جمرة في يد الملك

98
١ ﺍﻟﻤﻠﻙ ﻴﺩ ﻓﻲ ﺠﻤﺭﺓ ﻨﺠﻴﺏ ﻤﻨﺼﻭﺭ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﻘﻁﻴﻑ ﺇﻟﻰ ﻋﻭﺩﺓ ﺸـﺩﻴﺩ، ﺒـﺒﻁﺀ ﺘﺘﺤﺭﻙ ﻜﺎﻨﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﻟﻁﻭﻴﻠﺔ ﺍﻟﺼﻔﻭﻑ ﺒﻴﻥ ﺩﻭﺭﻩ ﻴﺘﺭﻗﺏ ﻭﻫﻭ ﻤﻨﺯﻋﺠﺎ ﺒﺎﺕ ﻓﺎﻟﻜل ﺘﺘﺫﻤﺭ، ﺒﺩﺃﺕ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺤﺸﻭﺩ ﺍﻟﺠـﻭ ﺫﻟـﻙ ﻤـﻥ ﺍﻟﺨـﺭﻭﺝ ﻟﺤﻅﺔ ﺘﺄﻤل ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﻁﺎﺭ ﻟﻘﺎﻋﺔ ﺍﻟﺯﺠﺎﺠﻴﺔ ﺍﻷﺒﻭﺍﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﻅﺭ ﺘﺘﺼﻴﺩ ﻜﺎﻨﺕ ﺍﻷﻋﻴﻥ ﺜﻘﻴﻠﺔ، ﻭﺭﺘﺎﺒﻪ ﻟﺘﻨﻁﻠﻕ ﻭﺍﻟﺴﺄﻡ، ﺒﺎﻻﻨﺘﻅﺎﺭ ﺍﻟﺨﺎﻨﻕ ﻟﻬﻴﺒﻬﺎ ﻋﻨﻔﻭﺍﻥ ﻭﺘﻁﻔﺊ ﺘﺠﻤﺩﻫﺎ، ﺃﻥ ﺍﻟﺭﻭﺘﻴﻨﻴﺔ ﺍﻻﺠﺭﺍﺀﺍﺕ ﺘﻠﻙ ﻜﺎﺩﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺃﺸﻭﺍﻗﻬﺎ ﺂﻤﺎﻟﻬﺎ. ﻭﻴﺨـﺘﻠﺱ ﻓﻴﻬـﺎ ﺍﻟﻨﻅـﺭ ﻴﺩﻗﻕ ﻭﺒﺩﺃ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺒﻁﺎﻗﺘﻪ ﺍﻟﻅﻬﺭﺍﻥ ﺒﻤﻁﺎﺭ ﺍﻷﻤﻥ ﺭﺠل ﺃﺨﺫ ﺘﺭﻗﺏ، ﻁﻭل ﺒﻌﺩ ﺩﻭﺭﻩ ﺠﺎﺀ ﻭﺤﻴﻥ ﺒﺤﻨﻕ ﺫﺒﻭﻟﻪ ﻭﺍﻤﺘﺯﺝ ﺤﻴﻭﻴﺘﻪ، ﻭﺘﺤﺘﻀﺭ ﻴﺫﺒل ﺃﺨﺫ ﺍﻟﺫﻱ ﻭﺠﻬﻪ ﺇﻟﻰ ﺤﺎﺩﺓ ﻨﻅﺭﺍﺕ ﺩﻓﻴﻥ ﺫﻟﻙ ﻤﻥ ﺸﻴﺌﺎ ﺘﺴﺘﺩﻋﻲ ﺩﺍﺨﻠﻴﺔ ﺭﺤﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻤﻠﺔ ﺍﻻﺠﺭﺍﺀﺍﺕ ﺘﻠﻙ. ﺤﺎﺩﺓ ﺒﻠﻬﺠﺔ ﺍﻷﻤﻥ ﺭﺠل ﻭﺴﺄﻟﻪ: ؟ ﺍﺴﻤﻙ ﻤﺎ ـ! ﺘﺼﻨﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻐﺭ ﺒﺎﺴﻡ ﺃﺠﺎﺏ: ﺍﻟﺭﺤﻤﻥ ﻋﺒﺩ ﻋﺎﺩل ـ. ﺠﻴﺩﺍ ﻤﻼﻤﺤﻪ ﻭﻴﺘﻔﺭ ﻭﺠﻬﻪ ﻓﻲ ﻴﺤﻤﻠﻕ ﻭﻫﻭ ﺍﻷﻤﻥ ﺭﺠل ﺃﻀﺎﻑ. ؟ ﺠﻨﺴﻴﺘﻙ ـ! ﻓﻠﺴﻁﻴﻨﻲ ـ. ؟ ﻤﻬﻨﺘﻙ ـ ﱢﺱ ﻤﺩﺭ ـ. ﺍﻟﺒﻁﺎﻗـﺔ ﻭﺇﻟﻰ ﻤﺭﺓ ﻋﺎﺩلﺴﺘﺎﺫ ﺍﻷ ﺇﻟﻰ ﻴﺸﻴﺭ ﻭﻫﻭ ﺍﻟﻤﻜﺘﺏ، ﻓﻲ ﻟﻪ ﺯﻤﻴل ﻤﻊ ﺘﻬﺎﻤﺱ ﻋﺎﺩل، ﻟﻼﺴﺘﺎﺫ ﻅﻬﺭﻩ ﺍﻷﻤﻥ ﺭﺠل ﺩﺍﺭ ﺃﻤﺭﻩ ﻓﻲ ﺴﺭﺍ ﺍﻜﺘﺸﻑ ﻗﺩ ﻭﻜﺄﻨﻪﺨﺭﻯ ﻤﺭﺓ. ﻋﺎﺩلﺴﺘﺎﺫ ﺍﻷ ﺴﺎﺌﻼ ﺍﻷﻤﻥ ﺭﺠل ﻋﺎﺩ: ؟ ﺴﺘﺘﻭﺠﻪ ﺃﻴﻥ ﺇﻟﻰ ـ! ﻤﺴﺘﻐﺭﺒﺎ ﺃﺠﺎﺏ: ﺍﻟﻘﻁﻴﻑ ﺇﻟﻰ ـ. ﺍﻷﻤﻥ ﺭﺠل ﺘﺭﻜﻴﺯ ﺍﺯﺩﺍﺩ ﻟـﻡ ﺍﻟﺘـﻲ ﺍﻟﻨﻅﺭﺍﺕ ﺘﻠﻙ ﻤﻥ ﻫﺭﺒﺎ ﺠﻔﻨﻴﻪﺴﺘﺎﺫ ﺍﻷ ﺃﻁﺒﻕ ﻟﻘﺩ ﺤﺘﻰ ﻭﻋﻴﻨﻴﻪ ﻋﺎﺩلﺴﺘﺎﺫ ﺍﻷ ﻤﻼﻤﺢ ﻓﻲ ﺴﺒﺒﺎ ﻟﻬﺎ ﻴﻌﻠﻡ. ﺍﻷﻤﻥ ﺭﺠل ﺴﺄﻟﻪ ﺨﺸﻥ ﻭﺒﺈﺴﻠﻭﺏ: ؟ ﻟﻠﻘﻁﻴﻑ ﺫﻫﺎﺒﻙ ﺴﺒﺏ ﻤﺎ ـ ﺜﺎﻨﻭﻴﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﻟﻠﺘﺩﺭﻴﺱ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻡ ﺩﺍﺌﺭﺓ ﻗﺒل ﻤﻥ ﻤﺒﻌﻭﺙ ـ. ﺭﺠل ﻓﻘﺎل ﺍﻷﺴﺌﻠﺔ ﻟﻜﺜﺭﺓ ﻤﻤﺘﻌﺽ ﻭﻫﻭﺴﺘﺎﺫ ﺍﻷ ﻗﺎﻟﻬﺎ ﺍﻷﻤﻥ: ﻫﻨﺎﻙ ﺍﻻﻨﺘﻅﺎﺭ ﺘﺴﺘﻁﻴﻊ ﺤﺴﻥ، ـ.

Upload: api-19965365

Post on 16-Nov-2014

54 views

Category:

Documents


8 download

TRANSCRIPT

Page 1: جمرة في يد الملك

١

جمرة في يد الملك الشيخ منصور نجيب

عودة إلى القطيفحشود الناس بدأت تتذمر، فالكل بات منزعجا وهو يترقب دوره بين الصفوف الطويلة التي كانت تتحرك بـبطء شـديد، ورتابه ثقيلة، األعين كانت تتصيد النظر إلى األبواب الزجاجية لقاعة المطار وهي تأمل لحظة الخـروج مـن ذلـك الجـو

.آمالها وأشواقها التي كادت تلك االجراءات الروتينية أن تجمدها، وتطفئ عنفوان لهيبها الخانق باالنتظار والسأم، لتنطلق بوحين جاء دوره بعد طول ترقب، أخذ رجل األمن بمطار الظهران بطاقته الشخصية وبدأ يدقق النظـر فيهـا ويخـتلس

نظرات حادة إلى وجهه الذي أخذ يذبل وتحتضر حيويته، وامتزج ذبوله بحنق .تلك االجراءات المملة في رحلة داخلية ال تستدعي شيئا من ذلك دفين ل

:وسأله رجل األمن بلهجة حادة ! ـ ما اسمك ؟

:أجاب باسم الثغر في تصنع .ـ عادل عبد الرحمن

.أضاف رجل األمن وهو يحملق في وجهه ويتفرس مالمحه جيدا ! ـ جنسيتك ؟ .ـ فلسطيني ـ مهنتك ؟ .ـ مدرس

دار رجل األمن ظهره لالستاذ عادل، تهامس مع زميل له في المكتب، وهو يشير إلى األستاذ عادل مرة وإلى البطاقـة أ .…مرة أخرى وكأنه قد اكتشف سرا في أمره

:عاد رجل األمن سائال األستاذ عادل !ـ إلى أين ستتوجه ؟

:أجاب مستغربا .ـ إلى القطيف

في مالمح األستاذ عادل وعينيه حتى لقد أطبق األستاذ جفنيه هربا من تلك النظرات التـي لـم ازداد تركيز رجل األمن .يعلم لها سببا

:وبإسلوب خشن سأله رجل األمن ـ ما سبب ذهابك للقطيف ؟

.ـ مبعوث من قبل دائرة التعليم للتدريس في ثانويتها : األمن قالها األستاذ وهو ممتعض لكثرة األسئلة فقال رجل

.ـ حسن، تستطيع االنتظار هناك

Page 2: جمرة في يد الملك

٢

وعاد األستاذ عادل إلى قاعة االنتظار مرة أخرى، وهناك كان كثيرون قد طال بهم العقود فغلبهم النـوم مبتعـدين عـن الجو الخانق، محلقين بأحالمهم في لحظات حلوة من اللقاء المنتظر بأحبتهم، وآخرون كانوا يتثـاءبون فـي سـأم وضـجر

بعضهم إلى سيجارة ينفث في دخانها فرط حنقه وتأففه بينما أخذ البعض يقطع باحة القاعـة الفـسيحة ذهابـا وجيئـة، ويلجأ ويطرق األرض طرقات وجلة تتلمس لما يجري مغزى أو تبريرا، الحنق بدا واضحا على الوجوه التي كانـت قبـل وقـت

.دية ولقاء قريب، فتنضح باألمل ودفق الحياة قصير تحلق في الجو تعانق صفاء السماء وتمخر في أحالم ن ! كان األستاذ عادل يحدق في وجوههم، وقد ارتسم سؤال ملح في ذهنه عن سبب اإلجراءات في رحلة داخلية ؟

وتبادر إلى ذهنه أن األحداث الساخنة تجلجل في أول يوم من آخر سنة في هذا القرن الهجري ، ففي مكة بلـد المـسلمين مقر الحرم المكي الشريف، يعتصم مجموعة من الثوار والمتمردين على النظام الحاكم ليرتعش البلـد اآلمـن، اآلمن، وفي

وتثار زوبعة من النار والدخان على مرأى ومسمع من ماليين المسلمين الذين وفدوا إلى مكة وهـم يخبئـون فـي أفئـدتهم .أشجانا شاء الظلم أن تبقى حبيسة ال تجد لها منفسا

:نهد األستاد عادل وهو يؤكد ظنونه محاورا نفسه وتـ ليس من اليسير أن تهتز قبلة المسلمين بهذا الشكل غير المتوقع ، فتثير اليها شهوات الـصحف والمجـالت، لتكـون ميدانا لألقالم المتصارعة وبأشكال اإلستفهام، وبالضبط مع بداية آخر سنة من القرن الهجـري الرابـع عـشر وكثيـرون

! تساءلون هل هي بداية النهاية أم نهاية البداية للسلطة السعودية؟يقد يجد ذلك السؤال جوابا، وقد يبقى جامدا في ردهات العقول وتزيده جمودا وسائل اإلعالم التي دأبـت علـى تزييـف

!الحقائق وتصوير الليل نهارا مشرقا .أن األمر معقول جدااعتقد ! حدث ساخن كهذا قد يستدعي كل هذه اإلجراءات؟

جال ذلك في فكره وهو ينتظر دوره واقفا بين زحام الناس وما أن سمع اسمه حتى تنفس الصعداء ، مشى علـى عجـل متوجها إلى مكتب رجل األمن، ليتسلم بطاقته الشخصية، مشى خارجا من قاعة المطار المكيفة مركزيا، التي كانـت تبـسط

الشمس الحارقة التي تأبى أن تلين أو تستسلم لفصل الخريف، وكأن الخريف قـد زاد تهاونـا فـي ظالال وارفا يحجب أشعة .ساعات الظهر فترى الشمس قد اشتدت ورمت بلهبها الحارق على الروابي والوديان واألراضي القاحلة والعمران

طفت خارج المطـار، تنتظـر مئـات اسرع األستاذ محتميا من وهج الشمس، صعد إلى إحدى سيارات األجرة التي اص .المسافرين اللذين بدأوا في تلك اللحظات ينعتقون من األسر فيخرج الواحد تلو اآلخر

كان سائق سيارة األجرة في حال يغبط عليه وقد تناسى حرقة الشمس ولفظ سأم اإلنتظار، فكان يتمايـل طربـا إلحـدى بدوي كعقرب الساعة، وقد أفسد عليه األستاذ عادل هيامه حين ابتـدره قـائال أغنيات سميرة توفيق ويتمايل معه خيط عقاله ال

: .ـ إلى القطيف من فضلك

حرك السائق مفتاح سيارته ، احتضنت يداه المقود ليرجع بها قليال إلى الوراء ثم لينحرف يسارا نحو الـشارع المفـضي .للخروج

ة الحر الذي امتزج برائحة السيارة التي صهرتها الشمس وروائح دخـان أحس األستاذ عادل برغبة ملحة في الغثيان لشد السيارات األخرى، كان يشعر بضلوع صدره تتقلص وهو يمانع نفسه الغثيان ، أما السائق فقد بدا غير آبه بشدة الحـر بـل

Page 3: جمرة في يد الملك

٣

الربابـة الطـاغي فـي كان واضحا اعتياده الحر الالهب، والرائحة الكريهة، وهو ما زال يطرب ويصفق ويهيم مع صوت .أغنيات سميرة توفيق ذات الطابع البدوي

شقت سيارة اإلجرة طريقها في شارع المطار ـ الظهران ـ الشارع الرئيسي الهام الذي يفصل بين منـاطق صـناعية نطقة البتـرول وحيوية في اقتصاد المملكة السعودية التي اعتمدت البترول مصدرا رئيسا للدخل ، فتطالعك مدينة الظهران م

والصناعات النفطية التي تغص باالمريكان واألجانب من كل مكان، وكأنها أحدى واليات أمريكا أو مستعمراتها فـال تجـد فيها اال مصانع النفط ودخانها الذي يلتهم صفاء السماء بغيومه الداكنة وروائحه الخانقة، وفي غياهب تلـك المـصانع آالف

ون التعب وكافة المخاطر الستمرار تدفق النفط إلى أمريكا، وان كان ظاهر األمر يوحي برفـاه العمال من المواطنين يتحمل .المواطن السعودي وتقدمه

وتحتضنك الدمام في مجرى ذلك الشارع بحيويتها وكثرة ما تضمه من مواقع هامة كمبنى اإلذاعـة والتلفزيـون، أمـا عد رائحة المياه المالحة ورمال الشواطئ الناعمة، التي كانت وما زالـت تحكـي الخبر فتجذبك إليها مشتاقا وأنت تشم عن ب

.مواويل هذا الشعب وماضيه الموغل في عمق التاريخ والزمن .وفي رأس تنورة التي يصل اليها ذلك الشارع تربض اكبر مصفاة نفط في الشرق األوسط

مركزة من قبل الدولة السعودية التي تحـرص علـى أن تعطـي لقد كان من الطبيعي أن يجد هذا الشارع عناية فائقة و ( ) .زائريها انطباعا راسخا عن تقدمها وازدهارها

.قالها األستاذ عادل في نفسه وهو يلحظ اهتماما بالغا بذلك الشارع وي الموج كلمـا واصلت عجالت السيارة طريقها دون تكلف، فالشارع كان مرصوفا بعناية تامة يخيل للرائي أنه بحر س

أوغلت السيارة في السرعة ولكن ذلك الموج الهادئ سرعان ما يهيج بالراكب حين يمتد السير وتتخلل الطريق المرتفعـات .والمنخفضات

على ضفتي الشارع كانت األشجار والنخيل قد ظللت األرصفة ومسحت شيئا يسيرا من طغيـان الـصحراء بلمـسات بيح الضوء فقد بدت لألستاذ عادل بشكلها المستقيم الذي ينحنـي أعـاله فـي زاويـة قائمـة، شفافة من الخضرة، أما مصا

.كالجاريات الحسان يحنين رؤوسهن للزائر أحتراما واجالال واسترقت عيني األستاذ، الالفتات التي أخذت مواقعها المتفرقة على ضفتي الشارع، فكانت عرضا رائعـا للبلـد اآلمـن

لملك واألمراء على أمنه وسالمته، فعلى اليمين اعالن عن سمو األمير الذي يفتتح مـشروعا خيريـا، وعلـى الذي يسهر ا اليسار سيل من اإلعالنات الدعائية للبضائع األمريكية التي تضمن األفضل واألجود، فمن اعالنـات الـسيارات األمريكيـة

يات المواد الغذائية واالستهالكية كالبسكويت الذي يـشد األبـصار الفخمة إلى اعالنات السيجار األمريكي الفاخر حتى دعائ .إليه بصور مكبرة تسترق األنظار في الذهاب واإلياب

وخجل األستاذ عادل حين خطر له مدى اعتماد هذا الشعب على الصناعات األمريكية ومتسقبله في عالم تتقاسـمه قـوى ! األسود ومكر الثعالب جذابا يشد إليه األعين قسرا، وقد أبى األستاذ عادل أن يغلب باصـرتيه الكـرى أو يـشاغله النعـاس كان الشارع قد بدا

رغم ما به من إرهاق ونصب، فقد إلى على نفسه أن يرى كل جديد وأن يلمس التغيرات التي كومتها سنوات قليلة التهمتهـا حراوي الذي ال يتبدل مهما دأبت أموال الـنفط علـى ضوضاء الرياض، ومدارسها الفارهة، وجفافها الصارخ بالوجه الص

Page 4: جمرة في يد الملك

٤

تغييره، فالرياض تلك الصحراء الممتدة تحولت في غضون سنوات إلى عاصـمة تنـافس العواصـم األخـرى، وتتبختـر .بعمرانها وداللها متباهية في عتمة الليل الصحراوي المنهزم بحلتها البيضاء كعروس تفترش األرض وتشمخ نحو السماء

ذا يعود إلى القطيف، الواحة اليانعة التي تسترق شغاف القلوب قبل األبدان وتأسر األرواح قبل األجـساد وهـي وها هو تتغنى باخضرارها وأرضها المعطاء، ونسيمها الفواح، وعيونها الكبريتية، وسمائها الصافية التي تعكس الكثير عـن صـفاء

.القلوب ونقاء األنفس جنبات قلبه بحب دافق يتأجج حرارة كلما لسعته الذكرى وايقظت فتائله وحشاء الغربة، ويبقـى الشوق يعنفه اليها، ويمأل

! الشوق يعنفه ويشد قلبه وهو ال يدري ما السبب ؟ ولكنها تضم في حناياها الدافئة ثالث سنوات من الذكرى العبقة التي كان خاللها قـد امـتهن التـدريس فـي مدارسـها

. المتعة فيها والمتعة تبعث على الحنين المتواضعة، وقد استوفىيا الهي ما أشد تعلق اإلنسان بلحظات عيشه الماضية، المستقبل يربض أمامه، يفتح ذراعيه ليحتـضن مجهولـه بحلـوه (

ومره وألمه، وبأساه، ولكن يبقى المرء أسير لحظات مضت وذابت ولم يبق منها إال لمسات خفيـة ليستـشعرها الوجـدان يه كما يسري الدم في عروق االنسان فيهبها الحياة، فتراه ينشد ذلك المكان الذي اسـتودع فيـه ذكريـات أليمـة ولتسري ف

وأشجانا مرة، ويحن إلى مكان آخر احتضن متعته وبهجته، وكأن االنسان شجرة فارعة تمد طولها نحـو الـسماء لتبقـى ) .جذورها تحتقر األرض وتتثبت بها

.هو يتحسس شوقا وتلهفا للقطيف وألهلها الذين عاشرهم فأحبهم جال ذلك في خاطره ووعلى الرغم من أن رحلته تلك كانت عادية بعد أن صدر قرار نقله من مدرسة الرياض إلى ثانويـة القطيـف ، إال أن

حـال األقـدار حـين األقدار قد شاءت لها أن تكون استثنائية بمفارقاتها التي بدأت تترصده دون علمه بعواقبها، وتلك هي تشاء أمرا البن آدم فهي تتالعب باإلنسان فترمي به في أتون مجهولها بال إرادة منه أو اختيـار وكـأن األقـدار لـم تـشأ

.مواجهته بما تخبئه له من أسرار فاستزلقته اليها استزالقا ليكون شاهدا في محكمة التاريخ الكبرى لع كل شيء وليلحظ كل تغير، وليلمس كل جديد، وهي عادة تطبعـت بهـا نفـسه وبقي األستاذ عادل يغالب الكرى ليطا

التي لم تعتد النظرة العابرة او االلتفاتة السطحية بل أحبت دائما غمار المجهول، وكثيرا ما عاتبته والدته على ذلـك فاتهمتـه ألنه كثيرا ما يعرض نفسه للخطر ويرمي بهـا فـي ولما أصبح شابا كانت تعيره بالطيش ) طفال مشاغبا ( بالفضول وسمته

عمق بحر هائج قد تسبح بين أمواجه وقد تموت، حتى صار رجال ونظرتها اليه لن تتغير، وهو كذلك مـا زال غيـر قـادر لقد كان حـب االسـتطالع والفـضول سـببا فـي ابتكـارات جديـدة ( على لجم طبيعته تلك التي سمتها والدته فضوال ،

قالها األستاذ عادل في نفسه وهو يتذكر اتهامات والدته ويضع أصبعه على أثر لجرح أسفل حاجبـه ) راعات متواصلة واختاأليمن، أصيب بها حين تدخل في عراك بين اصدقائه فكانت اإلصابة جزاء تدخله فيما ال يعنيه كما قالت له والدتـه آنـذاك

. الظهران، فقفلت له الذكريات إلى رحلته األولى للقطيف قبل ثالثـة عـشر وصلت سيارة األجرة إلى الشارع الذي يقطع

عاما وما عاناه فيها من إرهاق شديد أحدثته االهتزازات المتتالية لسيارة اإلجرة التي كانت تتمايل بـين المطبـات والحفـر، وم، وبين شـارع الظهـران الفـسيح ولكن شتان بين األمس والي. فقد كان كمن يعبر صحراء قاحلة إلى واحة وارفة الظالل

! الممتد، وشوارع القطيف الضيقة المهملة

Page 5: جمرة في يد الملك

٥

عجيب أمرها، هذه المدينة العائمة على اكبر احتياطي للبترول وتسعف العالم بروح حياة العصر الحـديث أو عـصب ( !! قيامه، تبقى عطشى ألبسط مظاهر العصرنة والتقدم

! ـ هل زرت القطيف من قبل ؟ .ائق قاطعا على االستاذ عادل شروده فأجاب سأل الس

.ـ نعم قبل ثالثة عشر عاما ـ وماذا تعمل ؟

.ـ مدرس في المدرسة الثانوية : سأل السائق فاتحا فاه مستغربا

! ـ وهل تدرس في القطيف نفسها ؟ ! ـ نعم

:التصق السائق باالستاذ عادل وهمس في أذنه ويقال إنهم يعبدون علي بن أبي طالب، يقدسونه ويؤلهونـه، فيقومـون ويقعـدون ) بحارنة ( عة ـ احذر منهم، إنهم شي

.إنهم كفار حقا . ……بإسمه ، ويرجونه في إماطة األذى عنهم وجلب رزقهم : قاطعه االستاذ عادل قائال

.ـ ال أعتقد ذلك، لم أر شيئا مما تقول ه األولى في القطيف حين استدعاه مسؤول في مديرية المعارف وهناك كـان المـسؤول وقفلت به عبارة السائق إلى أيام

أمام مكتبه ينفث سيجارا امريكيا فاخرا، وقد بدت سحنته السوداء شاذة بين مالبسه البيضاء الناصعة وبعـد ان اعتـدل فـي عادل قائال وعيناه السوداوان تنبئ عـن غـرور كرسيه الدوار، ورمى بسيجارته التي لم تتناصف بعد ، واستدار إلى األستاذ

.واستكبار .ـ هل لديك معلومات عن المنطقة التي ستعمل بها، هؤالء الناس والتالميذ، عاداتهم وعقائدهم

.حينها أجاب بدهشة …ـ ال ، فأنا جديد على هذا البلد

: فسكت الرجل برهة ثم قال كل وافد غريب اتعرف لماذا ؟ ـ هؤالء الناس شرسون، ولديهم حقد على

:كانت عالمات االستفهام تختلط في رأسه حين أجاب قائال . …ـ ال

: فابتدره ذلك المسؤول قائال ـ النهم جهلة، ال يمتون إلى الحضارة بشيء، احذر منهم وحاول أن ال تعطيهم أي فرصة للحديث، كن معهـم شـديدا،

.ت هل فهمت، شديدا إلى أقصى الدرجاوقد كان لتلك الكلمات أثرها السيء في نفس األستاذ عادل، جعلته يبصر تالميذه األبرياء وكأنهم يهود ومحتلـون، فقـد كان اليهود شرسين، ينفثون حقدهم وبغضائهم على كل من ال يدين باليهودية، ولقد صورت له تلك الكلمات تالميـذه بتلـك

Page 6: جمرة في يد الملك

٦

لرقيقة قساوة تعامله وجفاف اسلوبه، كان ينهال ضربا علـى أحـدهم لتفوهـه الصورة وهو ال يدري كيف تحملت قلوبهم ا .بكلمة التبس فهمها عليه فتصورها شتما أو سبابا

لقد كان كاألسد الذي يخاف دبيب النمل ولم يزل كذلك حتى بدأ يفكر في األمر ويقارن بتجـرد بـين بـساطتهم وطيبـة رقا في بحر لجي من الوهم، فهم مستضعفون بالفعل، نفوسـهم بيـضاء متفتحـة قلوبهم وجفاف معاملته لهم، فرأى نفسه غا

كوردة الياسمين تشيع الصفاء والنسيم الزكي، وقلوبهم طرية ال تعرف البغض بل تبدع في الحب الوانا وأصنافا وفي الكـرم ن األبرياء العـزل ، فقـرر أن ينتـشل أساليب وطرق، حينها انقلبت الصورة في نظره فوجد نفسه اسرائيليا يخنق ضحاياه م

.نفسه ففعل، واستمتع بسنوات من األلفة المتبادلة .وضع األستاذ عادل رأسه المثقل على مسند المقعد وهو يغوص في الماضي عمقا ويبحر في تساؤالته

! ؟ ) هل أرثي لحالي حين التحفت عن الحقيقة فبت كاألعمى والنور يسطع أمامه ( ثي ذلك الشعب المسكين الذي ما برح يسلب كل شيء ، ثرواته، وخيراته، كيانه وذاته، ففي عمر التـاريخ كلـه ، أم أر (

ورغم تعدد أشكال األستعمار واألستغالل لبني األنسان وتباعد الوان الحكومات والرئاسات، اال أن أحدا لـم يجـرؤ علـى هذا الشعب سمي منذ عام الف وتسعمائة واثنين باسم العائلـة المالكـة مسخ شخصية شعب كامل ليكون ذيال بال قيمة، ولكن

. ( وانتزع األستاذ عادل نفسه من تيه خواطره فسأل السائق الذي كان منهمكا في ادارة موجة المـذياع علـه يجـد أغنيـة

: قال له …تروق له وتطربه !ـ وأنت هل سبق لك أن زرت القطيف ؟

:أجاب السائق تقف عند مداخل القطيف فقط وأنا أوصل راكبي السيارة وان تكرمت فأدخلتهم إلى زقاقاتها فإني ال ألبـث ـ حدودي .أن أعود جافال

! ولم ؟ .. …ـ ألني لست أحمق

انهم جزء من شعب هذا البلد، لقد عرفتهم جيـدا فلـم أجـد .. ـ وهل ستكون أحمق حين تزور القطيف وتعرف أهلها يسر النفس ، ثم ان المذاهب اختالفات شكلية لدين واحد ـ منهم إال ما

! فقاطع السائق حديث األستاذ عادل قائال في حدة ! ـ ما رأيك في الشعب اإليراني ، الذي أسال الدماء غزيرة وأشاع الفوضى وخرب العمران ؟

…ـ الثورة قدر كل شعب يبحث عن الكرامة في عالم تتناهبه القوى العظمى .. . واستطرد األستاذ موضحا وجهة نظره

ـ لقد كان الشاه صديقا وفيا إلسرائيل يمولها بالبترول اإلسالمي وهي عدوة المسلمين، كان يأخذ بشعبه نحـو االرتمـاء .الكلي في أحضان األمريكان واليهود

! احتقن وجه السائق بغضب عجز عن إخفائه وهو يقول مجادال ! احتالل السفارة االمريكية في طهران اال تعتبر ذلك نزعة اكيدة للعنف ؟ ـ وما تقول في

:ثم تطاير من عينيه الشرر وهو يضيف

Page 7: جمرة في يد الملك

٧

! ـ انهم الشيعة في كل مكان يثيرون الشغب والعنف .. أجاب األستاذ عادل متأنيا في حديثه مثيرا بذلك حنق السائق أكثر وأكثر

المـؤامرات، لقـد : را تخريبيا لمصلحة أمريكا واسرائيل، كانت قاعدة للتجسس وحب ـ السفارة ، لقد كانت تمارس دو .اثبتت تلك الوثائق التي وجدت هناك بشكل واضح وهي ليست إال جزءا بسيطا مما تخلص منه العمالء باإلتالف

.سكت األستاذ عادل هنيهة ثم قال مركزا نظراته في عيني السائق عبر المرآة األمامية ! ـ وإن كنت تسمي تلك األعمال بالشغب، فما رأيك في أحداث الحرم المكي ؟

! أليس كذلك ؟ …أعتقد أن السنة السلفيين يحتلون الحرم المكي بأسلحتهم، والحرم يا صاحبي له قدسية ال تقارن بدت واضحة فـي صمت السائق على مضض وكأن مجرى الحديث قد صب في غير صالحه، وكانت معالم القطيف قد

فبدأت البساتين تلوح من بعيد وتفتح أحضانها وهي تتوزع على ضفتي الشارع وتتراقص أغـصان األشـجار . …تلك االثناء والنخيل وهي تعانق بعضها في أروع صورة للعشق الطبيعي الساحر، المـساحات الخـضراء تتحـدى جفـاف الخريـف

.عيرات األنف وكأنها تأبى إال أن تكون أول المرحبينفتطالعك بين الفينة واألخرى، وتالعب رائحتها شولكن السماء بدت لالستاذ عادل في تلك اللحظات وكأنها قد فقدت صفاءها المعهود وتلبدت بسحب من الـدخان األسـود

! يزحف من بعيد بمحاذاة مستشفى القطيف وهـو المـشفى انحرفت السيارة إلى شارع مليء بالمطبات وبعد لحظات كانت سيارة االجرة

اليتيم في تلك المدينة كان بناؤه متآكال ولون جدرانه قد التهمته الشروخ التي أخذت تنخره كرجل عجـوز اقتحمتـه تجاعيـد الكبر دون رحمة، وهناك أخذت السيارة طريقها بين األزقة الضيقة التي ران عليها سكون غريب ، فالدكاكين كانت مغلقـة

نها في حداد، والمنطقة خاوية على عروشها إال من بعض سيارات األمن تبدو مـن بعيـد وبـصحبة رجـال الحـرس وكأ .الوطني الذين ربضوا بأسلحتهم في زقاقات متفرقة

:كان المنظر قد أثار السائق الذي سأل األستاذ عادل .ـ يبدو أن لديهم عطلة رسمية

:خبير بالمنطقة أجاب األستاذ عادل بنبرة الواثق ال، واليـوم هـو الثـامن مـن ) رض ( ـ نعم ، انهم يتوقفون عن العمل في األيام الثالثة األخيرة من عاشوراء الحسين

. محرم :أشار السائق بيديه قائال

.. ـ انظر هناك ألسنة من اللهب، وأعمدة من الدخان تشق السماء . لعله حريق …يا الهي .. ـ أوه

األجرة مسافة من الطريق فتناهت اليهما رائحة مطاط محترق أثارت لدى األستاذ عادل ذكريـات راسـخة قطعت سيارة من النضال المرير الذي يقوم به شعبه األعزل ضد قوات األحتالل األسرائيلي ، انها الوسيلة التي يواجه بها العـزل قنابـل

.الغاز المسيلة للدموع لقلعة واألثنان ما زاال ال يعرفان سببا للرائحة التي أزكمت أنفيهمـا ، وهنـاك كانـت اقتربت سيارة األجرة من منطقة ا

.المفاجأة

Page 8: جمرة في يد الملك

٨

فعلى مرمى البصر، كان اآلآلف من الناس يحتشدون، شباب في ربيع العمر يتقدمون الحشد الهائل وفي نظراتهم فـورة وقار وهم يحملون هيـاكلهم الـضعيفة علـى الغضب وفيض الرفض وشيوخ طاعنون في السن وسموا المسيرة بزينة من

قلوبهم المتينة لينشدوا امال جديدا، وحياة ال تفنى وال تبيد وأطفال يتوسطون الحشد بوجـوه غـضة ونفـوس طريـة وهـم يلوحون وتشرئب أعناقهم وكأنهم قد المسوا السماء رغم صغر سنهم وقصر قاماتهم، ونساء كاسيات بالـسواد، قـد أخـذن

وسط الجموع الحاشدة وهن يصرخن بقوة وتتصدع السماء لصرخاتهن، االيدي ترتفع إلى األعلى والبيارق تـشمخ اماكنهن في كبرياء وهي تزين المسيرة بعناوين من آيات القران وشعارات الرفض والثـورة، والحنـاجر كانـت تـصعق االفـاق

. الهتافات تدوي وتدوي وتمأل الدنيا أسى الحرمان وضجيج الثورة . النصر لإلسالم … اهللا أكبر …اهللا أكبر

دين النبي واحد ما في تفرقة انظر إلى القرآن شوف الموعظة

تتســقط امريــكـا العـــمــالــة تســــقط امريــكــا الخـــيانـة

وعلـى مـسافة كانت هتافاتهم كالرعد القاصف الذي ينذر بعاصفة من األمطار، وسيول تمأل الوديان، وتزيـل األدران، قريبة جدا، كانت سيارات األمن والنجدة تصطف بغرور وكبرياء، ورجال الحرس الوطني يقفون علـى أطـراف الطريـق

!!! وقد أعطت غترهم الحمراء الفاقعة عالمة الخطر يارة فـي جانـب انحرف السائق بعيدا عن الشارع الذي فتح ذراعيه للمسيرة التي كانت تتقدم رويدا، رويدا ثم أوقف الس

.من الطريق وبلهجة آمرة قال لالستاذ عادل . ـ تفضل بالنزول

…ـ ها ! قال األستاذ عادل مندهشا، شارد الفكر في المسيرة التي أمامه وقبل أن يعي األستاذ ما قاله السائق صرخ في وجهه

: ـ انزل أرجوك، ال تضيع الوقت ، وأضاف بحنق . هيا ـ اسرع بالنزول …هنا غيرك ـ ما الذي جاء بي إلى

.نزل األستاذ عادل وقفل السائق يطوي الشارع بسرعة مجنونة دون أن يتقاضى أجرته أسند األستاذ عادل رأسه إلى أحد أعمدة الكهرباء وخيل إليه أنه يهتز مع الجلبة والضوضاء، كان يحاول أن يرقـب مـا

تتعالى وقنابل الغاز المسيل للدموع تتقاطر على المتظاهرين فال تفـرق مـنهم يدور حوله من أحداث ساخنة فكانت الهتافات إال القليل فكأنهم بنيان مرصوص ال تصدعه الكوارث والنكابات، األجساد تتالحم في قوة والقلـوب توطـد عراهـا وهـي

لـدخان الممتـزج بآهـات اطارات السيارات تحترق لتثيـر ا ! تمضي في مسيرة شائكة تقف فوهات البنادق لها بالمرصاد .الغضب والثورة ولوعة الظلم واالضطهاد

المسيرة تستمر دون توقف رغم محاوالت التفريق، رجال الحرس الوطني يقتربون من تلك األسود الهائجة، وفي أيـديهم لهتافـات تـزداد خراطيم الماء الحار، يرشون به المتظاهرين دون رحمة أو رادع أو انسانية، ورغم ذلك كانت الشعارات وا

.دويا وتصبح أكثر مساسا بالنظام السعودي الــــمـــــــوت آلل ســـــــعـــــــــود

Page 9: جمرة في يد الملك

٩

عـــــمــــــالء االمــــــريـــكـــــــانفي تلك اللحظات الحاسمة ، كانت أيدي رجال الحرس الوطني تضغط زناد البنادق والرشاشـات لتمطـر المتظـاهرين

لرصاص يتفرق هنا وهناك ، ويمزق األبدان العارية ويفتك بالعظام النحيلة، يخنق دفـق الحيـاة، الـضحايا بوابل غزير من ا .يتساقطون الواحد تلو األخر لتظلم األرض وتزمجر السماء ناحبة

، كانت المسيرة آنذاك قد شارفت مداخل القلعة، فتفرقت الحشود هنا وهناك، بـين متاهـات القلعـة وزقاقاتهـا الـضيقة ورجال الحرس الوطني ما زالوا يتعقبون الفلول ويعتقلون من يقع بين أيديهم وينهالون علـى آخـرين ضـربا بـالهراوات الكهربائية التي تشل حركة الجسم بصورة وقتية ، ولكن احدا من رجال الحرس الوطني لم يجرؤ على مالحقة المتظـاهرين

.مراتها الموت لجالزوة السلطة داخل زقاقات القلعة التي قد تحمل في ثنيات مكان األستاذ عادل يرقب ما يحدث وفي ذهنه تساؤالت واستفسارات ولكنه فجأة أحس بيد تقترب منه وقبضه ثقيلـة تـشد كتفه ووجد نفسه يسحب عنوة بيد أحد رجال الحرس الوطني، كان يجره كالدجاجة الذبيحة غير آبـه بـصرخات االسـتغاثة

:رة االستاذ عادل وهو ينادي التي تقرحت لها حنج … فلسطيني فيجيب الرجل …ـ ارجوك ـ اتركني ، أنا لست مواطنا، أنا فلسطيني

. السجن اولى بك …يهودي نجس .. تعني اسرائيلي …ها .. ـ فلسطيني لى رأسه حتـي فكانت الركالت والضربات تنهال على االستاذ عادل وتصطدم بعظامه، فتتصدع الما ثم تبدأ الضربات ع

أحس بدوار شديد، وقد وشحت عيناه بغمامة سوداء فأخذ صوته يتخافت رويدا ، رويدا، رويدا وتختنـق صـيحات اسـتغاثته .حتى كان يصرخ من أعماقه فال يغادر صوته حدود شفتيه

. وراح في إغماءة كانت كالرحمة االلهية في ذلك الموقف الرهيب حتى الرمق االخير

دث مفاجأة كبرى، أذهلت الجميع بدون استثناء، فالسلطة قد صعقت لما جـرى وفقـدت هـدوءها المـاكر، كان ما ح وراحت تشمر عن قوتها، وتطلق لوحشيتها العنان، فتواجه المتظاهرين بعنف شديد يصل إلـى حـد رمـيهم بالرصـاص،

الفتيل اشـتعل . إلى القطيف يداعبها بأشواقه وحنينه أعتقل األستاذ عادل وهو للتو قادم وتعتقل المئات دون مباالة حتى لقد على حين غرة فلم يتنبأ له أحد، األستاذ مالك الذي كان مدرسا في ثانوية القطيف ، ولـه دور فاعـل فـي توعيـة الـشباب

ـ ره واذكاء روح الرفض، كان الحدث أكبر من توقعاته، فالشعب قد إستأسد في وجه ظالميه، ولم يعد القهـر يخـرس زئي .المتواصل في عناد

الحسينية وسط القطيف باتت ملجأ للمجروحين والمصابين من أبناء الشعب، األنفاس الالهثة والزفرات المـرة واألنـات .المتوجعة تناغمت أصداؤها في فضاء الحسينية الرحب لتخلق سيمفونية الحزن واالضطهاد

المصفر الذابل، كان علي حينها قـد بـدأ ) علي ( نظر الى وجه وفي ركن قصي من الحسينية كان االستاذ مالك يطيل ال يسترد شيئا من وعيه بعد اغماءة طويلة فيهتز جفناه، ينقبضان وينبسطان، تلتقي نظراته الغائمة بعيني االسـتاذ مالـك الـذي

:ابتدره قائال في رفق .ـ الحمد هللا على سالمتك يا علي : قائال فرك علي عينيه وحملق في محدثه

! كيف ـ أين أنا ؟ … أستاذ مالك … أوه …من

Page 10: جمرة في يد الملك

١٠

…و ـ وكان حسن .. لقد انتشلناك وأنت تسبح في دمك …ـ في الحسينية يا علي .سكت األستاذ مالك وشابت نظراته غمامه حزن شديد ثم أردف

! ؟ .. أخبرني .. ـ ماذا حدث لك يا علي :رق في عفوية وقال أغمض علي عينيه ثم فتحهما بدموع تترق

هل كتبت لي الحياة مرة أخرى ؟ .. يا الهي …ـ آه إنه حقيقة ، مأساة يا لهولها ، كيـف حـدثت ال أدري يـا …من يصدق ؟ ال قد يكون ذلك حلما، كابوسا مرعبا ، ال ـ

.. ! استاذ مالك ، أكاد ال أتذكر شيئا مما جرى ال ، ينظر المصابين من حوله، وحركة مستمرة في اسعافهم ثـم قـال بـصوت سكت علي هنيهة وهو يتطلع يمينا وشما

: متقطع ليت عقلي يتجمد، وينقطع حبل ذاكرتي ، ال أقوى على تحمل ذلـك، انهـم بـشعون، لـم اكـن .. آه .. ـ نعم تذكرت

لم، لم أكن متدينا ولكنني أمقـت كره الظأتصور أن نواجه بهذه الوحشية، بهذه القساوة نعم لقد خرجت في التظاهرات ألني أ الظلم، اإلنسان يشعر ذلك بفطرته، ولم أكن قد وضعت شيئا مما حدث في حسابي ، لم يخطر لي بأن األمر مكلف إلى هـذه

.الدرجة التي تصعق تفكيري في الحياة، وتصطدم بخطواتي الماضية والقادمة ! أخبرني بما حدث ؟ .. ـ أوه ، لقد أخفتني يا علي

ـ حين تدخلت قوات الحرس الوطني والجنود، كنت قد أمسكت بيدي صديقي حسن وأنا أحاول الهرب معه إلى زقاقـات القلعة، كنت ال أستبعد منه الوقوف عاري الصدر أمام رصاصاتهم التي كانت تصب علينا من كل مكان بغضب ووحـشية،

أحالمه في أن يفني حياته في سبيل اهللا ، ويسيل دمـه فـي طريـق فقد حدثني كثيرا عن تلك األمنية التي كانت تراوده، عن الحق وحياة هذه األمة، ولكني كنت كمن يشفق عليه من ذلك، أمسكت يديه وأسرعت به بعيدا كي تبتلعنـا األزقـة، قبـل أن

.أصل هناك بأمتار قليلة جدا، أحسست ألما عنيفا في رجلي اليمنى، كانت رصاصة قد خدشت رجلي ترى ماذا لو نالت تلك الرصاصة نجح مطلبهـا فـي الكـرة القادمـة فاخترقـت .. تساءلت في نفسي وأنا أجتر األلم و

أوه انه انذار حقيقي بالخطر، علي أن أسرع كي أنقذ نفسي ، قررت أن استمر فارا من ذلـك الكـابوس الممطـر ! جسدي؟ .بوابل الرصاص

.. جثة هامدة يا للمصيبة .. رأيناه جثة أين كان يا علي حينها، لقد .. ـ وحسن .قالها األستاذ مالك وهو يتطلع إلى علي مترقبا

ـ نعم يا استاذ مالك، فقد الفيت نفسي وحيدا وأنا أحاول الهرب، أعتقدت في البدء ان حسنا قد فـر إلـى زقـاق آخـر، ى، هوى إلى األرض ولكني تلقفته وبال شـعور وجـدتني ولكني حين تلفت ورائي قليال وجدته يترنح، يحاول السير فال يقو

أسحبه األمتار القليلة لمداخل القلعة، وأخيرا لذنا بزاوية محصورة بين البيوت التي اتكأت على بعضها وكأنها تحتمـي مـن .مصير مخيف، كنت حينها أحسدها ألنها تحتمي ببعضها أما نحن فكالنا جريح ، منهار القوى

