رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب...

24
93 واز داستور فرانسلسفة هايدغر ف* حمد سبية: م ترجمراتمسا« :وع مؤلفاتهجم اً يز اً لتالية شاهدرة العبار اختا قد ا- من وفاتهقبل أيام- كان هايدغر يمكن اختزاله إ أن فكرهستقبل إ ا لقرائهان يود بذلك أن يش. وك» وليس مؤلفات- سمة كونه ا عً افظ تسائل، يظلئل واسا عده اُ ب ، أن هذا الفكرعة قضايا وطروحات، وإمو أي مكان آخر. تقود إ رات مساي صدرتتد من الدراسة الت يمدغري الذياي الفكري اسار ا نميزا أنن بإمكان ومع ذلك، فإن أن يكون يمكن نه ،يزة مات عدة، ع1973 امعية سنةغن ادوة زاهرين غاية ن إ1914 سنة من كل الرغمع- أن يتوجهسار كله، ع، عب هذا ان الفكر ي كا إذايق أو مسار إ هناك طرونة ظل الكين)و مسألةأ( أن سؤال اً غر دوم. لقد أكد هايدسؤال نفسه والسألة نفسها نحو ا-نعطافات اده الذي شه»نعطافا« ، عن1930 سنةذلك، ابتداء مندث ك . لكنه الوحيد لفكرهنشغال هو ا وضع نفسه خارجعيد تعميقها، إلفلسفة ويوجهة لسألة ا ا عيد التفكهو ياره، و فكره، وعن اضطراوزة دية إتقلي الزيقايتافي ا ن التعمقلذي قاده مف انعطاة. فهذا السف يه فّ ن الغرب يسم ما كاذه الدراسة. ه تميز مرجعي م ذ كمحور الذي اتتحولمة، هو الزيقا عايتافي اونة مسألة الكينة التيمل ا اً د دوم، فإنه يه الفكري مسار طلق منهاقطة التي اند النـد ـاول هايدغر أن عندماونة تقالالكين« :، أيto on légétail pollakòs قيـةغري، وهي بازيقايتافي ا كتـاب ردها أرسطـو أو« وانت عن ،18(2 ع دراسة له سنة مطل نز برنتانو فرالتي وضعهاملة ا، وهي ا»دة متعد بكيفياتنراد كروبر هايدغر من كوذي تلقاهب اللكتان هذا ا. كا»ونة لدى أرسطولكيندة لتعدثية الة الث الدنة، وهيلكينو د ل وح اعنى ا نحو مسألةذه القراءة هتهفلسفية. وقد وجه قراءاته ال، أول1907 سنة ميز أرسطو بينها: يونة التيلكينربع لت ا الدك بشصدر ا أن تكون ا يمكنسألة التي اا؛ وبذاا ذا ونة الكين- سفة، المغرب.فلذ ال أستا*

Upload: others

Post on 09-Jan-2020

4 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

Page 1: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

93

فرانسواز داستور

فلسفة هايدغر ترجمة: محمد سبيال*

كان هايدغر -قبل أيام من وفاته- قد اختار العبارة التالية شاهًدا مميًزا ملجموع مؤلفاته: »مسارات - وليس مؤلفات«. وكان يود بذلك أن يشري لقرائه يف املستقبل إىل أن فكره ال يمكن اختزاله إىل جمموعة قضايا وطروحات، وإىل أن هذا الفكر، يف ُبعده املسائل واملتسائل، يظل حمافًظا عىل سمة كونه

مسارات ال تقود إىل أي مكان آخر.

صدرت التي الدراسة من يمتد الذي اهلايدغري الفكري املسار يف نميز أن بإمكاننا فإن ذلك، ومع سنة 1914 إىل غاية ندوة زاهرينغن اجلامعية سنة 1973، عالمات عدة مميزة، ألنه ال يمكن أن يكون الرغم من كل يتوجه -عىل أن كله، عىل املسار الفكر يرص، عب هذا كان إذا إال أو مسار هناك طريق االنعطافات- نحو املسألة نفسها والسؤال نفسه. لقد أكد هايدغر دوًما أن سؤال )أو مسألة( الكينونة ظل هو االنشغال الوحيد لفكره. لكنه حتدث كذلك، ابتداء من سنة 1930، عن »االنعطاف« الذي شهده فكره، وعن اضطراره، وهو يعيد التفكري يف املسألة املوجهة للفلسفة ويعيد تعميقها، إىل وضع نفسه خارج إىل جماوزة التقليدية امليتافيزيقا التعمق يف من قاده الذي االنعطاف فهذا فلسفة. يسّميه الغرب كان ما

ذ كمحور مرجعي متميز يف هذه الدراسة. امليتافيزيقا عامة، هو التحول الذي اتُّ

مسألة الكينونةعندما حيـاول هايدغر أن حيـدد النقطة التي انطلق منها يف مساره الفكري، فإنه يرسد دوًما اجلملة التي أوردها أرسطـو يف كتـاب امليتافيزيقا، وهي باإلغريقيـة to on légétail pollakòs، أي: »الكينونة تقال بكيفيات متعددة«، وهي اجلملة التي وضعها فرانز برنتانو يف مطلع دراسة له سنة 2)18، حتت عنوان »يف الداللة الثالثية املتعددة للكينونة لدى أرسطو«. كان هذا الكتاب الذي تلقاه هايدغر من كونراد كروبر د للكينونة، وهي يف سنة 1907، أول قراءاته الفلسفية. وقد وجهته هذه القراءة نحو مسألة املعنى املوحَّ

املسألة التي يمكن أن تكون املصدر املشرتك بني الدالالت األربع للكينونة التي يميز أرسطو بينها:

- الكينونة يف ذاهتا وبذاهتا؛

* أستاذ الفلسفة، المغرب.

Page 2: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 94

- الكينونة بالعرض؛

- الكينونة بالقوة والكينونة بالفعل؛

- الكينونة من حيث هي حقيقة والكينونة بحسب خطاطة املقوالت.

لكن يف حني أن برنتانو كان ُيرجع الدالالت الثالث األخرى للكينونة إىل الداللة املقولية، فإن هايدغر، من حيث أنه كان يبحث عن حل للمشكلة التي طرحها برنتانو يف الفينومينولوجيا التي طورها تلميذه

هورسل، هو الذي أعطى أمهية حاسمة للكينونة من حيث هي معطى حقيقي.

الفينومينولوجيا واألنطولوجياما هي العالقة بني اإلشكالية الفينومينولوجية التي طرحها هورسل واملساءلة األنطولوجية التي طرحها هايدغر؟ إذا كان هايدغر يف شبابه »مفتوًنا« بـ»أبحاث منطقية«، فإنه عىل العكس من ذلك كان من الذين رفضوا مسايرة هورسل يف »منعطفه الرتنسندنتايل«. ال يتعلق األمر هنا بالفينومينولوجيا من حيث هي علم الذاتية املجاوزة لذاهتا التي يعلن هايدغر االنتساب إليها، بل يتعلق هبذا العلم بالظواهر الذي يرفع شعار: »العودة إىل األشياء ذاهتا«. يذكر هايدغر أن من بني أكب مكتشفات الفينومينولوجيا – إىل جانب القصدية أبحاث منطقية يف قسمه السادس، وكنتيجة مشتقة عنها- فكرة احلدس املقويل التي يتحدث عنها كتاب هايدغر. ونظرية احلدس ملّح من بطلب إال إعادة نرشه سنة 1913 يقبل هورسل مل الذي النص وهو هة ضد التمييز الكانطي بني احلدس والفكر؛ ففي حني كان كانط يرى املقويل هي، بكل جالء، نظرية موجَّأن احلدس ال يمكن أن يكون إال حسًيا، كان هورسل يرى أن املقولة معطى جتريبي وليست فقط جمرد بنية من بنى الفكر. ليست املقوالت إذن مشتقة من األحكام، كام كان يقول كانط، بل هي بنى للظواهر ذاهتا. وهذا يرسي أيًضا عىل الكينونة التي مل يعد هورسل يطابق بينها وبني الرابط )est( الوارد يف فعل احلكم، كام دأب عىل ذلك التقليد الفلسفي، بل كان يرى فيها )أي الكينونة( أيًضا معًطى من معطيات الرؤية. إن الرابط املتمّثل يف كلمة هو )est( الصغرية، هو عالمة ال تكتسب »حقيقة« إال عندما متتلئ برؤية مقولية فعلية، وذلك ألن احلقيقة - باملعنى الفينومينولوجي- ال تتطلب فقط عدم تناقض احلكم، بل تفرض أيًضا التامهي بني ما هو مقصود شعورًيا وما هو حمدوس حسًيا. وبذلك هيز هورسل أركان التعريف التقليدي للحكم، الذي جيعل هذا األخري موطن احلقيقة، كام يعود إىل مفهوم أوسع للحقيقة، وهو املفهوم الذي يعثر هايدغر عىل نموذج له لدى أرسطو. ذلك أننا نجد لدى هذا األخري فكرة عن احلقيقة ال من حيث أهنا كيان منطقي فقط، بل من حيث أهنا كيان وجودي )أنطولوجي( أيًضا: هناك حقيقة يف األشياء ذاهتا، وهي احلقيقة التي هيدف احلكم إىل الكشف عنها، لكنه )أي احلكم( ال يضيف إليها شيًئا آخر. هذا التامهي إذن بني الكينونة )أو الوجود( واحلقيقة هو الذي يكشف عنه هايدغر من خالل قراءته لـ األبحاث املنطقية،

باعتبار أنه ما يشكل »اليشء ذاته« الذي تسعى الفينومينولوجيا للعودة إليه.

الظاهرة متاًما مع مفهوم يتطابق الظاهرة ال تبنّي تصور عن إىل قاد هايدغر التوجه أن هذا واحلال الظاهرة وبربط »املعيش« إىل بالعودة هايدغر، إىل بالنسبة يتعلق، ال األمر إن إذ هورسل؛ عند

Page 3: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

95حيث من الظاهرة إىل بالنظر ذلك- من العكس -عىل يتعلق بل ويبنيها، لها يشكِّ الذي بالشعور الذاتية، وهذا هو ما جعل هايدغر يرى يف االنعطاف أبعاد ُبعًدا من ُبعد لألشياء ذاهتا وليست أهنا سياق يف ووقوًعا للفينومينولوجيا األنطولوجي الُبعد عن التخيل من نوًعا هلورسل الرتنسندنتايل تذويت الكينونة الذي يسم الفلسفة احلديثة. ومع ذلك، مل يتوقف هايدغر عن إعالن االنتساب إىل الفينومينولوجيا؛ فقد نرش كتابه األسايس الكينونة والزمن سنة 1927 يف جملة االجتاه الفينومينولوجي أنه إذا كان الفينومينولوجي، بل إن كتابه ذاته مهدى إىل هورسل؛ ذلك الفلسفة والبحث حوليات السابعة من الفقرة نفسه يف فينومينولوجًيا كام يؤكد هو فإن منهجه ظل أنطولوجًيا، بحث هايدغر مقدمة الكتاب. إن الفينومينولوجيا هي فعاًل، بالنسبة إىل هايدغر، أفهوم منهجي، أي أفهوم ال حيدد موضوع البحث بل نمط وكيفية دراسته فقط، وهو ما يعّب عنه الشعار اهلورسيل، شعار العودة إىل األشياء ذاهتا. انطالًقا من ذلك فقط، يتعنّي علينا أن نفهم ما يعنيه لفظ الفينومينولوجيا املكّون من

.Logosو phainomenon :الكلمتني اإلغريقيتني

ما هي الظاهرة؟ إهنا ما ُيظهر نفسه بذاته، أي إهنا ما َيظهر أو إهنا الظاهر. لكن الظاهر ليس دوًما الظهور الذايت لليشء نفسه؛ فاليشء يمكن -عىل العكس من ذلك- أن خيتفي يف فعل الظهور نفسه: إنه ظاهرة الظهور. كام يمكن لليشء أيًضا أال يقدم نفسه أبًدا إال عب أو بواسطة عالمات أو أعراض تعلنه، كام هو األمر بالنسبة إىل املرض، وهنا يكون معنى الظهور عدم إظهار اليشء ذاته. وهذا ما جعل هايدغر يميز

.)Erscheinung( من فعل الظهور )Phänomen( الظاهرة

كان كانط، عىل سبيل املثال، يرى أن فعل الظهور )Erscheinung( هو موضوع احلدس احليس وَفِهمه يف الوقت نفسه عىل أنه ما يمّثل الظاهرة )phănomen(، أي ما ُيظهر نفسه يف احلدس ويتعارض بالتايل مع ما َيظهر، لكنه فهمه أيًضا عىل أنه بمثابة ظهور ما ال ُيظهر ذاته أبًدا، أي ملا يدعوه كانط اليشء يف ذاته. وهكذا، ظل كانط بذلك يف حدود التصور »العادي الشائع« عن الظاهرة، ألن املفهوم الفينومينولوجي للظاهرة ال يتعلق بام يظهر بل بام ُيظهر نفسه بصورة غري متبلورة يف وعب ما هو ظاهر. نجد لدى كانط أن الظاهرة، باملعنى الفينومينولوجي، ليست موضوع احلدس احليس، بل إن موضوع احلدس احليس هو الزمان واملكان من حيث أهنام شكالن صوريان للحدس ورشطان للظهور، وذلك ألن مثل هذه الظاهرة الظواهر ليست فينومينولوجيا، إال ألن إىل ُتدَرك. ليس هناك حاجة يف حاجة إىل »إظهار رسيع« حتى قد كان الذي هورسل بأستاذه ما- بمعنى - يلتحق جيعله مما هايدغر، ذلك إىل يشري كام أواًل معطاة بنّي أن املعطى املطلق، أو »الظاهرة اخلالصة« ال يمكن أن تظهر إال بواسطة عملية االختزال أو التعليق لفظ أن نجد »phenomenologie« كلمة يف قوسني. بني يظهر ما وضع بواسطة أي ،)Reduction(هدف أن حني يف إظهار، أي ،Apophansis اخلاص، اإلغريقي مدلوله خالل من يعني، Logos

)phainom- الفينومينولوجيا وغايتها -كام يدل عىل ذلك اسمها- مها جعل ما ُيظهر ذاته من تلقاء ذاته)enon مرئًيا. لكن ما هي املكونات اخلصوصية للظاهرة؟ أي ما هو »خمتٍف« يف ما ُيظهر نفسه أواًل ويف أغلب احلاالت لكنه مع ذلك يشّكل أساس ما يظهر. هايدغر يسّمي ذلك الكينونة )l'etre( )أو الوجود(، فينومينولوجيا« باألنطولوجيا: »ليست األنطولوجيا ممكنة إال عىل هيئة الفينومينولوجيا تلتقي ثم ومن

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 4: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 96وذلك ألن الكينونة ليست ما يظهر، لكن أيًضا ألن الكينونة ال توجد خارج ما يظهر، ألنه »ال يوجد أي

يشء وراء أو خارج ظواهر الفينومينولوجيا«)1(.

