beirut39 arabic anthology

304

Upload: sousanhammad

Post on 18-Jun-2015

2.913 views

Category:

Documents


3 download

TRANSCRIPT

Page 1: Beirut39 Arabic Anthology
Page 2: Beirut39 Arabic Anthology
Page 3: Beirut39 Arabic Anthology

كتابات جديدة من العالم العربي

تحرير صمويل شمعون تقديم جمال الغيطاني

Page 4: Beirut39 Arabic Anthology

تم نشر هذه المجموعة للمرة األول في بريطانيا العظمى سنة 2010The selection copyright © by Hay Festival of Literature and the Arts Limited 2010

تم التأكيد على الحقوق المعنوية للمؤلفين.تبقى حقوق النشر في هذه المجموعة من حق المؤلفين األفراد.

ال يجوز استخدام أو إعادة طباعة أي جزء من هذا الكتاب بأي طريقة كانت بدون الحصول على الموافقة الخطية من الناشر باستثناء في حالة االقتباسات المختصرة التي تتجسد في الدراسات النقدية أو المراجعات.

Bloomsbury Publishing Plc 36 Soho Square

London W1D 3QY www.bloomsbury.com

ISBN: 9781408810514

Page 5: Beirut39 Arabic Anthology

5

مقدمة

بيروت جزء أساس، ركن ركين من تكوين كل مبدع عربي. وليس صدفة أن أول قصة قصيرة نشرتها عام 1963، كانت في مجلة »األديب« البيروتية. بيروت مالذ االبداع والمبدعين. لذلك بقدر ما تصحو وتنشط بقدر تكون عليه حال الثقافة العربية. في بيروت بدأت المغامرات الرائدة في التجريب وارتياد اآلفاق. ومنها انطلقت المواهب الجديدة بال حدود، بجرأه وفرها وشجع عليها ونماها فضاء بيروت. هذا

ما تفتح عليه وعي جيلي في ممارسته الكتابة.كانت بيروت واحة حية محبة للحرية، ومنطلقا للمبدعين وظهور األسماء الجديدة، لذلك ترجف النفس وتجزع إذا ما الحت بادرة ولو ضئيلة للتضييق أو للحد. لكن من الذي يمكنه أن يضع خطوطا تحاصر االفق حيث يلتقي البر و البحر،

الظل و الضوء.هاهي »بيروت 39« تؤكد دور المركز الرائد، تقدم لنا مشهدا نادرا متكاملا لحال االبداع العربي في مطلع األلفية الثالثة، حيث نقرأ نصوصا رفيعة من العراق، الذي ال نعرف تماما ما يجري فيه اآلن. هذه النصوص التي تجسد الحيوية والقدرة على التعبير، من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق تجعلنا نتوقف أمام النصوص الفائزة التي أبدعها أدباء دون سن األربعين، ليسوا من المقيمين في الوطن العربي فحسب، وإنما في المهاجر ايضا حيث يوجد اآلن عدة ماليين من العرب الموزعين على الكوكب،

يكتبون بلغات أجنبية مختلفة، كما يحرص بعضهم على االبداع بالثقافة األم.»بيروت 39« توفر لنا رؤية ابداعية متكاملة من خالل أعمال الكتاب والشعراء الشباب، الذين تم اختيارهم عبر لجنة تحكيم رفيعة المستوى، مثلما توفرت لهم ظروف باهرة تكفل التعريف بأعمالهم على نطاق واسع، ليس في اللغة العربية وحسب،

Page 6: Beirut39 Arabic Anthology

6

وإنما في اللغات االخرى أيضا، انطالقا من اللغة اإلنكليزية وعبر دار نشر كبيرة. هذه النصوص بثت في روحي نشوة وتفاؤلا جميلا عهدناه دائما من بيروت التي تمدنا

بالثراء الفكري والروحي وألق المستقبل.

جمال الغيطانيالقاهرة، فبراير 2010

مقدمة

Page 7: Beirut39 Arabic Anthology

قائمة المحتويات

5 مقدمة جمال الغيطاني

11 بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت 39

14 كلمة عبده وازن

17 مالحظة من المحرر صمويل شمعون

19 مطلع رواية فرانكنشتاين في بغداد أحمد سعداوي

24 قصائد من يوتوبيا المقابر أحمد يماني

30 لمن تحمل الوردة؟ إسالم سمحان

33 ثالث قصائد باسم األنصار

38 مقطع من قصيدة جيولوجيا األنا جمانة حداد

47 قة األخيرة فصل من رواية المعلحسين العبري

Page 8: Beirut39 Arabic Anthology

53 قصائد حسين جلعاد

58 ات سرية مقطع من رواية لذحمدي الجزار

63 قصتان ديمة ونوس

72 مقطع من رواية أميركا ربيع جابر

81 قصة بنايتي رندا جرار

90 مطلع رواية حراس الهواء روزا ياسين حسن

98 تسع قصائد زكي بيضون

103 تسع قصائد سامر أبو هواش

108 مقطع من رواية رائحة القرفة سمر يزبك

114 األمازيغي عبد الرحيم الخصار

118 مقاطع من رواية جلدة الظل عبد الرزاق بوكبة

123 فصل من رواية بدو على الحافة عبد العزيز الراشدي

129 زيارة إلى المجزرة عبد القادر بن علي

قائمة المحتويات

Page 9: Beirut39 Arabic Anthology

140 جل الجريح الرعبد اهلل طايع

147 مقاطع من رواية االرهابي 20 عبد اهلل ثابت

155 فصل من رواية كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب عدنية شبلي

162 تعايش عالء حليحل

168 ميمونة فايزة غوين

177 مقاطع من رواية المشرط كمال الرياحي

185 حنيف من جالسكو محمد حسن علوان

192 مقطع من رواية قارب ال يحب شط النهر محمد صالح العزب

197 ماد فصل من رواية تخوم الرمنصور الصويم

205 نحو الجنون منصورة عز الدين

210 قصائد من مقبرة األوتوبيسات ناظم السيد

216 قصائد من ديوان مثل شفرة سكين نجاة علي

223 من سيرة البركة والبيانو نجوى بنشتوان

قائمة المحتويات

Page 10: Beirut39 Arabic Anthology

233 قصائد نجوان درويش

238 ثالث قصص قصيرة هالة كوثراني

243 بطن ليلى هيام يارد

248 جريمة في شارع المطاعم وجدي األهدل

262 تان قصياسين عدنان

270 مقطاعين من رواية ساق الغراب يحيى أمقاسم

276 فصل من رواية المقامة الحاكمية أو المنتحر 20 يوسف رخا

284 المؤلفون

298 المترجمون

300 شكر و تقدير

قائمة المحتويات

Page 11: Beirut39 Arabic Anthology

11

بيان لجنة تحكيم مسابقة »بيروت 39«

بعد اجتماعات عدة عقدتها لجنة تحكيم مسابقة »بيروت 39«، في عواصم عربية، وأخيرا في بيروت، تم التوافق على األسماء التسعة والثالثين الذين سيشاركون في المهرجان الذي تنظمه مؤسسة »هاي فيستيفال« تحت عنوان »بيروت 39« بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية وفي إطار االحتفال ببيروت عاصمة عالمية

للكتاب 2009 .وما تجدر اإلشارة إليه أيضا هو غزارة المشاركة الشبابية في المسابقة، إذ بلغ عدد المشاركين أكثر من 450 كاتبا وكاتبة من معظم الدول العربية، ومن المغترب

العربي، األوروبي واألميركي.وكان على أعضاء لجنة التحكيم التي ترأسها الناقد المصري الدكتور جابر عصفور، والتي ضمت الروائية اللبنانية علوية صبح، والشاعر العماني سيف الرحبي، والشاعر والناقد اللبناني عبده وازن، أن تراجع أعدادا كبيرة من الكتب التي أرسلها المؤلفون والناشرون، وتقرأها وتفرزها. وقد اعتمدت لجنة التحكيم منهج االختيار المتعاقب، فاختارت في البدء مئة اسم ثم ستين اسما الى أن توصلت الى األسماء التسعة

والثالثين بعد نقاشات طويلة وعرض للكتب. وكان النقاش يمتد أحيانا ساعات نظرا الى وفرة األسماء المهمة التي تستحق الفوز، وكان اختيار األسماء صعبا وتطلب الكثير من الدقة والتأمل والتفكير.األسماء التسعة والثالثون التي اختيرت تم اختيارها انطالقا من رسوخ نتاجها اإلبداعي، روائيا وقصصيا وشعريا، وما يمثل من أصالة وتحديث في الوقت نفسه، ومن استجابة للمعايير األدبية والنقدية. انها أصوات مبدعين شباب، استطاعو أن يكونوا شخصياتهم وأن يفرضوا تجاربهم، متميزين بأساليبهم الخاصة ولغاتهم

Page 12: Beirut39 Arabic Anthology

12

ومقارباتهم، ورؤاهم أو مواقفهم. لكن اختيار هؤالء ال يعني أن الئحة المشاركين لم تحفل بأسماء أخرى مهمة، فاألسماء التي كانت تستحق الفوز في المسابقة ليست قليلة البتة، لكن االلتزام بقاعدة المسابقة التي تتبعها مؤسسة »هاي فيستيفال«

باختيار 39 اسما، هو الذي جعل الحظ غير محالف لها كلها.وختاما ال بد من التنويه باألدب العربي الشاب الذي يتمتع بخصال الفتة وخصائص

فريدة. ولعل جيل الشباب هو الذي سيصنع مستقبل األدب العربي.أما األسماء الفائزة فهي:

عبداهلل ثابت: المملكة العربية السعودية )1973(أحمد يماني: مصر )1970(

إسالم سمحان: االردن )1982( يوسف رخا: مصر )1976(

باسم االنصار: العراق )1970( ديمة ونوس: سورية )1982(هالة كوثراني: لبنان )1977(

نجاة علي: مصر )1975(عبد اهلل الطايع: المغرب )1973(

ربيع جابر: لبنان )1972( روزا ياسين حسن: سورية )1974(

زكي بيضون: لبنان )1981( سمر يزبك: سورية )1970(

منصورة عز الدين: مصر )1976(كمال الرياحي: تونس )1974(جمانة حداد: لبنان )1970(

أحمد سعداوي: العراق )1973(حسين جلعاد: االردن )1970(

عبد القادر بن علي: المغرب )1975(حمدي الجزار: مصر )1970(

بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت 39

Page 13: Beirut39 Arabic Anthology

13

وجدي األهدل: اليمن )1973(محمد حسن علوان: المملكة العربية السعودية )1979(

عبد العزيز الراشدي: المغرب )1978(نجوان درويش: فلسطين )1978(

ناظم السيد: لبنان )1975(عبد الرزاق بوكبة: الجزائر )1977( عبد الرحيم الخصار: المغرب )1975(

محمد صالح العزب: مصر )1981(سامر أبو هواش: فلسطين )1972(

ياسين عدنان: المغرب )1970(عالء حليحل: فلسطين )1974(

يحيى امقاسم: المملكة العربية السعودية )1971( عدنية شبلي: فلسطين )1974(

منصور الصويم: السودان )1970( حسين العبري: عمان )1972( نجوى بنشتوان: ليبيا )1970(

فايزة غوين: فرنسا / الجزائر )1985(رندا جرار: فلسطين / مصر/ أمريكا )1978(

هيام يارد: لبنان )1975(

بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت 39

Page 14: Beirut39 Arabic Anthology

14

أدب عربي شاب

»بيروت 39« خطوة فريدة غايتها رصد حركة األدب العربي الشاب، جامعة أسماء ووجوها شابة، فاسحة أمامها المجال لتتعارف وتتبادل الخبرات واألفكار وتعمل

معا في ما يشبه المحترفات األدبية. لقد تخطى الكتاب العرب الشباب في عملهم اإلبداعي مفهوم المكان أو الهوية المحلية وباتوا ينضمون الى تيارات ومدارس أدبية تشكل مرجعهم األول واألخير. ويالحظ بوضوح مثلا أن روائيين كثرا من بلدان عربية مختلفة، مشرقية ومغربية ينتمون الى تيار واحد متخطين جدار اإلقليمية، بل هم يتواصلون ويأتلفون على رغم البعد الجغرافي، وبات من السهل الكالم عن رواية شبابية واقعية أو واقعية جديدة أو فانتازية أو ما بعد - حديثة يشارك كتاب شباب من كل الدول العربية في ترسيخها. وقد غزا هذا األدب الشاب الجديد الساحات األدبية العربية حتى أصبح من الصعب الكالم عن رواية لبنانية شابة، أو رواية مصرية شابة أو سورية أو سعودية وهلم جرا. تهيمن اآلن حركة روائية عربية شابة تضم روائيين من كل البلدان العربية وتهدف الى كسر الحدود اإلقليمية. ويشمل هذا الوصف، الشعر. أيضا. حيث لم يعد هناك شعر لبناني شاب يختلف عن شعر مصري شاب أو سعودي أو عراقي أو فلسطيني، فالشعراء يعملون معا على ترسيخ أساليبهم الجديدة ولغتهم الجديدة ورؤيتهم التي يتفردون بها. وقد ساعد زمن االنترنت على تخطي المعوقات

التي تحول دون تواصل هؤالء الشعراء، بعضهم مع بعض. ولعل ما يجمع بين معظم الكتاب الشباب في العالم العربي هو نبرتهم االحتجاجية وتمردهم على الثقافة التقليدية وعلى التراث الجامد. وقد أعلنوا عصيانهم األدبي ضد النزعة اإليديولوجية التي أنهكت األدب العربي في مرحلتي الستينات والسبعينات

Page 15: Beirut39 Arabic Anthology

15

من القرن الماضي. وقد تخطوا أيضا مفهوم االلتزام الذي برز في المرحلتين السابقتين والذي فرضه الفكر السياسي الحزبي والجماعي، وسعوا الى حال الفردانية، مركزين على الفرد، كإنسان يعيش ويعاني ويحلم ويبحث عن حريته المطلقة، وقد أعلن الكثيرون من الكتاب الشباب كراهيتهم لما يسمونه بالغة أو فصاحة. فهم يريدون أن يعبروا عن همومهم الشخصية غالبا كيفما كان لهم أن يعبروا، بحرية وتلقائية. فالمهم ان يحتجوا ويرفضوا ويعلنوا سأمهم من اللغة نفسها، اللغة التي تختلف بين الكتابة والكالم. انهم يريدون أن يكتبوا مثلما يتكلمون بعفوية تامة متجاوزين الرقابة

التي تفرضها اللغة نفسها أولا ومن ثم الرقابات األخرى الدينية واألخالقية.ويعتقد هؤالء ان العصر الحديث، عصر المعلومات والكومبيوتر واالنترنت لم يترك لهم وقتا ليحلوا ألغاز القواعد والصرف والنحو. انهم يبحثون عن لغة الحياة. وال يخشى هؤالء الكتاب ارتكاب األخطاء النحوية أو الصرفية. بعضهم ال يكمل الجمل

قصدا، بعضهم اآلخر يحب الركاكة ولغة الشارع واللهجة العامية.هذا الكتاب الذي يضم مختارات روائية وقصصية وشعرية لـ 39 كاتبا عربيا شابا يقدم صورة بانورامية عن األدب العربي الشاب، هدفها مخاطبة القارئ، أيا تكن هويته

ومساعدته على تكوين فكرة عن هذا المشهد.

عبده وازن عضو لجنة تحكيم بيروت 39 بيروت، فبراير 2010

Page 16: Beirut39 Arabic Anthology
Page 17: Beirut39 Arabic Anthology

17

مالحظة من المحرر

ما إن أعلنت لجنة التحكيم عن أسماء الفائزين في مسابقة »بيروت 39«، حتى اصبحت قادرا على االتصال بالكتاب التسعة والثالثين، الذين يقيمون في عشرين مدينة على امتداد الشرق األوسط وشمال أفريقيا وكذلك في أوروبا والواليات المتحدة. وكما يمكن للقارئ أن يتخيل، فقد لجأت وعلى نحو متكرر إلى »نعمة« االنترنت والبريد االلكتروني، فعلى الرغم من الفترة القصيرة التي كانت متاحة لي، فانني استطعت أن أعمل وبشكل وثيق مع كل كاتب من هؤالء الكتاب لتحديد النص الذي يمثل عمله

أفضل تمثيل. وكم شعرت باالرتياح حين أعربوا عن سرورهم الختيارتي.وسأتحدث هنا عن ترتيب الكتاب: بعد االستهالل، يأتي بيان لجنة التحكيم والتقديم، وقد نشرت النصوص المختارة حسب الترتيب األبجدي للكتاب، ويأتي اسم المترجم في نهاية كل نص تم ترجمته. كما نوهت إلى اللغة التي ترجم منها النص. وفي الجزء الخلفي من الكتاب، ترد مالحظات حول المؤلفين والمترجمين. وبطبيعة الحال، فإن »بيروت 39« ما هي إال خطوة أولى الكتشاف المواهب المتميزة للكتاب العرب، ونأمل أن يتمكن القراء الذين يجدون متعة في األعمال المتضمنة

في هذا الكتاب من استكشاف المزيد عن األدب العربي الجديد.

صموئيل شمعونبرلين، فبراير 2010

Page 18: Beirut39 Arabic Anthology
Page 19: Beirut39 Arabic Anthology

19

أحمد سعداوي

مطلع رواية

فرانكنشتاين في بغداد

اليوم أكمل الرقعة األخيرة في هذا الجسد الهجين الملقى على سطح البيت. كان ل الذاهبين في المعارك ينقصه األنف، هذه الكتلة الشحمية اللدنة، التي تكون أوداخل األزقة أثناء الليل. تسقط سريعا بالبلطات واألمواس التي يشهرها السكارى بصلف مفاجئ في وجوه بعضهم بعضا. يذوب األنف وكأنه من الشمع ليس إال، ويذهب بهاء الوجه مع أي لفحة حر النفجار أو حريق. لذا كان من الصعب عليه العثور على أنف سليم. لم يرغب بجدع أنف واحد من الوجوه التي تعرض له أو يقفز فوقها وهي اة في لحظتها الختامية على الرصيف. كان يريد أنفا مفردا وحيدا ومهملا ال مسج

ته بالبحث عسيرة وصعبة. يرغب فيه أحد. وهذا ما جعل مهمن. ولوال صقيع الليل البارد فوق السطح، لكان فقدها منذ ة الهجينة تتعف كانت الجثنات وقت طويل، ولكنها تتعفن رغم ذلك، وكأنها تنهره بالرائحة الوليدة من تغض

ات الجلد التي خاطها بمهارة، وتأمره بأن يكمل ما بدأ به. الشحوم وطيواليوم وجده: أنفا عظيما بمنخرين واسعين. تسابق مع رجال اإلطفاء الذين كانوا يغسلون الدماء وبقايا الجثث، واختطف األنف من الرصيف، قبل أن يدفعه خرطوم المياه بعيدا إلى فتحة المنهول. سنسخر منه، أو نضرب رقم هاتف الشرطة كي

ندلهم على مكانه.ولكنه لم يسرق شيئا من أحد. لقد أخذ فقط ما بدا أنه نفاية، وهو أمر يشبه عمله المعتاد، يجمع من األرصفة وأكوام األزبال ما يزهد به اآلخرون، ويقوم ببيعه إلى باعة العتيق والسكراب. قد يكون اندفاعه هذه المرة إلى التقاط بقايا الجثث نوعا من المبالغة في تقدير النفايات البشرية، ولكن جوهر األمر واحد. إنه يجمع ة أخرى؟ ما الفائدة من المهمالت كي تكون بالجمع شيئا نافعا. ولكن، ما النفع من جث

Page 20: Beirut39 Arabic Anthology

20

أحمد سعداوي

قا على هذا المسجى بجسده العاري الغريب على سطح البيت؟ لماذا لم يدعه مفراألرصفة والشوارع؟

ه قبل ش، وهو مجنون، كما كانت تقول أم جواب هذا ليس عنده اآلن. دماغه مشووفاتها لجارتها األشورية أم دانيال. وكما كانت تراه أم دانيال حقا والجيران اآلخرون في زقاقهم الخرب في حي البتاوين في بغداد، هذا الزقاق الذي ينتظر غضب اهلل منذ زمن بعيد كما تقول أم دانيال. لذا لن يخاف اآلن من مداهمة الشرطة وعثورهم على ة الغريبة للرجل الغريب في بيته. فهو مجنون، ويحب أن يبقى هكذا، يضحك الجثفي سره ألن أحدا من الجيران لن يصدق امتالكه لهذه المهارة العالية في الخياطة ق أحدـ وهذا أمر مريحـ أنه صنع بإرادته ورتق الفتوق وجمع المخلفات. لن يصد

ة كاملة من بقايا القتلى في »ساحة الطيران« و»الباب الشرقي«. جث

***

لديه جثة كاملة اآلن على السطح بين أكياس الجنفاص المملوءة بعلب البيبسي المعدنية، ويحمل على ظهره كيسا آخر مملوءا إلى النصف، وهو يعود سيرا على الرصيف من ساحة األندلس، حيث يأخذ قنينة »العرق« من مخزن إدوارد، والباقالء المسلوقة من عربة ياسر الصفيري، وعشاءه من بائع التكة والفشافيش المطل ارات تخطف على الساحة، الذي ال يعرف اسمه. كان شارد الذهن، وهو يرى السيبأضوائها داخل العتمة والبرد حين مر بجوار فندق السدير نوفوتيل. يمر في العادة على الجانب اآلخر من الشارع تجنبا لتنبيهات الحرس ذوي الوجوه القلقة. خصوصا ر الكثيرون أكياسا وهو يحمل على الدوام كيسا كبيرا ومريبا على ظهره. لقد فجه الليلة شبه سكران، وال مشابهة أمام المحال والفنادق والدوائر الحكومية. لكن

يهتم إال بخطواته وهي تعبر على البقع المائية واألزبال.نهض الحارس من مكانه وراء الكابينة الخشبية في المدخل العريض لبوابة ل خلقته الرثة، ورأى الملل في وجه هذا الحارس لموجز م نحوه. تأم الفندق وتقدتيب من أمام البوابة الحديدية العريضة. وها هي نذر من الثواني استغرقها مروره الرارة أزبال تابعة ألمانة العاصمة القدر السيئ الذي يعرفه في نفسه دائما. شحطت سيبجواره وغسلت سرواله بمياه األمطار وهي تتجه بسرعة إلى مدخل الفندق الذي

Page 21: Beirut39 Arabic Anthology

21

فرانكشتاين في بغداد

غدا خلفه بخمسين مترا تقريبا. ولم يكن هذا »كل السوء« في هذه الليلة.ي على رأسه، واندفع في الهواء عدة أمتار وفقد الكيس الجنفاصي ضغط الصوت المدووعشاءه وقنينة المشروب، وصار يطير بيدين مفرودتين. تشقلب في الهواء، وهو

ة، وأحس بأنه ميت، والملل يذهب أخيرا. يشعر بالخدر والخف

***

ر. وهذا أمر غريب. يدع رأسه ر بالخطوة الالحقة، رغم أنه عادة ال يفك كان يفكيثقل بالمشروب، ويسفع وجهه هواء الليل البارد فوق السطح، ويندفع للقيام بشيء يهبط عليه مثل وحي. كان يقوم بأشياء كثيرة استجابة لهذا الوحي. وكانت حياته ة العفنة في حياته. فهو بائع تسير بشكل حسن دون تفكير، حتى ظهرت هذه الجثعتيق. جامع زجاجات فارغة، وعلب بالستيكية، وحطب من بقايا األثاث وأشياء كثيرة أخرى. ورغم أنه يبيعها آخر النهار إال إنه يحسب أنها تظل في رأسه، وال تغادره أبدا. رأسه المليء بهذا السكراب، الجاثم مثل تل ثقيل على كل جوارحه،

لكن المشروب يفعل فعله دائما، ويطير التل مثل فراشات مذعورة.ة نجسة. قلبها بدفعة ة بحذائه البالستيكي، وكأنه عرف اآلن أنها جث دفع الجثقوية من قدمه فانقلبت على وجهها كقطعة واحدة، وأحس بأن عمله الذي استمر ة الماضية كان حسنا وماهرا للغاية. فاألجزاء، على كثرتها، على مدى األيام الستة العارية على ظهرها مرة أخرى، بدا له كانت متماسكة، حتى إنه حين قلب الجث

األنف المترب سليما وصلفا يشمخ في هواء الليل، وال يتنفسه.حاول التفكير بالخطوة الالحقة، لكن األمر بدا صعبا على رأسه المتكلس والواقع تحت ضغط السكراب المتراكم والمتزايد، أو هو تأثير الرضوض الكثيرة والصغيرة التي حدثت في أرجاء جسده ورأسه في مطلع هذه الليلة بجوار فندق السدير. كان يسخن يديه على المدفأة النفطية، حين سمع نحيب الريح وهي تشتد فوق الطابوق المتآكل وسعفات النخيل بين أسطح البيوت المجاورة، وحين فتح قنينة المشروب المغشوش داخل غرفته فوق السطح، ظل البرد يشتد ويجلد كل شيء في الخارج، ثم يهجم قادما من الفتحة الطولية أسفل الباب، هازئا بلهيب المدفأة القديمة المتخاذل. شرب، ولعن »أبو سليمة« الذي يبيع هذه المشروبات المغشوشة في بيته عند آخر

Page 22: Beirut39 Arabic Anthology

22

أحمد سعداوي

ة من السطح إلى الزقاق ليلا، ولن يعرف أحد الزقاق. قال في نفسه: »سألقي بالجثأنها كانت عندي وبحوزتي، ولن يعرف أحد من قام بهذا العمل الشنيع والمجنون. لن يبحث أحد عن هوية هذا القتيل، فهو الوحيد هنا، بين أحياء محلتي الشعبية وأمواتهم، من ال يملك أية هوية. سيبلغون الشرطة، وتأتي سيارتهم الحوضية. ينزل ة برتابة وملل ويلقونها برمية واحدة شرطيان بأكف بالستيكية بيضاء، يرفعون الجثارة، وهناك في الطب العدلي ستبقى في الثالجة مدة من الزمن، إلى حوض السيوحين ال يأتي أحد للسؤال عنها، ستدفن في مقابر أمانة العاصمة مع رقعة صغيرة

ة مجهولة الهوية.« تشير إلى كونها جثشرب كأسه األخيرة لهذه الليلة، وبدأت أحشاؤه تتقلب، إنها الطفيليات أو عدم جودة الباقالء المسلوقة، أو سوء التخمير لهذا المشروب. وقف أمام المغسلة بجوار ل استعدادا للنوم. نظر إلى السطح المنار بضوء القمر غير المكتمل. النافذة وبدأ بالتبوة هناك مستوية على قرميد كان سكرانا، ولكن هذا ال عالقة له بما رأى. كانت الجثة جالسة تنظر إلى الزاوية السطح القذر وغير المكنوس منذ وفاة أمه. كانت الجثالبعيدة للسطح. بدت وكأنها تفعل ذلك حقا. والظهر مستو باستقامة واضحة، مثل ظهر رجل نشيط نهض من نوم مشبع. ولكن، لماذا يستيقظ هذا المسخ المعتوه في

الثالثة فجرا؟!

