استعدادا لالفتراس، ترمز للدنس والنجاسة، نسـتخدمها فـي

حراسة الماشية ولكننا نخاف غدرها وشراستها ونخشـى أن

نـتلوث بأوساخها أو يلحقنا األذى مما تختزنه في شـعرها

اثيم، ولذلك فنحن ننعتها بأنها بصقة إبلـيس من حشرات وجر

ونسحب هذا النعت على كل كالب العالم بما في ذلـك هـذه

الكالب األنيقة المهذبة التي تمأل من حولي الحديقـة والتـي

أسعى ألن أحصل على رزق هانئ كـريم عـن طريقهـا،

وأطلب اهللا وألح في الطلب والدعاء أن يرزقني اآلن بواحـد

يتعطف ويعض يدي عضة قوية ممتازة تبـرر منها، يتكرم و

حصولي على أكبر قدر مـن عطـف وعنايـة المؤسسـات

وكأنما استجاب اهللا لدعائي فإذا بكلب يظهر فجـأة . الخيرية

رفعت رأسي فإذا بـه يقـود . أمامي ويقف تماما عند أقدامي

رجال كفيفا جاء قاصدا به الجزء الخالي من المقعد الطويـل

ان كلبا كبير الحجم من كالب الحراسة، ك. الذي جلست فوقه

تلوح عليه عالمات النبل والوقار، له لون أبـيض، ناصـع

كنت قد سحبت بسـرعة . البياض، كأنه مغسول بماء الفضة

ذراعي ألتيح للرجل الكفيف أن يجلس دون أن يصطدم بـه،

وأنا أرنو إليه دون وجل، مدركا أنه لن يستطيع رؤيتي مـن

ورغم عاهته فقد بـدا . لسوداء السميكة خلف هذه النظارات ا

بالغ األناقة، مثاال في هندامه للرجل اإلنجليزي التقليدي، بذلة

مقلمة بطقمها الكامل بما في ذلك الصديري وربطـة العنـق

ذات الخطوط البيضاء والسوداء انسجاما مع شـكل البذلـة،

والقبعة ذات اللون الرمادي والحـواف الطويـل العريضـة

صر الفيكتورى والشارب الكثيف الذي يدور مـع كرجال الع

الوجه حتى يختلط بشعر الفودين، وأضافت النظـارة لمسـة

أخرى من الفخامة والثراء لمظهرة، بإطارها الـذهبي الـذي

لمع بريقه تحث الشمس كأنه يعوض لهذا الرجل بريق عينيه

اطمأن قلبي لمكانة الرجل وقدرته على إعـالتي . الذي انطفأ

أقعى الكلب . ر أن تفي الجمعيات الخيرية بهذا االلتزام إذا تعذ

تحـث ) أو الكلبة فأنا لست خبيرا في التمييز بين االثنـين (

قدمي صاحبه، الذي ظل ممسكا بسير الجلد الموصول بالكلب

. في يده وباليد األخرى أمسك بكتاب فخم التجليد كبير الحجم

يقـة وعلـى طر . كان رأس الكلب على مسافة ذراع منـي

الكالب في االسترخاء والخلود للراحة، صار يفتح فمه ويمد

لسانه الهثا، متالحق األنفاس، فبانت أنيابه بـارزة مدببـة،

قادرة على اختراق اليد لحما وعصبا وعظما، وقد تدور معي

عجلة الحظ دورة جليلة عظيمة فتجعل هذه األنياب تصـيبني

لـة ورزقـا بعاهة دائمة في معصمي تضمن لي رعاية كام

أحسست بألفة شديدة مع أنياب الكلب، . موصوال مدى الحياة

وأيقنت بأن عالقة قدر ومصير ستربط بينـي وبـين هـذه

األنياب وصاحبها وصاحب صاحبها، وراودت عقلي وقلبـي

أحالم عريضة شحنتني بالطاقة الالزمة ألداء المهمة ومباشرة

تمالته وكسـب الخطوات العملية التي تبدأ بالتودد للكلب واس

ثقته، حتى يأنس لي ويألف مداعباتي واقترابي الشديد منـه،

قبل االنتقال إلى المرحلة الثانية وهـي االنقضـاض عليـه

. بحركة تباغته وتؤلمه وتدفعه الستنفار وسائل الدفاع لديـه

ستكون الحركة التي أقوم بها سريعة وبارعة ال يمكن ألحـد

ال يصدر عنها أي صوت أن يراها مهما كان قريبا، وصامتة

يثير شبهة الناس أو انتباههم بما في ذلك الرجـل الكفيـف،

ومؤذية كريهة ال تترك أمام الكلب مجاال غيـر أن يسـتخدم

أنيابه ويغرزها بقوة في معصم يدي اليسرى التي ستكون قد

سبقت األحداث والتصقت تمام االلتصاق بفمـه فـي حالـة

. بصحة وسالمة معصـمها استعداد ألداء المهمة والتضحية

سأشد شعر رأسه مثال بطريقة تؤلمه وتؤذيه أو التقط عـودا

وأغرزه في أذنه واضغط عليه حتى يالمس بوخزاته المؤلمة

طبلة األذن أو أتظاهر بأنني أداعبه وأضغط بأصابعي علـى

عنقه حتى يشعر باالختناق أو أي شيء آخر يكون مصدر ألم

.فظيع لهذا الكلب

أربت بها على رأسه، وأمرر أصـابعي مددت يدي

في حب وحنان عبر فروته الناعمة التي تفوح منـه رائحـة

الشامبو، وأدندن له بالحان مرحة سـريعة اإليقـاع تطربـه

.وتدخل السعادة على قلبه

اقترب الكلب برأسه مني، وانحنى يمسح وجهه فـي

ساقي وركبتي دليل األلفة والوداد، رأيته يهز رأسـه شـماال

مينا ويتراقص بذيله مع دندناتي، فأيقنت أن التفاهم بينـي وي

وبينه سيكون على أكمل وجه، وسأنال ما أريـده منـه دون

عنت أو مشقة، وانتبه صاحبه إلى ما يدور بيني وبين كلبـه

:من مالطفة ومداعبة، فأدار رأسه نحونا قائال

.ـ جيمي

:وقبل أن استوضح منه عما يعنيه أضاف

. ـ هذا هو اسمه

أراد الرجل الكفيف أن يكمل هذا الركن من أركـان

التعارف بيني وبين الكلب، فقدمه لي ذاكـرا اسـمه حسـب

التقاليد اإلنجليزية، ولم أكن أريد أكثر من ذلك ألحقق تواصال

أخـذت علـى الفـور . حميما وعميقا مع هذا الكائن النبيل

أخاطب الكلب باسمه وأضيف إلى االسم كلمـات إنجليزيـة

دارجة مثل عزيزي جيمي، هالو جيمي، كـم أنـت لطيـف

وأعطيت نفسي مرونة الحركة فوق . وجميل يا جيمي العتيق

المقعد لتسهيل مهمة جيمي وهو يستجيب لمداعباتي ويحاول

ان يتسلق جسمي واقفا على قدميه الخلفيتين، رافعا األماميتين

أن في الهواء، أو واضعا إياهما على حافة المقعد، إلى حـد

أحس صاحبه بما اعترى كلبه من نشـاط وحيويـة، فنهـره

:قائال

. ـ ال تكن ولدا شقيا يا جيمي

قال ذلك بلهجة ودودة شجعت الكلب على التمادي في

اللعب، وشجعتني على أن أبالغ في إظهـار حبـي للكلـب،

واستعدادا لالنتقال إلى المرحلة التالية، دفنت رأس الكلب في

مي فوقه كأنني أعانقه عناق األحبـة، صدري، وانحنيت بجس

بينما كنت في الحقيقة أمسك بطوق الجلد الذي يحيط بعنقـه،

كي أضغط به على شرايين الرقبة ضغطا قويا إلى أن يشعر

ألقيـت . برعب الموت اختناقا وتأتي ردة الفعل قوية وحاسمة

قبل أن أفعل ذلك نظرة سريعة على الحديقة، فوجدتها تسـبح

مل، يوحي بعمق العالقة التي تجمع بين البشـر في سالم شا

ولكن من قال إنني االستثناء لهذا كله، ربما كـان . والكالب

العكس هو الصحيح، وأن ما أفعله، حتى وإن اتخـذ شـكال

مغايرا، ال يعدو أن يكون نوعا من أنـواع الحـب للكـالب

واإليمان بأصالة وبهاء هذه الكائنات النبيلة، بدليل أنني جئت

جئا إلى كريم عطفها عندما ضاقت أمامي سبل العـيش، ال ال

أطلب منها غير شيء يسير لن يكلفها عنـتا وال ألما، هو أن

.يعضني واحد منها

بدأت فعال أحكم قبضتي على عنق الكلب، ومبالغـة

في الحيطة والحذر، ازددت انحناء فوقه، تاركـا أصـابعي

يراها كـائن تغوص تحت فروته، بحيث ال أترك مجاال ألن

من كان تضغط بقوة على الطوق، في حـين تهيـأت اليـد

اليسرى للقيام بمهمتها وأبقت معصمها جاهزا لاللتقاء بأنياب

.جيمي لحظة الغضب واالفتراس

أحس الكلب بقوة الضغط على عنقه، فصار ينـتفض

في حضني، وقبل أن يطلق نباحـه المخنـوق، ويمـد إلـى

ق فوق رأسي صوت امـرأة، معصمي أنيابه الغاضبة، انطل

:آمرا حازما مدويا كأنه قادم من فوهة بندقية

. ـ هل تسمح من فضلك

وتجمدت بالتالي أصابعي التـي . تجمدت في مكاني

كانت تخنق الكلب، كما تجمدت يدي اليسرى الممدودة أمـام

فمه، وتجمدت نظراتي والتصقت بوجه المرأة التـي ألقـت

. ء الشمسبظلها فوق جسمي وحجبت عني ضو

كيف تراها كشفت سري؟ وبأيـة حاسـة استشـعار

جهنمية أدركت فعلتي؟ انتشل الكلب نفسه من قبضتي وانطلق

أراد أن يجري وسط الحديقة غير أن الرباط في . هاربا يعوي

فوقف ينصب أذنيه ويرفع رأسـه . يد صاحبه منعه من ذلك

.وينظر نحوي بغضب وحقد

سوداء، والوجه العابس والمرأة ذات البذلة الرسمية ال

المغلق، واقفة تحدجني بنظرة ازدراء، قبل أن تسألني بـذات

.اللهجة اآلمرة الناهية المتعالية أن انهض من مكاني

البد أنها ستقودني إلـى أقـرب مخفـر للشـرطة،

وسيعاملونني هناك باعتباري مصابا بجنون اإلجرام، إذ مـن

قود رجال كفيفـا يجرؤ على إيذاء كلب وديع من أهل الخير ي

ويعينه في حياته إال رجل تمكن منه اإلجرام، وأغلق منافـذ

كيف أستطيع أن ألهم أنني لم أشأ خنقه وإنمـا . عقله الجنون

سيضحكون من مثـل هـذا . استفزازه من أجل أن يعضني

. االدعاء األبله الذي سيكون دليال على إدانتي بدال من تبرئتي

جاهدا ان أسيطر علـى وقفت امتثاال ألمرها، أحاول

االرتعاشة الخفيفة التي سرت في جسمي، وأنتظر أن تـدعو

شرطيا يأخذني إلى المخفر، أو تسـتعين بـبعض الرجـال

ولكنني رأيتها بدال من . الجالسين في الحديقة لجري إلى هناك

ذلك، تشير إلى رقعة نحاسية مثبتة على مسند المقعد، تحمل

.مكفوفينسطرا يقول بأنه مخصص لجلوس ال

أخذت نفسا عميقا وأنا أحس بأن هذا السـطر هـو

أجمل سطر أطالعه في حياتي، وكلماته التي تعني نجاتي من

العقاب والفضيحة هي أحلى وأبهى الكلمات، فالمرأة لم تـر

شروعي في الجريمة كما توهمت، ولم تكن غير عضو فـي

جمعية رعاية المكفوفين، تأتي إلى هـذا المكـان لمسـاعدة

. تركت لها المقعد وذهبت . لرجل الكفيف في مطالعة الكتب ا

لم أكن احتاج إال لدقيقة أو دقيقتين إلكمال المهمة بنجاح فائق

لوال ظهور هذه المرأة الحيزبون التي ترتدي مالبس الحـداد

.والتي أفسدت كل شــيء

رغم رهبة الموقف الذي حدث لي فإنني لن أتوقـف

لي وال أمل في حياة لهـا قيمـة عن المحاولة، ألنه ال خيار

ومعنى إال بالعثور على كلب يعضني، حتى لو كـان كلبـا

وديعا برئيا يخدم األغراض الخيريـة ويعـاون المكفـوفين

والمعاقين، ممن ال يليق تجريمه وتعطيله عـن أداء رسـالته

النبيلة، الن إنسانا جائعا مثلي مهددا بالترحيل من هذا البلـد،

فكير في مثل هـذه االعتبـارات األخالقيـة ال يملك ترف الت

.الصغيرة

مضى الوقت، وطالت ظالل األشجار، وأنا أطـوف

الحديقة أبحث عن فرصة تواتيني مع كلب من كالبهـا دون

أدركت أنني لن أستطيع أن أفعل شيئا هذا المساء، فقد . فائدة

استهلك الموقف الذي حدث مع المرأة ذات الـرداء األسـود

تي وأدخلني في حالة من التوتر يصعب معهـا جزءا من طاق

العمل، خاصة وأنني جئت إلى الحديقة مسرعا، دون اتخـاذ

أي ترتيب أو وضع أية خطة لما يجب عمله، معتمدا علـى

سـأعود إلـى . وهذا ما يجب أن أتفاداه غـدا . الحظ وحده

الحديقة بنفسية جديدة، وسأحمل معي خطة محكمة ال تتـرك

يث ال ينتهي النهار إال وأنا ارتاد عالمـا األمور للصدفة، بح

.جديدا سعيدا بإذن اهللا

سلحت نفسـي . وهذا ما فعلته في بواكير اليوم التالي

بقطعة صغيرة من اللحم وضعتها بين شريحتي خبز، ويممت

.صوب هايد بارك

كان الجو مشمسا رغم برودته، وكان رواد الحديقـة

روادها المسـائيين، في هذه الساعات الصباحية يختلفون عن

بدت لي أعدادهن قليلة . إذ لم يكن هناك غير النساء العجائز

وكالبهن أقل، لكن مع انتهاء لذعة البرد المصاحبة لسـاعات

.الصبح األولى أطلت أفواج جديدة من العجائز والكالب

اتخذت مجلسا قريبا من البوابة ارقب منـه حركـة

القريب مـن النـوافير الداخلين إلى هذا الجزء من الحديقة،

وأحواض الماء و جنائن الورد، فهو الجزء األكثـر جاذبيـة

تفاءلت خيرا عندما وجـدت أن . واستقطابا ألصحاب الكالب

اغلب هؤالء النسوة العجائز يعرفن بعضهن بعضا ويصنعن

تجمعات صغيرة عند األركان التـي تكثـر فيهـا المقاعـد

ـ وق النجيلـة المتجاورة، ويتركن الكالب تتجـول حـرة ف

مهمتي ستكون أكثر سهولة مع مثل هذه الكـالب . الخضراء

.الطليقة والعجائز المنشغالت بالثرثرة

ومستعينا بقطعة اللحم، نهضت وذهبت مبتعدا عـن

مجالس النساء، إلى حيث كانـت الكـالب تتشـمم األرض،

وتتقافز قريبا من أحواض الماء، وتجرى بمحـاذاة أشـجار

ات، أو تركض خلف كرة ملونة رمـت الورد تطارد الفراش

اكتشفت وأنا أحاول أن اقتـرب بقطعـة . بها إحدى العجائز

اللحم من فم أحد الكالب، أن أغلبها كالب صغيرة الحجـم،

من هذه األنواع التي يقتنيها كبار السن للعب والتسلية، ولكي

أصل بقطعة اللحم إلى مستوى أحجامها الملتصقة بـاألرض،

ي وضع انبطاح أو أزحف زحفا فوق ركبتي، البد أن أكون ف

مسألة شكلية، لن تحـول بينـي . مما يجلب الشك والشبهات

وبين تنفيذ خطتي، أو تعيقني عن تحقيق ما أريده من تواصل

وتقارب مع هذه الكالب، فالمهم ليس أحجامها ولكن قـدرتها

على العض، وهي كما يبدو كالب سليمة، تتمتع بأنياب قوية