.)Hermeneutique( تأويلية نظرية لألنطولوجيا املطابقة الفينومينولوجيا هذه أن أيًضا هايدغر يعتب ذلك، من العكس عىل فإنه، أساًسا، وصفية الفينومينولوجيا أن عىل هورسل يوافق هايدغر كان وإذا يتصور هاته الفينومينولوجيا تفسرًيا وليس فقط تفكرًيا يف املعيش. فالتأويلية )Hermeneutique( تعني يف األصل التأويل أو التفسري، كام يذّكر بذلك هايدغر؛ وأن نقول أن العلم أو اللوغوس الفينومينولوجي املالحظ غري َيْشَغل موقع ذلك اهلايدغري ال الفينومينولوجي أن والتوضيح، معناه الرشح يصف عب الفيلسوف الذي يفكر ويتأمل فينومينولوجًيا، وذلك ألنه املتحيز الذي كان يمّثله، يف منظور هورسل، ليس يف وضعية خارجية عن الظواهر التي يرشحها ويوضحها، بل عىل العكس من ذلك، يبقى يف حالة احتاد معها، األمر الذي يعني أن األنطولوجيا يف تصور هايدغر ليست علاًم يقوم بتشخيص نظري، بل هي أقرب ما تكون إىل علم عميل أو تطبيقي باألساس ألن من غري املمكن أن تنفصل عن جذرها الوجودي اللذين التصور والفهم امللموس. وهكذا يتوجه هايدغر نحو فهٍم لألنطولوجيا خمتلف كثرًيا عن ذلك

نجدمها يف الرتاث الفلسفي املتواَرث.

الزمن كأفق لفهم الكينونةيطرح هايدغر يف الكينونة والزمن مسألة تتعلق بمجموع الرتاث الفكري الغريب الذي أرساه وحتدد مع أرسطو )الذي حذا يف ذلك حذو أستاذه أفالطون، والذي كان أول فيلسوف باملعنى املحدد واملضبوط هلذا اللفظ( كفلسفة، أي كأنطولوجيا أو كخطاب حول الكينونة )أو الوجود(. يذكر هايدغر يف بداية هذا الكتاب أن الرتاث الغريب يبدأ -كام أشار إىل ذلك أفالطون- عندما نكف عن رواية حكاية، أي عندما نكف عن تفسري يشء بيشء آخر، وذلك وفق النمط امليثولوجي أو الثيولوجي للفكر الذي يعتب أن كائنًا العلم فاألنطولوجيا، من حيث هي ذلك املوجودة وأصلها. الكائنات كائنات عليا عدة مها مصدر أو األفالطوين-األرسطي الذي يتخذ الكينونة موضوًعا له، تقترص عىل دراسة ما هو موجود أو معطى يف احلارض، أي عىل الكائن )To on باإلغريقية( من حيث هو كذلك لتعّرفه وحتّدد ماهيته. الفلسفة إذن هي هذا النمط من الفكر الذي يّدعي دراسة الكائن من حيث هو كذلك من دون الرجوع إىل أصل ينتمي يشّكل ما هو احلارض املعطى عىل االقتصار إن املوجود. املعطى مستوى غري آخر مستوى أو نظام إىل الغربية الفلسفة تفهم هبا التي الكيفية التفكري األسطوري، وتلك هي الفلسفة ومتيزها من نمط أصالة نفسها باعتبارها ذلك النمط من الفكر الذي يؤكد سيادة العقل )اللوغوس( عىل األسطورة )امليتوس(

ويضمنها، ويؤكد سيادة العقالين عىل الالعقالين ويضمنها.

أفالطون مثل - ويطرح تساؤل، موضع ليضعه لذاته الغريب الفلسفي الرتاث فهم من هايدغر ينطلق يبلور أن أجل من يطرحه ال فهو جديد؛ بمعنى يطرحه لكنه الكينونة؟«، هي »ما سؤال وأرسطو- فكرة عاّم يشّكل أساس كل كائن من حيث هو كذلك، أي عن املعطى احلارض، بل يطرحه من أجل أن يتساءل عن رشط إمكان احلضور ذاته؛ هذا احلضور الذي هو يف الوقت نفسه ما جيعل علم احلضور هذا

Page 5: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

97)الذي هو األنطولوجيا كام حددها أفالطون وأرسطو( علاًم ممكنًا. األمر هنا ال يتعلق، بالنسبة إىل هايدغر، بإدراج سؤاله األسايس ضمن املجال الفلسفي كام هو متواَرث، بل يتعلق األمر -عكس ذلك- بالتساؤل عاّم يشّكل أساس العقالنية الغربية؛ فهذه املسألة األساسية التي تتعلق برشط إمكان فهم الكينونة كحضور ثابت ومستمر )كام تصورها الفالسفة اإلغريق ووارثوهم من الفالسفة الغربيني(، هي مسألة تدور حول العالقة بني الكينونة والزمن، وهي العالقة التي مل جيِر قط توضيحها وبسطها يف الرتاث الفلسفي الغريب. د للزمن وهو احلارض؟ تلك هي الكيفية التي ما الذي جيعل من املمكن فهم الكينونة انطالًقا من ُبعد حمدَّصيغت هبا مسألة الكينونة التي كانت هي أصل كتاب الكينونة والزمن وجذره. وقد سبق هلايدغر أن أكد يف كتابه كانط ومسألة امليتافيزيقا سنة 1929 أن احلرف الصغري »و« املوجود بني كلمتي الكينونة والزمن، هو الذي يتضمن يف ذاته املشكل املركزي، وذلك ألن األمر ال يتعلق، بالنسبة إىل هايدغر، بإقامة تعارض بني الزمن )والصريورة( من جهة والكينونة من جهة أخرى، كام فعل نيتشه الذي كانت الكينونة بالنسبة بداهة بإبراز مدى العكس من ذلك، يتعلق لدى هايدغر، عىل إن األمر بل املعنى، إليه ومًها خالًيا من وتلقائية الرابطة الرسية التي تربط ما ندعوه »كينونة« بالزمن: بل إن هايدغر سيذهب إىل حد التحدث عن »االنتامء املشرتك احلميمي القائم بني الكينونة والزمن«، وهو ما يعني أننا أمام كيفية حاسمة يف مساءلة التقليدي املوروث التعادل الكينونة واألبدية )l'eternité( أو الالزمنية، وهو التعادل بني وجمادلة ذلك

عن الرتاث الفلسفي.

إن ما سيطرحه هايدغر عىل نفسه يف كتابه الكينونة والزمن هو إذن »اإلعداد العيني امللموس ملسألة معنى ه. إن الكينونة«)2(، وهو ما ال يعني أبًدا جمرد إعادة استعامل لألنطولوجيا القديمة ولسؤاهلا الرئييس املوجِّاألمر هنا ال يتعلق فقط بإجياد أساس للكائن، بل بالتساؤل أيًضا عن سبب إنكار أي وظيفة أنطولوجية للزمن؛ ذلك أننا نقيم فعلًيا -انطالًقا من الزمن متخًذا هنا كمعيار- تعارًضا بني مناطق الكائن املختلفة، أي بني الزمني والالزمني )املكاين( واملحايد زمنًيا )املثال( وما فوق الزمني )اخلالد(، وذلك من خالل فهم جيري وهكذا، الزمن. يف وباستمرار( )دوًما موجود هو ما هو الزمني أن مؤداه للزمن ر تصوُّ )temporal( الكينونة وتصورها هنا انطالًقا من الزمن، وهو تصور يتضمن سمتها »الزمنية« األساسيةرة والصميمة، ال بمعنى أن الكينونة موجودة »يف قلب الزمن«، بل بمعنى أن الكينونة مفهومة ومتصوَّ

انطالًقا من الزمن.

هناك إذن معنى »زمني أصيل« وأسايس )Temporal( للكينونة، حيث يقصد هايدغر هبذا اللفظ األخري اإلشارة إىل العالقة اإلجيابية التي تقيمها الكينونة مع الزمن، وذلك بعكس العالقة السلبية التي تقيمها الكينونة مع ما سيدعوه هايدغر الزمنية الباطنية )Intratemporalité(. هناك إذن »زمنية الكينونة« ألن األصل الذي يتحدد به ومنه معنى الكينونة هو الزمن، وهذا األصل هو ما يتعني رشحه وتوضيحه إذا ما

أردنا أن نقدم جواًبا ملموًسا عن مسألة معنى الكينونة)3(.

لرشط االستجابة إىل هايدغر، تصور وفق مدعوة، الكينونة(، علم )أو األنطولوجيا كانت إذا لكن إمكاهنا، أي لفهم الكينونة وتصورها انطالًقا من الزمن أو يف أفق الزمن، فإن ذلك يتضمن التساؤل عن

أساس األنطولوجيا نفسه ويقتضيه.

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 6: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 98

األنطولوجيا األساسيةأن بتبيني السؤال هذا عن هايدغر جييب ممكنًا؟ الغريب املنطق يف عقالين خطاب صوغ جيعل الذي ما قادر عىل طرح تساؤالت الكينونة، جتد أصوهلا وجذورها يف كائن خاص الفلسفية، أي مسألة املسألة أنامط نمط من الكينونة فهم إن إذ أيًضا؛ نفسها كينونته بشأن بل الكائنات األخرى فحسب، بشأن ال الكينونة أو سلوك إنساين: إن أساس الكينونة إذن هو اإلنسان، أي ذلك الكائن الذي لديه فكرة الكينونة. ًدا وعينية: مسألة الكينونة هنا ليست هكذا نرى أن مسألة الكينونة تصبح، مع هايدغر، أكثر املسائل جتسُّمسألة بالغة التجريد بل مسألة ملموسة تص ذلك الكائن نفسه الذي يطرح هذه املسألة، وذلك ألن هذه

املسألة وهذا السؤال املتولد عنها يشمالن املتسائل ذاته.

التحليالت الوجودية األساسيةإن الكائن املتضمن هبذا الشكل يف التساؤل الذي يطرحه حول الكينونة ال يسّميه هايدغر »ذاًتا« وال حتى »إنساًنا«، بل يسّميه دازاين، وهو لفظ اسُتعمل يف اللغة األملانية لرتمجة اللفظ الالتيني Existentia الذي يعني حرفًيا الكينونة - هناك )أو الكائن-هناك(. وسيعطي هايدغر هذا اللفظ مدلواًل خاًصا جًدا، حيث مل يعد لفظ Dasein يعني لديه الوجود بصفة عامة، بل أصبح خيص فقط نمط كينونة الكائن اإلنساين. بني هناك موجود كائن جمرد يكون بحيث موجودات، بني كموجود الكائن هذا نفهم أاّل إذن يتعني املوجودات، بل يتعنّي أن نفهمه -عىل العكس من ذلك- عىل أنه ذلك الكائن اخلاص الذي هو، بشكل ما، كل كائن، مثلام قال أرسطو ذلك عن النفس اإلنسانية)4(. هذا الكائن الذي تصه مسألة الكينونة ليس كائنًا المبالًيا جتاه كينونته ذاهتا، إذ هو كائن ينتمي إليه -عىل العكس من ذلك- وبشكل أسايس، ما يدعوه يَّه، أي واقعة قوله: »أنا«، معلنًا بذلك تعلقه بذاته وانتسابه إليها)5(. إن هذا الكائن، من حيث هايدغر اإلنِّأن فهم الكينونة أمر خيصه وينتسب إليه، ويميزه بشكل أسايس عن اليشء الذي هو كيان غري مبال وغري الكائن، ال يوجد عىل نمط وجود اليشء والواقع، بل الفهم، هذا معنيٍّ بكينونته اخلاصة، وبسبب هذا يوجد بصيغة اإلمكان، وما يمكن أن يكون، أي الوجود. وهذا اللفظ ذاته ال يدل عىل جمرد واقعة الكينونة بالنسبة إىل الكائن يف صورته العامة، بل يدل بشكل خمصوص عىل نمط الكينونة اخلاص بالكائن اإلنساين )الدازاين(. إن الفهم لدى الكائن اإلنساين عن ذاته هو إذن فهم وجودي. لكن ما يدعوه هايدغر، عىل العكس من ذلك، التحليل الوجودي األسايس ال يأخذ يف االعتبار السلوك الفردي العيني، بل يراعي هي )Existentiale( األساسية الوجودية التحليالت مهمة إن األنطولوجية. أو الوجودية بنيته فقط حتليل ومتييز األنامط األساسية لكينونة الكائن اإلنساين، أي حمدداته الوجودية األساسية، وهو ما يقتيض ويتضمن -عىل عكس التحليل الوجودي العادي الذي يظل هو ذلك التحليل املتعلق بكائن منظور إليه الكائنات بكينونة اإلنسان كينونة عالقة يشمل األسايس الوجودوي التحليل أن أمر خصوصيته- يف الفلسفة يف ورد كام أسايس، وبشكل فعاًل الذات مفهوم من اهلايدغري الدزاين يمّيز ما إن األخرى. احلديثة، هو انفتاحية هذا الكائن جتاه ذاته وجتاه الكائنات األخرى، وهي السمة التي يعتب هايدغر أهنا تشّكل الصفة اخلاصة املميزة للوجود، ُمعطًيا لفظ االنفتاحية -من حيث هي سمة أساسية لنمط كينونة