: سألته ! أين أصبت ؟.. ما بك .. سن ـ ح

. أجابني .ـ اعتقد أن رصاصة قد تغلغلت في صدري

Page 11: جمرة في يد الملك

١١

! ال أصدق ؟ ال بد أن نسرع كي نجد وسيلة النقاذك .. ـ ماذا تقول ! ، دع عنك يا علي ، أعتقد أن الفتق قد اتسع على الراتق اتدري يا علي ؟.. ـ ال

. الدماء تخرج منك بغزارة …أساعدك أرجوك يا حسن، اال تتوقف عن الكالم، دعني زجرته والغضب يوشح وجهي باحمرار الهب بعد أن أزددت شعورا بالتعب والوهن لتلك اإلصابة التي خدشت رجلـي

:وفتحت مجرى غزيرا للدم ولكن حسنا في احتضاره لم يلحظ ما أنا به فرفض قائال هد سعادتي األبدية أتعرف يا علي ، شعور جديد بـدأ يتغلغـل فـي دعني أفارق هنا، في هذا المكان الذي سيش .. ـ ال

.كياني ! كانت عيناه الذابلتان تتطلعان إلى السماء وهو يقول مستطردا

أنهن الحور العين يستقبلنني ، يرمين الورود على منحـري، وهـا هـي أحـضانهن قـد ! أال ترى؟ .. ـ انظر يا علي يا لعظيم شوقي، كنت أتصور شوقي اليهن ال يعـادل ، ولكنـي .. لوح لي ، تستجدلني ، آه فرشتها ألجلي، وأيديهن الفضية ت

! أجد ولعهن للقائي أعظم وكأن كلمتي تلك قد اسـتنفرت فلـول قـوة ! .. دع عنك الهذيان ، وهلم معي ، ساعدني ألساعدك .. ـ أرجوك يا حسن

: حسن المنهارة فزجرني قائال أنا ال أهذي ، وهل وجدتني كذلك طوال عهد صداقتنا؟ اني أرى الجنـة أمـامي، ابـصر .. علي سامحك اهللا يا ! هذيان؟

اسمعني يا علي ، عمـا قليـل . نهر الحياة األبدية يجري فوق لساني الظامئ، ونسم فواح يخدر أوصالي المتوجعة، يهدهدها …أفارق ولست نادما

:وهو يقول تسارعت أنفاسه الالهثة، أعمض عينيه، ثم فتحهما ـ اني أبلغك سالما عبقا إلى جميع أهلي أوصي والدتي ووالدي بأن ال يبكيا، وال يذرفا علي دمعا، وهل تذرف الـدموع لحظة الزفاف، وان ذرفت فهي دموع السعادة وبلوغ المنى، ليستقبلوا المهنئين بشهادتي، وسوف أكون بانتظارهم عند نهـر

.الخلود وأدعو لهم : ابت االبتسامة عن شفتيه وسدد لي نظرات جدية قائال بعدها غ

.] ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اهللا [.. ـ وأنت يا علي اترك عنك لهوك وعبثك، ال تعاند نفسك، إني أعرفك جيدا، لماذا تغالب الحق الذي يتغلغل في كيانك؟

ا المجتمع وسيكون دورك هاما، اتبع هذا الطريق يـا علـي، واسـلك سـبيل إن هاتفا يقول لي بأنك ستحمل رسالة في هذ الجهاد، كن ثائرا هللا للحق وللحرية، وابق ثائرا ، ال تهادن ال تساوم، فإن لم تفعل واستعصي عليك األمر، فـال تـنس الثـأر

لها لم أحملك شيئا ولكني اليوم أرمـي اليـك في حياتي ك.. بحق صداقتنا المتينة، وذكرياتنا الندية يا علي خذ بثأري .. لدمي . . ثقال ، شاقا وطويال ، ولكنك أهل له

…صمت حسن لحظة وهو يسترجع انفاسه الغائبة ثم استطرد ـ ان قلبي يصدقني دائما، وقد اصطفاك لتلجم غضبه، وغضب كل المظلومين والمقهورين مـن إخواننـا، لـن تخلـد

.. … حتى تشق اولى خطواتك في الجهاد، وتستقيم في الدرب حتى يحقق اهللا نصره للراحة، ولن يهنأ لك عيش .وسأكون في انتظارك هناك . …نعم يا علي

:قلت له وأنا أكاد ال أصدق

Page 12: جمرة في يد الملك

١٢

… ال أستطيع احتمال فراقك ، خذ بيدي اني بحاجة اليك …ال تودعني .. ـ أرجوك يا حسن : وأجابني بثقة

.أبدا اذا ما حملت راية الحق، وبذلت فيها مهجتك، وإال فال وصال بيننا ـ لن نفترق يا صاحبي ـ بالطبع يا حسن، أنا ابن األنتفاضة ونبتة جذورها، أعاهدك ان أحتضن األنتفاضة بين جناحي قلبـي، سـوف أصـونها،

.. لن أهجع حتي تبلغ مراميها ا ، يا لسعادتي في هذه اللحظة، ال أعتقد أن فـي هـذا الكـون ـ وأخيرا يا صديقي، تثلج قلبي بكلماتك التي طالما تمنيته

.الحمد هللا .. من هو أسعد حظا، وال أهنأ باال مني، الحمد هللا أن اهتديت إلى الطريق يا علي : واكمل علي يقص الموقف على صاحبه في تأثر واضح

ت جرحي وآالمي، وغفلت دماء حـسن التـي كنت أبحر في كلماته كالغارق الذي يبحث عن سفن النجاة، وتناسيت لحظا نزفت عن آخرها، أنفاسه الضعيفة التي كانت تهبني الحياة أخذت تتقطع، وتتخافت رويدا، رويدا حتى زفـر زفـرة أخيـرة

.واستسلم ألحضان حانية باسم الثغر ناي بحمرة الـدم القـاني، احتضنته، مسحت وجهي بدمه العبيق، اعتقد اني كنت أعاهده، ال أدري، ولكني ، اصطبغت عي

لم أعد أرى شيئا أمامي سوى الدماء تسيل انهارا في بلد اإلسالم اآلمن ومهبط القرآن والـوحي، شـعرت بإغفـاءة قويـة، ! ؟.. أسلمت عيني لها، وها أنذا أجد نفسي هنا، كيف ال أدري

: توقف علي ذاهال فأجابه مالك قائال ! أنت تسبح في دمكـ نعم يا علي ، لقد انتشلناك و

.ـ ولكن لماذا هنا في الحسينية وليس في المستشفى لقد حاصرت قوات الجنود المستشفى ومنعت دخول الجرحى من المواطنين اال بإذن، وعليه فقـد نقـل معظـم .. ـ ها

.المصابين إلى الحسينيات ! ـ ولكن كيف يتم العالج ؟

. وأجابوا الدعوة بال تردد ـ استدعينا األطباء والصيادلة والمرافقين، ! ـ واألدوية يا استاذ مالك ومستلزمات الجراحة؟

.ـ الصيدليات أصبحت مشاعا في خدمة الناس ، ان ذلك فخر لنا ! أقصد الشهيد حسن، وهل نقل جثمانه ؟…ولكن أخبرني يا استاذ ما هي أخبار حسن . …ـ بالتأكيد يا استاذ مالك : ه وانفرج جفناه عن دموع منهمرة وهو يقولأغمض االستاذ مالك عيني

ـ رحمة اهللا عليه، لقد تمنى الشهادة ونالها ما أسعده في جنان اهللا الخالدات، لقد تنبأ بمصيره السعيد الـذي سـعى اليـه بشوق ولهفة، لقد حكى لي حلما تعاقب عليه ثالث جمعات، كان يرى نفسه بلباس أبيض ناصع، تحمله اجنحة شـفافة يـرى

.من خاللها الدنيا بأسرها وتضلله ضفائر شعر ذهبي مسترسل كأشعة شمس األصيل . …لقد كان يعلم بأنه ال يحلم، بل هي رؤيا من رؤى الصدق المبين

رغم اني سمعت منه ذلك الحلم مرارا وصرت طريحا وسط دمـاء قانيـة، أحسـست بـالحنق يمـأل …أتعرف يا علي ن بمعان عظيمة لم أعرفها جيدا حتى تلك اللحظة الرهيبة، عرفت فيهمـا معنـى العطـاء، الحـب كياني، كانت عيناه تتكلما

االلهي الذي يمتد شعاعه في قلب المؤمن فيحوله إلى عين تنضح بالحب لعباد اهللا، لخيرهم ولصالحهم، وتفني ذاتهـا فـي

Page 13: جمرة في يد الملك

١٣

ويفعلون المظالم والجرائم من أجلها ، فسالم عليـه يـوم خدمة الناس ، تترك الحياة الدنيا غير آبهة بينما يتشبث اآلخرون بها .ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا

: سكت االستاذ مالك وأخذ يمسح دموعه ثم قالـ لقد توليت أنا نقلك ألني بحق لم أجد في نفسي القدرة على حمل جثمانه الطاهر، كنت واثقا أني سأنهار اذا مـا أطلـت

صديقا عزيزا علي، وفراقه قد شق في نفسي جرحا ال تستطيع األيام أن تداويه، سـوف يـشيع جثمانـه النظر اليه، لقد كان . ال بد من ذلك …وسط جموع هادرة

: قالها االستاذ مالك وهو يضغط بأسنانه على شفته السفلى، فأجاب علي .. ـ بالطبع، هذا أمر اكيد، سوف يكون موته عاصفة الفناء على ظلمهم

: ما زال يشد أوصاله إلى األرض .. والخدر .. نظر علي في ساعته .ـ آن لي أن أعود إلى المنزل

ليس قبل أن تهدأ االمور يا علي ، قوات الحرس والجنود ما زالت تحاصر الكثير من االماكن ، ولكن إطمـئن، .. ـ ال .. سوف لن تبقى هنا طويال

: قالها علي ثم استطرد …ـ نعم .ل ستذهب غدا إلى المدرسة يا استاذ مالك ـ ه

. اعتقد أن ذلك يعتمد على اشياء كثيرة …ال أدري .. ـ ها .سكت مالك هنيهة ثم قال في حيرة

ـ ال أدري كيف سيكون اليوم المدرسي بعد هذه األحداث، الطالب لن تهدأ ثائرتهم بسهولة، أتعرف يا علي ، كثيرا مـا ود وهو يرى هذه التظاهرات والفوضى، انه يعارض بشدة مثل هذه األمـور ويعتبرهـا خروجـا أتصور موقف االستاذ حم

.عن حقيقة اإلسالم، لطالما تناقشت معه فلم أجد في قلبه منفذا للحق . …ـ من لم يتغير اليوم فسوف يتغير غدا

:قالها علي بصوت هادئ يحمل في نبراته صدقا وثقة ثم قال في حياء !ي بكأس من شاي يا استاذ مالك ؟ـ هل ل

. سوف يكون لديك حاال …ـ بالتأكيد أحضر االستاذ مالك آنية الشاي وجلس قبالة علي الذي شرب كأسه بشره ليقتل الخدر في جسده ثم قـال وهـو يتحـسس

: رجله المصابة نـف، وكلمـات الـشهيد حـسن ـ آه ، ان رجلي ما زالت تؤلمني ، وشعور بالدوار لم يزل يصدع رأسي ويطوح به بع

تدوي في أذني ، تمسك أنفاسي وتمزق أوداجي، لقد كنت أعيش حياة الهية بين الالمباالة واألنانية، لم يكن يهمني فـي هـذه الحياة سوى شيئين ، اكمال دراستي الثانوية التي ملكت تفكيري وبنيت فوقها سلم طموحاتي األنانية، دراسـة فـي امريكـا،

أو تسلم ألعمال والدي وتجارته، لقد غرتني الدنيا برفاهها، فأصبحت اعيش بعيدا عن هموم النـاس الـذين ووظيفة مغرية، يتلظون بالظلم والحرمان مكتفيا بهمي األوحد، وذاتيتي المفرطة، أما الشيء اآلخر الذي ملك نصف تفكيري فهي خطيبتـي

بيتـا فخمـا ’ ه امتالء أشبه ببالون، رسمنا معـا احالمـا ورديـة التي اقترنت بها قبل سنة، فمألت فراغا في روحي ، ولكن نتباهى به، ونؤثثه بأحدث األثاث األمريكي ، وسيارة فخمة، مخملية، نادرة ومن أحدث طراز ولم يكن وراء تلـك االحـالم

Page 14: جمرة في يد الملك

١٤

ها كان يربض واقعنـا الـذي المتعة الدنيوية الزائلة، وأمام) المتعة ( اال سراب من الركض الحثيث وراء أشباح وهمية من تلبد بالضياع المتسربل بالترف المادي، بالدالل والالمباالة، لم أكن قد عرفت كلمة ال في حياتي، والـدي بأموالـه الطائلـة

يغـدق ،وحنانه المفرط كاد أن يجعلني دمية عرائسية تحركني خيوط واهية، لم يكن يهمه اال أن يراني في أحـسن مظهـر

األغـاني تلـك تحفـظ فتئت ما التي خطيبتي ذلك في تشجعني ، الغناء أشرطة آخر لشراء حساب بال وأصرف را،وفي ماال علي

. والثواب األجر تستوجب القرآن من آيات وكأنها نهار ليل وترددها ! علي فأردف شفتيه على معلقة مالك نظرات كانت بينما العينين غائر القلب، ساهد وهو الكالم عن علي انقطع . شيء في البهائم حياة عن تترفع تكن لم حياتي ـ

:بالغ حنان في مالك االستاذ وسأله !؟ علي يا حياتك تغير أن تحاول الم ـ فـي جـذورها تمـد كثيرة، أبعاد لصداقتنا كانت حياتي، لتغيير كثيرا دعاني قد حسن الشهيد ولكن مالك، استاذ يا أدري ال ـ

ينقطـع، ولـم امتد صداقتنا حبل ولكن لنفسي، شققته الذي غير آخر طريقا لنفسه شق قد أنه أنكر ال اة،الحي ونداوة الطفولة براءة

الرحـب صـدره فـي فأجد مشتاقا اليه أعود أن البث ال ولكني ، اهتماماتي وثانوية سلوكي الئما يعنفني حين أجفوه أحيانا كنت

مـن يمتلـك مـا على أغبطه كنت ما وقت في مفتوح، ككتاب أفكاري قرأي به أشعر كنت أحيانا راحتي، ومكمن اسراري مأمن

تترفـع وقـد تختلف أخرى بعقلية يعيش أنه وأشعر الجادة حياته من استهزئ كنت أخرى أوقات وفي الصغائر، عن وسمو إرادة

. غيره تفكير عن عنـه، عزفـت ولكنـي الدينية لنشاطاتا بعض في للمشاركة دعاني ثم طويال وتحدث منزلنا، في حسن زارني خلت، ولسنة

بـضياع أشعر كنت والمرح، اللهو من ساعة كل في يؤنبني ضميري هزا، مشاعري يهز عنه عزوفي وبقي مخيف، شبح وكأنه

فـال طريـق فـي عـابرا أراه كنت وقلما ندرت قد كانت األخيرة الفترة في زياراته ولكن منه أقترب أن بعدها حاولت مستتر،

والـشعب، األمـة هم اكبر، بهم ودنياه نفسه عن وتشاغل بل األيام تلك في عني تشاغل قد أنه عرفت القليل، اال وقته من يعطيني

. الهزيمة تعرف ال التي ونفوسهم الفتية سواعدهم تبنيه ألمتنا أفضل واقع إلى جميعا طمحوا الذين الملتحين رفاقه مع .. آه … ملتاعـا اليـه أعود ولكن ويجفوني أجفوه بصداقته، تشبثي مدى يعلم كان ، لرؤيته أوفق وال منزله في اليه الجأ كنت

عظـيم بـدور لـي ويتنبـأ الحـق، بنداء يدعوني زال ما وهو حياته أنفاس تخنق الموت زفرات محتضر، وهو يعنفني هو وها

. شاقة ومسؤولية : يقول وهو لهجته وارتعشت علي عينا دمعت

مبتعـدا رجلـي فألوي الحق جادة أبصر وأنا دور أي الفانية، وأحالمي أنانياتي في أغرق وأنا .مالك اذاست يا دور أي .. آه ـ

؟ عنها !؟ كذلك اليس .. اليها رجليك ترجع كي يكفي وهذا الحق، جادة تعرف علي يا ولكنك ـ . أسى نبراته تضج عال بصوت يقول وهو بقوة، رأسه علي هز … وحيدا تركني وقد كيف !؟ مالك استاذ يا كيف ـ حياتـه إلـى هجرنـي لماذا الظالم، تبدد التي النور ومضة يكن اولم أشد، ظلماتها ستكون حياتي؟ من نجمه يأفل كيف … آه

فـي يكـون قد ، أنا وأبقى هو يذهب أن الغريب من أليس أوه … الوجدان ووخزات الضمير تأنيب بسياط أتلوى تركني األبدية،

. الظالل في امعان فهو بقائي أما الشعب، يديف ما بقائه

Page 15: جمرة في يد الملك

١٥

!؟ عظيم أمر وهذا علي يا عهدا اعطيته ولكنك ـ لـشيء تتـوق نفسي إن نعم دعاني، كما صادقا أكون أن أجرب سوف العبيق، دمه بقطرات عهدي فتحت لقد استاذ، يا نعم ـ

. المستكبرين يحب ال واهللا أكابر، كنت ولكني عليه، كانت مما اسمى : متمتما وقال خديه على سخية دموعه وجرت للسماء عينيه علي رفع نحـو رائـدا لـي وستبقى توهجك، اطفاء على والسنون األيام تجرؤ لن ، أنت كما متأللئا وجودا حياتي في حسن يا ستكون ـ

.سيتغير شيء كل تتغير، أن بد ال حياتي حقوقها، المهضومة األمة لهذه العطاء : بالصدق تنضح بكلمات مالك إلى وتوجه

كـل تتخطـون الظلـم، ربقـة من الشعب هذا وتحرير الجهاد نحو مقاصدكم سمو أصدق اكن لم شيء، كل عرفت اآلن ـ

الدائبـة وجهـودكم الزكيـة، بدمائكم األمة لهذه موردا مستقبال ترسمون والشهوات، الشخصية والمطامع والعقبات العصبيات

. وسدود حواجز وال ، ظالم وال غبار، ال النهار، رابعة في كالشمس واضحة أمامي الصورة أجد اليوم ولكني باالخالص، : مالك االستاذ سائال رأسه فرفع عاد ثم اليسرى ركبته على جثا !؟ جديد من ليبدأ ماضيه ينسى أن االنسان يستطيع هل … ولكن ـ وكلنـا النـصوح، التوبـة بعد اهللا إلى حياتهم تتحول الذين الظلمة بعض ماضي من أشد ماضيك وهل علي، يا تقول ماذا ـ

وجـه فـي وتـصلب استعـصى ما نفوسهم من األيام تغير سوف علي يا واآلخرون بفضله، اهللا يهديه ثم الالمباالة يعيش كان

فـي فـسية الن االغـالل وسـتحطم بل فحسب، الملوك، عرش زلزلة في طريقها تأخذ لن سوف الميمونة االنتفاضة هذه الحق،

اغاللهـم، فيهـا يترصدون فريدة لحظات اآلن يعيشون علي يا الكثيرون هناك والنفوس، بالقلوب العالقة االدران وتغسل البدء،

.. خادعة دينية أطر ذات بتبريرات الجهاد عن التقاعس وهناك الذات، وحب والوهن، والجبن الخوف هناك فيفكونها فـي الظلـم يجـد ال كي الجذور من المجتمع تغيير نحو سيره ليواصل الجارف، ضةاألنتفا سيل يغسلها سوف شوائب كلها

. منبتا أرضنا : تمتم ثم .. اللحظة تلك في اشراقا توهجتا اللتين علي عيني في نظراته يركز وهو مالك االستاذ سكت

] بأنفسهم ما يغيروا حتى بقوم ما يغير ال اهللا ان [ في السجن

!ماذا حدث ؟ !تعني هذه الحشود وهذه الشعارات ؟ماذا

.فهل صدرت الثورة .. انها أشبه بشعارات الثورة االسالمية في ايران ..أسئلة تناوشت عقل االستاذ عادل ، واحتدمت في رأسه وهو بعد لم يسترجع كامل قوته

جوه الذابلة كأنه يبحـث فيهـا تطلع االستاذ عادل الى عشرات األجساد المرمية في غرفة السجن الضيقة، وحملق في الو :وقال في نفسه .. عن جواب

.. لقد نادى اإلمام الخميني بتصدير الثورة، والشعب هنا أكثر من مضطهد، انه يئن ويتوجع تحت وطأة الظلـم والتفرقـة ! …ولكني لم أسمع عن أي تحرك إسالمي هنا

ولكنها أفلت بعـد أن أصـطدمت بحمـالت االعتقـال قبل سنوات تألقت بعض التحركات غير اإلسالمية في المنطقة ، .والتشريد

Page 16: جمرة في يد الملك

١٦

أم أن ما حدث له عالقة بما بجري في مكة المكرمة، فهناك سنة سلفيون يعلنون صرخة مدوية فـي فـضاء الـصمت، !؟؟. وهنا شيعة جعفريون تقرع هتافاتهم ناقوس الخطر

وفجرتها تكومات ممتزجة من الظلم واالمتهان بالكرامـة ام كان ذلك مجرد صدفة ساقتها األقدار في هذا الوقت بالذات، !؟

ومن يدري لعله الطوفان حل في كل مكان ليزعزع عروش الملوك كمـا زلـزل …معقول .. كل شيء معقول .. أوه أو تكون مجرد تظاهر التهب فيها الحماس، سرعان ما تخمد نيرانهـا إلـى أجـل …من قبل عرش الطاووس في إيران، أو

معلوم، فشعاراتهم رغم قوتها وعنفها ال تصب في مجرى واحد، وكأن الهتافات قد انطلقت غير مدروسة وال ممنهجـة غير !! من أفواه غاضبة ثائرة، تضم الكون في موج حماسها، وتبغي تغيير العالم كله بمسيرة صاخبة

حرمه متعة مراقبة األحداث والبحث فـي وتصلبت أوداج االستاذ عادل وهو يتذكر ذلك البدوي الذي ساقه إلى السجن و أسبابها ونتائجها، وتمنى في تلك اللحظة لو كان لديه جهاز مذياع ليعرف منه ما يجري ولكنه عاد فابتسم ساخرا وقـال فـي

:نفسه ميـر، يا لغباوتي، أتذاع مثل هذه األخبار، انها تركن في جانب من اإلرشيف إلنها تزعج جاللة الملك ، وتقلق سـمو األ

وتوقف سيل الجيوب لألقالم المأجورة هنا وهناك، بالضبط كما حدث للشعب االيراني الذي جاهد سنوات واالعـالم يتكـتم على أمره، ويحرص على أن ال يعرف العالم عنه اال ما تخطه األقالم المأجورة، إلى أن أثبت الشعب صالبته ، وأن الـشاه

…فيه في دياجير أراشيفها ، وسقط الشاه إلى زوال، فأظهرت االذاعات ما كانت تخ ! فلم االنتظار ألسمع األحداث من المذياع، لقد رأتها عيناي وعايشتها لحظات اكيدة، وأنا مازلت في معمعتها

علي أن ال أسكت ، فألطالب بإطالق سراحي، ألتابع األحداث من كثب وأكون شاهدا في محكمة التاريخ الكبـرى، قـد .حر في مستقبل األيام أكون صوتها ال

.إنتبه االستاذ عادل من شروده لحظة، نظر إلى ساعته كانت تشير إلى الثامنة مساء تحدث صوتا مزعجا هز األجساد المتهالكة، كان كل جسد قد تهـاوى فـي ركـن مـن ’ خشخشة باب السجن الحديدي

في الوجوه واألبـدان، ضـرب برجلـه بـاب الـسجن الغرفة الضيقة كالجثة الهامدة، دلف الشرطي داخل السجن، تفرس .الحديدي بقوة ليزعج ما تبقى من هدوء وليتنامى الصوت حتى يبلغ جدران القلوب فيهز أركانها

كان كل سجين قد بدأ يتململ في مكانه، وانتصف قاعدا، انظارهم كادت تلتهم الشرطي وهي تنتظر ما سيبدر منـه مـن .. ليل المثقل بلسعات األلم وزفرات األوجاعتصرفات هي قدرهم في ذلك ال

:وتفوه الشرطي قائال بلهجة تقطر حقدا .ـ هيا ، اعطوني أسماءكم يا كفرة

وبدأ يسجل األسماء بيديه المرتجفتين ويغوص بنظراته الكريهة إلى أعماق باصرتي كل سجين ، وكأنه يتمنى لـو اعتقـل .نظرة الغضب ولمحة االنتقام والثورة

:قال االستاذ عادل حين جاء دوره و :ـ اسمي عادل عبد الرحمن، فلسطيني ، مدرس قادم للتو من الرياض فقاطعه الشرطي بحدة قائال

.ـ اسكت ، لم أطلب منك غير إسمك :فأجاب االستاذ في حنق بالغ

Page 17: جمرة في يد الملك

١٧

ر الـشرطي جوابـا، خـرج، ودون أن يحـو …ـ ولكني أطالب بمقابلة الضابط المسؤول، ليس من العدل أن ابقى هنا كانت نظرات المعتقلين ترمقه من كل جانب، وتطـوي . وأقفل الباب وراءه تاركا االستاذ عادل في حيرة تقتلع تالبيب فكره

:في أعماقها مالمحه الغريبة عنهم، وفجأة تناهى إليه صوت يقول !ـ ما الذي أتى بك إلى هنا ؟

:افتر ثغر االستاذ عن بسمة وهو يقول .ـ كنت هناك حين اشتبكت قوات الحرس الوطني بالمتظاهرين، كنت قادما للتو من الرياض

:وضحك االستاذ عادل مضيفا فما الـذي حـدث .. لقد فوجئت بالتظاهرات التي رأيت … ولكن …ـ امسكني أحدهم وأنا لم استنشق بعد هواء القطيف

!؟ :دمتا من شدة الضرب فأجاب دب الحماس في شاب أسمر كانت عيناه قد تك

. أن نحيي ذكراه رفض الظلم والوان االستعباد) ع(هكذا علمنا الحسين.. ـ انها شعائر عاشوراء .قاطعه آخر مقطبا عن عينين يتطاير منهما لظى اإلنتقام

..ـ ان ظلم السلطات السعودية قد زاد عن ثمانين عاما سلبونا كل شيء ، حتى الكرامة : سمر يقول وعاد األ

ـ انهم يعيثون في األرض فسادا، يهلكون الحرث والنسل، ويقدمون ثرواتنا نهبا ليد امريكا التي تحـارب إخواننـا فـي .ايران الثورة اإلسالمية وتصد ثورتهم ومسيرتهم

..فاكمل آخر بصوت متهجد تقطعه أنات كتفه الموجوع نطلق منها نحو محاربة ايران وفك حصار السفارة األمريكية نحن نـرفض ـ بل انهم يقدمون قاعدة الظهران ألمريكا، لت

:وصرخ بقوة بعد أن استجمع فلول قوته وكأنه يعبر عن رفض ماض للضعف واالستسالم : خدمة امريكا، عدوة الشعوب ) .الموت المريكا عدوة الشعوب، النصر لإلسالم (

ت لتخلق دويا زلزل سكون الـسجن إلـى عاصـفة عارمـة رمـت فأجابه السجناء بصرخات مماثلة، تماوجت وتالحم باالستاذ عادل إلى أرض اخرى، في فلسطين حيث يقبع إخوته الفلسطينيون في سجون مظلمـة، رهيبـة، تلـذعهم الـسياط ، القاسية، وتكوي جلودهم العارية بنيران حقدها اآلسن، ليتحول السجن إلى معركة انتحارية، يخوضها السجين ضـد جـالده

.فيقدم السجناء أرواحهم على اكفهم وهم يرفضون ان يقبروا ساكتين وعاد االستاذ عادل إلى واقعه على صوت الشرطي الخشن الذي بدا كخوار الثور، وهو ينادي بإسـمه وسـط الـضجيج

.والهتافات جساد المسجاه، وكـذلك المكاتـب هب االستاذ واقفا، إخذه الشرطي من يده، كانت الدهاليز الملتوية تزدحم بالمعتقلين واال

كانت قد أخليت لتكون محال لالعتقال ومقابر للحريات، فازدحمت بعشرات المعتقلين، ومزيج من رجال الـشرطة والجنـود اجتمعوا فـي هـذا . والحرس الوطني قد مأل الممرات ، وشحن األجواء بخطوات وجلة، مستنفرة، وهمهمات خائفة مرعوبة

ات التي كانت بين كل فئة منهم والتي تعتبر انعكاسا طبيعيا لخالفات فوقية بين قياجة كل فئـة، فـرئيس المكان، رغم الخالف قوات الحرس الوطني األمير عبد اهللا بن عبد العزيز، كان على خالف واضح مع إخوته الـسديريين الـذين ملكـوا سـلطة

. كانت في يد األمير نايف بن عبد العزيز الجيش تحت إمرة سلطان بن عبد العزيز، ووزارة الداخلية التي

Page 18: جمرة في يد الملك

١٨

في ذلك الوقت، رتقت نزاعاتهم، وردمت مهاوي ضغائنهم، لتصد خطرا كاد أن يكون محدقا بالرقاب، فانتشرت قـواتهم .بمختلف مسمياتها في الحرم المكي وفي المنطقة الشرقية

..ل يترصده كان االستاذ عادل يقطع الدهاليز ورعشة شاملة تهز جسده من مجهووهل سيبقى رهين هذه الجدران التي تطبق آمالـه، وتميـت كيانـه؟ وإلـى متـى ! فما الذي ستحمله اللحظات القادمة؟

! سيبقى؟ ؟ ؟ .. واهللا ال ينسى عبدا أنى كان …أم ان اهللا سيبعث اليه رحمة ورأفة لتنتشله

التي بدت عالما شاذا في دنيـا الـسجن المظلمـة ، الـستائر حين دخل غرفة التحقيق، كان يتالقط النظر إلى تلك الغرفة المخملية كانت تتدلى في ترف، والضوء ينعكس عليها ليزيدها فخامة، ومكتب خشبي فاخر يتوسط تلك الغرفـة، والـضابط

اذ عـادل الجالس خلفه قد استدار بكرسيه نحو النافذة وكأنه يتجاهل من حوله، ولكنه استدار فجـأة، وأخـذ يرمـق االسـت بنظرات طويلة تحمل معها ابتسامات باهتة أخذت تتسع شيئا فشيئا فتضيء ذلك الوجـه المتغـضن، وبنبـرة فيهـا حـرارة

:وشوق قال لألستاذ ..ـ اهال وسهال استاذ عادل

: وأردف الرجل …سكت برهة وجيزة وأسنانه ما زالت تلتمع ببسمة جهل االستاذ عادل مغزاها ! ؟ـ هل تتذكرني

وقـال االسـتاذ فـي …ولكن أيـن وكيـف .. حاول االستاذ عادل التدقيق في وجه الضابط ، خيل اليه لحظة أنه يعرفه :…تردد

.ولكن شكلك ليس غريبا علي .. ـ كال .…إبتسم الضابط ، ثم اشار بحركة بسيطة إلى الشرطي الواقف أمامه، فخرج الشرطي من لدنهما ليصبحا منفردين

اكن أتصور أنك ستنساني بهذه السهولة، هل تذكر مدرسة زين العابدين المسائية، بفـضل رعايتـك لـى ثـابرت ـ لم ..ألصل هذا المركز

: وبطريقة مصطنعة حرك الالفتة الموضوعة على مكتبه فقرأها االستاذ، زالت الحيرة عن عينيه وهو يقول وراح االسـتاذ عـادل يتـذكر ذلـك .. انشرحت اسارير الـضابط …نعم نذكرك جيدا ) المالزم فليحان الغامدي ( ـ

لقد تغير كثيـرا ، واكتنـز وجهـه …ـ أوه : الجندي، الطويل، النحيف، ذا البشرة السوداء والشعر النافش، وقال في نفسه أفكـاره وطنيـة وجسمه بصورة جعلتني ال اتعرف عليه، لقد كان شابا طموحا، لديه آمال ممتدة خارج حدود ذاته، كانـت

. وقطع عليه المالزم شروده قائال …وميوله نحو مقارعة الظلم الملكي القائم، و ..ـ تفضل بالجلوس يا استاذ عادل

!رمى االستاذ جسده المنهمك على إحدى االرائك فابتدره المالزم قائال في استغراب ! ؟ .. ـ ما الذي جاء بك إلى هنا فوجئـت .. لقد فوجئت بما رايـت .. قد اقتادني أحدهم بقسوة بينما كنت في أول الدقائق لي هنا ـ لم آت راغبا بالطبع، ل

…و ! كيف حدث ذلك ؟…كثيرا :وقال المالزم قاطعا على االستاذ كالمه وتساؤالته

Page 19: جمرة في يد الملك

١٩

علـى طبيعتـك ـ ال تتعب نفسك بقضايا ال تهمك، يجدر بك أن تفكر في إخراج نفسك من هذا المأزق، أم أنك ما زلت .. ! التواقة لمعرفة كل شيء، أنا أعرفك جيدا ولكني انصحك اآلن أن تترك عنك ذلك

وجلجل صوته مقهقها بتصنع وكأن الضحك يأبى أن يكون طبيعيا في هيكل يبدو كل شيء فيه مصطنعا ، وقـال االسـتاذ . ال إلى سجان يملك حياته وحريته عادل في نبرة واثقة وكأنه قد استرد هيبته كأستاذ يتكلم إلى تلميذه

ـ كيف ال أفكر في قضية كنت سألقى حتفي فيها، واآلن اسجن بسببها دون ذنب، ثم ما معنى إطالق النار وسط حـشود ! مسالمة، لقد شاهدت بعيني بعض الضحايا يسقطون

:تالشت البسمة عن شفتي المالزم وعاد وجهه معتما كالحا وأجاب ان اطالق النار بأمر نافذ من األمير أحمد نائب وزير الداخليـة، ونحـن هنـا نتلقـى األوامـر، وننفـذ، ـ نعم ، لقد ك

.والمخالفة ليس لها مكان أجاب االستاذ متهكما متظاهرا بشيء من المزاح

! ـ أفهم من ذلك أن أفكارك الوطنية قد تناثرت مع الرياح المنعشة أيها المالزم !؟.. كر تلك االيام ـ أوه ، ما زلت تتذ

:وأضاف باسما في خبث ـ انها مثل أيام الصبا، الشاب قبل الزواج يعشق كل فتاة عابرة، وما أن يتزوج حتى ينسى عشقه ويبقـى رهـين الحيـاة

.. الزوجية ومسؤولياتها، وأنا رهين مركزي . …اعتقد أنك تفهمني جيدا يا استاذ عادل

: نظر إلى ساعته وأضاف …وقت ال يسمح بإطالة الحديث، عد لتنام وسوف نذهب غدا للدمام ألخذ إذن باالفراج عنك ـ ال

: وسأل االستاذ منزعجا ! ـ هل سأبات هنا ؟

ـ األوامر والرسميات يا استاذ عادل ال يمكن تجاوزها قالها، فانسحب االستاذ من لدنه ليعود به الشرطي إلـى ردهـات .السجن مرة أخرى

.بح الشرطي أمام المعتقلين، فترنم أحدهم بشعارات ملؤها الحماس والتحدي وهو يلوح بيديه نحو االعلى تراءى ش وعمالئهم الموت ألعداء االسالم

.النصر لالسالم اهللا أكبر ، اهللا اكبر، ين ، فهرعـوا اليـه إتقدت عينا الشرطي بالشرر دفع رجله لينهال على الشاب ضربا مما أثار حفيظة المعتقلـين اآلخـر

كالصقور لينقضوا عليه متناسين قوته وعزلتهم، لوال أن الشرطي قد الذ فارا مذعورا، وأغلـق البـاب وراءه ، أصـوات .أنفاسه الملتهبة ما زالت تنبعث من الممر الطويل

ي علـى شـيء وقـال انتابت المعتقلين موجة من الضحك الساخر لمنظر رجل الشرطة المسلح الذي فر مذعورا ال يلو :أحدهم مزهوا بانتصارهم

ـ جبناء ال يستطيعون أن يواجهوا ضعفنا، نحن سجناء ومقيدون ولكن نفوسنا المشربة بالثورة أقوى من كل قيـد وأقـدر .على مقاومة األغالل

Page 20: جمرة في يد الملك

٢٠

:سكت قليال ثم أخذ يرتل اآلية القرآنية .]ت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون مثل الذين اتخذوا من دون اهللا أولياء كمثل العنكبو[

:واكمل آخر بعد أن أفرع مخزون صدره من الضحكـ سوف ينتصر االسالم والمؤمنون رغم الظالم الحالك، فالشمس تشرق وان طال الليل وال يقف امام شروقها أحـد إال

مه قطرات الماء الساكنة، تتدفق بعد سبات وجمـود لتجـرف القـاذورات كوته بنيرانها الالهبة وانتفاضتنا كسيل جارف قوا .المعترضة وتأخذ طريقها لتروي األراضي العطشى

كان كالمهم قد قابل في نفس االستاذ عادل قناعة تامة بأن الحق الذي يقف وراءه مطالب ال بـد وأن يـسترجع فانـدفع : يقول

.وللمسلمين ـ نعم، سوف تعود فلسطين يوما ما للعرب :فقال أحدهم بعد أن استجمع قواه واقفا

.ـ الشعوب يجب أن تتحرر لتقف في وجه السرطان االسرائيلي ) .الموت المريكا، الموت السرائيل، الموت آلل سعود (

لمقيـد، كان الجميع في حالة من الغليان، وهتافاتهم قد اهتزت لها جدران السجن التي كانت تردد شـعاراتهم بـصمتها ا وكان شاب حنطي اللون، ذو نظارة بيضاء رسمت على مالمحه ذكاء وفطنة، قد شارك الجدران صـمتها وأخـذ يـصوب

.لالستاذ عادل نظرات فيها الكثير من الريبة والحذر اع اقترب ذلك الشاب من زمالئه وبنظرات واجفة كان الهمس قد ضم اليه الجميع إال االستاذ عادل الذي لم يـستطع سـم

.شيء مما يدور بينهم ولكنه فطن إلى أن ذلك الشاب كان يحذر االخرين منهاألبصار ما زالت معلقة على االستاذ عادل الذي جفل لمنظره الحرج وشاب إحـساسه حنـق ومـرارة ، ولكنـه عـاد

.فاستهان باألمر واعتبره موقفا عفويا لوضعه الغريب بينهم ن غطيط المعتقلين، وانفاسهم الساخنة، يبعث في قلب االستاذ عادل رجفـة عارمـة وخالل ساعات قصيرة من الزمن، كا

.ويرابط على جفنيه يسلبهما القدرة على النوم الجالد جريح

في الصباح الباكر ، وحيث كانت السماء ملبدة بغيوم داكنة من األسى والغضب وهي تمطر األرض برذاذ متناثر مثقـل لتاعة ألحداث األمس الدامية التي صبغت الدنيا بلون جديد، مزج األمل والرجاء، والحـزن والفـرح بهموم دافقة وأشجان م

بتحقيق شيء ما وحيث كان الضباب الكثيف يرخي سدوله في كل مكان ويصارع اشعة الشمس الدائبة وهياكـل الـسيارات الم الكون لتجثو السماء على األرض في غـضب واألبنية وأعمدة النور بدت كاألشباح العائمة في سراب عميق، وتوارت مع

صامت رهيب يكاد يلفظ كل شيء سوى أنفاس الهثة بالرفض المستميت تقبع في زنزانات ضـيفة كـالقبور أو هـي أشـد ضيقا وظلمة، وعلى مفترق الطريق بين مبنى السجن وبوابته الضخمة، كان المالزم فليحان الغامدي يقـف مـستندا إلـى

لية ضخمة وسيجار ال يطاد يفارق زاوية فمه ، وهو يمد نظره إلى البعيد وكأنه يفكر في أيـام قادمـة تحمـل سيارة شيفرو الكثير من التعب والنصب، جيء باالستاذ عادل مقيدا بمرافقة أحد الجنود الذي بدأ يفك القيد بامر من المالزم، والتحق بهـم

المالزم مفتاح السيارة منطلقا بها إلى الدمام ألخـذ إذن بـإطالق سـراح جندي آخر ضمتهم جميعا سيارة الشيفرولية، أدار .االستاذ عادل

Page 21: جمرة في يد الملك

٢١

كان وجه المالزم شاحبا، وجثته الضخمة يبدو عليها ذبول لم تشفع المالبس واألوسمة والنجوم في إخفائه، كـان مجهـدا . واحدة فال يكاد يتذوق النوم وفي حال يرثى لها من اإلرهاق وتشتت الفكر، فاالعمال تكالبت عليه مرة ! ـ لقد سرقوا ثمانية رشاشات وجرحوا الكثير من الجنود يا استاذ عادل

.قالها المالزم ورمى بسيجارته خارج السيارة بعد أن فشلت في امتصاص نصبه :فأجاب االستاذ عادل

.يث ومنظم حد! كيف يستطيع العزل أن يقهروا قوات مسلحة، وأي تسليح ؟! ـ غريب جدا .ـ ال غرابة في ذلك يا استاذ عادل

سكت برهة وجيزة ثم استطرد ـ إن من يعرف حقيقة قوات الحرس الوطني ال يدهش لذلك، فهـم ال يفقهـون شـيئا، ال .يفرق أغلبهم بين سحب االقسام واالطالق

:أطلت أسنان المالزم لتسفر عن بسمة عفوية وهو يردفتدريبات التي تجريها قوات الحرس يسقط الجرحى وقل أن تجد تدريبا ال يجرح فيه أحد، بـل ـ في أغلب المناورات وال

لقد جرح أحد المدربين األجانب ذات مرة، كان مصمما على البقاء خمس سنوات ولكنه حينها استشاط غضبا ولـم يـصدق .أنه يتعامل مع أفراد تلقوا شيئا من التدريب ، فقفل راجعا إلى بلده

: تدار المالزم إلى االستاذ عادل وهو يراقب وقع الحديث على وجهه وقالاسـ أما هذا الشعب في القطيف والذي لم يحسب له حساب من قبل، فقد انتفض مرة واحـدة بـال أي مؤشـرات سـابقة،

هم بعينـي كيـف وكأنه البركان يخرج حممه الثائرة ليس القطيف فحسب بل كافة مناطق الشيعة حتى اإلحساء، لقد أبـصرت .يفتحون صدروهم ويهرولون نحو سياراتنا غير آبهين بالموت الذي يتعقبهم

لقد كان األمر كالصاعقة حلت بسمو األمير أحمد بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية، لم يحتمل ذلك االزعـاج الخطيـر .ر للسلطات، امر بإطالق النار، بل زاد أن احرقوا القطيف كلها إن لزم األم

.وأطلقت النار على المتظاهرين، وقد كان الجرحى والقتلى من المتمردين كثير، وكذلك من قوات الحرس والجنود .اولئك يستبسلون في المقاومة، أما هؤالء فيهربون ألول خطر داهم

تنهد المالزم وزقر في ضيق واستطرد لقطيف وسيهات وصفوي والعوامية، شـرارات ال بـد أن ـ قوات الحرس الوطني والجنود في حالة استنفار شديد، في ا

تخمد وفي مكة شرذمة من الخوارج تهيمن على الحرم المكي، كلها متاعب جديدة لم تكن في الحسبان و ـ :وقطع عليه االستاذ عادل قائال

، واسـترجعوه مـن تلـك ـ ولكن قضية مكة قد انتهت، فبيانات وزارة الداخلية تفيد بأنهم قد سيطروا على الحرم المكي !الفئة ؟

.ـ هراء ، هراء، قوات الحرس الوطني ما زالت تتوارد إلى مكة لفك حصار الحرم .ـ أوه ، يبدو انهم مسلحون بدرجة جيدة جعلتهم أقدر على مقاومة القوات الحكومية

ـ ت الـذي ذكـر أحـد ـ نعم، خصوصا وأن المعلومات االولية حول عددهم كانت غير مؤكدة ومتضاربة، ففـي الوق مسلح، ولعلمك قد يكـون هـؤالء ٣٠٠ شخصا، هناك آخرون يؤكدون أن عددهم يتجاوز الـ ٣٠المسؤولين أن عددهم كان

Page 22: جمرة في يد الملك

٢٢

شخص، وما يزيد الطين بلة هو انضمام مجموعات مـن قـوات الحـرس الـوطني ١٠٠٠أكثر من ذلك بكثير، قد يكونون .معهم اعطاهم قدرة على المقاومة الطويلة

!أمر ال يصدقـ ـ كل ذلك جعل القوات الحكومية تتخبط ويتساقط منها الضحايا، ومضى الكثير من الوقـت دون أن تجـد قواتنـا لهـا موطئ قدم داخل الحرم، عندها استخدمت طائرات الهليوكبتر المقاتلة لدك جدران الحرم اليجاد منافذ للقوات الحكومية وقـد

.استخدمت في ذلك قوات أجنبية : ت المالزم ثم صدرت عنه آهة عميقة وهو يقولسك

، كلها متاعب جديدة، تستدعي الكثير مـن التحـصن وتجمـع ـ دخان ونار في مكة، وهتافات تدوي في سماء القطيف القوى، وأكاد اشك في مقدرة السلطة على دفن الرماد في وجه االعالم الذي يحاول ذره، وعلى الرغم من أن أحداثا كثيـرة

.فت بهذا البلد وطواها النسيان بعد وقت قصير، ولكن ما يجري اآلن أعظم من أن يدفن عصكان االستاذ عادل يستمع إلى حديث المالزم وكأنه يتلو تقريرا مفصال عما يجري في البالد، بل وكأنـه يتلقـى اخبـارا

!! إذاعية وهو بالضبط ماكان يبحث عنه فهل كان يبرر له موقفه في اطالق النار علـى المتظـاهرين ؟ أم … المالزم إلى ذلك ولكن االستاذ عادل حار فيما دعا

أنه يخطره بتنازله عن روحه الوطنية التي تشدق بها قبل سنوات حين كان يفتخر بانتمائه إلى صـفوف المعارضـة ويـشيد !!بالوطنيين الذين وقفوا أمام جرائم آل سعود وتعسفهم

:يقول في نفسه وارتعش االستاذ عادل وهو ـ أمر ال يطاق أن يتحول االنسان في ظرف سنوات قالئل إلى انسان آخر تستعبده المراكز، وتميت انسانيته فـي وحـل

.من الكذب والنفاق والدجل كانت سيارة الشيفروليه قد قطعت مسافة من الطريق وسط الضباب الذي يحلم به سـكان المنـاطق الجافـة كالريـاض،

مناطق الساحلية، ورغم شروق الشمس إال أن أشعتها ما زالت عاجزة عن تبديد الضباب وهو يصر في عنـاد أن وتستثقله ال .يبقى جاثما ، ليخنق أنفاس الطبيعة

الدرب يتأفعى أمام السيارة التي انحرفت شماال إلى شارع ضيق تحوطه النخيل السابحة في موج الضاب الكثيـف ، وإذا :قة تسقط على بعد مترين من السيارة، فتعقبها أخرى، فصاح االستاذ عادل في ذهول بقنابل مولوتوف حار

! ـ يا الهي، هذا حقيقة أم كابوس مرعب ؟ :انحرف المالزم بالسيارة انحرافا مفاجئا أفقدها توازنها، أمر الجنديين بالنزول قائال

.حاصراهم جيدا اطلقا النار عليهم .. ـ هيا ، انزال الجنديان في ذهول وفزع ، وقد أشفقا على أنفسهما من مطاردة الثوار بين النخيـل فأخـذا يطلقـان النـار بـشكل نزل

.عشوائي وهما يحتميان بهيكل السيارة استقر رأي المالزم على النزول بنفسه لمطاردة المتمردين ليثبت قوته وعلو رتبته العـسكرية ، ومـا أن ترجـل مـن

حتى دوى انفجار آخر أمامه على مسافة ثالثة أمتار، والجنديان ما زاال يطلقان النار بـشكل عـشوائي السيارة، وابتعد قليال .وطائش أربكه الدخان وتشوش الرؤية بسبب الضباب الذي زادت كثافته قرب النخيل الواجمة كأشباح تترصد الموقع

Page 23: جمرة في يد الملك

٢٣

برحا يفرغان ذخيرتهما يمنة ويسرة وسـط الـدخان في ذلك الجو، بدأ كل شيء يبعث على الخوف والهلع، والجنديان ما : الذي أمتزج بالضباب، ومأل األنوف والحناجر واألبصار، وفجأة صاح المالزم

.آه كتفي .. قتلتني يا ابن الفاعلة .. كتفي .. آه .. ـ آه .سقط على األرض وتوسد الحصى متلويا من فرط األلم

حارقة القى بها الثوار عليه ليذيقوه حر نار الدنيا قبل اآلخرة، ولكن ال يبـدو أثـر فما الذي حدث يا ترى؟ هل هي قنبلة !للحريق قربه؟

أم انها رصاصة نالت نجح مطلبها، انطلقت من الثوار لتوقظ فيه األلم الذي قدح به الكثيرين مـن األبريـاء والعـزل، .. ي من جانب السيارة وصداه قد أفزع هـدوء الـسماء ولكن ال يبدو أن لدى الثوار مسدسات وبنادق، وصوت االطالق يأت

! ؟ !أم أن صاعقة من السماء بعثتها له صروف الدهر، لتقول له، إذا دعتك القدرة على ظلم الناس، فتذكر قدرة اهللا عليك؟

تساؤالت تناوشت رأس االستاذ عادل الذي ظل ينظر إلى المالزم مشدوها لفترة وهو عاجز عـن حـصر تفكيـره فـي .موقف ساقته األقدار فأحكمت موضعه

.نعم لقد كانت صاعقة، ولكنها ليست من السماء، وانما من فوهة مسدس أحد الجنود ) يا له من مسكين (

قالها االستاذ عادل وقد أمضه منظر المالزم الجريح ولكنه شعر بأن األمر قد سرى بهمه وأجذله، فالـسجان قـد وقـع !جريحا وهذا أول الغيث

ترك الجندي موقعه، وهرع إلى المالزم يساعده على النهوض لبلوغ السيارة، ولكن المالزم الذي إربد وجهه وتأججـت : أوجاع كتفه، سدد إلى الجندي لكمة في وجهه وهو يقول

ي أ.. كل الذي تمكنتما منه هو إفساد الذخيرة باطالق طائش، ورصاصة واحدة لم تصل هدفها، ولكنها أصـابت كتفـي : سفهاء تمالك الجندي توازنه وقال بصوت متهجد أضعفه الخوف .. يا لكم من حمقى .. يا لكم ..