س أمامي إال أن أدعي بأنني سآخذ حماما شمسـيا حادة، ولي

واستلقي بنصف جسمي عاريا فوق أعشاب الحديقـة لكـي

. أكون قريبا من مستوى هذه األنياب

اخترت مكانا تفصله عن مجالس النساء، حواجز من

األشجار والنوافير، تمددت عنده لكـي آخـذ حريتـي فـي

ـ ددت يـدي استدراج هذه الكالب واستفزازها، وكنت كلما م

بقطعة اللحم إلى كلب يمر قريبا مني، ورأيته يتوقف ثم يحني

رأسه يتشمم القطعة تمهيدا اللتهامها، استبشـرت وفرحـت،

وتهيأت بيدي اليسرى أللقمها له مكان قطعة اللحم، ولكننـي

قبل أن أرى بياض أنيابه وأستمتع باأللم البهيج الجميل وهي

عـاتي وأدار رأسـه تعضني، أتفاجأ به وقد خيـب كـل توق

استغربت لهذه الحركة التي تكررت مع الكلب . منصرفا عني

األول والثاني، وتنبهت إلى أن للكالب في هذه البالد لحومـا

خاصة بها، يتم إعدادها وتحضيرها باألساليب التـي تحبهـا

لكي تقبل على أكلها بشهية مفتوحة، حتى صـارت تعـاف

التي جئـت بقطعـة اللحوم المخصصة لالستهالك البشري و

ال يهم، قلت في نفسي، فجهدي لن يذهب هدرا، ومـا . منها

حدث سأستفيد منه مع أول كلب يأتي، إذ لن أنتظر حتى يفتح

فمه، وإنما سآخذه باللين والمالطفة بين ذراعي، وسـأرغمه

بمختلف األساليب والتقنيات التي أتقنتها خالل هذين اليومين،

جاء الكلب الثالث يتشـمم وسريعا. على أن ينهش معصمي

كان هذه المرة أكبر حجما من زميليه السابقين، . قطعة اللحم

ومالمحه أكثر عبوسا وتجهما، تنبئ بأنه جاهز ألداء المهمة

دون حاجة ألن أتحايل عليه، ومع ذلك لم أشـأ أن أغـامر،

فمددت له كلتا يدي أرحب به واسحبه نحوي، واعتدلت فـي

ضمه إلى حضني، ورأيـت صـفو جلستي ألتمكن من أن أ

السماء يتعكرفجأة بالغيوم، فلم أشأ إضاعة الوقت، وقرصـته

بقوة بين عينيه، قرصة جعلته يزداد غضبا وعصـبية، فقـد

تصلبت أذناه وتغضن جبينه وظهر في عينيه وميض الغضب

وتوقف ذيله عن الحركة، وأحسست بشعره الـذي يالمـس

تحوالت الفسيولوجية ذراعي ينتصب كالشوك، ورافقت هذه ال

حركة أخرى أطربتني ألنها وضعتني قريبـا مـن تحقيـق

الهدف، عندما دمدم بنباح مكتوم وكشر تكشيرة غيظ وهيجان

أظهرت أنيابه في حالة استعداد للفتـك واالنقضـاض، وألن

العض لدى كالب اإلنجليز هو آخر مراحل العنـف ولـيس

ى ينشب هـذه أوله، فلم يكن يحتاج إال إلى قرصة أخرى حت

األنياب في يدي التي كانت قريبة من فمه، لتصل األحـداث

إلى خواتيمها السعيدة، إال أن شيئا طرأ وأفسد هذا المسار، إذ

فجأة ازداد الجو تعتيما وانهمر المطر غزيرا، فانسل الكلـب

هاربا، بينما انشغلت أنا بارتـداء قميصـي وسـترتي وقـد

عـدوت . مي العـاري أحسست بالمطر كأنه شالل يغمر جس

أبحث عن شيء احتمي به داخل الحديقة، فلم أجد إال المـاء

ونظرت إلى عجائز الحديقة الستعين . يسيل أنهارا من السماء

بخبرتهن في التعامل مع تقلب األجواء، فوجـدتهن ينشـرن

المظالت فوق رؤوسهن كساحرات األساطير الالتي يعـرفن

.البهن صوب البوابةاألحداث قبل وقوعها، ويتجهن صحبة ك

قضيت بقية أيامي في لندن مالزما الفراش، أعـاني

من نزلة برد حادة، وقبل أن أتعافى تماما انتهت فترة اإلقامة

الموجودة فوق جواز السـفر، فأخـذت حقيبتـي، وودعـت

أحالمي في حياة الهناء و الرفاهية التي كانت سـتتيحها لـي

طـائرة التـي عضة كلب، وذهبت أحمل معي غصتي إلى ال

.ستقلني إلى دولة صحارستان

كان لون الغسق، يختلط بلون الصـحراء ورمالهـا

الحمراء المحيطة بمطار عاصمة صحارستان، عندما وصلت

وهو كغيره من مطارات العواصم العربيـة، يسـتقطب . إليه

الكالب التائهة في تلك البراري، والتي تأتي إليه ليال، تبحث

وال . هيه، عن شيء تطعم به نفسها في فضالت مطاعمه ومقا

أدري لماذا، ما إن رأيت فوق إحدى الهضاب القريبـة مـن

بوابة المطار مجموعة من الكالب الضـالة، حتـى ذهبـت

أركض صوبها، ربما انتقاما من نفسي ألنني عـدت خائبـا

مدحورا إلى هذه البالد، أو رغبة في تحقيق األمنيـة التـي

نجليز التي عافـت لحمـي عجزت عن تحقيقها مع كالب اإل

ودمي، أو اختبارا لقوة الكالب في بالدي وقدرتها الفائقة على

النهش والعض واالفتراس مقارنة بكالب األغيار، أو لسـبب

آخر غامض الزال كامنا تحت قشـرة الـوعي، واصـلت

الركض باتجاه تلك المناطق المظلمة الموحشة التي ال تطأها

ب، وسـط دهشـة النـاس أقدام أحد غير مطاريـد الكـال

واستغرابهم غير عابئ بصيحات التحذير التي انطلقت منهم،

وكالعاصفة المدوية نباحا وعواء ركضـت كـالب المطـار

باتجاهي، لتالقيني في منتصف الطريق، وتقفز فـي دفعـة

واحدة نحوي، ترميني فوق الرمل والحصى وتنشب أظافرها

ال أبدي مقاومة، وتغرز أنيابها في جسمي، وأنا مستسلم لها،

وال أصرخ ألما، كأنني سعيد بأن تنهش هذه الكالب لحمـي

وتلغ في دمي بحماس ونهم شديدين، دون أن أستطيع التمييز

بين ما إذا كان هذا الذي يحدث معي اآلن واقعـا أعيشـه أم

مجرد كابوس كتم على أنفاسـي لحظـة وصـولي مطـار

كالب بالدي كنت أشعر بالغبطة واالمتنان ألن . صحارستان

لم تـخذلني كما خذلتني كالب هايد بارك التـي ال تعـرف

.النباح وال تجيد نهش اللحم البشري

ليلة األقنعة

دخل إلى قاعة االحتفال، يضع فوق وجهه قناع

. الحمار

كانت إدارة القرية السياحية قد وضعت فى برنامجها

ية ليلة أسمتها ليلة األقنعة، وعرضت داخل حانوت القر

أعدادا كثيرة ومتنوعة من األقنعة لكى تتيح لرواد هذه الحفلة

. مجاال واسعا لالختيار

ذهب قبل ساعات من موعد الحفل، إلى الحانوت،

. ووقف وسط غابة األقنعة يحاول أن يجد قناعا يروق له

وضع فوق وجهه قناع األسد، فوجده ضيقا يضغط على

فى المرآة، وشاهد صدغيه وذقنه وجبينه، ونظر إلى وجهه

عينيه وهما تتحوالن إلى جزء من مالمح األسد، فوجدهما ال

وبرغم شراسة األنياب، وكثافة . يليقان بمهابة ملك الغابة

الشعر الذى يحيط بوجه األسد، وإتقان مصمم القناع لبقية

. المالمح، إال أن هاتين العينين هما اللتان تجعالن األسد أسدا

ر، الذى بدت عيناه أكثر انطفاء عندما كذلك الحال مع النم

ارتدى قناعه، ووضع عينيه مكان عينى ذلك الحيوان الذى

تأكد له أنه ال يصلح لدور زعيم من . يشبه سهما مشتعال

زعماء الغابة، وعليه أن يبحث لنفسه عن مكان متواضع بين

وقبل أن يهبط باختياره إلى الفئات التى تشكل . أفراد الرعية

ات السلم االجتماعى بين كائنات الغابة، رأى أن أدنى درج

إنه طائر نبيل كريم، يحب الحرية، . يحاول حظه مع الصقر

ويعشق القمم العالية، وجدير بمثل هذا القناع إن يمنحه

إحساسا بعلو الهمة ويزيل عنه الحرج الذى يشعر به دائما

ولكنه عندما نظر إلى وجهه . فى مثل هذه الحفالت الالهية

ى المرآة ورأى المنقار المدبب والطويل، ومساحة العينين ف

الضيقتين، أدرك إلى أى مدى يصنع هذا القناع نشازا مع

أعاد القناع إلى مكانه وهو يشعر باألسف، . بقية جسمه

ترك . ومضى يتأمل األقنعة األخرى المعلقة فى الحانوت

مل، الحيوانات ذات القرون، فلم يقترب منها مثل الثور، والج

والوعل، والتيس، بما فى ذلك وحيد القرن، فهو ال يريد أن

ولكنه . يسعى بين الناس وقد وضع فوق رأسه قرنا أو قرنين

الحصان والكلب . لم يتردد فى تجريب أقنعة كثيرة أخرى

والقط والذئب والثعلب واالرنب والقرد والدب والضبع، كلها

. وضعها فوق وجهه

وهو يرتديها، وسأل البائعة وتأمل صورته فى المرآة

عن رأيها فيها فلم ترضها الصورة التى ظهر بها، ولم ترضه

رأى أقنعة اخرى تحمل وجوه ضفادع وجرذان . هو أيضا

وسحالى وسناجب فلم يقترب منها، ألنه لم يشأ أن ينتمى

لعالمها، ومضى إلى صف يضم أقنعة مستوحاة من أفالم

يكى ماوس، والبطة دونال الرسوم المتحركة وأبطالها مثل م

دك، والخنازير السبعة، فوجد أنها أقنعة دارجة مستهلكة ال

وقف حائرا، يجول ببصره فى معرض الوجوه . تثير فضوله

الحيوانية، وهو يضحك من نفسه، ومن فكرة هذا الحفل الذى

ويسأل نفسه إن كان من الحكمة أن . لم يعهد مثله من قبل

حتى وإن كانت تليق بصبيان يكون طرفا فى مسخرة كهذه،

دون العشرين، فهى ال تليق بمن وصل مثله إلى منتصف

أراد أن يغادر الحانوت ويعدل عن فكرة المشاركة فى . العمر

الحفل التنكرى، عندما رأى وهو يخطو باتجاه الباب قناع

وقف يعاود التفكير وينظر إلى . الحمار يعترض طريقه

بطت بينه وبين هذا الحيوان تذكر العالقة التى ر. القناع

عندما كان صغيرا لم يغادر القرية بعد، ورأى بخياله صورة

ذلك الحمار العجوز الهزيل الذى كان يعيش معهم داخل

البيت، ويعاملونه كفرد من أفراد العائلة، وعادت إلى الذاكرة

تلك المشاوير التى كان يذهب فيها رفقه الحمار إلى غابة

ية أو إلى حقول البطيخ، حيث يعود به النخيل خارج القر

محمال بالبلح أو البطيخ أو الحطب، وهو يركب فوق

الحمولة، يدندن ويغنى، والحمار يمشى سعيدا وكأنه يرقص،

ونشأت ألفة بينه وبين ذلك الحمار حتى صار يتولى بنفسه

تقديم الماء والطعام له، وعندما اشتد بالحمار المرض نتيجة

عرف . لى البادية ليلقى مصيره فريسة للسباعالهرم، أخذوه إ

بما حدث فظل أليام طويلة يبكى أثناء الليل، ويسأل أهله

بحرقه ولوعة عن مصير الحمار بعد الموت، وعما كانت

. الحمير أيضا تذهب إلى الجنة

فقد كان يرى أن هذا الحيوان الطيب الصبور

. المكافح، هو أجدر الكائنات بدخول جنة الرحمن

رأته البائعة يقف طويال أمام قناع الحمار، فمدت

أحس منذ . يدها تناوله القناع وتساعده فى تثبيته فوق وجهه

اللحظة األولى الرتدائه أن هذا القناع هو بالضبط ما كان

وسأل البائعة فأبدت حماسا كبيرا لوجه الحمار، . يبحث عنه

ع مريحا، كان القنا. ورأته يليق به أكثر من أى حيوان آخر

وكانت مالمح وجه الحمار الكبيرة تصنع فراغات واتساعات

ال تضغط على أذنيه وعينيه وأنفه وفمه كما هو الحال مع

األقنعة األخرى، وتتيح له أن يرى ويسمع ويتنفس ويتكلم

وعندما نظر إلى وجهه فى المرآة أعجبه هذا . دون مشقة

، وكأن التناسق بين وجه الحمار وبين مظهره الخارجى

لم يعد ثمة داع . جسمه لم يخلق إال ليناسب رأس الحمار

للتردد، لقد جعله هذا القناع أكثر حماسا للمشاركة فى مثل

هذا الحفل الطريف الذى سيكون هجاء لحياة البشر، وتمجيدا

اشترى القناع وانتظر حتى جاء . لعالم البهائم والحشرات

القاعة الفسيحة موعد الحفل، فوضعه فوق وجهه، ودخل إلى

اكتشف أنه . التى سبقه إليها جمع غفير من البسى األقنعة

أجال بصره فى . وسط غابة تمتلئ بمختلف أشكال الحيوانات

ديكور القاعة، وشاهد أشجارا سامقة مصنوعة من ورق

فأحس . كرتونى تتسلق الجدران وتتدلى منها عراجين الضوء

. كأنه يدخل غابة سحرية

لغابة بدا منسجما مع روح الحفل، كل شيء داخل ا

بما فى ذلك منشطة الحفل التى بدت وكأنها جنية من جنيات

علقت فى جيدها عناقيد الزهور، ورشقت وردا أحمر . الغابة

وأبيض بين جدائل شعرها األشقر، وارتدت فستانا يشبه

أجنحة الفراشات، تحيط به دوائر فسفورية تجعله يلمع

يا لكى تميز نفسها، عن بقية ويضيء، تركت وجهها عار

رواد الحفل، ممن غطوا وجوههم باألقنعة، وارتدوا مالبس

السهرة العادية، فصار سهال عليه أن يميز بين الذكور

. واإلناث

كانت منشطة الحفل، تمسك مكبر الصوت وتسأل

الحاضرين أن يمتنعوا عن الحديث بلغة البشر، وأن يمرنوا

على إصدار أصوات تتفق مع أنفسهم منذ بداية الحفل،

امتأل المكان بنقيق الضفادع، وصهيل . األقنعة التى يرتدونها

الجياد وزئير االسود، وعواء الذئاب، ونباح الكالب، ومواء

القطط ومأمأة الحمالن وخوار الخيران، وصياح القرود،

. ووجد أن عليه أن ينهق مقلدا صوت الحمار

أن يتغلب على ظل صامتا لفترة قصيرة، يحاول

لقد ارتضى أن يضع فوق وجهه قناع . الحرج الذى يحس به

الحمار، أما أن يتمثل أحاسيسه وسلوكه ويصدر نهيقا مثله،

وجد أن منظره وهو . فهذا ما بدا له مهمة بالغة الصعوبة

. يقف صامتا، يثير الدهشة فى عيون رفاقه من ساكنى الغابة

ة، وأحس بمتعة أعجبته اللعب. فبدأ ينهق بصوت خافت

االندماج فى أجواء الحفلة، فصار يرفع صوته وينهق نهيقا

اكتشف أن هناك آخرين ينهقون . عاليا كما تفعل حمير قريته

فأحس . مثل نهيقه، رجاال ونساء، يرتدون مثله قناع الحمار

. باالرتياح ألنه ليس الحمار الوحيد فى هذا الحفل