***

في الصباح، وجده مقرفصا وملموما مثل جنين، وكأنه عانى من ليلة شديدة البرودة. تجاهله وهو يغلق باب السطح الحديدي بالقفل، وينزل على الدرج المعدني إلى الزقاق مباشرة. كانت خطواته مؤلمة، ورأسه مثقلا بالكوابيس ووطأة الذنوب، ة بعيدا، وكأنه عوقب ليلة أمس على فعلته الشنيعة. »من األفضل رمي هذه الجثحتى ال أحصل على سيارات تنفجر أمامي وخلفي كل حين.« قال ذلك في نفسه

وهو يواجه هبات الهواء البارد عند الشارع العام. كان يريد الذهاب إلى الطرف اآلخر من العاصمة، من أجل جمع العلب المعدنية للمشروبات الغازية في مقالع النفايات بين األحياء السكنية هناك. ولكن السماء ظلت دة بغيوم داكنة تنبئ بمطر غزير عند منتصف النهار، وشعر بجوع رهيب وألم ملب

Page 23: Beirut39 Arabic Anthology

23

فرانكشتاين في بغداد

ر »النجوم« في منطقة في كل مفاصله دخل إلى مقهى عزيز المصري، خلف مصو»الباب الشرقي«، وهناك تناول إفطاره وسمع هاللا مصلح الساعات السوداني يضحك ر نفسه ليلة أمس أمام مدخل فندق السدير على سوداني آخر أصيب بالجنون وفجنوفوتيل. لقد فجر سيارة أزبال مليئة بالديناميت كان يقودها، وهو ما صنع حفرة

بعمق ستة أمتارـ لو كان اخذلو بطل عرق وشربو مع قحبة ما كان أشرفلو؟د أن ال يتحدث كان هالل السوداني يسرد الجزء المسلي من الحادثة، وهو يتقصباللهجة السودانية، فخرجت الكلمات من فمه هجينة ال تشبه أي لهجة. وكان هناك شخص واحد في هذا المقهى لم يكن يضحك على الحكاية، أو على لهجة هالل الغريبة، شخص استمر في تناول إفطاره ولم يرغب بسماع الجزء المسلي من الحكاية، ولم يجد رغبة لرواية الجزء السيئ من الحكاية الذي كان أقرب شهوده. نظر إلى النوافذ العريضة والقذرة للمقهى، وشاهد كيف أن السماء انهمرت فجأة ه مباشرة إلى غرفته فوق بمطر شديد، فوجد نفسه، حين خرج من المقهى، يتجر بالعمل هذا سطح بيت المعزايات، طاويا كيس الجنفاص الفارغ تحت إبطه. لم يفك

اليوم، وأحس برغبة االندساس في فراشه والنوم لبقية النهار.حين صعد السلم الحديدي وفتح الباب كان السطح خاليا ومبللا بمياه األمطار. لم

ة حيث تركها، وهجمت على رأسه مجموعة من األفكار دفعة واحدة: تكن الجثة. ربما جاءت »ربما عبر أحد أبناء العواهر من األسطح المجاورة وأخذ الجثة إلى الطب العدلي، ربما الشرطة أخيرا بسبب إخبارية من الجيران ونقلت الجثاستغاثت أم دانيال وهي تنشر مالبسها على السطح بأهل الرحم، حين لمحت هذه

ة وتصورت أنها جثتي«. الجثولكن أم دانيال، رغم خرفها، لن تنشر المالبس على حبال السطح في يوم غائم وممطر. خطفت كل هذه األفكار في رأسه بلمح البصر، وهو يتقدم بخطوات واسعة

على السطح المبلل نحو باب غرفته.

فصل من رواية غير منشورة في كتاب.

Page 24: Beirut39 Arabic Anthology

24

أحمد يماني

مقاطع من قصائد

يوتوبيا المقابر

1

ة، جدران غير مطليوأرضية مليئة بالحصى،

ة ال تستطيع حتى أن تقف، وعظام هشوعظامي أنا محشورة في الوسط.

أفكر في مظاهرة صغيرة،لالحتجاج على المالئكة الذين منعوا

الكالسيوم الالزم لنا.واهلل فوق الحفرة يمد ظالله علينا،

ويتركنا نتأخر في النوم، تسقط بقعة ضوء من بين يديه،

ويدخل جسد مظلم،تجف البقعة،

ونتعرف إلى زميلنا الجديد بقلب مفتوح،

ويعطينا السجائر بكرم زائد،نحب صوته حين يهمهم من البداية:

ما الذي يحدث هنا بحق الجحيم؟

Page 25: Beirut39 Arabic Anthology

25

يوتوبيا المقابر

4

الصرخات التي أطلقناها قرب الفجرلم يسمعها أحد

أصوات الكالب في الخارجة. تشعرنا بمود

نزحف لتتالمس عظامنا،ونحب بعضنا أكثر

ا عن طفولته السوداء، يحكي كل منونتبادل الضحك،

وال نملك ساعة حائطلنعرف متى تقوم الساعة.

5

أمي أرجوك

عندما تعرفين أنني دخلت بيتي الجديد،ال تبكي

ألنني أريد أن أختزن عينيك لأليام القادمة.كوني هادئة

ي رأسك ثالث مرات، وهزوأرسلي قبلة هوائية

وسأصخب مع أصدقائي هناوهم يهنئونني ببيتي الجديد،

وسأجعل الباب مواربا،في انتظار قبلتك.

Page 26: Beirut39 Arabic Anthology

26

وعندما سيكون لك بيت جديد مثلي،أرجوك أن يكون قريبا مني

حتى أسمع أنفاسك،وأتنفس بال ألم تقريبا

ويكون لموتي تلك الصورة النهائيةالتي جاهدت كثيرا كي أصنعها.

6

في الحجرة المجاورة لنا،والتي ال تفصلنا عنها سوى ستارة قماش

تتمدد النساء وقد خلعن أكفانهن،وبقين بيضا جدا.

استطعنا بعد محاوالت يائسةأن نفتح خرما في الحاجز.وقد انتصبت عظامنا فجأة

حين لمحنا أول امرأة تخلع مالبسهاوتضعها في ركن الحجرة.

في هذه الليلة،حاولنا أن نمزق الستارة،

ة، ها كانت تزداد قو لكنفاكتفينا بالفرجة على العظام البيضاء،

والتي ما زالت حتى اآلن بعيدة عنا.

أحمد يماني

Page 27: Beirut39 Arabic Anthology

27

يوتوبيا المقابر

8

أغلقوا المكان جيدا،ار. وألقوا المفاتيح في جوف الحف

لماذا تتركوننا على أطراف المدن؟يجب أن نكون معا

عندما تسقط األمطار،وأن نغني تحتها،

ويمكننا أن نتحدث عن عرباتسارت بنا في طرق طويلة، وعادت من دوننا.

عت فيها لكن الدموع التي تجمكانت كافية لتبلل عظامنا

ولم نجد ثقابا للتدفئة.وعندما تسلل واحد منا لسرقة الكبريت

أضأنا المقبرة،وأضاءت نصف المقابر في العالم ثالثة أيام،

ار أ الحف بعدها تقيومررنا في طابور منظم

نغني جميعا عن البعوض الذيينام في آذاننا،

وعن طولنا الذي أثار المراهقات،رة وعن االستمناءات المتكر

في برميل كبير يسمونه الحياة.

Page 28: Beirut39 Arabic Anthology

28

أحمد يماني

الجنازة

مات تشيمو هذا الصباح. ه مات. تشيمو ليس صديقي، لكن

ث بال انقطاع، كمن يسدد دينا قديما للكلمات كان يتحدالتي على وشك أن تهجره.

غدا سألبس معطفي األسود وأمضي إلى الجنازة وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسي.

اليوم مات تشيمو،أحد معارفي،

وها أنا لم أعد غريبا في هذه البالد.

الساعة الخامسة

على النافذة ال يحط غراب وال ذبابة وال عصافير. على النافذة تحط زهرة ذابلة وقعت من الطابق األعلى وعلى المائدة ستبقى طوال المساء. أحدق فيها تحت إضاءة تدمي العينين. على الحائط لوحة لـ »كليمت« بدت فيها الحياة البهيجة الملونة وهي تذوي أمام رسول الهالك الناظر باستعالء إلى األجساد الفائرة المكومة خافضة رؤوسها، ميتة حتى قبل أن ينشب المالك حربته. أضع الزهرة في المسافة الفاصلة بين الهيكل العظمي للمالك وبين الكائنات الملونة، لكن الزهرة تتململ، تخفق أن تكون جسرا. ألم تكن ذابلة هي األخرى؟ أزحزحها إلى العين الفارغة في رأس المالك فتقبع مستريحة أكثر. لكن الزهرة لم تخلق لتمأل األعين الفارغة، الزهرة خلقت ها ماتت. الحقيقة أنها نزلت إلي ألنها ماتت. إلى نافذتي لتمأل شرفة الطابق األعلى، لكن

التي ال يحط عليها غراب وال ذبابة وال عصافير.

Page 29: Beirut39 Arabic Anthology

29

يوتوبيا المقابر

الدفتر األحمر

كنت أزجي ليلي الطويل، كحارس مستجد ألحد المصانع، بقراءة مسترخية أبطئها قدر ما أملك، كي ينقضي ليلي. كان كتابا صغيرا لبول أوستر »الدفتر األحمر« يروي مصادفات واقعية وال يرى المصادفة عمياء بتاتا. كنت أنتقل من مصادفة إلى أخرى تا ألحد البيوت حتى وقعت على هذه: كان بول أوستر في شبابه يعمل حارسا مؤق

في ريف الجنوب الفرنسي مع صديقته لقاء المأوى.بحثت سريعا عن ورقة ألدون هذه المالحظة وأسلي نفسي بأن العمل حارسا ليس سيئا تماما. كنت أبحث عن أية ورقة ملقاة وعلى مكتب غرفة التحكم كان

يقبع هناك منزويا الدفتر األحمر الصغير.

قصيدة »يوتوبيا المقابر« نشرت في ديوان »شوارع األبيض واألسود« طبعة خاصة، القاهرة 1995 بقية القصائد من ديوان »أماكن خاطئة«، دار ميريت، القاهرة 2008

Page 30: Beirut39 Arabic Anthology

30

إسالم سمحان

قصيدة

لمن تحمل الوردة؟ة... وسائر الشهداء إلى غز

أوقفني عاشق فقلت: لمن تحمل الوردة؟

حبيبتك سيخطفها القصف عما قليل وستغدو كمشة من رماد فال تغامر من أجل الحب.

أوقفتني عاشقة فقالت: لي حبيب سيجيء...

ربما في الهدنة أستطيع أن أصفف شعري

وأن أشك دبوسا على صدري

يشبه قوس قزح وأركض في الساعة األخيرة

إليه وأظن بأن وقتا سيحالفني

عكس حظي المفزوع من صوت القنابل.

أوقفني الصغير وقال:ا نلعب بأزقة القطاع قبل أيام كن

ولسوء فهم اختلفت مع الصغيرة لم أقصد أن أثير زوبعة من الصراخ بوجهها

Page 31: Beirut39 Arabic Anthology

31

لمن تحمل الوردة؟

ولكن شأن الدمية شأني وشأن الصغيرة أنها لم تفلح بإقناعي أن الدمى

تروح وتأتي مثل الطائرات.

أوقفتني الصغيرة فقالت: مات أحمد

كان سعيدا باأللعاب الفسفورية المضيئة

ولم يعلم الصغير بأنه احترق مثل الفراشاتمن دون أن يحدث جلبة

أوقفتني امرأة فقلت: أرى الناس يحملون ابنك

كأن خطبا ما لم يصبه فلم أرك،

كان الفتى يسيل من شدقه خيط من األزهار

الحمراءوكنت ألمح ابتسامته الخجولة.

أوقفتني المرأة ذاتها مرة أخرى فقالت:

كان البيت يكتظ باألبناء

وكان أوسطهم يحضر الماء الساخن كي يكنس أول الشعرات البكر عن ذقنه

هم كلمح البصر غادروا جميعا على األكتاف لكنكحقيبة بيد فتاة ذهبت كي تالقي حتفها

Page 32: Beirut39 Arabic Anthology

32

إسالم سمحان

أوقفني الرجل الحزين وقال: كنت أرتب األصداف في حوض السمك

ط شعر »جميلة« وكنت أمش

وأهش النمش الطفيف عن صدرهاها الطائرات لكن

لم تنتظر حتى أربط خصر العروس بشال أنوثتها

فطارت أشالؤها مع شالها من شرفة المنزل.

م بكوفيته وقال: أوقفني الملث ما الحاجة لالختباء أو االختفاء

بعد قليل سيفتضح األمر وستزفنا الصواريخ إلى حتفنا

ولن يعرف لي قبل كي يدرى عني دبر

وستعرفني األيائل من ثيابي ومن قالدةخبأتها في جيبي

أما أنا، أوقفني المشهد فقلت في نفسي: كيف يصير الموت خبزا

فنشتهيه وننتظر حصتنا من الموت

ونمشي إلى المقابر أسرة، أسرة

نحمل وثائقنا المدنية ودفاتر العائلة؟

قصائد غير منشورة في كتاب. ترجمت ونشرت بااليطالية.

Page 33: Beirut39 Arabic Anthology

33

باسم األنصار

ثالث قصائد

نزهةإلى كاسبر تومسن

في الدرب المؤدي إلى البحر، الة خشبية، رأيت الصبيان يحملون عشتار بنق

ورأيت عشتار تحمل تمثال رامبو في أحضانها.

رأيت األطفال يأكلون وريقات الخريف،

ورأيت األنامل تخلق النار من مياه السواقي.

- زايكو، زايكو، البحر هناك. حينما استمعت لموسيقى أعشاب الدرب،

رت موسيقى البالد التي صلبتني، تذك

وحينما شاهدت غودو حاملا الفانوس في الغابات،

رت القبطان الذي أخذه الطوفان إلى القرن الماضي. تذك

، راحت أمواج البحر ترسل كلمات يوليسيس إلي وراحت الثعالب تسرق أوراق البحر ألجلي.

لنذهب صوب الفنار، ولنسأله عن أخبار السفن الغارقة، ولنذهب إلى القرية، ولنسألها عن الحكواتي الذي أحرقه الشتاء.

- زايكو، زايكو، البحر هناك. رأيت األشجار ترسل العطور إلى البيت الوحيد في الغابة،

ورأيت التالل تبتسم للعربات المسحوبة بأجساد الغزالن.

Page 34: Beirut39 Arabic Anthology

34

باسم األنصار

ث الكواسر عن البالد المرفوعة بيد اهلل، رأيت الراهب يحد

ورأيت أعشاب الدرب تصفق لخطوات الهاربين من الفردوس.

ة تخرج من حربها مع األخالق، ها هي األرواح البهي وها هي أجراس المعبد الجديد ترن فرحا لمقدمها.

ليس لي سوى أن أضع أطيافي في البيت الوحيد، وليس لي سوى الغناء في الغابة عن اليوم العجيب.

- زايكو، زايكو، البحر هناك. قيل، إن أمطار الخريف، أحرقت األناشيد،

جرة الملقاة وحدها خارج الحقول. وقيل، إن الهواء، داعب الش لم أر القطار الراحل صوب الشمس،

ولم أسمع صوت الماء النازل من كف المرأة الريفية!

يه وهو يطير في الهواء، رأيت أحدهم يداعب صورة الجوكر بكف

ورأيت آخر يجلس تحت شجرة ميتة، ويطرز ثوبا من أوراق الشتاء. رأيت البخار الصاعد من أكواب القهوة يرسم األحالم الضائعة،

ورأيت رواد المقهى يعزفون بأصابعهم على الطاوالت، لحن الريف. من يخبرنا عن العربة القادمة من الشمس؟

ومن يخبرنا عن موعد قدوم قافالت السيرك إلينا؟ - زايكو، زايكو، البحر هناك.

شاهدت الرصاصات النازلة من القلوب،

وشاهدت الطيور المحلقة من العيون.

شممت رائحة األفكار المزروعة في الفضاء،

وشممت رائحة األمطار النائمة في السجون.

تذكرت القيثارة الملقاة وحدها في الصحراء،

وتذكرت السائرين نحو الكهوف، بحثا عن الشموع.

آه! راح الغروب يخرج من مسامات الدرب،

وراحت األوحال، تأكل وجه األفق.

- زايكو، زايكو، يا كلبي الحنون لنعد، البحر لم يعد هناك.

Page 35: Beirut39 Arabic Anthology

35

ثالث قصائد

حياة محاطة باألشجار

ها هو زمنك يتدحرج على جبل الثلج، وها أنا أراك تسير في األزمنة اآلمنة.

ن بالعسل في الكهوف، ها هي رغباتك تتلووها أنا أراك تنام مع الوجع القديم.

كنت ترغب في البكاء على الماضي، وكنت ترغب أيضا في النحيب على المستقبل.

كنت تود احتضان الخريف واألبدية معا! عراء يوما، لم تكترث بعربة الش

تة. ولم تركض سوى خلف الحكايات الميأخبرتك بأن تمشي معي صوب األحالم الزائلة،

وأن ال تمشي وحدك نحو األماني الخالدة. حلمت بأن تضع خضرة الحشائش في الحقائب،

إال أنك وضعت لون السماء في الغرفة.ر، أنك واللذة توأمان. تذك

تذكر، أن السماء ال تنام تحت رغباتك. ر، أن حياتك محاطة باألشجار. وتذك

مات، يت أن تمارس الحروب ضد المحر تمنغير أنك ألقيت النظريات فوق رأسي.

يت أن تحتج في وجه الخلود، تمنغير أنك جرحت روحي بألحانك العتيقة.

رأيتك تدخل االنتفاضة عبر بوابتها الحمراء، ابتها البيضاء. بعد أن أقسمت لي بأن تدخلها عبر بو

لماذا قلت: وداعا أيها الفجر القادم؟ ولماذا قلت: مرحبا بك أيها المساء؟

Page 36: Beirut39 Arabic Anthology

36

باسم األنصار

وحينما غبت عني طويلا، طرقت بابك بحذر. طرقته إلى أن تعلق قلبي على مسمار غريب. وحينما رأيت ساعي البريد يمر من دون أن يلتفت إلى حياتك،

أحاطتني األشجار بهدوء.

بانوراما الدهشة

أها! صون على األرامل من ثقوب النهار، الصبية يتلص

والرجال يلعقون في أكف العرافات. أها!

اتهم، الجنود يأكلون بندقيلون يحملون النجوم فوق عرباتهم. والباعة المتجو

أها!ة تدخل إلى المرآة، وتضع الغيوم في الحقائب. المرأة الفضي

أها!الشيطان يخلق الفراشات من التراب،

واألفعى تلتف حول البرج خانقة الطفل في فمها. أها!

أرى الحرب تلعب حول منازلنا.أها!

أرى الحرب، كينونة المتحاربين، ودم الفكرة.أها!

أرى األبدية مع الرائي عبر نافذة الحانة القديمة. أها!

ة سنوات، من فرن الزقاق. أمي تشتري، عدأها!

إخوتي يحنطون أرواحهم في فكرة الهوية.

Page 37: Beirut39 Arabic Anthology

37

ثالث قصائد

أها!أبي يقطع رأس الحرب بسكين، ثم يتجه نحو الموت من دون رغبة.

أها!أرى خمس زهرات على الرصيف، وفي جانبها خنجر ملطخ بالدماء.

أها!أرى طفلا يخرج من المقبرة، وهو يغني أغنية غامضة.

أها! الطفل يختفي عن أنظاري فجأة بعد أن ينهي أغنيته.

أها!

قصائد غير منشورة في كتاب.