ـ سيدي الضباب والدخان ـ … هيـا …أم الخوف الذي جعلكما تتخبطان هكذا، إذهب لتتولى قيادة السيارة إلى المستـشفى .. الضباب .. ـ إسكت

… أي …أي دين مرتعشتين، كان العرق يتصبب من جبينه غزيرا دافئا ، بينمـا كـان الجنـدي اآلخـر أمسك الجندي مقود السيارة بي

يمسك بكتف المالزم بشدة كي يخفض تدفق الدم، والمالزم مع فرط ألمه ما زال يسدد نظرات حانقة إلـى الجنـديين، كـان .كمن ينوي االنقضاض عليهما ليهشم رأسيهما تهشيما

هم بين الحيرة واالرتباك والقلق، ثم كانوا بعدها قبالة مستشقى القطيف، الـذي يطـل بثوبـه مضت تلك الدقائق الواجمة ب …المتآكل المرقع على زواره من المرضى ومستجديي العالج، وكأنه المحروم الذي ال يسترجى منه عطاء

منه المهمل الذي بدا غاصـا وهو لم يكن أحسن حاال من السجن في ازدحامه وكثرة من فيه، وان كان السجن أحدث بناء بالمرضى والجرحى، اجتمع الجاني بالضحية في مكان واحد، واختلطت الدماء لترسم قضية كبرى،؟ أقـوى مـن الـضحية والجالد، وأقدر على الحياة والبقاء، هي قضية الحق المهضوم والباطل المزهو بقدرته وانتصاره، والرايـة التـي تتالقفهـا

.الباطل في عليائه األجيال لتكسر جبروت

Page 24: جمرة في يد الملك

٢٤

وعلى الرغم من كثرة الجرحى الذين ارتموا في أروقة المستشفى الضيقة إال ان دخول الجنـديين مـع المـالزم بكتفـه المصاب، قد أثار حالة من االستنفار السريع، فأخذ المالزم فورا إلى غرفة العمليات بمرافقة رجلين مـن الـشرطة بينمـا

.ق معهما في الحادث لبث الجنديان ليبدأ التحقيكانت هيئة التحقيق مكونة من ثالثة أعضاء، احدهم من رجال المباحث، واآلخر من اإلمارة، أما الثالث وهـو المغلـوب

، كانا فـي حالـة مـن القلـق ..على أمره فمن إدارة المستشفى، وغادر الجنديان إلى احدى الغرف بمرافقة الرجال الثالثة ل نفسه وحيدا فأخذ يجول بين الممرات والغرف، الكل كان منهمكا في عملـه، فمـا إن يعـالج وجد االستاذ عاد …والحرج

مصاب حتى يأتي آخر أو يؤخذ الطبيب عنوة بيد أحد رجال الشرطة ليترك الطبيب مكانـه ويعـالج رجـال الـسلطة، أمـا كثيرين كانوا في حالة تـستدعي العنايـة األهالي والمواطنون فقد استوقفوا خارج مبنى المستشفى بحجة منع الفوضى مع أن

.الطبية، كل شيء هناك ينبئ عن فوضى مستحكمة وارباك متزايد .. . لحظات معدودة مضت ثم استدعي االستاذ عادل من قبل أحد الجنود الذي رافقه إلى غرفة التحقيق

: قال رجل المباحث لالستاذ وهو يمد اليه ورقة وقلم .تفضل وقع هنا

.. …الستاذ إلى الورقة بعين متفحصة، كانت تحوي إفادة بأن أصابة المالزم أحدثتها رصاصات الثوار نظر ا :وبدون تردد قال االستاذ

.ـ لكن الرصاصة كانت طائشة، لقد رأيت ذلك بأم عيني :أجاب رجل المباحث وهو يسدد لالستاذ نظرات حادة مغرورة

.لحماية الجندي من العقوبة نعرف ذلك جيدا ولكنه إجراء …ـ نعم . …ـ ولكن الجندي أصاب المالزم بسبب الضباب و

:قالها االستاذ عادل محاوال أن يوضح الموقف ويستنقذ نفسه من أمر يكرهه، ولكن رجل المباحث أضاف .ـ قلت لك، كل ذلك معلوم لدينا، انها اجراءات عادية ال أقل وال اكثر، وقع هنا ولن تخسر شيئا

كانت أصابعه تضغط على القلم حتى كأنها تفتك به، شـعر بنفـسه مجرمـا يحمـل : وأمسك االستاذ القلم ليوقع مجبورا :سكينا، يمزق بها جسدا بريئا وصاح في أعماقه

) يا لهول الموقف وبشاعته …آه ( س حائرة تـستجدي سـكينة وسـط غادر المكتب بقلب ساهد مكلوم، الصدر يحتبس الغضب، ويغلي حنقا ومرارة، والنف

زحام هائج، وشق طريقه إلى غرفة العمليات ، كان يترقب خروج المالزم، وهو ما يزال يشعر برباط قديم مـن الـصداقة والذكريات يشده إليه، وتمضي الدقائق بتمهل وكأنها تصارع بقايا هدوئه، حتى خرج الطبيب من غرفة العمليات ، وارتمـى

:في ساعته غير مصدق ويمسح العرق المتفصد من جبينه، وقال للدكتور في اشفاق ظاهر فوق كرسي وهو يحملق ! كيف حاله يا دكتور؟:

ـ بخير، لقد أخرجنا الرصاصة من كتفه، ونقلنا له دما ليعوض النزف، وال أعتقد أنه سيحتاج إلى الكثير مـن الراحـة، .يستطيع أن يغادر فور استيقاظه

.عي عناية طبية، اعتقد ان وجوده بينكم أفضل ـ ولكن إصابته تستد :أجاب الطبيب متاففا

Page 25: جمرة في يد الملك

٢٥

ـ المستشفى هنا يغص بالجرحى والمصابين، وال بد أن نسعف الجميع ، ثم أن هناك إصابات كثيرة أخطر مـن إصـابته …وأشد

: سكت قليال ثم أردف .ـ لقد أجبرنا على ترك تلك الحاالت لمعالجة الجنود ورجال السلطة

:فأجاب االستاذ مؤكدا كالم الطبيب ـ نعم، كل شيء هنا يسير بطريقة معوجة، تصور يا دكتور لقد أجبرت على التوقيع بأن إصابة المالزم كانـت بـسبب

.الناس وهي انطلقت من بنادق جندييه .ـ هذا شيء بسيط

!ـ بسيط ؟ :قالها االستاذ ذاهال فأجابه الطبيب

ء هنا على التوقيع على الكثير من المغالطات، يـأتون بـالجرحى والمـصابين برصاصـات البنـادق ـ لقد اكره االطبا .والرشاشات ويجبروننا أن نوقع بأن اإلصابات بسبب عراك بسيط أو اشتباك أثناء احياء مراسيم عاشوراء بين المعزين

:أخرج الطبيب والعته بيد مرتجفة وأضاف ه، تصور بأن المستشفى بات رهينة بيد الشرطة، نحن نأتمر بأوامرهم دون قـدرة علـى ـ كذب ونفاق أصبحنا نشارك في

: المخالفة، لقد أصبح كثكنة عسكرية، وصدرت عنه زفرة مرة وهو يقول ـ ثالثة أيام لم تذق فيها طعم النوم ومع هذا ما زال أمامنا الكثيرون من الجرحى

.لدخول والجنود يغلقون مداخل المستشفى لمنعهم من ا ..ـ وهؤالء قد يموتون إذا لم يتلقوا العالج يا دكتور

: قالها االستاذ وقد أثار كالم الطبيب ثائرته فاجابه الطبيب ـ لقد مات عدة أفراد خالل اليومين الماضيين، وما زالت جثثهم هنا رهينة بيد رجال الشرطة، وباألمس كان الكثيـرون

.…ألوامر تقول ال تفتح فمك بشيء يبحثون عن أبنائهم المفقودين، وا . ما أفظعها…ـ أوه، بالطبع، لن تسلم الجثث إلى ذويها حتى تسكن العاصفة يا لها من مأساة

سكون العاصفةأمواج البحر تتالطم في عنف وهي تلملم بقاياها لتعري الشوطئ االمن كساء الرمـال الناعمـة والـصخور المتربعـة

مواج رويدا رويدا مودعة إلى إياب غيربعيد، تتوق اليه كل حبة من حبيبات الرمال منذ اللحظـة عشرات السنين، تنحسر األ االولى للفراق، تهيج الريح الساكنة لذلك الوداع الصاخب بالحزن والغضب، فترسل عواصفها راعدة مبرقة وهي تـأبى إال

حنقها بغضب الجماهير الثائرة وقلوبها التي تجتـر ان تشارك االمواج غضب الرحيل وتشاطر الرمال لوعة الفراق، وتمزج غضاضة األسى، وموجة من الغبار الجاف تعلق بأهداب الريح العاصفة التي تمايلت معها النخيـل واالشـجار، فتـساقطت

.أوراقها مصفرة مثل تساقط الشباب الغض برصاصات الغدر د الحزن مآقيها واحتبست الدموع بين مقلتيها إال القليـل زخات من المطر الدافئ أخذت تتقاطر من السماء التي جمد طو

الذي تساقط في هذا اليوم الذي وافق الحادي عشر من محرم، وسكنت العاصفة، فأغمضت السماء عينيها الباكيـة بعـد ان

Page 26: جمرة في يد الملك

٢٦

لتـزكم عجزت دموعها عن غسل األدران، بل لقد هيجت قطراتها رائحة الدم المهدور والدخان النائم فامتزجـت الـروائح ! األنوف ولتثير ركام القلوب ودفائنها ولو بعد حين

الصغار في األزقة وعلى األرصفة، ما زالوا غير واثقين من لحظاتهم الحاضرة بين اللعب والمرح وقد مثلت بأذهـانهم طر بعيـدا صورة األيام الماضية التي حوصورا فيها بين جدران المنازل وعيونهم عالقة وراء النوافذ تنـساب مـع الخـوا

.لتطرق أبواب الغد أرامل وأيتام كانوا قبل أيام قالئل في بحبوحة من األمل، تضللهم يد األب الحاني وتصد عنهم قوارع الـدهر، األحـزان باتت تقض مضاجعهم، والغضب ينصب شباكه على أعينهم ويمد خيوطه إلى المستقبل الغامض الذي يلتـئم فيـه الجـرح

.فتسكن غضبه الدماء وشيوخ قد طعن الزمان أمانيهم، وضعضعت األحداث بقايا آمالهم، فارتسمت في أعينهم لوحة مظلمة يوشـحها الخـوف

.والفزع من غد بات األمن والسكون فيه من المستحيالت فودعت عيونهم الرقاد وجانبت الراحة والهدوء في سأم وضجر ن، وظالم الزنزانات تتنظر مصيرا أشبه بـالمجهول أو هـو أشـد، وافواج من الشباب في ريعانه تغادر إلى أقبية السجو

وآخرون قد سامح لهم الدهر، وسالمتهم يد األيام فنجوا بأنفسهم بعيدا عن تلك السجون وباتوا كالعطاشى في صحراء ممتـدة !؟) اتراه كان حلما أم حقيقة ( ليس فيها سبيل إلى ارتواء، والكل يتساءل عما حدث ويحدث نفسه

آه ، كم راودتني أحالم الشباب، وزرعت في نفسي كربالء الحسين، صورة ال يأخذ من وضوحها بل يزيـدها تغلغـال ( وإشعاعا، وفتية في ربيع الحياة، ضمهم ركب الحسين ليقارعوا يزيد ويناطحوا قمم طغيانه واسـتبداده بهامـاتهم الـشريفة،

ال يسكت الدهر ثاراتها بل تسكن ظهره لتصل األجيال تباعـا فتـصيح بالثـأر وقلوبهم التي لم تعرف الخوف، ودماء زكية المخلد للحسين وآلل بيته، ولكل المظلومين والمستضعفين، فتقض مضاجع الظلم، وتفت في عضده، حتى تحوله إلى ركـام،

.لينير بدر الحق سماء الوجود ي سماء القطيف، تضم شيوخا وشـبابا ، نـساء وأطفـاال ، نداءات الثأر المقدس جلجلت ف ! ولكن الحلم قد صار حقيقة (

قـد الحـسين وكـأن األزقة، وتطوف ، وسيوف يزيد قد سلت من أغمادها لتخمد أصوات الحق، والتظاهرات تشق الشوارع

ـ معبرا أعماقها في النفس ليناجي الحديث ويرتد ) الدخان قنابل وسط السالم تنعم كي رؤوسهم على جناحيه نشر كـل حـال نع

: بفخر يسأل وهو فرد بـاألمس وإخـواني أذى، يـصبني لـم سـالما داري إلى وصلت وكيف المتظاهرين، أولئك بين كنت هل ، أنا نعم ، وأنا (

وقبـور المرضـى وعنابر والمعتقالت؟ السجون خنقتهم أم سالم في هم هل حالهم؟ كيف اآلن؟ هم أين التظاهرات في ورفاقي

الحـق هتافـات احتـضنت التـي الشوارع إلى جديد، من الخروج لحظة أتمنى كم آه، ( ! بموتى ليسوا أبدا ولكنهم .. الموتى

. الزكية الدماء برائحة رمالها وعبقت مجريـات لمعرفة السبل امامي وتقطع الدار، زوايا بين عنوة فيها أحصر التي األيام هذه من أفظع بأيام مررت اني أعتقد ال

) يجري ما احد يعرف ال كي عمدا قطعت الهاتف اسالك حتى االحداث، جـاء قـد وها .تحركهم وقوة حماسهم في يؤثر لم التي االستفزازية األعمال ويراقب نفسه ويحدث يتساءل الجميع زال وما

مدينـة إلـى الحياة ترجعل نصابها إلى األمور اعادة يحاولون وهاهم المباغتة، من الخائفة اشالءه الغاشم العدو فيه يلم الذي اليوم

التـي الـدماء بحرارة القلوب ولتروي الشوارع ويعانق يخرج كي للجميع سنحت قد والفرصة والثورة، التمرد من اياما عاشت

. والمسيرة العهد اكمال على تبايعها صادقة أيديا تنتظر زالت ما

Page 27: جمرة في يد الملك

٢٧

إلـى الـدروب يـشقون والطلبة للعمل يخرج البعض ق،بالقل المشوبة رتابتها إلى الحياة لتعود العاصفة هدأت فقد ذلك ومع

.الهائجة واألحزان الغزيرة الدموع تحتضن زالت ما والعيون مدارسهم السؤال المفاجأة

في جنوب القطيف، وبالتحديد قرب منطقة الشويكة، كانت المدرسة الثانوية قد أخذت مكانها بهيكلها المتجانس مع مدينـة مدرسة التي تضم عددا كبيرا من أبناء القطيف والقرى المجاورة، كانت أشبه ببنيان خرب، أكلتـه القطيف في كل شيء، فال

السنون وامتصت قوته وكأن ابناء القطيف قد كتب عليهم الحرمان من أبسط حقوقهم في الرخاء والرفاه، بينما يدرس طلبـة ي بنائها وعمرانها، فهناك كـل مـا فـي المدرسـة الرياض وغيرها من المناطق في مدارس أشبه باستعراضات هندسية ف

يوحي بالرفاه االقتصادي، وهنا ال يعطي إال صورة واضحة من الحرمان ومثل ذلك كانت مدرسة زين العابدين المتوسـطة .المجاورة للمدرسة الثانوية

جله ليحين اللقاء، االفكـار في طريقه إلى المدرسة، كان االستاذ عادل يطوي الطريق بخطوات طويلة تستبق الزمان وتتع كانت تتناهش عقله وتغزو مخيلته بعشرات الصور الحية التي عاشها في األيام الثالثة الماضية ، ويمتـد بـه الفكـر إلـى اللحضات القادمة وكيف سيكون اللقاء بهؤالء الطلبة الذين كانوا باألمس بركانا متفجرا، وهل سيشبع نهمه لمعرفة األحـداث

. أم أنهم سيصدون عنه بتفاصيلهاوقفل به شروده إلى الماضي، إلى مدرسة زين العابدين، وطلبتها الذين يتباهون في مثل هذه االيام بالمواكـب الحـسينية

وتساءل االسـتاذ عـادل …ومشاركتهم المتحمسة فيها، كانوا يعتبرون الخارج عن تلك المواكب غريبا عنهم، ليس له مقدار ..

! ) بم سيتفاخرون ؟في هذا العام( في هذا العام كل شيء له طعم جديد، لون آخر، المنابر الحسينية تحولت إلـى منـصات للخطـب الـسياسية تعـارض وتطالب وتهدد وتقارع، والمواكب الحسينية التي ما تخطت جدران الحسينيات في األعـوام الـسابقة، احتـشدت مـسيرات

.ودي قهرت وسائل اإلرهاب وهزت سكون الليل السعلقد كان االستاذ عادل يتمتع بعالقة طيبة تربطه بتالميذ متوسطة زين العابدين، رغم النقاشات التي يطرحونها بـين وقـت وآخر حول قضية الشيعة ووالئهم لإلمام علي الذي يؤكدون احقيته باإلمامة، ويأخذ النقاش أوج حرارته حين يـصلون إلـى

يقة ال يستطيعون فيها ممارسة أبسط حقوقهم، وفي احدى المرات كان االسـتاذ حاضرهم الذي يحصر الشيعة في زاوية ض عادل يجد نفسه بمرافقة أحدهم أمام شيخ من مشايخهم ، يأخذه بحديث لبق ينم عن ثقافة واسعة وقناعة عميقة إلـى قـضايا

..الشيعة ومذهبهم المحارب بال هوادة من قبل قوى مستكبرة نفسه تلح عليه ضرورة معرفة الحقيقة كاملة، ناصعة من أفواه الطلبة، يتعرف علـى آرائهـم واآلن ، يشعر االستاذ أن

.حول األحداث رغم خوفه الواضح من عدم تجاوبهم معه وهناك كان لقاؤه األول مع مدير المدرسة الذي كان في الخامسة والخمسين من عمره، قد أكـل الـشيب فـروة رأسـه

في صحة جيدة، وقد جعلته أناقة مظهره يبدو أصغر بكثير من سنه الحقيقي وقد رحب باالسـتاذ وذؤابته، وفيما عدا ذلك بدا : ثم قال

.ـ اعتقد أنك تأخرت أياما عديدة عن التدريس

Page 28: جمرة في يد الملك

٢٨

لم يصرح لي بمغادرة مدرسة الرياض حتى وصل المدرس اآلخر، وهنا كانت لـي مـشاكل …ـ عذرا حضرة المدير .. أخرتني عن المجيء قليال

ـ حسنا، أرجوا أن تتسلم الفصول التي ستدرسها حاال، المراقب سيزودك ببرامج الدروس وبعض التعليمـات الخاصـة .بالمدرسة

الصمت كان يلف زوايا المدرسة وباحاتها الضيفة، أو هكذا بدت لألستاذ عادل بعـد أن عـايش العاصـفة فـي االيـام اماكنها واجمة ال يتحرك منها ساكن، واألغصان في عراهـا مـن األوراق بـدت الماضية، الشجيرات الصفر والنخيل في

كالعصى الملتوية، والعصافير التي اعتلت جفاف االغصان قد تركت زقزقتها وراحت تصدر أصـواتا حزينـة متقطعـة، كانـت المدرسـة … وكان عمال النظافة قد أخذ كل موقعه في احدى الزوايا واالساتذة ينتقلون بصمت مطبق بين الفصول

! كئيبة حزينة تتسربل بسكون غريب، والسكون في أحيان كثيرة مؤشر للهيجانوفي الفصل، كانت وجوه الطلبة تحمل نضارة وأعينهم تحتضن نشاطا وحيوية ونظراتهم يشع منها الحماس وشـيء مـن

أر، لذلك لم يفاجأ االستاذ عـادل بمنظـرهم، التحدي ولم يكن ذلك بمستغرب وهم باألمس اسود خرجت من عرينها تنذر وتز الذي ما عبر إال عن حقيقة تكمن في قلوبهم، ولكن المفاجأة كانت قد عرضت عليه ورسمت في عينيه أثارها حـين اسـتدار

:إلى خشبة السبورة وقد كتب عليها بخط عريض أراد كاتبه أن يلفت اليه األنظار .حينها كانت نظرات الطلبة قد تعلقت على شفتيه تستقي جوابا ) ؟ ما رأيك في أحداث القطيف يا استاذ؟( أوه، أي جرأة حملت هؤالء على إثارة هذا السؤال الذي قد يولد الف زوبعة ؟(

وأي شجاعة حدت بهم في غضاضة الشباب على تحدي قوة السلطة وطغيانها؟ وأي حماس يدفنه هؤالء في ثنايا قلـوبهم !؟

) مثل هذا األمر الذي يتيح لي معرفة االحداث، ولكن ليس بهذا الشكل السافر الذي ينذر بالمتاعـب نعم لقد كنت أرتجي .

:المفاجأة كادت أن تجمد لسانه وتقبر الكلمات في نفسه والتي يرددها دون وعي لوال أنه تدارك أمره سائال إياهم !ـ من الذي كتب هذه الجملة ؟

:وبصوت واحد جلجل الطلبة ! يا استاذ ـ نحن

!ـ يحسن أن نتعرف على بعضنا في البدء اليس كذلك؟ :وبعد أن عرف االستاذ نفسه أضاف

ـ سأكون هنا بديال عن مدرس التاريخ، واألن اعتقد انكم عرفتموني وسوف تتعرفون الى اكثر مع األيام ، فهل لـي أن :أتعرف على اسمائكم، فلنبدأ الصف االيمن

أسماءهم، بعدها كانت األصابع تشير إلى السبورة تذكره بالسؤال الذي ظنوا خطأ انه قد نـسيه فقـال وبدأ الطلبة يذكرون :االستاذ وهو يتصنع االستهانة باألمر

ـ اعتقد انكم أولى باإلجابة على هذا السؤال، فإما أن تقولوا رأيكم أو نبدأ بالدرس ألننا قد تأخرنا كثيـرا فـي تحـصيل .المنهج

:طلبة النظرات ودار الهمس بينهم وقال أحدهم بصوت عالتراشق ال

Page 29: جمرة في يد الملك

٢٩

.ـ يجب ان نعبر عن آرائنا وواقعنا، ال بد أن نتكلم بقوة :استبشر االستاذ لذلك الموقف ولكنه أجاب

.تكلم ولكن بهدوء .فتوقف الشاب، نظر إلى زمالئه وكأنه يستجمع قواه من أعينهم التي تفيض حماسا وقال بثقة

ست غريبا عن هذه المنطقة يا استاذ، تعرف عاداتها وأعرافها، ولعلك رأيت الناس فـي شـهر محـرم كيـف ـ أنت ل يتسربلون السواد وتتبدل الحياة ليصبحوا قافلة عزاء وبكاء، ولكن القافلة ما تلبث ان تعود إلى بواديها، وتهجع النـاس إلـى

.منازلهم لتبقى الذكرى عينا يتشربها األجيال : طالب وكأنه يستعيد نفسه ثم قال سكت ال

ـ في هذا العام اختلف األمر، فجنون السلطة المفرط وحمى الكبرياء دفعاها إلختراق المواكـب الـسائرة فـي سـالم، :قاطعه آخر قائال . قواتها ضربت الجماهير دون هوادة، فاشتعلت الجماهيرغضبا وثورة

الشباب شهيدا برصاصات السلطة زاد الناس تصميما، لقد كانـت تـصرفات ـ لقد أجبر الناس على الهيجان، سقوط احد . السلطة أشبه بغلطة الشاطر، وعليها ان تتحمل ما جرى وما سيجري

:فقال االستاد عادل وهو يحاول ان يغوص إلى عمق االحداث يئا من هـذه الـشعارات التـي ـ لقد مكثت هنا ثالث سنوات متتالية ورأيت مراسيم عاشوراء، ولكن لم اسمع من قبل ش

. وهي تعبر عن كره وتحدي للسلطة …عمت مسيرات هذا العام :أجاب أحدهم بثقة شديدة

ـ ذلك حاصل سنوات من الصبر، تجرعه هذا الشعب أبان حكم آل سعود المرير، وما زال الشعب يتحمل الـوان الـذل ناس قادرة على التحمل اكثر ـ والحرمان وهتك الحرمات، واليوم قد نفد الصبر ولم تعد ال

: قاطعه آخر وبدأ يوضح األمر قائال ـ والمسألة اكبر من ذلك، انها ليست القطيف فحسب، بل موجة الصحوة االسالمية التي عمت شعوب العالم االسـالمي

ثـورة المستضعف، كل شعب بدأ يبحث عن خالصه، بعد أ ن كان يفلسف ضعفه وهـون عزيمتـه بتبريـرات واهيـة، ال االسالمية في ايران قلبت المعايير السائدة وأثبتت للشعوب قبل غيرهم بأنه ما ضاع حـق وراءه مطالـب، فأحيـت األمـل

.وشحذت العزائم فالحت بوادر الثورة في كل مكان وفي كل أرض استباحها أعداء اإلسالم بهذا القدر فأحب أن يستدرج النقاش إلـى مـا كان كالمهم منطقيا يعبر عن حماس وقناعة، ولكن االستاذ عادل لم يكتف

:يشبع نفسه معرفة فقال وماذا ينقصكم فباإلضافة إلى ان المستوى المعيشي هو متوسط في أسوأ االحوال، فالدولـة ! ـ ولكن لم الرفض والثورة؟

؟!إسالمية ودستورها هو القرآن كما هو معروف وثف االستاذ كثيرا ولكنه تمالك نفسه وحافظ على ابتـسامته، وابتـدره ضحك الجميع وكأنهم سمعوا نكتة نادرة، أحرج الم

:أحدهم قائال ! الحرية والكرامة واالنسانية .. نحن ال ينقصنا سوى أمور بسيطة جدا .. ـ نعم يا استاذ عادل

:وعادت موجة الضحك بشدة وتعالت القهقهات هنا وهناك حتى برز أحدهم قائال

Page 30: جمرة في يد الملك

٣٠

الرأي يا استاذ، ان ما تدعيه السلطة وما تذيعه وسائل اعالمها المحلية واألخرى المأجورة هـو كـذب ـ اني ال أوافقك ونفاق، انهم ال يطبقون القرآن إال في قطع يد السارق ، وليس كل سارق، فمن يسرق بضع مئات مـن الريـاالت مـدفوعا

ت ويقيدون ثروات األجيال في حساباتهم الجاريـة فهـؤالء بالحاجة أو سوء التربية تقطع يده، أما من ينهبون ماليين الرياال .لهم حصانة السلطة النهم أمراء أو من المقربين

:وقال آخر بصوت ولهجة حادة قالـت ان الملـوك إذا [ـ أي قرآن ذاك الذي يدعون تطبيقه يا استاذ وهي دولة ملكية والقرآن يناقض الحكم الملكي أبدا

.]لوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون دخلوا قرية أفسدوها وجع :قال االستاذ مستفسرا

! ـ ولكن اآلية كانت على لسان ملكة سبأ ؟ :أجاب الشاب بثقة

، الملوك ديدنهم االفساد في االرض وكذلك فعل آل سعود الـذين ]وكذلك يفعلون ( ـ نعم، والقرآن يؤكد قولها بتعقيبه لقرآن بل هي تجاري نزوات جاللة الملك ورغبات سمو األميـر بـل هـي تعـسفية إذ ال اقروا احكاما وضعية بعيدة عن ا

برلمان وال مجلس شعب، وال أدنى مشاركة من الشعب مع أن األمر بات من المسلمات، الموثقة دوليا كحق من حقـوق أي .شعب

: وتوقف أولهم حديثا وعاد يقولالة المريكا واسرائيل، انهم يضعون ثرواتنا تحـت تـصرفهم ويخـافون ـ وأشد خبائث هذه الطغمة، عمالتها حتى الثم

. …خدش احساس كارتر األب الروحي واألم الرؤوم تاتشر أو يؤرقون ليل بيغن وديان، ومع ذلك فهم حماة الحرمين :ابتسم الجميع لتلك المفارقة وما لبث أن قال أحدهم … أقنعة الزيف ـ كان ال بد لهذا الشعب أن يعبر عن رأيه لتسقط

:أجاب االستاذ عادل وهو يستحثهم للخوض في جذور القضية !ـ ولكن اليست هناك طرق أخرى للرفض غير التظاهرات واالصطدامات التي تكلف الكثير؟

:قال أحدهم بدون تردد ات النفس أو ان تـؤمن ـ أبدا يا استاذ، ليس للشعب إال الثورة، فكل شيء ممنوع حتى مجرد التعبير عن الرأي أو خلج

ايمانا حقيقيا وتطبق ما تؤمن به على الواقع فذاك يزعج جاللة الملك، أو تدلي برأيك فتكون من الخوارج الـذين قـد يحكـم عليهم علماء البالط الملكي بالقتل والمروق، وكل الشعب قطيع من المارقين والعصاة ما عدا أمراء آل سعود ومـن يـدور

. صحفي انتقادا في احدى الجرائد الرسمية فعوقب باالعتقال في فلكهم، لقد كتبأما الشيعة فأمرهم أشد ألن النظام قائم على معاداتهم فهم كفرة محرومون من ابسط الحقوق الدينيـة كبنـاء المـساجد

ابيـة والحسينيات ويمنعوا الحرية في ممارسة عقودهم ومواثيقهم حسب نصوصهم الشرعية فتفـرض علـيهم علمـاء الوه .فرضا

:وهنا أكمل آخر

Page 31: جمرة في يد الملك

٣١

ـ كل شيء منعوه وحاربوا العلم والعلماء، فهم يطاردون الكفاءات اما بدفنها أو تهجيرها إلى امريكا وأوروبـا لتخـدم في إحدى قرى القطيف وطالب بتـشييده، فقـال ) ع(أسيادهم، ويحكم على أحد علمائنا باالعدام ألنه اكتشف قبر النبي اليسع

.ادل االستاذ عـ ولكن هذا جديدا، الحال هكذا منذ سنوات كما قلتم، فلماذا جاءت االنتفاضة في هذا الوقت بالذات بينما سكت الـشعب

! من قبل ؟ : قال أحدهم مغتنما فرصة واسعة للتعبير عن مكنون نفسه

ل ظـل يمقـتهم ويتلظـى بحقـدهم ـ الشعب في المنطقة الشرقية واالحساء وباقي األقاليم ، لم يرض يوما بآل سعود، ب األسود منذ أول يوم وطئت أقدامهم هذا البلد على أنهار من الدماء البريئة، وقد تيقن الشعب أن الخـوف والخـضوع همـا

.ركيزتا السلطة فكان ال بد من كسر االغالل :وقال آخر مقاطعا صاحبه

خلف ووصمة الذل، هذه األمة ال بد أن تدخل في تحـد ـ األمة التي تتطلع نحو مستقبل مشرق تتخلص فيه من عبء الت مع الواقع مهما كان ثقله ، وتقدم التضحيات والشهداء كي تروي تحديها صالبة وصمودا واال فالرضوخ ال يولد إال مزيـدا

.من الذل والشقاء والتخلف والعار من جوع، أصبحنا اليوم نتلمس جوهره ونغوص فـي ثم ان االسالم الذي كنا نعرف منه أمورا تقليدية ال تسمن وال تغني

أغواره، اتدري كيف يا استاذ ؟ :هز االستاذ رأسه ليشجع الشاب على االستمرار فأردف الشاب قائال

ـ لقد كانت الثورة االسالمية شاهدا أمام أعيننا، ثم ان علماءنا المجاهدين والخطباء المؤمنين لم يألوا جهـدا إال وبـذلوه ح الصورة الحقيقة لإلسالم فأناروا الطريق وانتشلوا الشعب من سباته، وكان سماحة الـشيخ حـسن الـصفار يلقـي إليضا

.محاضراته التي تعالج الواقع بسلبياته وآفاته ويصعد بأرواح الناس إلى التغيير المنشود فكانـت الظهـران تحـت تـصرف أما السلطة السعودية فقد زادت جرائمها حين جعلت أرضنا منطلقا ألعداء االسالم

.االمريكان وما زالت وهم يحاولون فك احتالل سفارتهم في طهران وتقويض الثورة المنتصرة : وقال آخر في حزم

ـ أما أن يكون اعالن الثورة في شهر محرم فهو أمر طبيعي، ففي هذا الشهر نعيش ذكرى أجل رفض لواقـع مـزر، أحد الخطباء الضيوف على مدينتنا وهو السيد مرتـضى ة قد أقدمت على اعتقالرفض الحسين وتضحياته ثم ان السلط

.القزويني واستمر الطلبة يتحدثون وينقلون دفة الحديث من زاوية إلى أخرى أما االستاذ عادل فقد ذهب عقله إلـى شـاب بـدين،

من أمره شيئا ولكن نظراته كانت جامـدة ال انزوى في مقعده، صامتا فكأن شيئا مما يدور لم يعنه، حاول االستاذ أن يعرف :تعبر عن شيء فسأله بشكل مفاجئ

أصيب الشاب بالحرج، حاول ان يهرب من نظرات زمالئـه المعلقـة علـى ! ـ وأنت، اليس لك رأي في هذا الحديث ؟ :وجهه، ولكن دون جدوى، توقف وقال متلكئا

ث ال يعدو حماس أججته ذكرى كربالء الدامية سرعان مـا يبـرد ليس لي رأي ولكن أعتقد أن ما حد. … ليس …ـ ايه .ويتبدد كسحابة الصيف التي تجلوها شمس الواقع

Page 32: جمرة في يد الملك

٣٢

:سادت الفصل موجة من الغليان تسترت بالصمت المريب ثم قال أحدهم موجها حديثه إلى ذلك الشاب ، انها ثورة حقيقية سـوف ثتبـت األيـام ـ أعتقد انك تغالط الواقع وتجانب الصواب، ان ما حدث اكبر من حماس مجرد

أصالتها وجدارتها، وأسألك باهللا لو كان لك أخ صرعت رصاصات الظلم روحه أو حبيب يذوق مر الـسجن هـل تـسكت وتركن إلى الحياة الوادعة أو تثور حتى يحقق اهللا عدله، وان لم تفقد عزيزا، فالشعب أخوة في الدين ولك فقيـد هـو قطعـة

…من االحشاء وتوقف آخر ليكمل حديث زميله مسددا نظرات غاضبة إلى ذلك الشاب البدين، ولكن االستاذ قاطعه بـسؤال أخـذ يلـح

: عليه ويداهم األفكار االخرى في عقله، فقال مقاطعا أبيـه ـ ولكن الثورة اإلسالمية في إيران بجماهيرها المليونية لم تحدث هكذا وفجأة واحدة، ولم يخرج الشعب عن بكـرة

إال وفق خطة قيادته المتمثلة في اإلمام الخميني، ولكل ثورة محرك مثلها مثل أي شيء في هـذه الحيـاة التـي ال تحتمـل ! الصدف اال في القليل النادر، وهذه االنتفاضة من هم محروكوها ؟؟

دخوله قد أسـكت األفـواه وفي تلك اللحظة الحساسة، دخل مستخدم المدرسة وبيده دفتر الغياب لتسجيل األسماء، وكان التى كادت ان تنطق بعد موجة من الوجوم واالستعداد، وسجل االستاذ عادل أسماء المتغيبين وكانوا ستة طالب ثـم همـس

:الرجل في إذنه ! ـ المدير يستدعيك على عجل

: قال االستاذ مستغربا ! لم يقل لك لماذا ؟! ـ لماذا ؟

.ـ أبدا يا استاذ .ان ينقطع الخيط بعد إيصاله إلى مرماه واستأذن على ان يعود اليهم مرة أخرى تاذ أوراقه وفي قلبه حسرة لملم االس

المدير يطلب حال ! لماذا يطلبني المدير ؟

هل علم بما دار بيني وبين الطلبة بهذه السرعة ؟ وكيف ؟ هل كان هناك من يسترق السمع وراء الباب؟ أم أن احدا مـن لبة تسلل خارجا وأخبر المدير؟ فليس هناك مبرر إلستدعائي بهذه العجالة في وقـت مـن المفـروض أن يكـون هؤالء الط للطالب ؟

ترى كيف سأواجه المدير وهو يعلم أني ناقشت الطالب في أمر محظور ؟؟ كـانوا يهبـون عالمات االستفهام احتدمت في عقل االستاذ عادل فصرعته حتى عن التفكير فـيمن حولـه، فاألسـاتذة

مسرعين إلى حيث اإلدارة ومن ثم صالة االجتماعات، وأصوات الطلبة تتعإلى من داخل الـصفوف حتـى تحـول سـكون المدرسة إلى فوضى عارمة وكأنها قد قلبت راس على عقب، بعض الطالب إستغل الفرصة فغـادر الفـصل إلـى باحـة

.دوية وشعارات صاخبة المدرسة حرا طليقا وآخرون تعالت اصواتهم بهتافات مكانت صالة االجتماعات غاصة باألساتذة وكل أخذ مكانه منها، المدير كان قد تـصدر المجلـس، وإلـى يمينـه جلـس

: المراقب وعن شماله كان المشرف االجتماعي، وقال االستاذ عادل متمتما وهو يرى الصالة مزدحمة ما سبب هذا االستدعاء العاجل لألساتذة وهذا االجتمـاع الطـارئ : وتساءل في نفسه ( يبدو أن األمر غير ما توقعت (

! ؟

Page 33: جمرة في يد الملك

٣٣

مـا ( كان األمر استدعاء شامال لكافة أساتدة المدرسة بسبب السؤال الذي فوجئ به األساتذة عند دخولـوهم لفـصولهم فـي الـدرس مـستهينا البعض من االساتذة واجه الموقف ببرود مطلق فشرع ) رأيك في احداث القطيف األخيرة يا استاذ

برغبة الطلبة من إثارة النقاش، وآخرون ناقشوا بتحفظ أو اتخذوا موقف المـستمع الـذي ال ينـاقش إال قلـيال، والـبعض حمـود ( كاالستاذ عادل اشبع فضوله في معرفة الحقائق ورأى في أألمر دربا سالكا، اما المدير فقد وصله النبأ عبر االستاذ

ن يدرس مادة العلوم، كان من الخط المحافظ الذي يجد في الثورة عمـال ال عقالنيـا، تهيـب الحـديث استاذ موط ) الناصر .واعتبره فوضى مفتعلة فنقل الخبر إلى المدير الذي امر باجتماع عاجل لمعالجة األمر

ادئ، وجـه نظـرات تشابكت أصابع المدير وهو يشرع في الحديث وكأن المفاجأة قد استطارت بلبه فأربكت مظهره اله :مستفسرة األساتذة وكأنه يستجدي حال

ـ اعتقد أنكم قد خبرتم األمر، بعد أن فوجئتم به، االدارة أيضا فوجئت بما حدث، ان عاقال ال يرضى أن تقحم المدرسـة .بإدارتها وطالبها في مشاكل من هذا القبيل

: وأضاف المدير وقد شابت عينيه موجة من الوجوم سنواتي الطويلة التي قضيتها بين التدريس واالشراف واالدارة لم أتعرض لمثل هذه المشكلة التي أرى أن نحـذر ـ في

! في معالجتها، ولم نجتمع هنا إال لنصل إلى رأي سليم باتفاق الجميع، فما هي آراؤكم واقتراحاتكم ؟ه الفرصة ليفتح باعه الطويل متهمـا الطلبـة كمن سنحت ل) خالد المطلق ( كان المشرف االجتماعي وهو مواطن يسمى

:باتهامات تنم عن حقد حبيس في صدره، قال بصوت حاد ـ ان ما حدث في القطيف ليس بالسهل، والمدرسة ال ولن تكون قطيفا ثانية، فلها قدسيتها واحترامها، هـؤالء التالميـذ

يبحثون مكامن الفرص الظهار الحقد وإثـارة القالقـل مجرد مراهقين ال يعرفون خيرهم من شرهم بل فيهم االشرار الذين والفتن، ولن يجدي العقل معهم، ولعل أفضل عالج هو تسليم األمر للسطات المختصة تنظر فيه وتعالجـه بمـا يتفـق مـع

.مصلحة الدولة وأمنها مالمحـه سـمات أجاب المراقب وكان مصري الجنسية، جاوز العقد الرابع من عمره، في عينيه هدوء غريب وعلـى

: التعقل قال ـ ولكن هذا يسيء لقدسية المدرسة يا استاذ خالد، ويخيب الظن في قدرة اإلدارة وكفاءتها في تجاوز المشكالت، ثـم ان المدرسة كاألسرة الواحدة تحل مشاكلها باالعتماد على ذاتها، تحصر المشاكل بالداخل ثم تتخذ التعقل واالتزان وسـيلة فـي

ؤالء الطلبة شبان في مستهل الحياة، يخوضونها بال تفكير، تدفعهم االحاسيس والمشاعر الملتهبة التي تتـصاعد المعالجة، وه أحيانا ثم تعود إلى السكون، هم كذلك وعلينا أن ال نسيء فهمهم، وبشيء من التروي سنصل إلى حل ال يثيـر أي رد فعـل

.معاكس يورط اإلدارة أو الطالب : وأخذ يرمق الحاضرين بنظراته الهادئة وأضاف سكت المراقب قليال

ـ لقد كنت مدرسا في مصر لسنوات ولي تجربة أود ذكرها تأكيدا على ما أسلفت ، في اوقات كثيرة كانـت المـدارس هناك تتحول إلى بؤرة من الفوضى وهي تعكس حالة عامة في البالد، ويتحول الطالب إلـى مشاكـسين ينـوون عمـل أي

. عن آرائهم ، وحين نواجه العناد بالعنف نحصد العاصفة شيء للتعبيرسكت الجميع ولم يعقب أحد بشيء وكأن رأي المراقب قد القى قبوال صامتا اال االستاذ حمود الناصر الذي حرك عقاله