ا تحت األضواء، وكانت جنية الغابة، ترفرف بأجنحته

وتمسك مكبر الصوت وتهنئ المحتفلين بإجادتهم ألدوارهم،

وقدرتهم الفائقة على التحول من طبيعتهم البشرية إلى

طبيعتهم الحيوانية التى اكتسبوها منذ لحظات قليلة، وتدعوهم

ألن ينسى كل واحد مهنته وتعليمه ومستواه االجتماعى،

ينسجم انسجاما كامال مع والبلد الذى ينتمى إليه ويسعى ألن

روح وطباع وشخصية القناع الذى يرتديه، فهى ال تريد أن

ترى بشرا هذه الليلة، وإنما حيوانات الغابة وهى تفرح

لكن . وتحتفل بهذا السالم الذى تحقق بين فئاتها المتصارعة

الصراع لم يكن قد اختفى نهائيا من فوق أرض الغابة، فها

اإلناث، كما تفعل ذكور الغابة مع هم الذكور يطوفون حول

ها هو أسد يخاصم أسدا . إناثها، ويتحرشون ببعضهم البعض

حول امرأة ترتدى قناع أنثى األسد، وها هو قرد يناوش قردا

غير . آخر حول امرأة ترتدى قناعا ينتمى إلى فصيلة القرود

أنه تحرش يكتفى بالزئير والصراخ وال يصل إلى العراك

نياب والبراثن، مراعاة لتقاليد اللعب، وحرصا واالشتباك باأل

. على مبدأ السالم الذى تحقق ألهل الغابة

حاول هو أيضا أن يجد حمارة يطاردها، وينهق قليال

فى وجه الحمار الذى يطوف حولها، وألنه لم يجد واحدة

. قريبة منه يلعب معها، فقد مضى يشق الزحام بحثا عنها

امرأة ترتدى قناع القطة، عرف وقبل أن يصل إليها، رأى

على الفور أنها ذات المرأة التى رآها تخرج من دكان األقنعة

وهى ترتدى ذات القناع، كان قد رآها قبل ذلك، وانتبه إلى

مؤهالتها األنثوية، التى زرعت أشجار النار فى قلبه، صدر

فائر يمشى أمامها، وشفتان مكتنزتان تفصل بينهما انفراجة

أنهما فى حالة استعداد لتلقى القبالت، وجسم صغيرة، وك

. يترجرج ويصدر دعوة صريحة للدخول فى لعبة الحب

حاول فى إحدى الليالى الراقصة أن يتعقبها وأن يفوز برقصة

معها، فاخترق الحصار الذى يضربه حولها رجال معجبون

بجمالها، حتى وصل إليها، فلم يجد منها غير الرفض

المعجبين يغفلون عنها هذه الليلة، فال والصدود، لعل هؤالء

يهتدون إلى شخصيتها وهى تتنكر خلف هذا القناع، فيهنأ

إنه لم يأت فى هذه اإلجازة، وينضم إلى هذه . بليلة حب معها

القافلة من السواح الذين انتهى بهم المطاف إلى هذه القرية

السياحية إال بحثا عن مغامرة عاطفية، يتيحها له تسامح

القات فى هذه المدن األجنبية، تكون تعويضا أليام القحط الع

والجفاف التى عاشها وسط تقاليد مدينته الصحراوية، التى

. ترتدى قناع الفضيلة، وتفصل بين الرجال والنساء

ولكن كيف تراه يستطيع أن يقفز فوق الحواجز التى

وضعتها الطبيعة بين القطط والحمير، ليته عاد إلى الدكان،

ندما رآها تشترى قناعا لقطة، واشترى قناعا مثل قناعها، ع

إذن ليسهل عليه أن يفوز بصحبتها هذه الليلة، إن للعبة

قوانينها، فكيف يستطيع العبث بهذه القوانين التى تمنعه من

. أدرك أنه كان حمارا بالفعل ال بالقناع فقط. الوصول إليها

اسبا كانت منشطة الحفل قد وجدت أن الوقت من

لقد نجحوا فى االختبار األول عندما هجروا لغة . للرقص

البشر إلى لغة العواء والنهيق والزئير، وها هى تدعوهم إلى

االختبار الثانى، الذى يؤكدون به انتماءهم إلى المملكة

دخلت إلى حلبة الرقص، وبمساعدة الموسيقى، . الحيوانية

ادة الفسفورية فى ودائرة الضوء التى تتبعها، والتى تجعل الم

ردائها أكثر توهجا وإشعاعا، تحولت إلى فراشة من نار،

ودعت . تخفق بذراعيها، وترقص وكأنها تطير فى الهواء

الحاضرين إلى أن يرقصوا مثلها، رقصا يتناسب مع األقنعة

التى يرتدونها، ليحاول األسد أن يرقص الرقصة التى تناسب

ان والقرود والصقور، بدأ األسود، وهكذا مع الغزالن والثير

يقفزون . الناس يضربون الهواء بأقدامهم ورؤوسهم وأيديهم

كالقرود، ويسبحون بأذرعهم فى الهواء كأجنحة الطيور،

ويضربون األرض بحوافرهم كالجياد، ووجد نفسه وسط

فصار . موجة تحمله معها، وتقذف به فى قلب حلقات الرقص

ويقلد الحمار فى حالة يرفع رأسه إلى أعلى يتنسم الهواء،

هيجانه وهو يركل األرض ويضرب الهواء بحوافره، منتشيا

بهذه الحرية التى يمنحها له قناع الحمار، يرفص ويبرطع

ويدوس على أقدام اآلخرين أو يدوسون على قدمه، فال شيء

إنه مستمتع بهذه الطبيعة الحيوانية التى تتيح له أن . يهم

ه لوم الالئمين ألنه يجهل يرقص دون أن يخشى على نفس

. قواعد الرقص

واصلت الفرقة عزفها الذى يشبه العواء، وواصلت

األضواء التى تأتى من سقف القاعة، فى شكل دوائر

وومضات سريعة، تدفقها الذى أضفى على حركة الراقصين

مزيدا من اإلثارة، وتابع هو رقصه البهيمى، وإصدار نهيقه

اقتربت منه امرأة تهز صدرها بين الحين واآلخر، كلما

فترك . أحس بالتعب. وعجيزتها وهى تقلد رقص الخنازير

ساحة الرقص، وانتحى جانبا يستلقط أنفاسه، ويمسح العرق

الذى ينضح به عنقه وصدره ويحاول أن يهتدى إلى المرأة

. التى ترتدى قناع القطة، بعد أن تاهت عنه أثناء الرقص

ا عنها، فاكتشف أن هناك غرفا تجول فى زوايا القاعة باحث

صغيرة تجاور القاعة شحيحة االضاءة، مليئة باألرائك

والكراسى المريحة، التى جلس فوقها عدد من رفاق الحفلة،

وتوزعوا أزواجا، ذكورا وإناثا، يتسامرون ويتعانقون،

ويتركون أقنعتهم أحيانا، ليقبلوا بعضهم بعضا دون التزام

ودون التزام بأن يرافق الذكر امرأة بتعليمات مذيعة الحفل،

من بنات جنسه، فقد رأى فى هذه الغرف، األسد يرافق كلبة،

والثور يعانق سحلية، ووحيد القرن يجالس الزرافة، والذئب

لقد كان حمارا . يبث حبه للدجاجة، والوعل يناجى الخنزيرة

إن الغابة تقفز فوق كل القواعد . عندما ظن أن للغابة قانونا

هذه إذن فرصته ألن ينفرد بتلك القطة التى . لقوانينوا

سحرت عقله وقلبه ويرتشف من كأس جمالها وأنوثتها حتى

لم يستطع أن يصل إليها بأساليب البشر، فليحاول . االرتواء

مضى يبحث عنها دون . أن يصل اليها بأساليب كائنات الغابة

اد أن يعبأ هذه المرة بحديث المذيعة التى مضت تحرض رو

الحفل على االندماج فى أدوارهم وتغريهم بجائزة كبرى

سوف تخصص للفائز الذى يبز اآلخرين ببراعة تجسيده

رأى قطته تقفز . وتقليده للحيوان الذى اختار أن يرتدى قناعه

بين الراقصين وتصدر مواء ينضح إغراء وجنسا، فسار حتى

عب وصل اليها، ومضى يرقص وينهق بجوارها، يداعبها ويل

أبطأ العزف وأبطأت معه . معها، ويحاول أن يجعلها تأنس له

. حركات الراقصين، فرآها فرصة ألن يراقصها رقصا بطيئا

أحاطها بذراعيه، وألصق جسمه بجسمها، وأسند رأسه فوق

أحس بها تدفعه عنها وتحاول أن تحرر جسمها من . رأسها

صاقا قبضته لكى تعود إلى رقصها السريع، ولكنه ازداد الت

تشنج جسمه كله وهو . بها وحرصا على أن يبقيها فى حضنه

مضى يراقصها رغما . يحتوى جسمها ويمنعها من المقاومة

عنها، ويدفع بها أثناء الرقص باتجاه الغرفة التى تجاور

وصل بها إلى باب الغرفة، وجرها بقوة إلى إحدى . القاعة

وق األريكة االرائك وهى ما تزال تقاوم وتحتج حتى أجلسها ف

وارتمى بجوارها يعتذر لها عن هذه الطريقة الفجة التى

عاملها بها، ألنه لم يجد طريقة غيرها وسط هذا الصخب

والعواء، يرغمها بها على أن تستمع إليه، ألن لديه شيئا مهما

وقبل أن يبدأ فى سرد أقواله المهمة، . يريد أن يقوله لها

ريكة، ولكى يمنعها من أمسك بذراعها وأعاده بقوة إلى األ

الهروب، ارتمى فوقها، يسألها أن تستمع لما سيقوله لها وأن

أطلقت هى . تتيح له فرصة أن يفوز بلحظة حب معها

صراخا عاليا، جعل الحاضرين يهبون لنجدتها، ويتعاونون

كان هو قد أدرك قبح فعلته، فوقف . على رفعه من فوقها

يبرر فعلته ويدافع عن مرتبكا، عاجزا عن الكالم، ترى كيف

اتهامها له بمحاولة اغتصابها، هل يشفع له أن يقول بأنه كان

فقط يداعبها ويلعب معها كما يحدث فى أفالم الرسوم

المتحركة، أم تراه يخبرهم بأنه اندمج فى دوره استجابة

لقوانين اللعبة وتعليمات المشرفين على هذه الحفلة، فالحق

دوره وتمثل أحاسيس الحمار لهم فى لومه إذا ما أتقن

. وراودته الشهوة الحيوانية التى تراود الحمير

لقد كان حمارا، وألنه ال يملك وجها جميال، وال

صوتا عذبا، وال عقال نابها يزهو به أمام كائنات الغابة، فقد

استخدم الشيء الوحيد الذى تفوق به على بقية الكائنات أداة

. اإلخصاب لديه

ع الشديد، وهو يراهم يسحبونه من أحس بالفز

ذراعه، ويسوقونه إلى المنصة ويقفون به تحت األضواء

كان . الساطعة، وقد غمر القاعة صمت الترقب واالنتظار

على يقين بأنهم سيفضحونه أمام رواد هذه الحفلة، ويدينون

سلوكه المشين الذى سيقوده إلى المحكمة وإلى أعوام من

ولدهشته الشديدة . االغتصابالسجن تتناسب مع جريمة

وجدهم يضعون كأسا فى يده، ويعلقون طوقا من الزهور فى

عنقه، ويعلنون اسمه باعتباره الفائز األول فى المسابقة، الذى

انسجم سلوكه مع القناع الذى يرتديه، لقد كان جديرا بأن

. يحمل لقب الحيوان األول هذه الليلة

مرايا فينيسيا

اوأخيرا فينيسي

أسطورة املاء واحلجارة

قدح النبيذ المعصور من كروم اآللهة

عرس الفن والجمال الذى يتجدد بتجدد الفصول

اتنسم . هاأنذا احقق حلم الوصول إلى عتباتها المباركة

أعلق البصر بشرفاتها العالية وكأن لى حبيبة . عبق تاريخها

اتأمل النقوش والزخارف التى تزين. تنتظرنى فى كل شرفة

أكحل البصر بعرائش الورود . أبوابها وجدرانها ومراياها

أدخل الدائرة السحرية . التى تتسلق قرميد أبنيتها الحمراء

التى تفصلها عن عالم الحروب والصراعات وتجعل منها

مكانا فريدا، يسبح فى زمن قديم أبهى وأجمل من هذا

هاأنذا أتحول إلى جزء من هذا المشهد االحتفالى. الزمان

الذى تضج به شوارعها وقنواتها وقناطرها، وتغمرنى أمواج

البهجة التى تفيض من وجوه اهلها وزوارها، فأنزع وجهى

. القديم واستبدل به وجها جديدا، وسيما، يليق بمجد بهائها

لقد هفهفت أشرعة القلب اليها، سنين قبل هذه الزيارة،

، تغذيه التى ظلت حلما ال يفارق ذاكرتى منذ أيام الصبا

األغانى واالفالم وكتب التراجم والرحالت وقصائد الشعر

جئت إلى روما فى . التى منحتها لقب أجمل مدينة فى الدنيا

عمل صحفى، وما أن انتهى العمل، حتى بدأت أيام الحج إلى

. هذه المدينة

وصلتها فى ساعة متأخرة من الليل، واخترت غرفة

ل على القناة الكبرى، فلم بفندق صغير يشبه بيتا عائليا ويط

أنم سوى ساعتين، استيقظت بعدهما مفعما بالحيوية، متلهفا

. ألن اعانق فينيسيا وأطفئ حرقة قلب ظامئ للقائها

هاأنذا أثب فرحا فوق جسورها التى ال تحصى،

وأطوف كالمجدوب بكل تمثال من تماثيلها، أو نافورة ماء

ى يصنعه أقوام من نوافيرها، وأغوص فى زحام الفرح الذ

جاءوا من شتى بقاع األرض، لينعموا ببهجة اللقاء فوق هذا

فأجد أن االلفة التى . االرخبيل الصغير من جزائر الحلم

تصنعها فينيسيا قد ربطت بينى وبينهم، وصرت أتبادل

الحديث معهم فى يسر وعفوية، وأشارك فى الحفالت

ن، وأركب الراقصة التى يقيمونها حول العازفين المتجولي

معهم المراكب التى تأخذنا فى نزهة عبر قنوات المدينة،

وأردد بعض كلمات االغانى التى يتفنن المالحون فى

. ترنيمها

كنت قد اخترت أن أتجول فى دروب المدينة دون

خطة مسبقة، مستمتعا ببهجة االكتشاف والمغامرة، التى

انة سوف تفسدها الخرائط وكتب الدعاية، أو حتى االستع

كنت أركب العبارة دون أن . باألدالء والمرشدين السياحيين

أعرف وجهتها، وأمضى مع الطريق دون أن أعرف إلى أين

يفضى، تثير مخيلتى المشاهد التى التقى بها صدفة، بما فى

فوقفت . ذلك سوق الغالل الذى قادنى إليه هذا التوهان الجميل

ب الدكاكاين ذاهال أتفرج على معروضاته وقد تفنن اصحا

والعربات فى رصها وتصفيفها، وصنعوا منها أشكاال

وتكوينات فنية، يراعى فيها حساب النسب وتجانس األلوان

ومواقع األضواء والظالل، وتتحول حبات البرقوق والعنب

والطماطم إلى تحف ذات قيمة فنية تتجاوز قيمتها كطعام

كان كان سوق الخضار هذا اكتشافا، بمثل ما . للبطون

اكتشافا مدهشا ان اجد نفسى أسير فى مدينة ال تدخلها

السيارات، وأن بإمكانى ان اتنقل حرا بين األرصفة وأمشى

وسط الشارع، دون أن أخشى على نفسى الموت بين مخالب

إن . تلك الحشرات الحديدية الكريهة، ذات الدخان والعواء

من غياب السيارة يؤكد فى نفسى هذا المعنى الذى يجعل

فينيسيا مدينة تنتمى إلى زمن آخر، وعالم آخر، مدينة ال

. تشبه اال نفسها