Page 38: Beirut39 Arabic Anthology

38

جمانة حداد

مقطع من قصيدة

جيولوجيا األنا

»القصيدة إنسان عار«بوب ديالن

أنا اليوم السادس من شهر كانون األول، من سنة ألف وتسعمئة وسبعينأنا الساعة األولى بعيد الظهر

صرخات أمي تلدنيوصرخاتها تلدها

رحمها تقذفني ألخرج مني وعرقها يحقق احتمالي

أنا صفعة الطبيب التي أحيتني )كل صفعة الحقة حاولت إحيائي قد أردتني(

أنا عيون العائلة علي أنا حدقات األب والجد والعمة والخالة

وأنا المشاهد المحتملةأنا الستائر تنزاح، والستائر الوراء، والجدران الوراء

وأنا التي ال اسم وال يد لكل ما هو وراء أنا التوقعات المرجوة مني، األحالم المجهضة، الفراغات المعلقة تمائم حول عنقي

وأنا المعطف األحمر الضيق كلما ارتديته بكيت

Page 39: Beirut39 Arabic Anthology

39

جيولوجيا األنا

أنا كل ضيق ال يزال يبكينيوأنا الدمية ذات الشعر الكستنائي والعينين البالستيكيتين

أنا الدمية المنبوذة تلك وقد رفضت أن أهدهدنيالمنبوذة تلك وال تزال تنز دما في قعر الرأس

)قطرتين في اليوم العادي، وثالثا أيام العطل واألعياد(أنا الثقب الحزين في جوارب معلمتي

ال يزال يحدق إلي كعتاب هابيل في ضمائرييحدق ليروي فقرها وقلتي

نفاد صبري وإرهاب يأسها من الحياةأنا جدول الضرب ولم أتقنه حتى الساعةأنا االثنان المجموعهما واحد، دائما واحدأنا نظرية الخط الموارب، ودائما الموارب

أنا التطبيقاتأنا كرهي للتاريخ للجبر والفيزياء

وأنا إيماني، طفلة، بأن األرض تدور حول قلبي وقلبي حول القمر أنا أكذوبة بابا نويلوأصدقني إلى اليوم

أنا رائدة الفضاء، وكنت أحلم بأن أصيرهاوأنا تجاعيد جدتي المنتحرة

أنا جبيني متكئا على حضنها الناقصأنا الصبي )هل كان اسمه جاك؟( الذي شدني من شعري، والذ بالهرب

أنا الذي أبكاني فأحببته أكثرأنا

قطتي الصغيرة دراجة ابن الجيران التي دهستني ولم أحتج

)قد بعت أرواح قطتي لقاء نظرة من ابن الجيران الوسيم هذا(أنا االبتزاز فاتحة رذائلي

Page 40: Beirut39 Arabic Anthology

40

جمانة حداد

وأنا الحربة الرجل التي جرجرها المقاتلون أمامي وجث

ورجله المخلوعة تحاول اللحاق بهأنا

الكتب التي لم تالئمني، طفلة، وقرأتها)والتي اآلن أكتبها وال تالئم(

أنا مراهقة نهدي األيمنوأنا حكمة األيسر

جبروت النهدين تحت القميص الضيق،ثم وعيي لجبروتهما وهذا بدء االنحدار

أنا مللي السريع، سيجارتي األولى عنادي المتأخرأنا الفصول مرت

حفيدة الطفلة التي كنت:أنا افتقارها إلى غضبي وخيباتي وأظفاري ومتاهاتي وشهواتي وأكاذيبي وحروبي

وندوبي وانحرافاتي أنا الحنان أحمله رغما مني، وأنا إلهي وجشعي وغياباتي المألى بموتاي، وأنا

موتاي الالينامون وقتالي الالينامون، وأنا زفراتهم األخيرة على وسادتي كل فجروأنا

تأففي وعدواي وخطري وهربي من جبن إلى أسوأ، أنا انتظاراتي الالتفهم الوقت، والالتفهم المسافة، أنا صمتي الذي تعلمت، وصمتي الذي لم أتقنه بعد

وحدتي تدب فوق روحي كحشرة أنا حفيدة الطفلة التي كنت:

افتقاري إلى الطيش الغافل وإلى كمالها يصغي إلى ذاته

أنا كارثة الحبوأقع

أنا ذئاب الشعر تركض في دميوأنا، حافية، معها أركض

Page 41: Beirut39 Arabic Anthology

41

جيولوجيا األنا

أنا الباحثة عن صيادهاال تجد صيادها

أنا مياهي تفور كلما شهوتي أومأت إلى شهوتيأنا تعاقب األلسنة ترتوي بفورانها

أنا حمرة شفاهي مستبقة جوع األلسنةوأنا أيضا: أظفاري وما تحتها وما به تنوء، وأنا ذاكرة جروحها، وذاكرة حنقها، وذاكرة ضعفها، وذاكرة قوتها التي ال تحتاج إلى برهان، وأنا قطع اللحم الصغيرة

مغتنمة من ظهورهم في كل نشوةوأنا أسناني

وفخذاي الشهيتانورغبات داعرة

وأنا ذنوبي وكم أحبهاوأنا ذنوبي وكم تشبهني

وأناصديقتي التي خانتني

وشكراوأنا عمودي الفقري نابحا

في وجوه الغادرين وأنا عيناي تريان في العتمة التي عتمتي

وأنا وجعي)نعم وجعي(

وأنا صرختي في المنتصف)أكتمها في اللحظة المناسبة(

وأنا ما أخفيهما ال أريد أن أخفيه ولكن أخفيه

وأنا ما أريد أن أخفيه والأنا »قل لي كم تحبني«

وأنا »ال أصدق«

Page 42: Beirut39 Arabic Anthology

42

جمانة حداد

أنا الرأس موصولا بالجسد مفصولا عن الجسدوأنا موتي المبكر

)أقول ذلك بال دراما(وما سأخلفه ورائي من خراب

وأنا الجنون والعدم اللذان في األماموأشياء صغيرة تافهة تفضح:

البطاقات البريدية، قصاصات الرسائل، الكتابات تحت زجاج الطاولة، ابتساماتي في الصور القديمة

أنا مجموع الرجال الذين أحبوني ولم أحببهم، أنا الذين أحببتهم ولم يحبوني، والذين لم أحببهم ولم يحبوني، والذين توهمت

أني أحبهم، وتوهموا أن ال يحبونيأنا مجموع الرجل الواحد الذي أحب

أنا المرأة تدمع صورتها في صورة عرسها )في الصورة فقط(أنا انكساراتي وهزائمي والبطوالت الباطلة

أنا نجاتي من الغرق في أحد األيام )إذا كنت حقا نجوت(أنا عفونة كسرة الخبز فوق مائدتي

أنا األيام السبعة، ومئات السنين التي لزمتني ألخلق نفسي أنا األسماك والطيور واألشجار وغبار المصانع وإسفلت الطريق وصفير القذائف،

وأنا الرياح والعناكب ولحم الثمار أنا كل بركان على رأس كل جبل من كل بلد، فوق كل قارة في كل كوكبفي كل حفرة في قعر كل أرض من كل بلد، فوق كل قارة في كل كوكب

أنا اللحظة لزمتني ألدمرنيوأجسادي

وشوارع مدينتي الرطبةوأنا من كانت وأنا من كان يمكن أن تكون،

وأنا الفستان األزرق حين امتنعت أمي عن شرائه، كي تسدد أقساط المدرسةوأنا مكتبة أبي وعيناه ونزق قلبه

أنا النظرات التي لم أمنح، والكلمات التي لم أقل، والشفاه التي لم أقبل

Page 43: Beirut39 Arabic Anthology

43

جيولوجيا األنا

ما لن أخلفه ورائي:كل حماقة ولم أرتكبها كل ذهاب ولم أعد منه

وأنا ابنتي التي لم ألدها

والمرأة التي سوف أكون أنا تلك المرأة تقريبا

وأنا تقريبا ذلك الرجلوأنا

الرجل ذاك الذي نجحت في أال أكونه تماماوينقذني مني كل يوم

وأنا من لست عليها اآلنوأنا األشياء والناس الذين كنتهم أمس

ومن أكونهم في الغدويصنعونني.

من ديوان قيد االنجاز بعنوان »كتاب الجيم«

Page 44: Beirut39 Arabic Anthology

44

حسين العبري

فصل من رواية

المعلقة األخيرة

نظر عبداهلل إلى الساعة في معصمه، كانت قد تجاوزت الثامنة، ها هو إذن يتأخر عن عمله. لقد أسقط في يده حين رأى أن زميليه في العمل، محمد وسالم، قد وصال قبله. لقد كان نادرا ما يتأخر على العمل، وقد ضبط نفسه ليصل دائما قبل الثامنة بقليل. لم يكن ذلك بسبب أنه يحب عمله هذا، أو يحب ما يفعله طيلة اليوم في مكتبه، لكنه مع هذا ال يمكن أن يكون كارها لعمله أيضا. إن الميزة الوحيدة المتأتية من عمله أنه يبقى بعيدا عن ضوضاء المراجعين، وليس من اختصاصه أو

من اختصاص زميليه أن يقوموا بأشياء تتطلب عملا سريعا وعاجلا.انتصب عبداهلل طويلا أمام الالئحة بعد أن سلم على زميليه محدقا في قصاصات األوراق المثبتة. كان الحبل المشنقة منتصبا في صورة كبيرة على جسر القرم، وثمة حبل آخر منتصب على الجسر الجديد. كان متوترا. حك جسده أكثر من مرة، وشعر أن ثمة إحساسا بألم خفيف يأكله على الكتفين وأعلى الظهر، وقد بدأ توتره يظهر على هيئة عرق خفيف بدأ ينتح على ظهره أولا ثم على رقبته. فكر: ال بد أن يحاول قدر اإلمكان أن يهدئ من نفسه وأن ال يظهر شيئا من قلقه لزميليه، رغم معرفته أنهما ال بد أن يكونا قد الحظا مؤخرا أنه على غير ما يرام. لكن اليوم، اليوم هو مختلف تماما. وانتبه إلى أنه كان يلبس مصر المناسبات األزرق الغامق

فزادت حرارة جسده وبدأت حكة داخلية تأكله.كان ما يزال منتصبا أمام الالئحة حين قال له سالم: »يجب أن تغلق ملف هذه با، إلى سالم، وحاول أن يفهم ماذا يعني القضية يا عبداهلل!« نظر عبداهلل، متعجبقوله »يجب أن تغلق.« هل حدث شيء ما أخيرا، وهل يعرف زميله شيئا جديدا؟ هل الحظ التوتر الحاصل داخله، وبالتالي كان يحاول أن ينصحه بهدوء أنه قد حان

Page 45: Beirut39 Arabic Anthology

45

اآلوان، لترك هذا العمل الهامشي والنظر في األمور األهم؟ كانت المشانق ما تزال تتدلى في دماغه، متأرجحة في الهواء، وكانت قصاصات الجرائد تتداخل في عينيه ا أن يعلم زميليه بما يجري وتحيله بائسا، ما الذي يجب أن يفعله؟ ال يستطيع حقا ما الذي يجري في داخله، ال ألنه ال يريد ذلك فحسب، بل أيضا ألنه ال يعرف حقداخله. نظر إلى زميليه نظرات بلهاء ال معنى لها، ثم أمسك بإحدى القصاصات وأزال الدبوس عنها، ثم فجأة التفت إلى زميليه: »نعم، حان الوقت ألن نغلق هذه القضية.

سوف أزيل كل هذه القصاصات. ال بد أن نفعل شيئا جديدا.«د ب زمياله من فعله لكنهما عادة ال يختلفان معه في شيء؛ فمع مرور الوقت تعو تعجكل واحد منهم أن يحترم رغبات اآلخرين، وأن يدرك مزاياهم وعيوبهم، ووصلوا إلى حالة من التأقلم والتواطؤ تجعل كل واحد منهم يعمل مع اآلخرين، ومع نفسه ر عبداهلل أن محمد وسالم سوف يسأالنه أال يفعل ذلك، أو أنهما في ذات الوقت. وفكسيعترضان بطريقة أو بأخرى، لكن شيئا من هذا لم يحدث، ببساطة ألنهما انهمكا

في أحاديث أخرى بينهما بدت أكثر أهمية.عاد إلى مكتبه يحمل قصاصات الجرائد والدبابيس، وبدأ في التخريم. أخرج الملف الذي كان قابعا في أحد األدراج، وبدأ في تصفيف القصاصات. كان قلقه واضحا في تململه وعدم قدرته على الجلوس على كرسيه طويلا كما هي عادته، وفي تحريكه ر اآلن أن شيئا قويا ال بد أنه يعتمل رجليه بحركات سريعة غير هادفة. إنه يفكدا إلى الالئحة، داخله، لكنه يجب أن يغلق هذه القضية التي طال أمدها. نظر مجد

ومد يده وأخذ الملف ووضعه في الدرج حيث كان.لم يبد على محمد وسالم أنهما كانا يرغبان في إثارة موضوع حبال المشانق، فبالنسبة إليهما كانت القضية منتهية، حتى لو كان ثمة شيء يمكن أن يحدث ة في وضع االحتماالت ومناقشتها. في المستقبل، فلم تكن تراودهما أي رغبة ملحده منذ مدة طويلة، وأنه بهذا ا جديدا غير ما تعو لقد الحظا أن عبداهلل يلبس مصريكون قد قام في يوم واحد بعدة أعمال غريبة عليه، فهو قد تأخر عن موعد دوامه ا مختلفا، وأخيرا كان يبدو بحيث أنهما حضرا قبله إلى المكتب، وكان يعتمر مصرعليه كل ذلك القلق الواضح. لكن األغرب من هذا كله أن يقوم بجمع كل القصاصات د بمجرد اقتراح بسيط. إن أمرا ما يعتمل في هكذا من على الالئحة من غير أن يتردداخله! أيكون مريضا؟ أم أن القضية المهمة بدأت تشغله وتقلقه إلى هذه الدرجة؟

المعلقة األخيرة

Page 46: Beirut39 Arabic Anthology

46

إن هذا ليس بعيدا، فإنه لم يذهب إلى مكتبه مباشرة، كما هي العادة، بل ظل منتصبا أمام الالئحة قبل أن يقوم بنزع القصاصات، وهذا عرض واضح يدل على أنه مريض ر في داخله، وهما يعلمان أنه لن يفسر لهما األمر بهذه القضية. نعم، هناك شيء يتغيحتى لو سأاله، ففضال متواطئين على أن يعطياه هو القرار، إن كان يريد إخبارهما

بما يجري. لكن عبداهلل قطع هذه التساؤالت حين قام من على المكتب وخرج.ل عبداهلل في أروقة الوزارة غير مدرك لم يحدث شيء يذكر بعد ذلك، فقد تجوا ما كان يفعله. والحق أن حبال المشانق كانت قد عادت للتأرجح داخله، وكانت حقهذه المرة تتخذ كل شيء وأي شيء للتشبث: شاهدها تتأرجح من على الجسور، ومن على لوحات الطرق، ومن على شرفات األبنية، بل إنه كان يخيل إليه أنه سوف

يجد مشنقة عند كل باب من أبواب الوزارة وعلى ساللمها.مرتين خرج إلى المقهى الخشبي المنتصب خلف الوزارة، وحاول أن يأكل شيئا

ة لفعل ذلك. ه لم يجد شهي لكنر في المستهتر ذاك، ال بد أنه يريد أن يوصل رسالة ما إلى الناس، وإليه كان يفكشخصيا. ال، ليس هو مجنونا، إنه يفعل هذا كله بحكمة، وهو يريد أن يقول شيئا. لكن ماذا يمكن أن تكون رسالته؟ فكر عبداهلل أنه كان ال بد لهذا الرجل أن يكتب شيئا ما في الجرائد، كي يقول في النهاية الرسالة التي يريدها. حسنا، قد يكون غير قادر على فعل ذلك ألن الشرطة سوف تحتجزه بالتأكيد، لكن من أين له- بعد د أن رسالته قد وصلت إلى اآلخرين؟ ال يبدو أن كل هذه الحبال المشانق- التأكأحدا فهم أي شيء سوى أن ذلك المستهتر مجنون، أو مصاب بمس، أو أنه يمزح قة فقط لمعرفة ما هو مزحات ساذجة، فال أحد يبدو خائفا بل إن الناس كانت متشومصير ذلك المستهتر. أما قضية المشنقة هذه فإنها لم تكن ترمز ألي شيء، وإنها لم تكن موجودة أصلا في تاريخ البالد. إن المدانين بالجرائم ما كانوا يقتلون بطريقة ات، برميهم من على الشرفات، بدفنهم الشنق. ال شيء من هذا، ربما أعدموا بالبندقيا عن هذه أحياء، لكن بمشنقة؟ بحبل؟ بتعليقهم على المأل؟ ال، إن ذلك أمر بعيد جد

المنطقة من العالم.ر عبداهلل باحتماالت ما يمكن أن يكون نهاية حقيقية لهذا الموضوع. هل فكيبعث الرجل رسالة يقول فيها إنه كان فعل ذلك لسبب معين وإنه متأسف؟ بالطبع اس يستطيع حتى أال يتأسف، بل يضع رسالته تلك على الجسر وينصرف، فيعرف الن

حسين العبري

Page 47: Beirut39 Arabic Anthology

47

المعلقة األخيرة

أن القضية غدت منتهية. إن ذلك أمر لن يكلف الرجل شيئا، وسيكون قد أكمل ن متى القضية التي بدأها. أما أن يجعل األمور معلقة هكذا وال أحد يستطيع أن يتكه

وأين ستتدلى المشنقة التالية، إن هذا هو حقا االستهتار بعينه.لقد كان طيلة هذا اليوم يفكر بنوع من الحقد على الرجل المستهتر، صاحب ه اآلن بدأ في الشفقة عليه. ال بد أن يكون رجلا ذا شأن حتى يفعل كل المشانق، لكنهذا. إننا ال نحترمه حين ننعته بلقب معتوه أو مستهتر. إن آخرين كثرا ربما انطبقت

عليهم هذه الصفات، لكن هذا الرجل ذو شأن آخر حتما ليفعل كل ما فعل.قام محمد من على مكتبه وأعلن أنه ذاهب. كانت الساعة ما تزال الثانية وعشر دقائق. إنه الوقت الذي يخرج فيه. نظر سالم إلى عبداهلل، وبدأ في تجميع ه إلى عبداهلل وسأله إن كان بخير، فرد أغراضه هو اآلخر، ثم قبل أن يخرج توجعبداهلل: »كل األمور تمام.« كان ذلك غريبا، فكر عبداهلل. هل كان سالم محرجا ا يشغله منذ الصباح؟ أم أن هذا معناه أنه يعرف ما يشغل من أن يسأل عبداهلل عمد أن عبداهلل، لكنه أراد فقط أن يطمئن عليه؟ وأيا كان األمر، فإن عبداهلل رد»كل شيء على ما يرام« وأنه ال داعي للقلق، فقد كان متوعكا فقط. خرج سالم من المكتب بعد أن ألقى نظرة ذات معنى على الالئحة الفارغة من القصاصات.ا ظل عبداهلل في الغرفة وحيدا خلف مكتبه بضع دقائق غارقا في تساؤالته عمينبغي فعله في مثل هذه األوقات العصيبة. إنه يكاد ينفجر من الداخل، وهو ال يعرف ؟ أو أصابته لوثة؟ لو أنه ا ما الذي يدور هناك من أحداث، أيكون فعلا قد جن حقكان في قريته اآلن لكان شك كاآلخرين أنه مصاب بمس من الجان، أو أن أحدهم قام بإلقاء سحر عليه فجعله هكذا جسدا بال عقل، آلة من غير توجيه، أو آلة يوجهها

ساحر من بعد.فجأة أخرج الملف وقلب القصاصات، وقام بإخراجها واحدة بعد األخرى، وهو يحاول أن يرى إن كان بإمكانه هو عبداهلل بن محمد معرفة من يكون هذا الرجل، ر؟ وما الذي أقلق حياته وقذف عليه بكل هذا القلق. كيف يمكن لهذا الرجل أن يفكهي الغرائز التي تحركه؟ لماذا يسعى هكذا إلى تدمير العالم وزرع الرعب في كل مكان؟ وأخيرا، من دون أن يعرف لماذا، قام عبداهلل بإعادة تثبيت القصاصات على الالئحة بالدبابيس، ونظر إليها مليا إلى أن كان موعد خروجه من الوزارة. هدأت هذه الحركة من ثورانه، وأرجعت إليه شيئا من التوازن. كان اآلن أكثر سيطرة

Page 48: Beirut39 Arabic Anthology

48

حسين العبري

على أحاسيسه، ولم يعد بعد قلقا، وبدا أن المشانق اختفت من وعيه، فقد رجع إلى حركاته اآللية المدروسة التي عهدها، وأغلق باب المكتب، ومشى إلى سيارته. لم ير مشانق أو حبالا معلقة في الفراغ، وال على سقوف المواقف. أدار المحرك وقفل

ة المرض. عائدا إلى بيته، وهو يحسب أنه قد برأ تماما من هذه القضيدا!، لن كان الزحام يزداد كلما اقترب من جسر القرم. وفكر بامتعاظ »ال، ليس مجديأتي رجل المشانق اآلن. إن هذا ليس توقيته. لن يكون هو رجل المشانق إن جاء ر من سلوكه، ويكون قد خدعنا جميعا!« وهجمت عليه أفكار اآلن. سيكون قد غيالحبل المشنقة مرة أخرى وبدفع أكبر. كانت األفكار تتقاذف داخله بعنف. أيعقل أن يكون فعلها اآلن وهنا؟ أيعقل أن يكون قد قام الرجل أخيرا بتعليق شيء ما على

الجسر، في مثل هذا الوقت؟انتابته األفكار جزافا، وبدأت القضية تتصاعد في داخله ثم انبثقت كل القصاصات أمام عينيه بصورها وبأحداثها وبأسماء واضعيها والمصورين. كان السائقون في سياراتهم يرقبون ما سينفتح عليه المشهد حين يقتربون من الجسر، أما هو فكان ر يريد أن يذهب، أن يختفي سريعا من هذا المكان من غير أن يشاهد شيئا. فكأنه سيكون بخير لو هرب من هذا كله، أن يتحول إلى الخط األيمن، وأن ينفذ عبر ه نحو الشارع ار بحوالي ثالثة كيلومترات، ويتج مخرج الشارع، الذي يوجد قبل الدوالفرعي الذي يخترق مدينة السلطان قابوس، ومن ثم يعود أدراجه إلى الشارع الرئيس

ار المجمعات. عبر دوبدأ في إعطاء اإلشارة، لكن، اآلخرون كانوا غير ملتفتين له، بل إن الجميع كان ارة يعلق عينيه في الفضاء في محاولة لمعرفة ما يجري هناك عند الجسر. وكاد سين من الوصول إلى ه في النهاية تمك ارة أمامه حين أراد االلتفات، لكن عبداهلل تصدم سيجها نحو الشارع الداخلي لمدينة ارته عبر المخرج، مت الخط األيمن للشارع. قاد سيه استطاع أن السلطان قابوس، واستمر فيه باتجاه الشرق. كان الشارع مزدحما لكن

ع منه الشارع المؤدي إلى الجسر. يمر إلى الدوار القريب الذي كان يتفرر عبد اهلل، بدلا من أن يبتعد عن مشاهدة حبل المشنقة، الذي ربما يكون لقد فكه متدليا هناك على جسر القرم، فإنه اقترب اآلن إلى درجة أكبر من الجسر، لكنه ار، ويتج لن يستطيع مشاهدة شيء من هنا. كان عليه فقط أن يدور نصف الدوالي يكون قد أفرغ قضية الجسر والحبال المشانق من عقله مباشرة لألمام، وبالت

Page 49: Beirut39 Arabic Anthology

49

المعلقة األخيرة

ى له معرفة النهاية المتوقعة عن طريق التلفاز أو تماما لهذا اليوم، وسوف يتسنالراديو، أو يرجئ كل ذلك إلى صباح الغد ويقرأ كل شيء في الجرائد، حيث سيجلس على كرسيه، ويكون قد عاد مرة أخرى عبداهلل بن محمد المبرأ من هموم هذا ار ويتجه لليسار، حيث العالم.فكر أن بإمكانه اآلن أيضا أن يلف ثالثة أرباع الدويستطيع الصعود على الجسر، ويلقي نظرة أقرب إلى ما يحدث إن كان ثمة مشانق

وحبال متدلية.ر اآلن وإال فاته الحدث. ودار نصف بدا األمر مقلقا وال بد له بعد هذا أن يقردورة على الدوار وأكمل ثالثة أرباع الدورة. لم يستطع أن يتجه مباشرة في طريق الهروب، ولم يستطع كذلك أن يتجه إلى قلب الحدث، حيث الجسر. ثم أنه دار مرة أخرى، وأكمل نصف الدوار ثم ثالثة أرباعه، وهذه المرة أطلق لسيارته العنان

ومضى بعناد في اتجاه الجسر.ارة شرطة هناك، وكان لم يستطع االستمرار طويلا، فعند بداية الجسر كانت سيرجال شرطة يلوحان في األفق وهما يركضان. كانت سيارتهما مفتوحة األبواب ن ما يحصل. ومركونة في الطريق وأضواؤها تلمع باألزرق. استطاع عبداهلل أن يتبيكان رجال الشرطة يالحقان أحدهم. إنه هو إذن: ال بد أن يكون هو ذلك الرجل

البطل، الذي علق المشانق كل هذه الشهور.سا جدا وود لو أنه أستطاع إلقاء نظرة على الجوار. كان أصبح عبداهلل متحماراتهم يرقبون المشهد بفضول، بينما خرج البعض ليرى بتفصيل اآلخرون في سير عبداهلل أن الشرطيين سيقومان بالقبض على الرجل حتما. أكثر ما هو حاصل. فكونظر باتجاه الجسر، لم يكن يستطيع من موقعه هذا أن يرى ما إن كانت هناك أية

مشنقة أو حبل.كان يلزم أن يخرج من سيارته ويذهب إلى أعلى الجسر حتى يطل على الشارع دا ليعلق مشنقة، وإن الرئيس. كان يريد أن يعرف ما إن كان الرجل قد جاء مجدكان قد علقها أم أنه جاء لينهي هذه القضية. ال بد أنه هو اآلخر، مثل عبداهلل، قد

أقلقه طول المدة، وأراد أن ينهي القضية لكن الشرطة فاجأته.شاهد الرجل البطل يركض نزولا من الجسر، وعلى إثره رجال الشرطة. حاول بعض السائقين أن يعرقلوا الرجل لكنه كان سريعا، وكان قد تخلص من نعليه ورفع من دشداشته قليلا، لكي يصبح قادرا أكثر على العدو بسرعة. اتجهت األنظار