: وأعاد ترتيب غترته، واستجمع أناقته وقال

Page 34: جمرة في يد الملك

٣٤

فرصة لينالوا من قدسية هذا المكان، هذا التهور سيرجع بالوبـال ـ ولكننا ال يمكن أن نترك التالميذ ألنفسهم فنتيح لهم ال .على الطلبة وذويهم فيجب ان نتدارك األمر بالرجوع إلى إدارة التعليم العليا

:فرد المراقب قائال .ـ وهذا أيضا سيضعف موقف اإلدارة ويجعلها كالعاجزة عن تسوية أمورها

فكرة مذهلة اعتقد أنها ستكون الفيصل في النقاش الدائر فقال وهو يرفع نظارتـه وكأن االستاذ حمود قد قفزت إلى ذهنه :السميكة ذات االطار األسود عن عظمة أنفه

.ـ إذا نعطل الدراسة لعدة أيام ريثما يعود الهدوء او ننتهي موجة التهور :حينها رفع المدير يده معارضا وقال

طع ان تصدر أمرا كهذا إال بإذن من إدارة التعليم، ثم ان ذلك سيؤجر الجميع فـي هذا غير معقول، اإلدارة ال تستي …ال .تحصيل المنهج ويرهق كاهل األساتذة

ويـضرون …ـ ولكنهم مراهقون يا حضرة المدير، ومتهورون وال بد أن نوقف تماديهم فيضرون أنفـسهم وذويهـم و .الجميع

الستاذ عادل فرصته ليشق دائرة النقاش التـي جمعـت المـدير والمراقـب عقب االستاذ حمود مؤكدا رايه، وهنا أخذ ا :والمشرف واالستاذ حمود فقال في تأن

ـ ال أعتقد أن االمر بحاجة إلى مثل هذا التصرف او ذاك، انه مجرد طغيان للحماس، سوف يأخذ مداه القصير ثم يأفـل .والتروي في األمر هو الحل المنطقي

.نوا بعيدين عن معمعة الحديث واحتدام اآلراء وقد تركوا االمر للرباعي المتفاعل بين مهاجم ومدافع بقية األساتذة كا :اكتفى المدير بما قيل في الموضوع وجنح إلى موضوع آخر قائال

ـ هناك مشكلة اخرى وهي زيادة عدد المتغيبين عن المدرسة، كل فصل يتغيب منه أربعة أو ثالثـة وبعـض الفـصول والغياب تجازو ذلك إلى بعض االسـاتذة ، ومـن المتغيبـين .. عدد الغياب إلى سبعة وثمانية وهو أمر غير معقول وصل

…لألسف االستاذ مالك واالستاذ عبد اهللا يجب أن نمنع التغيب الذي يضر بمصلحة الجميع أساتذة وطالبا، وأما أن نحث هؤالء على الحضور أو نـصدر قـرارا

. من يتكرر غيابه ثالثة أيام بفصل أو معاقبة :سكت الجميع بينما تفوه االستاذ حمود قائال

.ـ نعم ، الغياب هكذا تهاون ويستحق العقاب : ولكن االستاذ عادل عاد فقال

ـ عفوا حضرة المدير، اعتقد أننا قد نسيء إلى الطلبة بذلك ألننا النعلم سبب تغيبهم ، قد يكون هناك سبب إضـطراري ! ؟.. ، أو أوقفته الشرطة، هؤالء كيف يتسنى لهم الحضور مرض مثال وقد يكون البعض جريحا ، ال

.وثانية أقول، علينا أن نتروى فال نصدر قرارات سريعة كان كالم االستاذ كافيا إلقناع المدير بعدم التطرف أو التسرع في المعالجة ألمور الطلبـة الـذين تغيـرت سـلوكياتهم

. إلى الشغب والفوضى فصارت أقرب المقبرة تحتضن شهيدا

Page 35: جمرة في يد الملك

٣٥

هاجت االرض وماجت، وارتقت السنة الغضب تالمس قرص الشمس، واستعرت أرجاء المدرسة لهيبا، وتدافع التالميـذ من الصفوف كالصقور تهجر أوكارها، ففي فناء المدرسة وقبل نهاية الدوام بنصف ساعة، كان أحدهم ينادي عبـر مكبـر

بصياح إخترق فصول المدرس وتنامى صداه إلى مبنى إدراتها، وكأن المدرسة في تلك اللحظات قـد رمـت يدوي للصوت : بثقلها في تلك الباحة حول المنادي وهو يصيح

أيها الشباب المـؤمن، يـا مـن بعثـتم ( ] ومن يعظم شعائر اهللا فإنها من تقوى القلوب [) بسم اهللا الرحمن الرحيم ( ـ الطغاة، ومزقتم ليل الظلم، هبوا لتلبية نداء االيمان ، نداء الرسالة والجهـاد، واسـرعوا الخطـى لتـشييع الرعب في قلوب

جثمان الشهيد إنه لثواب عظيم، وأجر كريم، وتحد صارم لرصاصات الظلم التي اغتالت روح هذا الشهيد المظلـوم ، فـال ) .يتخلفن منكم أحد

اهللا اكبـر، اهللا ( سط زئير الغضب الذي شحن األجواء فارتفعـت االصـوات هنيهات بسيطة ويتخافت صياح المنادي و جموع الطلبة المستنفرة تزحف نحو بوابة المدرسة، يحاول الحارس مـنعهم، ويغلـق ) اكبر، لبيك داعي اهللا، لبيك داعي اهللا

:الباب ويحكم قفله، يقول له أحدهم منذرا إياه . الطريقـ ابتعد وال تعرض نفسك لغضبنا، افسح

:يصيح به آخر .ـ سوف يكون حسابك عسيرا ان لم تفتح الباب

:ويرد الحارس بلهجة استجداء ورجاء .…ـ أرجوكم، ان ما تفعلون سيغضب المدير، ويعرضكم للعقوبة والفصل، عودوا إلى فصولكم

ال تبالي بالعقبـات والحـواجز وهنا برز أحدهم وأبعد الحارس جانبا ، فتح الباب على مصراعيه، خرجت الجموع وهي وال تفكر في العواقب وكأن اهللا قد نفخ في أرواحهم ليمدهم قوة وصالبة، جـل همهـم أن يطلقـوا صـرخة الحـق فـي

ضمائرهم، ويحرروا الشجن في قلوبهم كاألرض تخرج اثقالها لتحدث الناس أخبارها، صيانا، تدوي هتافاتهم في أعماقـه فترجـه رجـا عنيفـا، كان االستاذ عادل يسير بين حشودهم كالمساق الذي ال يملك ع

يهتز كيانه، ويقشعر بدنه لتقف الشعيرات ويتساقط العرق منه غزيرا، يحاول ان يتلمس الطريـق خـارج المـسيرة ولكـن شـغلته الحشود بجريانها الدافق العنيد قد أسلمت رجليه لزحفها وهو ال يدري كيف كان إحساسهم في تلك اللحظـات، فقـد

خواطر نفسه عن تتبع همسات قلوبهم، وفرضت عليه مخاوفه بعدا عن تلمس مشاعرهم، ولكن شيئا مما خالطـه لـم يكـن يراودهم فقد كانوا يرمون بأنظارهم إلى المقبرة التي تبعد امتارا قليلة، بقلوب واجفة، عانقت الشهيد المتربع علـى أيـديهم،

وهم ال يدرون من يشيعون ؟ الشهيد السعيد؟ أم هم يشيعون أنفسهم ويحملون أرواحهم على أكفهم، فالشاب منهم يتمنى الـشهادة ويحلـم بهـا هل هو

كالماء العذب يناله التائه وسط جفاف الصحاري ولسع السموم، كيف ال وقد امتزجت أرواحهم بروح سيد الـشهداء الـذي للحرية والكرامة واالنسانية، فدماء الشهيد هي اجـراس تقـرع كانت شهادته شاهدا حيا أبديا للنضال المقدس ضد كل هتك

عند الخطر، وتنبه المظلومين والمحرومين والمقهورين إلى واقعهم المشين وتروي في وجدانهم بذرة العطاء االنساني الذي حقيقـة تأخـذ بعـدا فـي يرمي إلى إعادة موازين العدالة إنه ليس ضربا من الخيال، او ابحارا في سراب الوهم، فالشهادة

أعماق كل انسان، وتاريخ كربالء الذي تشربته نفوسهم هو تاريخ الشهادة التي صنعت من المعاجز في مسيرة الشعوب مـا عجزت عنه ألوف األقالم وماليين الخطابات السياسية وإنتفاضة هذا الشعب الذي زمجر عن غضبه، قد تحولت مـن غليـان

Page 36: جمرة في يد الملك

٣٦

حين سقط القالف شهيدا في السابع من محرم، ففي مدينة سيهات كانت قطـرات دم الـشاب قـد تحت الرماد إلى السنة نار أعطت انذارا باإلنتفاضة التي عمت مدن وقرى الشرقية لتأخذ بعدا في تاريخ هذا الشعب الحافل بالقهر، اوال يتمنى الـشاب

هي فخر ما بعده فخر، وبهذا المقياس يجتازون العقبـات منهم أن يطعم الشهادة، بل يسعى اليها ويسابق االخرين في نيلها، ف .وال يبالون أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم

وها هم يجرون وهتافاتهم تتقد حرارة وعنادا، ويهرول االستاذ عادل في الخضم، ولكنه يقف لحظة ويسأل أحدهم ليـشبع :روحه معرفة بهؤالء الشباب لكم ؟ـ اال تخاف مباغتة السلطة

! ـ ولماذا نخاف ؟: ويجيبه الشاب بتحد .ـ الموت يترصد خطواتكم :ويجيب الشاب بنظرة حالمة

ويصرخ الشاب …ـ والجنة تنتظر موتانا بفخر .عمالء االمريكان الموت آلل سعود

ـ د انبهـر لهـذه الـصيحات كانت القبور قد توارت حياء في تلك الحشود الثائرة، وكأن الماضي القريب لهذا الشعب قالهادرة التي اختلجت في أعماق أبنائه سنينا طواال، ولكنها لم تجرؤ على الظهور للواقع، فتورات القبور تختلس النظر إلـى الحماس الالهب وهي تتمنى لو أعطيت القرصة لتشارك في هذه اإلنتفاضة المباركة، فيشم سجل أعمالهـا شـيئا فهـي مـا

ت الثائرين لتحمل صداها المدوي إلى أبعد األرجاء، وهي ستضم عما قليل جثمـان الـشهيد، وأي تربـة تزال تحتضن هتافا .احتضنت شهيدا ستكون مدرسة للرفض والصمود وعلى مر االجيال

وقد ذهل االستاذ عادل لمنظر أحد المسنين، أخذ يرمق قامته النحيفة، وطوله الفار، ويصغي إلـى صـوته الـذي شـق حيب، شجي جهوري جذب القلوب، ساق اليه األرواح الظامئة، ترسم على وجهه مالمح وقار نـادر ال يوشـح اال طغيان الن

العظماء الذين يتركون في تاريخ اإلنسانية بصماتهم، ذكرهم التاريخ أم نسيهم، غزا الشيب شعر رأسه وحاجبيه وذقنه الـذي ، ومع كبر سنه لم يكن الضعف قد استلب هيبة مظهره، ولـوال أخذ نصف وجهه، فكان كالقمر المتاللئ وسط ضوء النجوم

.عكازه الذي إتكأ عليه برفق لظن الرائي أنه قوي ال يشوبه ضعف : جمع من أقارب الشهيد يقترب من ذلك الشيخ الوقور، وبلهجة تنم عن إحترام لشخص قال أحدهم

.د ـ أيها الجد، هال تفضلت بإمامة الناس للصالة على روح الشهي : ينظر الشيخ اليهم بصمت مقتضب ثم يحملق نحو السماء ليعود مطرقا إلى األرض بعينين حائرتين وقال

!ـ كيف أكون إماما وهناك مشايخ أولى باألمر ؟ .ـ أيها الجد، ولكن ال أحد هنا من المشايخ، والناس ينتظرون إقامة الصالة

.تذهبوا الستدعائهم ـ نعم، لعلهم ال يعلمون عن األمر شيئا ، فلاقتسمت المقبرة جماعات من الناس، تلتف حول بعضها، الحيرة طافحة بهم، فهم يبـصرون الواقـع األلـيم وينتظـرون المستقبل الغامض، ال شيء لديهم واضحا سوى هذه القبور الساكنة والتراب والحدر الذي دثـر ابـن آدم وسـيكون دثـارا

.اإلنسان يحيا ويموت وال يفلح إال من قدم هللا عمال صالحا لغيره، حياة قدرها الخالق لبني

Page 37: جمرة في يد الملك

٣٧

كان الجد كالفراشة ينتقل من جماعة إلى أخرى وكأنه نقد حمل على عاتقه مسؤولية عظمى اهلتها لـه مكانتـه المهابـة لـشعر وبعـض لدى الجميع وهو الشيخ الذي جمع من ماضي هذا الشعب الكثير فقد كان ناسخا للكتب القديمـة، وكاتبـا ل

المؤلفات التاريخية، وفي الجانب الشرقي من المقبرة تقف مجموعة من المشايخ تركن إلى إحدى الزوايا، يتبادلون الحـديث :في همس بالغ، يتجه اليهم الجد، يسلم عليهم، يأخذون بيده إلى صدارة جمعهم، يحدثهم قائال

المستشري، وضياع العدالة والحقـوق امـور تـستوجب الـرفض ـ لقد ثار الشعب ومن حقه أن يثور، فالظلم والفساد .والنهضة

: سكت هنيهة وهو يرقب اثر كلماته في أعينهم وقالـ ال يمكن لهذا الشعب ان يقف في خندقه وحيدا، وتقفون أنتم عنه بعيدا ، ال بد من الوقوف معه وتحمـل المـسؤولية،

. …قوة عليكم ان تزيدوا روح الرفض تأججا وتلهبوها :واسترسل في حديثه قائال

ثالث سنوات فـي شـعب ) ص ( ـ لقد تمثل أولياء اهللا هذا الدور بكل قوة وكلفهم الكثير، ومن ينكر سجن النبي محمد ابي طالب وكذلك سجن اإلمام موسى الكاظم في طامورة ال يعرف فيها نهار من ليل، تحملوا ذلك وهم يتمتعـون بمراكـز

.م في مرمى البالء، لقد ساءني أن نفتقد وجودكم في هذا الموقف، وخيرا فعلتم أن جئتم بال تردد المسؤولية وضعتهكانت نظرات المشايخ قد غاصت إلى األرض حياء، وشفاهم تحاول النطق بما يدور في خلدهم ولكنها تعجز عنـد ذلـك

. وتخشى ألن الموقف قد كشف بوضوح انعزالهم عن قضايا الشعب ومآسيهنتقل الجد إلى مجموعة أخرى، كانوا من الوجهاء وذوي المكانة اإلجتماعية والمراكز الشريفة، توسطوا المقبـرة فـي ي

: قال لهم الجد …نقاش مشوب بالحنق، تشتعل أعينهم خوفا وقلقا من ساعات قادمة وأيام ثقيلة ذه األمة المضطهدة سنوات على أيدي آل سـعود ـ اننا نشكر حضوركم لتأدية الواجب، لقد توقعت ان أراكم فأنتم من ه

وقد عايشتم احداثا كثيرة عصفت بهذا الشعب، ومن لم يعايش فقد سمع عن اآلباء واألجداد، فمن الضرائب التي فرضـت .. يبـذلون على فقرائنا وفالحينا باسم الزكاة التي أكلت لحوم الناس ودلفت إلى عظامهم النحيفة، بينما تتوسع دويلة آل سـعود و

لقد فعلـوا .. المال بسخاء لمرتزقة بالطهم، كانوا يقتلون كل من يمتنع عن بيعتهم ويحلون عرضه وماله، انها أيام ال تنسى وكأن الناس لـم يكونـوا .. بنا الشديد العظيم وأجبروا الشيعة على الصالة وراء علماء الوهابية واعالن اإلسالم على أيديهم

.مسلمين ! نسيتم ؟هل تذكرون ام

:قال أحدهم وعيناه محمرتان !ـ كيف ننسى أيها الجد ؟

:فأجاب الجد ـ ومع ذلك التزم الشعب الصمت ليجنب دماءه الهدر، ولكن السلطة قد زادت جنونا وغـرورا حـين تعرضـت إلـى

هـا قـد حكمـت علـى مواكب الحسينية تعرضا سافرا، فتحررت القلوب من سكونها المقتضب وبئس ما فعلته السلطة ألن .عرشها باألفول

انها مسؤوليتكم فـي …اعتقد أن عاقال ال يحب أن يستمر الذل والخنوع الذي ال يولد إال المزيد حتى يموت هذا الشعب دعم انتفاضة هذا الشعب ومؤازرته، عليكم أن تنددوا بجرائم السلطة وتساندوا الشعب وتحفظوا دمـاء شـهدائه، خـصوصا

Page 38: جمرة في يد الملك

٣٨

شهداء قد أجبروا على التوقيع بأن أبناءهم ماتوا في اشتباكات عادية، قدموا عريضة للملـك شـرحوا األمـر، وأن عوائل ال .وتقدموا بأصواتكم إلطالق سراح المعتقلين

:وهنا قال أحدهم ـ . ـ لقد حاولنا أن نفعل ذلك، مراكزنا باتت مهددة

لتقفوا بعيدا عن شعبكم ، وال ترتكبوا مـا يجعـل الـشعب هذا ما يجب أن تفعلوه، وال تغرنكم السلطة ببعض المصالح .يمقتكم

األصوات والهتافات عادت إلى اإلشتعال من جديد، الشباب يحوطون قبر الشهيد بعد ان وري في التراب، أسرة الـشهيد ) انـتقم مـن آل سـعود اللهم( تحتضن القبر، األم ثيابها السوداء كومة من األحزان، تلطم وتنتحب وترفع يدها إلى السماء

:يقف الجد عند رأس القبر يستجمع حوله الناس من شباب ورجال وشيوخ، يخاطبهم قائالأيها الرجال المؤمنون ، والشباب المضحون، لقد كانت انتفاضتكم تعبيرا صادقا عن الحياة تدب في الجسد الـذي أماتتـه

من حماس طاغ لعدة أيام أو عدة شعور، لننظر إلى المستقبل بعـين سنون اإلستسالم ، ولكن اإلنتفاضة يجب أن تكون أكبر بصيرة ، نرى السلطات التي ستبذل جهدها من أجل امتصاس الغضب واستمالة األهواء، بعد أن جربـت العنـف وحـرارة

.المواجهة فلم تجد فيها إال مزيدا من التحدي نعم الحافظ لهذه اإلنتفاضة ولتعوا جيدا دوركم المطلوب في كـل الدماء تذكرنا بأننا نحمل قضية كبرى، فلتكونوا جميعا

.مرحلة، الثورة يجب أن تبقى حية معطاء :ويتقدم أحد الشباب الغض إلى الجد قائال

.ـ هل تسمح لنا بزيارتك أيها الجد .ـ على الرحب والسعة وقتما تشاء

:رج المقبرة، يستوقفه أحد المشايخ قائاليلتفت الجد إلى الناحية األخرى ثم تأخذه رجاله إلى مخـ أيها الجد انك تعرض نفسك للخطر، قل ما تشاء، ولكن ليس في هذا المكان وأمام مأل من الناس، انـك رجـل مـسن

.ولجسدك عليك حق أن تصونه :قاطعه الجد قائال بلهجة تنضح اسى

. …ـ ولكن حق اهللا علي أعظم يا شيخ عبد الخالق . أتمنى لو أتشرف بزيارتك لي .. حسنا .. ـ حسنا

.ـ سوف يكون لك ذلك .ـ سأكون في إنتظار هذا الشرف

هموم جديدة . اشتعل المساء القمري ضوءا، والتمعت النجوم كأنها شهب تتوهج، بعد نهار طويل صاخب باألحداث مبهجـة محزنـة

تلتهم عيناه بيوتات القرية التي تالصقت جدرانها المهترئـة فـي كان علي يطل من شرفة غرفته بالطابق العلوي من البيت، حنان وود وصداقة أمدتها السنون الطوال عمقا وصالبة، واتكأت بثقلها على جذوع النخيل السميكة التي ضـربت جـذورها

والد علـي ) لحداد منصور ا( في عمق األرض المحرومة حتى كأنها علم شاهد على معاناة السنين، بينما كان منزل الحاج

Page 39: جمرة في يد الملك

٣٩

يطل بينها في نشاز ملحوظ ويتربع في علياء وسمو، فهو من وجهاء مدينة العوامية، اجتمعت لديه دواعي الجاه، مـن مـال .وبنين وعقارات وبساتين وأصالة في العرق والنسب

ي يعـيش فيـه مرفهـا غادر علي الشرفة وهو ال يكاد يصدق ذلك المنظر الذي لحظه منذ قليل، إذ أن البيت الضخم الذ يبدو نشازا بين البيوت جميعا ، وعاد علي إلى المنضدة في غرفته وإنهمك في تسجيل مجموعة أخـرى مـن محاضـرات سماحة الشيخ حسن الصفار القيت في عاشوراء ذلك العام تدفع الجماهير نحو التماسك والتعاون والوحـدة والثـورة علـى

نبت في تربة القطيف، وارتوى من أصالتها وعنادها المقدس ورواها من ينبوع عطائـه الظالمين ، وذلك الشيخ الشاب الذي المتحدي، حتى قالت عنه السلطات أنه المحرض والقائد التي عصفت بالمنطقة الشرقية من أدناها إلى أقصاها، بشكل أحـار

غنية بالدفع والحمـاس لتوزيعهـا بـين العقول، والهب المشاعر، لم يكن في ذهن علي آنئذ سوى تكثير تلك المحاضرات ال الناس في أسرع وقت ممكن، ولكنه سرعان ما اصطدم بواقع آخر يقول له ال، ال تفعل ، وتيار يأخذه إلـى صـفة أخـرى،

.وأصبح علي كالغارق وسط موج متالطم مـصفر جريحـا، باألمس هابن رأى حين العارم، الهيجان من موجات إلى الودود الهادئ كيانه انقلب قد منصور الحاج كان

. القوى خائر الوجه، بـاألمس كـان الـذي المحدق للخطر نفسه تعريض في ويتمادى المحاضرات يكثر ابنه يرى وهو حنقا يتزايد اليوم هو وها

بنـاء ا من اآلآلف مع لينطلق الذهبي قيده يكسر وهو المدلل ابنه يتصور منصور الحاج يكن لم فيه، للوقوع أدنى أو قوسين قاب

العواميـة إلـى عادت التي علي خطيبة سميرة أما الغضب من شحنات إلى هدوءه وأثارت كيانه قلبت قد المفاجأة كانت الشعب،

اإلعتقـال، بموجـات مكـان، كـل في خلفتها التي وآثارها باألحداث لتفاجأ قالئل أسابيع دامت البحرين في ألقاربها زيارة بعد

فرحـة استلبتها قد علي إصابة كانت ضيقة، اهتمامات في حصرته الذي تفكيرها شغل قد يكن لم كله ذلك ولكن الشهداء، وقوافل

فـي وائتلفتـا روحهـا مـع روحه تماوجت الذي المنعم الشاب أن تصدق ال فهي عريضة، آماال صدرها في وفرقت به، اللقاء

واشـتعل للمـوت، نفسه معرضا محرم تظاهرات يف هاتفا ليخرج الحريرية حياته يهجر ممتزجة، واهتمامات متطابعة شمائل

مزيـدا منـه تطمـح كانت التي وهي اهتماماتها عن بعيدا بنفسه منزويا عرفته، الذي غير حال في تراه وهي صدرها في اليأس

وهـو وامتعاضـه حنقه اليها شكا حين صدرها، ودفائن قلبها كمائن أثار قد ابوه هو وها األسابيع، تلك عنه بعادها بعد القرب من

. الجهاد سوح إلى عنها غيابه تأبى التي البيت أحضان إلى الشاب بيد لألخذ مساعدا عامال هي تكون أن يرتجي .… كفى … كفى ـ

: استطرد ثم عنهما ظهره وأدار علي قالها !؟ تفهمان أال … به أنا ما يكفيني ـ

:رفق في يقول وهو والداه إلى المتعرق وجهه أدار .بثأره آخذ حتى اهدأ ولن والداه، وفقده حسنا، فقدت لقد ـ

: وقال ابنه كتف على ربت األب، اقترب .. يعود ال الميت إن .… حسنا يرجع لن ذلك ولكن ـ .دمائه حق لحسن وفينا قد نكون المبادئ، تلك تنتصر ويوم تموت، ال باقية مبادئه ولكن ـ

: لتبرموا الضيق نغصها لهجة في الوالد أجاب .. بفقدك تفجعنا ان تريد وهل ـ

Page 40: جمرة في يد الملك

٤٠

: وقال نظراتها وذبلت وجهها اصفر التي خطيبته إلى نظر علي، ابتسم . كثيرة أهدافا احقق حتى أبقى أن حريص اني … ذلك من شيء يحدث لن والدي يا إطمئن ـ .… ولكن ـ

: قائال علي عليه فقطع األب قالها فـي حـر وأنـا ، تستهويني بالنعيم الوارفة الحياة تعد لم طريقي، واخترت تغيرت لقد ة،فاشل محاوالت في جهدك تضيع ال

خطـوة أسـلك أن أمـا … علي خطرا يشكل يكن لم فذاك الضالل، في هائما وجدتني حين أبدا تعارضني لم أنت طريقي، اختيار

.. يزعجك فذلك والكرامة للحرية وسبيال ربي إلى : متأجج وخوف عميق حنان عن تنم ةنبر في الوالد فأجاب

.ذلك على أشجعك اني القرآن، وتقرأ وتصوم، تصلي أن ربك، عبادة من والدي يا أمنعك لم أنا ـ : يردف وهو مستعطفة لهجته صارت ثم كرتـذ أال أيـامي، وذهـاب ، شيبتي ترحم اال تحملها، أستطيع ال للخطر، تعرضك التي واألعمال التظاهرات هذه ولكن ـ

. ذلك تحرمني هل أحضاني، في أبناءك أرى ان وأملي شابا، رأيتك حتى وشقائي تعبي جـل اهللا تبريـر، أي تحـت الجهـاد أترك أن أستطيع ال ولكني ألجلي، وشقاءك علي، حقك أنكر ال انا والدي، يا ارجوك ـ

حرمـان سـعود، آل جـرائم مسلسل نرى ونحن ،الحياة فينا دبت ان بعد الجمود نرضى وهل الركون، في عذرا يعطنا لم وعال

وبـأي كيـف … نـسكت كيف … األفئدة تدمي جديدة وجرائم االسى، من بركان القلوب كبدت قديمة ممارسات واستبعاد، وذل

. عذر . الناس مآسي في وتمد باألمس جرى ما ستكرر هذه أعمالكم ولكن ـ . الظالمين جهاد في اهللا حق أدينا قد بها نكون بل ، والغلبة النصر نحو بنا ستأخذ كانت ان بأس ال ـ

: قائال علي وجه في فصرخ الجديد، طريقه عن ثنيه يسترجي الذي والده قلب في األمل قتل قد كالمه كان بـسبب شـيء كـل سنفقد للهاوية، نزول إنه عنه، تتكلم الذي هذا جهاد اي الهدامة، األفكار هذه صاحب من أعرف ال أنا ـ

… عاشوراء بإحياء لنا يسمح ولن الحسينيات تغلق سوف القادم العام في ، وتهوركم طيشكم الـذي اليـسير النـزر سـلبونا مـا إذا شيئا نخسر ولن السنين، عشرات مغتصبة حقوقنا لدينا، سواء يشاؤون، ما ليفعلوا ـ

. تحديهم من مناص وال حجرا، به أفواهنا والقموا دهرا به اسكتونا التـي الفتـاة هذه فارحم شبابك، على وشفقة شيبتي على رحمة بك تكن لم إن رفق، بال عنيدا أصبحت الكالم، تسمع ال إنك ـ

!؟ والحسرة الضياع لها تنوي هل بك، مصيرها ربطت . القاتل اليأس من مظلمة سحابة عينيه أمام حانقا، وخرج األب قالها تـستيقظ مـا سرعان حلم في أنها اليها يخيل ، تصدق أو يدور مما شيئا تعي كادت وال وهي الساخن الحوار تسمع سميرة كانت

مـا عقلهـا تالقفـت وأشجان صدرها، في إحتبست وآهات خجال، مآقيها في تجمدت دموع كان، كما مرحا شابا عليا فترى منه

: هصف إلى يكسبها أن يحاول وهو قائال علي اليها توجه حتى الستار تحت تختمر تزال !؟ سميرة يا كذلك اليس اآلخرة عذاب من أهون الدنيا عذاب إن ـ

:والحيرة الحزن من الكثير يحمل بصوت فأجابت ؟ بك حل الذي ما دهاك؟ ماذا علي؟ يا اسمع ما أصدق لست أنا ـ

Page 41: جمرة في يد الملك

٤١

.والمخاوف األغالل عنه تاركا جديد لمستقبل ونهوض تغير، من الشعب هذا في حل مما شيء ـ !؟ بذلك أنت أنكش وما ـ

: فأجاب المجهول في هائمة بنظرات منه تقترب وهي سألته ! .. فال اآلن أما ، عزيزتي يا سابقا ذاك ـ !؟ تعني ماذا ـ نقـضي األحـالم، سـراب تطاول اغنية أو مختلفة أحداثا يعرض خيالي فيلم بين أوقاتنا نقضي كنا كيف سميرة يا ارأيت ـ

ال لمـاذا الحقيقـي، واقعنا عنا حجبت التي إهتماماتنا كانت تلك واقعنا، هي كانت لو كما واألغاني األفالم ونتتبع كثيرة، ساعات . إنقاذه مسؤولية ونتحمل جروحه ونعشق الشعب، وآالم مآسي نعيش

: تقول وهي الهادئ صوتها وارتفع فهمه، عليها تعسر كالما منه تسمع وهي غضبا سميرة استشاطت !؟ وذاب األيام مع ذبل قد أنه ذلك من أفهم هل ؟ علي اي وحبنا ـ الجديدة؟ وهمومك أفكارك في هائما إال أراك ال اني

: وقال األحداث بعد مرة ألول بعمق علي ضحك ! لتغييره والجهاد المؤلم الواقع حقيقة من بسياج نصونه حين أعمق حبنا سيكون بل ، بينهما تناقض ال : ابدا ـ ! .. والموت ،، و .. للسجن يعرضك ذلك ولكن ـ

: قائال علي فابتدرها ، عينها من سقطت دمعة تمنع أن تحاول وهي سميرة قالتها وننـتج الـشعب، قصة لتعيشي أدعوك إني األفالم في عقولنا تسترق التي كتلك مثيرة قصة تتكون لن المخاطر هذه وبدون ـ

قبـل هنـا كنت ليتك سميرة، يا آه ودروسا، عبرا منها لتأخذ قراءتها االجيال تتعاقب األحداث خضم في واقعية قصة معاناتنا من

. وتزمجر تزأر وهي المظلومة القلوب وتري حدث ما بنفسك لتشهدي أيام : قائلة سميرة قاطعته

!؟ تحبني انك تقل ألم ! هكذا أراك أن أتوقع أكن لم اليوم، هذا قبل مت ليتني بل ـ بـدون تزيلهـا .. تزيلها أن وعليك الصلدة، الصخرة هذه مثل بشيء حبنا يصطدم لم لحبي، إرضاء األفكار هذه عن لتقلع إذا

. تراني لن وإال تردد زفـرات إلـى دقاته ويحول علي قلب يقرع ظل الذي اإلنذار جرس كلماتها فكانت … باكية غاضبة وخرجت سميرة قالتها

. والصمت الزيف من قفال عليه لتضع ضميره يعطيها ان يستطيع هل لكن لها، ةكثير تنازالت أعطى لقد وعذاب، ألم✽ ✽ ✽

السجناء يعودون ) : ١٠(كان حدث اإلنتفاضة قد الكته األلسن بال خوف أو تردد، وصار نغمة اللحن على شـفاه النـساء والرجـال، والـشيوخ

.مة التي يطل اشعاعها وهاجا رغم أنفاس الظالم الجارة والشباب واالطفال حتى غدا الحقيقة اليتي إخفـاء فـي رهبـة دون بذلنه الذي بدورهن ويفتخرن الشباب وتضحيات الرجال، شجاعة يرددن أصبحن بيوتهن في النساء

قـد رسالمـدا ردهـات في والصبايا البطولة، بيرق األحاديث تلك من وينسجن الخطر، مواقع عن بعيدا وسحبهم المتظاهرين

عـن الكثيـرة سطورها بين يبحثن وهن المكلوم الواقع وقضيتها والجيران، واإلخوان اآلباء أبطالها جديدة لرواية قلوبهن فتحن

. وافتخارا عزا به يتقدمن موقع

Page 42: جمرة في يد الملك

٤٢

ندو اآلفـاق فـي صـرخاته صدى يدوي أن إال يأبى وهو وضجيجا صخبا الدنيا مأل قد المدارس جدران بين الفتي والشباب وهامـت أشـجانها، القلـوب فيـه اسـتنفرت غاضبا يوما عاشت قد القريب، باألمس كانت التي الثانوية المدرسة وفي توقف،

نيرانهـا، تخمـد كي الثواني وتستعجل الدقائق تسبتطأ المدرسة إدارة هواجس تبقى اللحظات هذه وفي الجهاد سماء في األرواح

وهـم المدرسـة باحة اقتسمت التي تجمعاتهم في وبقوا آذانهم، أصموا قد الطلبة ولكن ي،المدرس الدوام بدء معلنا الجرس يقرع

الـسجون ظلمـات غـادروا قـد وآخرون المدرسة، إلى الحضور عن أياما جراحهم أعقدتهم الذين لزمالئهم حار استقبال في

يـداعب كـل ومتانـة، قوة والغضب الثورة صرخات امدتها التي االخوة دفء لبعضها األفئدة لتزف األرواح تتعانق لتوهم،

السجن، تجربة بعد الطليق صاحبه . الالحقون ونحن ، السابقون أنتم ـ . االبواب مشرعة مازالت السجون تستعجل، ال ـ . الرجال مدرسة فالسجن بها مرحبا ـ

. وحيويتها لنشاطها قيدا كان لو كما دالجدي المدرسي اليوم هذا تستقبل الفرح، تستشعر التي وقلوبهم تتعإلى الطلبة ضحكات ببـشاشة وتالميذه االساتذة زمالؤه عرفه الذي العربية، اللغة مدرس مالك االستاذ كان المدرسة، فناء من الشرقية الزاوية في

، والطـالب الـزمالء من أحد وجه في يقفل لم الذي وقلبه الغضب، يخالطها ال التي الهادئة ونظراته السمراء، سحنته تفارق ال أيامـا غيابهم بعد المدرسة إلى حضروا الذين الطلبة أحد برفقة مالك االستاذ كان أمال، اآلخرين تشاؤم يحول الذي الدائم وتفاؤله

: وتلهف شوق في الحديث أطراف يتجاذبان اإلثنان كان الظالمة، السلطة سجون في عديدة . لذلك مشتاق إني السجن، في أخبارك عن لتحدثني طويال جلسنا لو أتمنى كم ـ وعـن عـنكم بعـدي هو هناك آلمني ما أشد إعتقالي، بعد جرت التي األحداث لمعرفة شغف بي مالك، استاذ يا ايضا وانا ـ

. األحداث . جدا القليل إال يفتك لم زهير، يا قادمة األيام ـ !؟ تقصد من ـ . التاريخ مدرس عادل االستاذ ـ !؟ به ماذا ـ ! األحداث حول النقاش في التالميذ مع متجاوبا كان انه علمت ولكني ، دريأ ال . الصمت التزموا وآخرين بحرية ناقش األساتذة بعض أن سمعت وقد اليوم، ذلك في متغيبا كنت أيضا أنا ـ . التشييع مسيرة أثناء المقبرة في عادل االستاذ شاهد أنه الزمالء أحد أخبرني لقد نعم، ـ . الشعب لقضية وتحسسه بألفته ومعروف القطيف في قديم مدرس نها ـ .. السجن في أيضا أنا رأيته لقد ، أستاذ يا شيئا تعرف ال أنت ـ !؟ تقصد ماذا !؟ السجن في ـ . واحدة غرفة في معي سجينا كان لقد ـ !!؟ عادل االستاذ ـ

: زهير فأجابه شديد تعجب في مالك قالها

Page 43: جمرة في يد الملك

٤٣

الـشكل بهـذا بيننـا وجوده يحيط غموضا استشعر أني بيننا، قضاها واحدة ليلة بعد سراحه، أطلق ما سرعان ولكنه نعم، ـ

! بالذات الوقت هذا وفي قـد هـو هـا أوه أكثر، اليه التعرف أحاول سوف ، هنا للتدريس الرياض من أتى انه عنه أعرفه ما كل زهير، يا أدري ال ـ

.زهير اي أخرى مرة أراك ان أرجو أقبل، وبتـردد لتـوه، غـادره الـذي الطالب ذلك عن يسأل أن يحاول وهو مالك االستاذ إلى عادل االستاذ انضم بينما زهير غادر

: عادل االستاذ قال واضح ! علي غريبا ليس وجهه أن أعقتد ـ

! عادل االستاذ مالمح في يتفرس وهو قال ثم مالك االستاذ سكت . أيام قبل السجن في رآك لقد نعم، ـ . الوقت طوال غريبة بنظرات يمطرني كان الذي ذاك أنه … تذكرت أوه السجن، في ـ !؟ القطيف على جديد وأنت عادل أستاذ يا السجن في وجودك قصة ما ولكن

ـ لحظـة عـادل االستاذ وتوقف بالغا، إهتماما أبدى الذي مالك لالستاذ بتفصيل قصته وذكر .… عادل االستاذ أبتسم قـال مث

: مترددا !؟ خدمة منك أطلب أن لي هل … مالك أستاذ ـ ! تفضل والسعة، الرحب على ـ !؟ ذلك في تساعدني هل القطيف، في شقة على الحصول علي المتعذر من أنه وأعتقد شقة، عن أبحث اني ـ .. الخدمة في أنا بالطبع ـ .. استطرد ثم قليال مالك فكر . وأمس اليوم حضر ولكنه أيام عدة متغيبا كان فصلك، تالميذ أحد والد إنه ارات،العق مالك بأحد معرفة لي !؟ ) عليا ( الطالب تقصد هل ـ . وصفوى العوامية في إنها القطيف، غير في والده شقق أن المشكلة ولكن … نعم ـ . القطيف خارج اخرى مناطق لمعرفة فرصة لي ستكون بالعوامية، بأس ال ـ . فرصة أقرب في األمر يف ساكلمه ـ : استعدادك في أشك لم رأيتك، منذ مالك أستاذ يا خيرا فيك تعشمت لقد ـ . عني فعزف مساعدتي حمود االستاذ من طلبت لقد … اآلخرين يساعد أن يحب إنه عادته، هذه ليست أوه، ـ

: وقال بعفوية عادل االستاذ ضحك ! لسبب كان عني عزوفه ـ !؟ كيف ـ

. مستغربا الكم قالها … المدرسة تعم التي والفوضى التالميذ من السلبي موقفه عن كلمته قد كنت ـ

!؟ عنهم غريبا ليس وهو التالميذ لتحركات المعادي موقف حمود االستاذ يتخذ لماذ مستغرب أنا وبالفعل

Page 44: جمرة في يد الملك

٤٤

. كثيرة أشياء لإلنسان يبرر الذات على فالخوف ! تستغرب ال ـ .. التالميذ مصلحة على يخشى أنه وأوضح بشدة موقفه لي برر لقد ـ

. بمساعدتي وعده تلبية في ماطل أخيرا ولكنه قلباهمـا تـألف وقـد األسـاتذة غرفة إلى االثنان واندفع عادل االستاذ قهقهات مع ضحكاته وتماوجت مالك، االستاذ ضحك

. تكلف بدون قلـوب أهتـزت حـين فـي هيجانها واشتد تأججت أن اإلدارة هواجس لبثت وما المدرسي، الدوام بدء على ساعتان انقضت

والعطـاء للظلـم الـرفض مواصـلة إلى التالميذ يدعو درج، كل وعلى فصل كل في وزع الذي المنشور يقرأون وهم الطلبة

بإلحـاح اتحـذيري بيانـا أصدرت المرة، هذه تتريث لم العاقبة، سوء اإلدارة خشيت أخرى، مرة التمرد رائحة وفاحت لإلسالم،

أنـى ولكـن والتخريب، للفوضى محاولة أي حيال صارمة إجراءات بإتخاذ البيان هدد حمود، واالستاذ اإلجتماعي المشرف من

.الركون لهجر الحق دعاهم وقد الطلبة نفوس في يؤثر أن البيان لذلك : معلقا البيان يقرأ وهو يبتسم عادل االستاذ كان !؟ البيان هذا إصدار في دور حمود اذلالست يكون أن أستبعد ال ـ .… صدقت ـ

: عقب ثم مالك االستاذ قالها .… عجيبة أشياء يفعل إنه اإلجراء، هذا باتخاذ المدير على ألح لقد ـ

أصـبح قـد البيـان كان زهير يد وفي يضحكان، وهما ) منصور علي ( زميله قبالة يقف ) زهير ( كان اآلخر الجانب وفي

. المتناثر الورق من صغيرة قطعا جوز ثائر

بيوتات المدينة العارية كانت تغط في نعاس عميق بعد أيام متواصلة من القلق والرعب واإلرهاب ، وهي تعـد أمرهـا .أليام أخرى ومسيرة طويلة تكلفها الكثير ، وهو حق على أمة تتوخى الحياة

تأبط جدرانه المرقعة بفتحات صغيرة للتهويـة، وأبوابـه الخـشبية البيت الطيني يربض كأنه تراث حي، سقوفه الهابطة ت .تأخذ شكل المحراب وقد أطرت بنقش أسالمي فأعطت للبيت منظرا آسرا رغم تواضعه وأوحت برفعة شأن أصحابه

لـشيخ بين جدرانه، كان الجد يتوسط جمعا من الشباب المؤمن، جاءوا لزيارته وفي قلوبهم غمرة من اإلعجـاب بهـذا ا .العجوز الذي ما فتئ يبذل جهده في تسديد خطى اإلنتفاضة القائمة ويدعم مسيرتها

.ـ إننا أيها الجد نؤكد حاجتنا إلى أمثالك في كل خطوة من خطواتنا :قالها أحدهم وهو يتطلع وجه الشيخ الوقور الذي أطرق إلى األرض تواضعا، ثم رفع عينيه قائال

.جاز ضخم تتحمل مسؤوليتة كل فئات الشعب ـ الثورة يا أبنائي إن : أغمض الجد عينيه ثم تمتم

:وأضاف بصوت خفيض أعطاه الوقار وقعا في القلوب .. الحمد هللا …ـ الحمد هللا ـ أن مجتمعنا ما زال نواة حية رغم عوامل اإلنحالل والغزو الفكري البشع الذي خطط له بدهاء، النـواة الحيـة تنمـو

… تتوفر لها األرض الخصبة والمناخ المالئم بينما ال ينفع مع النواة الميتة أي إجراء وتترعرع حين .مجتمعاتنا كذلك، الجهود الخيرة سوف تؤتي فيه أكلها

Page 45: جمرة في يد الملك

٤٥

وعلى رسمات الوجه بدت عالئم اإلرتياح والسكينة، ثم تقدم أحدهم بمنـشور إلـى الجـد ) بإذن اهللا ( ارتفعت األصوات :قائال

!ت هذا المنشور أيها الجد ؟ـ هل رأي .ـ أوه، يا له من عمل عظيم، لقد شوهد هذا المنشور في كل مكان، وكل يد، ولكن

:توقف الجد برهة واالنظار معلقة على شفتيه المختفيتين تحت لحاه الغليظة وشواربه الكثيفة، وقال بنبرة النصح .ثغرات صعبة ـ حذار يا أبنائي أن يأخذكم الحماس الطاغي فتقعوا في

:أجاب أحدهم وقد بدا مستغربا !ـ هل تعني عدم موافقتك على مثل هذه المنشورات ؟

:ابتسم الجد وقال في رفق ـ على العكس تماما، فأنا شديد التأييد لمثل هذه االعمال الثورية، ولكني أذكر بأن تركيزنا ينبغي أن يصب فـي ضـرب

هناك من ال يؤيد الثورة والتحرك مثل بعـض الوجهـاء والمـشايخ التقليـديين، السلطة وتصعيد الصراع معها، وإن كان ....فلنتغاض عنهم

: سكت الجد هنيهة ثم قال بصوت أفرغ فيه كل إحساسه .كل شيء .. ـ األيام يا أبنائي قادرة على تغيير كل شيء

ـ كيف ؟ :سأل أحدهم فأجاب الجد

بهة للعداء معهم، قد ال حظت وقوعكم في مثل هذا الخطأ حين هـددتم بعـض ـ أقصد أنه ليس من الصحيح أن تفتح ج .الوجهاء المتخاذلين

.ـ ولكنا نخاف أن يقفوا ضدنا إن أمنوا جانبنا :فتح الجد عينيه قائال

صـدقه الـشباب وكذبـه الكبـار والـشيوخ وذوو ) ص(ـ هل تتوقعون تغييرهم بين عشية وضحاها، الرسول محمـد .ولكنهم ما لبثوا أن أصبحوا معه األموال،

ـ صدقت أيها الجد، ان وقوف الوجهاء معنا هو أمل عظيم، نتوخى منه الخير الكثير، خصوصا بعد تمـادي الـسلطات في أعمالها اإلرهابية ، وتزايد مسلسل الرعب واإلجرام الحكومي، تصور أيها الجد أن قوات الحرس ما زالت مبرحـا بـال

.واشبعوا العمال ضربا، ثم إعتقلوا عشرة افراد منهم ) أرامكوا ( ا أحدى سيارات شركة مبرر، وقد أوقفو . ـ إن بذر الرعب والهلع في نفوس الناس وسيلة السلطات لقتل الثورة، انهم يحكمون على شرعيتهم بالزوال

.قالها الجد وقد احتقن وجهه بغضب حول تجاعيده إلى سهام حادة باإلنتقام !ها الجد، وقد أشيع خبر أن السطلة تنوي توزيع بعض األراضي على المواطنين ذوي الدخل المحدود ـ نعم أي