كنت قد وصلت إلى أكثر ميادين فينيسيا شهرة، ميدان

عرفت وأنا أركب الجندول أننا نقترب منه قبل . سان مارك

فقد الحت من بعيد قباب البرج وكنيسة سان . أن نصل اليه

هات األبنية التاريخية مارك وقصر األدواج، كما الحت واج

التى تعج شرفاتها وأسطحها بالتماثيل، وظهرت أفواج الحمائم

التى ترفرف فوق تلك القباب واألقواس والحراس الحجريين،

وتناهى إلى سمعى صوت العزف األوركستر إلى تعزفه فرقة

عرفت فيما بعد أنها تتخصص فى عزف موسيقى فاجنر،

. ته فى بيت يطل على الميدانالذى أقام زمنا يؤلف سيمفونيا

وما إن وصل الجندول إلى الرصيف، حتى انبثق امامى ذلك

الدكاكين التى . المهرجان من األضواء واأللوان واإليقاعات

المقاهى ذات الواجهات المصنوعة من . تبيع التحف والهدايا

. زجاج ملون، وما اكتظت به من مرايا ولوحات وزخارف

رتديها السواح وما يصنعونه من كرنفال األزياء التى ي

دخلت الميدان . ضجيج بإنشادهم ورقصهم وآالت تصويرهم

ووقفت أمام مقهى فلوريان أستحضر قراءاتى عن هذا المقهى

الذى شهد مجالس األدباء الذين قضوا وقتا هنا يتبادلون

األنخاب مع أصحابهم وصاحباتهم، الفونس دوديه، جورج

. يلد، توماس مان، هيمنجواىساند، جولدونى، اوسكار وا

انثالت على الذاكرة مشاهد المسرحيات التى اتخذت من

هنا وقف شايولوك تاجر البندقية . هذا المكان ميدانا ألحداثها

الشهير يطالب غريمه أنطونيو برطل من لحم جسمه، وهنا

كان ياجو ينسج مؤامراته ضد عطيل مستخدما ديدمونة

وهنا كان كازانوفا يتسلق وكاسيو وريدريجو وايميليا،

ها هو الفن يضفر خيوطه . الشرفات إلى مخادع حبيباته

بخيوط الواقع، ويعزز عمق الوشائج التى تربط بينى وبين

هذه المدينة، ويجعل من زيارتها عيدا ال تضاهيه أعياد

أخرى تأتى بحكم العادة والروتين، ال بحكم العالقة الحميمة

. إلى المكان والزمانالتى تبنى جسور حب تشدنا

رأيت وأنا أطوف الميدان فتاة ترتدى قميصا قطنيا

يظهر جمال نهديها، وترفع إلى فمها كوب اآليس كريم الذى

أضفى توردا على شفتيها ولسانها، وقد وقفت بمفردها أمام

تمثال على أعتاب قصر االدواج، فاقتربت منها، ووقفت إلى

نح الذى جعلته فينيسيا شعارا جوارها أتأمل تمثال األسد المج

لها، وأحاول أن أستذكر األسطورة التى ارتبطت به والتى

كنت قد أعددت بعض . جعلت منه كائنا حقيقيا يحرس المدينة

الكلمات ألستهل بها الحديث مع هذه األنثى الشهية، بأمل أن

أفوز بقضاء ساعة أو ساعتين فى صحبتها، وقبل أن أفتح

ت فجأة إلى الرجل الذى يقف على مسافة فمى بالكالم، تنبه

وداهمنى يقين جازم . أمتار منى، وينطرح ظله تحت قدمى

بأن الرجل يتبعنى، إذ ليس صدفة أن أراه فى ثالثة مواقع

ظننت وجوده فى المرتين السابقتين . مختلفة يقف قريبا منى

مجرد صدفة، وقد سقط اآلن حساب الصدفة، ولم يبق سوى

هذا ما صار يشغل . ى يدبرها لى هذا الرجلحساب الخطة الت

تركتهما، . ذهنى، بحيث لم تعد فيه مساحة للمرأة أو التمثال

ومشيت مسرعا اخترق الجموع التى تتزاحم حول الرسامين

. والموسيقيين وتلتقط الصور التذكارية بصحبة حمائم الميدان

وعندما استدرت ألرى . ولم أقف حتى وصلت الجانب اآلخر

فعل، وجدته قد ترك مكانه وجاء يتبعنى، ثم وقف ماذا

تحولت إلى . محتميا بعدد من الناس لكى ال أراه وهو يراقبنى

ما الذى يدبره لى هذا . كتلة أعصاب مشحونة بالغضب

الرجل؟ وما الذى يريده مني؟ وأى شيطان ساقه لمطاردتي؟

لم أستطع أن أجد تفسيرا، ولم أعرف كيف سأواجه هذا

وجدت نفسى . ذى باغتنى وأنزل الخوف فى قلبىالموقف ال

مرة أخرى أبحث عن نقطة أمل فى أن الرجل ال يطاردنى

وإنما هو سائح مثلى، أثار فضوله شيء فى سحنتى وطريقة

ملبسى، فأنا فعال أرتدى طقما كامال، بخالف أغلب الناس

الذين ارتدوا مالبس خفيفة تتفق وهذا الشهر الذى ينبئ

أو لعله رآنى أشبه شخصا يعرفه وأراد أن .بمجيء الصيف

وهاأنذا أقف اآلن أمامه معزوال . يتأكد من ذلك فجاء ورائى

عن الزحام، ليدرك أننى ال أعرفه وال يعرفنى، وأن عليه أن

سرت بمحاذاة الحائط، حتى . يمضى فى طريقه ويتركنى

صادفنى متجر يبيع المرايا والتحف الزجاجية، فدخلته، كان

كبيرا يشبه متاهة المرايا فى مدن المالهى، يفضى إلى متجرا

مقصورات علوية، مما يوحى بأنه قصر قديم أحالوه إلى

صعدت الساللم واجتزت ممرا طويال حتى . متجر للسواح

ولم تمض سوى برهة . وصلت إلى أبعد هذه المقصورات

قصيرة حتى رأيت صورة الرجل معكوسة فى المرايا التى

غائر الخدين، ذو سحنة ترابية، تبرز عظام . تغلف الجدران

وجهه وجبينه بروزا منفرا، وقد صنعت له أوانى الزجاج

ندوبا تغطى وجهه الذى تشظى وتكسر فوق هذه المربعات

والمكعبات فبدا كأنه عشرات الرجال الذين يحاصروننى

استدرت نحوه، وألقيت عليه نظرة . بمالمح شائهة ممسوخة

أهبط الساللم، وما إن وصلت خارج ثم اندفعت. اشمئزاز

. المتجر حتى انعطفت بسرعة فى شارع جانبى وأخذت أعدو

صرت أعدو وأعدو، فلعلنى أستطيع . بكل ما أملك من خوف

أن أفلت منه، وإن لم أستطع، فيكفى أنه لن يدركنى فى هذا

الزقاق الفارغ الذى أدارت فيه األبنية وجهها إلى الناحية

ظرة من فوق كتفى وأنا أعدو، فإذا به يعدو ألقيت ن. األخرى

وصلت إلى الباحة التى يفضى إليها الزقاق، منهكا، . خلفى

وضعت يدى . مقطوع األنفاس، ألهث وانتفض شهيقا وزفيرا

إنها . على صدرى ووقفت بين الناس أتلفت حولى فى ذعر

لعلنى كنت . أول مرة فى حياتى أواجه فيها موقفا كهذا

ى زمن مضى، ولعلنى اهتديت إلى مخبر موضع مراقبة ف

يتصنت على حديثى فى المقهى، ولكن أن أرى رجال ال

أعرفه يطاردنى ويعدو خلفى، فهذا ما لم أصادفه خالل

وفداحة . خمسة وأربعين عاما من وجودى فوق أرض البشر

. المأساة أن هذا يحدث لى فى مدينة أزورها ألول مرة

. ال أعرف أحدا ألجأ إليهوأزورها بمفردى، ال أحد معى و

تعطلت . تحركت من مكانى دون أن أحدد هدفا أمضى إليه

كافة الملكات والحواس التى كانت تستقبل بالفرح واالندهاش

صار ذهنى كله . مظاهر الحياة فى هذه الباحات واألسواق

أستطيع أن أراه يسير خلفى حتى . مشدودا إلى هذا الرجل

اه وحده رغم آالف األقدام التى أسمع خط. وإن لم ألتفت إليه

التقط صورته حتى وهو غاطس وسط . تضرب األرض

الزحام، وأميز ظله من بين كل هذه الظالل التى تقف وتمشى

صادفت صندوق الهاتف العمومى ففتحت الباب . وترقص

ودخلت الغرفة الزجاجية الصغيرة، بأمل أن يمنحنى وجودى

من اإلحساس باألمان، فى هذا الصندوق، منفردا بنفسى شيئا

وكأننى أخدع نفسى وأوهمها بأننى اختفيت منه فى إحدى

ولكنها لألسف مغارة من زجاج، ال تخفينى عنه . المغارات

سأتظاهر بأننى أهاتف أحد الناس، لكى أبرر . وال تخفيه عنى

رفعت السماعة، وأدرت قرص . وجودى وسط هذا الصندوق

معدنية فى الحصالة، وصرت الهاتف، وألقيت كاذبا بالعملة ال

أتكلم وأشير بيدى نحوه، لعل هذه الحيلة تقنعه بأننى لست

وحدى، وأننى أستنجد اآلن بعدد من صحابى الذين سيأتون

لمؤازرتى، ولكنه يتسمر فى مكانه دون أى اعتبار لهؤالء

أطلت البقاء فى الصندوق ألمنح نفسى . األصدقاء الوهميين

. إلى طريقة تخرجنى من هذا المأزقفسحة للتفكير واالهتداء

ال شك أنه عرف بأننى غريب ووحيد فى هذه المدينة،

واعتبرنى صيدا سهال يستطيع أن يسلبه نقوده تحت تهديد

أو لعله مكلف بمهمة . السالح حال أن ينفرد به فى مكان خال

تصفيتى لحساب شركة من الشركات المتعددة الجنسية، ذات

عالمية، عقابا لى ألننى شاركت فى إحدى العالقة بالمافيا ال

إننى هنا فى بالد المافيا والقتلة . الحمالت الصحفية ضدها

الذين يبيعون مهارتهم اإلجرامية نظير حفنة من الليرات، فما

الذى يمنع أن يكون األمر كذلك؟

سأخرج اآلن من هذا المربع الزجاجى، ولكن إلى أين؟

صغير ينتظر أن يستخدم فقد نشأ طابور . ال بد أن أخرج

ومنهكا، يائسا، أغطس فى سحابة من األفكار . الهاتف

. السوداء، خرجت أجر أقدامى عائدا إلى ميدان سان مارك

سأحتمى هناك بالزحام والحمام والتماثيل والتصاوير

والموسيقى وسأنتظر أن يفرد لى تمثال األسد المجنح

ينجينى من جناحيه، فأستخدمهما بساطا سحريا يطير بى و

عقلى عاجز عن االهتداء إلى طريق . شر هذا الرجل

. للخالص، ال أرى حال لمشكلتى إال بحدوث معجزة

ها هو ميدان سان مارك، الذى كان كعبة أحالمى،

لقد أفسد هذا الرجل . يتحول إلى مسرح ألكثر الكوابيس رعبا

تهالكت فوق أول كرسى صادفنى وطلبت كأسا من . كل شيء

جلس الرجل إلى طاولة . رتقال أجفف به حلقىعصير الب

. قريبة، وأومأ إلى رجل يقف فى الزحام، فجاءه مهروال

تيقنت من . همس له ببعض الكلمات وأشار إليه أن ينصرف

أنه صاحب سطوة ونفوذ بين أفراد عصابته، وأنه يستنفرهم

تجولت ببصرى بين زبائن المقهى، . إلحكام الحصار حولى

األقدار برؤية إنسان أعرفه ليكون طاقة أمل بأمل أن تسعفنى

يرتد بصرى خائبا، فال أحد . تخرجنى من كهوف الرعب

سوى هذا الرجل الذى أحس بدبيب نظراته فوق عنقى

هل أذهب إليه اآلن وأسأله بكلمات صريحة عما . وظهرى

. يريده منى، فإن كان نقودا سأمنحه كل ما معى ألعتق نفسى

الرجل بانتظار مناسبة كهذه ليشتبك لكننى أخشى أن يكون

فى عراك معى، ويغرز سكينه فى صدرى، معتمدا على أنه

سيجد من زبائن المقهى من يشهد بأننى أنا الذى ذهبت إليه

طردت الفكرة من رأسى، . حيث كان جالسا وبادرته بالعراك

إذ ماذا . كما طردت فكرة أخرى تدعونى لالتصال بالشرطة

فتحون لى محضرا ويسألوننى لماذا وكيف سأقول لهم عندما ي

ومتى وأين، وإذا قلت ما أعرف فهل سيصدقون روايتى التى

ال تقدم تبريرا لهذه المطاردة وال سببا، وإذا صدقوها فما

لعلهم سيضعوننى فى الحجز حماية لى، فهل . الذى سيفعلونه

هذا ما أريده، أو لعلهم يستريبون فى أمرى ويبدءون هم

ردتى، وتكون النتيجة أنى أدرأ شرا بشر أكبر أيضا بمطا

وانتهى تفكيرى إلى أننى لم أقم بما يكفى من جهد لكى . منه

يجب . أراوغ الرجل وأتحايل عليه حتى أضيع منه فى الزحام

أن أستعين بكل ما يمكن أن أهتدى إليه من فنون المكر

حاسبت عامل المقهى، . والمراوغة حتى أضلله وأهرب منه

. تمهال باتجاه الرصيف الذى تقف عنده المراكبوسرت م

صرت أزاحم الناس كى أوهمه بأننى سأركب مع الراكبين،

وما إن بدأ المركب يأخذ حمولته حتى أحنيت رأسى ليكون

دون مستوى الزحام وتسللت بسرعة إلى حانة قريبة هى

كانت الحانة تكتظ بالدخان والزبائن وصور . حانة هارى

المعلقة على الجدران باعتباره صاحب أرنست هيمنجواى

. الفضل فى شهرتها عندما أشار إليها فى بعض أقاصيصه

حانة تشبه المغارة، صغيرة وضيقة ومعتمة، زادها ضيقا هذا

وألننى لست صاحب . الجزء الذى اقتطعوه وجعلوه مطعما

مزاج يأنس لمثل هذه الحانات، فقد أحسست بهذا الجو الخانق

ولكننى أرغمت نفسى على البقاء، . ضيقىيضيف ضيقا إلى

. بأمل أن أكون قد أفلحت فى تضليل الرجل الذى يطاردنى

ورغم نفورى من تناول الخمر، فقد قررت أن أشرب كأسا،

طلبت كأسا من الكحول . عله يساعد فى تبديد هذا الضيق

ألقيت به فى . مخلوطا بعصير الفاكهة لكى أستسيغ ابتالعه

أحسست بالكحول يحرق صدرى، . أس ثانجوفى، واتبعته بك

ولكن شهابين أحسست بهما يكويان ظهرى وينسيانى حرقة

كان الرجل يقف وسط زحام الحانة خلفى، بنتوءات . الخمر

وجهه المعصور، وعينيه الغائرتين وسط عظام الجبهة، كأنه

تجسيد لوجه مالك الموت الذى يرسمه الرسامون على

الفكرة التى تربط بين وجهه وألهمتنى هذه. صورة جمجمة

نحن جميعا نعرف أن الموت . وبين مالك الموت فكرة أخرى

يطاردنا، وال ندرى فى أية لحظة أو فى أية بالد سوف

يباغتنا، ومع ذلك نهمله ونتناساه لكى ال يفسد التفكير فيه

لماذا . فلماذا ال أتعامل مع هذا الرجل بذات األسلوب. حياتنا

ى وأنسى أنه يتابعنى، وأحاول أن أنعم ال أطرده من فكر

خرجت من الحانة وقد قررت . بإجازتى كغيرى من السائحين

أن أستأنف جولتى منذ تلك اللحظة التى قاطعنى فيها هذا

سأعود إلى حيث كنت أقف أمام أسد األسطورة، . الرجل

وسأبحث عن ذات المرأة التى كانت تلعق اآليس كريم،

التى كنت سأقولها لها، ألقولها وسأستحضر ذات الكلمات

اآلن، وسأعتبر أن هذا الرجل ال وجود له فوق األرض، لكى

أستطيع أن أهنأ بحياتى، وأنسج عالقة حب بمثل ما كان يفعل