Page 50: Beirut39 Arabic Anthology

50

حسين العبري

ارات، واالبتعاد باتجاه األشجار باتجاه المطاردة، واستطاع الرجل االنطالق خلف السيار الفرعي. وراءه ثالثة رجال آخرون اآلن تركوا سياراتهم والحشائش المجاورة للدوليساعدوا رجال الشرطة، مع أن األخيرين كانا يصرخان فيهم أال يتدخلوا حتى ال

يوقعوا أنفسهم في المتاعب.ق في عينيه. شاهد عبداهلل الرجل البطل قادما باتجاه السيارات وحاول أن يحدى واستطاع لوهلة أن ينظر باتجاه عيني الرجل، ونظر الرجل إليه. كان وجهه مغطبالعرق، حاسر الرأس وتتدلى خصالت شعره ملتصقة على جبينه. كان بود عبداهلل أن يفعل شيئا، وينقذ الرجل المطارد، لكن كيف؟ لو أن الطريق كان مفتوحا لربما استطاع إدخاله إلى سيارته، واالنطالق بأقصى سرعته بعيدا عن الجميع، وسيكون قادرا، بعد أن يطمئن الرجل ويستريح ويجفف عرقه، أن يسأله عن المغزى من كل

هذا، عن السر الذي حدا به أن يقوم بهذا كله.لكن ذلك صعب، ولن يجرؤ عبداهلل على فعل مثل هذا، حتى وإن كان الطريق له. ما الذي يدخله في مفتوحا. إن ذلك ضد ما هو عليه، ضد شخصيته وما يشكته؟ وإذا كان الرجل إنما جاء ليقتل نفسه فهل سوف يساعده، ويلقي الموضوع برمبه من الجسر مربوطا بمشنقته الغليظة؟ فهو إنما يكون مساعدا له في تحقيق رغبته العارمة التي شقي طويلا لبلوغها. إن هذا الرجل الراكض خبر آخر في سبيله

لالنتهاء تماما.ا هذا الرجل؟ أليس من الممكن أنهم إنما يحاولون اآلن اإلمساك لكن هل هو حقة واحدة، ليس بالرجل الخطأ؟ وأن الرجل الذي وضع الحبل المشنقة، إن كان ثمهذا الرجل، بل واحدا آخر استطاع االختفاء قبل أن تصل الشرطة؟ إن هذا الرجل با من الخارج بلحية خفيفة وشعر ناعم. ال، إن هذا ليس با وطي المطارد يبدو مؤدوجه رجل خطير أو شرير. إنه وجه مثل وجوهنا، وبشرة مثل بشرتنا. ال، ليس هو من افتعل كل تلك األحداث، وبفضله تجمعت كل تلك القصاصات. لكنه هو، وإال

ما قاموا باللحاق به. ال بد أنهم شاهدوه وهو يعلق الحبل المشنقة.ارته واتجه نحو الجسر. كان الجميع آنذاك متجهين بأنظارهم خرج عبداهلل من سيإلى الرجال الثالثة ورجلي الشرطة الذين يركضون خلف المشتبه به. أحس ه لم يكن عبداهلل أن هذا هو الوقت المناسب ليلقي نظرة على الحبل المشنقة، لكن

Page 51: Beirut39 Arabic Anthology

51

المعلقة األخيرة

آنذاك قادرا على التفكير. مضى مسرعا صاعدا باتجاه الجسر. كان الجو قد بدأ في السخونة، وكانت الشمس تلقي بأشعة حارقة على األشياء، مع هذا بدا المنظر من ت السيارات في ستة خطوط متقطعة تلمع تحت أشعة األعلى عجائبيا، فقد اصطفاراتهم بينما كان شمس عمودية صفراء، وكان بعض السائقين قد خرجوا من سيك حة باألزرق يأمرون السائقين بالتحر اراتهم الملو العديد من رجال الشرطة وسي

لكن الجميع كان يعلق عينيه في الجسر وفي الحركة التي علت الجسر.ع الغريب، وسط حشد عبداهلل اآلن بمواجهة الشارع، بمواجهة كل هذا التجمالناس والسائقين ورجال الشرطة. لم يكن المنظر واقعيا، كان ثمة غبش يحيط باألشياء ويجعلها غير قادرة على النفاذ إلى عينيه الغارقتين في العرق. على الحاجز المخفف للصدمات وقف موليا وجهه باتجاه الشرق، ثم إنه تراجع قليلا وسط ضجيج

الناس واستغرابهم. ثم انحنى قليلا، لينظر إلى الحبل المشنقة، لكنه لم يجده.لم يكن هناك حبل ممدود ومعلق في هذه الناحية، فارتد وراءه واتجه إلى الناحية األخرى من الجسر نحو الغرب، وحدق مليا في الجموع الصاخبة التي كانت غير ها كانت مترقبة. لم يكن عبداهلل آنذاك قادرا على قادرة على معرفة ما يحصل لكنا. كان كل ذلك الجمهور الحاشد ينتظر منه شيئا، فكان إدراك ما الذي كان يفعله حق

ال بد له أن يفعل شيئا.بدا عبداهلل من األسفل كمن يهم أن يفعل شيئا. راقبه الجميع وهو يفك ربطة مصره األزرق الغامق، وراقبوه وهو يقوم بربطه على أعمدة حاجز الجسر، واختفى فجأة في حركة باتجاه الخلف، ولم يعد بإمكان من في األسفل من هذه الناحية وال

من الناحية األخرى رؤية ما يحصل هناك. ثم فجأة انقذف شيء ما باتجاه األسفلاستغرق األمر أكثر من خمس ثوان ليصرخ أحدهم فجأة، وقد شاهد الرجل وهو يقذف بنفسه في الهواء وطرف المصر اآلخر حول رقبته. كان ذلك عبداهلل بن لا األفق ومتدليا على حافة الجسر. محمد ذاته حاسرا رأسه جاحظا بعينيه متأمصرخ اآلخرون، وبدأ رجال الشرطة في الجري باتجاه الجسر، بينما خرج الجميع

من سياراتهم لينظروا الرجل المتدلي مشنوقا.كانوا جميعهم يظنون أنه هو الرجل المستهتر، صاحب المشانق، وقد جاء أخيرا ليعلق نفسه على الجسر. فغروا أفواههم للحظات، وبدأ بعض منهم في االقتراب من

Page 52: Beirut39 Arabic Anthology

52

حسين العبري

الجسر ومن الجسد المتدلي، وعلت هممات قوية في األفق وصرخات، ثم إن بعضا من الذين كانوا في األسفل وجهوا كاميرات هواتفهم النقالة باتجاه الرجل المتدلي في الفراغ تحت الجسر ليلتقطوا صورا مناسبة لهذا الحدث الفجائي الصادم المهم.

فصل من رواية »المعلقة األخيرة« دار االنتشار العربي، بيروت 2006

Page 53: Beirut39 Arabic Anthology

53

حسين جلعاد

قصائدر قليل سك

هل تلمسين قمر نيويورك من الطابق العاشر!ي، أبحث في النهر عن عيون أصدقائي انا ما زلت أغرف الماء بكف

وأغفل عن الرسائل التي فاض حبرها وهي تسقط من جيبي العلوي.

فزت بما تركه الدب من عسل الغابة، تقولين، فصرت أنام في الضوء دون أحالم. لم تعد يدي دونك تعبأ بالتلويح والرسائل. صرت ال أتوقع أحدا في الزحام فال أرفع ناظري إذا سرت، وأعرف الوجوه من رائحة الشوارع والذكريات. كأننا نعتاد العالم

ات. حين نمر أمام المرآة وال نلحظ أرواحنا وهي تذوي في الممر

صحيح. لم تعد ركبنا ترجف من مرور الضوء على صفحة الظهر العاري، صرنا نرتبك

أمام الدرج.لت أيدينا، األشجار التي تسلقناها خلسة في الصغر سافرت إلى الغابات بعد أن تهد

واألعشاش تحتضن حصى ال تلمع أو حتى تسقط، فيضحك من حولنا الهواء.د من جروحك، المدن الكبرى خديعة األحالم، تقولين، فاحذر أفراحك الصغيرة. تأكفاألقمار هنا باردة. وال تذهب كل ذلك الذهاب. اليست عتبات البيت أبهج من الرقص رك القليل كما اعتدنا، أو ضع رأسك على ركبتي كل مع الغرباء. فاشرب قهوتي بسك

س وجهك. مساء كي أتنفهنا لن تجد سجادة صغيرة تخفي تحتها مفتاح الجنة، أو بابا تكتب على إطاره:

تين. ك مر أحب

Page 54: Beirut39 Arabic Anthology

54

أجل.صورنا القديمة ليست ألحد، فنحن لم نعد في اإلطار، ولن ننمو مجددا إذا مسحت دم عن ضحكتنا الغائرة. النهر يجري إلى فيضانه، واألرض قمر مؤنث في يد تراب الر

تين. ر مر نا نقفز كل يوم من العالم وال نتكر أصل الحكاية، لكننا لن نصل إلى أنفسنا سعيدون بما ال يرى، تقولين، بانخطافنا إلى آخر الدنيا. لكنفي المرايا أخيرا، كأننا نقيس بعد الخطوتين. أمامنا أمسنا وخلفنا بكاء الطفل في المستقبل الغارب. مرة واحدة فقط نمر بالحقيقة، فنبكي في الوالدة بيد تصفعنا كي

س. األرض واسعة: مرحبا بالحياة. نتنفلم أولد في السرير ذاته بعد مقتل أخيل، ألخشى الكمال وأصقل سيفي كل يوم قا على سرير تين. لي قميص واحد أخلعه قبل النوم، وأنساه بعد الحب معل مرالحبيبة، فيلعنني الخطباء في األسواق، وتشهق من خلف الشبابيك نساء ألجل فتى

جن قبل األوان.األغنية أخف من مناديل العرس، تقولين، واألضواء في صالة العرض كفيلة بإنهاء ا بالدخان. أليست الفيلم، قف واصرخ باسمك لتكون بطل الحكاية، واخرج متوج

أسماؤنا فقط ما يدوم من اللحن، وال يكترث أحد بعدنا بالنهايات.النوافذ استعارة البيوت للسماء، والضوء كسرة الخبز كي تحط أرواحنا خارج تين، فأنا أخطئ في العد بعد األلف، وأحمل الباب معي كلما عتمتها. ال أذكر الحب مررحلت، كي أدخل إلي. ال جغرافيا خارج أكتافي، والمفاتيح خدعة األساطير، كي ال

ننام مطمئنين.حتك المرايا أنت أيضا، وتضحكين: األسرار ال تقال، تعبث كثيرا، تقولين، فقد جرفكيف تسرد سفر التكوين مثل قصص النوم أو ذكرى قديمة. لم تكن بين آدم ونفسه ، ولم أكن في ثوب األفعى ألذوق الغواية، وأهيم كل قمر قرب لتعرف البكاء بين يديالبحر بعينين حمراوين. رسائلك األولى قلبي الذي نسيته في اللغة القديمة، وأعرف الحب من ذكرى أزرار قميصك تضك زغبي على عجل في المصاعد ومقاعد الحدائق

والركض بين المحطات. نا ال نسمعها، فمن يراك في القلب سواي، وألف يد تلوح األسرار تقال كل يوم لكنقربك في النهار. العالم شأن شخصي إذن لو تريدين، والنشيد باليد يهز ظالل النفس،

حسين جلعاد

Page 55: Beirut39 Arabic Anthology

55

ويلقي بالجنى للجنى، كي تنبت القدمان في نشيد جديد. ال أذكر روحي تطفو على ماء السماء، تقولين، وأكتفي بجناحين ينبتان إذا احتضنتك، ويضمران إذا غضبت وصفقت الباب خلفك. فاترك لي في الهامش حرفين لتعرف أني ك. وال تلطم جبينك أمامي كلما تأخرت وتسحب األعذار خلفك. يداك ك حين أحب أحبة بعدك. ولي أنك تطالع العالم بعينين، وتطل علي هما يداك، ولي قبلك قبل، ولي نية المجانين خلف انبيائك، وال تكسر مهابتهم، فتصرخ باسمي كلما بقلبك. فاذهب بخفاشتقت أن تقبلني. أو: مر بي كي تعود إلى سمائك وارتبك ما شئت خارج القداسة،

فلن يراك أحد سواي. تعال فأعطيك كل أسراري في حقيبة اليد الصغيرة. أتذكر!

الحب األول

للحب صرختان:شهقة البداية

وانطباق القلب.هواتف آخر الليل ترن في األحالم،

ليس لي من صوتك البعيد سوى انحسار المحيط عن صمتناوتشاغل اليد بسلك الهاتف،

ولك من قميصي القديم أزرار تلمع في سماء الفوالذ.

مثل ضفتي نهرنسير معا طوال الوقتيصل النهر، وال نصل!

هل كبرنا فجأة إلى هذا الحد:أن أنام على ذراع حبيبة سواك،

وأن تنجبي طفلتنا من مهاجر بولندي يتاجر بخيول الهنود الحمر في نيويورك!!

دها الموتى السماء كانت لنا وللطائرات الورقية، لكن غيمة الكنيسة القديمة توس

قصائد

Page 56: Beirut39 Arabic Anthology

56

حسين جلعاد

هكذا اكتفينا بالسير على األرض، ونحن نجرجر أطراف األجنحة.

خصلة شعرك وزجاجة العطر، هديتك لي في العيد السابع عشر،زرعتهما في حديقة األجراس قرب رسائل القس وصالة األحد.

أصدقاؤنا القدامى أودعتهم الصندوق الخشبيواستأمنتهم عند راهب الدير، كي إذا مر حشد المالئكة خشعوا مرنمين:

خواتمنا

مرآتك التي أصبحت مرآتنارة وألوان الماء والخربشات الممحاة المعط

نة أشرطة شعرك الملوأغنيات عبدالحليم وإديث بياف

صورة عبد الناصر باألبيض واألسودشارب نيتشه و»جحيم« سارتر

مريولك المدرسيالنمش على منحدر الكتف

ة الحليب سرويداي في أول الصيف!!

للحب صرختان:خفيا يعبرنا مثل رائحة العطر

ويخرج من رموش العينين كآخر نفس!

ة عربات ملكي

بة بذهب الحجاز عرباته تلمع بالهيبة، والعباءات مقصكنا نلثم األرض بين يديه على عجل

Page 57: Beirut39 Arabic Anthology

57

قصائد

ونتوارى،كي ال يطيل األعوان وصف رائحة األكباش في ضفائرنا

ات الوداع. ام من ثني ونعلل الخشوع بقمر هبط الش

ا قساة مع النسوة واألطفال، كنمنا والخيل لم تسلم من تجه

لم نشعل نارا...ولم نغتسل ألف عام،

حتى ضحك األمير أخيرا بملء شدقيهونام في معسكرات اإلنكليز!!

قصائد من ديوانه »كما يخسر االنبياء«، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2007

Page 58: Beirut39 Arabic Anthology

58

حمدي الجزار

مقطع من رواية

ات سرية لذناسك

ته وقفطانه وعمامته، عمودا كأعمدة الكهرباء الخشبية المندثرة، طويلا أراه، فى جبعريض الصدر والكتفين ونحيلا. جسده متين، وجهه قاتم البنية مجدور، ومنطفئ العينين، شاربه كث كشوارب الصعايدة، ولحيته الطويلة ما زالت سوداء رغم سنوات ا الهواء أمامه ه اليمنى، يرتفع شاق ازه الغاب األصفر مضموم بكف عمره الخمسين. عك

ة بقلب منير. ويهبط لينقر األرض يسبق خطوته، يمشي في ظلمته التامكنت في نحو العاشرة من عمري، وكان الشيخ حب الدين إمام مسجد الساحة خيم هو أحب األشياء قيق الر البيومية وشيخ مكتب تحفيظ القرآن الملحق به، صوته الر

الي في طفولتي وصباي. على يديه حفظت نحو نصف القرآن الكريم في عامين.سرادقات المآتم الكبرى، التي عادة ال تقام ألحد في الجيزة سوى لألثرياء وكبار

العائالت، ال يدعى للتالوة فيها سوى الشيخ حب الدين.يذهب الشيخ للتالوة كأنه ذاهب لعرس أو لحفلة موسيقى كالسيك، يروح فى كامل وقاره وأبهته: صدريته وقفطانه وجبته نظيفة ومكوية على الشعرة. مرسي فها المكوجي يولي مالبس الشيخ عناية خاصة، عناية المريد، المحب، ال المهني. ينظويكويها ويطيبها بعطر المسك، ويساعد الشيخ فى ارتدائها، فال يرى الشيخ فى المساجد والسرادقات والشوارع إال وهو متأنق، مهيب، يفوح منه ومن مالبسه ريح الطيب.

الشيخ يقوده أحيانا ولد صغير، هو حفيد صديقه اللدود الحاج عيسى، هو أنا.أصلي مع المصلين خلفه صالة العشاء في جامع الساحة البيومية. بعد الصالة أقترب منه وهو يختم، أهمس بأدب »حرما يا سيدنا«، يبتسم ويواصل تمتمته، يتكئ على

عصاه وكتفي ويقوم معي واقفا، كجمل.ونحن خارجان من الباب الخشبى الكبير أساعده فى اجتياز العتبة المرتفعة،

Page 59: Beirut39 Arabic Anthology

59

وأحمل عنه عكازه وأعلقه تحت إبطي، يضع يده اليسرى الثقيلة فوق كتفي، ونسير مخترقين قلب الجيزة. أزهو على أقراني بمرافقة الشيخ، أكاد أخرج لهم لساني كلما رأيت أحدهم. ألف به العطفات والحارات والشوارع من أبعد الطرق وأطولها، ليراني الجميع أقود سيدنا. هو ال يبإلى، ال يمتعض، وال يتململ. أرفع بصري إليه فال أرى سوى وجه مطمئن، يبدو لي كأنه يبتسم بسماحة من لؤمي وتفاخري. ال تتحرك

شفتاه بشيء. كالمه قليل وعزيز.ة التالوة الخشبية المزينة بالقطيفة عندما نصل سرادق العزاء أجلسه على دكة، فيقرفص فى جلسته مثل تمثال الكاتب المصري الزرقاء، أرفع قدميه ليتربع فوق الدك، أصب له الماء فى الكوب أمامه، وأحتفظ القديم، أعدل عمامته البيضاء وشاله بيديبزجاجة الماء البارد فى يدي حتى يطلب الشرب. أضبط الميكروفون أمام فمه، أنقره وأجربه نافخا فيه: »اهلل...اهلل.« عندما اطمئن لسالمة الميكروفون وجودة الصوت

أقعد عند قدميه، متربعا على السجادة مثله، فاتحا له أذني على اتساعهما.الشيخ حب الدين يتلو آيات اهلل بخشوع يهز القلوب، بخضوع يحني الهامات، صوته موجود، ظاهر، خفي وباطن، غامض كصوت دوران الكرة األرضية، يصدر من القلب والروح، ال من الفم والبلعوم واألحبال الصوتية والحنجرة. أنصت إليه بكل جوارحي، دا خلفه اآليات بنفس طريقة تالوته، نفس طبقة الصوت، نفس ك لساني مرد ويتحراألداء والنبرة والورع. أفتح كفي عن آخرهما وأضعهما على أذني، وأتمايل في جلستي ، ويسري في جسدي لحن شديد العذوبة، وتمتلئ يمينا ويسارا مثله تماما. أهتزنفسي بصوته السماوي فأطرب، أغمض عيني ويحلق قلبي بنزق طائر، وتكاد ريالتي

تسيل من بين شفتي.كان يتلو، يصدح ككروان، فيذهب بعيدا بعيدا، يغيب بكليته، ويترك لمستمعيه جسد ووجه رجل غائب، طار من دنيانا إلى السماوات العلى، دخل الجنة فشرب من أنهار مائها ولبنها وعسلها وخمرها، ورأى الحور العين، مؤمن تقي باشر وعرف

ة فردوسية ال نظير لها، هنا، على هذه األرض. متعة ولذدائما، يبدأ الشيخ تالوة الربع األول من سورة »المؤمنون«، في الربع الثاني يقرأ لة »يوسف«، ثم يختم تالوته من»غافر«، وفي الربع الثالث يتلو من سورته المفضله الشيخ وال يستبدله، وال يذعن ألحد من بجوهرته »الرحمن«. نظام صارم ال يبدأجل تغييره، فالشيخ لم يكن يعنيه من أمر مستمعيه أحد. كان يتلو لنفسه، يشدو

ات سرية لذ

Page 60: Beirut39 Arabic Anthology

60

لمصلحته الخاصة فحسب، لمزاجه وهواه. الغريب أن الناس أحبوه لهذا السبب فحسب، ألنه ينسى حضورهم وال يعبأ بوجودهم، وكف بصره يمنحه حريته كاملة، يجعله غائصا في أعماق ذاته غير مكترث بما حوله، غير عابئ بشيء، سوى صورة روحه المعلقة بالكلمات المقدسة. وسواء كانت المناسبة عزاء راحل ثري، أو ته وال ضميره وال ختمة نذر، أو احتفالا بمولد أحد األولياء، فإن شيخنا ال يغير ذم

سوره الحبيبة.بأربع سور فحسب صنع الشيخ حب الدين شهرته العريضة فى الجيزة، وتجاوزها إلى الجنوب حتى قرى البدرشين والعياط، وشمالا حتى وصل صيته بشتيل والقناطر الخيرية. وأينما ذهب، أينما تال الشيخ سوره األربع تتصاعد »اهلل اهلل« في جوانب وسقف السرادق، تتوالى الزفرات واآلهات من السميعة المأخوذين بالصوت الضارع الخاشع، وتردد األلسن »اهلل يفتح عليك يا شيخ« عقب كل وقفة، وسكتة، وقفلة.