.ـ أسلوب آخر المتصاص نقمة الجماهير المؤمنة :صمت الجد وسحب آهة مؤسية وقال مستطردا

.ـ الترهيب والترغيب، عصا غليظة وأكواب من العسل المصفى :ه إبتسم أحدهم وقال مكمال حديث

Page 46: جمرة في يد الملك

٤٦

ـ ولكن خطتهم قد رجعت عليهم بالوبال ؟ .. ـ كيف

:سأل الجد وبانت الدهشة على وجوه بعض الحاضرين فقال الشاب ـ لقد اعتاد جالوزة النظام مبدأ الوحشية في التعامل مع أبناء الشعب، وقد ذهب خمسون رجـال إلـى مركـز البلديـة

فوجئوا بالضرب المبرح من قبل قـوات الحـرس والـشرطة بأعقـاب ينتظرون توقيع استمارات تملك األراضي، ولكنهم .البنادق والهراوات

!إنهم أوباش ! ـ الهذه الدرجة تصل دناءتهم وقسوتهم ؟ ـ مهال أيها الجد، فاألمر قد وصل إلى إعتقال البعض منهم، وعليه فإن النقمة عليهم

.ستصبح أشد وأعظم .ها ـ إنها ممارسات ال يمكن السكوت علي

:قالها الجد وضرب بعكازه سطح األرض بقوة فأجاب الشاب بعد تفكير ـ نقترح أن تعرضوا األمر على المشايخ والوجهاء ليقوموا برفعه للملك شارحين فيها هذه الممارسات، رغم علمنـا أن

.الملك هو رأس األفعى، ولكن األمر فيه شيء من الضغط المطلوب .. ذلك ال بد من .. نعم …ـ نعم،

:قالها الجد مؤكدا ثم استطرد .لقد وعدت الشيخ عبد الخالق بزيارته، وسوف أتناول معه هذا األمر

! هل تنصحنا بشيء آخر ؟…ـ أحسنت العمل ايها الجد :وضع الجد ذقنه على رأس عكازه مفكرا ثم رفعه قائال

لكثير من ثمرها، وهي مرحلة أولى، ولكـن تبقـى مرحلـة ـ هل رأيتم يا أبنائي، شجرة اللوز حين تهز بعنف، يتساقط ا .أخرى وهي جمع الثمار

اإلنتفاضة هزت كيان الشعب، وغيرت الكثيرين وبدلت مفاهيم وقواعد وأسسا، وبقي جمع هذه المكاسـب لتـصب فـي !مجرى الثورة التي قد تستمر سنوات طويلة

!ـ سنوات طويلة ؟ ستطرد؛ قالها أحدهم باستغراب شديد ثم ا

.ـ كنت أظنها سنين قالئل ثم يكتب اهللا لنا النصر .ـ سيكتبه لنا اهللا حين نكون أهال له قادرين على حمايته وصونه

: تقدم أحدهم من الجد ، قدم اليه عددا من مجلة الشهيد، أخذها الجد، تصفح أوراقها ثم إبتسم قائال .لة، أرجوا أن تزودني بأعداد أخرى لتوزيعها ـ إني معجب جدا بهذه المجلة وثقافتها األصي

.…ـ هذا بسيط أيها الجد .ـ بارك اهللا فيكم، نسأل اهللا لكم التوفيق

بداية الضغوط

Page 47: جمرة في يد الملك

٤٧

كان الجد قد وفى بعهده، ذهب في اليوم التالي لزيارة الشيخ عبد الخالق، الذي تلقى سنوات طويلة من العلم فـي النجـف ماعية بين الناس، فكان يقيم صالة الجماعة، ويتولى جمع األخماس والحقوق الـشرعية، توجـه األشرف، واعترش مكانة إجت

اليه الجد وفي قلبه المكلوم رجاء أن يكلل اهللا مساعيه بالنجاح، ولكن جريان الحديث منذ بدايته كان قد أطفأ ومـيض األمـل :في فؤاد الجد الوقور، وقد إبتدره الشيخ عبد الخالق قائال

!إني متخوف عليك أيها الجد، مواقفك التي رأيت تجعلك موضع إستغالل من قبل اآلخرين ـ !ـ ماذا تقصد ؟

.أقصد إن ما يحدث أشبه بالفتنة، وعليك أن تكون فيها كابن اللبون، ال ظهر فيركب وال ضرع فيحلب .. ـ أقصد ـ انها تسمية خاطئة أيها الشيخ، مقارعـة الظـالمين : لإتكأ الجد على عكازه بقوة كأنه يلملم نار حسرته لما يسمع، ثم قا

!والمطالبة بالحقوق، أعظم الجهاد، ومساندة هذا السبيل هو الموقف الصواب، فأين موقفك أنت من ذلك ؟ .. ـ التقية ديني ودين آبائي، نحن ال نستطيع أن نعفل شيئا إال بفتوى من المراجع وهذا ما لم نحصل عليه بعد

أمر ال يستدعي فتوى أو تأييدا أو نقضا ، انها مسألة واضحة كوضوح الشمس والسكوت عن الظلـم مـشاركة ـ ولكنه .فيه

:اصطبغ وجه الشيخ باحمرار شديد، سكت هنيهات ثم أجاب ـ لقد أثار هؤالء الناس زوبعة ليسوا بمستوى مقارعتها، أصبحت البالد غير آمنة، ننام الليل ونخشى أن نـصبح ونحـن

.في السجن، الخوف مأل قلوب الناس صغارا وكبارا :قالها وقد تغيرت سحنته إلى إصفرار شديد فعاجله الجد قائال

لعلـك تتحـدث ! ثم من قال أن الشعب يعيش في حالة خوف ؟! السلطة أم الناس ؟ ! ـ من الذي أثار الرعب والخوف ؟ .أما الناس فقد طلقت الخوف بال رجعة! عن نفسك فقط ؟

سكت الجد وأخذ يتطلع إلى الشيخ الذي ذبل وجهه وبانت عليه مالمح الضيق لهذه الصراحة التي أحرجت كبريـاءه ثـم :قال للجد

.ـ أين هم أولئك الذين أثاروا المشاكل، لقد هربوا خارج البالد، أشعلوا النار ولم يذوقوا حرها .وتتقدم كما هاجر الرسول وصحبه ـ لم يفعلوا ذلك هربا، لقد هاجروا لتستمر المسيرة

! ـ ولو أرادوا الجهاد لبقوا هنا في الصفوف األمامية ؟ـ في الخارج سوف يستطيعون إيصال حدث اإلنتفاضة للعالم أجمع ويشكلون خطرا أعالميا على الـسلطة، ال تـنس أن

.السلطة السعودية تتحسس كثيرا لإلعالم المضاد قشك في هذا األمر المفروغ منه، ولكن جئت اقترح عليك وعلى المـشايخ اآلخـرين أن تفعلـوا وعلى كل أنا لم آتك ألنا

أشـياء كثيـرة …شيئا لوقف الممارسات االرهابية االخيرة، اعتراض الناس في الشوارع واعتقال العمال وخداع السذج و .عليكم أن تطالبوا السلطة بوقفها

:ولكنه بعد لحظات قال في حنق …سكت الشيخ ولم يحر جوابا لما سمع .ـ إنها مسؤولية الوجهاء، ان لهم شأنا يفوقنا لدى السلطة

:أجابه الجد بصرامة واضحة

Page 48: جمرة في يد الملك

٤٨

انها مسؤولية الجميع، سوف أتولى كتابة البرقية إن لم تفعل ذلك، وأمررها عليكم للتوقيع، فكروا فـي مـصلحة …ـ ال !المراكز والمصالح ؟ إلى متى سنبقى سجناء …الشعب مرة واحدة

:أطرق الشيخ بعينيه إلى االرض هاربا من عيني الجد النافذة ثم قال متبرما .ـ حسنا أيها الجد، سوف أتصل بالمشايخ والوجهاء ونسوي األمر بيننا

الشك يتصاعد وجوده من يبذلون مهجهـم طوفان الثورة ال يخلقه السراب، وال تحكم هيجانه الصدفة واألقدار، إنه ألمر عظيم يستدعي

لتجميع قطرات الشجاعة والجرأة، وتحريك زفرات األلم واللوعة لتتحول جرفا للنفاق والظلم، اإلنتفاضـة ال تـأتي صـدفة !بدون محرك، فمن يقف وراء هذه النهضة المفاجئة للمنطقة الشرقية ؟

ائج فكان همه فيها وشغله الدائم بهـا، وقـد سؤال راود االستاذ عادل الذي إعتصرت األحداث أحاسيسه في خضمها اله خسر الجولة االولى حين رمى بسؤاله ذاك تالميذ الفصل، وأوشكت األفواه أن تبوج بالسر وتسدل الستار غيـر أن مـستخدم

. …المدرسة بدخوله المفاجئ قد قطع كل شيء أن حظـرت اإلدارة أي نقـاش خـارج ولكن االستاذ صمم على خوض جولة أخرى بغمارها التي قد تكلفه الكثير بعد

…موضوع الدروس والمنهج المقرر :قال االستاذ وهو يفتح ثغرة واسعة لما في صدره

.ـ أعقتد أن المدرسة هنا باتت مرآة لألحداث ومجرياتها إنتظـار وأردف بعـد .. سكت وأخذ يتفرس في وجوه التالميذ وفي عينيه رجاء مستتر أن ال يرد اليه صدى سؤاله خائبا

:وجيز ـ المنشورات مثال والتي أفزعت المدرسة بكثرتها ودقة توزيعها بحيث وقعت في كل يد، هي جزء بـسيط ممـا يعـم المنطقة ، أعتقد أن لهذا عمقا أكبر من مجرد استنفار ألشجان سنين طويلة من الظلم، وهي لم تأت عبثا ، وراءهـا قيـادات

. … أليس كذلك …وفئة محركة وقبل أن يـتكلم أحـد . …حب السكون عمامته، فساد همس وهمهمات سرعان ما أرتفعت وصارت أشبه بصوت النحل س

ولكنها باتـت مألوفـة لـدى االسـتاذ بعـد . …من التالميذ، برز زهير في مقعده، وسدد نظرات غريبة إلى االستاذ عادل : قال زهير في نبرة واثقة …تكررها

.ام بها الشعب، كل الشعب ـ الثورة فجرها الظلم، وق :فأجاب االستاذ وهو يرد هزيمة المحاولة الخائبة

ـ هذا صحيح، ولكن الناس بحاجة إلى من يدفعهم، في إيران كان اإلمام هو الدينمو الذي فجر الثورة ـ :حملق زهير في وجه االستاذ بعينين تنضحان حقدا وحنقا وقال مستهزءا

!! وإال فلنشرع في الدرس …ا على أسماء، ان كنت تتقصى ذلك فعليك بقسم المباحث هل يتصور بأنك ستحصل منكلمات زهير كانت صريحة، صلدة ليس بينها ثغرة، وضعت بين االستاذ وهدفه حجابا ثقيال، ورشقته بعـشرات األسـئلة

هل يقصد أن الثـورة مـن ! ذاك ؟عن تصرفات ذلك الشاب بحيث بات من العسير عليه فهمها وتفسيرها، ماذا يعني بكالمه شأنهم فقط، وال شأن لآلخرين بها، ام أنه يعتبر ذلك السؤال نبشا في األسرار التي ال تذاع، أم أن شـيئا مـن الغـرور قـد

! ؟…تملكه فاستصغر اآلخرين وتساؤالتهم

Page 49: جمرة في يد الملك

٤٩

في كتابة الدرس وهـو يجتـر فـي ليعطي ظهره للتالميذ، لحظات بسيطة انهمك …إستدار االستاذ إلى الخشبة السوداء …نفسه الحيرة والقلق وقبل أن يعطي وجهه للتالميذ جاهد على محو آثار الهزيمة من وجهه

االستاذ مالك كان يجلس إلى مكتبه ، يقلب األوارق في هدوئه المعهود، يصحح الكراسات بدون سأم حتى كأنه قـد خلـق أقبل االسـتاذ عـادل عليـه، ودون .. ئدا ، وممرضا ماهرا للعقل والروح معا ليكون كل شيء، معلما محبوبا ، وثائرا را

تردد، أطبق االستاذ مالك الكراسة التي بيده وتوجه بكله إلى االستاذ عادل وقد ألف منه حب الحديث معه فـي الـدقائق مـا : بين الدروس وقال في إشراقة وبشر

. …ـ أهال أستاذ عادل :ل مباغتا صاحبه وقال االستاذ عاد

!ـ هل تعتبرون استماع األجنبي والغرباء ألخبار اإلنتفاضة امرا مستغربا ؟ :إبتسم مالك في رفق وقال !ـ ماذا حدث يا عادل ؟

:قال االستاذ عادل في حيرة بالغة جـردة كتلـك التـي أهي كراهيـة م ! ولكني ال أملك تفسيرا لنظرات الطالب زهير المسددة لي كالسهام ! ـ ال أدري

أم أن ـ …عهدتها في الرياض الذي ال يألفون الغرباء ـ ولكني لم أجد مثلها هنا من قبل :قهقه االستاذ مالك طويال ثم قال

. يقال إن جسر الحب أوله كراهية حادة …ـ لعله يحبك :ضحك االستاذ عادل بإفراط حين داهمه مالك بذلك الجواب ثم قال مداعبا صاحبه

!ولعل الحب قد بدأ في سجن القطيف :واستمر االثنان في دعاباتهم، ثم قطع مالك األمر قائال بجد

.…ـ أوه تذكرت، سوف أصطحبك بعد الدوام لرؤية الشقة التي أخبرتك عنها …ـ سأكون لك ممتنا

بان من بعيد متجهما كـأن همـوم هم االستاذ عادل باالنصراف ، ولكنه عاد فتوقف مكانه وهو يلحظ االستاذ حمود الذي :الدنيا قد صبت على هامته الصغيرة كان يحاول المرور أمامهما فال يتوقف ولكن االستاذ مالك استوقفه قائال

! كيف حالك ؟…ـ أهال بك استاذ حمود :قال االستاذ حمود في تبرم

. إني بخير …ـ بخير، انظر إلي أال تراني :قائال فابتدره االستاذ عادل

! ما بك ؟…ـ ولكنك تبدو كئيبا يا صديقي : تأفف االستاذ حمود وزم شفتيه ثم هز رأسه المثقل وقال

!ـ ال شيء ، ولكني أشعر بأن المتاعب ال تنتهي أبدا :فقال االستاذ مالك وهو يضع كرسيا ويدعو االستاذ حمود للجلوس

حل بك ؟رويدك يا زميلي ، ال تستعجل وقل لنا ماذا

Page 50: جمرة في يد الملك

٥٠

:أجاب االستاذ حمود نافضا عنه شيئا من ضيفه ـ باألمس كنت في بقالة أخي، فوجئنا بخمسة من رجال الحرس الوطني ، دخول البقالة ، مألوا منها أكياسا مـن المـواد

.…الغذائية، سألهم أخي الحساب :سكت االستاذ حمود برهة ثم قال وهو يهز رأسه

راجعون، ال حول وال قوة إال باهللا ، هل تدريان بم أجابوا ؟ـ إنا هللا وانا اليه :قال االثنان في اهتمام بالغ

..ـ كال :ـ قالوا ونظراتهم تحمل سخرية وغرورا

…) الحساب عند األمير عبد اهللا ( : حاول مالك أن يخفي ضحكة غص بها حلقه ثم قال

:ف ـ ولكنه أمر يحدث لكثيرين هذه األيام، وأردـ ألم تسمع عن ذلك المشكين الذي صنع وليمة لمدير المخابرات كي يقي نفسه وأهله شر المتاعب، ولكنه أعتقـل فـي

!اليوم التالي لتلك الوليمة المعتبرة :فقال االستاذ عادل في نبرة واثقة

! ـ يبدو أن السلطات مصممة على إفهام الناس أن ال مجال للمساومة معها :فأضاف مالك

ـ أو أن ضريبة اإلنتفاضة تقع على كاهل الجميع، أينما كانوا وكيفما كانوا، ولكن االستاذ حمود الذي لم يجـد لتعقيـبهم :فائدة قال في تأفف ملحوظ

.ـ هذه األحداث ال بد أن تنتهي ، أني أتعجل إنتهاء هذين الشهرين :قال في إشفاق وظرافة ظاهرة وكأن االستاذ مالك قد سنحت له الفرصة ليكشف أوراق الرجل ف

!ـ ولماذا تتمنى ذلك، لتنتهي األحداث أم لتعجل تزواجك ؟ـ لالمرين معا ، لقد سمئت تأجيل الزواج في كل مرة، وال أعتقد أن هذه األجواء المليئة بالدماء والمصائب ستسمح بـه

… :فقال االستاذ عادل

! ؟ـ ولكن ما الذي دعاك لتأجيل الزواج في كل مرة .ـ األقدار تترصدني دائما لتعرقل الزواج وال أعرف عنها مفرا

!ـ كيف ؟قبل ستة أشهر حددنا ليلة الزفاف فتوفي أحد أقرباء خطيبتي قبل ليلتين منه، وفي المرة الثانية أصيب أخي بحـادث فلـم

ن النزاع قـد حـل بـين أهلـي وأهـل وفي الثالثة كا…يستحسن أهلي إقامة الزواج إال بعد شفائه وخروجه من المستشفى وال أدري …خطيبتي حول تحديد موعد الزفاف نفسه وأمور اخرى تافهة، فلم يصلوا إلى اتفاق حتى جاء محـرم وصـفر

.كيف سيكون الحال في ربيع :أجاب االستاذ مالك مجامال

Page 51: جمرة في يد الملك

٥١

ـ ال تتشاءم يا صاحبي ، ستتحسن األوضاع حتما وسيتم زواجك بإذن اهللا ـ .بإذن اهللا ـ

.قالها حمود وابتعد عنهما منصرفا ، بينما بقي االثنان يبتادالن نظرات الشفقة على ذلك المسكين في الطريق إلى العوامية استرقت عيني االستاذ عادل الشعارات التي مألت الجدران حتى لم يكن يـرى شـارعا خاليـا

:منها، فابتدر االستاذ عادل صاحبه قائال . أن شعارات الجدران هي وسيلة االعالم األولى التي يستخدمها كل شعب ثائر ليعبر عن نفسه ـ أعتقد

:فقال االستاذ مالك مؤكدا سكت مالك لحظة ثم أضاف وهو يجول بنظراته بـين كتابـات …ـ ال شك فهي الوسيلة التي ال تستطيع أي سلطة منعها

.…حث كثيرة منها الواضح ومنها ما أزاله رجال المبا ……ـ الجدار هو الصفحة األولى لكتابات الثائر

كان كل شيء ينم عن ثراء موفور، األثاث الفاخر يسترق النظر بألوانـه المتناسـقة ) منصور الحداد ( في منزل الحاج نـافس والتي تشبع الذوق الفني إبتهاجا ، والثريات الضخمة تتدلى بفخر وسط غرفة الضيوف ذات السقف المزخرف الذي ي

زخرفة السجاد اإليراني الرائع والذي غطى األرض فأعطاها سعة وجماال ، وازدانت الشبابيك بستائر مخملية تتـدلى إلـى …األرض، تحجب أشعة الشمس إال شيئا قليال منها ينفذ عبر اللون الوردي المشع

:وقال االستاذ مالك مقدما صاحبه للحاج منصور نا في المدرسة الثانوية، ـ االستاذ عادل ، مدرس مع ..ـ أهال وسهال ، تشرفنا بكم

:قالها الحاج فأضاف مالك ! فماذا تقول ؟…ـ في الحقيقة أن االستاذ بحاجة الستئجار احدى الشقق هنا

:سكت الحاج ثم قال مترددا إحـداهما اسـتخدمت …كان ولكني لست واثقا من مقدرتي على تأجيرك، فلدي فقط شقتان خاليتان مـن الـس ! ال أدري

…كمخزن بصفة مؤقتة، واألخرى كلمني فيها البعض ولست :فقال االستاذ مالك مقاطعا

…ـ حاول أن تصرفهم عنها، فقد واعدت االستاذ خيرا خصوصا وانه أستاذ ابنك علي .. صحيح … أستاذ علي …ـ أوه

:وتوجه الحاج إلى االستاذ عادل سائال .ترى ما هي أخبار علي في الدراسة .. لماذا لم تقل ذلك منذ البداية … بك ـ أهال وسهال

.ـ أوه، يبدو أنه طالب مجتهد، رغم إني لم أتعرف عليه جيدا فقد كان متغيبا أليام عديدة .ـ نعم لقد كان مريضا، ارجوا أن تعذره

.ـ ال عليك، اإلنسان معرض للمرض والتغيب ، هذا أمر معتاد .على كل يا أستاذ عادل، سوف أحاول أن أؤجرك هذه الشقة ـ

..ـ إن كرمك يغمرني يا حاج

Page 52: جمرة في يد الملك

٥٢

.ولكن تفاءل خيرا .. ـ ال تقل ذلك، فإني خجل إن لم الب طلبك بسرعة في طريقه إلى العودة ، حيث شقته المؤقتة ، كانت االسئلة تتخاطر عليه حول ذلك الطالـب المتـرف، الـذي يعتـرش

الده المكونة من العقارات والشقق المؤثثة، كيف تنسى نفسه كل ذلك النعيم لتشارك في اإلنتفاضة رغـم مخاطرهـا مملكة و !؟.. ؟؟ وما الذي يدفعه للمشاركة وهو يملك كل ذلك ..

:وتمتم االستاذ عادل ) .حقا إن األمر يأخذ أبعادا كثيرة (

ت أفكاره، فتح باب الشقة، وعند الباب كانت ورقة بيضاء ملقـاة علـى وفي الشقة كانت مفاجأة شديدة قد داهمته، وصعق األرض ومن الواضح أن أحدهم قد أدخلها من شق الباب، رفعها من األرض، فوجئ بأنها المنشور الذي وزع في المدرسة

:منددا بمن يتعاونون مع السلطة أو يهادنونها ، وقد كتب على المنشور ) ق أننا نعني ما نقول خاص باالستاذ عادل، ث(

:وتساءل االستاذ عادل في حيرة تقلع تالبيب فكره ! ؟؟) ماذا يعني ذلك (

وإلى أين ستصل هـذه الظنـون ! من وضع هذا المنشور، هل هو ذلك الشاب الذي تمادى في ظنونه وتصرفاته الغريبة ؟ !؟

:اهتز جسده بقوة وهو يقول ) !األمر بات خطيرا (

مهمة صعبة كانت سميرة قد انزوت في غرفتها بالطابق العلوي من الدار بعيدا عن أفراد أسرتها وسمرهم أمـام شاشـة التلفزيـون الملونة، إذ لم تكن تشعر اإلستقرار النفسي، أو هدوء البال، فالقلق إستبد بها كثيرا ، فغير مرحهـا إلـى جمـود، وتالشـى

اتت ترى الواقع كابوسا من الحلم المفزع وشبحا تنظر آثاره التـي غـزت كـل األمل في وجدانها، وودع النوم أجفانها، فب قطعة من كيانها، وهي ما برحت تسكب الدفء على قلبها حين تتذكر األيام الخوالي بين الحب الذي غمر قلبيهمـا واألنـس

دة وتعلق بها، ولكنها اليـوم ال الذي سكن فؤاديهما حتى كادت الطبيعة تتراقص لهما وهي تغبط شبابهما الذي احتضن السعا تجد من تلك السعادة إال أحالما وسرابا، وهي ترى خطيبها يخطو نحو المجهول ويرمي بأحالمه إلى واد آخـر غيـر الـذي

:عرفته، وهي تسائل نفسها أين ستكون من ذلك وهي ما زالت تقف مشدوهة أمام األحداث التـي عـصفت بالنـاس فلملمـت القلـوب واألرواح واعتصرت السرائر، حتى زميالتها من الفتيات شهدت منهن تطلعا نحو ذلك الوادي الذي يتحدى جبروت الواقع المـزري، فال تجد الواحدة منهن إال وفي عينيها حب جديد للنور الذي ينبعث من هناك، أضاءته شمس اإلنتفاضة فأوضـحت مـسالك

.الطريق …ولكن

! تلك التي صبت على فؤاديهما حمما من األسى واللوعة، أليس لعناده حد يقـف عنـده ؟ ما بال خطيبها قد جفاها بقطيعته ! ولماذا ال يداوي جرحها بصفحه ؟

Page 53: جمرة في يد الملك

٥٣

تساؤالت كثيرة كانت تراود الفتاة وتخنق هدوءها، رنين الهاتف في غرفتها قد تتابع دون جواب، يعـاود الهـاتف دقاتـه .ليوقظها من ضوضاء أفكارها

تحمر وجنتاها وهي تسمع نبرات علي الهادئة، تضع السماعة وهي ال تكاد تصدق أنها على موعـد مـع ترفع السماعة، .خطيبها الذي هجرها تلك األيام القالئل فاحتضرت بسمة األمل على شفتيها

! ؟. …ولكن ما الذي دعاه لإلتصال بها غيره من االماكن السياحية وهل شعر بثقـل وطـأة هل غلبه الحنين لتلك النزهات التي اعتاداها إلى شاطئ نصف القمر و

ولكنها كانت تستشعر اإلصرار في كالمه والـصدق فـي نوايـاه، ! الفراق على روحه ؟ وهل ترك عناده وأفكاره الثائرة ؟ !فكيف يتراجع إلى الماضي الذي رآه صفحة من الضالل ؟

وجفلت سميرة علـى ذلـك الخـاطر ! أفكاره الجديدة أم أن األمر ال يعدو مجرد مقابلة كل ما بينهما ما دامت ترفض وظل الزمن يعرج بها بطيئا حتى خان الموعد وتوجسها يزداد شدة ويطبع ذبوال حادا علـى رسـمات وجههـا …المخيف

هـذا الناعم، ولكن اللقاء قد رسم روعته في عينيها وألهمها شيئا من الثقة باأليام القادمة وهي ما تزال ال تعـرف أي علـي هل هو ذلك الشاب الذي يهوى الدنيا بجمالها وترفها ؟ أم هو ذاك الذي صنعته اإلنتفاضـة وذابـت ! ؟..الذي يجلس قبالتها

روحه في هموم الشعب وقضيته، سألته ؟ !ـ إلى أين سنذهب يا علي ؟

:فأجابها بثقة وهو يتأمل عينيها الغارقتين في المجهول !ماذا تتوقعين ؟ :ل قالت في دال

!ـ نزهة إلى شاطئ نصف القمر !ـ نعم نزهة ولكن في رحاب اإلنتفاضة

!ـ ماذا ؟ .قالتها وسكتت بعد أن عقدت الدهشة لسانها فأجابها علي بثقة

.ـ نعم يا عزيزتي، إنها فرصتك لتقدمي خدمة عظيمة لشعبنا الثائر : هزت سميرة رأسها في ضيق وهي تقول

. في كالمك ـ أرجوك يا علي كن جادا .ـ إني أعني ما أقول يا عزيزتي

! ـ ولكن كيف ؟ـ لدي رزم من المنشورات وثالثة عناوين في مناطق مختلفة سكت برهة وأخذ يحملق في نظراتهـا التائهـة، ابتدرتـه

:قائلة !ـ والمطلوب ؟

الحسين التي توافـق أربعينيـة شـهداء ـ أن تتولى إيصال هذه المنشورات التي ستفجر البركان ثانية في أربعينية اإلمام .اإلنتفاضة !ـ أنا ؟

Page 54: جمرة في يد الملك

٥٤

:قالت ذاهلة حائرة فأجابها .ـ نعم أنت

!ـ ولكن هل أستطيع ذلك ؟ .ـ بالطبع

!ولكني ال أستطيع المجازفة في أمور خطيرة كهذه :ابتسم علي وقال مداعبا

ثم أن كونك امرأة يبعـد الـشك عنـك …لو مرة واحدة ـ ال تنسي أنك تحبين المغامرة وتتمنين لو أتيحت لك الفرصة و .ويسهل عليك اجتياز فلول الحرس والشرطة

: ثم قالت …تنهدت سميرة !ـ ألهذا جئت لمقابلتي يا علي ؟

.ـ وسأكون فخورا بك وبتضحيتك لشعبنا المؤمن ـ وهل هذا هو استرضاؤك لي ؟

.ي واثق أنك سترين ما أرى عما قريب وتكونين أشد إيمانا مني إن…نحن لم نختلف بعد .. لماذا ؟ .. ـ أرضيك ؟ :ومد إليها رزم المنشورات وهو يربت على كتفها بيد حانية ثم قال

. ال تترددي …ـ هيا يا سميرة .أخذت المنشورات بيدين ترتجفان وهي ال تدري ماذا حل بها لتفعل ذلك

المنشورات في كيس تقصد إيصالها إلى العناوين المعينة التـي اعطيـت وفي اليوم التالي كانت سميرة قد وضعت رزم اليها، كانت فرائصها ترتعد فزعا وهي ال تكاد تصدق كيف قبلت هذه المهمة التي ما تصورت أنها ستقوم بها في يـوم مـا

لـى أي حـال تغمرهـا وسط الرقابة المشددة من قبل رجال المباحث وقوات الحرس الوطني الموزعة هنا وهناك، ولكنها ع أحاسيس لذيذة لم تعرفها من قبل، لذة ال تقل عن تلك التي الفتها في النزهات مع حبيبها أو صـديقاتها ، ورضـا تستـشعره

.مع شيء من التحدي واإلصرار لتـي استقلت سيارة اإلجرة، وطوال الطريق كانت تنظر يمينها وشمالها وكأنها ترى العالم ألول مرة بعينهـا الجديـدة ا

بدأت تعرف معنى آخر للحياة، أسمى وأشمل من ذي قبل، النخيل كانت تشاركها لذة التحدي بطولها الفارع نحـو الـسماء، وجذورها التي تمد إلى عمق األرض والسنين، واالشجار بإصفرار أوراقها تعكس في ذهنها الخريف الطويل للشعب الـذي

األرصفة في براءة اللعب، تمنيها بمستقبل مشرق يقوض الظـالم إلـى يذوق مرارة الظلم والصبر، وصورة األطفال على .، والشعارات التي مألت الجدران تشخذها عزما وحماسا .غير رجعة

وفي الطريق إلى القطيف، وعلى مشارف تلك المدينة الصامدة، كانت مفارز من قوات الحرس الوطني توقف الـسيارات .ة األولى التي قد تفقدها ما اكتسبته في اللحظات السابقة المارة للتفتيش، وكانت تلك الطام

كيف سيكون الحال فيما لو اوقفت للتفتيش، يا رب وفقني لتجاوز هذا المـأزق، ال أسـتطيع تـصور وقـع .. يا الهي ( وفـق ..المنشورات في أيديهم ، والصدمة التي قد يصاب بها علي ورفاقه، والخطر الذي قد يحدق بهم، يـا رب يـا رب

) .مسعاي، ابعد عني كيدهم

Page 55: جمرة في يد الملك

٥٥

كان قلبها قد ذاب خشوعا، خشوعا من نوع جديد لم تأنسه في الماضي، وهي ال تكاد تفطن الخوف على نفسها، بـل لقـد .تضاءل بشدة أمام خوفها على علي ورفاقه

اوه يا لغرابة األمر، هل هذا هو نفسه شعور المضحين في سبيل اهللا والوطن ؟( :ثم تمتمت .. ها سألت نفس

.ـ انه بال شك شيء منه اقربت سيارة اإلجرة من مفارز التفتيش، نزل الركاب جميعا ، فتشت السيارة، ثم فتش الرجال، ولحسن الحـظ أسـتثنيت النساء من ذلك، الفرحة كانت تتراقص في قلبها وهي تذوق ألول مرة حالوة المغامرة وحالوة النصر للمبادئ الجميلة أمـام

.لخوف والجبن ا .عادوت سيارة اإلجرة سيرها، وعند أول عنوان كانت الفتاة قد وفقت إليصال الجزء المطلوب من المنشورات

استقلت سيارة أجرة للمرة الثانية لتنقل إلى تاروت، وهناك حيث المكان المحدد للتسليم، انتظرت سميرة طويال فـي بيـت نظرات الريبة والشك التي التهمت وجهها من أهل ذلك الشاب، إذ لـم يكـن مـن الشاب لعدم تواجده، وذاقت األمرين من

المألوف أن تزور فتاة شابا وهم إلى ذلك لم يكونوا على علم بمهمتها الشريفة التي جاءت إليها ولو علموا بذلك الحتـضنتها نفسهم رخيصة للثورة، ولكن مـا كانـت أفئدتهم وافترشوا لها رموش أعينهم خصوصا وأن الناس في تلك األيام قد نذروا أ

.تستطيع ان تبوح لهم بسرها إذا كان األمر ال يحتمل ذلك وكان عليها أن تنجح المهمة بكل جزئياتها حين جاء الشاب كانت سميرة قد شارفت الهروب من ذلك المكان، وهي بعد لم تؤد مهمتها فقد استبد بها اليأس وقتلتهـا

.لت حين أقبل الشاب نظرات الشك والريبة ، وقا :وبصوت أجهده اإلنتظار واإلرتباك أضافت .. الحمد هللا …ـ الحمد هللا

… تفضل هذه األمانة …ـ لقد كدت أغادر :قال الشاب في خجل

.. لقد تأخرت لسبب طارئ …ـ المعذرة يـدان حربهـا الثالثـة، وفـي وغادرت سميرة إلى قرية السنابس، التي كانت م .. المهم أنك أخذت أمانتك .. وال عليك

الطريق راودتها أحالم ممتعة عن مستقبل يجمع بينها وبين علي في سياج الواقع الذي يعيشه الشعب، تغمرها آمال عظيمـة وأهداف نبيلة ، يسعيان لها في صف واحد، وما إن قاربت سميرة المنطقة حتى فوجئت بفلول الجنود تمأل الـشارع وتـشحن

.األزقة مكانها، تجمدت نظراتها على أولئك الجنود المسلحين الذين كانوا يلتهمون المارة بنظـرات الـشك والريبـة تسمرت في

والغضب وكأنهم موقنون أن كل فرد يحمل بين ثيابه قنبلة يرميهم بها ليذيقهم الموت وهم يترصدون مكامن القلوب وقنابـل .. لفعلوا الحقد التي تملؤها ضدهم، ولو أمكن لهم قنص تلك القلوب

كانت سميرة في حيرة من أمرها ، هل تجازف بتعريض نفسها للخطر، وتمرق وسط مفارزهم المسلحة أم ترجـع إلـى العوامية ليبقى جزء من المهمة غير منجز، ثم أنها قد تتعرض للخطر وهي تعود بالمنشورات إلى العوامية الحافلـة بجنـود

!فتيش والرقابة في المناطق التي تمر بها في طريق عودتها ؟فمن يضمن أنها ستتملص من الت! الشيطان ؟ .وأخيرا ، استقر رأيها على أن تتخطى األمر وتتوكل على اهللا

.. اللهم وفقني وال تخيب مسعاي : شقت الطريق بقلب واجف، وعيون هائمة في توقعات مرعبة، وهي تتمتم في قلبها

Page 56: جمرة في يد الملك

٥٦

أما رجلهـا فكانـت قـد وهنـت .. رق، وأنفاسها كبخار يخرج من قدر يغلي دقات قلبها في تلك اللحظات كانت كالمطا وأصبحت ال تحتمل مزيدا من السير، ولكنها حملتها أخيرا إلى حيث تريد، وأعطت المنشورات للشاب الذي كـان ينتظرهـا

…بــصبر نافــذ، وحــين رآهــا كانــت عينــاه تتوهجــان بإعجــاب شــديد لــشجاعتها وجرأتهــا ذاب في بطولة تجاوز الخطر والعقبات، وانخرطت أحاسيسها في عمق العمل المعطاء لهذا الشعب المظلـوم، كان كيانها قد

.وتلك كانت الخطوة األولى في طريق التغيير، تغير فرد، وجيل وأمة الدقائق كانت تعرج على قلب علي في بطء شديد، وكان كلما نظر إلى ساعته وجف قلبه، وأسقط كل شـيء بيـده، هـام في تصورات متشائمة حول إعتقال سميرة واكتشاف المشورات لديها، أحس آنئذ بخوف رهيب، بل كان يشعر بقلبـه يخـرج

: ، ينظر إلى السماء في خشوع ورجاء ، يضرب األرض بعصبية بالغة ثم يعاود فيقول …إلى حلقه …) أعوذ باهللا من شر الشيطان (

! ؟…ولكن كيف ينسى .. ي أمر آخر كي ينسى يبعد التصورات السوداء عنه، يفكر فخيل اليه أن شبحها بـدا .. وأخيرا كان شبح سميرة يدب في الظالم الذي مد غيومه في كل مكان والشمس لم تكد تبارح

:عمالقا ، يسير في فخر، اقتربت منه نظر اليها بعينين مشفقتين والهتين ولسان عاجز من الكالم، فابتدرته قائلة .. خوف بعد اليوم ـ ال

:إنبسطت أساريره بشدة وبرق الفرح في عينيه وقال …فخور جدا .. ـ إني فخور بك

:وعادت اليه قائلة .. أشاحت بوجهها حياء …ـ اليوم أولد من جديد

:فقال لها …ـ إذا إستعدي لمهام أخرى، قد تكلفك السفر

االعداد لمسيرة األربعين الطريق الممتد بين الدمام والقطيف، تتهادى في سيرها بين البساتين الفواحة، وعيون الماء الكبريتيـة كانت السيارة تقطع

التي تمتد جداولها لتروي مساحات واسعة من األرض، الظالم يخيم ثقيال كلما تقهقر القمر خلف قوافل السحب التي تـزحم ، واستغاثاتها الخرساء، رذاذ ناعم تنثره الـسماء علـى بـساط السماء، وحشاء غريبة تخنق المكان، يقطعها نقيق الضفادع

.. األرض ، تعقبه بأضواء خاطفة من البرق تزيل شيئا من العتمة إلى جانبه يدون في مفكرته الصغيرة بعض المالحظـات بينمـا ) علي ( كان االستاذ مالك قد تولى قيادة السيارة، وجلس

.استقر زهير في المقعد الخلفي ـ الحمد هللا، وصلتنا أخبارتؤكد أن المنـشورات : شير الفرح كانت بادية على وجه االستاذ مالك وهو يقول لصاحبيه تبا

.قد وزعت في جميع األماكن بدون أي خسارة :يجيب علي بفخر جعل عينيه تتسعان وتبرقان أمال

:كمل زهير قائال ـ الخطة التي اتبعت في تنفيد عملية التوزيع كانت محكمة وعملية وي .ـ أعتقد أن دور المرأة مهم جدا ، والدليل هو نجاح الخطة حين تولت المرأة جزءا من العمل

.ـ وهل يمكن االنتصار دون هذا العنصر الرئيسي

Page 57: جمرة في يد الملك

٥٧

:قالها مالك مؤكدا واستطرد وهو يوجه نظراته إلى الشارع الذي صار رطبا ممتدا كالليل الطويل .ل دورنا في اإلعداد لمسيرة األربعين ـ علينا أن نكم

!ـ كيف ؟ :تساءل علي وزهير وكل منهما يتلهف السمع فقال مالك

ـ المسيرات بعد يومين يجب أن تكون أضخم وأقوى من سابقاتها ، وذلك يتأتى بشحذ الجمـاهير، والمطلـوب تكثيـف .جهودنا في المدرسة لندفع الطالب جميعا في خضم المسيرة

. ال بد منه يا استاذ مالك ـ هذا :أجاب زهير مؤكدا فأشار إليه مالك قائال

.ـ سيكون األمر معتمدا عليك يا زهير، فأنت ستجد الفرصة الكافية في المدرسة لتنفيذ ذلك !ـ ومراكز التجمعات األخرى يا أستاذ ؟

.نحن إال غصن في شجرة متفرعة األغصان ـ هناك من هم مكلفون بها فنحن لسنا الوحيدين في الساحة يا زهير، إن !ـ حسنا ، ولكن يخالجني سؤال هل سيعتمد الناس للبس األكفان تلبية لنداءات المنشور ؟

:سأل زهير فأجابه مالك بثقة . الجماهير سوف تجد في األكفان تعبيرا واضحا عن استعدادها للتضحية …ـ ال تقلق

:ربت مالك على كتف علي وقال له ، هناك الكثيرون ممن هم على وشك التغيير من حيـاة الالمبـاالة إلـى طريـق …ـ وهناك أمر آخر يجب أن ال نغفله

الهدفية، وتلك ثمرة يانعة من ثمار اإلنتفاضة علينا ان نستغلها جيدا، علينا أن نبحث عن هؤالء إلضـاءة الطريـق أمـامهم .بشكل أكثر !ـ كيف ؟

:لغ فأجاب مالك تساءل علي في اهتمام با !ـ األمر لن يكون سهال إال باتباع الترتيب والنظام في العمل

:فكر مالك برهة ثم أردف ـ أعقتد أننا نستطيع إنشاء لجان وجمعيات وهيئات بأسماء مختلفة الحتواء هؤالء الشباب ودفع جهـودهم فـي مجـرى

. لقد جربت الهيئات وأثبتت نجاحها …اإلنتفاضة :في حماس شديد وأضاف علي

.ـ والنساء يا أستاذ، والفتيات أيضا ال بد أن نفكر في توعيتهم ليكن سندا للثورة وذخرا ـ بالطبع يا علي، أعتقد أن اهتمامك بتوعية سميرة سوف يسهل الطريق أمامها كي تكـون علمـا فـي هـذا المجـال،

.وسوف تساعدك أم أحمد في تأدية هذه المسؤولية :ورقة من جيبه ثم قال أخرج مالك

ـ وأمر آخر هو أننا بحاجة إلى توفير بعض األجهزة التي تسهل علينا بعض المهام ، فالطريقـة الـشعبية فـي تكثيـر .المنشورات غير مجدية وتكلف الكثير من الوقت والجهد

!ـ ولكن كيف سنوفر أجهزة أخرى متطورة ؟

Page 58: جمرة في يد الملك

٥٨

:تساءل زهير فأجاب مالك .ننا ال نملك رخصة بذلك ـ الشراء غير ممكن أل

!ـ والعمل ؟ :تساءل علي في حيرة ظاهرة فأجاب مالك

!ـ إن مؤسسات الدولة ال تخلو من األجهزة، المدرسة مثال يتوفر فيها جهازا نسخ وتصوير ونستطيع مصادرتهما ؟ .ـ كيف

تساءل الشابان فأجاب مالك ؟ .من غير المدرسة كي ال يتعرف عليهم أحد ـ الخطة عليكما، وتستطيعان اإلستعانة بأصدقاء

:أجاب االثنان .ـ معقول جدا :وأضاف زهير

.ـ سيكون الغد مفاجأة كبرى في ساحة الشهداء

يحمل االستاذ عادل كاميرته ويهم خارجا من شقته، تدور في رأسه أفكار كثيرة عن اللحظات القادمة التي سينفض فيهـا السلطات السعودية، ويتصور نفسه بين جموعهم يرقب ويلتقط الصور الحية التي تجعـل معايـشته الناس كمائن غيظهم ضد

! وهو ما زال ال يدري أي شيء يدفعه للخروج في مسيرة األربعين ؟…لألحداث حقيقة أكيدة ـ ذي يأخـذ هل هو اإلحساس الصادق بضرورة البحث والمعرفة في قضايا شعب يعاني الكثير أم هو الفضول المجرد ال

!به إلى متاهات مظلمة قد ال يخرج منها :واكتسحت جسده رعشة عنيفة وانقبض قلبه وهو يتمتم

ترى ماذا سيقول زهير لـو رآنـي فـي … لقد نسيت ان هناك من يترصد حركاتي ويضع لها تبريرات أخرى …أوه ( . ) …المسيرة وفي يدي كاميرا

: إلى الوراء وقال في نفسه وتردد االستاذ لحظة تراجعت فيها خطواتهوخطر على فكره ما سمعه عـن ذلـك الرجـل . ـ علي أن أحسب لشكوك زهير حسابا جيدا، فقد تكون عواقبها وخيمة

الذي أحاطت به شكوك الناس وحاصرته في كل شيء فكتب خطابا استرضائيا ليـستغيث الثـوار أن يـسقطوا عنـه تهمـة .التجسس ويعلن فيه براءته

:د االستاذ متمتما وعا .أعتقد أن أمري سيكون أشد وأعظم من ذلك المسكين

:وتراخت حركات االستاذ وسكناته لذلك الهاجس ولكنه فجأة هز رأسه ونفضها جانبا وهو يقول ..ثم من يراني في خضم الموج الجماهيري الهادر .. لن يثنيني شيء عن المشاركة في مسيرة األربعين …ـ ال ..م انطلق االستاذ عادل، وترك هواجسه تصطدم بجدران الشقة الخالية وكالسه

في القطيف، وبالقرب من ساحة الشهداء التي احتضن ثراها دماء الشباب في العشرة األولى من محرم فجعلـت منطلقـا ة، الجـدران التحفـت لمسيرة التأبين لتثير في النفوس مزيدا من التضحية، كان كل شيء يشي بلحظات قريبة قاسية ومؤسـي

Page 59: جمرة في يد الملك

٥٩

السواد والبيارق التي لونت ببقع تصطخب شوارع القطيف بعشرات من سيارات النقل، التي تنقـل الجمـاهير مـن القـرى .المجاورة فكانت حركة السير تزدحم بشكل مناف لأليام األخرى

ير األكفان وتـوفير معـدات وفي مخابئ البيوت كان العشرات من الشباب منهمكين في تحضير الزجاجات الحارقة وتوف .أخرى كإطارات السيارات التي يوجهون بها قنابل الغاز المسيل للدموع

عند الظهر كانت الحشود قد أخذت موقعها في ساحة الشهداء، ولكنها اصطبغت بالصمت الحذر والتأهب الحائر فالكـل فضاء الواقع، يمزق أحد المـشايخ الـشباب يحمل صرخة تفرقع في أحشائه والكل ينتظر لحظة تخرج فيها الصرخات إلى

تلك الصورة فيؤذن لصالة الظهر، يتجمهر الناس وراءه تتقدمهم فئة كبيرة يلبسون األكفـان البيـضاء الناصـعة، التـي ال تختلف كثيرا عن الثوب الخليجية البيضاء فكان الحشد في سجود وقيام وركوع وهم في ذلك أشبه بحمامـة بيـضاء تفتـرش