Page 7: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

99الكائن اإلنساين- مدلواًل قوًيا خيص كائنًا ليس جمرد كيان جوهري قائم، بل كائن هو باستمرار »يف حالة ارمتاء وانقذاف«، أي كائن خمتلف عن ذاك الذي تصورته الفلسفة احلديثة منذ ديكارت عىل أنه »ذات« )sujet(، أي كيان جوهري )Substance( »ليس يف حاجة إىل أي يشء آخر لكي حيقق وجوده« كام ينص )Ekstatiqie( عىل ذلك التعريف التقليدي للجوهر. وعىل العكس من ذلك، فإن هذا الوجود املنخرج ،)Existère الذي هو الوجود اإلنساين، بحاجة أساسية ألن خيرج من ذاته )وهذا هو املعنى األول لكلمةوهو ال حيقق وجوده إال من خالل العالقة الثالثية التي يقيمها مع ذاته، ومع املوجودات األخرى، ومع العامل. ليس الوجود اإلنساين وجوًدا متمركًزا حول نفسه، كام هو األمر يف مفهوم الذات حمور الفلسفة احلديثة، بل هو، عىل العكس من ذلك، كائن أو كينونة منفتحة و»منخرجة« يف أساسها - كام يقول هايدغر يف مالحظة مدرجة يف نص أهداه هلورسل سنة 1929))( - ألن هذا الوجود )اإلنساين( ال يشء من دون

العالقة بآخر غري ذاته.

إن غاية التحليالت الوجودية األساسية -التي تشّكل القسم األول من اجلزء املنشور من الكينونة والزمن- هي بالضبط تعريف كينونة الدازاين يف كليتها، انطالًقا من خمتلف األبعاد الوجودية األساسية التي سبق اليومية للكائن اإلنساين )أو للدازاين(، الذي الكينونة التحليل هو ذكرها يف هذا القسم. ومنطلق هذا ُتعتب بنيته األساسية هي الكينونة -يف- العامل؛ فالعامل ليس داخاًل يف عالقة تارج مع الكائن اإلنساين، ألن هذا األخري ليس ذاًتا بحاجة إىل اخلروج من ذاهتا لتذهب نحو موضوعات العامل، بل إن الكائن اإلنساين وجود عىل مقربة من األشياء دوًما، وهو يف حالة تفاعل وتبادل دائم معها. يتعلق مدلول الكينونة -يف- دة يقوم حتليلها عىل استخراج اللحظات البنيوية األساسية من أجل التوصل، العامل بظاهرة واحدة موحَّ

بعد ذلك، إىل فهم ما يشّكل كيان هذه الكينونة ووحدهتا.

العددي املجموع أنه عىل العامل يفهم والذي العامل، عن املتداول األفهوم أن يبنّي أن أواًل هايدغر يود ليست التي ،)Mondaneité( للعاملية األساسية البنية يعكس وال يراعي ال أفهوم هو للكائنات، العامل، إن نفسه)7(. اإلنساين الكائن سمة ذلك، من العكس عىل هي بل اإلنساين، غري للكائن حتديًدا إن هذا العامل. أشياء التقاء مع أي يشء من األنطولوجي لكل الرشط للدازاين، هو بنية من حيث هو األفهوم األنطولوجي- الوجودوي عن العامل ال يمكن بتاًتا أن يصبح مفهوًما انطالًقا من أفهوم الطبيعة باملعنى الذي يرد به يف الفكر احلديث، أي كموضوع للعلوم الفيزيائية، بل يتعني، عىل العكس من ذلك -من أجل فهم إشكالية عاملية العامل من حيث هي- االنطالق من الكينونة )اليومية( - يف- العامل، ومن ،)Umwelt( تأويل الكائن الذي نصادفه يف العامل املحيط بنا. إن عامل احلياة اليومية هو فعاًل العامل املحيطاملتأملة؛ ذلك أن النظرية للرؤية ينفتح إال الذي ال الكيل الكوَن اليومية، وليس ذلك عامل االنشغاالت يالقي واالنشغال واستخدامها، باألشياء االنشغال بل املعرفة ليس بالكائن للعالقة األّويل النمط يالقيه بل ،)Vorhanden األملاين اللفظ عنه يعّب ما )وهو قبله أو أمامه حارض كيشء فقط ال الكائن .)Zu-handen ويتعامل معه أيًضا كيشء قابل لالستعامل )أي كيشء موجود من أجل أن تستعمله اليدأن األشياء لقابلية األشياء لالستعامل من حيث املرجعية البنية تلك إذن هو املحيط العامل ما يشّكل إن مجلة »أدوات« غري منفصلة عن الكائن اإلنساين الذي حتلينا إليه هاته األشياء. إن »القابلية لالستعامل«

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 8: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 100 ،)Vorhandenheit( وليس جمرد احلضور أمام اليد )Maniabilité-Zuhandenheit( أو الوقوع طوع اليد

هو إذن النمط األصيل النكشاف الكائن املوجود يف العامل.

يتعنّي بعد ذلك حتديد نوع ذلك الكائن الذي هو موجود عىل هيئة كينونة - يف- العامل: إنه ذلك »الوجود يف املوجودة األشياء إال حيدد ال الذي السؤال عن )أي »ماذا؟« السؤال عن جييب ال الذي اإلنسان« يف اإلنساين« »الكائن بانخراط املطبوع اليومي االنشغال مستوى عىل »من؟«، السؤال: عن بل العامل( العامل. فاألمر هنا ال يتعلق هبذا الكائن البرشي أو ذاك، بل بذلك الكائن املحايد، اجلامعي املبني للمجهول والبداية منها يتعني عىل كل كائن برشي االنطالق التي الظاهرة األصلية الذي يشّكل بالفرنسية( on(هبا ليعثر عىل ذاته. ليس جمال احلياة اليومية إذن هو املجال الذي سيستطيع فيه »الكائن اإلنساين« )وهو موجود مشتت االهتامم( أن يعثر عىل وحدته، ألن هذا املجال ليس املجال الذي يكون فيه الكائن اإلنساين غري بصورة وإّما مالئمة بصورة إّما ذاَته يكون أن اإلنساين للكائن يمكن هلا. ومطابًقا ذاته إىل منتمًيا

مالئمة، ألن هذا الكائن هو إمكانيته ذاهتا، وألن عليه أن يتملك كينونته اخلاصة به.

ما يف األصالة« و»عدم و»األصالة« الصدقية« و»عدم »الصدقية« مصطلحات استعامل فإن لذلك، اإلحلاح باألحرى، يتعني، بل أخالقية، داللة أي يتضمن ال حكم هو اإلنساين الكائن تصور خيص احلق اإلنساين الكائن ليس الذي )on( للمجهول املبني هو هنا األسايس الوجودوي املحدد أن عىل أو األصيل إال حتويًرا وجودًيا له)8(. بعد حتديد معنى العنرصين »عامل« و»كائن إنساين«، من الرضوري يميز هنا -يف-العامل«. و»كينونة -يف« »كينونة لفَظي معنى وعن جتمعهام التي العالقة عن التساؤل هايدغر بني مستويني يمكن من خالهلام إقامة هذه العالقة، ومها مستوى التشّكل الوجودوي األصيل للكينونة -يف-العامل، ومستوى نمط كينونته اليومية. يتضمن املستوى األول حتليل ثالثة أبعاد وجودية الوجداين التهيؤ أو االستعداد االنفتاحي: ُبعده هبا حيقق للدازاين أصلية طرائق ثالث أو أساسية )disposition(، والفهم، واخلطاب )أو استعامل اللغة(؛ فالتهيؤ الوجداين يعني لدى هايدغر ما ندعوه عادة احلالة الوجدانية أو احلساسية، لكن بمعنى خمتلف عن املعاين الفلسفية املتوارثة التي ال ترى فيها إال كوهنا ظاهرة ثانوية أو ظِلِّية تابعة، بينام يرى هايدغر أن ُبعد االستعداد والتهيؤ كُبعد وجودوي أسايس يعني القدرة عىل االكتشاف األّويل للعامل)9(. إذا كان ُبعد التهيؤ يكشف السمة األساسية للكائن اإلنساين، مستوى هو كذلك، أصيل مستوى عن يكشف الفهم ُبعد فإن العامل، -يف- مسبًقا موجوًدا كونه أي وجودوية الدازاين، أي مستوى إمكان وجوده )أو كينونته(. أّما اخلطاب أو اللغة، فيشّكل أي منهام أيًضا طريقة أصلية النفتاحية الكائن اإلنساين، من حيث أنه متفصل بني ما هو مفهوم وما مل يصبح كذلك إال عىل أساس التهيؤ. املستوى الثاين، الذي خيص السامت الوجودوية اليومي، يتعلق بكيفية أو نمط انطراح أبعاده الوجودية األساسية. ما يقصده هايدغر بكلمة Verfallen( Decheance انطراح...( ُبعد وجودي أسايس كسابقيه، لكنه، عىل العكس من الُبعدين السابقني، يسم الكينونة الذاتية احلقيقية واألصيلة للكائن البرشي يف حياته اليومية. فاالنطراح أو االنقذاف يف العامل ال يعني أبًدا »سقوط« الدازاين من حالة أكثر

ا، بل يعني فقط وضعيته العادية يف االنخراط يف عامل االنشغال. أصالة وأكثر صفاء وأكثر سموًّ

Page 9: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

101دة، اسم اهلّم، لكن ُيطلق هايدغر عىل هذه البنية التي َتنْظِم األبعاد الوجودوية األساسية يف ظاهرة موحَّ-عب بالتفكري إليه بالنسبة يتعلق فاألمر أخالقي، مدلول أي من اللفظ هذا تليص عىل احلرص مع استخدام لفظ اهلّم )Sorge(- ال فقط يف عالقة الكائن اإلنساين املنفتح بذاته، بل بالتفكري أيًضا يف عالقته بالكائن عامة، والتي سّميت االنشغال )Besorgen(، وكذا بالتفكري يف عالقته بالكائن اإلنساين اآلخر، األلفاظ هذه اختيار .(Fürsorge ،Sollicitude) وانفتاح التامس ُبعد بأهنا ُفهمت التي العالقة وهي واملصطلحات ليس اختياًرا تعسفًيا يف جممله، ألن هايدغر يعتمد عىل حكاية مستقاة من إحدى األساطري ف اإلنسان أساًسا كهّم)10(. يرى هايدغر يف ذلك دلياًل عىل أن ُيعرِّ نعثر فيها عىل تصور قبل - فلسفي يتصور ألنه مشتق، تعريف هو )Animale rationale( عاقل حيوان كـ لإلنسان الفلسفي التعريف اإلنسان كمزيج من املعقول واملحسوس، من احليوانية ومن العقالنية وليس كوحدة كلية؛ ذلك أن اعتبار اإلنسان كائنًا حيًّا ليس هو الطريق إىل تقدير الوجود اإلنساين. إن هايدغر - بتأكيده هنا أن اهلمَّ ينتمي أساًسا إىل مستوى آخر غري مستوى الدوافع )احلسية والنفسية( املميزة للكائن احلي بصفة عامة- يقطع مع »فلسفة احلياة« التي وسمت التيار املهيمن يف الفلسفة األملانية منذ النزعة الرومانسية، ويؤكد بقوة أن حتليل الكائن اإلنساين املنفتح ال يمكن أن يكون من اختصاص بيولوجيا عامة، لن تكون األنثروبولوجيا والسيكولوجيا إال فروًعا هلا وأقساًما منها)11(. يود هايدغر أن يقّدم تأوياًل لإلنسان أكثر أصالة من التأويل التقليدي املتداول يف جمال الفلسفة والذي يرى أن اإلنسان مزيج من مادة جسمية ومن صورة روحية. للوجود املختلفة املظاهر دة تعكس اهلمَّ ظاهرة موحَّ أن يرى الذي التأويل أن املطروح اآلن، يبقى من ق أكثر، ألن التحليل السابق جرى كله إىل حد اآلن فقط عىل اإلنساين هو ذاته تأويل يف حاجة إىل أن ُيعمَّ

مستوى احلياة اليومية ومل يبلغ مستوى الكائن اإلنساين املنفتح يف خلوصه وصدقيته األصلية.

الوجود والزمنيةحياول هايدغر يف القسم الثاين من الكينونة والزمن أن يبنّي أن املعنى األنطولوجي للهّم هو الزمنية. فإذا مل ًدا هبذا املميز النوعي اخلاص يكن اإلنسان مادة جوهرية، وليس »شيًئا«، وليس حيواًنا، حتى ولو كان مزوَّالذي هو العقل، فذلك ألنه كائن يف حالة انبثاق )انبجاس، انقذاف( دائم )Etre-en-jet(، أي إنه زمنية،

أو حركة، أو انطالقة.

يمكن أن نقول هنا أن تصور هايدغر للكائن اإلنساين تصور »دينامي« ال تصور سكوين، ألنه يعّرف هذا األخري بأنه الكائن امللقى به واملقذوف به دوًما إىل العامل الذي هو موجود دائاًم كمرشوع للذات. واحلال دة التي َتنْظم ما كانته )l’avoir-été( الكينونة امللقى هبا دوًما يف العامل، والتي أنه إذا كانت هذه البنية املوحَّهي مستقبل املرشوع الذايت وحارض الكينونة إزاء هذا الكائن أو ذاك، فذلك بالضبط ألن اهلّم، من حيث

معناه ومدلوله األنطولوجي، هو الزمنية.