سيدنا يجلس للتحفيظ فى قاعة المكتب الصغيرة، أعلى مسجد الساحة، من بعد صالة العصر حتى صالة المغرب. بعد الصالة يعود للبيت للراحة حتى قبل العشاء. أرافقه فى طريق العودة، هذه المرة أخترق السوق مباشرة من أقصر الطرق للوصول

إلى بيته، فما زالت حواري وشوارع السوق عامرة بالناس.كانت البائعات الجالسات على األرض أمام فرشات الجبن والعسل األسود، والليمون والخضراوات، والواقفات أمام عربات اليد، وخلف أقفاص الفاكهة، وأمام أبواب المحالت والدكاكين، والنسوان الجالسات على عتبات البيوت، كن يتطلعن إلينا، يسلطن أبصارهن علينا، يتغامزن ويحدقن فينا بال حياء، بال أدب يليق بمرور ين على الشيخ. أحيانا يحدث ما هو أسوأ من ذلك، تميل الواحدة منهن متوردة الخداألخرى، وتهمس في أذنها بشيء، وهي تبتسم، فتخجل األخرى قليلا ثم تفتر شفتاها عن ابتسامة عريضة، تستمر المرأة األولى في الهمس باحتياط كأنها تبوح بأسرار خطيرة حتى تضحك األخرى وهي تنظر، من تحت لتحت، إلى جسد سيدنا الفارع، ثم تستقر عيناها عند ما بين ساقي وحجر الشيخ، وال تتزحزح. أنظر إليهن بحنق، ساخطا، غاضبا، وهن مستمرات في البحلقة، التهامس، الغمز واللمز. أحاول زجرهن، صامتا، بحركة غاضبة من رأسي ورقبتي، بوجه أحمر وأذنين ساخنتين، فيبتسمن ح هازئات بى، ضاربات كفوفهن الواحدة باألخرى، وضحكاتهن تتصاعد. أغضب وألوفي وجوههن بعصا الشيخ فيزداد ضحكهن مياصة وارتفاعا. الشيخ يسمع ضحكهن

حمدي الجزار

Page 61: Beirut39 Arabic Anthology

61

الماجن وال يبدو عليه أنه سمع شيئا، وال ينطق بشيء. أنظر إلى وجهه فال أرى فيه سوى الطمأنينة والرضا، وعلى وجهه شبهة ابتسامة مضيئة. برقة، يضغط على كتفي أن أهدأ، وأن نواصل السير، أشيعهن بنظرة غضب ولعنات مبهمة ال تجاوز

فمي، فال أسمع منهن سوى ضحك صاخب غزير، خلف ظهرينا.كنت أعرف أن شهرة الشيخ السرية في النكاح وعظم اآللة تكاد تساوي شهرته المعلنة فى الورع والتقوى، جمال الصوت وروعة التالوة. فالشيخ الذى ليس له ولد أو بنت معروف بأنه »صاحب األرجل الثالث«. قيل ألنه يسير على قدميه وعصاه، وقيل غير ذلك. يشيع السوقة الخبثاء أنه اشتهر بهذا اللقب عقب وفاة زوجته ت عشر ساعات، زلزلها الشيخ اء مضاجعة استمر األخيرة، متأثرة بمتعة قصوى، جرخاللها بقضيب، في طول وعرض ساق رجل متوسط الطول! أنا، لم أره سوى كهل

عذب، رقيق، ووحيد.ر واحدة ته. ال تعم ج كثيرا من النساء في مطلع شبابه وفتو كان الشيخ قد تزومنهن معه، وال تمكث في بيته أكثر من عام واحد، بعده تنتهي، فإما أن تتوارى وترحل عن الجيزة كلها مطلقة، أو يشيعها الناس إلى القبر حتى تزوج صبيحة، ة دافقة آخر زوجاته. لم تنجب هي أيضا ولكنها كفته، كلفت به، ورعته بمحبة سنوات حتى ماتت. بعد رحيلها لم يقرب الشيخ النساء أبدا، وصارت تالوته عدة، خافتة وحزينة، وصار يغني عندما يكون وحيدا، وأحيانا في غرزة »بحلق« شجيي عن نفسه مع صحبة بعطفة القسيس. فى جلساته الخاصة بالغرزة، كان الشيخ يسرقليلة: عمي موسى، حسن األفندى الملحن، واألسطى مرسي، واثنين، ثالثة آخرين من أحبابه.كان ينبسط، يتمايل ويغني. يغني بسلطنة قصائد غناها الشيخ علي محمود، ويرق صوته ويحنو بمواويل وأدوار لناظم الغزالي، ويصدح بطقاطيق وقصائد لصباح ر من فخري. ال يقرب البيرة، المشروب األوحد بالغرزة، فقط يدخن الجوزة بما تيس

أحجار الحشيش. ي في ظلمة الليل، نحو الثالثة صباحا، يعود الشيخ إلى بيته مسحوبا بذراعي عموالملحن حسن األفندي. يحكي لهما في السكة دائما حكاية واحدة، حكاية بكائه المتواصل، حين يكون وحيدا، حزنا على فراق صبيحة التي ماتت بين يديه، وهي

منكبة علي يده تقبلها، وشوقه للحاق بها.ة حيث يسكن، عند ناصية الشارع يتركهما األفندي ليسير في اتجاه شارع المحط

ات سرية لذ

Page 62: Beirut39 Arabic Anthology

62

حمدي الجزار

ي الشيخ لبيته األخضر ذي الطابق الواحد المجاور لبيتنا، يدخله غرفة بينما يقود عمته. من نومه ويتركه. بعد دقيقة أسمع وقع أقدام عمي وهو يصعد درج بيتنا لشقكثرة ما دخلت بيت سيدنا أعرف بيت الشيخ وغرفة نومه تامة الظلمة، ال ينير فيها

. مصباح وال تدخلها الشمس. بيت خاو ال يشاركه فيه أحد، ال صوت فيه وال حسط الشيخ بين السرير والدوالب طويلا، ليخلع قفطانه الثقيل وعمامته. وحيدا، يتخبيغفو ساعتين على األكثر، ويقوم من نفسه وحده، ليذهب لمسجد الساحة ويؤذن للفجر. كان الشيخ قد أقسم بعد عشر دقائق من وفاة صبيحة أال يقرب امرأة ما بقي له من العمر، فلم تدخل بيته قريبة أو خادمة. أعرف أنه يفتح المسجل، ويترك ة، يئن بحشرجة خافتة، الشيخ رفعت يتلو ويتلو، ويترك دموعه تنساب فوق المخد

ويدع جسده القوي ينهار تحت أنين روحه.هكذا يفعل كل ليلة قبل أن ينام مقلوبا على بطنه، محتضنا مرتبة سريره الخشنة، فاردا ذراعيه على امتدادهما، تماما مثل مسيح مصلوب، مثل مسيح نائم على فراش ي موسى إن الشيخ كان بصره ضعيفا فحسب، لكنه قد صار عاجزا الشوك. يقول عم

لكثرة ما بكى على فراق النساء.

فصل من رواية »لذات سرية«، دار الدار القاهرة 2008

Page 63: Beirut39 Arabic Anthology

63

ديمة ونوس

قصتانجهاد

رصيف بالطه مرتب ومصفوف بشكل محترم على عكس أرصفة الشوارع األخرى. كئ عليه سور حديد تخفي قسوته نباتات مضى زمن، وهي تتعربش السور يتالداخلي، لتصل إلى القمة وتلمح إيقاع الحياة في الخارج. باب أسود شديد الضخامة ارة تعبره إلى الداخل. خلف السور، حديقة كبيرة أشجارها المعمرة يتسع ألي سيسافرت من المغرب وفرنسا لتسكن هنا. أزهار شديدة الكرم، ما إن تلمسها نسمة صيف خجولة حتى تمنح رائحتها. األرض المعشوشبة مرتبة بطريقة بديعة، فالعشب ينمو بشكل جماعي، وال يسمح لعشبة أن تكبر أكثر من جارتها. باب البيت من ة الحاقدين والجاحدين. الخشب الثمين والنادر. فهو يحمي حياتهم من عيون المارة الذين يحسدون باستمرار من أنعم اهلل عليهم بمال حالل وبأرزاق بللت المار

جباههم بغزارة حتى تراكمت. وراء الباب مباشرة، صالون فسيح يمطر ترفا وفخامة. أرضه الرخامية متخمة باألثاث اإليطالي والتحف المذهبة. تماثيل عارية تنتصب بفخر في زواياه. لوحات أصلية معلقة على الجدران بعشوائية مفتعلة، فاللوحة التي يغلب عليها اللون األحمر مثلا تتصدر الحائط الذي يسند األريكة الحمراء، أما الكنبات الصفراء فترقد بسالم تحت لوحة عباد الشمس، وهكذا. أربع طاوالت تتوسط كل ركن من أركان ج ألوانها الصالون. طاوالت من السنديان مستديرة خوفا من الرؤوس. شتالت تتدربين األخضر الداكن واألخضر المائل إلى الصفرة واألحمر الخريفي الحار، مبعثرة

ة في السقف. في كل مكان. أضواء خافتة تتسلل من تجويفات مخفيص من في تلك الزاوية، حيث تتدلى شجرة األروكاريا، والضوء المرهف يتلصبين وريقاتها، ليرسم انحناءات لطيفة على الجدار األبيض. هناك، في تلك الزاوية

Page 64: Beirut39 Arabic Anthology

64

ن. طاولته ل المصنوع من الخيزران الملو تحديدا، جلس جهاد على كرسيه المفضالصغيرة التي حملها من الهند تقف باستعداد عند قدميه. على سطحها منفضة، سيجار ثخين، أعواد كبريت طويلة وفنجان قهوة. بيده اليسرى، حمل جهاد رواية »بتوش الحلوة« لعزيز نيسن، ويده اليمنى متفرغة تماما لتحمل فنجان القهوة بين الفينة واألخرى أو لتدس السيجار بين أصابعها الثخينة، أو لتهوي بصفوته بشكل ة المستطيلة المصنوعة خصيصا للسيجار. تلك الرغبة آلي في المنفضة الزجاجياللعينة بالتألق تدفعه للقراءة. تغصبه على تصفح أحدث الكتب السياسية والروايات والقصص والمسرحيات، فقط ليخبر أصدقاءه المعدمين، الذين ال يملكون في الواقع الع ويمتلك شغفهم، ما يتباهون به سوى مخزونهم الثقافي، أنه هو أيضا يحب االطق عليه بأية عادة أو أي هاجس. ربما هي ليست رغبة، وإنما ولن يستطيعوا التفوعقدة تحفر روحه باستمرار وتذكره أنه جهاد مصطفى اآلغا: ابن أهم المسؤولين المتقاعدين الذين حافظوا على مناصبهم ثالثين عاما، وأصبحوا متألقين كنجوم السينما بالضبط. إن وجدوا في مكان عام، يتدافع الناس من مقاعدهم للحصول على توقيعهم، أو اللتقاط صورة بقربهم، أو لتأمل وجوههم السمحة على األقل.يصر جهاد دائما على انتزاع هذه الفكرة من رؤوس كل من يعرفهم. لكنه لن يفلح بشلع ثالثين عاما تجري في دمائهم، في محيط الفؤاد تحديدا، فتجعله ينبض بذعر وأسى. مصطفى آغا صار كالعطر، ما إن يلفظ اسمه حتى تسري أذهانهم، في كاألسطورة صار يومهم. ويتخبط الناس، أجساد في قشعريرة ، ومصطفى آغا يجلس وراء طاولته في الوزارة ال تستطيع قوة فالسنوات تمرعلى األرض أن تزحزحه ولو قليلا من مكانه. الناس تمرض وتموت وتهاجر المعتاد. ينتظر عودتهم في مكانه آغا الوطن، ومصطفى إلى وتغترب وتعود في تلك الزاوية تحديدا، رسم دخان السيجار غيمة صغيرة فوق رأس جهاد بدت وكأنها الهالة الشفافة التي تعلو عادة رؤوس المالئكة. جهاد يتابع قراءته بمتعة تثير الحسد، لكن هناك مشكلة. في كل مرة ينجح فيها جهاد بإبعاد زوجته عن مخيلته، رها وهي تدلل ضيوفه وتتدلل تعود من جديد لتلبس شخصية »بتوش الحلوة«. يتصوعليهم. تتحدث معهم، وتساير ميولهم األدبية والسياسية واالقتصادية والفلكية، وأحيانا العاطفية. تزوجها وهي في الخامسة عشرة. كانت هزيلة وناعمة. طفلة ال ها من الزواج سوى االنتقال من بيت أهلها، في حلب، إلى بيت زوجها في العاصمة: يهم

ديمة ونوس

Page 65: Beirut39 Arabic Anthology

65

ح جسدها، صارت فجأة امرأة ضخمة. جسمها األسمر ممتلئ دمشق. سكنت بيته، تفت ومربرب. قامتها طويلة وجذابة. عيناها زرقاوان. شعرها بلون الفحم كثيف وناعم.جهاد متوسط القامة، نحيل لكنه يملك كرشا يبقيه حيا ألشهر دون طعام. لونه حنطي مائل إلى األحمر. وجهه الناعم منقوش بالنمش. شعره البني خفيف ومجعد قليلا. عيناه لئيمتان إلى حد بعيد. يبدو أنفه تفصيلا أضافه اهلل دون قصد، فهو ككرة صغيرة ثبتت على عجل وقد تسقط في أي لحظة. شفتاه صغيرتان ولونهما باهت. أسنانه قصيرة ومزدحمة في فمه فيبدو وكأنه لم يخسر أي سن منذ الطفولة وأن أضراس العقل األربعة ولدت هي أيضا واستقرت في فمه، وستبقى في منصبها ثالثين

ة تلوك النعمة بشراسة فتصبح سهلة الهضم. عاما، وفيمعلبة لحوم معمل نسيج ومصنع يملك جهاد سوى شركة ضخمة تضم ال وآخر لألحذية ورابعا للورق المقوى وخامسا للطالء. هذه األمالك المعلنة، أما غير المعلنة فهي مجرد رخصة مالبس إيطالية ومجمع ضخم لكل مستلزمات أحذية ووكالة سيارات تأجير وشركة األثاث لى إ لطحين ا من لبيت االوطني االقتصاد دعم في المساهمين أهم من جهاد يكون وبهذا فرنسية. البطالة. القضاء على العاملة. وبالتالي اليد المعيشة وتشغيل ورفع مستوى في تلك الزاوية تحديدا، حيث بدأت شجرة األروكاريا تكح من دخان السيجار، كان جهاد ال يزال غارقا في كتابه، وخيال زوجته يرقص أمامه على خشبة المسرح كـ»بتوش الحلوة«. تنحني بطريقة مثيرة فيتدلى نهداها، وينهمر شعرها الكثيف، وتتساقط قطرات عرقها على الخشبة وتتبخر فورا من حرارة خصرها، خصرها الذي يهتز بمرونة عجيبة، فيعطي االنطباع بأنه منفصل عن جسدها. في الحديقة، غيمة ينهمر منها عرق جبينه كل يوم، فأمطرت حتى اآلن خمس سيارات مركونة تحت مظلة حديد تستلقي على سطحها دالية عنب مهملة: ارة كبيرة شبابيكها السوداء ترهق العين، وتثير الغموض، وأخرى صغيرة لونها سيارة حمراء كبيرة. ورابعة زرقاء كانت هدية جهاد ي يجعلها تبدو فسيحة. سي الفضللسيدة بتوش جهاد آغا في عيد ميالدها الثالثين، تناسب لون عينيها البحريتين أو ارة األخيرة فهي مخصصة لنقل األطفال الخمسة إلى مدارسهم السمائيتين. أما السيوحفالتهم ونزهاتهم. لكن جهاد ال يتوقف عن تذكير أصدقائه ومعارفه بأن هذه األمالك واألموال ليست نطفا أفرزها منصب والده، لتنمو وتكبر وتدر عليهم ما هب

قصتان

Page 66: Beirut39 Arabic Anthology

66

ديمة ونوس

ودب من النطف، كال معاذ اهلل، بل هي من عرق جبينه هو الذي يعمل من الساعة السابعة صباحا حتى التاسعة مساء، يلهث كأي مواطن ليطعم أوالده ويجمع لهم قليلا

من المال يضمن لهم كرامتهم.اءة في مساندة الدولة واألخذ بيدها في دعم االقتصاد الوطني، بعد مساهمته البناكتشف جهاد فجأة أن الثقافة أيضا بحاجة إلى قدراته وجهوده. واكتشف اآلخرون فجأة أن جهادا يعشق المسرح، ولديه هاجس ال يفارقه، حتى أثناء نومه، وهو تمويل عرض مسرحي ضخم. ثم ظهرت ميوله السينمائية أيضا، فهرول إلى أهم مخرج اب ها لـ»أسباب فنية« طبعا، وطلب منه أن يكون عر سينمائي أفالمه ممنوعة كلفيلمه القادم. واقترح عليه أن تكون فكرة الفيلم األساسية هي جوع المواطن وفقره، ة التي تخرش صوته المقموع. أن تكون فكرته القهر الذي يعانيه من الكبت، الغصهي اإلهانة التي يشعر بها المواطن عندما يرى بأم عينه أمواله المسلوبة تنعم بها شريحة دون أخرى. أن يروي الفيلم سيرة رجل يعمل موظفا وسائق تاكسي وعامل تنظيفات وخياطا و»كهربجي«، فقط ليسد جوع أسرته الكبيرة. فيلم يتحدث عن حاجتنا للتضامن والحوار لنحمي وطننا وطن الشعب السوري، الذي يتمتع منذ األزل بجبهة مرفوعة إلى السماء، وبكرامة ال يقوى الشيطان بنفسه على التقليل من شأنها أو تحقيرها. لكن المخرج السينمائي الذي منعت كل أفالمه ال يمتلك جرأة

جهاد وحماسه.بعد أيام، ولدت لدى جهاد موهبة غنائية، فتبنى أغنية وطنية تشيد بالمواقف الثابتة و»قلب العروبة« الفتي، وتشتم األعداء واألشرار، فأنتجها وأشرف شخصيا على تصويرها في تدمر وبصرى وأفاميا والمدن الميتة في إدلب وقلعة حلب وقلعة المرقب والحصن وصالح الدين. في طرطوس القديمة والجامع األموي وسوق الحميدية وقلعة دمشق وكل الصروح البريئة تماما مما يحدث.

ثم، وأثناء مروره في شوارع دمشق التي يعشق، سمع بكاءها على نهر بردى الذي جف ومات من العطش واإلهمال، فتبنى حملة لتنظيفه وتزيين ضفافه بالزهور والياسمين، وصارت دمشق تفوح بعطر ساحر تمتصه خاليا الجسد فتتفتح بالحب والتسامح. وها هي الحياة جميلة ونظيفة، والوطن شاكر لألموال التي أرهقت جهادا، هو الذي

يفدي المواطن بروحه ودمه.في تلك الزاوية تحديدا، أشرفت رواية »بتوش الحلوة« على االنتهاء، والسيجار

Page 67: Beirut39 Arabic Anthology

67

قصتان

الطويل فقد هيبته وصار رمادا رخيصا وقعر فنجان القهوة ينضح بثفل لزج، واألروكاريا ة التعب. هناك، في تلك الزاوية تحديدا استنشق جهاد حفنة من الهواء، انحنت من شدوقرر أن االنتقادات المغرضة لن تقتل حماسته لـ»المساهمة في ازدهار الوطن وتعزيز اللحمة الوطنية ومساعدة المواطن على استرجاع حقه في العيش والعمل بكرامة ة.« فالشعب السوري يتمتع منذ األزل بجبهة مرفوعة إلى السماء وبكرامة ال وعف

يقوى الشيطان بنفسه على التقليل من شأنها أو تحقيرها.

حنان

ما إن يذكر اسمها حتى ترتسم على الوجوه ابتسامات تخفي في باطنها تفاصيل كثيرة، وتلتمع المقل بالغمز. إنها حنان: حنان الجذابة، ذات العينين العسليتين، واألنف الروسي المغرور، والشفتين الخمريتين، والقامة الطويلة، والجسد الممتلئ،

والشعر الكستنائي الطويل.حنان التي تعاشر كل الناس بالحميمية ذاتها والود نفسه. تعشق الصخب والضجيج. تمقت الطقوس والعادات المقدسة. زوجها تلزمه ساعة كاملة في الصباح ليحتسي فنجان القهوة، ويدخن أربع، ويصغي لفيروز تغني من وراء الجدران. حنان تكره ن بسرعة، تبحث هذا الطقس الصباحي. تستيقظ في العاشرة، تشرب القهوة وتدخفي الراديو عن أغنية صاخبة، تدندن مع اللحن وتبدأ يومها الذي يشبه كل األيام.

أسامة يعمل في البيت، ونادرا ما يخرج في الصباح. يقرأ الصحف الرسمية الثالث ل مواضيع افتتاحياتها ثم يكتب مقالا ن في عناوينها، يتأم التي تصله فجرا، يتمعويرسله إلى الجريدة. حنان ال تعنيها أخبار الدنيا وال تقرأ الجرائد، لكنها تقول حف السورية تخدش الزجاج، فنوعية ل »السفير« و»الحياة« ألن الص دائما إنها تفضالورق سيئة والحبر الرخيص يزيد الزجاج اتساخا. كما أن الكلمات المتقاطعة في

رة وال تزيدها سوى جهلا. الصحف السورية ممجوجة ومكرت لسانها وتمسكت باألفق من يبدو هذا اليوم كغيره من األيام. الشمس كعادتها مدناحية الشرق وبدأت تتسلقه شيئا فشيئا إلى أن حملتها السماء الصيفية كعادتها

ورمتها في منتصف صفحتها.

Page 68: Beirut39 Arabic Anthology

68

ديمة ونوس

ل كائن بالفعل بدا هذا الصباح كغيره من الصباحات. كل الصباحات منذ ظهور أوحي على األرض. فالعصافير خرجت من أعشاشها كقطيع لتعلن بداية يوم جديد. والرجال المتقاعدون الميسورون تهافتوا إلى الشارع بكثافة مخيفة لممارسة رياضة

الصباح، علهم يتخلصون من بعض الشحوم التي مضى زمن على تخزينها بعناية.ال بد أن هذا الصباح كغيره من صباحات دمشق »التموزية«. فشبابيك البيوت المتعبة من السهر الطويل لم تفتح بعد. والسيارات التي تبيع الغاز والفواكه والخضراوات والمحارم لم تضجر من الزعيق وحيدة في الشارع في هذه الساعة المبكرة، دون أن تلمح أي امرأة تولول من شباكها لشراء جرة غاز أو لتساوم على سعر كيلو البطاطا الذي يرتفع باستمرار دون رأفة أو حتى خجل. وصولا إلى كلمة خجل، كان هذا الصباح كغيره من الصباحات الدمشقية الرطبة. لكنه منذ هذه اللحظة لم يعد كذلك. ائم فحنان على غير العادة، غادرت سريرها عند السابعة. لم تنظر إلى أسامة النكاألطفال بقربها. باألحوال الطبيعية يكاد أسامة ال يظهر في سريرهما الواسع. قامته ر تحت المالءة فتبدو واحدة من ثنياتها. لكن عندما تنام النحيلة والقصيرة تتكو

ة ال روح فيها. القامة الهزيلة هذه بعمق، تتحول إلى جثال يزال هذا الصباح طبيعيا حتى بالنسبة إلى أسامة الغارق بالنوم، فهو لم يعرف

بعد أن حنان غادرت الفراش في هذه الساعة المبكرة.لت في مشيتها كي ال توقظ انسلت حنان من سريرها عند السابعة تماما. تمهأسامة. فتحت باب الشرفة. استنشقت رائحة الصباح الطازجة التي يحضرها اهلل بمزاج عندما يستيقظ كل يوم. دخلت إلى المطبخ، سكبت الماء في الركوة النحاسية. إنها تعشق طعم الصدأ. أشعلت الغاز، غلت الماء. وضعت ملعقتين من البن البرونزي بالهيل. بدأت الرغوة تطفو على السطح ولم يعد بإمكان حنان أن تلمح وجهها. وضعت فنجانها المفضل الذي كان أول تفصيل يحببها بالطقس. صار الفنجان هذا طقسها مع القهوة. خرجت إلى الشرفة الموازية لجبل »قاسيون« لتكون قريبة منه، قريبة من صباحه الذي يبدأ عادة في السابعة والربع. جلست على كرسي القش وبدأت تفكر بتلك التفاصيل وتتذوقها واحدا تلو اآلخر. تعشق تفصيلا أكثر من اآلخر فتتخيله من جديد. بيدها اليسرى تمسك فنجان القهوة وبإصبع يدها اليمنى تدور على أطراف الفنجان بهدوء وكأنها تعيش في خاليا خزفه الدقيقة. تلمس حوافه بمتعة كبيرة. فكرت أنها تعشقه. ستموت إن لم يعد بوسعها رؤيته. تذكرت تفاصيل وجهه، صار

Page 69: Beirut39 Arabic Anthology

69

قصتان

الفنجان للحظات تلك التفاصيل. صارت تلمس حوافه وكأنها تمر على مالمح وجهه قيقة. على جبهته العريضة، إلى األسفل قليلا، تلمس عبسة حاجبيه الساحرة، الدتتدحرج بإصبعها أكثر فتصل إلى أنفه الطويل والعذب، ثم تسقط يدها من الخوف هما. هنا، عند مقطع شفتيه بالضبط، قتين من كثرة ما يعض فتستقر على شفتيه المشقترشف رشفة قهوة وتستعيد أنفاسها. أسامة يعرف كل شيء. لكنه في كل مرة يقرر فيها أن يبوح بعذابه ويضع حدا لمراوغة حنان، يتذكر شخصيتها القوية وعينيها النمريتين وصوتها الواثق. يخاف من المواجهة، يخاف أن يخسرها، أن يفقد متعة العيش معها. على األقل هو يتمدد بقربها كل مساء. يستنشق زفيرها وينام بطمأنينة. ة حنان ال تشبهه على اإلطالق، لكنه أدمنها. شخصيتها الجريئة ومبادراتها الحاروقدرتها على التسلل إلى حياة اآلخرين، ساعدت أسامة في عمله وحمته. عالقتها بجابر جعلت من أسامة أهم صحافي في جريدته. عندما يذهب إلى العمل الكل يتودد له ورئيس التحرير يستشيره بكل إجراء جديد أو تعديل ما، وأحيانا كان يستشيره حتى بألوان مالبسه أو بعالقته بزوجته، التي تحولت إلى طاولة بعد الولد السادس،