ا ثم تطويهما في رفق ولين ، وهم بذلك يرسمون حقيقة نواياهم واهدافهم ، فهـم يجاهـدون ألجـل حـق مهتـضم، جناحيهويصارعون عدوهم بأكفانهم ليؤكدوا أن الموت اليهم أحب من حياة القهر، وتلك حقيقة لن يفهمهـا الطغـاة حتـى يـشبعوا

.األرض هما ونكدا، سجون ومعتقالت ومقابر عاليا وبرزت األعالم، وتكاتفت األجساد في صفوف عريضة ممتدة تنبئ بـسواد ليـل النظـام لتكـون ارتفعت البيارق

.السكين التي تقطع منحره تتوقف حركة السير أمام الزحف الجماهيري ، يرتعد الفضاء بهتافات صاخبة وزئيـر عنيـد، بينمـا تتـربص القـوات

يمتد الزحف لتـزداد الهتافـات تنديـدا بالنظـام .. إلى ساعة الصفرالحكومية على األطراف وهي في عد تنازلي يصل بها السعودي وجرائمه وكأن الشجاعة يستجمع قطراتها مع كل خطوة وبعد لحظات كانت الجماهير تصب جام غـضبها علـى

تظـاهرين حينها كرت القوات الحكومية على المسيرة في حركة جنونية، لتمطـر الم …الملك المتالعب بثرواتها ومصيرها .بمئات القنابل المسيلة للدموع ولتغزي الجماهير بمزيد من التحدي

قنابل الزجاجات الحارقة تنطلق من صوب الجماهير لتجعل قوات الحرس الوطني والجنـود فـي حركـة كـر متـردد

.وهروب ملحوظ ات الحكومية بقنابلها الـشعبية كل شيء في المسيرة ينم عن إعداد مسبق وخطة مرسومة، واستمرت الجماهير ترمي القو

وهي تشق الدرب صامدة، مصممة على التحدي، وفي لحظة كان الثوب األبيض قد تشقق ليصبح قطعا ومجموعات تـذرف .الزقاقات في ركض سريع وإلى هدف واضح :حينها كان االستاذ عادل يتساءل في حيرة

كانت المسيرة قد تفرقـت لتتخـذ ! د هذا الحد من المقاومة ؟لماذا تفرقت المسيرة بهذا الشكل ؟ وهل انتهى الغضب عن شكال آخر للتحدي فتضرب كما تضرب وتهاجم كما تهاجم فكانت مجموعة قد التفت حول منتزه القطيف لتشعل فيـه نـارا

واجهته إلـى حامية كمركز من مراكز الفساد، وبعد دقائق وجيزة كان الدخان يصعد إلى السماء وكأنه روح الشيطان لتحول .ركام، واتخذت مجموعات أخرى سمتها صوب المؤسسات الحكومية األخرى

كان االستاذ عادل يلتقط بعض الصور في حيوية تضاهي حيوية المتظاهرين إذ كان يـشعر بنفـسه فـي صـراع مـع جـأة أحـس بيـد تمـسك ولكنه ف…المسيرة التي تفرقت واتخذت أشكاال وأماكن مختلفة ، فكان يتنقل من بقعة إلى أخرى

Page 60: جمرة في يد الملك

٦٠

كاميرته، وتبدي الفزع في قلبه وهو يتذكر ذلك البدوي الذي استاقه من أول لحظة له في القطيف إلى الـسجن وقـال فـي ! ) .ترى إلى أين سأؤخذ هذه المرة ؟( نفسه وهو يستدير ليرى صاحب تلك اليد

:ولكن صوتا خشنا باغته بسرعة قائال وهو يسحب الكاميرا ) .عد وإال أحرقناك مع هؤالء الجنود ابت(

.وكان ذلك كافيا كي يأخذ نفسه بعيدا عن الطوفان يراجع معها المشاهدات الحية بفخر مشبوه في المسيرة

كان زهير يجلس إلى سارية عين اللبانية التي ضربت الشمس مياهها العذبة فجعلتها تبرق بلون مـضيء آسـر يقطعـه إلى جوار العين منذ سنين طويلة، وهي تنحني بجذوعها المتينة إلى العين وكأن العشق األخـوي قـد ظالل النخيل الرابضة

اغتـرف زهيـر …مد جذوره بينهما فال تفترق هذه عن تلك بعد أن ربطت الحياة حاجاتهما الفطرية لتصبان في هدف واحد يقترب منه مالك وعلي يبتـدره مالـك .. ر واإلحساس من العين غرفة ليرمي بها إلى األرض المعشبة وهو ذاهل شارد الفك

:في رفق !ـ ما بك يا زهير، تبدو شاردا ؟

يحملق زهير في وجه مالك وعلي، يطرق بعينيه إلى الماء المنساب ، تلعب يداه في الماء الدافئ ويقول ببرود مـصطنع :

.. ال شيء …ـ ال شيء :لى زهير قائال يجلس مالك على سارية العين ويعاود حديثه إ

.ـ ولكنك لم تشاركنا حديثنا اآلنف عن مسيرة األربعين ونتائجها :تتسع عينا زهير وهو يقول بنبرة واثقة

. …ـ إني أفكر في مسيرة األربعين وما حدث بها …في االستاذ عادل الذي شوهد هناك يلتقط الصور

:سكت زهير وهو يتطلع إلى صاحبيه واستطرد .زم بأنه من رجال المباحث ـ اكاد أج

:ابتسم مالك وقال …فأجاب زهير ! ـ ما الدليل ؟

.. ثم استطرد ! ـ اال تكفيك هذه األدلة يا أستاذ مالك ؟ . من سجن القطيف كان وجوده أمر غريب افتعل له قصة مختلفة كي نثق به ونبادله األسرار والمعلومات

.ذا كثيرا ، فيدخل السجن غرباء وأجانب ـ ولكن االعقتاالت العرضية يحدث فيها ه :أجاب مالك فرد عليه زهير

.ـ ولكنه لم يكن يستشعر الخوف وهو في السجن، بل كان يتودد إلى السجناء ويبادلهم الحديث .ـ ولماذا يخاف يا زهير وهو يعلم أنه غير متورط في شيء .ائرهم وتصبح مهمة المحققين سهلة ال إنها خطة السلطة في دس رجالها بين السجناء لتكشف سر

.ـ هذا صحيح، ولكن معرفتي باالستاذ عادل تثبت عكس ذلك

Page 61: جمرة في يد الملك

٦١

:سكت زهير فقال علي بعد أن استمع إلى الحديث المتبادل بين األثنين .ـ ثم أن السلطة لن تستخدم رجال غريبا عن الناس للتجسس

.ـ ولم ال ؟ قال زهير وأضاف . الحديث مع الطالب في أحداث اإلنتفاضة وهو خارج لتوه من السجن ـ وما رأيكم في تبادله

:أجاب علي .ـ كلنا يعلم أن التالميذ هم الذين أوقعوه في الحديث بسؤالهم وإلحاحهم

.وأضاف مالك .ـ تلك كانت خطة عامة من قبل الطلبة

.ـ نعم، ولكن االستاذ عادل كان من القلة التي ناقشت بحرية : ثم استطرد قال زهير

ـ انه يستخدم ذكاءه وفطنته في جر اآلخرين للحديث وكأنه لم يكن يود الدخول فيه، وال تنسوا أنـه هـو الـذي حـاول .مرارا سؤال التالميذ عن المحركين للثورة، فما الذي يدعوه لذلك

.ـ الرجل يعيش أحداث اإلنتفاضة ومن حقه أن يسأل عن كل شيء :هير أجاب مالك فرد عليه ز

.ـ إني متيقن أنه جاسوس وسوف أؤدبه بنفسي !ـ كيف ؟

:سأل علي فقطع عليه مالك قائال ال يحق لك ذلك ـ .. ـ قبل أن تقدم أدلة كافيه

..سكت مالك ثم استطرد .ـ ثم أن نظراتك الحادة له تكفيه تأديبا

إنذار أول :ابتسم المالزم في خبث وهو يقول لألستاذ عادل

! لم تزعجك األمر ؟ـ ا :أجاب االستاذ بامتعاض ظاهر

.ـ ال ولكني ال أعلم مبررا ألستدعائي من وسط المدرسة، ولست أدري ما سيجر علي ذلك من مشاكل !ـ إذا فأنت تبحث عن سبب استدعائك ؟

!ـ بالطبع :قالها االستاذ في ثقة وحزم ففاجأه المالزم قائال

!ك في مسيرات األربعين ، وتواجدك في اعمال شغب أخرى ـ لدينا أدلة تثبت خروج !ـ ماذا ؟

:قالها االستاذ في ذهول وسكت وكأن المفاجأة قد خنقت الكلمات فأردف المالزم

Page 62: جمرة في يد الملك

٦٢

ـ في الثامن من محرم، كنت تدعي الصدفة وراء تواجدك الغريب في مكـان التظـاهرات، وقـد أنـصفناك فأطلقنـا !ك في مسيرة األربعين ؟سراحك، ولكن بماذا تبرر وجود

:أجاب االستاذ وهو يحاول أن يدفع عنه األمر …ـ كنت في زيارة ألحد زمالئي االساتذة هناك ، هذا كل ما في األمر

ـ اسمعني جيدا يا أستاذ عادل، وأعلم إني أعرفك بما فيه الكفاية، وأعلم أفراطك في حب اإلستطالع الـذي يجـر اليـك .الخالص منها متاعب قد ال تستطيع

!ـ كيف ؟ :توقف المالزم، اقترب من االستاذ، وقال في لهجة المشفق

.. ـ الشكوك تحوم حولك بشدة، ولوال دفاعي عنك لكنت نزيال بالسجن :سكت المالزم وأخذ يطيل النظر إلى عيني االستاذ ثم أردف

.ـ ولكن لن أستطيع الدفاع عنك أكثر من ذلك . وتصرفاتي ال مخافة منها ـ ولكني لست مواطنا :ضحك المالزم ثم قال

!ـ هذا في ظنك ، أما في حساباتنا فكل شيء بميزان، أعتقد أنك تفهمني جيدا ؟ !ـ المعذرة ليس تماما

.. ـ ليس مهما :قالها المالزم وسكت ، ثم سأل االستاذ

!ـ ما رأيك في األمن ؟ : أجاب استغرب عادل ذلك السؤال وفي تردد بالغ

ـ أعتقد أن االنسان يتطلع إلى األمن وينشده بل هو هدف كل شعب وأمة فأجاب المالزم وهو يحرج االسـتاذ بنظـرات :طويلة

.ـ حسنا ، ونحن نحافظ على األمن هنا، ونتفق معك في مفهوم األمن، هذا يكفي لتعاوننا .دل برفقة الشرطي قالها المالزم ونهض خارجا من تلك الغرفة ليترك االستاذ عا

كلمات المالزم األخيرة كانت تدق عقل االستاذ بقوة وتفتت أعصابه ، فهو ال يعلم بالضبط ماذا يعني المـالزم بكالمـه :الذي قد يحمل طامة كبرى وبالء عظيما، وضع االستاذ يده على رأسه وقال في نفسه مؤنبا لها

حولي بال رحمة، لقد تماديت في فضولي وتدخلي فيما ال يعنيني حتـى ـ أوه، لقد وقعت في مأزق شديد، الشكوك تحوم …أصبحت متهما ومع ذلك خرجت في مسيرة األربعين كي أجد نفسي محاطا بعيون السلطة واتهاماتها

! ؟.. وال أدري إلى أين ستصل هذه األمور !وإلى أين سيصل الشك بي بعد استدعائي من المدرسة ؟

ل حين خطر له غربته ووحدته في ذلك البلد، إذ أنه قد يتعرض لإلعتقال فـال يـشفع لـه أحـد، وقـد وجفل االستاذ عاد . يتعرض لإلنتقام من قبل الثوار فال نجاة له وال من يفكر في حمايته أو إنقاذه

Page 63: جمرة في يد الملك

٦٣

يضع لها حـدا، وكاد االستاذ عادل يختنق بهواجسه ومخاوفه لوال أن تدارك نفسه فأخذ تفكيره بعيدا عن ذلك المكان كي فاستعرض في قلبه ذكريات حلوة كانت تجمعه بين أهله وأحبائه ، وأخرى حين ودع هؤالء جيمعا مغتربـا ال يحمـل مـن

وأخيرا جاء المـالزم، كانـت بيـده ورقـة . تجارب الحياة إال القليل، ولكن ها هي الحياة تعصره وتضعه في لجج غامرة :ائال بيضاء طويلة، مدها إلى االستاذ ق

.تستطيع اإلجابة على هذه األسئلة على رسلك، سوف أنتظر قدومك هنا باإلجابة :قال االستاذ مندهشا

!ـ ولكن لم هذه األسئلة ؟ .. ـ أبدا، انها أسئلة عادية تتعلق بشخصك وأخرى عامة تتعلق بآرائك في الحياة

:فأجاب االستاذ متهكما .ـ استجواب تحريري

:م وقال ضحك المالز ..ـ أبدأ، مجرد إجراء روتيني

قفل االستاذ عادل إلى شقته، في طريقه كان يرى الدنيا أمامه باهتة، ذابلة قد فقدت شيئا كثيرا من جمالها لم يكـن يلتفـت ن يؤرقـه إلى أي حركة أمامه أو منظر يمر به ، كان ساهدا مكلوما قد أضناه القلق واستلب أحاسيسه المتدفقة، وأشد ما كـا

…هو ما ستحمل اليه هذه الزيارة بقسم الشرطة من مضاعفات هل سيفهم زهير ورفاقه أنه قد استدعي للتحقيق معه فهو متهم مثلهم ومعرض لإلعتقال والعقـاب، .. وتساءل في نفسه

طة ضـدهم فيتـصرفون فيتعاطفون معه ويطوون صفحة الشك به ، أم أنهم سيعتبرون تلك المسألة دليال على تعاونه مع السل ! ؟.. معه بشكل أشد

في شقته كانت مفاجأة أخرى قد صعقته وأثارت هواجسه بشدة، كان كل شيء في الشقة قد بعثر، وتناثرت قطـع األثـاث : وتمتم! ماذا حدث ؟…وحاجيات الشقة في فوضى عارمة، وتساءل في نفسه

في غيابي ، فأنا على كـل حـال ولكن عجبا لماذا يفعولون ذلك .. ـ أوه يبدو أنهم قد فتشوا الشقة وأنا لديهم في المخفر ! ؟…فمن أذا . …وإن لم يكونوا هم من فعل ذلك ! ؟.. ال أستطيع منعهم عن فعل أي شيء ألنهم إن أرادوا فعلوا

: على مكتبه كانت ورقة قد كتب عليها ) را إذا صدق شكنا بأنك تتعامل مع السلطة، فسيكون عقابك عسي(

ارتمى عادل على إحدى األرائك وتمتم فـي . وكانت كاميرته ملقاة على ذلك المكتب وقد أفرغت من الفيلم الذي بداخلها :فزع شديد

!!ـ آه لقد أصبحت بين نارين حاميتين ال أدري أيهما أطفئ ؟ أمر هام

. ـ أهال أستاذ مالك . ـ مرحبا أستاذ حمود

هـل لـديك …معك في أمر هام، ولكني سوف أذهب اآلن لحظة وأعود، أود الحديث بيننا خلوة ـ كنت أنتظرك للحديث !وقت ؟

Page 64: جمرة في يد الملك

٦٤

:قال مالك في استغراب .ـ بالطبع يا زميلي ـ أنا في خدمتك دائما

غادر االستاذ حمود مسرعا وترك مالكا في لجة من التفكير الحائر، كان يسائل نفسه عن الموضوع الذي سـيتحدث فيـه االستاذ حمود، وعما إذا كان يحمل في جعبته أخبارا جديدة تضاف إلى ملف اإلنتفاضة الذي حفل بالمفاجآت والنكـات ممـا ! يفجع ويبكي، ويضحك ويسر، ولكن، أنى لإلستاذ حمود أن يحمل أخبارا جديدة ويهبها اهتمامه بحيث يكلمني فيهـا خلـوة ؟

الحه ، ولكن اإلصرار على الحديث خلوة كان باديا عليه، فلعله قد أحس الرغبة فـي هو ال تهمه اال نفسه وال تشغله إال مص .مشاركة اآلخرين أهدافهم وهمومهم وطموحاتهم في التغيير والثورة، والتنحي قليال عن دائرة الذات واألنا

:افتر ثغر االستاذ مالك عن بسمة باهتة وهو يراجع نفسه قائال حمود هو آخر من يفكر في ذلك، فعقليته قد تكونت ضمن أسس ونظريات ألفكـار تقليديـة بـائرة، ان .. ـ أوه يا مالك

ولكن اهللا قد الهم كل نفس بذور الخير والقدرة على التغير، وما يـدريني فلعـل …ترفض كل شيء عداها وإن كان صالحا ! الرجل قد تأثر باألحداث التي عصفت بهذا البلد ؟

حمود تيه توقعاته حين أقبل ببشاشة طافحة، وبشر ملحوظ وبسمة زادت شفتيه اتساعا وأسـفرت عـن وقطع عليه االستاذ .أسنانه البيضاء المتراصة

كان مالك يحملق في الرجل حتى أن اإلبتسامة قد أفلت عن شفتيه، واصطبغ وجهه بخجل فـضح عـن نفـسه، فتلكـأت :قب وجيز قال الكلمات التي أعدها لبدء الحديث، ولكن مالك بعد تر

.ـ نعم يا أستاذ حمود، إن أذني صاغية لك !قد تسألني عن موضوع حديثنا ، واني أجزم بأنك تتوقعه .. إ . … إ …ـ شكرا لك يا عزيزي

أتوقع أن لديك أخبارا جديدة عن اإلنتفاضة . …ـ ها ! أليس لديك تفكير في غير ذلك ؟…اإلنتفاضة .. ـ ماذا ؟ اإلنتفاضة

:ها حمود واحمرت عيناه غضبا وكسف وجهه ثم هم أن يغادر فابتدره مالك قائال قال ـ هون عليك يا صاحبي، تفضل بحديثك دون حاجة

.لتوقعاتي التي تثير اشمئزازك ، سوف أعيرك انتباهي على أي حال :استرد وجه حمود شيئا من نضارته وبشاشته وقال في استحياء

لجمعة القادم، وقد أتيت ألدعوك بصفة خاصة، هذا أوال ــ سيكون زواجي ليلة ا اغفرهـا … كيف فاتني توقع ذلك، فربيع قد حل بعد طول انتظار منك وتلهف، إني آسف جدا لسذاجة تفكيـري …ـ أوه

.لي يا عزيزي :ابتسم حمود في ود ظاهر وقال

. هذا ال يهمني كثيرا … ال عليك …ـ ال عليك :وأردف

قصدتك ألني أعرف المامك بآداب الزواج ومستحباته ومكروهاته، إضافة إلى أنك رجل محصن ولديك خبرة فـي ـ لقد .المسائل اإلجتماعية تستطيع إفادتي بها

.ـ بالتأكيد ، هذا أقل واجب أقدمه لك

Page 65: جمرة في يد الملك

٦٥

.ـ كنت واثقا أني سأجد مطلبي لديك .قالها حمود في ارتياح تام فأجابه مالك

.استعداد لتقديم أي خدمة أخرى ـ وأنا على األهل واالقارب اقتسموا تأدية بعض المسؤوليات ، ولكني حائر في أمور أخرى ليتك تـساعدني فـي . …ـ شكرا شكرا

.حلها !ـ ما هي ؟

ـ خالف بين عمي ووالدي ال ادري كيف ساتمكن من حله دون إزعاج أي منهما، فهذا يرغب في جلب فرقة موسـييقية . العرس، أما والدي المتحفظ فيعتبر ذلك انتهاكا ألحكام الدين واخالال بالشرع فكيف سأرضي هـذا وذاك، ال أدري إلحياء

وكذلك والدتي هي األخرى لديها مطلب، فهي تصر على وجود حراسة على ليلة زواجي حتى يحل الفجر كما هـي عـادة .بعض العوائل في مجتمعنا

:تاذ حمود ضحك االستاذ مالك فقال االس ـ ال تستغرب فهذه عادات وأعراف، وحقا اني قد أعتبرها خرافة ليس إال فماذ تنصحني ؟

.ـ في مثل هذه األمور، تبقى الكلمة األولى واألخيرة لك كيف ؟

.ـ ما دمت أنت الذي ستتزوج فاألمور ترجع إليك، تصرف حسب مبادئك وقناعاتك :ـ وأخالف الجميع …كن إذا لزم األمر المخالفة فافعل ـ ضع بدائل ول

فمثال كبديل للفرقة الموسيقية التي تخالف أحكام الشرع تستطيع اإلعداد لحفل يجمع بين القـصائد واألناشـيد وكلمـات .مفيدة تتناول الزواج ومفاهيمه، بالضبط كما يفعل البعض

.ـ نعم إنها فكرة رائعة، رائعة جدا دتك ـ وكذلك بالنسبة لرغبة وال

. أعتقد أن شيئا يخلصني من رغبة والدتي وحراسها غير الفجر … ال … ال …ـ ال …ـ إذن

: فأجاب …سأله االستاذ مالك …ـ سأفوض أمري إلى اهللا ولكنه حاول أن يمر دون أن ينضم اليهما في حـديث، فقـد انـزوى …أقبل االستاذ عادل .. وبينما هما يتبادالن الحديث

لك األيام وبدا عازفا عن مشاركة اآلخرين أحاديثهم رغم ما كان يسببه ذلك له من وحشة وغربة ، بنفسه في ت : إقترب منهم وقال …ناداه االستاذ حمود

…ـ كنت أظنه حديثا خاصا فلم أجد من الالئق قطعه …ـ أبدا لقد ناديتك ألدعوك إلى حفل زواجي

… مدعو وحدي ـ أوه يا لك من رجل مفاجآت ، هل أنا .. تأكد إنك ستجد المدرسة كلها هناك من المدرسين إلى الطالب وكذلك المدير .. ـ ال

Page 66: جمرة في يد الملك

٦٦

.ـ إذن سوف تكون هناك مدرسة أخرى :قالها عادل مازحا فأكمل االستاذ مالك قائال

.ـ وستكون ليلة مشهودة بال شك :غمرت االستاذ حمود نشوة الفخر وأضاف

، أم أنهـا تـشترط الـدعوة … ولكن ال تنس يا مالك أن ، تدعو أم أحمد معك …ستكون مشهودة .. بع بالط.. ـ بالطبع .مباشرة من زوجتي

. سوف تأتي بالطبع لتتعرف على زوجتك … ليس بيننا مثل هذه األمور …ـ ال ليلة مشهودة .… أراكم فيما بعد …ـ حسنا

قد لفظ على مضض أسمال الحزن والسكون إلى ضوضاء صاخبة باألهـازيج الليل أقبل مضيئا بهيجا على غير عادته، الزغاريد، الصبية واألطفال كالغزالن يركضون في فرح شديد ونشوة جديدة، نظراتهم تتعلق بين الحين واآلخـر بمـصابيح

اصة هنا وهناك قد زحمـت الضوء المتدلية طوال وعرضا وترسم في خيالها البريء غدا ال يعرف الظالم، السيارات المتر المكان ونافست الصبيان حرية الجري واللعب، ولكنها كانت تزيدهم انبهارا بألوانها التي تلتمـع تحـت ضـوء المـصابيح

.الغازية سعفات النخيل الخضراء تنحني أمام بوابة الحسينية ترحب بضيوف الليلة وتنعش في ذكرياتهم ماضيا كـان كـل شـيء

الخير، ورائحة البخور تنبعث فواحة عطرة تشيع في األرجاء احساسا حقيقيا بشهر الربيـع الـذي يحـل فيه أخضر معطاء ب ، وقطرات ماء الـورد الزكيـة تبلـل ببشره بعد شهري األحزان وقد حل هذا العام بعد أيام متواصلة من النكبات والبالء

.روؤس الحاضرين وتدغدغ مباهجهم سماك البحر وكائناته الستقبال فضالت الوالئم الدسمة ، وبدأت فقرات اإلحتفال الـذي مضى وقت قصير استعدت بعده أ

.أعد له االستاذ حمود ليكون بديال عن رغبة عمه في جلب فرقة موسيقية استهل الحفل بأهازيج وأناشيد دينية ، هلل لها الحاضرون، وأمتعت أسماعهم التي حنت إلى نغمة الفرح، ثم كان أحـدهم

..م بقصيدة طريفة وأخيرا خطب أحد المشايخ خطبة قصيرة بين فيها آداب الزواج وضرورته للمجتمع يترناالستاذ حمود كان يهز رأسه في عفوية تفاعال مع حديث الخطيب ولم ال وهو عريس قد اكتحلت عيناه فـي هـذه الليلـة

ولكن من يدري فلعل االستاذ حمود فـي تفاعلـه .. بلون جديد، وغمرت نفسه اهتمامات أخرى هي من صميم حياته القادمة !ذلك يتمنى لو أتيحت له الفرصة ليستنجد أن أنقذوني من نبتة الفطر التي سترافقني حتى الفجر

وما إن أنهى الخطيب حديثه وتأهب الناس إلخراج موكب الزفاف حتى كان شاب يحتـضن الميكروفـون ، كـان فـي .ذلك فعضالته مفتولة، ونظراته حادة وشخصيته نافذة العشرين من عمره، يبدو أكبر من

.بدأ الشاب حديثه في جو من الريبة والشك فأحد لم يقدم له فكان دخيال بصورة ظاهرة ] فانكحوا ما طاب لكم من النساء [قال تعإلى : قال الشاب بثقة أسرت قلوب الحاضرين

!؟) يكم في الزواج وما تقولون في تعدد الزوجات ما رأ: ( وأكمل في جرأة بالغة مخاطبا الحاضرين رمى بسؤاله وأخذ يرمق الحاضرين الذين اتسعت أفواههم ببسمات عريضة عقبها هرج ومرج وجلبـة قطعهـا أحـدهم

: قائال .ـ من يملك المال فليتمتع بالزواج مرة ومرتين وأكثر

Page 67: جمرة في يد الملك

٦٧

:ورد آخر محتجا .ال ـ الزواج بواحدة يكفي وادعى لراحة الب

:وطفق آخر يقول كالمشفق .ـ الزواج بأكثر من واحدة رحمة للنساء العوانس

واحتدم الكالم بين الرجال مؤيد ومعارض ومشفق وساخر حتى طرق الشاب فوق المنصة وأشار بيديه ليسكت الجميـع، .للعالمين وحصنا ـ الزواج حياة بني البشر وتعدده مشروع بشروط ليكون رحمة : وقال الشاب بصوت رزين

. اكمل …أحسنت طيب اهللا فاك : عادت موجة الضحك بشكل أقوى، وأرتفع صوت أحد المسنين وهو يقول :استطرد الشاب في حماس بالغ قائال

ـ ولكننا في زحمة الحياة ومتعها التي وهبناها ، علينا أن ال نضيع حق اهللا فينا فننسى الشهداء الـذين ضـحوا بـدمائهم أجل حريتنا وكرامتنا والسجناء الذين يعانون القهر ، الوفاء يحتم علينا أن ال نركن إلـى الحيـاة الوادعـة بـل نـستمر من

.ثائرين ونصمد صابرين وأسهب الشاب في حديثه بثقة وحماس شديدين ، األبصار معلقة على سحنته التي إحمرت تفاعال مع كل كلمـة ، واآلذان

ويسر وشوق وحنين ، ما عدا االستاذ حمود الذي ظل ذاهال مشدوها بهذا الحدث المفـاجئ الـذي تحتضن كالمه في سهولة لم يتصوره ، كان بوده لو بتر لسان ذلك الشاب أو أحتز رأسه، وهمس االستاذ إلى أحد أقاربه الذي نهض إلى ذلـك الـشاب

:ال وأشار اليه بالتوقف، ولكن الشاب لم يعر اليه انتباها واستطرد قائوفـي لحظـة .. ثم أخذ يردد بعض الشعارات …ـ النصر سيكون لنا إن واصلنا الثورة بال توقف وال بخل بالتضحيات

كان الظالم قد أربك الحاضرين بعد أن أطفئت األنوار في محاولة السكات الشاب العنيد عن تماديه فـي كالمـه الخطيـر، د يقرع اآلذان ويرجف القلوب بنداءات الثورة والتحـدي ، كـان قـد فذاب صوته وسط ضجيج مفتعل ولكنه ما لبث أن عا

أمسك بميكروفون يدوي أعده لذلك وقد أخذ الظالم فعله في تأجيج فورة الغضب وهو الذي أريـد منـه إخمـاد المـشاعر .الملتهبة

. …جو العرس المفقـود وأخيرا خرج موكب الزفاف في موجة عالية من التهليالت والصلوات أعادت للحسينية شيئا من ولم تستمر تلك الموجة طويال إذ سرعان ما تغيرت نغمتها الرقيقة إلى شعارات صاخبة، وهتافات شـديدة أخـذت تـستمر وترتطم بأعماق االستاذ حمود المسكين ، تمنى في تلك اللحظة أن تخمد تلك الحناجر الهاتفة ولكن أنى له ذلك وقـد جـرى

يلوذ بنفسه بعيدا عن الموكب كي يخلص من تبعات الموقف وعواقبه، ولم ال وهو عريس يـستقبل السيل هادرا ، وفكر أن !اإليام بدفئها وطراوتها ؟

سيكون األمر طرفة تلوكها الـسن النـساء ويرددهـا االطفـال ! هل يعقل ذلك ؟! ولكن كيف يهرب من موكب زفافه ؟ .وتتناقلها األجيال

حظات قد تطول ولكنها ستنتهي عند حد معين فيسكت هؤالء المتهورون مرغمين ويعود هـو إذا ما عليه إال أن يصبر ل إلى عشه الزوجي الهانئ، وزفر االستاذ حمود في ضيف شديد وهو يتذكر أن عشه محفوف بأشـواك تتـربص بـه حتـى

:الفجر وتمتم االستاذ في حنق ) هودة لهم، أما لي فهي مشؤومة يا لها من ليلة مشؤومة ، يقولون أنها مشهودة، نعم مش(

Page 68: جمرة في يد الملك

٦٨

بعد منتصف الليل، كان االستاذ حمود يترقب الفجر وهو ال يكاد يصدق أحداث الليلة التـي عـصفت بفرحتـه فـي واد سحيق من التأفف والتبرم ، وها هو اآلن أمام ساعات من اإلنتضار ال يدري كيف سيكابدها حتى يرى أفق الفجـر سـاطعا

.ى هو وزوجه في ليلة تمنياها ردحا من الزمن وعاندتهم فيها األقدار يبدد معه كل شيء سووأقبل الفجر لذيذا ، باسما يداعب برفق أجفان حمود الناعسة، ويوقظ منه ما استسلم للنصب والكرى، ولكنه جفـل فجـأة

السجن ألنـه عـريس تلـك على أصوات تغمره رعبا وخطوات تلهب األرض غرورا ، إنهم زوار الفجر الذين اقتادوه إلى وترك االستاذ حمود عروسه وراءه تننظـر فجـرا آخـر قـد .. الليلة الصاخبة بما يزعج السلطات ويثير غضبها وانتقامها

.يطول ليله االنتفاضة تتجذر

ض األحداث تتزاحم وتتالى بشكل عجيب، وتستمر في جريان متدفق، تطوي فيه أشياء كثيرة تضاءلت أمام عذوبـة الـرف التي أحس الناس طيب مذاقه، وحقيقة عظيمة كانت تطلع كل يوم في إشراقة أبهى وأوضح فأدركها الجميع وسبر أغوارهـا ببصيرته بينما ظلت فئة قليلة تتعامى وتحتجب بعيدا في زوايا معتمة، تلك هي حقيقة اإلنتفاضة التي لم تكـن حـدثا طارئـا

ن غفلة وال هي كالنجوم تتألأل في عتمة الليل ثم يأخذها األفول، فاإلنتفاضة قـد كالمطر يهمى على األرض الجدباء على حي ضربت بجذورها عمق تاريخ الشعب المؤمن الذي كان قدامى أجداده هم فرسان الرسالة المحمدية، حملوهـا بـين ثنيـات

ال يـرى فيـه النـاس األمـن قلوبهم ليضيئوا بها ظالم الكون وهي قد شمخت بطموحات الجماهير إلى مستقبل أت ال مح والسالم وينعموا عدالة اإلسالم وقد عرف الشعب أن ذاك ال يؤتى بتظاهرات وقتية أو مصادمات جزئية تترك أثـرا واهيـا تذروه الرياح دون عنت ، ففطنوا إلى ضرورة التخطيط للثورة والتنظيم لها وصب أعمالها فـي أهـداف بعيـدة واخـرى

مراحلها المتتابعة ، فاستمرت التظاهرات قوية فاعلة في حين ظن البعض أنها قد إنتهت إلى غيـر قريبة، واستراتيجيات لها رجعة، وتجرعت السلطة العلقم لترد لظى مرارته في الشعب إعتقاال وتعذيبا وتنكيال وهي بعد لم تعرف الهدوء ولـم تكـد

امن الحدثان ليشكال تهديـدا حقيقيـا للعـرش الـسعودي تخمد نيران مكة المضرمة واالعدامات الجماعية لقادتها، وقد تز .المتغطرس

وعلى الضفة األخرى، كانت حركة الهجرة خارج الوطن قد أخذت مسارها ليستمر العمل ضـد الـسلطة بعيـدا عـن ت عصاها الغليظة وعيونها المترصدة، فكثيرون قد غادروا بين عشية وضحاها بعد أن بللت دموعهم جفاف األرض وأثـار

.فيها لواعج الفراق فودعتهم في نحيب هز سكناتها في أرض المهجر، كان العمل قد أخذ طريقه مستمرا دون توقف ، فنظمت حملة إعالمية شديدة القـوة عـن انتفاضـة الشعب ورفعت ظالمته إلى الرأي العام العالمي والهيئات الحقوقية، بل وأقيمت اعتصامات أمام سفارات النظام فـي لنـدن وغيرها لتكون أشد وقعا على الرأي العالمي الميت ، بينما عكف المجاهدون في الداخل على تصعيد أعمـالهم ونـشاطاتهم لتكون بمستوى اإلنتفاضة المباركة فكانوا يحتفرون طريقا سالكا لإلنتفاضة ويعتصرون ثمارها، فها هو االستاذ مالك الـذي

الريادية وطموحه العظيم ونشاطه الدؤوب، كان ال يألو جهدا فـي إثـارة الـشباب كان له دور فعال في األحداث بشخصيته نحو العمل وتحمل المسؤولية والهجرة خارج الوطن لإلنضمام إلى صفوف المجاهدين المتفرغين لقضية الشعب المظلـوم

، وفي احدى المرات كان االستاذ مالك يسأل أحد تالمذته على أنفراد ! ار ؟ـ ماهي آخر األخب

:يجيب الطالب في براءة

Page 69: جمرة في يد الملك

٦٩

.ـ ال جديد تحت الشمس فيقول محاوال أن يصنع من ذلك الـشاب إنـسانا .. وكأن االستاذ قد خاض غمار نفس ذلك الطالب وعرف ما يعتمل بها

:آخر تأخذ الثورة جل اهتماماته وجهده .ـ لماذا ؟ ويستطرد

!أليس كذلك ؟ …ـ العالم يحفل باألحداث الجديدة واألخبار .ـ نعم، بالطبع

:يجيب الشاب فيستمر مالك !ـ ولكن ليس المهم أن نستمع إلى األخبار ونتناقلها ، علينا أن نصنعها بأنفسنا

!ـ نصنع الخبر، كيف ؟ !ـ كل عمل يقوم به الثوار فهو حدث جديد وأنت تستطيع أن تصنع خبرا مهما في هذه الساعة

!ـ أنا ، كيف ؟تقرر تغيير حياتك، تهاجر في سبيل اهللا ، فكر في األمر ولسوف تعيش حياة ، مليئـة بالعطـاء للثـورة والعمـل ـ أن

.الجهادي، وستكون فردا ال يصنع خبرا فحسب، بل ويغير الواقع ويبدل التاريخ ، وقد كانـت كتابـات وتستمر األيام في إجهاض متوال لمحاوالت السلطة في صد الطوفان، رغم انصرام محرم وصفر

الجدران مستمرة فزادت مهام رجال المباحث مشقة ومهانة وهم يتتبعون دون جدوى الجدران لمسح ما يكتب فوقها، بل لقد والمنشورات هي األخرى لم تتوقف بـل اسـتمرت تبلـور . أضحت الجدران ميدانا لصراع الشعب الثائر والسلطة الظالمة

داءات استغاثة وكانت تتبدل وتتطور لتواكب تصاعد القمع السلطوي، وتصل إلـى كـل طموحات الشعب وتطرح مطالبه ون .يد ولو في علب الشوكوالته والحلويات

وفي الجانب اآلخر، كانت الحكومة السعودية تمارس اإلرهاب بأبشع صوره فقواتها تجـوب الـشوارع لـيال ونهـارا، .و رجل تحرض بالناس فال تفرق بين صغير وكبير، إمرأة أ

بينما أخذ كل شاب يعد نفسه لإلعتقال وهو يبصر تمادي السلطة في إرهابها واستمرارها في حـصد الـشباب بالمئـات .لتضعهم بين جدران السجون دون أن تسمح ألحد برؤيتهم أو حتى تلمس أخبارهم

بون بالحقوق وينادون بـإطالق سـراح الوجهاء أبدوا تحسسا مشرفا آلالم الناس، فأمطروا السلطة بعشرات البرقيات يطال المعتقلين وإفساح الزيارات لألهالي ، والسلطة تقابل ذلك بعناد شديد وأساليب متنوعة في ضـرب الـشعب وجنحـت إلـى إستغالل ذوي النفوس المريضة والضعيفة أو من توهمت به ذلك ليكون ظهر السلطة المريضة والضعيفة أو مـن توهمـت

سلطة ومركب دناءتها وهي تصعق غضبا كلما ازداد تمسك الشباب بدينه ولزم محراب صالته، حتـى به ذلك ليكون ظهر ال أولئك الذين تحفظوا في البدء في مؤازرة الثورة، تبدلت مواقفهم وانصهرت في بوتقة الثورة مـن حيـث يـشعرون أو ال

ف في انسجام وتناسق بعد أن كانت متباينـة يشعرون ، فغدت بوتقة الثورة من حيث يشعرون أو ال يشعرون ، فغدت المواق وأضحت اإلنتفاضة هي السماء التي يستظل بها الشعب والشمس التي تدفئ أوجاع شتاء الظلم الطويل وال يحـرم دفأهـا إال من تقوقع في مغاليق التحجر، وصار الناس يستنشقون هواء آخر عبقا بالصبر والتحدي لتـصل الثـورة عنفوانهـا تتحـدى

.في أوجه وتنذر وتزأر الخطر صدى الزنزانة

Page 70: جمرة في يد الملك

٧٠

سراب باهت، وأمانيه إلى أضغاث أحالم، كـان وجيـدا الجدران القميئة كانت قد عزلته عن الكون وحولت آماله إلىمسمرا في بحر أحزانه وسيل أشجانه في قلبه دموع تسح بال هوادة، وتحيل نظراته إلى غمام ملبد فال يكـاد يـرى سـواى

قاسية ال تستقبل آهاته وزفراته إال لترجع اليه صداها خائبا مثقال بأوجاع أخرى ومواويـل وقـصص مماثلـة جدران صلدة تسردها عليه في حزن رزين وتريه آثارا بارزة ألنامل صلبة صممت على أن تسجل بطوالتها وتحـديها للقهـر والمـوت

هد همه وحزنه ولكنه يقابلها بدهشة تستولي على أقطـار نفـسه بشعاراتها الحماسية المتحدية، فكانت الجدران تفعل ذلك لتهد ) .يا للعجب كيف ينطق الموتى بالحياة، وأنا الحي أكاد أعانق ظلمة الموت : ( وهو يتندر

فالسجن لم يخنق حياتهم بل أجـج فيهـا …وتبدى في خياله صورة غريبة ألصحاب هذه الشعارات أهم بشر أم فوق ذلك العطاء والتضحية ، فها هي أسماؤهم وكتاباتهم تشهد بما يختلج فيها من شوق وحنين لـورود الـسجن مـرة أفقا جديدا في

!أخرى، يتزودون منه وينهلون وكأنه عين الحياة طال لبثه في مكانه وأخذ يجتر عجائب قدره المر الذي رمى به في هذا المكان ، وتذكر منظره وهو مقود بـين رجـال

م الخشنة تفتك بجلده وهم ينتزعونه قهرا من جنته التي فتحت ذراعيها له بعد طول انتظار، وتـساءل فـي الشرطة تكاد أيديه :ندم

ـ لماذا لم أحاول الدفاع عن نفسي ، فأرفض الخروج من داري وأقاوم، لقد سلمت لهم كالدجاجـة التـي تأخـذ إلـى ! المقصلة مرغمة ؟

يه مبعثرا وكأن الجدران تشاطره سخريته، فتفرس فيها، وقال وهو يخاطبهـا وقهقه االستاذ حمود ساخرا، ورجع صداه ال : كممثل بارع يقف على خشبة مسرح ولكن بال جمهور وال مصفقين

!ـ ولكن كيف أقاومهم في تلك اللحظة الحرجة، وأنا الذي لم أفكر في ذلك حين كنت حرا طليقا؟وقعوا بي في هذا المأزق حين حولوا موكب الزفاف إلـى مـسيرة وكـأنهم لعنة اهللا على أولئك المتهورين الذي أ .. آه

كانوا يصيدون الفرص للتعبير عن طيشهم وغرورهم، بل لعنة اهللا على السلطة الظالمة وكل من يتعـاون معهـا، إذ كيـف ولكـن كيـف .. اإلقتتال يعتقلوني وأنا العريس الذي لم يكن لي ذنب في األمر وقد كنت دائما أتوخى السالم واكره العنف و

.أقنعهم بذلك انهم كالعميان ال بفرقون بين معارض ومسالم خصوصا بعد اإلنتفاضة التي استطارت بلبهم .. ال .. ال

: صاح االستاذ حمود بقوة ثم تراخى وهو يقول في ضيق وهـل كـانوا ! لكن أنى لـي ذلـك ؟ بل لعنة اهللا علي أنا ألني جبنت أمام طيش الناس ولم أحاول فعل شيء إليقافهم ، و

! ؟…سيستجيبون لمواعظي :استدار االستاذ قليال وكأنه يقلب اإلحتماالت التي كان بإمكانه فعلها بدل الوقوع في هذا المأزق وقال

.ـ ولكني كنت أستطيع الفرار من موكب الزفاف ولم أفعل، لقد خشيت الفضيحة ولكنها أهون بكثير من السجن .وته أن تعإلى وهو يصيح بشكل هستيري وما لبث ص

ـ هؤالء الفوضويون ، هل يفكرون في مأساتي أم يحزنون لي، لقد ذهب كل واحد منهم إلى بيته وتركوني أسيرا بـين !كالب السلطة، فليطالبوا اآلن بحقي في الحرية والحياة

سلطة ذلك بأني رجل مهم لدى الثوار فيزيـدون فـي ال ال أريد من أحد أن يطالب باإلفراج عني فقد تفسر ال .. ولكن ال …فليدعوني هنا اكرع الذل والهوان علي أن اخرج يوما فأنسى أو أتناسى ما كنت فيه .. تنكيلي ، ال

Page 71: جمرة في يد الملك

٧١

لقد كانـت لـدي …كيف وقد وجدوا في بيتي مجلة الشهيد التي تعتبر بحد ذاتها جرم وتهمة .. ولكن هل لي من خروج ا النتقد فكرها الفوضوي الذي لم يكن يعجبني أبدا ، لو تذكرت وجودها لدي لمزقتها إربا إربا منـذ بدايـة اشتريته. مهملة

وإنتقدت فكرك وثقافتك التي تدفع الشباب نحو التهور باسـم . كم حاربتك أيتها المجلة .. آه .. األحداث والمداهمات للبيوت ج، وماذا عن أولئك الذين يتكبدون المشقة لشرائك وتهريبك وتوزيعـك ، لمـاذا الثورة، وها أنت اليوم توقعيني في مأزق حر

أتمنى لو سنحت لي الفرصـة اآلن لقراءتـك .. لمحبيها والنحس لكارهيها .. نجوا بأنفسهم فكأنك أداة سحرية تجلب البركة والـسجناء وكيفيـة مواجهـة من جديد فأعرف مصدر سحرك وأفهم ما لم أكن أستوعبه، لقد قرأت منك مقاال عن السجن

! التحقيق، وأنا اآلن في أمس الحاجة لمعرفة إرشاداتك، إذ سأقول للمحقق حين يسألني عنك نعم هذا واضح من شـكلي وسـلوكي …سوف أقول لهم أني وجدتك في أحد المساجد ، وسيصدقوني ألني رجل مسكين

!؟ .يفرقون بين انسان وآخر أوه يا لي من غبي ، إنهم يتمنون الموت لكل شيعي وال

:وكأن صداه عاد إليه يقول ) .سوف يطول بك السجن واإلعتقال ويمضي شبابك حتى يذبل وال تعود تستمتع بشيء مما في الحياة ( وليتك اعتقلت عن استحقاق وجدارة، فالبعض يسجن ألنه ثائر يقاوم الطغيان ويسجل البطوالت ، أما أنت فقـد رضـيت (

لخنوع ووضعت له تبريرات منطقية لتزداد تثاقال إلى األرض وتمسكا بالدنيا ولكن من وراء حجاب وإن كنـت بالخضوع وا ها أنت قد وقعت في السجن الـذي تهـرب .. تتبنى الدفاع عن األمن والسالم فأنت لم تكن تجري إال وراء راحتك ورفاهك

حال ويهرب منه المذنبون مخافة الحساب، والبعض ينشد المـوت منه ويركض اليه اآلخرون كالموت يشد إليه المؤمنون الر ) .فيموت مرة وآخرون يخافونه فيموتون كل يوم مرة والف مرة

…وصرخ حمود فجأة بصوت مرتعد أيتهـا الجـدران .. علي أن أقاوم الموت وأتمسك باألمل ، أيتها الزنزانة .. لن يقبر شبابي …لن أموت هنا . … ال …ال