األدباء الذين زاروا فينسيا، هذه المدينة التى قدمت للدنيا

أعظم عاشق فى التاريخ، ودارت فوق أرضها أعظم قصص

وإذا كانت تلك . ها كازانوفا فى مذكراتهالعشق التى سجل

الفتاة التى تحب اآليس كريم لم تستطع انتظارى كل هذه

المدة، فها هى سائحة أخرى تقف والبسمة ال تفارق ثغرها

وسط حلقة تنعقد حول فرقة غجرية من ضاربى الطبل

تسللت قريبا منها، وألقيت بتعليق عابر يحمل . والجيتار

. سألتها رأيها كأننا أصدقاء قدامىاإلعجاب بما أسمع و

اكتشفت أنها ال تجيد اإلنجليزية فهى طالبة إيطالية تدرس

الفنون فى جامعة فيرونا القريبة، أسعفتنى الذاكرة ببعض

الكلمات اإليطالية الدارجة التى اختلطت باللهجة الليبية منذ

وجاء ذكر فيرونا، . أيام الصراعات والحروب بين البلدين

بد أن يأتى ذكر روميو وجولييت وقصة هذا الغرام فكان ال

بدا الجو عامرا باأللفة والمودة والدفء . الذى اقترن بمدينتها

اإلنسانى، يفتح الشهية للمرح واالحتفال بالحياة، مما أغرانى

بان أعيد ترتيب المشهد من جديد، وأجعل هذه الفتاة تأخذ

اشتريت قطعتين من . شكل المرأة التى فارقتها بجوار التمثال

بائع اآليس كريم ووضعت واحدة فى يدها، ألرقب بعد ذلك

جمال وإغراء هذا التورد الذى طرأ على فمها وطرف

وجاءت دقات الطبل تضرب مراكز الحس وتطرد . لسانها

الخمول واالستكانة، فأنشأ الناس حلقة ترقص حول العازفين

. غناءوتشملنى معهم، فأشاركهم الرقص والتصفيق وال

تصورت أننى فعال قد نجحت فى إعادة السكينة إلى نفسى،

ولكن ذلك لم يستمر لغير لحظات قليلة، ألنه ما إن توقف

كنت . الرقص حتى وجدت نفسى فى مواجهة ذلك الرجل

مازلت مصمما على إهماله، راغبا فى أن أتمكن من متابعة

قلب برنامجى حتى أرى كل معالم المدينة، لكى ال أغادرها ب

ذهبت . تمأله الحسرة ألننى أغفلت رؤية أثر واحد من آثارها

فتاة فيرونا بصحبة أترابها، وواصلت أنا التسكع على ضفاف

القناة الكبرى التى تسميها كتب الرحالت أجمل شارع فى

شارع من ماء، تتهادى فوقه المراكب التى تشبه . الدنيا

ى تنطق بثراء متاحف عائمة، وتحف به البيوت التاريخية الت

فينيسيا فى فنون العمارة، وتنتشر على ضفتيه المطاعم

والمقاهى وأندية اللهو التى تتبارى فى ارتداء أبهى الزينات،

ولكن من أين لى عقل يستوعب هذا الجمال، والرجل ال يغفل

جاءت رائحة الطعام تذكرنى بأننى لم . عنى لحظة واحدة

دخلت مطعما لبيع أتناول طعاما منذ إفطار الصباح، ف

المأكوالت الخفيفة، وتناولت قالبا من مكرونة الفرن دون

شهية، ثم دخلت الحمام فأفزعنى منظر وجهى فى المرآة وقد

ازداد فزعى . انعكست فوقه تعاسة البشرية منذ بدء الخليقة

وأنا أعود إلى الشارع وأرى األضواء قد بدأت تسطع فوق

وجها ليليا أكثر جماال من واجهات المحالت وتمنح فينيسيا

وأرى الشمس قد بدأت تسحب خيوطها . وجهها النهارى

سوف تمتلئ المدينة باألركان المظلمة . وتأذن بهبوط الظالم

الخاوية التى تغرى المجرمين بارتكاب جرائمهم، وما أسهل

أن أصبح هذه الليلة الضحية التى تتحدث عنها أخبار

أن أعود حاال إلى الفندق، فال يجب . الحوادث فى اليوم التالى

بد أن هناك مساحات من الفراغ والظالم، يمكن للرجل أن

أخرجت من . يصطادنى أثناء سيرى بها لو رجعت متأخرا

جيبى بطاقة تحمل عنوان الفندق، واتجهت والرجل يتبعنى،

لم أكن وأنا . أبحث بين األرصفة عن مركب يذهب إلى هناك

ا أتأمل به السحب المخضبة فوق سطح المركب أملك مزاج

بشتى األلوان وما تركته من أثر فوق الماء، ولم يكن يعنى

لى شيئا مشهد الشمس الغاربة التى ذاب لونها فى القباب

ما . البعيدة الحمراء التى تبدو مثل لوحات محفورة فى األفق

كان يشغلنى هو أن تتباطأ الشمس فى غروبها وتمهلنى قليال

تنفست الصعداء عندما رأيت الطريق . فندقحتى أصل إلى ال

إلى الفندق عامرا بالناس واألضواء والحياة، ولكن الفندق

نفسه كان هادئا صامتا، ال صوت وال صدى، كأنه بيت

األشباح، عدا موظف االستقبال العجوز، يقرأ كتابه صامتا،

فندق صغير بال نجوم، وال . جامدا كأنه تمثال من الشمع

وال مطعم وال حانة، عدا هذا الركن الذى صالة استقبال

لمحت الشوك والمالعق . يخصصونه لتقديم وجبة اإلفطار

والسكاكين فوق موائد اإلفطار، فاتجهت إليها وتناولت سكينا

ثم أخذت المفتاح وصعدت سلما . وضعته تحت سترتى

فتحت الغرفة ووقفت . حلزونيا إلى غرفتى فى الطابق األعلى

كنت قد تركت الرجل واقفا أمام . ق السمععند الباب أستر

الفندق، ولكن من أدرانى أنه لم يرسل شريكا له يترصد لى

أضأت النور ودخلت أفتش تحت السرير . داخل الغرفة

وداخل دوالب المالبس وخلف باب الحمام ألرى إن كان أحد

كانت أصابعى قد تشنجت فوق مقبض السكين . يختبئ هناك

وكان مصباح الغرفة يصنع لى ظالال تبدو وأنا أرفعه أمامى،

. كأنها مشهد من مشاهد اإلثارة فى أفالم العنف والجريمة

أقفلت باب الغرفة بالمفتاح وتربسته برتاج داخلى، ثم ذهبت

إلى النافذة وألقيت نظرة على الجدار الخارجى، كان الجدار

ينغرس فى ماء القناة، أملس، خاليا من المواسير والنتوءات

. لتى يمكن أن تساعد المجرمين على التسلق إلى نافذتىا

أقفلت خشب الشباك وتركت زجاجه مفتوحا، لكى ال أسد كل

منافذ الهواء، وانتبهت إلى وجود طاولة وكرسى عند زاوية

. قرب السرير، فسحبتهما ووضعتهما خلف باب الغرفة

ووقفت أعاود النظر فى السقف والجدران، وأضرب بقدمى

لمغطاة بالموكيت ألطمئن إلى سالمتها، وأنها خالية األرض ا

. من أية عيوب يستغلها المجرمون فى التسلل إلى الغرفة

ودون أن أستبدل مالبسى، أو أخلع حذائى، جلست فوق

السرير، فى حالة استنفار ويقظة، مستعدا اللتقاط أصغر نامة

كنت أستطيع أن أستنشق رائحة البحر والرطوبة، . أو حركة

سمع الغناء ذا الطبيعة االوبرالية، أو العزف الذى يأتى من وأ

أماكن بعيدة، كما أستطيع أن أسمع هدير محركات المراكب

ما كان يهمنى هو هذه . التى تسير فى القناة أسفل النافذة

األصوات التى تتناهى بين الحين واآلخر من داخل الفندق،

ستنفر مداركى صوت باب يفتح، أو وقع أقدام تعبر الممر، فا

وبرغم . ألعرف مدى اقتراب هذه األصوات من غرفتى

األصوات البعيدة والقريبة، فإن الذى يهيمن على أجواء

بل إن . الغرفة، فى هذا الوقت المبكر من الليل، هو الصمت

. هذه األصوات تجعل الصمت فى الغرفة أكثر كثافة وقبحا

الذى ال أردت أن أبحث فى حقيبتى عن المذياع الصغير،

أسافر إال به، ثم عدلت عن ذلك خشية أن يحجب عنى

بينى وبين مجيء . صوت خطى المجرم إذا اقترب من بابى

الصباح زمن كأنه األبد، فكيف سأحتمل االنتظار وسط متاهة

الليل؟ وكيف يا ترى يفعل السجناء الذين يقضون االعوام فى

ن نفسى عتمة األقبية والزنازين؟ الكارثة أننى هنا أسج

بنفسى، وأمنعها من االستمتاع بليل فينيسيا العامر بشتى فنون

التسلية، األكثر من ذلك أننى مهدد بالقتل أو ما هو أشر من

لقد أمضيت ليلة . إننى لم أجرب شعورا كهذا من قبل. القتل

فى الحجز أيام الصبا، بسبب اشتراكى فى مظاهرة طالبية،

. ا أرى نفسى خلف القضبانولعلنى شعرت بالقهر واأللم وأن

كانت تلك الليلة برغم . ولكن ما أشد الفرق بين الليلتين

آالمها، عرسا وطنيا نتيجة ما كنت ألقاه من تعاطف الحراس

وزمالء الحجز، وانتهت لتصبح رصيدا فى النضال أتباهى

لم يكن هناك قاتل يتعقبنى، كما يحدث هذه . به فيما بعد

ا سيحتسبها نضاال يضيفه إلى تاريخى الليلة، التى ما أظن أحد

السكين فى يدى ما يزال، وأنا ال أفعل شيئا سوى . الوطنى

أن أحملق فى الجدران العارية، المطلية بلون رمادى يخفى

آثار الرطوبة، وصورة المسيح وهو ينام هانئا فوق صليبه،

معلقة فوق سريرى، والكتاب المقدس مربوط إلى الحائط

ى فوق الكوميدينو، مكتوب بالالتينية التى ال بسلك معدنى ملق

سبيل إلى فك رموزها أو االستنجاد بصالة من صلوات

وددت لو أطلق صرخة أمزق . الرحمة التى يضمها الكتاب

بها سحب الضيق التى تمأل صدرى، وأرسلها عالية فى

. جوف الليل لعل أحدا من سكان كوكب األرض يأتى لنجدتى

خل هذه الغرفة بالباحات الكبيرة لقد قايضت األمان دا

والسماء المفتوحة وملذات الروح والجسد التى تقدمها فينيسيا

ولكن أين هو األمان؟ ال بد لى من هواء . لزبائن الليل

غامرت بفتح باب الشباك ووقفت . أستنشقه لكى ال أختنق

تألألت عناقيد الضوء فى . أمأل صدرى بالهواء النظيف

كست ترقص رقصة مرحة فوق صفحة أجواء المدينة وانع

وتدافعت مع موجات الهواء اصوات المغنين . الماء

سمعت حركة . والعازفين، فلم يزدنى المشهد البهيج إال تعاسة

فى غرفة مجاورة، ورأيت نافذة مضيئة تحاذى نافذتى،

أقفلت الشباك وعدت . فخشيت أن يباغتنى منها المهاجمون

فى، وأنا أرى نفسى إلى السرير أفكر فى هوانى وضع

ال شك أن األمر كان . محاصرا مثل فأر داخل المصيدة

سيختلف كثيرا لو أن ما يحدث معى اآلن، حدث فى مكان

آخر أعرفه وأعرف اهله، ولكن ما حيلتى وأنا أتعرض لهذا

االجتراء على حياتى وحريتى فى مكان غريب مثل هذا

هذه المدينة، المكان، ومدينة تقع بأقصى أطراف الدنيا مثل

وفوق أرخبيل من الجزر تحاصره أربعة بحار، بعيدا عن

أمامى أكثر . أهلى وبيئتى وكل ما تآلفت معه من بشر وأشياء

فهل . من عشر ساعات أخرى قبل أن يبزغ ضوء النهار

أبقى قابعا فى هذا المربع األسمنتى ال أفعل شيئا سوى

ها ترديد االنتظار والترقب وممارسة طقوس الخوف بما في

هل أغامر اآلن وأترك الغرفة عائدا . بعض األدعية والتسابيح

إلى أضواء وهواء وزحام الشوارع، حتى لو كان الثمن

ولكى ال أصاب بالجنون، أخرجت . مواجهة مرعبة مع القاتل

أحسست بشيء من . المذياع، باحثا عن محطة عربية

اصف االرتياح وانا أسمع صوت عبد الوهاب يغنى وسط العو

:التى تصنعها موجات إرسال بعيدة

أنا والعذاب وهواك-

هذه أغنية رجل يتعذب وحيدا، ولكن ما أعظم الفرق

يشرد فكرى مع كلمات االغنية، يبحث . بين عذابه وعذابى

فى تهويماته عن فسحة حرية خارج هذه الغرفة وخارج هذه

يال المدينة ورطانتها األجنبية، يلعب لعبة تعويضية تبعده قل

أشتات من ذكريات ال يجمعها نسق وال . عن لعبة الموت هذه

زوبعة من الغبار تنشأ نتيجة عراك بينى وبين عدد . منطق

كان الخوف يشل . من الصبيان ترصدوا لى فى ساحة القرية

قدرتى على رد اللكمات والصفعات، فكنت أصرخ وأرفع

أتى ولكن يدا ت. ذراعى ألحتمى بهما من شراسة المهاجمين

يد رجل كبير جاء يطرد األوالد . لتنتزعنى من وسط العراك

سطل من الماء تدلقه إحدى نساء العائلة وراء . وينقذنى

السيارة التى تنقلنى من البيت إلى المطار، جلبا للفأل الحسن

انتهت . أنا والعذاب وهواك. الذى سيعيدنى سالما إلى البيت

طائرة تطفو . هنىاالغنية ولكن اصداءها ظلت تتردد فى ذ

فوق أمواج السحب، ومضيفة تأتى باسمة، لتحيتى ألنها الفت

:وجهى لكثرة ما أقوم به من رحالت صحفية

ماذا ستكتب فى رسالتك من إيطاليا؟-

وهل هناك ما هو أكثر إثارة من المافيا؟ سأكتب -

. عنها طبعا

قلت ذلك مازحا، وها أنا اآلن وسط مشهد من المشاهد

. نراها إال فى أشرطة العنف التى تتحدث عن المافياالتى ال

وال أدرى بعد ذلك كيف استطعت وأنا فى هذه .. أنا والعذاب

الحالة من التوتر والفزع، أن أنتقل من كوابيس اليقظة إلى

كانت الغرفة قد بدأت تعج برجال ال مالمح . كوابيس النوم

الغرفة، أشباح تقتحم الباب والشباك، وتنبثق من أرض. لهم

يتجمد الدم فى . وتهبط من السقف وتصنع دائرة حولى

عروقى وأنا أراها تقترب منى، وتمد نحوى أذرعها الطويلة

التى يغطيها الوبر الكثيف، وأصابعها التى تشبه المخالب،

وقبل أن تطبق على عنقى سمعت طرقا على الباب، فنهضت

اء النوم، من رقادى مفزوعا، أبحث عن السكين الذى سقط أثن

. تناولته وأنا أهرع إلى الباب وألتصق به أسأل من الطارق

. بونجورنو سينيور-

. كانت عاملة النظافة تبحث عن غرفة لتنظيفها

. اونا مومينتو سينيورا-

لحظة أيتها السيدة اإليطالية التى ال تعلم رعب هذه

وقفت برهة . الحلقة من حلقات الجحيم التى أحاطت بى

ن رأسى كوابيس الليل، قبل أن أفتح الشباك وأرى أنفض ع

النهار ينشر غالالت ضوئه فوق فينيسيا التى بدت تحت

ازحت الطاولة . أبخرة الصباح وديعة وهادئة وغامضة

والكرسى من خلف الباب وأعدتهما إلى مكانهما قرب

السرير، وهبطت إلى قاعة اإلفطار حيث يجلس بعض زبائن