لكن أن نقول أن اإلنسان يقوم ويتأسس عىل الزمنية، وأن كيانه اجلوهري يقوم يف وجوده)12(، فإن معنى ذلك أيًضا أن نتصور اإلنسان كائنًا مّتجًها نحو املوت ال كائنًا يشارك بجزء منه )قسطه »العقالين«( يف »األبدية«. والدوام. هذا الفكر املتعلق باملنذورية للموت ليس، يف منظور هايدغر، عالمة من عالمات

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 10: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 102النزعة التشاؤمية، وال إعالن نزعة عدمية، بل هو، عىل العكس من ذلك، اعرتاف بام للوجود من ملمح ، وذلك ألن كينونة اإلنسان ال يمكن أن تكون منفتحة عىل ذاهتا وعىل اآلخرين إال من حيث إجيايب بنيِّأهنا كينونة معّرضة بصورة دائمة إلمكانية االنغالق عن كل ما هو موجود. ال يمكن إذن أن نفكر تفكرًيا مرشوًعا يف فعل الوجود إال يف إطار العالقة باملنذورية للموت، كام ال يمكن أن نفكر يف قابلية الكائن اإلنساين لالنفتاح إال من حيث أن منبعها ومصدرها انغالق أصيل ال يمكن هلذا الكائن أن يصبح سيًدا عليه ومتحكاًم فيه. وهذا هو ما جيعل هايدغر يرى يف املوت اإلمكانية املتميزة للكائن اإلنساين، ألن هذه اإلمكانية -عىل عكس إمكانيات الوجود األخرى- ال تقرتح وال تقدم شيًئا يمكن لـ»الكائن اإلنساين« أن ينجزه أو يقوم بتنفيذه. ويف هذه االستحالة الفعلية بالضبط تنكشف اإلمكانية يف كل حقيقتها: فاملوت هو ممكن حمض، ال يصبح أبًدا »أمًرا واقًعا« ألن املوت عندما حَيُل، فإن الكائن اإلنساين لن يكون موجوًدا حتى خيتبه وجيربه. ال يمكن للكائن اإلنساين أن يشعر بذاته وأن خيتبها إذن كإمكانية )إمكانية وجود، وليس كموجود واقعي كام يفعل هو ذلك باستمرار من حيث أنه كائن ملقى به يف العامل ويف احلياة اليومية( إال يف إطار ما يدعوه هايدغر »استباقية املوت«، وإال من حيث أن اإلنسان هو ذلك الكائن املنذور، حًقا وأصاًل، للموت. إمكانية الوجود هاته هي، عىل الدوام، إمكانية واقعية وفعلية؛ إذ إن الكائن اإلنساين هو -بصورة ما- دوًما يف حالة تأخر زمني عن انفتاحيته عىل ذاته، ألنه ليس مصدر وجوده اخلاص. وقائعية كينونة الكائن اإلنساين من حيث هي كينونة ملقى هبا من قبل يف العامل ليست فقط سمة مالزمة لوجوده يتعني عليه مشاهدهتا وتتبعها، بل إهنا معطى وقائعي ال يمكن االعرتاف به والتعرف إليه إال إذا جرى الوجود عىل اإلنساين الوجود ينفتح الكينونة مسؤولية ل لتحمُّ الصعود وهبذا مسؤوليته. ل وحتمُّ تبنّيه احلقيقي األصيل. إن هذا النمط املتميز النفتاح الكائن اإلنساين، والذي يفهم بواسطته ذاته انطالًقا من إمكانياته الوجودية اخلاصة، يسّميه هايدغر اإلرصار أو التصميم. ]هناك تقارب لفظي يف اللغة األملانية

.])Entschlossenheit( والتصميم )Ertschlossenheit( »بني »االنفتاح

حالة إىل كذلك( هو حيث )من اإلنساين الكائن انفتاح حالة من االنتقال سهولة يدعم التقارب هذا بكينونة ارتباط يف إال وإرصار تصميم أي هناك يكون لن إذن وجوده. مسؤولية الكائن هذا ل حتمُّاحلقيقي النمط هايدغر تسمية لنا يفرس ما وهو نحوه، ومتجه للموت منذور حقيقي وبكائن حقيقية للهّم بـ»اإلرصار االستباقي«)13(. واحلال أن هذا النمط احلقيقي واألصيل للهّم جيد أساسه يف الزمنية، كام ليس هايدغر، يتصورها كام الزمنية، معنى لكن ممكنة. للهّم الكاملة البنية جتعل التي هي فالزمنية يفهمها الرتاث الفلسفي التقليدي، أي ما يشّكل »املعنى الداخيل أو الباطني« ويسم بالتايل كينونة الذات جتاه ذاهتا، بل إن الزمنية هنا، باملعنى اهلايدغري، تكشف نفسها، عىل العكس من ذلك، كـ»انخراج«، أو كـ»خروج خارج الذات« من حيث أن هذا االنخراج عملية أساسية وأصلية. وهنا يتعني أن نأخذ لفظ خروج أو انخراج )Ekstatikon(، الذي يستعريه هايدغر من أرسطو، باملعنى املتداول يف اللغة اإلغريقية، .)Existence( »الوجود« لفظ من اللفظ هذا نقّرب أن يتعني كام الذات، من اخلروج فعل بمعنى أي خالص كحدث الزمنية إبراز أي الزمنية«، »بانخراجات واحلارض كان، وما املستقبل، بتسمية ُيقصد

وليس كخروج »للذات« من ذاهتا بعد أن كانت من قبُل »يف« ذاهتا.

Page 11: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

103أساًسا، متناه وجود للموت، منذور وكائن العامل يف به ملقى كائن هو حيث من اإلنسان، وجود إن املتناهية واملحدودة هي ما الزمنية املنخرجة هي زمنية متناهية؛ وهذه الزمنية وهذا يتضمن ويقتيض أن الكينونة يقدمها هايدغر يف كتابه التي الزمن األصيل: وتلك هي األطروحة األساسية ل ويؤسس يشكِّوالزمن؛ األطروحة التي تتعارض مع التصور التقليدي للزمن الذي يتصور الزمن سلسلة غري متناهية من اللحظات املتتابعة. لكن يتعني أال نفهم تناهي الوجود هنا بمعنى سلبي فقط؛ ذلك أن التناهي ليس صفة أو خصيصة عرضية للعقل اإلنساين، وليس هو ما يميز اإلنسان من اإلله اخلالق، بل إن التناهي هنا يعني الرضورة التي جيد اإلنسان نفسه فيها )يف اختالف عن احليوان( مرغاًم عىل فتح أفق لفهم ممكن ملا جيد اإلنسان نفسه متوقًفا عليه وملا جيد اإلنسان نفسه يف »حالة اهنامم« جتاهه - أي جتاه ذاته وجتاه الكائن اإلنساين اآلخر، وجتاه الكائن امللتقي به داخل العامل، أي جتاه الكائن الذي ليس هو )أي اإلنسان( مصدره وأصله. إن الكائن اإلنساين مرغم عىل أن يفهم ويؤّول كل ما جيده أمامه، باعتبار أن العامل موجود قبل

الذات، وذلك ألن هذا الكائن اإلنساين ليس مصدر أو أصل وجوده اخلاص.

إن هذا األفق التأوييل الذي يتعنّي عىل »الكائن اإلنساين« أن يبلوره هو الذي يشّكل -يف الوقت نفسه - املقصد الغائي حلركة االنخراج، ومنبع االنفتاح عىل الكائنات األخرى. إن زمنية »الكائن اإلنساين« إذن هي زمنية منخرجة وأفقية)14(، وهذا الُبعد األفقي للزمنية هو بالضبط الُبعد الذي جيسد التناهي يف وضعية ملموسة، وذلك ألن هذا التناهي جذر ومصدر هذا الفهم للكينونة الذي يسم »الكائن اإلنساين«، وهو تتأسس عليها التي الكينونة فكرة منبع الوجود لفعل املتناهية الزمنية أن بالتايل نؤكد أن يمّكننا من ما الطابع العقالنية الغربية. تناهي الزمنية هذا، والذي هو سمتها اجلوهرية، هو أساس ما يدعوه هايدغر التارخيي للكائن اإلنساين. ال يقصد هايدغر هبذا املصطلح أن هذا الكائن يمكن أن يكون موضوع العلم التارخيي، بل يقصد به كونه وجوًدا تارخيًيا صميمًيا ككائن ينسب إىل ذاته إمكانات يرثها عندما يولد، كام

ل مسؤوليتها. يتعنّي عليه حتمُّ

الغربية يف للعقالنية الفلسفي املرشوع الذي حيدد الكينونة علم أي األنطولوجيا، أساس يشكل ما إن جممله ويوجهه، هو ذلك السلوك املخصوص الذي يقوم به اإلنسان والذي يسقط بواسطته عىل الكائن الزمنية املنخرجة أفًقا ينتسب إىل الكينونة هنا إذا كان أفق فهم الذي يالقيه أفق فهمه املنخرج للكائن. لـ»الكائن اإلنساين«، فإن ذلك يعني بالتايل أن علم الكينونة علم زمني، أي علم ال يمكن أن يتأسس ال

عىل الزمنية العقل وال عىل أبدية احلقيقة.

الميتافيزيقا الحقةكان هايدغر قد طرح عىل نفسه يف كتاب الكينونة والزمن مهمة »إعادة طرح« مسألة الكينونة، لكن يف ارتباٍط بمرشوع »تقويض« تاريخ األنطولوجيا، الذي هيدف إىل استخراج التجارب األصلية التي كانت أساس مفهومنا للكينونة. كان األمر يتعلق بإعادة ربط الصلة بالبحث األنطولوجي لدى أفالطون وأرسطو، لكن األمر هنا ليس جمرد مواصلة هلذا البحث، بل إن تعميق وجتذير التعريف األرسطي والوسطوي للكينونة كنزوع نحو املفارقة واملجاوزة، مها ما سيقودان هايدغر نحو فكرة »الفرق أو االختالف األنطولوجي«؛

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 12: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 104ل وترسم األفق الضمني إلشكالية كتاب الكينونة والزمن )1927(، الذي نعثر فيه عىل الفكرة التي تشكِّأن من الرغم عىل وذلك للكينونة، املميز )La transcendance( نحو - والنزوع املفارقة لسمة تأكيٍد

ل فكرة النزوع )بمعنى التعدي أو التجاوز( إال بعد هذا الكتاب بمدة. هايدغر مل يفصِّ

قدمه الذي االفتتاحي الدرس هايدغر، يف نزوع وجماوزة« سيقود »علم بأهنا األنطولوجيا تعريف إن سنة 1929 حتت عنوان »ما امليتافيزيقا؟«، نحو املطابقة بني امليتافيزيقا وطبيعة اإلنسان، متاًما مثلام فعل هايدغر، إىل بالنسبة العرص، هذا يف حتدد والتجاوز، النزوع أفق األفق، هذا ضمن قبله. كانط ذلك أفهوم امليتافيزيقا الذي يعني، بحسب املعنى املتداول واملعرتف به بكلمة meta ta physica: »التساؤل الذي يتوجه نحو ما وراء الكائن من أجل دراسة هذا األخري يف سياقه هذا ويف جمموعه ضمن اإلدراك املفهومي أو التصوري«)15(. فامليتافيزيقا، من حيث هي تساؤل عام حول الكينونة، ال تفكر هنا يف الفرق الكينونة عن الكائن ما مل جتعل -عىل األقل- من أو االختالف املوجودي-الوجودي، أو يف اختالف الكينونة ومن العدم موضوعني من بني املوضوعات التي تدرسها، وكانت تلك حال امليتافيزيقا التقليدية. يؤكد هايدغر يف هذا الصدد أن مع طرح مسألة العدم فقط »يستفيق التساؤل امليتافيزيقي بمعناه الدقيق، حول كينونة الكائن«))1(، وذلك ألن كينونة الكائن لن تكون موضع تساؤل فلسفي حقيقي إال عندما يتم

التفكري فيها من حيث اختالفها عن الكائن، منظوًرا إىل الكينونة هنا كال-كائن أو حتى كعدم.

أفهومني أو تصورين بني التمييز إىل صاحبه امليتافيزيقا؟« »ما هايدغر: طرحه الذي السؤال هذا قاد التقليدية األنطولوجيا بني التعارض إىل بالنسبة األمر هو كام يتعارضان تصوران ومها للميتافيزيقا، و»األنطولوجيا األساسية« )أو »أنطولوجيا الدازاين«(؛ فرشط إمكان وجود امليتافيزيقا بمعناها الدقيق أو امليتافيزيقا احلقة، هو وجود اإلنسان، هذا الكائن الذي ال يقيم عالقة بالكائن إال عىل أساس االنفتاح قبلًيا عىل العدم، أي عىل كينونة الكائن. إذا كانت امليتافيزيقا بذلك هي »الكائن اإلنساين« ذاته، وإذا كان فعل الوجود إنجاز ذلك الفرق األنطولوجي وحتقيقه، فإن الفلسفة لن تكون سوى »جعل امليتافيزيقا متيش«، أي تقدم تفسرًيا لـ»طبيعة« اإلنسان امليتافيزيقية، ذلك الكائن الذي ال يمكن أن يكتمل إال هبذه القفزة التي تنقلنا من الوجود الزائف إىل الوجود احلق. إن »الكائن اإلنساين«، يف سياق ما يدعوه هايدغر باألملانية Verfallen، أي االنقذاف أو االنطراح يف العامل، يظل أسرًيا بمعنى ما للمهامت اليومية التي تبتلعه، وهكذا

أي منفتح« إنساين كـ»كائن ذاته إىل التعرف عدم وإىل بذاته االعرتاف عدم إىل ميل بالتايل لديه يتولد ككائن -يف- العامل. كام يتولد لديه ميل إىل أن يفهم ذاته انطالًقا من الكائن املختلف الذي ليس هو، وهذا ُبعد »الكائن اإلنساين« أو إغفال رشط وجوده )l'existentialitè(؛ التقليدية امليتافيزيقا ما يفرس إغفال الكائن كام أمام ينقلنا ويضعنا أن يستطيع، وحده، الذي القلق إال يف ينكشف أن يمكن الُبعد ال فهذا هو، وذلك ألن هذا القلق هو جتربة العدم)17(. وهكذا تبدو الفلسفة إذن عىل أهنا هي التعبري عن »الكائن اإلنساين« احلق، أي عن كائن إنساين يوجد فعلًيا عىل هيئة نزوع وجتاوز )transcendance(. وهذه املاهية يتعني، بحسب هايدغر، مواصلتها وإنجازها من دون التي بالفلسفة هي النزوعية والتجاوزية اخلاصة

رضورة إعادة طرح السؤال عن األصول األفالطونية ملثل هذا املرشوع.