.. ترى ما هو حالك يـا ربـاب .. دعوني أرى الدنيا من ورائكم .. تخنقوا أحالمي وال تقتلوا نبتة األمل في أورادي ال …أم جمدت الزفرات بـين مقلتيـك ! هل إنسابت دموعك أيتها العزيزة بال توقف ؟ ! كيف أصبحت بعد ذلك الفجر المروع ؟

كـم أتمنـى لـو تـواجهين .. ة وانزويت بعيدا عن الناس وضوضائهم أم أنك إرتميتي على الفراش سقيم ! لهول الموقف ؟ األمر بصالبة ألنك ال تملكين غير ذلك ، ولو لم تفعلي لسوف يذبل شبابك اليافع، ليت الجدران تروي لي حالك كمـا تقـص

!!علي أحوال الكثيرين من زوارها ولكن أنى لها ذلك .. أن اعتقاله قد جعلها في نوبات متتابعة من البكاء والعويـل واللطـم وبالفعل فقد صدقت توقعات حمود حول رباب إذ

وفاحت رائحة المأساة إلى الجيران الذين هرعوا اليها مشفقين واللعنات تنهال على آل سعود بـشدة، وربـاب بـين النـاس التـي زينـت بهـا فرشـتها كومة من األحزان ال تكاد ترى إال ثوبها األبيض الذي أعتم لونه وذهب بريقه، وتنظر الورود

فتراها قد أسلمت روحها للموت، ولم يكن يسلي جزعها سوى كلمات حانية انطلقت من أعماق أم أحمد زوجة االستاذ مالـك : إذ قالت لها …التي أرادت أن تهدهد القلب المكلوم وتخفف أثقاله

شميين زينب عليها الـسالم ، سـوف يهـون ـ ال تجزعي يا رباب، لن يطول اعتقال زوجك، اصبري وتأسي بعقيلة الها .عليك مصابك

:وتجيبها رباب بصوت يغض بالحسرة

Page 72: جمرة في يد الملك

٧٢

.وصعب .. ـ ولكن ما ألم بي عسير وال تنسي يا عزيزتي أن ذلك هو ما نتوخاه مـن آل سـعود ونحـن …ـ إلجئي إلى كتاب اهللا تجدي فيه الشقاء والتروي

.رج اهللا فلنصبر حتى يف…نطالب بحقوقنا المسلوبة ولم تترك أم أحمد رباب مصابها وحيدة بين رياح متقلبة بل كانت تباغتها بين الحين واآلخر بزيارة ينشرح لهـا صـدرها

التي تلمست التغيير على مالمح رباب فسرت في بـدنها رعـشة خفيفـة . …وكانت معها سميرة .. وتتضاءل فيها أحزانها هموم الدنيا وحاضرها بين هموم الناس ومشاكلهم التي تتطلب منهـا الكثيـر حيث تذكرت هي األخرى ماضيها المغلق في

من التضحية وهي لم تكن تصل هذا السبيل إال عبر توفيق اهللا وإصرار علي وصداقتها مع أم أحمد التـي أخـذت تتماسـك .بشكل سريع

✽ ✽ ✽ : على شفتيها الناعمتين ابتدرت سميرة صاحبتها قائلة وهي ترسم ابتسامة الرضا

.. !ـ أرى أن رباب قد أصبحت أحسن حاال .. ـ بفضل اهللا يا سميرة

: ثم قالت بصوت متهجد .. وانهمرت دمعة يتيمة من عينها .. سكتت رباب .إنه ال يحتمل التعذيب . …لست أدري كيف يعامل حمود هناك .. خائفة جدا …ـ ولكني خائفة :ي رفق وتجيبها أم أحمد ف

ثم أن االسـتاذ حمـود قـد ال …ـ على العكس يا عزيزتي ، ففي السجن يغدو الجسم صلبا قادرا على تحمل كل شيء .. !يتعرض للضرب فهو لم يفعل شيئا

.. آه ليساعده اهللا .. إن الضرب والتعذيب من األمور المؤكدة .. ـ وهل أخذوه ليستضيفوه بشيء من الشاي والحلوى .رباب في حسرة والم فأكملت أم أحمد قالت

.ـ إذا علينا أن ال نسكت ، بل نطالب باإلفراج عن المعتقلين أو فتح المجال لزيارتهم !؟. ـ وماذا نستطيع أن نفعل

:سألت رباب في استغراب بينما ظلت أم أحمد إلى رباب وسميرة وتمعن التفكير حتى قالت كاننا الضغط على السلطات دون التعرض لألذى، لقد قدم الوجهـاء برقيـات عديـدة فنحن نساء وبإم .. ـ هناك الكثير

.للملك يطالبون فيها باإلفراج عن السجناء ، وتحركنا سيكون مكمال لذلك الدور ـ كيف ؟

:تساءلت سميرة فأجابت أم أحمد . إلى الملك في الرياض ـ نذهب إلى األمير أو إلى كبار المسؤولين ونطالب بحقوقنا وإن لم ننجح ذهبنا

!نذهب إلى األمير ؟! ـ ماذا ؟ .ـ نعم يا رباب

!ـ وهل يكفي عددنا لذلك ؟ . ولكن علينا أن نجمع أكبر عدد ممكن من زوجات وأمهات المعتقلين …ـ بالتأكيد ال

.ـ نعم ، إن ذلك بالضبط ما يجب أن نقوم به

Page 73: جمرة في يد الملك

٧٣

:قالت سميرة في حماس فاكملت رباب .اهللا ـ فليوفقنا

…واجتمعت الثالث في سيارة االستاذ مالك وهن في طريقهن لزيارة عوائل المعتقلين وإقناعهم باألمر الذي اتفقن عليـه :ولكن رباب انضمت اليهما مرتبكة شاحبة تشير عيناها عن قلق شديد فسألتها أم أحمد

!ـ ما هي أخبارك ؟ !ـ أراك قلقة

.. بره غير الئق وكذلك فعلت خالتي أم حمود لقد عارض عمي خروجي واعت.. ـ ها !كيف واجهت األمر ؟

:سألت سميرة وهي ترقب أنباء مثيرة عن التحدي فأجابت رباب .. ـ قلت لعمي اذهب أنت وطالب بخروج ابنك

.فقال إن األمر صعب وقد يجر على حمود مزيدا من المتاعب والتنكيل :ضحكت أم أحمد وقالت

.إنه مجرد تبرير .. ذنب، نحاول التستر بذلك كي ال نحرك ساكنا ـ عذر أقبح منـ لجأت إلى خالتي أم حمود كي تقنعه باألمر ولكنها هي األخرى ارتأت رايه، فصارحتهما إني سـأذهب ولـن أبقـى

.مكتوفة اليد ـ حسنا فعلت، إنه واجبنا تجاه المعتقلين وال بد من أدائه رغم كل الظروف ،

مهمة محفوفة بالكثير من العقبات والمضايقات، فالبعض استقبل األمر باستخفاف شديد فـآل سـعود ال يثنـيهم وبدأت ال شيء عن ظلمهم وجورهم ، وأخريات من أمهات وزوجات المعتقلين ترددن في األمر وتخوفن من عواقبه علـى معتقلـيهم

جرأة فكانت مجموعة كبيرة قد أبدت استعدادها للمـضي ومع ذلك فقد تجاوبت معهن الكثيرات وتبنين مطالبهن في حماس و .في األمر دون تردد

حتى النساء هاجرن المساء القمري الهادئ يلقي بضوئه على وجنتيها فتتوردان وتبرقان وهي ال تكاد تفقه غزل القمـر ومـداعبات النجـوم

وأكثر حقيقة وواقعية، وتزداد فرحتهـا كلمـا تـذكرت فتهيم بعيدا عن عالمهم البهيج إلى عالم باتت تراه أشد بهجة وإيناسا .خطيبها ذلك الشاب الذي خلقته اإلنتفاضة من جديد فأصبح كيانا آخر تتعلق كل جوارحه بواقع الشعب ومستقبله

:في تلك اللحظات المفتونة بعشق جديد، يدخل والد سميرة، عيناه تنضحان بإرتياح شديد، يخاطبها في ود ودالل د أنهينا كل المعامالت واإلجراءات لدراستك في أمريكا، حصلنا على القبول والترخيص من إدارة البعثات ولم يبـق ـ لق

:أجابت سميرة في إحترام بالغ ! اال اإلجراءات الخاصة بالحجز، ما رأيك في ذلك اإلنجاز يا عزيزتي ؟يمانك بحرية الفتـاة فـي تحديـد مـستقبلها ، إن لـي ـ إني أشكر تعاونك كثيرا يا والدي، وأفتخر بشخصيتك المرنة وا

.صديقات حرمن الدراسة في الخارج رغم توافر البعثات ألن آباءهن ال يباركون دراسة الفتاة خارج البالد :أجاب الوالد في فخر شع في عينيه

.عادتك هي مصدر سروري ـ وماذا في ذلك يا فتاتي، ما دمت تذهبين للدراسة فسأكون يوما ما فخورا بشهادتك، وس …ـ أطال اهللا في عمرك وأبقاك

Page 74: جمرة في يد الملك

٧٤

هـل أردت قـول شـيء …ـ ماذا بك يا ابنتي : قالت سميرة ثم سكتت في حيرة وشت بها عيناها فابتدرها والدها قائال !؟

.. نعم …ـ ها .تأكدي إني مستعد لكل شيء .. أو أي شيء آخر … هل تحتاجين إلى مال …ـ تكلمي :يرة في صوت متردد أجابت سم

! ؟.. ـ ما رأيك يا والدي لو أخبرك أني غيرت نيتي في السفر إلى أمريكا :فكر األب قليال ثم قال .كل ما في األمر إنها كانت رغبتك وقد سعيت لتحقيقها .. أنت لست مجبرة على السفر …ـ كما تشائين يا ابنتي

!سفر ؟ـ نعم ، ولكن هذا ال يعني أني تركت فكرة ال !ـ هل تنوين السفر إلى مكان آخر ؟

…ـ نعم :سكتت قليال ثم قالت وهي تغمض عينيها كي ال ترى وقع المفاجأة على والدها العطوف

.ـ إلى إيران :هز األب راسه كأنه ينفض ما ال يصدقه عقله وقال

!هل جننت ؟ أم تمزحين ؟! ـ ماذا تقولين ؟ :أجابت سميرة في ثقة

. عني ما قلت ـ بل أ !أال تعلمين أن السفر إلى هناك فيه خطورة ! ـ ولماذا إلى إيران ؟

!ـ وما الخطورة في ذلك ؟ـ الناس هنا في حال ال يحسدون عليه، اإلعتقاالت باتت على الشبهة والظنة، وتقولين أنك ستسافرين إلى إيـران العـدو

…الطـب أم األدب أم الفنـون ! ثم مـاذا ستدرسـين هنـاك ؟ ! كيف لي أن أضمن رجوعك بسالم ؟ …اللدود آلل سعود .الجامعات هناك ما زالت معطلة

. قالها األب في تهكم وسخرية فاجابت سميرة دون تردد . بل دراسات إسالمية …ـ ال

:صعق األب لما سمع، فتبدى الحنق على وجهه والغيظ في صوته وهو يقول ! حولك من مخاطر وبالء، اال تشفقين على نفسك ؟ـ وتقولين إسالمية، اال تنظرين ما

:احمر وجه سميرة وغارت عيناها وهي تقول ـ كنت أظن األمر سيسعدك فما عرفتك إال محبا للدين، وتتمنى لو يغير اهللا حالنا إلى أحسن منه، مـا خلتـك تعـارض

.دراستي في إيران ! ولكن هذا ال يعني أن أدعك لترمي نفسك إلى التهلكة ـ نعم أنا رجل متدين وأتمنى سقوط الحكومة الظالمة،

! ـ وهل تسمي الدراسة في إيران تهلكة ؟ .بل أكثر من ذلك .. ـ بالطبع

Page 75: جمرة في يد الملك

٧٥

ـ إذا ماذا عن الدراسة في أمريكا، حيث الفساد والمخدرات واإلنحالل ، هل كنت تـضمن عـدم انزالقـي فـي تلـك ! المهاوي ؟

.فسحت لك الطريق كي ال أكون عقبة أمامك ـ لقد كانت تلك رغبتك ، وقد أ !ـ وها أنذا قد أعرضت عنها إلى إيران، فلماذا ال تسمح لي ؟

!ـ وهل خطيبك راض عن رغبتك هذه ؟ .ـ بالطبع ، ما كنت ألتخذ قرارا إال بإذنه ورضاه

:رمى األب بعقاله وغترته وقال حانقا . وأصبحت غير مفهومة ـ لست أدري ماذا حل بكما ، تصرفاتكما تغيرت

.ـ وهل تتوقع أن نبقى على حالنا الذي كنا بعد التغيير الذي حل بشعبنا وأمتنا .ـ سوف أكلم عليا بنفسي ألعرف رأيه

.. ـ إذا فسوف يقنعك هو باألمر ـ .. قالت سميرة وفي قلبها عزم أكيد على أن تعيش حياة أخرى وتسلك دربا آخر نحو الجهاد ت تنظـر إلـى ألنهـا بات

.الهجرة خطوة عريضة في سلم الخطوات التي تهدف تقويض الظلم ورفع راية الحق اغراءات

الليل سبات وسكون، هكذا أراده اهللا لكافة خلفه، ولكنه في عهد الظلم وسالطين الجور، يتحول إلى شبح ثقيل يجـثم علـى ل يتوقع مباغته رجال المباحث إلعتقاله أو اعتقال أحـد أفـراد فالك. النفوس، يسلبها الهدوء ويرميها بسهام القلق والرعب

أسرته، األبواب توصد مبكرا وهي التي كانت من قبل مشرعة ليل نهار، وحين يطرق الباب ، تتالقى النظرات فـي حيـرة ! ؟… ولمن …من القادم : وفزع وتساؤل

أم هو مطارد الجأه المباحث إلى قدر مجهـور فـي ! هل هم المباحث جاءوا يجرون في أرجلهم الغليظة مأساة جديدة ؟ ! ليل بهيم ؟

وكذلك كان حال االستاذ عادل فهو قد انعزل بنفسه وتقوقع في هواجسه أثناء النهار أما في الليل فهو يعيش مـع أشـباح يكـن يتـصور أن فهـو لـم .. تقاسمه سكون النوم وتغزو نفسه بأحالم ثقيلة وكوابيس مزعجة ليصحو بعدها كئيبا مرهقا

نظرات الريبة في عين ذلك الطالب السجين سوف تشتد إلى أغالل حديدية قاسية فيستـشعر الوحـدة بـين مئـات التالميـذ وعشرات األساتذة الذين الف قلبه محياهم، وكأن األقدار قد تكالبت عليه بأنيابها فاحاطته بمصائبها ليصبح مرصـدا لعيـون

.. ! ري أي القدرين سيتلقفه أم أنه سيكون ضحيتهما معا وهو ال يد.. مخابرات السلطة أسجن نفسي وأخنق أنفاسي كلما إنطويـت عليهـا وتقوقعـت فـي ! ؟…إلى متى سأبقى هكذا .. وتساءل االستاذ عادل

سراب تهيؤاتي ، خصوصا وأني أتخوف النظر إلى وجوه التالميذ فاشرع في شرح الدروس وأنا كالقـارب المثقـل الـذي صابه خرق، يلقي بحمولته ثم يغرق في ظلمات يم عميق، بل أجد نفسي ال تجرؤ القرب من اثنين يتكلمان وكـأني بالفعـل أ

وكيف ال وأنا أرى البعض يشير الي من بعيد ثم يرتد حين يراني وكأنه لـم يفعـل …بت أصدق ما يثار حولي من شكوك عتدت التلفت يمنة ويسرة أثناء المشي وأنا ال أصدق أني بمأمن ومنـأى بل لقد ا .. شيئا وهو الذي سدد لي طعنات مسمومة

.عن الخطر

Page 76: جمرة في يد الملك

٧٦

آه يا لي من رجل مسكين أراد أن يكون شاهدا في محكمة التاريخ فوجد نفسه أحوج الناس إلى من يـشهد لـه ويبـرئ !!ساحته

لى جمجمته وكأنه يعتصر هـدوءه ضحك االستاذ بشكل هستيري لتلك المفارقة المرعبة، وضع يده على رأسه وضغط ع رمى بنفسه على الكرسي وأخذ يتأمل المروحة التي أخذت تدور به فـي اعمـاق المجهـول . الغارق في ظلمات الهواجس

فأسلمته إلغفاءة مثقلة باألحالم، استيقظ منها على صوت طرقات شديدة، أربكته جعلته يتلفت يمينا وشماال وهـو ال يـدري وغارت عيناه وهو يتصور يد الثوار المنتقمة تترصد وراء الباب لتوقـع بـه …ليتفادى أي خطر قادم هل يجيب أم يسكت

…شر قتلة .. تعالت الطرقات ، فاتجه االستاذ إلى النافذة عله يجد ما يدله على شخصية الطارق

دعائه أو تـسلم ورقـة التحقيـق كانت مفاجأة شديدة أن رأى سيارة جيب تقف عند باب المبنى فأيقن أن أحدهم جاء إلست .واإلجابات

وقد فوجئ بأن القادم ليس إال المالزم فليحان الغامدي نفسه بمرافقة آخر بلباس مدني، فكانت دهـشته عظيمـة وحيرتـه .واسعة

:قال وهو يغوص في عيونهم الغائمة بمجهول مخيف …ـ تفضال

. هل كنت نائما …ـ لقد طرقنا الباب كثيرا .ـ كنت نائما . نعم …نعم . …ـ ها

دلف االثنان ، والعيون تتالقط جدران الشقة وزواياها وكأنهما يبحثان عن شيء شاذ يتناسب مـع شـذوذ تـصرفاتهما ، :وأخذ المالزم يطيل النظر في لوحة من لوحات الخضرة في القطيف وهو يقول لصاحبه

.حها ، هل نحرم منها، هؤالء الحمقى ال بد من إسكاتهم ـ أنظر ، هذه األرض، كنوز في باطنها وأخرى على سط .أجاب صاحبه وعيناه تنضحان بالشرر

:استدار المالزم قليال وقال مخاطبا االستاذ عادل … وجميلة …ـ الشقة واسعة جدا

.. ـ اشكرك كثيرا .اليست بعيدة عن المدرسة .. ـ ولكن لماذا في العوامية

:وأردف قائال .. جوابا وكأن مهمته السؤال فقط سأل دون أن يسترجي .. ـ آوه ، نسيت أن أعرفكما ببعض

.. االستاذ عادل مدرس التاريخ في المدرسة الثانوية .لقد كلمتك كثيرا أيها النقيب عن شخصيته وعن فضله السابغ علي

:ثم أشار إلى صاحبه قائال .فاء المعتمد عليهم ـ النقيب سليمان، من رجال الدولة األك

.. ـ أهال وسهال :أجاب االستاذ مجامال فقال المالزم محدثا صاحبه

Page 77: جمرة في يد الملك

٧٧

.ـ االستاذ عادل رجل طيب، طيب جدا ولكن ينقصه دور حقيقي يقوم به ، ولعله يبحث عنه فال يجده : سكت وأخذ يرمق االستاذ عادل بعينين تتقدان خبثا ومكرا وقال

أليس في هذا بحـث عـن دور …د شارك في بعض أحداث القطيف وإختلط بالكثيرين من المناوئين ـ هل تصدق بأنه ق ! ؟

.أجاب النقيب وهو يتصنع اإلشفاق !ـ نعم ، ولكنه دور خطير ومن دون مقابل

رج الـشقة كان االستاذ عادل حائرا فيما يرميان إليه كلماتهما المصطنعة وفي نفسه رغبة عارمة أن يرمي بهيكليهما خـا .

:وأردف النقيب !…ـ نوفر له دورا يقربه من السلطة

:واستدار إلى االستاذ قائال !ـ ما رأيك يا أستاذ عادل ؟

:فكر االستاذ قليال ثم أجاب في حنق !ـ هل تقصد دور المخابرات ؟ . وهذا أمر مطلوب بشدة في رجالنا …ـ إنك ذكي جدا يا أساذ عادل

.ـ متأسف جدا . …ـ سيكون لك راتب مغري و

:قاطع االستاذ عادل وقال في لهجة حادة .ـ قلت لك متأسف جدا

. والبقية تأتي …ـ وستكون لك جنسية كأي سعودي ـ وكل ما تتمناه :استشاط االستاذ عادل غضبا وقال في حنق ظاهر

.ذ زمن، هناك في أسرائيل ولحساب العدو لو كنت أبحث عنه لوجدته من…ـ لن أقبل هذا الدور مهما أعطيتني !ولكن كيف ؟.. عظيم …ـ في اسرائيل

:قال االستاذ في تحد بالغ .ـ لقد عرض علي األمر أكثر من مرة لقاء منصب يفوق منصبيكما معا

.فسأل المالزم في غباء مفرط !ـ ولماذا لم تقبل ؟

:ستياء استدار إليه االستاذ وقال في لهجة طافحة باإل . كيف أتجسس على إخوتي في الدين والعروبة واإلنسانية …ـ ألنه دور بشع، حقير

ثـم أن العمـل للمخـابرات اإلسـرائيلية شـيء وخدمـة .. نحن لن نطلب منك شيئا .. ـ ال تضخم األمور يا حبيبي . ال مقارنة في األمر …المخابرات السعودية شيء آخر

:فتمتم االستاذ في نفسه

Page 78: جمرة في يد الملك

٧٨

!أيها المنافق تغالط نفسك أم تغالطني ؟ـ : وقال النقيب موضحا األمر

. نشر اإلشاعات التي تخدم أهداف السطلة …ـ كل المطلوب منك معلومات بسيطة عن المدرسة والطالب و . …ـ ال أستطيع

.ـ فكر يا أستاذ عادل، لن أقبل منك أجابة سريعة نا مرة أخرى ، يكفيني ما يحيط بي من إتهامات ، ومجيئكما هنا سـوف يجعـل ـ بصراحة أنا ال أريد منكما الحضور ه

.وسوف تضعاني في مأزق .. الشكوك يقينا :رد المالزم في خبث

ـ ما دمت متهما لدى أهل القطيف فتوقع الكثير من المتاعب، االمر سيكون سيان، تعاونت معنا أم لم تتعـاون، فلتـضع .لحماية منهم يدك في يدنا كي نؤمن لك ا

.ـ سوف أحمي نفسي بنفسي :قالها االستاذ ثم تفرس في وجه المالزم وقال وكأنه يهدده بكشف أوراقه أمام صاحبه

. ما كنت أتصور أن تصل إلى هذا الحد بعد كالمك وشعاراتك حين كنت شابا …ـ وأنت أيها المالزم :حمير قاطعه المالزم قائال وهو يضحك ضحكا أشبه بنهيق ال !ـ وهل كنت تصدقني فيما أدعيه من قضايا صبيانية ؟

ـ هل أفهم من كالمك أنك كنت تتصنع الوطنية أم أنك كنت مندسا ؟ . ولكن أنصحك أن تعيش …ـ افهم ما تريد

:قاطعه االستاذ قائال في تهكم .ـ أن تعيش يا أستاذ عادل كما يعيش األنعام ، تماما مثل الحمير والبغال

:ضحك المالزم ثانية وقال ـ دع عنك العواطف، فلن تشبع بطنك ، وال تفوت عليك فرصة قد تتندم لـضياعها، لقـد أردت أن أرد اليـك الجميـل

.القديم :وقبل أن يجيب االستاذ عادل قال المالزم

.. ـ سوف نراك مرة أخرى وكل ما أرجوه هو أن تكون متعقال جا واغلقا الباب في عنف، ليتركا االستاذ في أمواج هائجة ورياح عاتية ال يرى فيهـا قـشة أشار النقيب إلى المالزم، خر

يتمسك بها كي يكابد الغرق وسرح بفكره إلى واقع شعبه وابنائه المنتشرين في أصقاع الدنيا تتالقفهم كالكرة وترميهم بنبـال ريعة لتجعل بعضا منهم عبدة المـال والـشهوات أو ميتـي سامة لتقتل وطنيتهم وانسانيتهم ، تعتصرهم الحياة بعجالتها الس

: وغمغم االستاذ في تبرم …الضمائر !فهل أكون إنسانا بال ضمير ؟.. بال هوية .. اال يكفيني أني إنسان بال وطن .. ولكن سأبقى نظيفا من تلك االدران (

!وهل أبقى بعد ذلك إنسانا ؟ آثار الزيارة

!زيارة رجال المباحث لألستاذ عادل في شقته ليال ؟ـ هل وصلتك أنباء

Page 79: جمرة في يد الملك

٧٩

سأل زهير وهو يرمق وقع سؤاله على عيني االستاذ مالك الذي أجاب في إستغراب شديد ؟ هل تقصد أنهم ـ! ـ أين ؟

..قاطع زهير حديث مالك قائال . باألمس ـ يقال إن سيارة جيب كانت تنقل رجلين من رجال المباحث قد توقفت عند باب المبنى

!قد يكون مجيئهم لشخص آخر او ألمر آخر! ـ وما يدريك أنهم جاءوا لزيارة االستاذ عادل ؟ :أجاب مالك وهو ما زال حائرا فتدخل علي قائال

لقد شوهد الرجالن وهما يدخالن شقة االستاذ، لقد سألت جيرانه فأكدوا ذلك، وما يدهشني أنه لـم يمـر أسـبوع .. ـ ال …االستاذ في الشقة ومع ذلك فقد عرفوا عنوانه على سكن

: ابتسم زهيرألن الزمن قد رجح رأيه في أمر االستاذ الغريب وقال !ـ ما رأيكما في ذلك ؟ !ـ ماذا تقصد يا زهير ؟

:سأل علي في ضيق لحراجة الموقف الذي قد يسقط فيه إنسان بريء فأجاب زهير !ـ أنت تعلم يا علي

:بقوة فقاطعهما مالك .ـ أنا ما زلت أقول أن ذلك ليس دليال عليه، قد يكون األمر إستدعاء للتحقيق معه كما يفعلون مع الكثيرين

! ها ؟…ـ لماذا يحققون معه :تساءل زهير في تهكم واضح بأمر االستاذ عادل ثم اردف

.كيف أتصرف معه ـ أنا متأكد من خطورة هذا الرجل مهما أعطيتما له من تبريرات، وسوف أعرف :قالها زهير وهو يضرب بكفه على رجله فرد عليه مالك محتجا

! ـ ال يجوز لنا اإلقبال على شيء حتى نتأكد من أمره .أما أنا فموقن من أنه رجل مندس .. ـ تأكد أنت يا أستاذ مالك

.. ـ لدي فكرة .. قالها علي فجأة ثم أطرق إلى األرض قليال وأكمل

.كرة تكشف اوراق هذا الرجل وتضع حدا لحيرتنا وجدالنا حوله ـ لدي ف !ـ ما هي ؟

:تساءل االثنان في شغف واستغراب ، تطلع علي اليهما مليا وقال .ـ ليس اآلن ، ولكن دعوا األمر لي وسوف أكشفه لكم

:وهنا أجاب زهير !كم عليه قليال ـ على الرغم من أني واثق إلى ما ستصل إليه إال أني سأتريث الح

.ـ إذا فلندع هذا األمر جانبا حتى حين :قالها مالك ثم أردف وعالمات من البشر ترسم في وجهه

Page 80: جمرة في يد الملك

٨٠

ـ لقد أعلن عن منظمة الثورة اإلسالمية في الجزيرة العربية، تتبنى قضية الصراع المـصيري بـين شـعبنا المـؤمن .إللهي في ربوع أرضنا والنظام السعودي المجرم، وترمي إلى إقامة العدل ا

.الحمد هللا . ـ الحمد هللا :قالها زهير فاكمل علي

: وأكمل مالك مؤكدا كالم علي …ـ إنه خبر يثلج الصدر، ويمأل النفس سعادة، هذا ما كنا نتمناه ونبحث عنه اننـا المهـاجرين كـي ـ بالطبع، فالعمل المقنن له دور أساسي في استثمار الجهود، نسأله تعالى أن يمد في صـبر إخو

.يكونوا أهال للمسؤلية العظيمة …ـ أعتقد أن األمر سيفقد السلطة صوابها ويرمي بها في بحر ال شاطئ له

:قالها زهير فأكمل مالك ـ هذا والسلطة تتصور أن المنظمة وليدة اليوم، فكيف بها إذا عرفت ان المنظمة ترعرعت منذ سنوات ولكنها لم تعلـن

. إال في هذا الوقت عن نفسها الحمد هللا ثم قال زهير …وتمتم الجميع

. …ـ سوف أتوجه إلى المسجد لسماع دعاء كميل .هل تأتيان معي

:اعتذر علي في رفق بينما قال مالك . إذهب أنت وادع لنا …ـ لدي أعمال أود مباشرتها

…ـ حسنا .قالها زهير ثم استطرد في سخرية واضحة

! .أن ال أرى االستاذ عادل هنا ـ أرجوا جدران المسجد بدت كأسوار عالية أو حصون منيعة تضم اليها شبابا وشيوخا كأنهم في ميدان قتال عنيف وطويـل مـع

.كل معاني الذل والخنوع ، ودواعي الخوف والجبن واإلستسالم ع انهمرت من األعين ثقيلة، واندفعت معهـا وشرع الجد في قراءة دعاء كميل، األكف ارتفعت ضارعة إلى اهللا، والدمو

وجمدت األجساد ، وهي تعاني لحظات فريدة من العشق الربـاني .. الهموم يبثها العبد إلى ربه ليستلهم منه صبرا وصمودا .. حيث يفنى الجسد في غمرات الروح الذائبة في ملكوت اهللا

فض ثم انخفضت األكف وهـي تمتـد برفـق ليـدي الجـد لحظات طويلة مرت تعبأت فيها القلوب بروح الثورة والر ) .تقبل اهللا ( المرتعشتين والشفاه تتمتم

وانفض الكثيرون بعد أن رموا أثقال الذنوب وتلبسوا بأرواح تعشق الجهاد، وبقي الجد حوله ثالثة من الـشباب المـؤمن، تجاعيده الكثيرة التي بـدت لـه كخطـوط ترسـم افترشوا حصيرا وجلسوا في فناء المسجد ـ كان زهير يتطلع وجه الجد ب

.ماضيا عريقا وحاضرا مثقال ومستقبال وضاء : اقترب زهير من الجد، انبسطت، اساريره وهو يقول

!ـ لدي خبر مفرح أيها الجد .أفرحنا معك .. ـ تفضل يا بني

Page 81: جمرة في يد الملك

٨١

.ـ لقد أعلن عن منظمة الثورة اإلسالمية في الجزيرة العربية :بر على مسامع الجد كأنه النسيم البارد في لسع الصحراء وقال في إمتنان هبط الخ

.. الحمد هللا …ـ الحمد هللا .. ثم أردف

.لقد أصبح الشعب يستند إلى بنيان قوي ومرصوص ال يقبل السقوط واإلنتكاس .. ـ إذا :وارتفعت األكف ضارعة

.ـ اللهم سدد خطواتنا إلى رضاك واخذل أعداءنا :م قال زهير وكأنه يبغي طرق باب جديد يستجدي منه دفعا نحو أمر كامن في صدره ث

ـ إن لسقوطنا وانتكاسنا أسبابا احدها تمكن بعض المندسين والجواسيس من العيش بيننـا دون الـشعور بـالخطر، إنهـم .آسينا يعيشون فينا فسادا، ويخدمون السلطة بإخالص ثم يقبضون الثمن من دمائنا وعرقنا وم

:وأكمل آخر يفرغ مكنون قلبه من اآلسى واللوعة ـ لقد وشى أحدهم بأخي، فاعتقل من موقع عمله بشركة أرامكو، لقد كان بودي لو حطمت رأس ذلك الجاسـوس كـي

.أعطيه درسا له ولغيره :رض وهو يقول كان الجد يستمع حديثهما وهو مغمض العينين ، شفتاه مزمومتان في رفق وأطرق برأسه إلى األ

…ـ رحم اهللا شيخي :واستطرد يقول في تأن واضح

ـ لقد كان مؤمنا ، شجاعا، عارفا بأهل زمانه، الناس يجدون في محضره اطمئنانا وصفاء فيلقون بـين يديـه دمـوعهم …وآالمهم وقد جاء اليه جمع من الفالحين يشتكون إليه أحد العمالء اآلتراك

راكبا فرسه محاطا بأزالمه وأعوانه ، فيشير إلى لفائف البرسـيم ليأخـذها ) البرسيم ( ليهم في سوق كان العميل يدخل ع .أعوانه عنوة وغصبا

.وضاق الفالحون ذرعا من تلك الصورة التي باتت تتكرر كل يوم وباتوا غير قادرين على التحمل أكثر :اهر سكت الجد وهو يفرك يديه بمسبحة فقال زهير في شغف ظ

!ـ وماذا قال لهم الشيخ ؟ :تطلع الجد إلى الشباب الثالثة وأخذ يكمل قائال

!؟) كم عددكم أنتم : ( ـ لقد عبس الشيخ في وجوههم وقال لهم :نظر الرجال إلى بعضهم وقبل أن يجيبوا سؤاله ابتدرهم بقوله

) !عني هيا إنصرفوا …كيف يستطيع رجل مثله أن يغلبكم وأنتم جمع كهذا ( : وبعد انتظار وجيز قال أحدهم . ..…كانت أعين الثالثة مركزة على شفتي الجد تلتقط منها استكماال

!ـ وماذا حدث ؟ :وقال .. ابتسم الجد

.ـ في اليوم التالي كمن أحدهم لذلك المتغطرس ، وطعنه بخنجر قبل أن يترجل عن فرسه :أطبق زهير كفيه على بعضهما وهو يقول

Page 82: جمرة في يد الملك

٨٢

!ـ فلماذا ال يفعل شيوخنا اآلن مثل ذلك ؟. ـ لقد كان علماؤنا األوائل شجعانا ال يهابون المصاعب :قال الجد في يقين واضح

.بل أفضل .. إن شعبنا يحمل ماضيا عريقا في الجهاد، لن يكون حاضره إال صورة مماثلة …ـ اطمئن رأسه تدور أشياء كثيرة حول ذلك االسـتاذ المـشبوه وقـد نـوى وحين انفض النقاش مع الجد، قفل زهير راجعا وفي

.التخطيط لألمر ورأى في كالم الجد إيذانا بتنفيذ خطته حمود يواجه السياط

بعد أيام من الصمت القلق الذي حنق أنفاسه، وتسلل إلى جفنيه فأورثهما األرق والذبول ، وهوى بآماله إلـى حـضيض ود يرى أمامه إال صورة مشوشة بالرعب والسواد ال يجد بين خطوطها الملتويـة فـي تالصـق، بائس، لم يعد االستاذ حم

.خيطا أبيض يطيل النظر فيه ليحافظ على جوده من الغرق في دوامة اليأس كان االستاذ حمود قد أقتيد بيد أحد رجال الشرطة مغلول اليدين ، معصب العينين ، لم يكن قد رأى مـن ذلـك المكـان

يغص بالمئات من أمثاله سوى الجدران الضيقة التي تحلقت حوله لتثير في روحه دفائن قديمة، وتقلـب فيهـا أمواجـا الذي .متضادة

وصكت أذنيه أصوات العشرات في همهمات وذكر وتسبيح ، لقد خيل اليه وقتئذ أنه يمر فـي أروقـة المـسجد الكبيـر لخالص بعيدا عن ظلمات نفسه وحدود السجن الـذي يقبـع فيـه إلـى أيامـه المجاور لبيته ، واستلبه ذلك الجو الروحاني ا

الماضية فتراءت له كأنها امواج متالطمة، متدافعة ، وسيل من التناقضات بدا وكأنه يغوص فيه حتـى قمـة رأسـه، فهـو ولكـن مـا بالـه …دا بتدينه الشاب المثقف الذي ال تفارق المسبحة يديه، وتتدلى لحيته الكثيفة على ذقنه فتعطي انطباعا أكي

يرى الواقع الفاسد فال يحرك ساكنا للتغيير بل ويقف أمام أي محاولة لإلصالح السياسي، لطالما تمنى لو ملك زمام األمـور . …فأعتقل كل من تحدثه نفسه بخلق الفوضى والقالقل وتحويل هدوء المساجد إلى ضوضاء

وطرقت سامعتيه أصوات أخرى، كانت تئن وتتوجـع فتـسلم …نفس واحدة نعم انها تناقضات ومفارقات عجيبة ضمتها . …إذ أحس بنفسه يقاد إلى مسلخة يعود بعدها جـسده ممزقـا أو .. جسده إلى رعشات متناوبة، تقف معها شعيرات جسده

..ال يعود دخل االسـتاذ إلـى إحـدى انقبض قلبه لذلك الخاطر البغيض، وما لبث أن عاد إلى دقات سريعة وزفرات مكبوتة وقد أ

..الغرف التي تنبعث منها رائحة قوية من دخان السجائر واألنفاس الكريهةفكت العصابة عن عينيه المثقلتين فرأى مكتبا فاخرا تتربع عليه عشرات األقالم ومئات األوراق، ولفائف من علب التبـغ

ة تكشف بين ثنياتها عن شمس األصيل التـي عـشقها االسـتاذ الستائر المتدلية على جدران الغرف.. وثالثة تليفونات خرساء وأنس بها ولكنه بات يفقدها في كل يوم يطويه هنا، وتراءت له رباب تسبح في أشـعة الـشمس الناعمـة، تغالـب دموعـا

وهـو اغرورقت بها عيناها ، تمسحها لترى صفحة وجهه من بعيد، تتلمس آثاره، ثم تتخبط في الظالم الذي يـركض حثيثـا .يلملم أشعة األصيل ، ويستعجل رحيل الشمس ليباغت الكون بثقله

: وغمغم في فزع .. فرأى بابا يصل الغرفة بأخرى …تلفت االستاذ حمود إلى الوراء قليال .. أظنه مدخل إلى غرفة التعذيب …ـ يا الهي

:دا وهو يغمغم ثانية ما لبث أن طردها بعي.. سحابة خوف واستسالم تراخى لها جسده المتعب .ـ يا رب، فوضت أمري لرحمتك الواسعة

Page 83: جمرة في يد الملك

٨٣

دخل الغرفة رجالن، عرف االستاذ حمود على الفور أنهما من رجال التحقيق، أحدهما كان أشـد سـوادا مـن صـاحبه . …ولكل منهما جثة ضخمة فكأنهما من عالم آخر

تاذ أن يرى عنوان ذلك الكتاب بنظرته التي بدأت تغوص فـي كان أحدهما يحمل كتابا يتصنع القراءة فيه، واستطاع االس … كان عنوانه حوار مع الطرف االخر …كل شيء

وبدآ يتصنعان نقاشا فكريا وهما أبعد ما يكونان عن مثل تلك النقاشات إذ أن مهمتهما هي الضرب والتعذيب بـال رحمـة …

غتين ، ثم ابتسم في خبث وقال مخاطبا صاحبه الـذي بـدا اعلـى نظر أحدهما إلى االستاذ حمود ، حملق في عينيه الزائ :رتبة منه

ـ هؤالء الشيعة، يعتنقون مذهبا مثاليا ، فهم متقدمون فقهيا على المذاهب األخرى ، فباب اإلجتهاد لـديهم مـشرع وال .خذ مثال الخميني والشيرازي والخوئي.. يكاد عصر يخلو من كوكبة المعة من المجتهدين

…! ورد األخر متهكما اال ترى أن في عقائدهم ما يجعلهم في قائمة المـشركين .. ـ الفقه ليس كل شيء ، فالجانب العقائدي في اإلسالم األهم

!؟.…اال تراهم كيف يعبدون األشخاص ويتزلفون بالقبور! ؟.. والكفار :سكت قليال وهو ينظر شزرا إلى االستاذ حمود ثم أردف

ورد … روافض ، ال يعترفون بالخلفاء ، ويعارضون كل الحكومات واألنظمة فال تراهم يرضون بـشيء أبـدا ـ إنهم :عليه األخر وهو يتصنع الدفاع

ال تقل ذلك، إننا ال نستطيع أن نتهم كل الشيعة بذلك، ففيهم مجموعة من الموالين للسلطة، فـي الـزمن الغـابر …ـ ال .عرف البعض الذي يؤيد الحكومة بشكل مطلق وفي الوقت الحاضر، وأنا أ

كان االستاذ حمود يستمع كالمهما الغريب وهو جامد العينين ال يحركهما ليختلس نظرة حائرة، تائهة، محتـبس األنفـاس شارد التفكير فيما يقصدان من هذا الكالم، هل يحاوالن اللعب بأعصابه ودحرجته في دوامة هائجة يجد نفسه بعـدها مـسلما

!؟. …لهما ! ؟…ثم ما الذي يقصده ذلك المتزلف من قوله إن في الشيعة من يؤيدون السلطة بشكل مطلق

!…إذا فهم يفهمونه جيدا ! هل يعني بذلك معرفته بشخصيته ؟ :قالها االستاذ في نفسه صريحة

) استعطافه أكثر إلى جانبي إن كان األمر كذلك فأنا إذا في فسحة من األمل ولسوف أخرج عما قريب فألحاول ( ـ نفاق ، نفاق ، نفاق ،

:قالها الرجل االخر ، فأيقظ االستاذ حمود من فيض تفاؤله واستطرد .ليس منهم من يؤيد السلطة أو يتمنى لها البقاء إنهم يستخدمون التقية إلخفاء مقاصدهم وشرورهم .. ـ هؤالء الشيعة

:وقال في نفسه .. غمامة ثقيلة تجثم فوقه شعر االستاذ بدوار شديد يطوح برأسه وـ يا لكم من مالعبين، الحقد يمأل قلوبكم على الشيعة، لقد كنا نحاول أن نلتمس للسلطة عذرا في وأدها لحقوقنـا فنجعـل

رع الالئمة على علماء الوهابية ، لنبرر وهي واضحة كالشمس، لطالما تجاهلتها ولكنها اآلن تبعث بأشعتها في عينـي لتـصا … فليشهد العالم سقوط آخر قشة يلتحف بها آل سعود ، وتعريهم أمامي …نومها المشؤوم

Page 84: جمرة في يد الملك

٨٤

؟… هل أكملت المعلومات الخاصة به …ماذا عنه ) ١٥٩( ـ الملف رقم :سأل الرجل الذي يظهر شراسة وحقدا فأجابه اآلخر

ضخما جدا يحيط بكـل تـصرفاته ذهابـه وإيابـه ، ـ أوه ، نعم بالتأكيد ، هناك إجراء واحد فقط وسيكون الملف لديك .معتقداته وأفكاره ، أصدقائه وجيرانه ورفاقه، كل شيء حتى تصرفاته داخل بيته

ـ حسنا ، ومتى ستقبضون عليه ؟ .ـ في الحال ان شئت

.دعه حتى يستكمل الملف .. ـ ال :وسدد نظرات حاقدة إلى االستاذ حمود وهو يستطرد

! عن التظاهرات األخيرة أقصد حفلة الزفاف التي دبر لها لتكون تظاهرة ـ وماذاـ لدينا معلومات مفصلة عن األمر وأكيدة، عن مدبر تلك التظاهرة والمـشاركين، وعـن ذلـك الـشاب الـذي دفـع

…س المسكين المتواجدين إلى الهياج بكالمه الصارخ، إنه موجود لدينا اآلن وقد إعترف على رفاقه، ومنهم هذا العري … يا له من مسكين … ها …ها

:واندفع االخر في ضحك كأنه صوت بهيمي نشاز . لقد تصور أنه سيؤرق ليلنا في الوقت الذي يهنأ هو بنوم هادئ …ها .. ـ ها

.يا لك من مسكين اهـد ليكـون لينـا فـي استمرا في الضحك وهما ينظران إلى االستاذ حمود باحتقار وازدراء، وكأن األول منهم الذي ج

…كالمه عن الشيعة محاوال بذلك كسب االستاذ حمود كمؤيد للسلطة، كأنه قد نسي دوره وأفصح عن مكامن نفـسه النتنـة .. وعن ادعائهما المعرفة التامة بأفكـاره وسـلوكياته …وتساءل االستاذ عن سر التمثيلية الفاشلة التي مرت أمامه من قليل

لو كانوا يعرفون من أمره شيئا لما اعتقلوه وال أجهدوا أنفسهم في التحقيق معه، النهم لن يـصلوا إلـى كان يسخر منهما إذ .شيء ، فهو لم يكن يمارس أي دور ضدهم ان لم يكن العكس

هؤالء ليسوا سوى ذئاب متوحشة، تعرف المكر والخديعة ولكنهـا ال تفقـه الرحمـة … يا لجبني وسوء مسلكي …آه ( ان مهادنـة هـذه …أمل الرحمة من أمثالهم وهم يذيقونا الهوان والعذاب، الرحمة من اهللا فهو القوي الذي ال يقهر ولماذا ن

.الخالص منها هو األمل الوحيد .. السلطة جرم عظيم ال يغتفر واستطرد االستاذ في مناجاته نفسه وقد غمره شعور جديد بالتحدي

تهم ومدان لديهم على أي حال ألني شيعي وسواء لديهم أكنت ثائرا أم متخـاذال ، يـا علي أن ال أهادنهم، إني م …ـ آه فألجرب وقفة أفتخر يوما بها وأروي سطورها على أبنائي، نعم أبنائي الذين سيسألوني يوما مـاذا قـدمت لـشعبي …للعار

!وألمتي المظلومة ؟ :ن المارد الذي يهاجمهم في عقر دورهم وقال وأفرغ آخر نفس لديه في ضحك مصطنع يخفي وراءه خوفا م

.. ـ إن كنتم تعرفون هذا الرجل جيدا، فلماذا ال أرى أثر الضيافة عليه، نحن العرب مشهورون بالكرم :نظر لالستاذ حمود وأردف

!ـ اليس كذلك يا أستاذ حمود ؟ :فأجابه صاحبه

Page 85: جمرة في يد الملك

٨٥

.ود عليه بفرصة أخيرة للتوبة ـ إنه شاب مثقف، حريص على مستقبله بالتأكيد، ونحن نج :وقبل أن يخرج المحقق األعلى رتبة قال لصاحبه

.ـ لديكم معه فرصة حتى الفجر كي يقول ما لديه، وإال فسيكون لدي حل آخر معه فقـد .. لم يكن االستاذ حمود آنئذ يفكر في مغزى كالم ذلك الحاقد وإن كان كالمه يحمل لحظات قادمة طافحـة بـاأللم