ظراتى بحثا عن الرجل الذى يطاردنى، أقتحمتهم بن. الفندق

سأتدبر وسيلة لحجز مقعد فى أول . وعندما لم أجده، جلست

طائرة تقلنى إلى مطار روما ومنه إلى طرابلس، لن أقضى

كانت التذكرة التى جئت . ليلة رعب أخرى فى هذه المدينة

بها من روما، تذكرة أسبوعية مخفضة ال تتيح لصاحبها

عطلة األسبوع، أى بعد ثالثة أيام، ولكن العودة قبل انقضاء

النقود التى تبقت معى سوف تسعفنى لدفع الفرق أو شراء

ال . أكملت إفطارى، واتجهت إلى باب الفندق. تذكرة جديدة

شك أنه يقف اآلن بانتظارى بمالمحه اإلبليسية المحنطة

ال أدرى كيف قضى ليلته، فلعله قضاها . وعينيه الخزفيتين

ما عساه يفعل وهو يرانى بعد . نائما وهو واقفواقفا، أو

لعله سيسرع بإنجاز . قليل أحمل حقيبتى وأغادر المدينة

استعذت باهللا من . مهمته قبل أن يطير الصيد من شباكه

شياطين األرض والسماء، ووقفت أنظر إلى الشارع وأرى

جموع الناس الذين أيقظهم الصباح ودفع بهم خارج فنادقهم

تأنفون نشاطهم ويمضون فى تنفيذ برامجهم، وبيوتهم يس

فأحس بالغبن ألننى حرمت من هذه الحرية البسيطة التى

اكتشفت أننى مازلت أحمل السكين . يتمتع بها بقية الناس

معى، أخبئه فى جيب سترتى، فليتنى حقا أجد الشجاعة

لم . لغرسه فى صدر هذا الرجل فور أن يأتى لمهاجمتى

قعى أمام الفندق، فذهبت أبحث عنه أستطع أن أراه من مو

خلف األعمدة واألقواس القريبة وأطوف بعدد من األكشاك

التى تتناثر على األرصفة المقابلة تبيع الصحف والورود

لقد الحقنى طوال نهار االمس، . والهدايا، دون أن أعثر عليه

حتى أوصلنى إلى باب الفندق وبقى متكئا على هذا العمود

. نى، فكيف أصدق أنه تخلى عن مطاردتىالرخامى ينتظر

لعله اكتفى بمعرفة الفندق الذى أقيم فيه، وأرجأ المالحقة إلى

أو لعله استأجر غرفة فى الفندق قبالة غرفتى، . وقت آخر

رجعت . وانتظر حتى خرجت ليباشر تفتيشها ثم يلحق بى

مسرعا إلى الفندق، وصعدت ثانية إلى الغرفة، وعندما لم

ا، ذهبت أبحث عن وكالة السفر، وأنا أتلفت ورائى أجد له أثر

ولكن الرجل ال يظهر وقلبى ال . خشية أن يظهر فجأة

قرأت الفتة تشير إلى وكالة السفر، فكدت أعبرها . يطمئن

لماذا أستعجل مغادرة المدينة . دون أن أعتنى بالدخول إليها

رأيت من خالل الواجهة . إذا كان الرجل حقا قد اختفى

ية وجه فتاة تجلس فى المكتب بمفردها، فأغرانى ذلك الزجاج

قدمت لها التذكرة مبديا رغبتى فى حجز . باقتحام خلوتها

قالت وهى تضرب على . مقعد على أول طائرة إلى روما

:أزرار الحاسب اآللي

. هل تجد فينيسيا مضجرة إلى هذا الحد-

يا لكنتها اإليطالية تمنح الكلمات اإلنجليزية رنينا أنثو

عذبا ومغريا، خاصة هذه الجملة االستفزازية الجميلة التى

تتهمنى بأن لى قلبا حجريا ال يقوى على استيعاب فيض

كيف أشرح لها أن قلبا . الجمال الذى يشع من حجارة مدينتها

حجريا آخر هو الذى اقتحم حياتى، وأنزل بى سخطا ونكدا

نى وقفت صامتا أنتظر أن تخبر. يرغمانى على الرحيل

إنها تميل إلى البدانة قليال، ولعلها . بفارق الثمن الذى سأدفعه

ستكون أكثر بدانة عندما تقف ويظهر نصفها المختفى خلف

. المكتب العالى، ولكن وجهها المستدير يفيض نضارة وبهاء

:قلت وأنا أمأل البصر من مالمح وجهها المتورد المضيء

لم خطأى أننى جئت إلى فينيسيا بمفردى، و-

. أصطحب صديقتى معى

:ابتسمت دون أن ترفع عينيها عن أزرار الحاسب

لو كنت مكانك . سيكلفك هذا التغيير مبلغا كبيرا-

. ألبقيت على الحجز كما هو

كان ال بد أن أغامر باسئناف الحديث الحميمى، وأصل

إلى النتيجة التى أريدها قبل أن يداهمنا زبون آخر تنشغل به

وصف ما أصابنى من ضجر، وما أحسست بالغت فى. عنى

به من غربة لم تفلح كل مظاهر الجمال فى مدينتها من

التخفيف منها، ألننى ال أجد أحدا يشاركنى االستمتاع بهذا

قلت لها إن أكثر لحظاتى تعاسة عندما أجد نفسى . الجمال

أجلس فى المقهى أو المطعم وحيدا وأتناول وجبة اإلفطار أو

عشاء دون أنيس، فهو أمر يتناقض مع طبيعتى الغداء أو ال

وأعربت لها عن رغبتى فى البقاء أياما . التى تنفر من الوحدة

أخرى لو ضمنت وجود إنسان يبادلنى الحديث من حين

كنت قد حددت هدفى الذى يتركز فى انتزاع موعد . آلخر

كان . لم يكن دافعى فقط أنها فتاة بالغة البهاء والعذوبة. للقائها

لدافع األكبر، هو ذلك الرجل الذى يطاردنى، فهو وإن اختفى ا

عنى هذه اللحظة، فال أحد يضمن أنه لن يظهر فى أية

ووجود إنسان معى، امرأة كان أو رجال، سيمنحنى . لحظة

قدرا من األمان، ويتيح لى أن أواجه الرجل متسلحا بهذه

أفصحت لها عما أريد، لكنها راوغت وماطلت . العالقة

حتنى باالنضمام إلى رحالت داخل المدينة تنظمها ونص

المكاتب السياحية، حيث سيتاح لى التعرف برفاق الرحلة

وكنت أرد . وتبادل الحديث معهم ومع المرشدين السياحيين

عليها بأن طبيعتى الحرة تكره الجداول التى تحدد مواعيد

الحضور واالنصراف وأوقات النوم واليقظة والعالقات

المرسومة بالمساطر، وإننى ال أبحث سوى عن الرسمية

إنسان أتآلف معه وأتبادل وإياه الحديث فى المقهى لبعض

وبرغم أنها لم تعدنى بغير لقاء قصير . الوقت وينتهى األمر

أثناء فسحة الظهيرة فى اليوم التالى، فإن هذا الوعد كان كافيا

إنسانا لم أعد . ألن يزرع فى دمى شحنة من النشاط والحيوية

ثمة امرأة، لها وجه مرسوم بأبهى األلوان، سألتقى . وحيدا

بها غدا، وفى مقهى فلوريان الذى شهد قصصا عاطفية

لحظة خاطفة من البهجة، . احتفى بها تاريخ األدب والفن

أعادتنى إلى جمال وعذوبة اللحظات األولى للقائى بهذه

تكفلت بطرد ولكن التفاتة صغيرة . المدينة التى أحبها القلب

كل مشاعر الفرح التى تدافعت مع موجات الهواء الربيعى

رأيت فى البعيد الرجل الذى يطاردنى قادما . إلى صدرى

نحوى، وقد ارتدى هذه المرة قبعة تنكفئ فوق وجهه حتى

تشنجت أصابعى على مقبض . غابت نصف مالمح الوجه

ت ثم رأي. السكين القابع فى جيبى وأنا أراه يندفع نحوى

نفسى، فى التفاتة مباغتة، أمسك عنقه بيدى قبل أن يباغتنى،

دفعته بكل ما أملك . وأدفع باليد األخرى السكين فى صدره

من غل وحقد وغضب، حتى غاص بين أضلعه، لينبثق دمه

أغمضت عينى وفتحتهما، وحركت . ملطخا مالبسه ومالبسى

رأيت . رأسى بعصبية أنفض هذا الكابوس الذى داهمنى

رجل يواصل مسيره بمحاذاتى، وهو يلتفت باستغراب ال

هل ال بد أن أكون قاتال أو . لم يكن هو ذات الرجل. نحوى

هل حقا اختفى من حياتى ليتركنى أصارع شبحا ال . قتيال

وجود له إال فى ذهنى، وأقوم بجريمة قتل وهمية تعويضا

ليتنى لم . عن خيبتى فى التصدى له أثناء المواجهة الحقيقية

أقع تحت إغواء الموظفة الحسناء، ودفعت الثمن الذى تريده،

كيف لى أن أتحرر . ورحلت ألضمن لنفسى النجاة من الهالك

لعله . من هذه المخاوف، أو أصدق أن المطاردة قد انتهت

كان يظننى ثريا من أثرياء النفط وما إن رأى فندقى الفقير

.حتى أدرك حقيقة أمرى وانصرف عنى إلى هدف آخر

أليس هذا تفسيرا معقوال؟ فألتحرر إذن من سطوة هذا الشبح،

ها هو أعظم ما أبدعه . وألواصل شعائر حجى إلى فينيسيا

اإلنسان مرسوم فوق األقمشة ومنقوش فوق الحجارة

واألخشاب، وال يقتضى أن أذهب باحثا عنه، ألنه يعترضنى

ثرى ألقف إذن متبتال خاشعا أمام هذا الباب األ. أينما اتجهت

لكنيسة القديسة هيالنه، أتأمل النقوش المحفورة فوق الخشب،

بما تحمله من رموز ودالالت، وما تبعثه فى النفس من رؤى

ألفعل ذلك دون أن أنسى حذرى، أو أخطئ فأمنح . ومشاعر

فكرى كله للنقوش والتصاوير، إذ لعل العصابة التى ينتمى

با أكثر تنكرا إليها الرجل، كلفت زميال له، يستخدم أسلو

نظرت إلى وجوه الناس الذين يحفل . ومراوغة لمطاردتى

بهم الشارع، بدا لى كأن هؤالء الناس جميعا يريدون بى

وهاربا من مشاعر الخوف، وظالل ذلك الشبح، مضيت . شرا

. أضرب فى أزقة وحوارى فينيسيا، تائها ال أعرف لى هدفا

كل قناطرها هناك أكثر من مائة وستين قناة لعلنى عبرت

دون أن يفارقنى هذا اإلحساس بالوحشة، الذى ال يزيده

أحسست . ضجيج السائحين وغناء المالحين إال كثافة وعمقا

بالتعب، فاخترت مقعدا فى منطقة مشمسة ورميت عظامى

كنت قد اشتريت نشرة محلية باللغة اإلنجليزية، بعد أن . فوقه

عيم سياسى أثارت فضولى صورة تمأل الصفحة األولى لز

قرأت الخبر الذى يتصل بالصورة . من بالد الشرق األوسط

. فإذا به عن زيارة قام بها هذا الرجل إلى فينيسيا نهار األمس

وأضافت النشرة بأن السلطات األمنية فى المدينة اتخذت

إجراء وقائيا بهذه المناسبة، ووضعت كل الشخصيات

. المراقبة الصارمةالمشبوهة القادمة من البالد العربية تحت

ظننت أن هذه المعلومة التى تقدم تفسيرا لمطاردة األمس

سوف تعيد إلى نفسى الصفاء الذى تنشده، ولكن ألمر ما،

لقد عشت . وجدت أن حالة التبرم واالنقباض ال تفارقنى

وها . نهارا وليلة مع اإلثارة والرعب بسبب تافه ال أهمية له

الزحام، ال أعرف أحدا وال أنا أعود وجها مجهوال فى هذا

أحد يعرفنى، غير هذه السلطات األمنية التى نظرت فى

أوراق القادمين إلى المدينة، ووجدت أن اسمى يستحق أن

يكون اسما لشخصية مشبوهة تهدد األمن، فيضعونها تحت

أن - قلت لنفسي-ألم يكن بإمكان هذه السلطات . المراقبة

وال يحمل مالمح جامدة تختار رقيبا أقل جالفة وصفاقة،

ما أقسى هذه الطريقة التى تعاملين بها . جمود األموات

عشاقك أيتها الجميلة فينيسيا، ولكن من كان قارئا لألدب

مثلى، سوف ال يستغرب هذا منك وقد رأى المصير الذى

. القاه عطيل على يديك

ووفاء لهذا العشق القديم الذى بدأ يتبخر ويتالشى،

شيء يحرك الفتور الذى أصاب مشاعرى، ذهبت أبحث عن

خلف بوابات متاحفها وقصورها، بدال من الطواف بجدرانها

دخلت قصر االدواج، وصعدت الساللم األثرية . الخارجية

ذات الفخامة والبهاء، ومرقت تحت األقواس التى تنتمى إلى

عصور المحاربين الكبار، وشاهدت تاريخ المدينة مرسوما

زائم وانتصارات، ومعارك مع البيزنطيين على اللوحات، ه

والعثمانيين والنمساويين والممالك اإليطالية المجاورة،

وكانت ذاكرتى تهرب . ومشاركة فاعلة فى الحروب الصليبية

إلى مسرحيات المآسى ومشاهدها التى تقتبس أحداثا دارت

فى هذا القصر، فتوقظ فى نفسى إحساسا بالفزع من هذه

واألسقف المهولة العالية، والجدران التى الغرف الواسعة،

ذهبت إلى أكبر متاحف المدينة، ورأيت . يغلفها غبار الزمان

تيجان الملوك وقالئد الذهب والياقوت واأللماس، فانصرف

ذهنى يبحث عن مصير الرؤوس التى كانت تعتمر بها،

وقفت طويال أمام . واألعناق والصدور التى كانت تزهى بها

تى رسمها فنانو عصر النهضة بجاللها الكالسى، اللوحات ال

وتأملت تلك العوالم الروحية بشفافيتها ومثاليتها كما بدت فى

االيقونات الملونة، وصور العذراء، وهاالت النور فوق

ومع ذلك فإن الشعور ال يفارقنى، بأن كل . رؤوس القديسين

سى ما أراه اآلن سبق أن رأيته وعرفته، ولم يعد يثير فى نف

كل هذه األبراج والقباب . أى إحساس بالدهشة أو االنبهار

والتماثيل والتصاوير، كل هذه الحجارة واألعمدة واألقواس

وأبواب الخشب والحديد، التى تحمل كثافة التاريخ، وثراء

. األزمنة القديمة، لم تعد تعنى بالنسبة لى شيئا جديدا أو مثيرا

الموانئ الصغيرة، عدت إلى الباحات والقناطر وأرصفة

ورأيت مظاهر الحياة المليئة بالمرح، فبدا لى أننى ال أرى

سوى المظهر الخادع البراق، الذى يخفى محتوى أكثر

إن فينيسيا ال تظهر لزائرها األماكن التى تدفن فيها . تعتيما

موتاها وال المالجئ التى تضم المعتوهين وضحايا االمراض

ومعنى ذلك أن لديها أشياء أخرى العقلية من رجالها ونسائها،

. تخفيها، لكى ال يرى الزائر غير هذا الوجه العامر باألصباغ

صارت عيناى ال تلتقطان إال مشاهد المشردين من ضحايا

الشراب الذين يتكومون فى األركان المعتمة واألعشاب الميتة

التى يدفع بها الماء فتصنع أكداس العفونة فى نتوءات وشقوق

وذاكرتى ال تستحضر إال الروايات التى تتحدث . ةاألرصف

عن مجرمى ولصوص وقراصنة فينيسيا، بل إن كازانوفا

نفسه الذى باعته فينيسيا للعالم، باعتباره العاشق األسطورى،

حتى هذه الفتاة، التى تعرى . لم يكن إال جاسوسا رخيصا

ساقيها وصدرها وكتفيها، وتستعرض أمام الناس سحر

أليست فينيسيا . من قال أنها ال تحمل مرضا جنسياأنوثتها،