Page 13: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

105ة إعادة تكرار التأسيس الكانطي للميتافيزيقا يف ذاك هو السبب الذي جعل هايدغر يضع عىل عاتقه مهمَّكتابه كانط ومسألة امليتافيزيقا )18(؛ فكانط أول مفكر حاول فعلًيا، بعد أرسطو، إعطاء امليتافيزيقا التقليدية األساس الذي تفتقده والذي هو وحده جيعلها ممكنة، وهذا األساس هو نزوع »الكائن اإلنساين خارج الديكاريت لإلنسان كذات للتعريف الفلسفي، وخصوًصا التقليد بام أن كانط ظل سجني ذاته«. ولكن يعني ما وهو أصالة، أكثر بصورة الكانطي األساس مسألة طرح إعادة الرضوري من فإن ،)Sujet(لدى هايدغر اإلنجاز واالستكامل احلق للميتافيزيقا وليس فقط جماوزهتا؛ فقد ظلت امليتافيزيقا يف تلك رة ومفهومة عىل أهنا ميتافيزيقا »الكائن اإلنساين«، وهي امليتافيزيقا التي تتلط باألنطولوجيا الفرتة، متصوَّاألساسية وهتدف »قبل كل يشء إىل تبيني أن الفكر الفلسفي يتحقق وينجز ذاته من خالل نزوع الكائن

اإلنساين الواضح نحو جماوزة ذاته«)19(.

مجاوزة الميتافيزيقاإىل حدود سنة الفلسفي هايدغر يوجه مسار الذي ظل املرشوع الكينونة هي »إعادة طرح« مسألة إن 1929؛ السنة التي تىل فيها، بشكل هنائي، عن إكامل كتابه الكينونة والزمن. كانت بداية الثالثينيات من القرن العرشين التي التزم فيها هايدغر مع النازيني، هي أيًضا الفرتة التي أنجز فيها »انعطافه« الفلسفي؛ نحو يسعى يزال ال كان ،1933 نيسان/أبريل يف فريبورغ جامعة عميد مسؤولية ل حتمُّ قبل فعندما جذور استنبات إعادة بواسطته يمكن للمعرفة إصالح إنجاز يف تتمثل باألساس، تربوية غاية حتقيق الفلسفي الرتاث هذا »تقويض« طريق عن وذلك الفلسفية، ماهيته تربة يف املتكلس الفلسفي التقليد املتجمد. إن فشل مهمة عامدة اجلامعة وعودة هايدغر إىل ممارسة التدريس مها اعرتاف بأن إعادة استنبات جذور التقليد الفلسفي أمر مل يعد ممكنًا، بل ربام مل يعد مأمواًل أو مرغوًبا فيه؛ إذ يف هذه الفرتة، أي بعد نيتشه ومن مرشوعه يف »قلب املستقاة من الثيمة امليتافيزيقا، وهي ثيمة جماوزة العامدة، ظهرت مرحلة لنيتشه يف شتـاء 1937-)193. التي خصصها األوىل الدروس الذي حلله هايدغر يف األفالطونية« يمكن اعتبار أن هذه الفرتة هي فرتة التساؤل عن حدود الفكر الفلسفي، كام يظهر ذلك ال فقط يف حوار )1934 )سنة هولدرلني شعر مع حواره يف أيًضا بل و1940، 193( سنتي بني نيتشه مع هايدغر بالبداية بالوعي هنا األمر يتعلق .)1942-1943( وهرياقليط بارميند السقراطيني: قبل ما وقراءته قبل ما بفكر قياًسا اإلغريقية الفلسفة موقع مراعاة رضورة يتطلب ما وهو الغريب، للفكر اإلغريقية

السقراطيني.

الصعود نحو أساس الميتافيزيقايمّيز هايدغر يف دروسه لسنة 1935 التي نرشت يف ما بعد حتت عنوان »مدخل إىل امليتافيزيقا« يف البداية اإلغريقية ذاهتا بني بداية وهناية، أي بني فلسفة أفالطون وفلسفة أرسطو)20(. فام قبل السقراطيني هم فعاًل أولئك املفكرون الذين انفتحت الكينونة أمامهم عىل هيئة physis، أي ما يبدو ويظهر من تلقاء ذاته، مع

اإلشارة إىل أن لكلمة physis ولكلمة phaos اجلذر اللغوي نفسه: النور أو الضوء)21(.

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 14: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 106 إن التعريف األفالطوين للكينونة )être( كفكرة أو صورة أو مثال )Idéa( أمر ال يمكن التوصل إليه فعل فإن ذلك، ومع .)physis( ذاته تلقاء من يظهر ما أهنا حيث من الكينونة جتربة أساس عىل إال الظهور، ضمن ما ُيظهر ذاته تلقائًيا، ليس حمط تفكري مستقل خاص به، بل يتم فيه الرجوع إىل اإلحالة إىل زاوية نظر ممكنة. ينتج من هذا االمتياز الذي أعطي للفكرة )Idea( أو الصورة املرئية )Idein( يف مقابل الفيزيس )physis( ذلك التحول العميق املعروف يف ماهية احلقيقة الذي ينسبه هايدغر إىل أفالطون يف التحول هذا يعني احلقيقة«. األفالطوين حول »املذهب مبحثه: الكهف سنة 1942 يف تأويله حكاية العميق إخضاع الكينونة للفكر، واإلدراك لفعل التفكري noein الذي تولدت عنه امليتافيزيقا التي رأت أن الكائن احلقيقي )L'ontòs on( هو املثال )أو الصورة أو الفكرة Idéa(، ورأت أن الفيزيس ال وجود

خالص)22(.

هكذا بدت امليتافيزيقا إذن ال باعتبارها ذلك التهيؤ واالستعداد الطبيعي لدى اإلنسان الذي حتدث عنه جعل الذي السبب هو وهذا األفالطونية. هو الذي التارخيي احلدث هلذا مطابقة باعتبارها بل كانط، هايدغر يقرر رضورة مراجعة الدرس االفتتاحي الذي قدمه سنة 1929 ليضيف إليه الحقة سنة 1943

ومقدمة سنة 1949، حني تم تدقيق أكب يف هذا التعريف اجلديد للميتافيزيقا.

يؤكد هايدغر يف الالحقة التي أضافها سنة 1943، أن السؤال »ما امليتافيزيقا؟« »ينبثق عن فكر سبق أن انخرط يف حماولة جماوزة امليتافيزيقا«)23(، وينتهي باستحضار القرابة الغامضة بني املفكر والشاعر اللذين يوحدمها اهلّم نفسه: هّم اللغة)24(. أما يف ما خيص نص التقديم الذي كتبه هايدغر سنة 1949، والذي هو الحق هلذا التنبيه احلاسم الذي هو »رسالة يف النزعة اإلنسانية« )سنة )194(، فإنه خمصص لعرض اإلنساين الكائن نزوع يف أساسه جيد يعد مل الذي األفهوم وهو وبسطه، للميتافيزيقا اجلديد األفهوم »نحو جماوزة ذاته، بل جيد أساسه يف تاريخ الكينونة ذاهتا«. وقد كتب هايدغر هذا التقديم حتت عنوان

»العودة إىل أساس امليتافيزيقا«.

هكذا حتدد اآلن أن أساس امليتافيزيقا هو »حقيقة الكينونة« التي ال تعرف عنها امليتافيزيقا - من حيث هي فكر خيص حقيقة الكائن، والكائنية- أي يشء؛ إذ إن ما جيهله فكر الكائن منظوًرا إليه من خالل Idéa، هو أن ضوء الكينونة مصدر لوضوح الفكرة؛ ففكر الكائن هذا ال خيب الضوء إال كعملية الـ إضاءة يف إطارها يقوم الكائن، وعندما يتساءل هذا النمط من الفكر فإنه ال يتساءل عن الوضوح ذاته، بل يطرح السؤال فقط عن مصدر هذا الوضوح أو عن منبعه؛ فهو ال يدرك إذن إال حالة الوضوح، وال يدرك صريورة الضوء ذاته من حيث هو حدث. إن ما تفكر فيه امليتافيزيقا يتمّثل فقط يف كون الكائن مضاًء وال تفكر يف اإلضاءة ذاهتا، أي اإلضاءة التي تقدمها الكينونة، وهي املصدر الذي يأيت منه ذلك اإلجالئية ماهيتها يف هنا فيها التفكري يتم ال »فالكينونة الكائن: ييضء الذي الضوء( )أو الوضوح والتوضيحية، أي يف حقيقتها«)25(. وامليتافيزيقا ال تفكر إذن إال يف حقيقة الكائن، وال تفكر يف حقيقة حقيقة يف يفكر الذي الفكر يف متجاوزة »امليتافيزيقا بأن التأكيد إىل هايدغر دفع ما وهذا الكينونة،

الكينونة«))2(.

Page 15: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

107هنا يتعني أال نفهم ما يقصده هايدغر بمصطلح »حقيقة الكينونة« بمعنى أن األمر يتعلق بالكينونة »كـ« )باألملانية اإلخفاء عدم- االشتقاقي، مدلوله وفق يعني، )Aletheia( ذاته االنكشاف وأن حقيقة، Un-verborgenheit(؛ فتساؤل هايدغر حتّول فعلًيا: انتقل من التساؤل عن معنى الكينونة إىل التساؤل

عن حقيقة الكينونة، وهذا التحول يدل عىل مدى سعة »االنعطاف« الذي جابه فكره؛ االنعطاف الذي انفتاحية جتاه اإلنساين‹ ›الكائن انفتاحية عىل يركز بدأ مما أكثر ذاهتا الكينونة انفتاحية عىل »يركز بدأ الكينونة«)27(. مدلول االنعطاف هو أن الفكر مل يعد يتصور الكينونة من منظور »الكائن اإلنساين«، أي من حيث أهنا مرشوع لـ»كائن إنساين« يبلور ويطور -خالل وجوده- معنى ما، بل إن الفكر بدأ يتصور الكينونة كمجال يقيم »الكائن اإلنساين« فيه، وعليه أن يستجيب له وأن يتفاعل معه. يف نصٍّ كتبه هايدغر ك« )Gelassenheit()28(، وهو مصطلح أملاين يعني: القدرة ْ بني سنتي 1944و1945 حتت عنوان »الرتَّعىل ترك الكينونة وحاهلا أو وتلقائيتها وعدم التدخل أو التحكم فيها، بمعنى عدم التقوقع حول الكائن، يشري الفيلسوف إىل رضورة مساءلة الفكر النزوعي- األفقي، كام يؤكد أن أفهوم األفق املفارق ال يكفي وال يفي بالغرض املطلوب عند التفكري يف جمال االنفتاح الذي يمكن أن نصادف الكائن داخله. ويؤكد هايدغر أن ما هو مطلوب ليس التخيل عن وجهة النظر النزوعية السابقة بقدر ما هو االنزياح الفعيل عن هة نحونا من طرف هذا وجهة النظر هاته؛ ذلك أن األفق -من حيث سامته اخلاصة- ليس إال اجلهة املوجَّاألفق املنفتح الذي حييط بنا )29(. يطلق هايدغر عىل هذا األفق املنفتح ذاته - من حيث هو ذلك املكان/ ُنسقطه الذين نحن لسنا أننا إىل بذلك ليشري »القارة«، اسم كلها- األشياء داخله تظهر الذي الزمان حولنا، بل عىل العكس من ذلك، األفق املنفتح هذا هو الذي يأيت أمامنا ويتجه إىل مالقاتنا)30(. وهكذا نرى بوضوح أن االنعطاف )Kehre( هو بالضبط االلتفات نحو الكينونة ذاهتا، وإيالء االهتامم للوجه اآلخر لألفق، أي لوجهه املخفي عنا وال ندركه إال انطالًقا من املوضوعات التي تواجه فكرنا التمثيل )أو االستحضاري( وتقابله. إن معنى مثل هذا »االنعطاف«، ومثل هذا اخلروج عن التمثل، هو الدخول يف عالقة »أقل توتًرا« مع الكينونة، أي يف عالقة »ترتك« الكينونة تكون يف تلقائيتها، بحيث ال جتعلها منتوًجا لنشاطنا الفكري. ويف الوقت نفسه، قادت رضورة التفكري بشكل أدق يف عملية االنخراج إىل أن نرى أهنا تعكس جتربة التعرض لعملية انفتاح الكينونة، وهو ما يتضمن ويقتيض أن ماهية االنخراج ال يمكن أبًدا أن يفكر فيها فقط ككينونة خارج ذاهتا )ذات ال يزال التفكري فيها يدور حول كوهنا مادة أو كياًنا جوهرًيا حقيقة داخل قائمة ككينونة فيها يفكر أن ذلك، من العكس عىل بل، فاعلة(، ذاًتا أو )Substance(الكينونة، كهيئة قائمة بذاهتا)31(. مل يكن هذا االنعطاف يعني إذن التخيل عن وجهة النظر الواردة يف كتاب الكينونة والزمن، بل كان يعني، عىل العكس من ذلك، تعميق وجهة النظر الواردة يف هذا الكتاب والتي كانت بمثابة مرحلة أوىل لفكر جديد بشأن كينونة اإلنسان، أي لفكر كان يتعني عليه بالرضورة أن يبدأ