أو بالطريقة األسلم لتربية األطفال.ت حنان رائحته تداعب أنفها الرفيع وتمأل تجويفاته. ليست مجرد فجأة، شمأناس المساء محاطين بحشد من ذلك يرقصان كانا رائحة. تذكرت عندما يتصببون عرقا وحبا. ذلك المساء، عبق أنفها بروائح أجساد كثيرة، برائحة الزفير التي تخرج من أنوفهم وأفواههم رطبة لزجة، تعشش في زوايا المكان وتسكنه هاجسا أبديا. ذلك المساء، استطاعت حنان أن تميز رائحة زفيره، ت بعشق يبلبل أوردتها، شعرت بأمان عظيم، وجدت للحظة أن هذه الرائحة أحسهي انتماؤها لروحها وجسدها، انتماؤها لهذه الحياة الغريبة والقاسية أحيانا. استنشقتها وحفرتها في ذاكرتها وفي لفيفات دماغها فأصبحت تهجس بها كل يوم. أدمنتها ولم تعد تقوى على اإلفالت من رغباتها وشغفها في أن تراه باستمرار.فجابر لم يكن كقصي الصافي عجوزا سمجا، وال كجعفر طه الذي تحول مع الوقت إلى ممسحة قذرة تستخدم في األزمات. كما أنه ال يبدو وال بأي شكل من األشكال ته وسلطته التي كعيسى خضر ذلك المتقاعد الذي ال ينفع إال للبكاء على أطالل عزخبا نورها. كان جابر شيئا آخر: شابا مفعما بالحياة. لم يفقد بعد بريق عينيه الترابيتين. جاذبيته نادرة وفيها خصوصية كبيرة، فهو ليس من األشخاص المألوفين

Page 70: Beirut39 Arabic Anthology

70

ديمة ونوس

را الذين نبحلق في وجوههم ساعات لنتذكر أين التقيناهم. صوته العالي ليس منفوضحكته الرقيعة ليست مبتذلة. لونه األسمر يبدو مزيجا من الشوكوال اللزجة والحليب الطازج وحبة كستناء محمرة، وربما بضع أعواد من القرفة. وجنتاه

ة في العتمة. المزروعتان بشعر خفيف وناعم تبدو ظاللهما ساحرة خاصنظرت حنان من شرفتها إلى الزقاق الضيق والعتيق، إلى بالطه الذي يعد أثريا بعد أن رصفت معظم شوارع دمشق ببالط زهري وأصفر فاقع ومبتذل. حافظ الزقاق هذا على بالطه المرمري الفرنسي األسود الذي إن ابتل تتجدد روحه وتفوح من لمعانه رائحة التراب المعجون بماء المطر المالح. تدلت حنان بجسدها فوق زخرفات ارة الحمراء الحديثة ارتها الجديدة. لم تكن السي الدرابزين الطحيني. تأملت سيوالباهظة الثمن تليق بالعمارة ذات الطراز الفرنسي القديم المزخرفة برؤوس حيوانات شة كالنمر واألسد والثعلب الماكر. تذكرت عندما كانا يرقصان ذلك المساء، متوحآنذاك، همست بأذن جابر المنداة بالعرق والحب. قالت إنها لم تعد قادرة على تحمل سماجة سائقي سيارات األجرة الفضوليين منهم واللجوجين أو من يكتبون تقارير يومية عن آراء المواطنين المساكين، أو حتى العجزة الذين تنتفض شبوبيتهم للحظات ة جميلة. قالت إنها تموت غيرة من زوجته المدللة. همست عندما يلمحون صبيفي أذنه أنها تعشقه وأنه مختلف عن كل الرجال الذين عاشرتهم وأنها ال تفلح بإبعاد ارة، ارة، مجرد سي صورة جسده وملمس أصابعه الرقيق عن مخيلتها وأنها تريد سيارة بالنسبة إليك يا جابر؟ لن تؤثر على ميزانيتك، لن تكلفك شيئا، وماذا تعني سي

لن تخرب ترتيب رزم النقود المكدسة في خزانة أموالك.هكذا كانت تجري األمور دائما، إال أن جابرا يعد حاتما الطائي إذا ما قارناه بقصي الصافي ذلك العجوز الذي ال تفضي حماسته إال إلى رزمة من اآلالفات تشتري بها حنان مالبس وبعض الحلي الزائفة أو الحقيقية أحيانا. أما جعفر طه فكان بة يكتفي بمنحها الساعات الثمينة التي تهدى إليه أو أقالم »مون بالن« المذهيبهر بألماس المرصعة أو الحقيقي اللؤلؤ المصنوعة من السبحات أو حتى العين بلمعانه. أما عيسى خضر فهو حكاية أخرى: كان يشتري لحنان مالبس رخيصة ومبتذلة تشبه إلى حد بعيد بذالته المزركشة القبيحة المصنوعة من قماش سميك وجلف الملمس. وحده جابر، كان سخيا على نحو مدهش. فإيجار بيت حنان وأسامة مدفوع لسنة كاملة، وخزانة مالبسها تختنق دوما بأجمل

Page 71: Beirut39 Arabic Anthology

71

اقة. حتى جسدها الفساتين وأثمنها. وصندوق مجوهراتها يغص بألوان فاتنة وبر صار مدللا اآلن فسيارتها الحمراء المركونة بجانب العمارة تنتظرها بكل حب.

اتصل بها أبو عالء البارحة. كان صوته متهدجا من الرغبة. طلب منها اللحاق به إلى مكتبه. حنان ال تمانع عادة في تلبية كل الدعوات. فالحياة بالنهاية هي هذه العالقات المتعبة لكن المفيدة بالتأكيد. التقاها أبو عالء مصادفة عند صديقه قصي الصافي. حدث ذلك منذ سنتين في الخامس من حزيران. ومنذ ذلك اللقاء، لم يعد ته وسلطته الطاغية دائما. صارت حنان تقرر أبو عالء قادرا على اإلمساك بخيط قوعنه مصير أصدقائه، تبعد فالنا وتقرب فالنا. تجعله يحقد على فالن وتحببه بفالن. وأبو عالء مستسلم تماما لرغباتها. لكن الوضع اآلن لم يعد كما كان عليه، فأبو عالء ة األولى تجد حنان نفسها أمام خيار صعب: إما أبو عالء هو عدو جابر اللدود. وللمرك الذي إن صاحبته حنان تستمد منه طغيانه وتشارك في صنع ذلك الستيني المحنب، المبعد، الساحر، القوي، الهش وصفات أخرى القرار، أو جابر الجميل المثير المقرتعجز أي نفس عن ذكرها. يبدو الخيار في غاية الصعوبة. فلكل واحد منهما طعمه رت حنان أنه في هذه الساعة المبكرة الخاص، ولكل واحد منهما قوته الخاصة. فكمن النهار ليس عليها إال أن تتأمل سيارتها الجديدة وذلك الزقاق العتيق المحفور باألحالم، وتؤجل هذا القرار الثانوي إلى الليل عندما تندس في الفراش، وتتأمل العتمة ة أليفة، فسينظر إلى وتفكر. أما زوجها الوديع الذي يتكوم كل مساء بالقرب منها كقط

وجهها في العتمة ويشكر الرب الذي تذكره بهذه المرأة العظيمة والمضحية.

من مجموعتها القصصية االولى »تفاصيل«، دار المدى، دمشق 2007

قصتان

Page 72: Beirut39 Arabic Anthology

72

ربيع جابر

مقطع من رواية

أميركا

هاب إلى الحرب الكبرى الذ

أنهكها السعال وسحقتها الحرارة. كانت الثلوج تذوب في الخارج والعصافير تزقزق على األشجار، لكنها قبعت في الداخل غارقة في رائحة المرض واألصواف. علقت في حمى مقفلة كقفص ال ترى ماضيا وال مستقبلا. استعانت بفناجين النعناع المغلي ها تقتل الجرثومة التي فتكت بصدرها. بينما تنحني وتسعل مخلعة األوصال في لعلفيالدلفيا كان ابن عمها جو )خليل( حداد يصارع من أجل الهواء في الطبقة الثالثة تحت سطح البحر، في مكان ما من المحيط األطلسي... عدد ال يحصى من الجنود مون في بطن الباخرة، باخرة تعقب باخرة، قافلة بواخر تحرسها الفرقاطات يتكواصات األلمانية التي تتسلل وطائرات االستطالع والقوارب المدرعة خوفا من الغوإلى مياه أميركا )جربوا إطالق طربيدات على مرفأ نيوبورت نيوز - فرجينيا حيث تصنع بواخر حربية اآلن... والجواسيس األلمان في أميركا- هكذا كتبت احدى الجرائد- حاولوا تفجير معامل الذخيرة في نيوجرسي مرة أخرى... نجحوا مرة من م الزجاج وراء النهر، كل مانهاتن السفلى تساقطت قبل وعندما انفجر المصنع تحط نوافذها. دوي االنفجارات سبب ذعرا شاملا: ظن كثر أن الغزو األلماني بدأ!(.

أشعلوا مصابيح في جوف الباخرة التي تخيف الحيتان. جو حداد الخائف مثل الجميع من غواصات األلمان القاتلة دار بين الصفوف والفرشات، يبحث بين عدد ال نهائي من الوجوه واألقنعة عن صديقه جيفري ثورنتون. قبل أن يعثر عليه التقى ثالثة سوريين من ماساتشوستس. )322 سوريا من ماساتشوستس وحدها اشتركوا ضمن صفوف الجيش األميركي في الحرب العالمية األولى(. أخبروه أنهم يبحثون عن رفاقهم،

Page 73: Beirut39 Arabic Anthology

73

معظمهم من قرى الكورة السبع، وصلوا إلى أميركا قبل سنوات قليلة، ورحلة األطلسي ما زالت ماثلة في ذاكرتهم: لم ينسوا ضيق الصدر والهواء القليل والشعور أنك في زريبة، خروف بين الخراف، بال حول وال قوة. جو حداد ضحك وهو يقول: ال تقلقوا سنعثر على رفاقكم، وأنتم ساعدوني أيضا، ونادوا اسم صاحبي: »جيفري«. صاح وأفزعهم، وأفزع من حوله، لكنهم ضحكوا بالعدوى وصاحوا مرة معه، ثم انتشروا بين الصفوف والفرشات والوجوه يكررون االسم مرة تلو أخرى، كأنهم ينشدون في كورس كنسي: »جيفري!« لن يعثروا عليه. لكنه سيرى صديقه من جديد بعد شهور، ولوال ه الوجه اآلن، محروق األذنين واألنف والرقبة. ف إليه: كان مشو المصادفة لم يتعر

حدث األمر هكذا: في 28 أيار )مايو( 1918 خاض األميركيون معركتهم األولى الحقيقية على “الجبهة الغربية”: أربعة آالف أميركي من الفرقة األولى، الكتيبة الـ28 كاملة العدد تقريبا )البعض سقط قبل بلوغ Cantigny(، تقدمت بحماية 21 دبابة فرنسية - الدبابات في المقدمة والجنود يسيرون خلفها - بعد قصف كثيف متدحرج اشترك فيه رة في القصف كانت تهدف إلى حراثة األرض أمام ة المتطو 368 مدفعا ثقيلا. هذه التقنيالمهاجمين، ومطاردة المدافعين الذين يحاولون االنسحاب فتتعقبهم القنابل. لم تتمكن تحصينات كانتيغني من الصمود، ونجح األميركيون في احتالل القرية. لكن المعركة لم تنته عندئذ. كانوا يجلسون إلى وجبة سريعة في أحد البيوت التي لم تتهدم تماما عندما بدأ القصف األلماني وانفجرت قنابل. صاحوا »!Gas« وأخرجوا األقنعة Lewis مت رشقة رصاص من مدفع لويس المطاطية ولبسوها. في اللحظة نفسها حطتوا المدفع على حافة النافذة وأطلقوا النار نمسوي األكواب على الطاولة. ناجون ألمان ثب إلى الداخل. كانوا سيئي الحظ ألنهم لم يلبسوا أقنعة الغاز قبل ذلك: قتلهم الغاز األلماني!جو حداد خرج زاحفا وابتعد قدر ما أمكنه عن الغيمة الصفراء ثم نزع القناع الخانق. كان يلهث، ويرى األشياء وردية وحمراء أمامه. عندما انتبه أنه يغوص في الماء استولى عليه الذعر ال خوفا من الماء ولكن من الغاز ذاته: اكتشف خالل انات ع حيث األجسام المائية: البرك، األنهار، خز الشهور الماضية أن الغاز يتجممياه الشرب... ارتدى قناعه مرة أخرى وزحف تحت رصاص انهمر من ثالث جهات دفعة واحدة. سقط في حفرة صنعتها القنابل وبقي في الحفرة. كان المكان بة، لكنه بقي جامدا. هذا كله لم يعد صادما ضيقا بسبب األشالء والجثث المتخشبالنسبة اليه. هل ربى جلد تمساح فوق جلده خالل الشهور الماضية؟ حارب

أميركا

Page 74: Beirut39 Arabic Anthology

74

تحت إمرة اإلنكليز في بيكاردي Picardy عندما بدأ الهجوم األلماني مطلع الربيع. كان في فرقة أخرى عندئذ، ورأى النار التي تهجم كالبركان، وتأكل الخندق كاملا. وا من الخندق كاألرانب البرية التي تطرد من أوكارها بالدخان وإحراق القش. فرالرصاص يحصدهم وهم يفرون من نافثات اللهب. صارت هذه رعبه وتطارده إذا نام ه ظل حيا. نت قدماه وهو يغوص في الوحل. لكن لحظة. نجا ولم يعرف كيف. تعف

في كانتيغني، بينما يبلع جرعة ماء من مطرة راقدا بين جثث المانية وفرنسية وأميركية، جثث قديمة وجثث أحدث عهدا في أوصالها حرارة، صلى أن يخرجه رة على الهضبة السوداء، الرب سالما من هذه »الجورة«، ثم من هذه القرية المدمى »الجبهة«... صلى أن يبقى حيا. أزاح القناع ثم من هذه األرض اللعينة التي تسمعن وجهه. ورأى جسما يقع فوقه. يده بحثت عن الحربة وانتزعتها من حيث هي عته وغمدتها في الجسم الذي سقط عليه. هذا ألماني، عرفه من زيه الرمادي وقبحة. قلبه جانبا ثم برم الحربة إلى هذه الجهة وتلك وأخرجها. متى تدرب المسطعلى هذا؟ في أميركا البعيدة وهو يهاجم فزاعة الحقول في معسكر يشبه ألعاب األوالد؟ كانوا يطعنون دمى القش والمدرب يصيح ليس في الظهر، تحت، في الكلية. وا هكذا، بل ابرموا الحديد. اللعين وال تدخلوا النصل كله وإال لن يخرج. وال تشديقتل والنصل يخرج. لم يتعلم في المعسكر شيئا. هنا، في الخنادق، بينما الرصاص يرمي الخوذة عن رأسه، تعلم. هل تعلم شيئا؟ تعلم ما يكفي للبقاء؟ انحسر الرصاص بينما المساء يهبط. سمع نداءات رفاقه. كانوا يبحثون عن بعضهم بعضا. أطل بعينيه د بندقيته وقوص. سقط ظل ز الزي البروسي األزرق. سد ورأى ثالثة ظالل وميال بين أطالل مظلمة. قسطل البندقية واحد، ذاب في عتمة المساء، ورفيقاه توغص الجثث بحثا عن شيء ال يعرف ه من جديد. تفح لسع أصابعه وهو ينزل إلى مقرماذا يكون. اكتشف جريحا: كان يئن بال صوت تقريبا، في زيه األخضر واألزرق.

هذا بلجيكي. أعطاه ماء كي يشرب، وسأله عن اسمه.

***

»جان-جاك«، قال البلجيكي، »جان-جاك سيمون.« ثم أغمض عينيه. بعد ذلك لم يتحرك. )اسمه منقور على النصب التذكاري بين 526 اسما في مدخل كانتيغني:

ربيع جابر

Page 75: Beirut39 Arabic Anthology

75

نصف هؤالء قتلوا في المعركة والنصف اآلخر قتل بالغاز بعد احتالل القرية(.- »أنا جو، جو حداد«، قال للبلجيكي.

لم يعرف أنه ميت إال بعد وقت. أخرج رأسه من الحفرة ورأى ظاللا تتجمع، سوداء. ي، بعيدا، في األفق، تشتعل السماء باألحمر. القصف ال يتوقف لحظة، المدفعية تدوواألفق يلتهب، لكن كانتيغني - لهذه اللحظة - صامتة. ضرب يده على أذنه اليمنى كي يتوقف الطنين فانتقل هذا إلى األذن األخرى. كل رأسه يطن وال يعرف من هؤالء مة: صديق أم عدو. رجع إلى »الجورة« فسمع الذي يتجمعون أمام الكاتدرائية المحط

ل إليه أنه يضحك: صوتا. كان الصوت يتحدث اليه، وخي- أنا اسمي ناثان، أنا أسترالي.

اكتشف أن الرجل يمد يده ويريد أن يصافحه. مد يده وقبض على األصابع القاتمة. كانت لزجة. ورأى أن الدم يسيل من ذراعه وصدره. في الليل الذي ينتشر كالحبر

ع: »Water«. لم يكن يطلب يده بل مطرة الماء. ويمأل الحفرة سمع الضحكة تتقطسقاه. بينما الرجل يسعل ويبصق دما من رئتيه المصابتين بالغاز تجددت االنفجارات. األلمان تأكدوا أن القرية سقطت وبدأوا القصف؟ أم العكس: الهجوم

ا بمعرفة الجواب. فشل واآلن يقصف “الحلفاء” كانتيغني؟ في الحفرة لم يكن مهتماألسترالي قال له عندما الحظ حركته »Stay«. أراد أن يبقى معه. امتألت رئتاه بالماء وكف عن التنفس. جو حداد رأى القمر، أصفر، كامل الدائرة. عند حافة الحقول المقصوفة السوداء وقفت شجرة: كانت بيضاء، مزهرة، تشبه لطخة في هذا السواد. اشتعل األفق مرة أخرى، يلتهب ثم يخبو... كان الدوي فظيعا، ومع هذا سمع نداء من آخر الحفرة. كانت تتصل بحفر أخرى. عندما وقعت قنبلة قريبة تقطعت األشالء متطايرة وغطاه التراب. لكنه لم يصب بأذى. تلمس أعضاءه وعرف أنه حي. من جديد سمع النداء. رجل يسعل، يتغرغر بالدم كأنه يغسل فمه بالماء والملح، وينادي.

زحف صوب الصوت. كان هذا أميركيا، مثله، وأخبره أنه من الكتيبة الثامنة والعشرين. جو حداد قال: أنا أعرفك. والرجل طلب ماء. سقاه ففرغت المطرة. طلب الرجل شوكوال. عثر جو على لوح شوكوال في ثيابه وكسر له قطعة. فتح الرجل فمه، وجو ألقى القطعة بين أسنانه. بعد ذلك استند بظهره إلى حائط الحفرة. عندما تدفق ضوء القمر فوق الجثث رأى شخصا آخر يتحرك. كان في اللباس األزرق. زحف اليه

وسدد المسدس إلى رأسه. قبل أن يطلق النار قال األلماني:

أميركا

Page 76: Beirut39 Arabic Anthology

76

Kamerad! -هل كان يستسلم؟ ماذا كان يقول؟ دائما يسمع هذه الصرخة عندما يجتاحون خندقا. دخل مرة خندقا ألمانيا مهجورا للتو، ورأى مائدة في غرفة محصنة تحت األرض، بأكواب قهوة وخبز وجبن ولحم وعلبة سيجار من الصنف الفاخر. في زاوية ق. كان آتيا عثر على صندوق فيه تفاح وبرتقال وليمون. نظر إلى الفاكهة ولم يصدللتو من خندق موحل تطفو عليه الجثث، برائحة األحصنة المتحللة تسحق دماغه، ورأى الفاكهة والحياة العادية في غرفة تحت األرض، وبخارا يرتفع من أكواب القهوة! خرج راكضا إلى النفق يطلق النار مثل أخوت. األلمان تساقطوا رافعين ثيابا داخلية بيضاء. كانوا يهتفون بتلك الصرخة الغامضة »كومراد« ويقعون على جهتي النفق.ة العسكرية: هذا ناداه صوت. زحف ورأى أميركيا من فرقته. عليه أن يضرب التحي

يعلوه رتبة. قبل أن يضرب التحية قال الجريح:Can you carry me? تستطيع أن تحملني؟ -

بدا كأنه يسأل عن مقدار قوته وحسب. مثل ولدين يلعبان في الساحة. جو هز رأسه ومد ذراعيه وجذب الرجل من كتفيه جذبة قوية. صاح الرجل تلقائيا كأنه ا، ذائبا وممتزجا بالمادة السوداء التي ضرب. كان نصف جسمه )ظهره( مسحوقا تام

تمأل أرض الحفرة. جو تركه وقال انه سيرجع.مة رأى جنودا يتحلقون زحف أبعد فأبعد ثم أطل برأسه. داخل الكاتدرائية المحطحول نار صغيرة. لم يستطع أن يميز ال اللباس وال الوجوه. كانوا بعيدين، واللون األحمر الغامض يغزو عينيه من جديد. مسح جبهته وتأكد أنه ال ينزف. مرة أخرى ى الدخان وجه القمر. ساد الظالم الحفرة وسكن األنين. شعر تكاثفت االنفجارات وغطبحركة. التفت ورأى رجلا محروق الوجه. كان وجهه يسيل، وعندما رفع يده رأى أن أصابعه تسيل أيضا، ثم هوى أرضا. خرج جو من الحفرة ومشى إلى الكاتدرائية، ودخل بال سالح، وألقى التحية. كانوا أميركيين، يبلون البسكويت العسكري بالماء

ون طعام العشاء. الفاتر، ويعدلم يفقد الوعي إال لحظة. ثم فتح عينيه من جديد ورآهم ينتشرون وراء ها األلمان ثم تركوها. قال: يوجد جرحى في الحفرة. قبل أن ينهي متاريس أعداألخير التمثال مت وحط الكاتدرائية مدخل في قذيفة انفجرت اقتراحه العطش. ها ويبعد ليمونة كي يمص الباقي للرب يسوع المسيح. أحدهم أعطاه

ربيع جابر

Page 77: Beirut39 Arabic Anthology

77

ث بالغاز«، قال الصوت وهو يبتعد. كان المكان ضخما، مثل قصر بني - »الماء تلوروا هذا الصرح قبل قرون. في أميركا نادرا ما بأقواس وقناطر وعقود. ال بد أنهم عميرى عمارات قديمة إلى هذا الحد. لم تعد االنفجارات تبلغه. كان يبتعد، واألرض الحجرية تتحرك، تسيل كالماء، وهو ينزلق... انزلق حتى بلغ الخندق حيث تتكلم الجثث مع الجرحى وحيث يطلب الجرحى ماء وشوكوال وحليبا، ويقول الذي يموت »ابق معي« ويمد أحدهم يده ويطلب المطرة. انزلق أبعد ورأى شجرة الكرز النابتة ا مملوءا بالبيض. في قلب الجحيم. وانزلق أبعد ورأى جبلا أخضر وعصافير وعش

سمع السقسقة. ثم هوى التراب على عينيه وأنفه. هل يدفن حيا؟ته؟ فتح سمع رصاصا غزيرا في جوف الكاتدرائية... رجعوا؟ ماذا يحدث؟ أين قوعينيه وعثر على بندقيته )ألم يأت من الخارج بال سالح؟(، وأطلق النار على الرجل الذي فتح النار على الجميع. هل أصيب بالجنون تحت هذا القصف؟ هل يطلق النار على رفاقه اآلن؟ كانت الحرارة تسحقه وعندما عرف بعد دهر أنه يحمل على

محفة أدرك أنه لن يموت.في المستشفى الميداني - غرف عميقة تحت األرض - خاف أن يختنق. كان الهواء قليلا ورأى رجلا مبتور الذراعين يقف جنبه وينظر اليه. سعل وبصق شيئا أسود. اقتربت امرأة تلبس زي الصليب األحمر وقالت انه تنشق قليلا من الغاز، ال يكفي كي يقتله لكن يكفي كي يأخذ إجازة ويذهب إلى الخطوط الخلفية ويرتاح. كانت تبتسم وتلفظ كلمات اعتادتها بمرور الوقت. )خلفها كانوا يحقنون، تحت القناديل، جرحى(.وهكذا في مستشفى فوق وجه األرض، وراء الخطوط الخلفية، التقى جو حداد

نا تبغا. ثم افترقا إلى األبد. صديقه جيفري ثورنتون مرة أخرى. تبادال األخبار. دخ

***

جيفري قفز على ساق واحدة إلى باريس )ال نراه بعد اآلن وال أعرف ماذا حدث له بعد ذلك(. وجو رجع إلى الجبهة. في الطريق إلى هناك توقف القطار الحربي أكثر من ها – ودخل مقصفا ال مرة. نزل في إحدى المحطات – كانت السكة محطمة ويعاد مدن سيجارة تلو سيجارة. يرتاده إال الجنود. شرب نصف قنينة نبيذ وهو يلف تبغا ويدخ Field Service .في جيب معطفه عثر على بطاقة للجيش لم يكتب عليها أحد شيئا