هى المدينة التى يقصدها األغنياء من ضحايا هذه األمراض

. لقضاء أيامهم األخيرة

كنت أعرف أننى أقسو على فينيسيا، وال أستعرض من

دفترها الكثير األلوان إال صفحاته السوداء، التى أضيف اليها

أبادلها انتقاما بانتقام، لكى إننى بذلك . سوادا تفيض به روحى

. أتحرر قليال من عبء هذا الظلم الذى ألحقته بى

عندما انتهى النهار وعدت إلى غرفتى، كنت فى حالة

من اإلنهاك أسلمتنى إلى نوم لم أفق منه إال فى ساعة متأخرة

اغتسلت وتناولت إفطارى على مهل، . من صباح اليوم التالى

لى معاودة السياحة فى فينيسيا، دون أن أجد رغبة تدفعنى إ

كدت أنسى . وكأننى نفضت يدى من هذه المدينة نهائيا

موعدى مع فتاة الوكالة، بعد أن احتسبتها جزءا من هذه

وبدافع اللياقة وحدها ذهبت . المدينة التى طرحتها من حسابى

إلى مقهى فلوريان، وإلى طاولة فى الفناء الخارجى، حيث

بى رفرقة أجنحة الحمائم وأنغام تحف. جلست بانتظارها

موسيقى فاجنر، وتمأل الفضاء من حولى، فتجعلنى مكتفيا

رأيتها مقبلة، فوقفت الستقبالها، ولكن هفهفة الثوب . بوحدتى

الزمردى، ونضارة الوجه، وعذوبة الصوت الذى ألقى

التحية، لم تستطع إخفاء بدانة الجسم بطياته الكثيرة عند

ها شايا بالحليب مصحوبا بقطع الجاتوه، طلبت ل. الخاصرتين

احتفاال بقدومها، وتعويضا لها عن هذا الفتور الذى أحس به

وتبادلت معها كلمات التحية والمجاملة، ثم لم أجد . نحوها

لم تظفر منى بغير إجابات مقتضبة على . شيئا أقوله لها

أسئلتها التى تحاول مغالبة الصمت، حول مشاهداتى فى

وكان ال بد لهذا الصمت أن . نطباعى األول عنهافينيسيا وا

ذهبت امرأة الوكالة لكى تخفى بدانة . ينتهى بانتهاء اللقاء ذاته

جسمها خلف المكتب، وعدت وجها مجهوال فى زحام

فينيسيا، ال أدرى ماذا أفعل بالوقت الذى تبقى معى، وال

أعرف علة لهذه التقلبات التى تطرأ على عقلى وقلبى،

ى متبرما بالمكان الذى عشت عمرا أحلم بزيارته، وال وتجعلن

سبب نفورى من هذه المرأة ذات الوجه المضيء، التى

كل ما أريده اآلن، هو . أشفقت على غربتى فجاءت لمؤانستى

أن أعود إلى غرفتى وأنام نوما طويال ال أستيقظ منه إال

وسأكون سعيدا وأنا . عندما يحين موعد ذهابى إلى المطار

غادر فينيسيا التى اعتبرتنى شخصا مشبوها يهدد أمنها، أ

والتى لن أحمل من ذكرياتها سوى ذكرى هذا الرجل ذى

. المالمح المحنطة الذى أرسلته ورائى ذات مساء

مصرع نملـــةرأيت أول ما رأيت، قشة تزحف ببـطء فوق الرمل

كنت أفترش منديال، مستلقيا تحت المظلة بعد . بجوار رأسى

اعة من العوم، أتسلى بقراءة قصة غرامية، أمام غرفتـى س

تركت القراءة ومددت عنقـى وبصـرى . القريبة من البحر

أبحث عن سر هذه القشة الزاحفة، وعن الشيء الذى يـدفعها

اكتشفت . فى مثل هذه القيلولة التى خلت من أية نسمة عابرة

منذ الوهلة األولى أن تحث القشة نملـة صـغيرة سـوداء،

شمت وضع هذه القشة الكبيرة التى تساوى حجمها مرتين، تج

. بين فكيها، ونقلها إلى مدينتها

كان واضحا أنها تعانى عنتا كبيرا فى حملها، بـدليل

أنها كانت تقف لترتاح قليال قبل أن تواصل الرحلة، و ما أن

تقطع بها مسافة صغيرة حتى تقف من جديد لتستلقط أنفاسها

، إلى أن وجدت فى مواجهتهـا مرتفعـا ثم تستأنف مشوارها

رمليا جعل مهمتها فى نقل القشة أكثر صعوبة، بـل جعلهـا

غير ممكنة على اإلطالق، فقد وضعت القشة ودارت حولهـا

تحاول جرها فلم تستطع، ثم حاولت حملها من جديد أو دفعها

دفعا دون فائدة، فتخلت عن محاوالتها وتركت القشـة فـى

. قعمكانها وغادرت المو

بدا األمر غريبا إلى حد مـــا، فمعلومـاتى عـن

النمال أنها أكثر الكائنـات مثـابرة وقـدرة علـى الصـبر

واالحتمال، وأن هناك نظاما صارما يحكم أسـاليب العمـل

والحياة فى الممالك النملية يمنع مثل هذا السلوك الذى اتبعته

هذه النملة عندما تخلت عن مهمتها من أول صعوبة التقـت

بها، فهل تراها نملة متمردة تكره الخضوع ألنظمـة قومهـا

الصارمة الظالمة، أم أنها استغلت فرصة وجودها منفردة فى

هذا المكان، بعيدة عن نقاط الحراسة والمراقبة والعيون التى

ترصد وتحاسب وتتابع ما يحـدث، فلـم تجـد حرجـا وال

غضاضة فى أن تتخلى عن الحمل الثقيـل الـذى أرهقهـا

.ذهب لتبحث عن حمل أخف وزنا تعود به إلى أهلهاوت

تتبعت النملة وهى تجتاز المرتفع الرملـى وتمشـى

بمحاذاة الجدار، وكان سواد لونها، وبساط الرملة الحمـراء

تحتها وانكسار أشعة الشمس فوقها، يمنح هذه النملة مظهـرا

راقبتها وهى تنطلق مسرعة الخطـى، مليئـة . جذابا جميال

الحيوية، فتمنيت أن أجد الفرصـة ألرى الخطـوة بالنشاط و

القادمة التى ستقوم بها وأعرف إلى أين سـينتهى بهـا هـذا

السلوك المخالف لنواميس النمل الذى اتبعته، ولكنها اختفـت

خلف إحدى منعرجات الجدار ولم يعد بإمكانى أن أعرف ما

يحدث لها، فعدت إلى كتابى، وإلى حالة االسترخاء التى كنت

ستمتع بها قبل ظهور هذه النملة أمامى، أبحث بين صفحات أ

الكتاب عن المكان الذى توقفت عنده، مسـتأنفا الحيـاة مـع

أبطال القصة الذين يعانون لوعة العشق، متخليا عن النملـة

وقشتها، ولكننى قبل أن أبدأ القراءة، رأيت ذات النملة تظهر

، مسـرعة من جديد، وتسلك ذات الطريق عائدة إلى قشـتها

الخطى كعادتها، تمتلئ حيوية ونشاطـــا وحماسـا ألداء

رأيتهـا . مهمتها، فقد نجحت فى جلب رفيقة جاءت بها معها

تمشى خلفها وتحاول أن تلحق بها فأدركت أنها ما أحضرتها

. إال لكى تستعين بها على حملها الثقيل

كانت المسافة ما تزال بعيدة بينهما وبين الوصـول

وال أدرى لماذا نبتت فى ذهنى فكرة مداعبة هـذه إلى القشة،

النملة والدخول معها فى لعبة عابثة ألتسلى بكيف يكـون رد

لعل الفراغ، وجو المصيف الذى يرتبط فـى أذهاننـا . فعلها

باللهو واللعب هما اللذان أغريانى بهذه المشاغبة، فقد مددت

ة وهـى أصابعى ألتقط القشة وأطوى عليها يدى، وأتابع النمل

تقود رفيقتها إلى مكان القشة ألرى ماذا ستفعل عندما تصـل

.وتجد أن قشتها قد اختفت

وصلت النملة تتبعها صاحبتها إلى المكان المقصود،

ووقفت برهة تنحرف بجسمها شماال ويمينا كأنها تحـاول أن

تتأكد من أن هذا هو المكان الصحيح، تم تركت زميلتها واقفة

مكان وتنطلق شماال وجنوبـا وشـرقا وصارت تدور حول ال

طـال البحـث . وغربا تبحث عن قشتها المفقودة دون فائدة

تعود إليها وتقف معها لحظة قصـيرة . وزميلتها واقفة تنتظر

كأنها ترجوها مواصلة االنتظار، ثم تعاود البحث والـدوران

ويبدو أن صبر زميلتها قد نفد، أو لعل وقتها . فى ذات المكان

يعد يسمح بمزيد من االنتظار، فال شك أن هناك هو الذى لم

مهمات أخرى تنتظرها، إذ ال أحد فى ممالك النمل يمكنه أن

يبقى عاطال لفترة طويلة عن العمل، فقد تحركت من مكانهـا

بضع خطوات إلى األمام باتجاه صاحبة القشة التـى وقفـت

تنصت لها، وال بد أنها أسمعتها بعض كلمات اللوم والعتـاب

لى ما سببته لها من إضاعة الوقت ألنها ما أن فرغت مـن ع

قول كلماتها حتى استدارت وأقفلت راجعة من ذات الطريـق

. الذى منه جاءت

انتظرت حتى اختفت زميلتها، وقد ظلت هى واقفـة

فى مكانها غاطسة فى الكدر والحيرة، فبسطت يدى وأخرجت

ينة بأن تلك القشة القشة أعيدها إلى مكانها، لتفاجأ النملة المسك

التى كانت سبب كل ما أصابها من حرج وكدر موجودة تحت

ال أستطيع بطبيعة الحال أن أعرف كيف كان شعورها . أنفها

وما دار من أفكار فى رأسها الصغير وهـى تسـتقبل هـذه

المفاجأة، ولكننى على يقين من أنها كانت شديدة الدهشة مما

ذى أحاط باختفاء القشة حدث، حائرة فى أمر هذا الغموض ال

وظهورها، وفى ذات الوقت فهى سعيدة بعثورها على القشة،

تدور حولها كأنها ال تستطيع أن تصدق أنها أخيـرا اهتـدت

إلى قشتها المفقودة وأن بإمكانها اآلن أن تذهب إلى صديقتها

التى رجعت غاضبة، ظــنا منها أنهـا خـدعتها وكـذبت

ة موجودة، وأن بإمكانها أن تـأتى عليها، لتقول لها بأن القش

لترى ذلك بنفسها وتساعدها فى نقلها كما كـان مخططـا أن

يحدث، وأنها وإن تاهت عنها فى المرة السابقة فما عاد ممكنا

. أن تتوه عنها هذه المرة

وهكذا تركت القشة فى مكانها، وانطلقـت مسـرعة

كنت قـد . عبر ذات الطريق حتى اختفت عند حرف الجدار

دمجت تماما فى هذه اللعبة، ناسيا الكتاب والسباحة، جالسـا ان

أنتظر عودة النملة، وأتساءل عما إذا كانت ستفلح فى إقنـاع

وبدا واضحا أنهـا نملـة . رفيقتها الغاضبة بمعاودة المحاولة

حاذقة ماهرة، فقد استطاعت فعال أن تنجح فى مهمتهـا، وأن

ت الفـرح تعود ومعها صاحبتها وقد بـدت عليهـا عالمـا

والسعادة، وهى تتواثب فوق الرمل وكأنها ترقص ألنه صار

بمقــدورها اآلن أن تثبــت لصاحبتهــــا ولمــن عــرف

بالموضوع من أهل مدينتها أنها ليست نملة كاذبة، وال عابثة

. تتلهى بأوقات أو مشاعر اآلخرين

كنت قد بدأت أحب هذه النملة، وأشعر بوجود رابطة

وتجعلها قريبة إلـى قلبـى وأشـاركها ما تنمو بينى وبينها،

أحاسيسها وأنا أراها تجرى متلهفة ومشوقة للوصـول إلـى

الموقع الذى تركت عنده قشتها، ولكن هذا اإلحساس الغـامر

بالعطف عليها واإلعجاب بها لم يقف حاجزا دون رغبتى فى

مشاغبتها ومواصلة هذه اللعبة القاسية معها، فقبـل لحظـات

، مددت أصابعى ألتقط القشة من فـوق قصيرة من وصولها

.الرمل وأخفيها عن النملة وصاحبتها

أحسست وأنا أفعل ذلك بأننى انتقلـت باللعبـة إلـى

مرحلة أكثر خطورة وحرجا بالنسبة لهذه النملـة الصـديقة،

وأننى أضعها اآلن فى موقف سيكون مصدر ضيق وحـزن

لها، وهذا ما حدث فعـال وظهـر واضـحا مـن الطريقـة

حمومة التى صارت تبحث بها عن القشة عندما وصـلت الم

ظلت تطوف حول مكان القشة فى دورات سريعة . ولم تجدها

وكثيرة وبخطى شديدة االنفعال والعصبية، أرادت أن تصـعد

بذات الطريقة عبر المرتفع الرملـى، فارتبكـت وتعثـرت

لم يكن خافيا عنى أنها تعـانى . وسقطت تتدحرج مع الرمل

أقسى أنواع الحرج واأللم وأنها بعد أن قامت من اآلن أشد و

عثرتها، وقفت بجوار صاحبتها ال تجد أى كلمات تقولها لها

عاجزة حتى عن االعتذار أو الشرح أو التفسير لما حـدث،

وأيقنت أن العدل واإلنصاف يلزماننى بان أتدخل اآلن وأضع

عـل، حدا لعذاب ومعاناة هذه النملة المسكينة، لكننـى لـم أف

مفضال أن أصل باللعبة إلى نهايتها، وأرقب سلوك هذه النملة

.الذكية وأسلوب مواجهتها للموقف وهو يزداد تطورا وتأزما

أدركت صاحبتها أنها خدعت مرة أخرى، فاستدارت

عائدة أدراجها من حيث جاءت، إال أنها لم تمض فى طريقها

يـق سوى بضع خطوات حتى عادت، وكأنها وجدت أنه ال يل

بها أن تذهب قبل أن تصب بعض الكلمات القويـة فـى أذن

زميلتها، تكون درسا لها كى ال تخدع نماال أخـرى، ألنهـا

اقتربت منها، تقف لبرهة وجيزة فى مواجهتهـا، ثـم تهـم

بالذهاب وتعدل عن ذلك، لتواصل صب وابل اللعنات فـوق

رأسها، كما بدا لى من تحركاتها الغاضبة، التـى واجهتهـا

نملة المسكينة بالمذلة والخنوع، فقد توقفت عـن الطـواف ال

والدوران بعد أن لحقها اليأس من العثور على القشة، متجمدة

فى مكانها، تستقبل لعنات صاحبتها، وقد فقدت كل ما كـان

يغمرها من نشاط وحيوية، عاجزة عن الحراك كأن صـاعقة

الصـديقة، تأسفت للحالة التى بدت عليها هذه النملة . أصابتها

ولكننى على ثقة من أنها ستستعيد قواها بسرعة فائقة وسيعود

إليها نشاطا وحيويتها لما لها من روح مرحة، وقدرة علـى

.مجابهة الصعاب

رأيت زميلتها الغاضبة تختفى من المشهد، فأعـدت

انتظرت أن أرى الفرحة تعود إلى . القشة بسرعة إلى مكانها

النشاط والمرح، إال أنهـا ظلـت صديقتى النملة ويعود إليها

متجمدة فى مكانها، كأنها لم تشعر بوجود القشة ولم ترهـا،

وهى طبعا لم ترها، إال أنها وإن فقدت البصر فهى لم تفقـد

البصيرة، ولديها حواس استشعار بالغـة الدقـة والرهافـة،

أقلقنى مـا . تقودها فى حياتها، فكيف لم تشعر بوجود القشة

د من أنها لم تصب بما يصاب به البشر من رأيت، ولكى أتأك

أمراض مثل السكتة القلبية والجلطة الدماغية، فقـد أدنيـت

رأيتها تتحرك كما لو أنها كانت فى . القشة منها حتى المستها

وفى بطء وتثاقل سـارت . حالة إغماء واستعادت اآلن وعيها

بضع خطوات ودارت حول القشة أكثر من مرة كأنها تبحث