.)Sujet( باتاذ موقف جتاه تعريف امليتافيزيقا لإلنسان بأنه ذات

ماهية التقنية كميتافيزيقا متحققةل مسؤولية عامدة جامعة مسيَّسة ويف طور اخلضوع للنازية، كان هايدغر، يف اللحظة التي قبِل فيها حتمُّما جعله والفلسفة، وهو السياسة بني إقامة مصاحلة بإمكان املتعلق األفالطوين باملثال مقتنًعا يزال ال

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 16: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 108قد هايدغر كان وإذا كهولته. يف هورسل هبا اعرتف التي للفلسفة »السيادية« الوظيفة يف يتشكك ال فإنه، مع ذلك، مل يستوعب العامدة يف سنة 1934، باستقالته من منصب النازي النظام قطع هنائًيا مع يلقي جمموعة بدأ خالهلا التي الفرتة النازية إال بني سنتي )193 و1937، أي يف الظاهرة أبعاد مجيع من الدروس عن نيتشه. وكان معنى استيعاب جممل الظاهرة النازية النظر إليها فلسفًيا كظاهرة متولدة حتت نص يف وذلك القوة«، »إرادة هايدغر سيدعوه ما سيادة وعن احلديثة، التقنية ماهية عن أساًسا عنوان »جماوزة امليتافيزيقا«، مّجع فيه النقاط واملالحظات املدونة بني سنتي )193 و )194. هنا يتعنّي امليتافيزيقي التعارض بأنه جمرد قلب لألفالطونية ال يغري سوى معنى أال نفهم مصطلح املجاوزة هذا بني ما هو حيس وما هو عقيل، بل هو عىل العكس من ذلك، تبنٍّ للميتافيزيقا)32(. وبدل فهم معنى كلمة »جتاوز« )Uberwindung( بأهنا ترسيح امليتافيزيقا واالبتعاد عنها، فإن هايدغر يفّضل عليها كلمة رفع أو صعود )Verwindung()33(، التي تدل عىل العكس من ذلك، تدل عىل القدرة عىل تقّبل امليتافيزيقا والوصول إىل حقيقتها؛ ذلك أن امليتافيزيقا - يف أفق مصطلح الصعود الوارد يف اجلملة السابقة- حتافظ ر فيها هنا بالضبط يف أفق تاريخ الكينونة ومنظوره. خالل هذا التاريخ، عىل حقيقة طويلة األمد، إذ يفكَّغري بأكملها، عصوًرا بذلك هة وموجِّ دة حمدِّ متعددة، بكيفيات حرية( )بكل نفسها الكينونة تعرض أن هذه العصور ليست -كام هو األمر عند هيغل- أوجًها للروح الكيّل )Esprit(، بل صور وأشكال متعددة لنسيان الكينونة)34(، أي حتديدات لكائنية )Etantité( الكائن: الفكرة عند أفالطون، االنريخيا عند أرسطو، اليقي لدى ديكارت، املعرفة املطلقة لدى هيغل، إرادة القدرة لدى نيتشه، وهذه املحّددات هي أيًضا أسامء للكائن يف جممله. تاريخ العصور هذا هو امليتافيزيقا ذاهتا، من حيث أهنا هذا احلدوث ذاته لواقعة نسيان الكينونة؛ ذلك أن الكينونة ال يمكنها أن تبسط ذاهتا وتعرضها إال وهي تنسحب، وما تعرضه وتفسح له جمال الظهور بانسحاهبا هذا هو الكائن ذاته. ليست امليتافيزيقا إذن )من حيث أهنا ذلك الفكر الذي يفكر يف كائنية الكائن »وينسى«، بذلك، الكينونة( »تاريخ خطأ«، اللهم إال إذا ُنظر إليها من منظور وحيد اجلانب، كام نظر إليها نيتشه يف غسق األوثان؛ بل إن امليتافيزيقا يمكن أن تصبح جتربة »حقة وصادقة« لنسيان الكينونة، وذلك بقدر ما ال يكون النسيان نفسه منسًيا، وبقدر ما ُتفهم امليتافيزيقا بأهنا

تاريخ انسحاب الكينونة.

لكن التوقف عن نسيان النسيان ليس نتيجة قرار يتخذه الفكر؛ فليست الفلسفة هي التي ُتصدر، يف يوم من األيام، قرار جماوزة امليتافيزيقا. ال مكان هنا ألي نزعة إرادية، ألن األمر ال يعني هنا التخيل عن شكل من أشكال الفكر أصبح مهجوًرا وغري ذي جدوى، شكل من أشكال الفكر مل يعد صاحلًا لالستعامل وغدا غري مالئم لعرصنا. إن معنى قولنا إن امليتافيزيقا مىض زمنها وإهنا أصبحت يف عداد املايض هو أهنا ال تزال تشّكل احلارض يف ماهيته ذاهتا، وأن ذلك، بالنسبة إىل هايدغر، هو السبب يف أن عرص جماوزة امليتافيزيقا هو أيًضا عرص سيطرهتا املطلقة)35(، وأن نيتشه، ذاك الذي أعلن جماوزة امليتافيزيقا، هو نفسه الذي استكملها. نحن نعيش فعاًل العرص الذي تتحقق فيه امليتافيزيقا وتصبح فيه عامًلا، وذاك يف مرحلة امليتافيزيقا املكتملة، إن أي الكائن«، أنه »خسوف حقيقة امليتافيزيقا هذا عىل اكتامل يفهم الواقع. وهايدغر املتحققة يف أي استمرارية هناك أن مؤداها فكرة هايدغر لدى فعاًل توجد خصوصيتها))3(. فقدت الكائن جتيل واقعة

Page 17: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

109يف تطور امليتافيزيقا كفكر استحضاري أو متثُّيل توجد نواته األوىل يف »الفكرة« األفالطونية، التي أرست أولوية النظر والرؤية والتي اكتملت يف ما بعد كيقني وكمعرفة مطلقة للذات مع ديكارت وهيغل. وقد دشن نيتشه -آخر ميتافيزيقي- عملية إغالق هذه السريورة امليتافيزيقية؛ إذ إن ما ظهر وفرض نفسه مع ذاهتا بشكل غري مرشوط كواقع وحيد وككائن تريد الذات إن هذه أي الذات، القوة هو حقيقة إرادة أن حيث من إرادة كإرادة تظهر وعندما األول، املقام وحتتل القوة إرادة تظهر وعندما وحيد. حقيقي الكينونة ستتوقف عن الصريورة، ولن القوة ليست إال إرادة تريد ذاهتا بشكل غري مرشوط، فإن إرادة تبعث بإشارهتا، ولن هتب ذاهتا)37(. وما سيستقر ويفرض نفسه يف هذه احلالة هو هيمنة احلساب الشامل، السامت هي وهذه والغايات، األهداف وغياب الالتارخيية، من إطار يف األشياء لكل الكيل والتنظيم من املرحلة هايدغر عىل هذه يطلق الكينونة)38(. نسيان درجات أقىص أي املطلقة«، لـ»العدمية املميزة مراحل تطور امليتافيزيقا يف مسعاها نحو االكتامل والتحقق اسم »عرص التقنية«، مع إعطاء معنى خاص هلذا اللفظ بحيث ال يشمل فقط جمال إنتاج اآلالت، بل يشمل أيًضا مجيع املجاالت األخرى للكائن، بام

فيها الثقافة والسياسة، بل حتى الطبيعة ذاهتا وقد أصبحت موضوًعا)39(.

عنوان حتت 1949 سنة ألقاها التي املحارضات إحدى يف التقنية ماهية يف تفكريه هايدغر سيواصل التقنية«، »مسألة بعد حتت عنوان ما التي ُنرشت يف املحارضة ما هو موجود«، وهي نظرة عىل »إلقاء وفيها ُيبز الفيلسوف أن عالقات اإلنسان باملوضوع -يف أفق التقنية احلديثة- مل تعد قابلة للتناول بطريقة أشياء من يشء كل إن بل ذات، أمام مطروح موضوع هيئة عىل اليوم نفسه يقدم يشء ال إذ قديمة؛ ر من أجل الذات. واختفاء العامل بدأ يظهر -عىل العكس- كأساس وكمخزون من القوة والقدرة مسخَّاحلديثة »الذات« ألن نفسها، الذات اختفاء موازاة يف يسري الشاملة احلسابية اخلطة ثنايا يف املوضوع واملجتمع الصناعي يف جممله، أصبحا خاضعني، مها أيًضا، للقوة التحريضية ملا سيطلق عليه هايدغر اسم »النسق التقني- الصناعي الكيل« )Gestell(. وهذا املصطلح يعبِّ عن نمط االنكشاف التقني الذي يضع أمامنا الكائنات كلها ككائنات قابلة للمناداة واملساءلة، هبدف اإلنجاز واملحاسبة والتحكم، وذلك من أجل إنتاج الطاقة. إن املفارقة األساسية التي تسم التقنية احلديثة هي أهنا تبدو، من جهة، وكأهنا تعكس هيمنة إرادة اإلرادة والسيطرة املطلقة عىل الكائن، لكنها ُتظهر، من زاوية أخرى، أن الكشف عن الواقع يامرسه الذي التحريض أن نفسها، ويشهد عىل الذات اختفاء قابل االستهالك سيقود نحو كمخزون »النسق التقني الكيل« أمر ال يتولد عن قرار إنساين، ألن اإلنسان نفسه يرى ذاته مأخوذة يف سياق هذا النسق. فالتقنية احلديثة تضع اإلنسان يف موقع جيعله يستسلم جلنون السيطرة بقدر ما يمّكنه من أن يصبح ليشمل التقني ومتدده العمليايت الفكر الكشف، وذلك ألن هيمنة املسؤولية يف هذا لنصيبه من متنبًها اًم فيه من طرف مجيع جماالت الكائن، وليطاول اإلنسان ذاته، ذلك الكائن الذي جيد نفسه مطلوًبا ومتحكَّ»النسق التقني الكيل«، مها اللذان جيعالن االنتامء املشرتك واملتبادل بني اإلنسان والكينونة ُيعلن نفسه عب استشعاره للخطر، وهو ذلك االنتامء املتبادل الذي سبق هلايدغر أن أطلق عليه اسم »الكائن اإلنساين«، الكبري«)40( »احلدوث عنوان حتت خاًصا تفكرًيا فيه التفكري الفكري- انعطافه بعد - حاول والذي

.)Ereignis اإليرايغنيس(

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 18: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 110

الميتافيزيقا مزيًجا من األنطولوجيا والالهوتر فيه يف يتعلق األمر، عند العودة إىل أساس امليتافيزيقا، بتوجيه السؤال نحو ما ظل ويظل منسًيا وغري مفكَّر فيه عىل أنه ما هو مهَمل، وتصّور النسيان عىل تاريخ امليتافيزيقا، من دون أن يعني ذلك تصّور الالمفكَّر فيه والنسيان مها رشط إمكان التاريخ الذي ال يمكن أن يتحرك إال أنه حدث عارض: بل إن الالمفكَّر انطالًقا من هذا اإلبعاد األول. إن الكينونة - من حيث أن اختالفها عن الكائن اختالف منيس أو المفكَّ فيه- تنسحب بكيفيات وعب طرائق متعددة لكي تفتتح جمال الظهور هذا الذي يطلق عليه هايدغر لفظ-ضمن الكائن كينونة خصائص تصبح أن يمكن بحيث الضوء، فسحة أو امَلَضاءة أي ،Lichtung

جمال الظهور هذا- موضوع تفكري، وهذا هو السبب يف أن التساؤل عن النسيان وعن العودة صعوًدا إىل األساس، ال يمكن أن حيدث إال عندما تكون امليتافيزيقا قد اكتملت وحتققت، أي استنفدت مجيع التحديدات املمكنة لكائنية الكائن. وهكذا، فإن كل عرص من عصور امليتافيزيقا هو بالتايل إعادة تناول ر فيه من طرف الرتاث الغريب من بدايته إىل هنايته، من انكسيامندر إىل لألصل نفسه الذي ظل غري مفكَّنيتشه)41(، وذلك ألن ما قبل السقراطيني أنفسهم مل يفكروا إال يف كائنية الكائن ال يف حقيقة الكينونة، بتاًتا إخضاعها يعني فالبقاء حتت هيمنة األليتيا ال L’alètheia؛ وا عملية »االنكشاف« حتى وإن سمَّندين »وبأن قبلسقراطيني«، كام إال نتفلسف »بأال االنعطاف، بعد إذن، يتعلق ال واألمر للمساءلة، تكرار يعني، يف سنة 1927، يكن مل األمر أن كام وانحطاط«)42(. فهم أنه سوء ذلك عىل ماعدا كل الوقت يف حتى الكينونة، نسيان قياس ذلك، من العكس عىل هو، سؤال حمط هو ما إن األرسطية. الذي يتم فيه إعطاء اسم هلذه الكينونة؛ إذ إن امليتافيزيقا ذاهتا تعطي االنطباع ظاهرًيا بأهنا تطرح مسألة نفسها الكائن، وبذلك جتد تتحدث عن إنام كليته- الكائن يف تتقصد وتتناوهلا ألهنا -وهي الكينونة توض، بطريقة غريبة، يف عملية خلط دائم بني الكينونة والكائن، وذلك منذ بدايتها إىل مرحلة اكتامهلا ومتامها)43(. وعندما نسلط الضوء عىل هذا الطابع املزدوج األسايس للميتافيزيقا من حيث أهنا هي، يف الوقت نفسه، علم وجود )أنطولوجيا( وعلم الهوت )ثيولوجيا(، فإن املقصود من ذلك هو إبراز هذا

اخللط بني الكينونة والكائن.