أميركا

Page 78: Beirut39 Arabic Anthology

78

ربيع جابر

ر راهبات دير سان مارتن حائمات كالدجاج حوله. كان يستلقي على postcard تذكظهره، وعلى بعد سريرين يحقنون أحد الجرحى بالمورفين، ويغزو األبيض عينيه بينما يتالشى. كانت هذه اللحظة من أغرب ما عرفه في حياته: شعر بأنه يخرج ف إليها وجها وجها – كأنه من جسمه، ويطفو فوق األسرة. ينظر إلى الوجوه ويتعرر الجثث التي زحف فوقها ونام عرفهم دائما – ويتكلم معهم... مع أن معظمهم نيام. )تذكعليها طوال الشهور الماضية؟ كانوا ينامون في خندق قريب من الخطوط األلمانية، وتساقطت عليهم القذائف. أحدثت حفرا مرعبة وأخرجت من تحت األرض جثث نة(. كان غارقا في غيمة تبغه. نهض خارجا من الظلمة واقترب من الرجل متعف الذي يسكب الكؤوس وسأله هل عنده قلم؟ الرجل استدار وأجاب بالفرنسية:

Ah, oui -ه. هز جو أخرج قلما من تحت المنضدة وقبل أن يعطيه إياه اشترط عليه أن يردرأسه، قال »Sure, don’t worry«، وأخذ القلم. عاد إلى طاولته. انفتح الباب ودخل خون بالشحم. دخلت معهم رائحة الحرائق: كانوا يشعلون جنود وميكانيكيون ملطأشياء ال أحد يعرف ماذا تكون في الخارج )مثل رائحة العظم وهو يحترق(. شرب ما بقي في القنينة ثم كتب عنوان مرتا في فيالدلفيا على البطاقة، وقرأه كي يتأكد أنه لم يكتب خطأ. بعد ذلك وقع اسمه، ورفع رأسه، وصاح يسأل عن تاريخ اليوم. أجابته األصوات من جميع الجهات، لكن التواريخ وصلته متشابكة ومختلفة، كأنه يعيش في روا ما فعله كأنهم اتفقوا اللحظة ذاتها أكثر من يوم واحد. شتم وضحك. واآلخرون كرمة. على ذلك مسبقا. كانوا مثل وحش حزين واحد بعدد ال يحصى من الرؤوس المحط

ساكب الكؤوس دله وهو يفرك كأسا بفوطة إلى الروزنامة المعلقة على الحائط. ذهب إليها ونقل المكتوب وهو يشعر بدوخة خفيفة. سأله الفرنسي بلكنته ها تكفي المضحكة من أين يأتي وإلى أين يذهب؟ كانت إنكليزيته بائسة لكنكي يفهم جو ما الذي يتكلم عنه. أراد أن يضحك ولم يفعل. كان جيفري أمامه الباقية ويشتم ويخبط بيديه. لماذا يفعل اللحظة يقفز على الساق في تلك ذلك؟ لم يسأل في حديقة المستشفى. كان يصلي أن ينجو ويرجع إلى أميركا ويرى مرتا ويتكلم معها. لكن شيئا غريبا حدث له بينما ساكب الكؤوس يبتسم ويمد يده ويطلب القلم: شعر أنه مات وأن هذه هي النهاية. لم يرسل البطاقة. Fère-en-Tardenois ثم في Soissons بعد ذلك قاتل مع الفرقة الثانية األميركية في

Page 79: Beirut39 Arabic Anthology

79

أميركا

)المقبرة هناك فيها شواهد لستة آالف جندي اميركي إضافة إلى نصب تذكاري لـ 241 اسما بال قبر( التي احتلها األلمان في غزوة الربيع قبل أربعة شهور. أحد رفاقه طار في الهواء وسقط حيا. حمله إلى المستشفى في المؤخرة ثم رجع إلى القتال. هذه الحادثة تكررت ثالث مرات، وعندما انتهت المعركة كان يلهث كأنه يركض منذ سنوات. العريف طلب له وساما، وعندما تأخر الوسام طمأنه أنه سيأتي بالتأكيد. ة وانصرف. في قرية جو أصغى إليه بال اهتمام وطلب منه أال يقلق ثم أدى التحيسيرجي Sergy أصابه الحرس البروسي برصاصة في يده. عالجوه في مستشفى

ميداني على ضفة نهرالمارن River Marne وحمل البندقية.كانت إصابة طفيفة ولم تؤذ عصبا. سار في مرج أسود ثم في مرج أصفر ثم في مرج أخضر، وبينما يقطع المروج، ويرى الرصاص يحصد السنابل والرؤوس، شعر أنه ال يقهر. في إحدى القرى المجاورة لـ Ypres رأى أسرى من األلمان حبسوا في قفص مغلولين بالحديد كالحيوانات وركبهم تغوص في الوحل. كانوا كأفراس النهر، نصفهم السفلي تحت الوحل والعلوي في الهواء األزرق البارد. شعت الشمس بينما يقترب منهم وينظر إلى عيونهم الملونة ويحاول أن يستوعب شيئا. أحد رفاقه أخرج من معطفه وساما وقال: »انظر.« »ما هذا؟« سأله.

Victoria Cross -وأخبره أنه وجد صندوقا مملوءا باألوسمة في الخندق، واآلن يوزع منها على الجميع. كان يضحك، وأخذ يسعل، ويضرب على صدره، ويقول شيئا عن الفالندرز Flanders. نقلوا جو إلى كتيبة أخرى وحارب في سان ميهيل St Mihiel. كان هاجما وتعثر ووقع، ومن دون أن ينتبه غرق في النوم. كان القصف يفتك بالجميع والمدافع ه ظل نائما. بعد المعركة طلب المزيد من الحبوب اشة تحصد وتفرم وتقطع لكن الرشMeuse- ألن يده تؤلمه. لم يعط حبوبا. »هناك نقص في المواد الطبية.« فقد خوذته في

Argonne لكنه غنم أخرى من ألماني. قالوا له: »هذا خطر جدا، ال تلبس خوذة العدو«، لكنه لبسها. وقع على األرض في هجوم وعلق بأسالك ونزف. أعطوه إجازة وأرسلوه رة في Chateau-Thierry حيث دارت معركة عنيفة قبل وقت. إلى بيوت مدم

نون. كان الطعام كثيرا مشى بين جرحى توزعوا األطالل يشربون الكحول ويدخهنا، لكنه وجد نفسه عاجزا عن األكل. منظر الجنود السكارى أثار فيه شعورا مقلقا. حاول أن يحدد شعوره ثم أدرك أن عقله صار في مكان آخر، وأن تفكيره لم

Page 80: Beirut39 Arabic Anthology

80

يعد مربوطا بما يحدث له وال بما يحدث حوله. رجل رآه من قبل اقترب وسأله باإلنكليزية: »أنت جو دونت ووري، ال؟« هز رأسه ولم يقل شيئا. أخبره الرجل أنه كان في معركة Belleau Wood وأنه رأى عددا ال يحصى من القتلى يتدلون من أشجار الغابة مثل القرود. انتظره كي يضحك لكن جو أبعده من دربه ومشى من دون أن يفتح فمه. أين كان خليل حداد ذاهبا عندئذ؟ ماذا كان يرى أمام عينيه؟

ر؟ ماذا نسي وماذا تذك

مقاطع من رواية »أميركا« دار اآلداب، بيروت 2009والمركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء

ربيع جابر

Page 81: Beirut39 Arabic Anthology

81

رندا جرار

قصة قصيرة

قصة بنايتي

ة برج حماماتي« إلسحاق بابل بعد قراءة »قص

ة لعب الورق إلى شقتنا، في كنت في العاشرة من عمري، عندما انتقلت أمسيحي الزرقا، الذي يعتبر أفقر أحياء غزة. كنا نعيش في مجموعة متناثرة وممتدة اخون، اطون، وطب ضات، وخي سون، وممر الون، ومدر من البنايات، التي يسكنها بقوصانعو أحذية. وفي الطابق العلوي من البناية الثالثة كان يقطن مترجم للغة

الروسية: والدي.كان الرجال يجتمعون في غرفة المعيشة، التي سرعان ما كانت تمتلئ بالدخان، وبرائحة شراب البوربون، بينما تجلس الزوجات في غرفة الجلوس التي كانت المكان األمثل للجلوس، حيث كانت مرتبة على شكل »ديوان«. فعلى أرضيتها البالط ت الوسائد المستطيلة، والطاوالت الخشبية المنخفضة التي توضع فوقها أكواب رصعون في غرفة نومي، الشاي الصغيرة. كان أوالد وبنات عمومتنا وأصدقاؤنا يتجمالتي كنت أشارك فيها أختي، التي كانت دوما تشعر باالمتعاض الضطرارها مقاسمة

غرفتها مع صبي.ة ثوان نسمع شخصا مدخنا، كان الرجال يقهقهون ويقرعون أكوابهم، وكل عدوهو يطقطق بالعجلة المعدنية لوالعة قديمة ترفض اإلذعان ألوامره. كنا مولعين بخدعة نستخدم فيها الوالعات: فلقد كنا نفرغ الغاز غير المرئي في قبضة يد مقفلة، ثم نشعل اللهب بسرعة، ونفتح راحة يدنا، فتبدو في تلك اللحظة كما لو كانت مشتعلة بالنيران. علمتنا بنات عمومتنا وصديقاتنا هذه الخدعة، لذلك ظللنا ولعدة

سهن بال أدنى مداراة. أسابيع نقد

Page 82: Beirut39 Arabic Anthology

82

ة الكوتشينة، تكون النساء منغمسات في بعد مرور بضع ساعات من بدء أمسيالحكايات، وفي دخان الشيشة، بينما الرجال في حالة سكر بين. كنا ننطلق بحريتنا اة بالرمال، والمحاطة بجدران زائفة من الحجر الجيري، في ساحة البنايات المغطأو نتسلق الدرج إلى السطح، حيث تربي زوجة البواب الحمام. كنا مغرمين بذكر حمام يشبه في ألوانه قوس قزح، فأسميناه »الساحر« بسبب األلوان الالمعة التي

تتغير، فتضيء عنقه ذا اللون األسود المشوب بالزرقة.رناه من يد إلى يد، بدا في عندما فتحنا باب القفص، وأخرجنا »الساحر«، ومرقبضة يدنا النقيض من اللهب. ماجدولين التي كانت أصغر بنات عمومتي قالت إنه تها ة الصخرة« التي ألصقتها جد عندما يكون العنق ذهبيا فهو يبدو مثل صورة »قببا، فلقد كنا جميعا نوقر ماجدولين بسبب على جدار مطبخها. وافقناها الرأي تأدتنا. م كوب زجاجي في شق اسمها الغريب. هدل الساحر في قبضة ماجدولين، وتهشسمعنا الرجال وهم يصيحون. ركضنا نازلين إلى أسفل، ألننا لم نود أن يفوتنا الشجار، ي فوزي صانع األحذية يشهر عصاه ني عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت عم ولكن

في وجه والدي.قال فوزي: »لماذا تدافع عنهم يا ابن الكلب، يا خائن؟«

قال بابا وهو يرفع ذراعيه ليحمي رأسه بكل ثقة ممكنة: »أنا أقول لك فقط إن هذه حقيقة تاريخية.« كانت والدتي وصديقاتها ما يزلن في غرفة الجلوس، وكنت أستطيع شم رائحة تبغ التفاح يهب بنسيمه نحونا، مثل طيف أصابع تربت على أكتاف

الرجال.»ال! أنت تدافع عن الصهاينة! هم يستخدمون هذه األمور تبريرا لالستيالء على

ق كالمهم؟« أرضنا. لماذا تصدكانت مناقشة مألوفة لي إلى حد ما، رغم أنني لم أدرك بوضوح من تكون لت أنهما من صديقات »بلفور«، الذي كان اسمه »المحرقة« أو »المذبحة«. تخي

يذكر كثيرا، ولم أعرف من يكون هو أيضا.وضع الرجال اآلخرون أوراق الكوتشينة ذات الخلفية الزرقاء على الطاولة، ولكن والدي كان ما يزال يمسك بأوراقه مثل مروحة في يده اليسرى. تساءلت في نفسي إذا كان يعتقد أنها سوف تحميه من ضربات عصا عمي فوزي، التي كانت بنية اللون، ولم تكن تبدو ضعيفة. كان الرجال يناشدون فوزي الهدوء، ولكن دون حرارة مما

رندا جرار

Page 83: Beirut39 Arabic Anthology

83

زاد من اشتعال غضبه، فلقد كانوا يشبهون الغاز غير المرئي في قبضة يده المشتعلة. رآني بابا من طرف عينه التي كانت شبه عمياء، فقد كان يكره ارتداء نظارته في أمسية لعب الكوتشينة، إذ كان يشعر أنه يبدو أكثر رجولة ومهابة دونها. ولكن من الواضح أنه كان مخطئا في هذا الشأن. تقدمت إلى األمام وهو يقول: »أنظروا! ها هو مهند.« وانكمش وراء أوراق اللعب. »يا بني، اذهب إلى المكتبة وهات لي

بابل. البابل يا مهند.«اة بالكتب، ولكن ى لو لم تكن مغط ركضت إلى الغرفة الصغيرة، التي كانت أختي تتمنلت ة من التل األبيض(. غرفة النوم هذه تحو بملصقاتها وبفراشها )واألفضل بناموسيإلى مكتبة عندما انتقلنا إلى العيش هنا، وكانت نوافذها مغلقة، بسبب األرفف التي ارتفعت عاليا حتى بوصة واحدة من السقف. عندما نقل بابا األرفف داخل الغرفة )كان قد أحضرها من األردن( ورأى أنها تتناسب تماما مع الغرفة، شعر أن هذا فأل

ا في العمل. حسن مثل فراشة البشورة، وبدأ توسحبت كرسي الكتابة الصغير الخشبي الذي يستخدمه والدي إلى جزء ألف – يت أغنية األلف باء في رأسي حتى وصلت إلى حرف الباء، وأدركت أنني جيم، وغنلن أضطر إلى الغناء طويلا. وجدت الباء، واأللف، ثم الباء، ثم الالم، وأمسكت ببابل. قفزت من الكرسي الذي أصدر صوت صرير اعتراضا على هذه المعاملة، وركضت ي فوزي قد تقهقر قليلا، عبر الممر، وأعطيت بابا الكتاب. في تلك اللحظة كان عماحر في يدها. وكان أصدقائي يقفون على الباب وماجدولين ما تزال ممسكة بالس

ي فوزي فتح بابا الكتاب الذي كان قد ترجمه وبدأ في القراءة. في البداية أصدر عمأصوات بصق كلما نطق بابا بكلمة »يهودي«. ثم ساد الهدوء بينما كنا نصغي إلى بابا، قنا عندما نال بابل المركز األول في وهو يقرأ قصة أول برج حمام يقتنيه بابل، وصففصله، وانتهت القصة »وهكذا ذهبت مع كوزما إلى بيت مفتش الضرائب، حيث وجد والداي مالذا من المذابح« تململ الرجال في مقاعدهم وقالوا »اهلل!«، كما يقولون عند االستماع إلى السيدات وهن يغنين أغنيات جميلة في الراديو. كان بابا وبابل مثل سيدة جميلة تغني. واصل الرجال التدخين والشرب ولعب الكوتشينة، وصدر لي األمر بإعادة الكتاب إلى غرفة المكتبة الممتلئة باألرفف. دخلت الغرفة وأضأت تي مصباح القراءة لبابا وجلست تحت ضوئه ألقرأ. العنوان الذي جذبني كان »إوزة، وعلى األولى« فبدأت في قراءة القصة، ولكن فيما بعد شعرت بالحزن على اإلوز

قصة بنايتي

Page 84: Beirut39 Arabic Anthology

84

صاحبة المنزل، فأعدت الكتاب الى مكانه بسرعة. ركضت إلى السطح، وأخرجت حمامة أمسكتها في راحة يدي، حتى تأكدت أن جميع الرجال قد غادروا المكان،

وأن غرفتي تنعم بالهدوء الكافي للنوم.جميع الرجال في أسرتي كانوا يتصفون بالخمول والكسل، وكانوا يقومون بأي عمل ئا بكل تباطؤ. هذا ما أخبرتني به ماما، ولكنها سواء كان ذلك العمل عملا حسنا أم سيكانت ممتعضة من حظها في الحياة، ومن حظ الرجال الذين كانوا يأتون لزيارتنا من أعمام والدي وأبناء عمومتنا، الذين يعيشون في بطالة ودون بيوت تؤويهم. ومع ذلك كان عندي عمان شهيران، كانا شهيرين في أسرتنا على األقل. أحدهما اختطف ا وراءه ست فتيات تزوجن جميعهن بعد ذلك تحت رعاية طائرة ففقد حياته، تاركمنظمة التحرير الفلسطينية. إحدى الفتيات انتقلت إلى تونس، وأصبحت المتحدثة ة، وكان الصحفية لعرفات، وكتبت كتابا عن حياة والدها ترجم إلى اللغة الفرنسيبابا فخورا بابنة أخيه، على الرغم أنها كانت تكبره في العمر. العم اآلخر، مصطفى، ا ه إلى ديترويت، حيث اشترى متجرا صغيرا ملحق استقل طائرة في سالم، وتوجبمحطة ملء الوقود. لم يكن يمتلك البنزين، ولم يكسب الكثير من األموال، وكان ي مصطفى مضطرا لحمل السالح في متجره، ولكن كل عمالئه من السود. كان عمفي ليلة من الليالي قتله رجل أسود بغرض السرقة. أرسلت لنا الشرطة األميركية ات الدفاع اإلسرائيلية احتجزته بعض أغراضه في صندوق من ديترويت، ولكن قوي اللون، لثمانية شهور قبل أن تفرج عنه أخيرا وتسلمه لنا. كان الصندوق فضويبدو مثل نسخة معدنية من حقيبة أوراق بابا. بداخله وجدنا بطاقات عليها أرقام ونقدية أميركية، وصورا لسيدات عاريات أخذت أنا إحداها خلسة، ووضعتها في جيبي، وأخذتها معي إلى السطح، كيما أريها للحمام. لم يتبق من الرجال في األسرة سوى عمي حسن، الذي كان يعيش في بيروت، ويقوم بالتدريس في الجامعة اللبنانية، فين ضعفاء. سألتني يوما: »هل ووالدي. ماما تعتقد بأنهما كسوالن، ألنها تعتبر المثقجربت مرة أن تضغط على ذراع شاعر؟ ستجدها نحيفة، في نحافة ذراع فتاة صغيرة، وطراوتها، ليست ذراع رجل. فهم ال يفعلون شيئا سوى أن يفكروا، وأثقل عبء يحملونه هو أقالمهم.« فكان بابا يسألها في غيرة متكلفة: »متى ضغطت على ذراع شاعر؟« تفرقع ماما بلسانها أعلى سقف حلقها، وتقول إنها عاشت خمسا وعشرين سنة قبل أن تلتقي به، وضغطت على أذرع عدد ال بأس به من الشعراء. كان يضحك

رندا جرار

Page 85: Beirut39 Arabic Anthology

85

في وجهها، فتقول إنه أكسل من أن يشعر بالغيرة الحقة، أو أن يفرض أي نظام على ة أخرى أطلقت عليه صفة الكسل. البيت. هنا لم يكن يجيب على اإلطالق، ومر

ا طويلة أذاكر قبل امتحاناتي النهائية، ألثبت أنني لست كسولا. حفظت قضيت شهورا ثالثة دواوين من الشعر بدءا بالمتنبي حتى درويش، وكنت أذرع الغرفة جيئة ورواحعلى إيقاع أبيات الشعر، ألنها كانت تساعدني على االستذكار أسرع. كنت أحيانا أشعر ر أبيات درويش: »فاخرجوا من ع على حافة عيني، عندما أكر بقطرات الدموع تتجمنا... من بحرنا/ من قمحنا... من ملحنا... من جرحنا.« وعندما أصل أرضنا/ من برللمرة الخمسين، أو الستين من تكرارها، لم أكن أبكي على اإلطالق، ولكنني كنت ألقي األبيات بغضب وإيمان. كنت أفقد صوتي وال أجده سوى بعد أسبوع. كنت أتناول ساندويتشات الجبن التي كانت ماما تتركها خارج الباب، وأستيقظ في منتصف الليل، د داخل أحالمي، فيصبح كل شيء في رأسي ألن الجمل واألبيات كانت تتشابك، وتتعقعقدة مربوطة شبيهة بشعر أختي في الصباح. لم أصعد إلى السطح ألرى حماماتي إال نادرا. سمعت ماجدولين تتدرب على العزف على آلة الناي ذات ظهيرة فوق السطح. كانت أمها تبغض الموسيقى، ولم تكن تسمح لها بالتدريب داخل الشقة، فكانت تأخذ الناي العتيق المتداعي – الذي استجدت والدها ليشتريه لها، وتلقت دروسا مجانية

لتتعلمه في مركز غزة للطفل – وتصعد به إلى السطح لتمتع آذان الطيور.في يوم 20 يونيو من عام 2006 علقت قائمة خارج مكتب ناظر المدرسة تحوي أسماء جميع التالميذ، وترتيبهم في النجاح. جاء ترتيبي األول. كان والدي يذهب للنظر إلى تلك القائمة كل يوم. وفي أمسية لعب الكوتشينة اصطحب جميع الرجال للذهاب معه إلى المدرسة، لكي يشاهدوا اسمي مكتوبا فوق الورقة البيضاء. عادوا

وها تأتي من ساحة المنزل. ون، وسمعت صدى أغنية األبطال التي غن وهم يغنا لهم. أعددت نفسي لتهنئاتهم المخمورة، وعندما وصلوا إلى الشقة كنت مستعدوا، ورقصوا في حلبة رقص مؤقتة كانت غرفة معيشتنا من حملوني على األعناق، وغنقبل. قال عمي فوزي إنني ينبغي أال أصبح شهيدا. قال إنني ذكي، ومتفوق، وإن الوطن يحتاجني على قيد الحياة. وافقه الرجال اآلخرون، وسرعان ما نزلت بأقدامي على األرض مرة أخرى. قال الرجال إنهم سيبنون لي برج حمام لالحتفال بنجاحي. قلت لهم إن عندي قفصا كبيرا فوق السطح، فقالوا لي إنه صغير، وال يليق بمقام أمير مثلي. أراد لت له بعيني أن يظلوا ني توس عمي فوزي أن يصعد إلى السطح ليلقي نظرة عليه، ولكن

قصة بنايتي

Page 86: Beirut39 Arabic Anthology

86

لتهم في حالة السكر هذه وهم يتساقطون من حافة السطح، مثل داخل البيت. تخيشخصيات كرتونية تواصل سيرها حتى بعد أن تتخطى حافة السور، ثم بعد لحظات

من البقاء معلقة في الهواء تهبط، مخلفة سحابة بيضاء حيث كانت أجسادها.هم صعدوا على أية حال، وارتقوا درجات السلم في طابور واحد. وقفوا حول ولكن

قفصي وشبكوا أذرعهم.ة ال.« ة ومر قال أحدهم: »ال، ال، وألف مر

وقال آخر: »ال.« ي فوزي: »ال« وقد بدا عاريا دون عصاه. وقال عم

قال بابا: »ال! سوف نبني لك برجا حقيقيا للحمام من الخشب. وسوف نطليه وسيكون داخله عشش تكفي لعشر حمامات.«

ة، ة أخرى إلى الشق شعرت بفرحة غامرة، فقفزت، ألحتضن بابا، وأشكره، ثم عدنا مرة، ي فوزي سمعنا طلقات رصاص في الشارع. دخلنا الشق د خروج عم ولكن بمجر

م السكون والهدوء. ة دقائق، ثم خي وانتظرنا. انطلق الرصاص مرة أخرى بعد عدفي بداية مساء اليوم التالي ذهبت للبحث عن الخشب والطالء لبرج حمامي. كان بائع المياه يسير في الشارع دون أي ماء، وهو يلعن بصوت مرتفع، وعلى بعد عدة ان يطيران طيارة زرقاء رسما فوقها طاووسا. لمع الطاووس مبان من شقتنا كان صبياألزرق لمعانا مبهرا مع خلفية السماء الرمادية؛ وكان الخيط الطويل يمر من قدمه

ارة، وتأرجحت في الهواء. المرسومة إلى يد الصبي. التفت الطيفي متجر المعدات، واألدوات جلس أبو عالم في كرسي مهتز، مستخدما منديله جال سوف يصنعون لي برج حمام، فقال إنه سيعد األبيض مروحة. أخبرته أن الرلهم الخشب، والطالء الالزم في بداية األسبوع التالي. سألته: لماذا سيستغرق كل هذا الوقت؟ أجابني بأن أنظر حولي: »األمور فظيعة! افتح عينيك!«، وهذا ما فعلته. جذبت جفوني إلى أعلى، ونظرت إلى الشارع، ولكنني رأيته كما دائما على هيئته. هززت كتفي، وسرت حول البناية عبر صالون الحالقة، ومتجر الطيور الذي كان ا، وعبر الفساتين، والبلوزات المتطايرة في السوق، وعبر عمو خضر الجالس في مغلقكرسيه المتحرك. كان في حجره علبة سجائر واحدة يحاول بيعها بالنداء عليها.