ة لحملها من جديد دون عون من أحد، بعد المشاكل عن طريق

. الكثيرة التى حصلت لها بسبب طلـب العـون والمسـاعدة

أرادت دفع القشة، بعد أن اختارت زاوية تستطيع من خاللها

أداء هذه المهمة بنجاح، ولكن ما بدت عليه من تعب وإعياء

. وهوان حال بينها وبين تحقيق أية نتيجة فى هـذا السـبيل

ت تتدبر أمرها وتفكر فى الخطوة القادمة التـى يتعـين وقف

عليها القيام بها، وكأنما استقر رأيها على شيء، فتركت القشة

فى مكانها، ومضت بخطى وئيدة، سالكة ذات الطريق الـذى

بدت لى كأنها نملة أخرى تختلف . سبق أن سلكته إلى مدينتها

ريعة األنيقـة، عن تلك النملة الرشيقة الجميلة ذات المشية الس

فهى اآلن تمشى بتثاقل كأنها تزحف زحفا فوق الرمال بـال

ما الذى تتوخاه هذه المسكينة من . رشاقة وال أناقة وال جمال

قيامها بهذا المشوار الكئيب؟ إنها بالتأكيد لن تـدعو رفيقتهـا

القديمة الستئناف التجربة، واالحتمال األرجح أن تدعو نملـة

حدث، تأتى لمساعدتها فى حمل القشة، أخرى ال علم لها بما

ولكن هذه أيضا تبدو مسألة غير ممكنة فى ممالك النمل حيث

الحياة محكومة بأنظمة صارمة قاسية، فال سبيل وال مجـال

ألن تتصرف مثل هذه النملة على هواها و تدعو أيـة نملـة

تشاء وفى أى لحظة تشاء لمعاونتها، وإذا حـدث وغافلـت

ين وفعلت ذلك فمن هى النملة التى تسـتطيع األنظمة والقوان

أن تترك عملها، وتمضى خارج أسوار المدينة دون إذن وال

ترخيص من أحد؟ إن ذلك ال يحدث فى عالم النمل، ومعنـى

هذا أيضا أن النملة التى جاءت معها كانت تلبى أمرا صـدر

إليها من جهة أعلى فى المرة األولى والثانية، وأن هذه الجهة

يا على علم بكل ما جرى من أحداث بين النملة وصديقتها العل

وقشتها وال بد أنها اآلن فى طريقها إلبالغ هؤالء المسئولين

. بآخر ما حدث معها من تطورات

كنت مشوقا لمعرفة النتيجة التى ستنتهى إليهـا فـى

مسعاها األخير، أنتظر بلهفة أن أراها تظهر من جديد بعد أن

مرة خلف الجدار، واثقا من أن القصة لـن طال غيابها هذه ال

.تنتهى عند هذا الحد

جلست فى سكون القيلولـة أرقـب الطريـق حتـى

ظهرت، ففرحت بظهورها وكدت أبادر بتحيتها والترحيـب

بعودتها لوال الحواجز التى وضعتها الطبيعـة بـين البشـر

وبسرعة . والنمل وشملت لغة التخاطب كما شملت أشياء أخر

لم تأت بمفردها وإنما جاءت مصـحوبة بنملتـين تبينت أنها

تسيران خلفها، بدا من شكلهما أنهما تنتميان لعسـاكر النمـل

ونسائه المحاربات، وتمشيان مشية عسكرية ال تخطئها العين،

مما أعطانى انطباعا بأن هناك تحقيقا يجرى مـع صـديقتى

. النملة تتواله هاتان الجنديتان

اآلن منعطفـا أكثـر دقـة أدركت أن األحداث تتخذ

وخطورة من أى وقت مضى، ولعله يقتضى أن أتوقف منـذ

هذه اللحظة عن العبث بحياة هذه النملة البريئـة المسـكينة،

فأترك لها قشتها، لتستطيع أن تواجه التحقيق متسـلحة بهـا،

وتثبت للمحققين أنها لم تكن فى أية لحظة من اللحظات نملة

خالفا لمقتضيات الصدق واألمانـة كاذبة عابثة تسلك مسلكا م

لكننـى . والجدية التى يجب أن تتحلى بها نملة عاملة مثلهـا

رأيت أن وصول األحداث إلى هذه الـذروة مــن اإلثـارة

والتشويق يستوجب مواصلة اللعب دون أن أخشى شيئا على

النملة الصديقة، ألن مقدرات األمـور سـتبقى فـى يـدى،

رسم النهاية السـعيدة مهمـا وسأتدخل فى الوقت المناسب أل

ادلهم الموقف اآلن ووصل إلـى أقصـى درجـات المحنـة

والعذاب بالنسبة لها، وهكذا مددت أصابعى كما فعلـت فـى

مرات سابقة إلى القشة أضعها فى يدى، وأدفع بلحظة التأزم

.إلى قمتها العالية

وقفت النملة حين وصولها إلى مكان القشة، فوقفـت

أستطيع أن أتصور حجم الصدمة التـى . فهانملتا التحقيق خل

ألنهـا وقفـت . أصابتها عندما لم تجد القشة حيث تركتهـا

صامتة، جامدة، دون أن تصدر عنها أية حركـة، ودون أن

تفعل ما فعلته فى المرتين السابقتين عنـدما كانـت تـدور

منـزعجة غاضبة فى ذات المكـان، تبحـث عـن القشـة

.بخطوات سريعة متوترة

. اقفة كأنها ال تستطيع أن تصدق ما يحـدث ظلت و

أطالت الوقوف مما حذا بنملتى التحقيق أن تتقـدما نحوهـا

لقد تكرر تقديمها لـبالغ كـاذب . كأنهما يسأالنها عما يحدث

عن وجود القشــة مرتين، وهذه هى المرة الثالثة، وال بـد

.أن هناك تفسيرا لكل هذا تريدان أن تعرفانه منها اآلن

نملتا التحقيـق للوقـوف أمامهـا، للمسـاءلة انتقلت

إن اهتـزازات . أشك فى أنها ستجد ما تقوله لهما . والتحقيق

رأسها توحى بأنها تقول شيئا، فلعلها تطلب منهما مهلة للبحث

عن القشة التى تعلم علم اليقين أنهـا كانـت منـذ لحظـات

إنها تفعل ذلك لمجرد كسب الوقت، . موجودة فى هذا المكان

واثقة من أن القوة الغاشمة التى اخفتهـا فـى المـرتين فهى

السابقتين هى التى اخفتها هذه المرة، وكما أظهرتها حينذاك،

فهى تأمل أن تظهرها من جديد، وأن يكـون ظهورهـا اآلن

وقبل فوات األوان ، ليعفيها ذلك مما يحيق بهـا مـن بـالء

.وأهوال

قـة فـى ويبدو أنها أفلحت، بما لديها من مهارة ولبا

اقناع النملتين بإعطائها هذه المهلة، فمضت فى تثاقل شـديد،

.. تجر جسمها فوق الرمل، وتتشمم األرض بحثا عن قشـتها

كان وضحا أنها فى حالة يأس وإحباط شديدين، وأنها مدركه

بعد جدوى البحث عن القشة، وأنـه ال حـل أمامهـا إال أن

نت قـد قـررت تتدخل تلك القوة الغاشمة إلنقاذ الموقف، وك

فعال، باعتبارى أمثل هذه القوة الباطشة الغاشمة العميـاء أن

أتدخل فى هذه اللحظة لحسم الموقف، ألن نداء جاء من داخل

الغرفة يدعونى لتناول الغداء، ولم يكن ممكنا أن أقوم وأترك

النملة الصديقة فى محنتها، أو أدع هذه القصة التى وصـلت

خاصة أن هـذه . سعيدة ألحداثها ذروتها دون أن أضع نهاية

االحداث قد تصاعدت ووصلت إلى مشـارف عاليـة مـن

فقد قررت النملتان أن المهلة التى منحتاها االنفعال والتوتر،

للنملة المتهمة قـد انقضـت، وبـذات الخطـى الحازمـة،

الصارمة، بطابعها العسكرى، سارتا نحوها حيـث مازالـت

شـة، فانتصـبتا أمامهـا، تدور فى ذات المكان بحثا عن الق

تمنعانها من مواصلة السير أو الحركة، فى مواجهة جديـدة

رأيت فيها النملة الصديقة، تقف أمامهمـا ذليلـة، تعيسـة،

فأحسست نحوها باإلشفاق والرثاء وبادرت من فـورى إلـى

القشة التى كنت أطوى عليها يدى آلخذها بين أصابعى وأتجه

فيه، لكى أضعها هناك، ولكن إلى المكان المحدد الذى كانت

فى هذه اللحظة بالضبط وقبل أن أتمكن من إعادة القشة إلـى

موقعها، حدث موقف مرعب، جعلنى أتجمد فى مكانى مـن

شدة الهول والمفاجأة، فقد رأيت نملتى التحقيق تقفـران فـى

حركة مباغتة نحو النملة الصديقة وقد فتحـت كـل منهمـا

دته ومضائه، وقبل أن تتمكن ذراعين لهما شكل المقص فى ح

النملة البائسة من الهروب أو إبداء أى حركة للـدفاع عـن

نفسها، كانت نملتا التحقيق قد استخدمتا هذه األذرع البـاترة،

القاطعة فى تمزيق جسمها، ولم يتركاها إال بعد أن أضـحت

جثة هامدة، ممزقة إلى قطع ثالث، تتنـاثر تحـت شـمس

اطئ الحمـراء وبـنفس الخطـى الظهيرة، وفوق رمال الش

الصارمة الحازمة القوية عادتا أدراجها إلى مملكة النمل بعد

أن قامتا بتنفيذ حكم الموت فى حاملة القشة، جزاء انحرافهـا

عن السلوك القويم ألبناء وبنات قومها، واقترافهـا جريمـة

. الكذب والخداع والبالغات المزورة

صرع نملة، بل لم يكن ما حدث اآلن أمامى، مجرد م

ولم يكن الجانى الذى تسبب فى .جريمة قتل بشعة لكائن برئ

إننى أنا الذى مضى، عابثا . ارتكاب هذه الجريمة أحدا غيرى

الهيا يصنع األحداث التى قادت إلى هذا المصير الفاجع الذى

أردت أن أضفى لحظة مـن اإلثـارة . القته النملة المغدورة

فى المصـيف، وأتسـلى بـإنزال على حياة البطالة والفراغ

أكداس الهم والتعاسة على رأس نملة كادحة، تؤدى وظيفتها

فى الحياة وتمضى فى مسعاها اليومى تعمل وتكسب قوتهـا

حملت المسكينة قشة . بجهدها وتشارك فى تأمين معيشة أهلها

أكبر من حجمها، ومضت بها مسافة مرهقة مضنية، حتـى

ضت وعورتـه أن تبحـث وصلت إلى جزء من الطريق اقت

عمن يعينها على اجتيازه، وبسرعة وجدت من بين زميالتها

من حضرت لنجدتها، وكان كل شيء بالنسبة لها يمضى فى

مساره الصحيح، بيسر وسهولة وأمان، حتى شاء سوء حظها

أن أراها فى تلك اللحظة وأباشر تدمير حياتها بأن أمد أصابع

بـذلك مسـارا جديـدا مجرمه آثمة إلخفاء قشتها، وأصـنع

لألحداث، يؤدى إلى اتهامها بالكذب والغش والعبث بقـوانين

النمل وإضاعة أوقات العامالت معها ممـا اسـتوجب ذلـك

العقاب القاسى الذى تدخره مملكة النمل للعابثين المستهترين

. من مواطنيها

ال أدرى ما الذى يمكن أن أفعله اآلن للتفكيـر عـن

ق الحاجز الذى يفصل بـين البشـر جريمتى،وال كيف أختر

وهذه الحشرات المسائلة الوديعة، ألقدام اعتذارا أو تعويضـا

لذوى النملة الصريعة عما جنت يداى، أو أقـوم بعمـل أى

شيء لرد االعتبار لها وتوضيح حقيقة أنهـا كانـت مثـاال

لإلخالص والصدق واألمانة أمام مجتمع النمل الذى عاملهـا

اكتشفت . ئنةباعتبارها نملة خا

أن القشة ال تزال بين أصابعى دليال سـاطعا وأكيـدا علـى

ضلوعى فى صنع الكارثة، فماذا أفعل بها اآلن؟ لقـد تـأخر

الوقت كثيرا، فصاحبتها تتناثر أمامى أشالء فـوق التـراب

. تستصرخ ضمير الكون على البشر وفساد جبلتهم

هضت من مكانى عائدا إلى دارى ولغداء أعـرف ن

. أننى لن أتناوله، وأنا فى هذه الحالة من الشعور بالصـدمة

وضعت . ألقيت قبل أن أمضى نظرة أخيرة على النملة القتيلة

القشة بجوارها، وأهلت حفنة من الرمل على النملة وقشـتها

ليضمهما قبر واحد، ولم أستطيع وأنا أفعل ذلـك أن أقـاوم

.عة ساخنة طفرت من مآقى العيندم

ظننت أن األمر سينتهى عند هذه اللحظة من األسـى

الذى غمرنى، قبل أن يأتى صخب الحياة وتيارها المتـدفق،

فقـد . ولكننى كنـت واهمـا . يأخذاننى وينسياننى ما حدث

ذهبت معـى إلـى . استمرت معى لحظة األسى دون انقطاع

الل أوقـات السـباحة سريرى، ورافقتنى فى اليوم التالى خ

والقراءة والتسلية، تفسد كل شيء وتمنحه لونهـا الرمـادى،

وصار مشهد النملة القتيلة بأجزاء جسمها الثالثة، المتنـاثرة

فوق الرمل، يتراءى لى فى أوقات النوم واليقظة، ولم أجد بدا

من أن أترك الشاطئ وأقطع إجازتى، أعود إلى دوائر العادة

ا وقتى، وأنشغل بها عـن التفكيـر فـى والروتين، أقتل به

مصرع النملة، ولكن دون فائدة، فقد قررت تلك النملـة، أو

بعبارة أكثر دقة، روحها المظلومة المغـدورة، أن تتعقبنـى

أينما ذهبت، وصارت صورتها كما رأيتها آخر مرة، ال تكاد

تفارقنى، وتظهر لى حتى وأنا أقود السيارة أو أجلـس فـى

حيفتي،والمشكلة األخرى هى أننى ال أستطيع المقهى أقرأ ص

أن أبوح ألحد بهمى ألنه ال أحد يمكن أن يفهم كيف إلنسـان

أن يعانى ويتعذب لمجرد أنه تسبب فى مصرع نملة، بينمـا

جرت العادة أن تموت آالف النمل تحت ضربات أقدامنا دون

. أن يستدعى ذلك أدنى درجة من القلق أو الحزن

قنى، ليس موت النملة فى حد ذاته، القضية التى تؤر

إنما السلوك الذى سلكته معها والذى أدى فى النهايـة إلـى

إنه سلوك إجرامى بكل المقاييس، وبغض النظـر . مصرعها

لقد كان واضحا لي الخطر الـذى يهـدد . عمن كان ضحيته

حياتها، خاصة فى تلك اللحظـات األخيـرة التـى سـبقت

لحساب عسير من نملتى مصرعها،عندما أدركت أنها تخضع

التحقيق، وكان الوقت مناسبا جدا إلنقاذها، ولكننى لم أفعـل

ألن ذلك ال يتفق مع أهداف اللعبة الشريرة التى كنت ألعبهـا

معها والتى تقضى بأن أتسلى أوال بتعذيبها قبـل أن أسـلمها

لمصيرها الفاجع إرضاء لشهية إجرامية البد أنها متجذرة منذ

. الذاتاألزل فى عمق

إنه هـذا . صرت أعرف اآلن سبب معاناتى الحقيقى

اإلدراك المتأخر لعناصر الشر فى نفسى، وجوانـب العنـف

والقسوة الكامنة فيها والتى كشفت عنها المالبسات الحزينـة

وأعرف أيضا أن هذه . المؤسفة التى قادت إلى مصرع النملة

كثر شدة الحلقة من العذاب لن تسلمنى إال إلى حلقات أخرى أ

لقد كانت الضحية األولى لهذا اإلنسان الشرير بداخلى . قسوة

مجرد نملة، ولكن من تراه سيكون ضحيتى القادمة؟

إنه بالتأكيد لن يكون مجرد نملـة صـغيرة بريئـة،

. جميلة، سوداء