وترسبت فـي نفـسه آالم مؤسـية …ل حمود بتأنيب نفسه وتقريعها ساخرا من معتقداتها البالية وسلوكياتها المتناقضة تشاغ …سرعان ما لفظها وهو يصر على أن يخرج من معركته تلك مبيض الجبين

لالسـتاذ أنهـم يتخبطـون بدأ المحقق اآلخر ينهال على االستاذ بوابل متالحق من االسئلة المتباعدة والمختلفة التي أكدت .في جهل عميق فلم يكونوا يعرفون عنه أبسط المعلومات

:قال المحقق !ـ لماذا فعلت ذلك ؟

!ـ كيف خططت لألمر ؟ !وأين هو ذلك الشاب الذي أشعل التظاهرة ؟! ـ ما الذي كنتم تنوون فعله ؟

غيره ، ال ألنه يخافهم بل ألنـه بـات يحتقـر أي وبدأ االستاذ يجيب دون خوف أو وجل وينكر كل ما ينسب اليه أو إلى …تجاوب معهم، لقد رأى نفسه اآلن تتحرر من قيود وأغالل كانت تكبلها باألمس وتثقل سيرها فتوقع بها في مهاو وحفـر

.. . بل لقد وجد نفسه يدافع عن الثوار وكأنه واحد منهم يحارب معهم في خندق واحد مبرح، تلذع جسده وتدميه بقسوة ، تتابع السياط على جسده كحيـات تتلـوى فـي غـرور فانهالت عليه السياط بضرب

يترنح ليسقط على األرض ، يشعر بأن الجسد الموجوع قد تجمدت آالمه وتثاقلت أناتـه بينمـا .. تندلع السنتها بالسم الزعاف إذ يكفيها سعادة أنها استلهمت صـبرا .. ارتقت الروح في عناق طويل مع ملكوت اهللا غير آبهة وال مستكينة لعذاب قصير

.وصمودا ال ينفدوقبل أن تهيم روحه بعيدا عن عذابه اآلني قرر االستاذ في نفسه ان يكون رجال آخر، وإذا ما وفـق لمغـادرة الـسجن

!!!…سيحيل المدرسة إلى بؤرة ثورة .. فسينتقم من السلطة شر انتقام زيارة السجناء

نوية كانت مسرحا بطوليا لصراع المصير بين الشعب والسلطة السعودية وهي ما زالت تعيش أياما أخـرى المدرسة الثا بين الهدوء النسبي والفوضى العارمة فتارة يباغت رجال المباحث حرم المدرسة العتقال شـخص بعينـه وتـارة أخـرى

…ن اسكاتها يفعلون ذلك للسيطرة على حاالت الشغب التي تعجز االدارة أحيانا ع …في ذلك اليوم، كانت فئة غير قليلة من الطالب قد تغيبت بينما تجمهرت مجموعة أمام البوابة تحاول الخروج

بعد جهـد تمكـن …اعتصر المدير ما تبقى من صبره، فخرج يناور الطلبة في محاولة إلرجاعهم إلى فصول الدراسة :من ايقاف أحدهم سأله !م لم ينته بعد ؟الدوا! ـ لماذا تخرج ؟

:يجيب الطالب في تحد واضح .ـ ذاهب لزيارة أخي في السجن

!ـ أليس من األفضل أن تأخذ اذنا من االدارة

Page 86: جمرة في يد الملك

٨٦

:ابتسم الطالب وقال !ـ أعلم أنكم لن توافقوا

:نظرات حادة منذرة يسددها المدير إلى الطالب وهو يقول في نبرة تنم عن غيظ ! وانتم على أبواب االمتحانات النهائية ـ هذا استهتار بالدارسة :ويجيب الطالب في تهكم

.ـ نعم استهتار ولكنه من قبل من فتح باب الزيارة للمعتقلين في يوم مدرسي !ـ سوف تفصل عن المدرسة ثالثة أيام إن خرجت

:قالها المدير متوعدا فأجاب الطالب .األيام الثالثة في كل أربعاء من االسابيع القادمة ؟ جيد ولكن اجعل هذه … لماذا …ـ ثالثة أيام

!ـ ماذا تقصد ؟ـ أقصد ان كل أربعاء هي موعد زيارة أخي، واشير إلى أنك ستضطر إلى فصل الكثيرين الذين ال بـد مـن ذهـابهم

.لزيارة أقاربهم :استشاط المدير غضبا وقال

.هذا افضل حل .. ـ إذا نغلق المدرسة :ساخرا ويجيب الطالب

.ـ كل أربعاء ان شئت يا حضرة المدير ✽ ✽ ✽

ارهاب السلطة السعودية كان حالكا شديدا وهي تتعثر في الطريق إلطفاء شعلة االنتفاضة واخماد نيرانهـا، ممارسـاتها قـاهي ونـوادي الـشباب الطائشة أدت إلى تسييس الشعب كافة من الكبير حتى الصغير فكانـت المجـالس الـشعبية والم

والحسينيات كمنتديات تبحث شرعية النظام الساقطة، وتجاوز األمر مرحلة الكالم العابر إلـى مواقـف سياسـية وبطوليـة .يتخذها الناس من جميع الفئات

ق االعتقاالت المتزايدة كانت بيت القصيد في كل مكان، وهي التي حدت بالكثيرين للفظ الصمت ومطالبة السلطة بـاطال سراح المعتقلين ، كالوجهاء الذين قدموا عشرات البرقيات والنساء الالتي تجمهرن لمقابلة األميـر، أمـا منظمـة الثـورة االسالمية في الجزيرة العربية فقد نظمت اعتصامات أمام سفارات النظام في الخارج فأجبرت الصحف العالمية على نـزع

لد حامي الحرمين الشريفين ، وكذلك طرقـت المنظمـة أبـواب المنظمـات صمام األمان وإزاحة الستار عما يجري في ب الحقوقية وأطلعتها على عشرات التقارير التي تكشف حقيقة ممارسات النظام وقد نشرت إذاعة الجمهورية االسالمية كثيـرا

زمامه منها، وفي سـبيلها من بيانات المنظمة وتقاريرها، كل ذلك أحرج السلطات وجعلها ترخي الحبل كي ال ينقطع فيفلت إلى ذلك كونت لجنة لدراسة االحوال في المنطقة الشرقية واالحساء ، وخالل اسبوعين أوصت اللجنـة بـضرورة افـساح

.المجال لزيارة المعتقلين من قبل أهاليهم وأقاربهم ✽ ✽ ✽

Page 87: جمرة في يد الملك

٨٧

على رمال الصحراء فتحيلها إلى جمـرات الهبـة، ريـح تتقد عين الشمس الحامية بنار تتأجج ، وتبعث أشعتها عمودية الطريق ما زال ممتدا أمام الجماهير الغفيرة وهي تقطـع ’ سموم حارقة تصفر وتلسع الوجوه والجلود فكأنها غضبة الطبيعة

…ورود الكيلومترات العشرة بعيدا عن شارع الظهران ـ الدمام حيث يجثم مبنى السجن الذي يعتصر في ظلماته مئات التجمهر الناس أما مبنى السجن العمالق كان أشبه بتظاهرة احتجاجية وان لم تبرز الفتات أو تسمع هتافـات إال الـضجيج العالي الذي ال يكاد يهدأ ، وقد أحيت جموع الجماهير جمود الصحراء بلهاثها وعرقها المتصبب ومشاعرها المتأججة شوقا

.امتداد حبل الظلم والتفافه حول أعناق الناس قاطبة وحنينا وأعطت مدلوال صادقا عن البعض فقد احساسه بالصحراء بعد طول معاناة وشديد تعرق فأغمي عليه، لتستمر القافلة التي استنفدت الشمس حيويتهـا

ـ م ونشاطها فتوقف البعض يلتقط أنفاسه وينظر إلى مبنى السجن وهو ال يكاد يصدق أن من بداخلـه أحيـاء يرزقـون رغ .الصحراء القاحلة والتعذيب والحرمان

الفوضى العارمة كانت تطبع آثارها في كل شيء حتى االجراءات التي بذلتها ادارة السجن باتت عقيمة غير قادرة علـى ـ ا استيعاب العدد الهائل من الزائرين الذين أصروا على مقابلة أبنائهم وقد تكومت الهدايا وأنواع المأكوالت في احدى الزواي

.فكانت كالتالل وبدأ الحشد يتحرك ببطئ ممل أسفر بوضوح عن فشل أكيد في استيعاب الوقت المحدد لكل الزائرين ، ومـا لبثـت ادارة

.السجن أن قررت دخول الجميع في وقت واحد متجاوزة إجراءاتها الروتينية عزائمهم حتى لقد بدا واضـحا أن الـسجناء السجناء من وراء القضبان كانوا يلهبون زائريهم بروح التحدي ويقوون من

:كانوا أرفع معنوية من غيرهم وقد سأل أحد الزائرين !ـ هل انتم بحاجة إلى شيء ؟

:فيجيب السجين في اعتداد .ـ نعم ، نحن بحاجة إلى صمودكم وتحديكم خارج السجن، أما هنا فبحاجة إلى دعائكم

زائرين فال يجد بينهم أحدا من أقاربه أو أسرته، كلمات كثيرة تتـساقط دبـر يكاد قلبه يخرج من حلقه وهو يرقب سيل ال أذنيه ال يكاد يفطن اليها، وقد تفطر قلبه حسرة ان ال يجد من يواسيه في سجنه سوى كلمات تنطلق مـن أنـاس ال يعـرفهم

..ى نفسه وتمتم في اشفاق عل…ولكنها بال شك صادقة، الوقت يعرج به بطيئا فيسقط كل شيء بيده ولعرفـوا أن الخـوف …لو رأو ما رأيته هنا لما منعهم شيء .. وغمغم .. ترى ما الذي منعهم من المجيء لزيارتي (

) …طريق مسدود وسكب االستاذ عبرات عفوية مسحها في سرعة كي ال يلحظها أحد من الزائرين الذين ما زالـوا يتقـاطرون كالـسيل ،

وعرجت لحظات اللقاء كأنها تـسابق الـصوت ولكـن ظلـت ذكراهـا …ستبشر قلبه الكسير وفجأة الح له شبح والده، فا كالصدى يتتابع وأنعشت في روحه رغبة ظمأى لرؤية عروسه التي لم يرها إال فـي الزيـارة الثالثـة بعـد أن خصـصت

.الزيارة السرة المعتقل فقط قيقتين وكأنها تبغي تحطيمها لتزيل حـاجزا ثقـيال أشـبه كانت تقف وراء القضبان الحديدية ، تضغط عليها براحتيها الر

تنزلق دمعة على خدها لتتبعها أخرى، تمسح دموعها ألنها ترفض االسـتالم لتلـك الـدموع .. بالموت بينها وبين عريسها يه المقاومـة االنثوية التي تغالب المرأة مهما تشبعت بقوة اإلصرار والعناد، وقالت في صوت متهجد يقاوم الضعف فال تجد

:اال مزيدا من الرقة األنثوية

Page 88: جمرة في يد الملك

٨٨

.. ـ هذا امتحان وبالء من اهللا ، علينا أن نتقبله بصبر وجلد : أجابها وهو يعانق نظراتها السابحة في غد مجهول

.ـ اسألي اهللا أن يفرج عنا .ـ بل علينا أن ندعو ونعمل في آن واحد لترجح كفة الحق على طغيان الباطل

:تها في وجهه الذي استضاء بوحي كلماتها وقالت في اعتداد واضح مدت نظرا .ـ لقد سعينا للمطالبة باالفراج عنكم، وقابلنا بعض المسؤولين في الدمام والرياض

؟ . أنت ؟ كيف ! انتم ؟! ـ ماذا ؟ :قالها مترددا في استغراب شديد وكأن ما قالته قد عقد لسانه فأجابت

…ألستاذ مالك وزوجته ـ نعم نحن، والفضل ل .. خير ما فعلتم …ـ آه فهمت :ثم سكت وهو يضم مالمح زوجه المتفائلة إلى صدره وقال .. قالها ممتنا

..ـ كم أتمنى أن تعود البسمة الموردة إلى قلبينا :وتجيبه في ثقة

…تحديهم و ـ البسمة تعود حين تزول دولة الباطل، فلتدع اهللا ان ينصر المؤمنين ويزيد في وامتدت أيدي الجنود القاسية لتفصل األرواح عن بعضها، نظراته تالحق هيكلها الرقيق وهو يبتعد عنـه فـي خطـوات متلكئة، ولكن ظلت صورتها شاخصة أمامه وهو يفكر في كلماتها الجديدة على مسمعه ويـستوحي منهـا تفـاؤال عظيمـا

.ع الذي ال بد أن يتبدل بسواعد مجتمعة موقنة بالنصر يتخطى حدود السجن وقيوده وقضبانه إلى الواق هوس االمن

القلق يحبس أنفاسه حارة في صدره ، تختنق في داخله كأنها ريح السموم وهو ما يزال يفكـر ويعـاود التفكيـر مـرة خطـة لتأديـب وأخرى في أمر االستاذ عادل الذي أكدت الشواهد المتتابعة أنه رجل مباحثن وها هو زهير في صدد حبك

! ولكن ما باله مترددا ؟…االستاذ وتأمين شره !؟.. ألنه يجري وراء رأي شخصي ال يشاركه فيه صاحباه مالك وعلي

وماذا عن إحـساسه المنقـبض . ولكن ما قيمة ذلك وهو متيقن بما ال يدع مجال للشك، وهل يترك يقينه لشك اآلخرين ؟ !؟.و يجول في المدرسة والفصول كلما الحت له صورة االستاذ عادل وه

!هل هو مجرد احساس ساقه إليه هوس األمن ؟قالها بقوة وهو ينفض توجسه وتردده جانبا ويستشعر ان األيام القليلة القادمة كفيلة بأن تقنع مالكـا وعليـا ) … ال …ال (

.. !تصور وحينها ال يبقى مجال للتردد وسيرى االستاذ عادل ما لم يكن ي…بصحة رأيه إذا فعليه أن يضع خطة محكمة ال يتهم بعدها أحد وال يخسر فيها فرد من الثائرين ، وعلى الورقة البيضاء التـي أمامـه بدا يرسم خطوطا متشابكة ومتقطعة، ويكتب اسماء االشخاص الذين سيستعين بهم في أداء المهمة ثـم حـدد زهيـر بدقـه

دل، وبالطبع لن يكون المكان الذي سيؤخذ اليه االستاذ عادل ، وبالطبع لن يكون المكـان المكان الذي سيؤخذ إليه االستاذ عا داخل القطيف إلبعاد الشبهة عن معارف االستاذ من الطلبة واالساتذة وباألخص هو نفسه الذي لم يكن قـادرا علـى اخفـاء

وعليه ستكون الحاجة ملحة لتـوفير سـيارتين ، ) الجش( نظرات الريبة في عينيه تجاه االستاذ عادل ، إذا فسوف يؤخذ إلى

Page 89: جمرة في يد الملك

٨٩

االولى تنقل الشابين الذين سيتوليان استدراج االستاذ عادل ، واألخرى يستخدمها هو لإلشراف من بعيد، وأخيـرا لـم يبـق فـي عليه سوى تحديد نوعية المادة المخدرة المناسبة التي يسهل استخدامها تحسبا ألي مشاكـسة يبـديها االسـتاذ عـادل

الطريق، وكانت أول خطوة في الخطة هي تكليف الشابين بمراقبة تحركات عادل ودراستها ليختار الوقت المناسـب لتنفيـذ …المهمة

مضى يومان استتم فيهما رفاق زهير معلوماتهم حول تحركات االستاذ عادل فأخذ زهير طريقه إلى منزل علـي وفـي :سأل علي مسترجيا .. ليبدأ ورفاقه تنفيذ المهمة . باله أن يستعير سيارة والده القديمة

.ـ هل يمكنني استعارة سيارة والدك القديمة لحاجة مهمة أجاب علي وهو يرقب نظرات زهير المشوبة بالغموض

!ـ هي لك وقتما تشاء، وأنا أيضا مستعد لخدمتك وقد أبدى استعداده أم يجعلـه مـستورا فكر زهير في صمت حار، هل يكاشف علي بسره ويستفيد من جهوده خصوصا

، الحيرة فضحت عن نفسها في مالح زهير فأحس علـي بقلـق يدهمـه فجـأة ولكنـه واراه .. لئال تعرقل مسيرته شيء :مستدرجا زهير في الحديث وهو يقول

!ـ هل هي مهمة سرية ؟ :فأجاب زهير في تردد واضح

! هل تحب المشاركة ؟…بالعكس .. ـ ال : قلب علي لتلك االستجابة السريعة ، أعمل فكره قليال ثم قال انبسط

.. ـ ولكن ما رأيك لو أجلنا اآلن جميع المهام واألعمال إلى ما بعد االمتحان :واستطرد مؤكدا رأيه

.ـ انها أيام مهمة وحاسمة سرعان ما تنتهي ونتفرغ جميعا للعمل :ت ثوان ثم نطق بعدها وكأنه قد استحسن الرأيأطرق زهير إلى األرض ال يحور جوابا ، مض

.. .ـ إذا بعد االمتحان نتدبر األمر معا هل ابتلعته األرض ؟

السماء صافية كنبع رقراق، وخيوط أصيل تتدفق من عين الشمس وتكاد تحتضن األرض، وظالل نـاعم ينبـسط علـى هيم في جمالها األخاذ، وتهدهدها ، لتـؤخر لحظـة األفـول البساتين التي شمخت بأشجارها ونخيلها تعانق لحظات الشفق وت

فهم يودعونها مساء حين تسلم جمالهـا . التي تنبئ عن نقاب الليل الموحش الذي يحرمها ضوضاء أبنائها من طلبة المدارس لتحـصيل لظالم دامس، ويعودون اليها بعد الظهر تقلب معهم صفحات الكتب التي كانت مهملة طوال العام حيث لم يبـق ا

الدراسي من االولويات كما كان من قبل بعد أن زاحمته احداث االنتفاضة وأيامها الطويلة التي احتـدمت وغيـرت أشـياء ولكنهم اآلن عادوا إلى كتبهم يتدراسونها بين الخضرة الحية والنخيل الفارعة التي تضع عنهم شـيئا مـن قلقهـم …كثيرة

وورود الياسمين البيضاء تتمايل كأجنحة مالئكة مـع هبـات النـسيم الهادئـة، . لقادمة المهيب وترقبهم الثقيل لالمتحانات ا فتحمل في ذراتها ما يبرد الجراح ويسكت اآلالم ولو حينا بسيطا إذ سرعان ما تستشعر القلوب الغضة هما لتقهقر الجمـال

. والحر، ويزيد ثقل حرمانهم الطويل الطبيعي أمام زحف المدينة الطاغي الذي لن يورثهم إال مزيدا من الجفاف

Page 90: جمرة في يد الملك

٩٠

استنفرت العقول واألفئدة حيويتها في اليوم األول لإلمتحان النهائي الذي لم يخل من نداءات الثورة التي امتزجـت بكـل …شيء ، فقد وزع منشور يدعو الطلبة للوقوف دقيقتين قبل االمتحان حدادا على أرواح الشهداء

لشمس التي زادت أشعتها حرارة وتسللت إلى كل مكان ، فعادت الـضوضاء إلـى فنـاء وانتصف اليوم الدراسي مع ا …المدرسة الضيق وكثيرون ما زالوا يلتهمون صفحات الكتب المشرعة وشفاههم في همهمة كأنها تسبيح طويل

ـ ة ومنافـذها خطوات مشؤومة ، مسرعة، تقطع فناء المدرسة تاركة وراءها عددا من السيارات عنـد مـداخل المدرس …وكأنها أعدت ألمر ما

.اعداد غفيرة بلباس مدني وعسكري تجوب المدرسة وترخي معها سدول الوجوم والبؤس اخطبوط الفزع يهاجم الجميع طلبة وأساتذة ومستخدمين ، خطوات لهفى حذرة تتحين الدنو مـن مبنـى االدارة تـستطلع

:ثارت عشرات األسئلة القلقة وتمتمت الشفاه الخبر اليقين بعد لحظات مضنية فجرت الهواجس وأ !وأي كارثة سيجرون في أذيالهم القبيحة ؟! ؟…ترى لم جاء هؤالء

تـرى ! هل جاءوا بقرار نافذ تحرم فيه المدرسة تقديم االمتحان عقابا على المنشورات التي وزعت في بداية هذا اليـوم ؟ !ي نالتها المنشورات ؟ما هو نصيب بقية المدارس في عموم المنطقة الت

أال من رحمة تـدعوهم ! أم انهم جاءوا العتقال أحد أفراد المدرسة ؟ فمن هو المسكين الذي سيحرم االمتحانات النهائية؟ لتأجيل األمر حتى تنتهي االمتحانات ؟

ايـة هـذا العـام واختنقت الحلوق غصة وهي تتذكر حرمة بيت اهللا التي أنتهكت فـي بد ! أال يراعون للمدرسة حرمة ؟ !…لم يبق في هذا البلد أي إحساس باألمان .. وتمتمت

:وقف المدير يرحب بضيوفه الثقال الذين داهموه كثيرا طوال العام وقال في نبرة وجلة !ـ هل من خدمة أقدمها لكم ؟

:ـ بالطبع أجاب الضابط في كبرياء وتغطرس فرد المدير .ـ نحن في الخدمة :ال الضابط مشددا على مخارج الحروف وبدون مقدمات ق

. …نريد حضوره بسرعة .. ـ االستاذ .ضاقت عينا المدير وبهت لألمر ثم قال مترددا

.نعم انه هنا ، سوف استدعيه بنفسي ! ـ االستاذ مالك الـسجون مـن مملكتـه ونهض المدير مستنفرا قواه المتخاذلة لهول المفاجأة وهو يعد على أصابعه يحصي من انتهبتهم

، وما لبث أن عاد…الضعيفة أمام غزاة السلطة : مكفهر الوجه، حائر القسمات ، تجلجلت الكلمات في حلقه وهو يقول

! ال أدري إلى أين ذهب …ـ لقد كان هنا قبل قليل سـة بحثـا عـن مراجل الغضب العنيف أخذت تغلي في صدر الضابط الذي أصدر أوامره باالنتشار السريع في المدر

: ونطق في غيظ شديد …االستاذ مالك ومحاصرة منافذها، وابرق بالالسلكي لمهاجمة منزل مالك !؟.. ـ دلني على مكتبه

.فتش مكتب مالك بل قلب رأسا على عقب ولكن الخيبة ترصدت مساعيهم فلم يجدوا أي شيء

Page 91: جمرة في يد الملك

٩١

بأقدامهم الثقيلة تطأ الفـصول وتهـاجم الممـرات ، خفق قلب االستاذ عادل دون توقف، خفقات حارة تلتهب كلما شعر وخفقات باردة ندية كلما ضاقت بهـم الـسبل ولـم يجـدوا . تستوقف الطلبة واالساتذة ، تتفحص الوجوه، وتتفرس المالمح

:لمطلبهم أثرا وكأن قد ابتلعته األرض، وانساق االستاذ يتساءل في حيرة أم أنه توقع األمر فرتـب لهروبـه ! وكيف تسنى له الهروب وسط هذا الحصار ؟! أين اتجه االستاذ مالك بهذه السرعة ؟

!خطة سريعة ومحكمة ؟وانقبض صدره حين الحت له المدرسة وقد حرمت ماءها العذب وظاللها الوارف فتخيلها مقبـرة معـشبة باألشـواك

..تتالعب فيها أصداء موحشة وصرخات تعلو ثم تموت ن مالك كأنها شريط من الذكرى الجميلة وقد أنس اليه منذ يوم رآه فيه وظل كـذلك حتـى وجرت لحظات جمعت بينه وبي

... وما برح مالك يتودد اليه ويعامله كزميـل عزيـز .. انطوى هو على نفسه واستوحش لقاء االخرين حين داهمته الشكوك ولكنـه جفـل لحظـة وهـو …كـسير وترقرقت عيناه بدموع لم يطلق لها العنان ، احتبست في أحشائه تنحب في صمت

!يستشعر عيونا تترصد سكناته وحركاته وفي ركن آخر، انزوى زهير يغالب ضوضاء نفسه ويضع أسئلة حائرة تجر في نهايتها حقيقة واحدة هي حقيقة االسـتاذ

االسـتاذ عـادل إلى أين سيـصل … وتساءل …عادل المندس الذي أقنع مالك بحسن طويته ثم رماه بسهم حاد فكانت نهايته …في خدماته الدنيئة وتجسسه ؟

:وتمتم زهير في اشفاق ومرارة ، ال بـد أن .. ولكن سأعرف كيف أفـضحه ، وأعاقبـه …ـ لقد حذرته من هذا الرجل ولكنه كان مصرا على تبرئته

!أعجل باألمر ؟لالمتحـان ، الوجـوم يظلـل الوجـوه، وقفل الطلبة إلى صفوفهم يستعجلون الخطا بعد أن مر وقت كثير كان مخصصا

والغضب يغلي في األعماق وال ينفس عن شدته إال في لعنات مكبوتة بعد أن ترك غياب مالك في نفوسهم فراغا مديدا أخـذ بالبعض بعيدا عن أوراق االمتحان يتذكر أيامه ووصاياه الثورية التي تلهبهم صبرا وصمودا ، وحدا بالبعض األخـر إلـى

غضبه في تلك االوراق الناطقة بكلمات طالما رددها مالك على آذانهم أن، ال تركنوا إلى الكـسل بـل ثـابروا لنيـل افراغ ..أعلى الدرجات في الدنيا واالخرة

وتخايلت صورته الطيبة أمام أعين العشرات وهو يشيع القلوب بأمل جديد حيث يمـوت األمـل ويحـدوها إلـى عمـل .متواصل حين تدلهم الخطوب

األمواج تنحسر نفض بقايا الخدر المتسري في جسده وهو ال يزال يشك في أمر االحضارية التي اقتحمت واقعه المتأزم، أغلـق البـاب وخطوات رجل األمن ما زالت تضرب فوق عتبات السلم وتتهابط على أذنيه كدوي غارة عنيفة جاءت لتقتل آخـر احـساس

سه، وغمغم االستاذ عادل وهو يفرك وجهه الذابل ويزيـل عـن عينيـه بقايـا النـوم باألمن واالطمئنان كان يحتضر في نف .. وصورا ما زالت تتراقص من أحالم مفزعة

أال يكفـي أنـي ! لم كل هذا االلحاح ؟! ـ يا إلهي ، إالم يرمي هؤالء الوحوش ، أال يقتنعون أني أرفض العمل معهم ؟ ! ؟قلت لهم رأيي بصراحة في الليلة الماضية

:وزفر زفرة مرة أفرغ فيها هما عظيما وقال في حيرة

Page 92: جمرة في يد الملك

٩٢

!ـ ماذا سأفعل وكيف سأواجه األمر ؟ ليس من السهل أن امرغ نفسي في عمل حقير ووحل غزير من الدناءة والالانسانية

! هل سأكون قادرا على تحمل اكثر مما أنا فيه ؟…ولكن .. دها إلى قشة عائمة تتناهبها األمواج دون ارادةللنفس االنسانية حدود من الصبر قد تتحول بع

.…آه ، أخاف أن أجد نفسي كذلك بعد صراع كهذا يقصم ظهري .وجر االستاذ خطواته المرتعشة إلى قسم الشرطة يمطره القلق بسهام حادة تزيد في ضعفه وذبوله

:قال المالزم فليحان وهو يغتصب ابتسامة باهتة .وضوع دون لف أو دوران ـ سوف ادخل معك في الم

.… أال تدعوني …يكفيني ما أنا به .. ال .. تلظى فؤاد عادل وأوشك أن يصرخ :وباغت المالزم صرخاته المكبوتة قائال

!ستكون هناك مسيرات متوقعة في نهاية رمضان :قهقه قليال ثم استطرد متهكما

.ـ أقصد أعمال شغب متوقعة بمناسبة يوم القدس :ت عيناه، وتصلبت أوداجه ثم ضرب بيده على مكتبه بقوة وهو يستطرد احمر

! هل تفهم ؟…ـ ولكنا سوف نمنعهم بقوة، المسيرة ستمنع دون رحمة نظرات االستاذ عادل معلقة في ذهول على شفتي المالزم وهو ما زال يعوم في يم عميق انتشله منه المالزم حـين قـال

لقـد غفرنـا لـك تـصرفاتك الـسابقة ، … استاذ عادل من االشتراك في هذه المسيرة ـ حذار يا : في شيء من التلطف ..وصرفنا النظر عن عدم تعاونك معنا، فال تجر اليك المتاعب من جديد :تنهد االستاذ عادل وأطلق نفسا عميقا ثم قال بصوت غريق انقذ للتو

…ـ نعم ، نعم كون على وجه االستاذ عادل، تنفس الصعداء ، بدأ يشعر أن األمـواج التـي خرج المالزم وكأنه يأبى ان يرى عالئم الس

ولكنه سـرعان مـا …تالقفته قد انحسرت عنه بعد صخب طويل وودعته كأنها ملت شاطئه الذي يواجهها بصخور صماء :أحس أن اعصارا آخر يحاصره وتساءل .. التهام الذي لصق بي وهل سأنجو من عواقب ا! ترى ما الذي سيعقب مجيئي إلى هنا ؟

:اصطكت ركبتاه خوفا ، وضع يده على هامته كأنه يندب حظه العاثر وهو يردد في حزن عميق !!!ال مفر لي أبدا

واكتشفت الحقيقة

أحداث األمس كانت تداهم قلبه في كل لحظة ، فتثير شجنه وتؤجج غيظه وهو ال يدري كيـف سـمح لنفـسه باالنـسياق فأعطى لالستاذ الحقير فرصة مديدة ليوقع باالسـتاذ مالـك ! أشار عليه بتأجيل المهمة إلى ما بعد االمتحان لرأي علي الذي

.. ..وابتدر علي قائال دون أن يلقي اليه السالم وكأن الكلمات تسيل من فمه دون إرداة

Page 93: جمرة في يد الملك

٩٣

. ـ ليتني يا علي أرى االستاذ مالك فأبث إليه شجني :مخففا عليه همه يرد علي مداعبا صاحبه و

…ـ تستطيع السفر اليه …ولكن زهير ال يستجيب لدعايات صاحبه وقد اكتسحه الجد وشيء من التحدي

:قال علي مستفهما ومـا ادراك أنـا لـن ! لم كل هذا القلق ، ان ما حدث أمرمتوقع ، هل كنت تحسب مالكا يبقى بيننا ؟: ـ ما بك يا زهير

.نلحق به :يدي زهير بقوة وقال في حزم تشابكت أصابع

.ـ قد الحق به، ولكن ليس قبل أن أنفذ المهمة التي اتفقنا عليها :نظر علي إلى صاحبه وقال مؤكدا كالمه

.ـ وأنا على االتفاق ، بعد االمتحان سأكون في خدمتك :استشاط زهير غضبا وقال في حزن عميق

؟. ؟ أحتى يعتقل الجميع …ـ إلى متى :ه علي متصنعا الجهل بما يرمي إليه قاطع

!ـ ماذا تقصد ؟أم إن اعتقال االستاذ مالك ال يكفـي ، لقـد اسـتجمعت .. يجب أن نحسم األمر معه اليوم قبل الغد …ـ االستاذ عادل

االدلة ضده وسوف أنفذ فيه العقاب، رضيت المشاركة أم أبيت يا علي :و يقول ابتسم علي في رفق ربت على كتف صاحبه وه

…ولك تحديد الزمان والمكان والكيفية .. نعم سوف نفعل ذلك معا …ـ نعم :ابتسم زهير وأحس بارتياح وهو يقول

.ـ لقد هيأت كل شيء، وأمامي فقط أن أخبر زميلي بساعة الصفر … سوف أحضر مفتاح السيارة معي …ـ إذا تقدم أنت

باعتداد واضح ويصف لعلي بدقة خطوات العملية التأديبيـة واالحتياطـات التـي السيارة تشق بهما الطريق، زهير يتكلم :ولكنه فجأة قال لزهير .. سوف تأخذ بعين االعتبار ، وعلي يستمع في اهتمام بالغ وانصات شديد

! هل تود سماعه ؟…ـ معي شريط هام :أجاب زهير في استغراب

.ـ وهل هذا وقت سماع االشرطة :حزم غير مالمح وجهه الهادئ ويجيب علي في

!ـ انه الوقت المطلوب .. ـ ماذا تقصد يا علي

.. وبدون أن يجيب ، ضغط الزر

Page 94: جمرة في يد الملك

٩٤

كان ثالثة يتكلمون ، األصوات غريبة لم يألفها زهير إال صوتا واحدا الفه منذ الكلمة األولى، كـان صـاحب الـصوت :يقول في ضيق ظاهر في نبراته

:ون ظهرا لمآربكم ، اني احتقر هذا الدور، احتقره فيرد عليه آخر ـ ال ، لن أقبل أن اك ! ـ هذا يعني انك تقف إلى جانب المناوئين للسلطة ؟

.ـ قلت فقط اني لن اكون جاسوسا أبدا :ويجيب الصوت االخر في استسالم

تـضع اسـماءهم فـي الالئحـة ـ حسنا ، ولكن كن حذرا من تصرفاتك التي قد تضعك في مقام من تمقتهم السلطة، و .السوداء

:ويقول الصوت األول في تحد .…ـ ال بأس ، ولكن ال تكرر زيارتك لي في الشقة، يكفيني ما أنا به من حرج أمام الناس التي تشك في أمري

علـى ضغط على الزر ثانية وأرجع الشريط ليعيده مرة آخـرى .. فيتوقف الحديث …ثم ينقطع .. يقهقه الصوت الثاني مسامع زهير الذي بدا منفعال ، مستغربا ، غير قادر على الكالم ، عيناه جاحظتان على الطريق وهمـا أبعـد مـا تكونـان

:تبصرا به ، وحين بدأ الشريط مرة أخرى صرخ زهير . اغلقه يا علي … كفى …ـ كفى

:فأجاب علي !ـ هل اقتنعت ؟

:يقول زهير في نبرة فيها استغراب !كيف سجلت هذا الشريط ؟.. كيف ـ ولكن

:ابتسم علي في رضا وهو يقول ـ لقد وعدتك واالستاذ مالك أن اكشف أمر االستاذ عادل، فترصدت له وتحينت الفرص لمراقبتـه مـن خـالل الـشقة

أن المجاورة له وهي الوحيدة الخالية من المستأجرين لحسن الحظ، لقد طالت مراقبتي لـه يـا زهيـر دون نتيجـة، غيـر احساسي به كان يؤكد نزاهته ، كدت أصاب بيأس خصوصا بعد أن جئت لي وأنت مصمم على تنفيذ ما في راسـك ، هـذا

…ما عرفته منك دون أن تصرح به : وواصل …تنهد علي

…ـ بعدها كان همي أن أثبت لك براءته ألنك لن تقبل بغير دليل وأحمد اهللا أن وفقني لذلك ما قطعه زهير بضحك متقطع ثم متواصل ينبئ عن ضيق شديد فكان أشبه بنوبة مـن الجنـون، ران صمت مقتضب عليه

شاركه علي ضحكه واستمرا كذلك حتى غارت عينا زهير فانسابت دموع ثقيلة منها أخذت تزيـل عـن باصـرتيه غمامـا .ثقيال

ر، كان يلوم تهـوره أحيانـا ويـدعوه وتذكر لحظة صورة االستاذ مالك وهو يوصيه بعدم التسرع في الحكم على األمو :رفع رأسه والدموع تبلل لحيته الخفيفة وقال . للصبر وجمع آراء اآلخرين

.ـ ترى متى يجمع اهللا بيننا وبين مالك ، لقد اشتقت إليه كثيرا :أجاب علي في اشفاق ظاهر

Page 95: جمرة في يد الملك

٩٥

.ـ األيام مهما طالت قصيرة في حساب المجاهدين :االيجاب ، ثم قال وهو يرقب اتجاه السيارة أومأ زهير برأسه عالمة

!ـ إلى أين يا علي ؟ :أجاب علي

.ـ نعود من حيث جئنا، ونتوجه قبل ذلك إلى شقة االستاذ عادل لنعتذر له :بعد سكوت وجيز قال زهير

يرات يـوم بل سوف ندعوه للمـشاركة فـي مـس .. ـ نعم ، هذا ما يجب علي فعله رغم صعوبته ، ال بد من االعتذار .القدس

.ـ فكرة جيدة ، تؤكد ثقتنا به وعاد من حيث أتى

عيناه تتسعان بذهول مفاجئ وهو يفتح الباب ليرى الشابين يقفان أمامه يأخذه دوار شديد يرمـي بأفكـار فـي إعـصار تنـق أنفاسـه ، عنيف ، تثور في رأسه أشباح السياط تأكل جسده ، وصورة مفزعة لحلقة حبل متين تلتف حـول عنقـه، تخ

:يرفع يديه دون وعي يتحسس عنقه، تتحشرج الكلمات في حلقه وهو يقول في ارتباك ! ماذا تريدان ؟…ـ من

:يبتسم علي قائال !ـ اال تدعونا للدخول ؟

:يجيب االستاذ مترددا ويده ما زالت تطبق الباب .. ـ تفضال

دفائتهم احاسيس كثيرة وتساؤالت حائرة ال تعـرف طريقهـا إلـى جلس الثالثة وموجة الصمت المريب تلفهم وتثير في االلسن المقيدة للحظات االرتباك الثقيلة ، وكاد االستاذ أن يفقد رباطة جأشه لوال أنه قرر مواجهة األمر بشجاعة فيحـسمه ،

:فابتدر زهير قائال !ـ لدي سؤال منذ أمد لك أنت يا زهير

:فعاجله زهير قائال !ا فقد كانت لدي أسئلة كثيرة ـ أما أن

…ـ تفضل ولكـن زهيـر قـال .. قالها االستاذ عادل وفي قلبه شيء من الراحة لهذه البداية التي قد تتيح له مصارحتهما بـاألمر

:لالستاذ ! هذا ان لم يكن سؤالك هو نفس السؤال الذي أثرته في الفصل حول قيادة االنتفاضة …ـ تفضل أنت أوال بالسؤال

وجم االستاذ لما سمع ، وأحس أن السماء تكاد تطبق على األرض ، ويذهب هو في دوامة عاتية، تـصبب العـرق منـه :غزيرا ، وأخيرا قال في نبرة حادة

.…ـ لقد أجابت االحداث وااليام على سؤالي :سكت لحظة ، بلع ريقه ، وجه نظرات مستفسرة حانقة إلى زهيرهو يقول

Page 96: جمرة في يد الملك

٩٦

!!فاتك معي ، نظراتك المرتابة، وكلماتك الطافحة باالتهام لي ـ سؤالي حول تصر :وهو يقول .. ضحك علي

…ـ اال تعرف السبب يا استاذ هز االستاذ رأسه فاستطرد علي ـ

ـ ألنك متهم ، ولسوء حظك كان هناك من يجمع األدلة ويضيفها إلى بعضها ليثبت التهمة عليك، أليس كذلك يـا زهيـر !؟

:الستاذ بغضب عارم وهو يقول اشتعل وجه ا !ـ أي تهمة تقصدان ، وأي أدلة ؟

:لوال أن تكلم زهير قائال ) أني بريء ( وهم االستاذ أن يصرخ بأعلى صوته ـ إنسان غريب عن هذا البلد، تجده في السجن بين العشرات يبادلهم أفكارهم وآراءهم ثـم يخـرج فجـأة لتجـده بـين

ليستفسر منهم عن كل شيء، وتراه في المسيرات المرة بعد االخرى ، وفي جانب آخـر ، يـزوره التالميذ يبادلهم الحديث و ! اليس كذلك يا استاذ عادل ؟…كلها أمور تدعو إلى الشك . رجال المباحث ويستدعونه بين الوقت واآلخر

ابان على ما بدا له قـد جـاءا أحس االستاذ بقلبه يغوص في واد سحيق، ال يجد فيه بصيص أمل أو سبيال إلى خروج فالش :رفع رأسه وبكل ما أوتي من قوة صرخ .. لينتقما منه بكل جرأة

! ؟. هل أحلف لكما أني بريء .. أنا بريء .. كلها أوهام … ال …ـ ال قاطعه علي قائال في رفق

. ال داعي لذلك فالمسالة واضحة لدينا …ـ ال : بسوء ما جاءا له ، ضرب بيده على المنضدة وهو يقول في عصبية مفرطة ولم تزد تلك الجملة االستاذ إال يقينا

. صدقاني …ـ انكما تتوهمان : هم عادل أن يرفع راحته فقال زهير …اقترب زهير من االستاذ وضع يده على كف االستاذ ليعتذر له

. ـ نعم ، كنت أتوهم ، وقد تأكدت من براءتك .وجئت اعتذر إليك

لكلمات على مسمعه فأحالت جسمه الدافق بالحرارة وفورة الغضب إلى كتلة باردة ، هامدة كأن الروح فيهـا هبطت تلك ا …قال في نبرة هادئة تنساب في رفق .. على وشك الهروب .ال أصدق .. ـ أنا ال أصدق

وأجاب زهير وهو يشد على يده ، .ر ـ أعرف أني أسأت إليك كثيرا ، فأرجوا أن تصفح عني وتغف

امتد سكون االستاذ ووجومه حتى لكأنه ابتلع أثر الحياة فيه، ثم ما لبث أن تنهد في عمق وزفر زفـرة طويلـة ، امتـدت ..يده األخرى لتقبض على كف زهير وتشدها في حرارة وود

تـضن وقف زهير وهو منتكس الرأس، انتهب كفه من بين راحتي االستاذ فتح ذراعيه لالستاذ الـذي هـب واقفـا واح ، اختلطت الدموع التي ذرفتها مقلتاهما وكأنها رذاذ تنثره سحابة واحدة، أفرغ زهير أساه ولوعته لما بدر منـه وهـو زهيرا

:قاطعهما علي قائال .. يسكب عبرات سخية ويضم االستاذ بين ضلوعه المتقلصة

Page 97: جمرة في يد الملك

٩٧

اننـا نعتـز .. خاصة يا استاذ عادل ـ مسيرات القدس ستكون في آخر جمعة من رمضان المبارك، ونحن ندعوك دعوة نظر عادل إلى زهير وعلي مليا وكأن عينيه تودع مالمحهما الشابة، العذبـة، وقـال فـي صـوت أضـعفته …بك كثيرا :الحسرة

…ـ آسف ، لن استطيع المشاركة :انقبض قلب زهير وقال مشفقا

!ألنا أخرجناك من مسيرة األربعين ؟! ـ لماذا ؟ :ستاذ عادل، ربت على كتف زهير وهو يقول ابتسم اال

…ـ أبدا ، ولكني مسافر ! ؟…ـ مسافر

:قالها الشابان في استغراب واكمل علي ..ـ كيف واالمتحانات لم تنته بعد

وابتـسم ثانيـة وهـو …ـ جاءني قرار فوري ـ ينقلني إلى دائرة المعارف ـ قسم االداريات بالرياض سكت االستاذ :ا زهير يقول مخاطب

ـ لست الوحيد يا زهير من يشك بي ويحاول التخلص مني ، فالسلطة أيضا تود ذلـك، وهـا هـو قـرار النقـل جـاء …ليحرمني

سكت االستاذ وكأنه غص بكلمات أبت الخروج فغاصت في أعماقه ، :وسأله علي

!ـ متى تسافر ؟ .ـ غدا

:تقطعت الكلمات على لسان زهير وهو يقول ستفارقنا كما فعل االستاذ مالك واالستاذ حمود ،ـ إذا

..وبلهجــــــة طافحــــــة بالحـــــــسرة قــــــال زهيــــــر مـــــــستطردا ..ـ ستأتي لتوديعك غدا

.ـ أهال وسهال تتخبط سيارة األجرة في مطبات الطريق المؤدي للخروج، وتثير وراءها ذيال من الغبار الكثيـف يظـل يرافـق معقبـة

وداع صاخب، ويشع بريق حب صاف في عيني االستاذ وهو يودع معالم القطيف بكل مـا تحمـل السيارة وكأنه يلحقها في وعـادت النخيـل .. من معان خالدة للثورة والحركة الدائبة نحو نيل الحقوق المسلوبة التي لن يجدها بمنفاه فـي الريـاض

. تبقى جامدة بعد ذلك أو تثيرها األيام من جديدواالشجار تتمايل أمامه وتنحني له فتثير في نفسه ذكريات قديمة وجديدة قدوعادت النخيل تتمايل أمامه، وتنحني له فتؤجج في وجدانه ذكريات قديمة وجديدة ، تنساب في مخيلتـه وكأنـه يعيـشها اللحظة ، بل وسيبقى يعيشها كل لحظة ، خصوصا حين ترده رسائل أصدقائه فتضعه في صـورة األحـداث وتطوراتهـا ،

أثلج صدره فيما بعد خبر عودة المعتقلين إلى ذويهم تحت الضغط المتواصل ، وقد كان يومـا مـشهودا اسـتقبل فيـه وقد األبطال بحشود الناس المشتاقة تلوح لهم بالورود ، وترميهم بالرياحين ، تحيي صمودهم وتحديهم وكأن القطيف فـي ذلـك

Page 98: جمرة في يد الملك

٩٨

ا جميعا، ومنهم االستاذ حمود الذي شعر بأن ذلـك اليـوم هـو يومـه اليوم قد اطلقت الحزن والسواد وراحت تزف أبناءه …المشهود بالفعل خصوصا وقد رمى عنه أثقاله وأوزاره وخرج بقلب آخر وروح جديدة

وكم حز في قلب االستاذ عادل أن حرم رؤية ذلك اليوم الذي اعتبره حلقة هامة قطعت من سلسلة مشاهداته الحيـة عـن .القطيف الثائرة

!إلى أين يمتد المطاف ؟.. وعاد يتساءل واألمل يمأل رحاب قلبه ! ؟؟… وتأمل بشكل تدريجي …هل سيبرد لهيب الثورة بعد هذا االنفراج

.أم سيبقى الشعب يقظا تزداد ثورته مع األيام نضجا في األشكال واألساليب ؟ وهذا ما توقعه تمت