سنة بوضوح هايدغر فعل كام ثيولوجيا(، )أنطو- الهوت وعلم وجود علم امليتافيزيقا نعتب أن 1957 يف دراسته »اهلوية واالختالف«، ليس إال عودة إىل تبنّي التعريف األرسطي لـ»الفلسفة األوىل«)proté philosophia(، وهي الفلسفة التي أطلق عليها التقليد الفلسفي املتوارث اسم امليتافيزيقا، وذلك الكائن من بنّي ذلك هايدغر سنة 1927)44( - هي معرفة بالنسبة إىل أرسطو -كام الفلسفة األوىل ألن حيث هو كائن، أي علم وجود )أنطولوجيا( بقدر ما هي معرفة باملنطقة األسمى من الكائن، أي علم

الهوت )ثيولوجيا(. لكن من أين أتى هذا التقسيم الثنائي؟ ذاك هو سؤال هايدغر.

التحول الذي تعرضت له يتعنّي قبل كل يشء أن ُيشار إىل أن الطابع الالهويت للميتافيزيقا ال يأيت من للميتافيزيقا هي العميقة الثنائية األصلية فإن العكس من ذلك متاًما، باملسيحية، بل عىل التقائها بسبب التي مّكنت الالهوت املسيحي من االستيالء عىل الفلسفة اإلغريقية)45(. إن املاهية الوجودية الالهوتية

Page 19: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

111)ontotheologique( للميتافيزيقا قائمة فقط عىل أساس الكيفية التي يظهر هلا هبا الكائن من حيث هو كائن. والضوء الذي تسلطه عليه ندوة )195-1957 املخصصة للتشّكل األنطو- ثيولوجي للميتافيزيقا، الذي ُيعتب القسم الثاين من »اهلوية واالختالف«، هو أن امليتافيزيقا فكرت دوًما، ومنذ البداية، يف كينونة الكائن باعتبارها أساًسا، أي علاًم )Logos())4(. لقد فكرت امليتافيزيقا فعاًل يف الكينونة يف اجتاه الكائن وانطالًقا منه، وهو ما يتضمن أن اختالف الكينونة عن الكائن اتذ بالنسبة إىل امليتافيزيقا شكل متييز بني لفظني أو حدين. إن ما ُنيس بصفة خاصة هو الفرق أو االختالف ذاته كام هو، من حيث أن هذا الفرق أو االختالف يبعد ويسحب -منذ األصل- عن الرؤية)47(، وذلك ألن ما يتم توجيه النظر إليه وتركيز الرؤية عليه هو ما ُميِّز وُبنيِّ اختالفه، أي الكينونة من حيث هي الوجه الكيان اآلخر للكائن؛ فامليتافيزيقا ف نفسها بذلك كمحاولة للتأسيس تتقصد إذن تضع الكينونة والكائن بعضهام خارج بعض؛ فهي تعرِّ .)totalité( االهتامم بالكائن بإرجاعه إىل كينونته من زاوية نظر مزدوجة: زاوية العمومية وزاوية الكليةوهكذا، فإن األنطولوجيا والثيولوجيا مها، بمعنى ما، »نوعان من املنطق«، أي خطابات وأقوال تستهدف التأسيس)48(. إن السبب يف كون األنطولوجيا أيًضا الهوًتا ومنطًقا )theo-logie( ال ينفصامن، هو كون امليتافيزيقا تـأسيًسا عقليا للكائن. لقد كان هناك رضورة إلدخال اهلل يف الفلسفة ألن الفكر الباحث عن يكن ومل .)ultima- ratio( أول وعّلة قصوى أساس إجياد إىل رضورة يدعو كان والتأسيس األساس ر هو ذاته إال عىل شكل علة ذاتية )Causa sui(، وذاك هو األفهوم هذا التأسيس عىل عّلة أسمى لُيتصوَّ

امليتافيزيقي هلل)49(.

املنطقية -الالهوتية- الوجودية البنية أن التحليل هذا من يستخلص أن هايدغر أمكن هكذا، ر يفكَّ أن امليتافيزيقا يف فهم االختالف، من دون لتخّبط نتيجة للميتافيزيقا هي )onto-theo-logique(يف هذا األخري يف حد ذاته؛ ذلك أن التفكري يف االختالف ال فقط يف املختلف، هو ما قاد هايدغر ذاته إىل جتاوز االختالف األنطولوجي وملا يتضمنه من ُبعد نزوعي أو جتاوزي، فاألمر هنا أقل من أن يكون تفكرًيا يف الفروق واالختالفات بقدر ما هو تفكري يف صدورها انطالًقا من ذات اليشء)50(؛ إذ إن وحدة ماهية امليتافيزيقا هي ما استمر تنايس التفكري فيه، وهذا هو السبب الذي جعل هايدغر يفّضل فكرة االزدواجية واالنثنائية املضاعفة للعالقة بني الكينونة والكائن، وهي الفكرة التي حترص عىل اجلمع والفصل بينهام الذي »مل يعد فلسفة يف آن واحد، ال عىل جمرد فكرة اختالف أحدمها عن اآلخر)51( فقط. فوفًقا للفكر يعني الذي االنعطاف ملعنى ووفًقا امليتافيزيقا«)52(، من أصالة وأكثر عمًقا أكثر بشكل يفكر فكر ألنه نقل الصفات التي كانت منسوبة يف السابق إىل »الكائن اإلنساين«، إىل الكينونة نفسها، فإن الكينونة ذاهتا

)وليس نزوع الدازاين نحو يشء آخر( هي التي توّلد اختالف الكينونة عن الكائن)53(.

نهاية الفلسفةتعلن موضوعة هناية الفلسفة نفَسها يف النصوص التي نرشها هايدغر قبل حمارضة سنة 4)19، وعنواهنا »هناية الفلسفة ومهّمة الفكر«. كان هايدغر قد أشار من قبل، يف واحدة من النقط التي مّجعها حتت عنوان الفلسفة ليست نيتشه اكتملت وحتققت، لكنه يؤكد أن هناية امليتافيزيقا منذ امليتافيزيقا«، إىل أن »جماوزة

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 20: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 112مع ذلك هناية الفكر)54(، فكيف نفهم معنى »النهاية« يف الفلسفة؟ هنا يتعني علينا أن نرتك املعاين السلبية جانًبا للنهاية من منطلق أهنا تعني التوقف أو التخلف أو االنحطاط، وذلك لنفهمها باألحرى يف مدلوهلا اإلجيايب كاكتامل، كامتالء، وكاستجابة ملهّمة نذرت الفلسفة نفسها هلا منذ بدء تارخيها: وهي مهّمة التفكري اال يف العرص احلارض يف ما يف أساس الكائن. وهايدغر ينظر إىل هذا االكتامل من منظور أنه ال يزال شغَّالفلسفي)55(. أمل تبق املقننة جتاه أصلها الفلسفة وتفّككها، أي حترر الكثري من العلوم يظهر وكأنه حتلل اليوم، مع ذلك، مهّمة خاصة لفكر لن يكون ميتافيزيقًيا وال علمًيا؟ تلك هي املسألة التي ينكّب عليها هايدغر والتي تشري إىل نمط آخر من الفكر غري فكر التأسيس، أي إىل فكر ال يشّكل وال يؤسس وال ينتج شيًئا؛ فكر هو بذلك »أفقر« من الفكر امليتافيزيقي، لكنه فكر ينجز ويستكمل، مع ذلك، عالقة اإلنسان

بالكينونة، وذلك برتكه الكينونة تأيت نحو اللغة))5(.

مسألة اللغةكان هايدغر قد اعرتف سنة 1954، يف حوار دار حول الكالم، أمام حماوره الياباين، بأن »التأمل يف اللغة ويف الكينونة وجه، منذ البداية، مساره الفكري، وبأن هذا هو ما فرض رضورة فحص موقعهام املفرتض يف خلفية فكره«)57(. وفعاًل، فإن مساءالت هايدغر الفلسفية، بعد االنعطاف، ويف أفق فكر الكينونة الذي مل يعد فكًرا حول تأسيس الكائن، بدأت تتمركز بشكل قوي حول مشكل عالقة الكينونة باللغة؛ فنسيان الكينونة بلغ ذروته عندما كّفت امليتافيزيقا عن أن ترى يف فعل الكينونة جمرد مقولة منطقية رابطة. وهكذا، تعبري »بخار كلمة« خالص، بحسب أو اللغة، )Etre( حالة قصوى من حاالت »كينونة« أن كلمة بدا نيتشه؛ ذلك أن يف إمكاننا أن نميز يف مجيع كلامت أي لغة الدال )الصويت أو الكتايب( من املدلول )املعنى(، ثم من اليشء الذي تشري أو حتيل إليه الكلمة )املرجع(. وهذه القاعدة ال تنطبق عىل كلمة »كينونة« التي ال حتيل إىل أي كائن والتي ليست إال مظهًرا لعالقة، عالقة »الكائن اإلنساين« مع الكائن يف جممله، وهذه العالقة هي التي تتفاعل وتتجسد كلغة. إن ماهية اللغة متخفية فعاًل يف تصور جيعل الكلمة جمرد عالمة عىل كائن موجود من قبل. وبام أن الفلسفة أنطولوجيا، أو علم لوجود األشياء وللحضور القبيل، فإهنا ال تعرف اللغة إال عىل هيئة منطوق أو حكم يعطي فكرة عن صفات الكائنات املعزولة واملفصولة، سواء عن مكان ظهورها، أي العامل، أو عن ذلك الكائن الذي ظهرت الكلمة من أجله، أي »الكائن اإلنساين انطالًقا من تفهم أساًسا القائمة، كام الكائنات اللغة ذاهتا، منذئذ، جمموعة من تبدو املنفتح«)58(. هكذا جهة، من اليشء موجودين: كائنني بني كتطابق احلقيقة تعريف مصدر هو وذاك الصويت، عنرصها واملنطوق اللغوي من جهة أخرى. إن ما هو مطروح للنقاش هنا، بالنسبة إىل هايدغر، هو مصطلح عالمة ذاته، ألن أنطولوجيا األشياء املوجودة أو املعروضة أمام اإلنسان تنتهي إىل االعرتاف باملكانة األنطولوجية نفسها لكلٍّ من اليشء والعالمة، كام لو كانا متساويني يف الوجود. هكذا إذن تنغلق لغة من اللغات )حني الكينونة وتعبِّ تقول أن قادرة عىل نفسها، وتظل غري العالمات( عىل جيري تصّورها يف هيئة نسق من عنها يف زمنيتها اخلاصة. وهذا هو السبب الذي جعل هايدغر يوضح يف »رسالة يف النزعة اإلنسانية« أنه تراجع عن نرش القسم الثالث من اجلزء األول من الوجود والزمن، ألن الفكر ال يتوصل إىل إنجاز مهّمته

Page 21: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

113كاملة عندما يستعني بلغة امليتافيزيقا)59(. من الواضح إذن أنه لكي يتم التفكري يف زمنية الكينونة، فإن من إنجازه املطلوب اللغة التقليدي. لكن حتوير الفلسفي الرتاث لغة لغة أخرى غري البحث عن املطلوب هنا -كام أشار هايدغر إىل ذلك يف »التوجه نحو اللغة«- »لن يتحقق بمجرد صوغ ألفاظ جديدة أو تبنّي مصطلحات أخرى«)0)(، وكأن األمر يتعلق بمحاولة التعبري عن الظواهر بشكل أدق وأكثر تطابًقا؛ ذلك أنه لو كان األمر كذلك، فإن معناه أن هايدغر ظل أسري تصّور للغة يرى أهنا صورة خالصة لألشياء. وعىل العكس من ذلك، فإن املطلوب هو حتوير عالقتنا باللغة؛ إذ من الرضوري جتريب لغة يتم فيها تغيري مسار

هذا التصور املتداول عن اللغة باعتبارها طالء وصباغة لألشياء.

هنا يؤدي احلوار مع الشعراء دوًرا حاساًم؛ فاللغة الشعرية ليست فقط إشارة إىل األشياء وتعيينًا هلا، بل هي جتسيد للكائنات وإقامة هلا أو إرساء هلا، كام لو أن الكائن يأيت إىل كلامت اللغة ليستشعر وجوده فيها أول مرة. وهايدغر ال حييل هنا إىل الشعر عامة بل إىل شعر هولدرلني وريلكه وتراكل وجورج، أي إىل شعراء يستقدمون إىل اللغة -يف أشعارهم- ماهية اللغة الشعرية ذاهتا؛ إذ إن عنف القول الشعري عنف االنكشاف والكشف: فالكشف واالنكشاف )األليتيا( ليسا واقعة حتدث قبلًيا، بل إن الكشف ال حيدث

إال إذا ُأحدث بواسطة العمل األديب)1)(.

لكن العمل األديب ليس، يف حد ذاته، كشًفا إال ألنه قول أو شعر؛ فالشعر، بمعنى اخلطاب الشعري، هو ذاته نمط مشتق من أنامط القول، عىل غرار األنامط األخرى: فاملعبد اإلغريقي شعر أيًضا، بمعنى أنه يرتب األشياء كلها حوله، حيث يقيم أو يشّكل عامًلا، إال أن الشعر يف مدلوله املحدود، من حيث هو فن من فنون القول، ال يقل خصوصية ومتيًزا ضمن جمموع الفنون، ألنه يتأسس عىل اللغة، وذلك ألن تسمية الكائن إظهار وإبراز له للمرة األوىل، وكل الفنون ال تشارك يف فعل القول، وليست قواًل إال ألهنا تأيت إىل »داخل ة من قبل عىل الرغم من أهنا، يف كليتها، غري مدركة يف اللغة«)2)(. وهكذا، ال فسحة الكائن )املضيئة( احلالَّيمكن إذن تسليط الضوء عىل ماهية اللغة إال عب حوار الفكر والشعر، وفقط عب هذا احلوار بني الفكر والشعر يمكن أن تنجيل ماهية اللغة، كام يمكن أن ينجيل أيًضا أن »هذه السمة اخلاصة بالفكر، من حيث

أنه هو منتوج شاعر، ال تزال سمة خفية«)3)(.

التعريف الذي نعثر عليه يف »رسالة يف التعريف الشهري للغة بأهنا »بيت الكينونة«، وهو هذا ما قاد إىل النزعة اإلنسانية«)4)(. ومع ذلك، فإنه يتعنّي أال نعتب هذا التعريف صيغة تقدم لنا ماهية اللغة، كام يتعني أال نؤّوله انطالًقا من املعنى العادي للكلامت التي يتكون منها هذا التعريف؛ إذ إنه ليس جماًزا أو صورة تشبيهية: »فأن نتحدث عن بيت الكينونة ليس معناه أبًدا أننا نضفي عىل الكينونة صورة ›بيت‹، بل عىل العكس من ذلك فإننا فقط عندما نكون قد فكرنا وتصورنا ماهية الكينونة وفق ما هي، نكون قد استطعنا يوًما ما أن نتصور ما هو ›البيت‹ وما معنى أن ›نسكن‹«)5)(. ففعل السكن، الذي علَّمنا بيت)))( شعري شهري هلولدرلني أنه دوًما سكن شعري، هو ماهية كينونة اإلنسان ذاهتا من حيث أنه هو ذلك الكائن الذي يسكن أو يقيم يف حقيقة الكينونة، ومن حيث أن هذه العالقة بالكينونة التي تشّكله عالقة تتحقق عىل هيئة لغة، وتلك هي علة كون »اللغة هي يف الوقت نفسه بيت الكينونة وحمل استظالل)7)( املاهية اإلنسانية«.

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 22: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 114 ليست اللغة إذن، بأي معنى من املعاين، أداة متّكن اإلنسان من السيطرة عىل الكائن، بل هي الكيفية الكبري احلدوث هبا يتحقق أي بالكينونة، اإلنسان عالقة هبا حتصل أو تتحقق أو حتدث التي

)اإليرايغنيس( ذاته.

إن ما يطلق عليه هايدغر اسم اإليرايغنيس )وهو اللفظ األملاين الذي أصبح هو اللفظ األسايس املوجه لفكر الفيلسوف ابتداء من ثالثينيات القرن العرشين( هو االنتامء املشرتك واملتبادل بني اإلنسان والكينونة)8)(؛ بمعنى أيًضا »احلدث«( املتداولة، عىل األملانية اللغة يدل يف )الذي اللفظ هذا نفهم أن يتعنّي أنه ذلك العني والرؤية )كام يسعف بذلك بعض االشتقاقات يف اللغة األملانية( ال بمعنى االنتامء اخلاص والتملك اخلاص )كام تسعف بذلك اشتقاقات لغوية أخرى(. يف هذا املنظور، نتبني أن كلمة Ereignen تعني إذن إرجاع اليشء أو املعنى إىل انتامئـه اخلـاص به عن طريق جعلـه مرئًيا. إن تشابك هذه املعاين الثالثة هو ما جيعل لفظ اإليرايغنيس لفًظا غري قابل للرتمجـة. إن رضورة التفكيـر يف االنكشاف أو عدم االحتجاب )L'alétheia(، أي يف فسحة الضوء )أو امَلَضاءة( ذاهتا، قادت هايدغر إىل التخيل عن كلمة كينونة بوصفها كلمة ال تزال تنتمي إىل ميتافيزيقا الكينونة؛ فتْحت هذا االسم )=الكينونة(، ال نستطيع أن نفكر إال يف هناك كائـن. كل لظهور كمكان ذاهتا الفسحة يف ليس أي كحقيقة)9)(، الكينونة يف ال الكائن كينونة عادة راسخة يف الفكر ال يمكن اقتالعها وتتمّثل يف أنه يتم دوًما التفكري -حتت اسم الكينونة- يف يشء- مقابل، يف حني أن الكينونة هي حمل انبثاق كل ما هو مقابل، وهي مكان انبثـاق كل موضوع. يتعني إذن يف 195( سنة نفسه هايدغر ذلك فعل كام عليه، X حذف عالمة وضع أو الكينونة اسم عن التخيل دراسته »مسامهة يف مسألة الكينونة«)70(، وذلك ألنه إذا كان هلذه العالمة معنى سلبي يتمّثل يف نزع مظهر »الذات الفاعلة« عن الكينونة، فإن هلا معنى آخر إجيابًيا هذه املرة، وهو اإلشارة إىل فسحة الضوء ذاهتا من حيث أهنا هي مكان سكن الفانني، وكذا اإلشارة إىل هذا اإلطار الرباعي )Geviert( الذي يتشكل من خالل التعارض املزدوج بني األرض والسامء، ثم بني الفانني واآلهلة)71(، وهو الرابوع الذي ملح فيه هايدغر قضية فكر جديد ليس هو فكر معنى الكينونة، وال هو فكر حقيقة الكينونة، بل هو »موقع وفضاء

)Topologie( للكينونة«.

قضية الفكرما هي فعاًل املهّمة املنذورة لفكٍر لن يكون فكر تأسيس بل سيكون فكًرا حمدوًدا ومتناهًيا حول السكن؟ »هناية عنوان حتت 19(4 سنة ألقاها إحدامها حمارضتني، يف هايدغر طرحه الذي السؤال هو ذاك الفكر«؛ ذلك بالفرنسية، حتت عنوان »قضية ألقى األخرى سنة 5)19، بينام الفكر«، الفلسفة ومهّمة أن مهّمة الفكر الفلسفي، أي ما هو مطروح للتساؤل بالنسبة إىل هذا الفكر، منذ ديكارت إىل هورسل، »اليشء« مما هو أكثر ذاته وتقديمها الفلسفي عْرضه الفكر ما هيم أن الذاتية. ومعنى ذلك هي مسألة بتوجيه قضيتها يتعلق -كام هي احلال لدى هيغل وهورسل- الفلسفة إىل بالنسبة أن األمر ذاته؛ ذلك اخلاصة ورفعها إىل مستوى املعرفة املطلقة، وإىل درجة البداهة القصوى، أي إىل مستوى الظهور املطلق. إذن، إن القضية األساسية للفلسفة - ليس فقط للفلسفة احلديثة، بل أيًضا للفلسفة بصورة عامة، منذ

Page 23: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

115ر فيه يف الفلسفة وما أخفته بسبب نشأهتا األفالطونية- هي ضوء الظهور وضوء الرؤية. وما ظل غري مفكَّطريقتها يف طرح األسئلة والتطرق إىل املسائل، هو حمل فعل الظهور وحمل فعل الرؤية، أي ما ظل هايدغر منذ الكينونة والزمن يطلق عليه اسم الفسحة الضوئية )Lichtung(، وهو اللفظ الذي أعطاه بعد ذلك lichtung بصدد هذه املسألة، يشري هايدغر إىل أن كلمة .)clairiere( معنى أكثر خصوصية هو امَلَضاءة Lichtung الذي يعني اخلفيف، اخلافت. كلمة Leicht ضوء( بل ُتشتق من النعت( licht ال تنحدر منتعني باخلصوص املكان أو الفضاء املفتوح القليل األشجار، الفسحة أو املضاءة. وهكذا، ليس الضوء هو الذي خيلق الفسحة أو املضاءة، بل الفسحة هي التي تفتتح عملية تناوب الضوء والظل وتتيحها)72(. عنه تقول ال الذي األصيل »اليشء« ذاك إهنا أصلية؛ ظاهرة إذن هي املضاءة أو Lichtung الفسحة

امليتافيزيقا أي يشء.

إن ما فكرت الفلسفة فيه وتفكر، كل مرة، هو حضور احلارض من قبل، وليس ما يمنح احلضور والغياب يف حد ذاهتام. امليتافيزيقا كلها تتحدث لغة أفالطون، وهي ذاهتا أفالطونية، ألن الفلسفة كلها قول أو تفكر يف كلها الفلسفة أن بمعنى ،)73()Ideo-logie( فكرة منطق- »الفكرة« -املثال، وهي تعبري عن تساوي »امليتافيزيقا للمعادلة: أن هنا نرى هكذا، رؤية. حمط يكون أن يمكن أنه حيث من يظهر ما األفالطونية« معنًى خمتلًفا لدى كلٍّ من نيتشه وهايدغر؛ فهي تعني لدى نيتشه احلط من قيمة املحسوس واالعتقاد يف وجود عامل حقيقي يقوم خلف عامل املظاهر هذا. أما بالنسبة إىل هايدغر، فمعنى املعادلة لنا من خالل مظهره، أي من خالل »فكرته« نفسه ما ُيظهر يشء إنارة ورؤية؛ فلكي هو وجود فكر أو صورته )eidos(، يتعنّي أن يكون مكان إمكان االلتقاء به موجوًدا ومفتوًحا من قبُل، أي جيب أن يكون مكان االنكشاف أو عدم االنحجاب مفتوًحا من قبل. لكن الفكر الفلسفي ال يفكر يف االنكشاف )l'alètheia(، من حيث هو كذلك، مع أنه، هو نفسه، يتأسس عىل عدم االحتجاب. فالفلسفة، من حيث هي فكر يتمحور حول »الفكرة-الصورة«، تفكر يف ما يظهر من خالل تعرضه للرؤية أو قابليته للرؤية وليس يف عملية »انعطاء« كل ما يظهر، أي يف املنفتح من حيث هو كذلك. أما امليتافيزيقا -من حيث هي أنطوثيولوجيا- فهي تفكر يف الكائن عامة انطالًقا من تأسسه عىل كائن أسمى بدل أن تفكر يف ما يوجد انطالًقا منه كائن بصفة عامة ويوجد انطالًقا منه كائن أسمى. الفكر الفلسفي ال يمكنه فعاًل أن يفكر يف ما جيعله ممكنًا، وهذا ال يرجع بتاًتا إىل نوع من اإلمهال اإلنساين، بل يرجع إىل بنية عملية االنكشاف )Alétheia( ذاهتا، التي هي عملية تبعد نفسها عن الرؤية ملصلحة ما تدعه يظهر، أي ملصلحةالكائن إننا دوًما، وبصورة قبلية، يف حالة انكشاف أو عدم انحجاب، وهذا سبب كوننا ال نستطيع أن ذاته. نفكر يف عملية حدوث هذا االنكشاف ذاته، أي يف عملية القدوم واحلضور ذاهتا، أي يف عملية الظهور ذاهتا من حيث أهنا خروج من دائرة االنحجاب؛ ذلك أن عملية االنحجاب حتصل انطالًقا من انحجاب أو احتجاب أصيل بل أصيل جًدا، مرتبط بـ lèthè التي هي قلب األليتيا، أي بانحجاب ونسيان يف آن واحد، وعملية االنحجاب األصلية هاته هي التي تظل، من حيث هي كذلك، شيًئا مل جيِر التفكري فيه. ولعل حدث االنفتاح انطالًقا من انغالق أكثر أصلية منه هو ما يظل من الرضوري إىل حد اآلن التفكري

فيه يف عرص هناية الفلسفة.

من المكتبةفلسفة هايدغر

Page 24: رغدياه ةفسلف · 2017-05-03 · تا ثيح نم ةرهاظلا لىإ رظنلاب -كلذ نم سكعلا لىع- قلعتي لب ،اهينبيو اهلكشي يذلا

العدد ١٢ /٣ربيع ٢0١5 116كان هايدغر يقول مرات كثرية إن الفكر الذي مل يعد ميتافيزيقا هو أقل من الفلسفة قيمة، وأنه أكثر منها فقًرا، ألنه ال يرفع نفسه إىل مستوى فكر التأسيس، وذلك ألن هايدغر يطرح فكًرا ِسمته التناهي؛ فكًرا ليس موضوع ذاته، أي »شيئه« اخلاص به؛ فكًرا تعني ماهيته املوقته »إفساح املجال هلذا الذي يتجه أو ُيساق نحوه الفكر ليبز نفسه بتلقائية«، وهو يطرح هذا الفكر كنقيض للحلم الفلسفي بإنشاء فكر استيفائي، املنطق« هليغل)74(. الفكر كذاك الذي جعله أرسطو فكًرا خاًصا باهلل، والذي استكمل يف »علم أو فكر إن كون الفينومينولوجيا تعّرف نفسها منذ هورسل بأهنا منهج وطريق يقود إىل »اليشء ذاته«، إىل اليشء الذي هو حمط السؤال، هو ما جعل هايدغر يستمر يف تعريف فكره يف سنة 1973 بأنه »فينومينولوجيا ما ال يظهر«. ومع ذلك، يتعنّي علينا أال نرى يف ذلك أي تناقض، ألن هذا الذي ال يظهر ال حييل إىل أي »عامل خلفي«، بل حييل فقط إىل املا ال يظهر الذي يقيم يف كل فعِل ظهور، أي حييل إىل فعل حدوث عملية

الظهور وإىل عملية »انعطاء« الكينونة أو »انوهاهبا«*.)2(

* ُحذفت اإلحاالت المرجعية من هذه المقالة ألسباب تقنية. )المحرر(