اختفت الشمس، وبدأت طريق العودة إلى البيت، قبل أن تنتاب ماما حالة القلق.في نهاية شارع المنصورة، الذي يعتبر الشريان الرئيسي للحي، رأيت طابورا

رندا جرار

Page 87: Beirut39 Arabic Anthology

87

صغيرا من الدبابات الخضراء. استدرت وتوقفت.ثم استدرت مرة أخرى وتوجهت ناحية الجنود الواقفين على األرض.

قلت لهم: »أعيش في هذه البناية. أعيش هنا. في هذا الشارع... هل يمكن أن أعود إلى بيتي؟«

أجاب جندي: »ال.« كان طويلا، ونحيلا وبدت ساقاه في داخل حذائه الطويل، مثل فصوص الفاصوليا الخضراء العمالقة داخل جيوب سوداء المعة. »هذا الشارع مغلق.

ممنوع الدخول. اذهب بعيدا!«»ولكن أين أذهب؟ ال بد أن أعود إلى البيت ألمي. أسرتي هناك.«

قال: »أي شعب هذا؟ يوجد شيطان بداخلكم، ألم تسمعني؟ ممنوع الدخول هنا!«استدرت ناحية المسجد، ومررت في طريقي بعمو خضر ورأيته قد باع علبة السجائر، ولديه اآلن هاتف نقال في حجره. طلبت أن استخدمه فدفع به ناحيتي بقبضة يده المعقوفة. طلبت أسرتي ولكن لم يكن هناك رد، وحاولت مرة ثانية وثالثة، ولكن لم يرد أحد. أعطيت الهاتف لعمو خضر، وركضت إلى المسجد الذي

بدت مئذنته رمادية وباهتة في سماء الليل الحالك.د اني بعض الرجال ببطانية، ونمت فوق حصيرة من القش، مثلما نام النبي محم غطي. شعرت بالرعب، ذات مرة. وفي منتصف الليل سمعت أصوات قنابل، وطلقات تدولت على الحصيرة القش. استيقظت مبتلا، ومفعما بالخزي ل، ولكنني تبو وأردت التبووالعار. في الصباح مشيت عائدا نحو شارعنا. كانت الدبابات قد اختفت، ولكنني رأيت الساحر ملقى على األرض ينزف دما، وقد سكن سكونا تاما، وكان ريشه ن بألوان قوس قزح ممتلئا ببقع الدم. التقطته، وأسندته ناحية قلبي، وركضت الملو

نحو بنايتنا. رأيت من بعد عدة أمتار أن البناية لم تعد هناك.استدرت ثانية، وركضت في الشارع مبتعدا، كما لو كنت أعيد شريط فيديو للوراء، كما لو أنني اذا حاولت ثانية ستعود البناية مرة أخرى إلى مكانها. تناثر الطوب الرمادي على األرض وسرعان ما تراكم جبل من األحجار الخرسانية الرمادية المحروقة. م، والطبقة الترابية كل شيء بدا بلون الطباشير الباهت تحت الطوب الرمادي المتفحفوق الجبل. أقمشة بلون الطباشير، وقطع متناثرة من بقايا األحذية والستائر واألسرة والكراسي والمكاتب والطاوالت وشظايا المرايا واألرضيات والحوائط، وبعدها بقليل

- بقايا البشر. كنت أقف في مقبرة هائلة، محتضنا الساحر إلى صدري.

قصة بنايتي

Page 88: Beirut39 Arabic Anthology

88

رندا جرار

هويت على ركبتي من رائحة الخرسانة التي قصفت واألجساد التي احترقت، وبينما استلقيت فوق الركام انسابت أحشاء الساحر في حجري الذي أصفر لونه. انتشرت أشالؤه الرقيقة فوق جسمي، وفوق األجساد، والقطع المتبقية من منزلي القابعة تحتي. أقفل عيني، وأغلق جفني بقوة معا، أغلق عيني اللتين طلب مني أبو عالم أن أفتحهما في متجر األدوات. لم أود أن أرى العالم الرمادي الباهت الممتد في كل مكان حولي. شعرت بشيء يلمس وجنتي، وحاولت أن أتحسسه، فلقد كان حادا، وخشنا، مثل منقار طائر، ربما كان الناي ماجدولين. فوجئت بوخز من قطعة من الحجر البارد في مقعدتي ربما كانت ركنا من أركان الغرفة أو جزءا من السقف. تشابكت أسالك تحت أقدامي، وكان ريش الساحر ناعما في راحة يدي مثلما كان في الماضي. واصلت إغالق عيني، وضغطت بجسمي داخل الركام. هذا الحطام لم يكن يشبه أي شيء ينتمي إلى الحياة، أو مثل الورقة البيضاء التي كتب عليها اسمي خارج مكتب الناظر، أو مثل صوت بابا عندما كان يقرأ ترجماته، أو مثل أمي وهي تداعبه، أو مثل أيدي ماجدولين. جلست هناك وتمنيت أن يبتلعني الركام داخل فمه القاسي، تمنيت لو انتميت إليه. األرض من تحتي تفوح برائحة قوية، شممتها وبدأت في البكاء. رفعت يدي من فوق الساحر ومسحت عيني ثم فتحتهما ورأيت الجبل الذي أجلس فوقه. تركت الساحر فوق الجبل مع كل األشخاص اآلخرين من رني ذلك بالوقت الذي سرت فيه عبر المقبرة حيث البناية ومشيت عبر األنقاض. ذكدفن جدي. لم تكن هناك أية عالمات سوى شواهد القبور وكنا أختي وأنا دائما قلقين أننا سنخطو بأقدامنا فوق األموات. خطوت فوق األنقاض الرمادية الطباشيرية، بكيت

وأنا أسير في الشارع.لت الهاتف األسود مررت بعمو خضر وأردت أن أتصل بأسرتي هاتفيا مرة أخرى. تخيمدفونا يرن رنات مكتومة عبر جبل الموت الذي كان بنايتنا. ناداني عمو خضر فجأة هت نحو »مهند! يا مهند! فوزي كان يبحث عنك وهو منتظرك عند أبو عالم.« اتجمتجر األدوات والمعدات حيث جلس عمي فوزي متكئا على عصاه. »أين كنت طوال

الليل؟ هل كنت تطير مثل شعرة مشاكسة؟ هل رأيت ما حدث؟«أومأت برأسي.

قال: »ال تقلق. كلهم ينتظرونك في بنايتي. لقد اعتقدوا جميعا أنك مت!«ذهبت ناحية عمي فوزي واحتضنت كتفه المقوس، وربت هو على ظهري. وقف

Page 89: Beirut39 Arabic Anthology

89

وغرس عصاه في األرض البنية، وسرنا معا بعيدا عن المتجر، وكم حسدت العصا التي يمسك بها وتمنيت لو كانت يدي هي التي بقبضته.

ا من القصف. ي فوزي إلى بنايته حيث وجد والداي مالذ وهكذا ذهبت مع عم

قصة غير منشورة.ترجمتها عن اإلنكليزية: د. أميرة نويرة

قصة بنايتي

Page 90: Beirut39 Arabic Anthology

90

روزا ياسين حسن

مطلع رواية

حراس الهواء

في ممر السفارة الطويل كانت تهرول!حذاؤها الشرقي من جلد البقر- الذي ال تنتعل إاله - يكاد ال يطأ األرض الصقيلة، وذيل الفرس يتطوح مناوشا ظهرها. بدت أشبه بجارية من عصر الرشيد، تخب في ممرات قصر الخالفة، رافلة في سروال رهيف فضفاض أرجواني اللون مزموم عند كاحليها. ال أعرف حقيقة، من أين استطاعت الحصول عليه في مدينة كدمشق،

وفي أوائل األلفية الثالثة؟! لم أتمكن من اللحاق بها آخر الممر حتى كادت أنفاسي تتقطع:

- مدام... مدام صوفي!استدارت دهشة كأن شيئا لم يكن، وابتسمت تحييني.

من يرى وجه مدام صوفي، مديرة العالقات العامة في السفارة، لن يقتنع أنه لظهر المرأة نفسها! من الخلف لن أصدق أنها تجاوزت الخامسة عشرة أو السادسة عشرة على أبعد تقدير، أما وجهها فيغص بتجاعيد دقيقة تحول صفحته الناصعة إلى ما

يشبه ساحة حرب.- لو سمحت مدام صوفي، كنت أريد أن أقول لك شيئا...

Yes?! -لم تطلب مني الدخول إلى مكتبها! مستعجلة كالعادة إذا. وقفت منتظرة كالمي، تصالب ساعديها على صدرها. وأنا قررت أن أقنص الفرصة من فوري، وأبدأ بطلبي.

بادرتها بعربية فصحى: - إذا سمحت مدام صوفي، علينا أن نغير ترجمة كلمة officer لفظة ضابط وحدها تجعل أولئك المساكين يرتجفون والدماء تصعد إلى وجوههم. ال يمكن ألي عربي أن

Page 91: Beirut39 Arabic Anthology

91

يتخيل ضابطا مدنيا! - ....!! بدا عليها االمتعاض والمضض.

- إنه تاريخ طويل عشش في خاليا المخ، وليس من السهل تغييره)1( Well, I know that -

- الدقة في الترجمة هي المطلب األول، لكن طرقات قلوبهم تصلني من بعيد كعصفور في قبضة صياد. هل تفهمينني مدام؟

االستغراب، كل ما كان ينضح به وجه مدام صوفي. مصغية كانت دون أي تعبير آخر على مالمحها. ربما كان شرحي غير واف! خاصة أن تغيير أية كلمة في ي إلى الترجمة سيتطلب إقناعا أكبر بالتأكيد، هذا إذا لم أطالب برفع كتاب خط

مكتب السفير.حدقت مدام صوفي برهة في قبضتي المتشنجة أمام وجهها والقابضة على عصفوري ها متجهمة وجدية على غير األثيري. كانت تعابير وجهها تدل على أنها تصغي، لكن

عادتها! اعتقدت للحظات أنها ستستدير من فورها، لتعود إلى الهرولة بعيدا عني.لكن قبضتي لم تكد تسترخي، لتهوي إلى جنبي، حتى ابتسمت مدام صوفي ببطء،

ت يدها لتربت على كتفي. ثم مد- برافو أنات... برافو... أنت رائعة.

قالتها بعربية مجعلكة، وأردفت:- بالنسبة إلي، هذه المحبة في قلبك أهم من الدقة الحرفية للترجمة.. قلبك

عطوف بين أضالعك الصغيرة.قصدت أضالعي الضئيلة ربما!

رتني بابتسامتها العريضة التي تظهر كامل اصطفاف أسنانها أنهت جملتها، وبشالالمعة. ابتسامة بيضاء كوجهها الذي ال يحمل أية مالمح عربية.

)2( Do whatever you think is best -ت قبضتها على كتفي قبل أن تتركني، وتبتعد في الممر الطويل، مؤرجحة شعرها. شد

صحت بإثرها:- مدام... ما رأيك بكلمة Boss، أليست أفضل؟

ت في خطواتها ، واستمر رفعت إبهامها عاليا عالمة »األوكي« دون أن تلتفت إليالعجلى التي يسمع حفيفها فحسب بين الجدران الباردة. لوهلة بعثت داخلي روح

حراس الهواء

Page 92: Beirut39 Arabic Anthology

92

ة. غمرني فجأة إحساس بالبهجة بينما كنت واقفة في الممر الطويل طازجة حيبغرفه المتناظرة المصطفة على الجانبين.

وافقت مدام صوفي على اقتراحي. هكذا بمنتهى البساطة!ال أدري كيف تحمل تلك الكندية- الباردة، البيضاء كالجبنة- هذه الروح! لديها قلب نقي خالص، ربما كان الشيء الوحيد الذي ورثته عن أبيها اللبناني األصل. قالت لي يوما إنه قضى حياته يتنقل بين بلدان العالم في سيارات اإلسعاف التابعة للصليب األحمر. لم يشتعل نزاع في أي من مناطق العالم إال حضره، لم تنشب حرب ه، كما قالت لي إال كان بين الطاقم الطبي فيها! ربما كان في األمر مبالغة ما! لكن صوفي، كان شاهدا في حرب دارفور، في البوسنة والهرسك، وحتى في أفغانستان!

- ثم مات، ويا لسخرية األمر، في إحدى جائحات المالريا في إفريقيا. !!...-

لم أعرف وقتئذ ما السخرية في الموضوع! هل كان ينبغي أن يموت عجوز مثله، بقنبلة أو صاروخ، كي يغدو األمر تراجيديا وليس ساخرا؟! لكن مدام صوفي تعتقد

أن أباها دفن في إفريقيا في إحدى المقابر الجماعية الكثيرة المنتشرة هناك.المهم، إنجازي سيبدل يومي السيئ، سيجعل األفكار السوداء، التي رافقتني منذ د، تتالشى كغيمة زائفة. باستخدام كلمة Boss لن أجبر يوما بعد يوم الصباح، تتبدة العسكرية أمام )الضابط(! على مراقبة عيونهم الفزعة، وهم يقومون بتأدية التحية، كأنهم عساكر في مشهد كوميدي ضاربين األرض بأقدامهم بكل ما أوتوا من قو

أشبه بالتهريج.

***

تأخرت عن موعد المقابالت. ال بد أن الضابط الكندي- أو عفوا المدير الكندي- قد استاء من طول انتظاري. ات جيئة وذهابا خارج غرفته، والذين ستتم مقابلتهم اليوم راحوا يذرعون الممروقد أخذ القلق ينهشهم أعمق فأعمق، في انتظار فتح األبواب بنية اللون والشروع ؤ، أنستها فرحها الطارئ بالنصر على اللغة. إنه في المقابالت. انتابتها رغبة بالتقيشعور الغثيان الذي راح يجتاحها حالما وطئت هذه العتبة. ربما عمل الدفء اللزج

روزا ياسين حسن

Page 93: Beirut39 Arabic Anthology

93

انة على تصعيب األمر أكثر. كان المكيف يضخ الحرارة في الغرفة، كذلك السخرة، التي يضعها المدير قرب قدميه، وتتصاعد منها هبلة الكهربائية الصغيرة المدو

القهوة في الركوة النحاسية.ة العليا لالجئين كي المدير من دائرة الهجرة والتجنيس الكندية تفرزه المفوضييقوم بدراسة حاالت اللجوء بكافة أشكاله إلى كندا. وهو اآلن- ككل صباح منذ سنتين فات ص األوراق أمامه على المكتب، تلة من المصن ونصف وحتى اللحظة- يتفحنة والرسومات. كان يبدو متضايقا وحزينا على غير عادته تغص باألوراق الملو

الصباحية، يرتشف قهوته العربية من كوب خزفي بحجم القبضة. ه جوناثان غرين هنا، إضافة إلى عيون القهوة هي الشيء الوحيد الذي أحب

ته عنات: لة، حسب تعبيره. حي الدمشقيات المكح)3( Hi Jon; how are you? -

لم يجب.رفع رأسه عن األوراق، ظهرت على وجهه ابتسامة حزينة تحولت تدريجيا إلى تكشيرة، ثم عاد يدفن رأسه في التلة! ال بد أنه يتفحص التقرير الطبي لطالب اللجوء

الجديد الذي سيقابله للتو، والذي على عنات إسماعيل أن تترجم مقابلته.اقتربت منه حيث كرسيها المعدني يالصق كرسيه وراء المكتب، ولمحت من

المصنف األزرق األنيق ورقة مليئة بالتواقيع، وجانبا من صورة جسد محروق. )4( Uh, how is the baby? -

صاح بلكنة ممطوطة وهو يدس الصورة بين األوراق، ثم ربت على بطنها ضاحكا. ربما أحس بصدمتها حين لمحت الصورة أمامه، أو بانزعاجها الواضح على مالمح

وجهها، ورائحة الغرفة تأتيها كمزيج من رائحة صديد ودم فاسد.)5( Fine... -

ست بطنها التي تكتنف طفلها في بداية شهر الحمل اصطنعت االبتسام، ثم تحسالثالث. على المكتب تقرير جديد للمفوضية العليا لالجئين باللغة اإلنكليزية أدرجت فيه األعداد المقدرة لألشخاص المستحقين اهتمام وتدخل المفوضية. ربما رغبت عنات، عبر قراءتها له، في الخروج من حالة الغثيان، أن تنتقل من براثن عالمها

الصغير، الذي يضغط على روحها وتفكيرها، إلى عالم أكبر. العدد المقدر لالجئين في آسيا هو األكبر بشكل ملفت. أوروبا تأتي بعدها، بما في

حراس الهواء

Page 94: Beirut39 Arabic Anthology

94

ذلك البوسنة والهرسك، وفلول الشيوعية، وما إلى ذلك. التقرير ذاك لم يكن مذيلا بتاريخ! لكن من الواضح أن زمنا طويلا لم يفت عليه. سيمر هنا، على األرجح، كورقة ال نفع لها، وربما رمته العاملة بعد انتهاء الدوام في سلة المهمالت! لكنه بالتأكيد

لن يمر في أماكن أخرى من العالم بمثل هذه السلبية.بتر جون شروده، شارحا لها بعض المعلومات عن طالب اللجوء األول لهذا اليوم

وقصته المكتوبة في التقرير. قرأت له ما ورد في التقرير.اسمه سالفا كواجي. شاب سوداني مسيحي من الجنوب. كان منتميا إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان، حركة جون قرنق، كما كانوا يطلقون عليها، ثم انخرط في الجيش الشعبي التابع لها، في القوات الراجلة حاملة »األربيجي«، ليخوض الحرب األهلية التي امتدت أكثر من عشرين عاما بين الشمال والجنوب. إثر ذلك بقي شهورا

طويلة أسيرا في يد جنود البشير، قبل أن يطلق سراحه في تبادل األسرى.سالفا غير متزوج. يعيش وحيدا بعد أن قتل معظم أهله على مدار الحروب.

كان جوناثان منهمكا ومأخوذا، كما هي عادته دوما فيما يخص القصص الجديدة، بينما أشعر في لحظة كهذه برغبة في التقيؤ، بصداع لئيم يعتصر دماغي، ويجعلني

أتهاوى على كرسيي الجلدي األسود. ا إنكليزيته يظهر أن وجهي بدا شاحبا كاألموات حتى التفت إلي قلقا وأمسك بيدي ماط

أكثر:)6( If you are tired, Annat, we can postpone today's meetings -

)7( Don't worry, I'll be fine -جوناثان غرين، على الرغم من برودته التي تستفزني، رفيقي شبه اليومي وصديقي طيلة السنوات الثالث المنصرمة. سأحزن عليه حين يغادر قريبا، وقت

تنتهي مدة عمله المحددة هنا في السفارة. حين التقينا للمرة األولى بدت قامته عمالقة بالنسبة إلي. شعره كان فضيا مع قليل من الظالل السوداء، فيما عيناه الزرقاوان جاحظتان مع كثير من البياض، األمر

الذي يجعل نظراته أشبه بمشاريع لالنقضاض على فريسة. اليوم أضحى شعر جوناثان أبيض تماما دون أي ظالل.

في اليوم التالي للقائنا األول دعاني، بعد انتهاء العمل، لنتناول العشاء معا، ومن ثم لنشرب كأسا من التيكيال. قال، محاولا إغرائي، إنه سيجعلني أشربها على الطريقة

روزا ياسين حسن

Page 95: Beirut39 Arabic Anthology

95

المكسيكية، فألمه أصول التينية من بلدة صغيرة على خليج المكسيك، وهو يحمل جينات جنوبية في دمه أكثر بكثير من تلك األميركية الشمالية. على الرغم من عدم اقتناعي بتلك الكذبة، قبلت الدعوة يومذاك. كان خوليو يمأل المكان بأغنيته الشهيرة When I Need You ، وأنا أحس بارتباك كبير لم أعهده قبلا! طلبنا طبقين من الدجاج مع شرائح البصل والفليفلة والفطر، على الطريقة المكسيكية طبعا. وكان علي، نزولا عند أمر جون، أن أفرغ كأس التيكيال الصغير في فمي، كما فعل هو تماما، ثم أرشف بعده مباشرة شريحة الليمون المضمخة بالملح، والموضوعة فوق

الكأس كغطاء، وأمضغ قشرتها ملتذة بمرارتها الالذعة! ذاك السائل الناري الذي حرق جوفي بالكامل خالل مسيرته إلى معدتي جعل جوناثان غرين، الضخم كعمالق وذا العيون الزجاجية الجاحظة، صديقي منذ تلك اللحظة وحتى اليوم. ألريح تحديقاته الشكاكة تحاملت على نفسي، مجاهدة أن أبتسم، مجاهدة أن أستقيم مسندة ساعدي على المكتب، استعدادا الستقبال السوداني. ال أبتغي أن تجتاحني عقدة الذنب اآلن، ال أريد أن أشعر بها تجاه كل أولئك المنتظرين خارجا والذين هم بحاجة لي. دفعت السخانة بقدمي بعيدا عن المكتب، ورشفت

قليلا من القهوة اللزجة الباردة من فنجان جون. بدلا من دخول شاب جسيم بعيون جريئة، كما تخيلت سالفا كواجي، شق الباب قليلا، وامتد منه رأس صغير أسود. لم يكن يتضح من الكتلة المستديرة القاتمة إال بريق عينين وديعتين وآسرتين، يمور الندى داخلهما كنجوم محتشدة. كان سالفا صنا واألثاث المحيط بريبة وهلع، كأنه يدخل يدور بعينيه في فضاء الغرفة، يتفحغرفة إعدامه. انتظرنا لحظات حتى سبر الشاب كامل التفاصيل البسيطة، ثم دلف

س المحموم في كل ما حوله. بتردد وصمت إلينا، وعيناه ما تزاالن تتابعان التفرهنيهات..

ثم بدا أن مالمحه أخذت باالنبساط. وقف في الوسط مباعدا ساقيه، ساترا وسطه بكفيه كالعب كرة قدم سيصد للتو ضربة على مرماه.

)8( So.. Your name is Salva Quajee -عا. ابتسم جون مشج

هز الشاب رأسه. كانت وجنتاه فسيحتين تشغالن معظم مساحة وجهه. حلق فته بعربية فصحى إلى جوناثان، المدير الكندي الذي سيكون لحيته بعناية. عر

حراس الهواء

Page 96: Beirut39 Arabic Anthology

96

أحد مقرري مصير لجوئه، ودعوته للجلوس على كرسي معدني بجلسة جلدية أرجوانية قبالة المكتب.

اطمأن سالفا، استرخت مالمحه، وهم بالجلوس. فجأة لمحت عيناه السخانة الكهربائية الصغيرة جانب المكتب التي سبق أن أبعدتها بقدمي. انتفض واقفا بشكل مباغت، وهو يشير برعب إليها، ثم انطلق هاربا خارج الغرفة كالممسوس وهو يهمهم

بكلمات غريبة.ح ه لدى جون لم يبد كذلك. طو الموقف كان مفاجئا بالنسبة إلي، بل صاعقا. لكنبرأسه أسيانا، ثم طلب من الحاجبة أن تقدم لسالفا شيئا يشربه في الخارج، لربما

أ ذلك من أعصابه. ثم صاح بعربية مضحكة: هد - اللي بعدو.

با رأسه مني: أما لي فقد همس مقر They tortured him with an electric heater, similar to this one… -

)9( Look!اع وقد شعت عليه دائرة وبسط أمامي صورة فوتوغرافية كبيرة لجذع سالفا األسود اللمقرمزية مائلة للبني وسمت كامل بطنه الضامر، ونفرت قليلا منه. كانت تبدو دقيقة

الخطوط كأنها رسمت بيد فنان! إذا هو الحرق الذي لمحت طرفه حين وصلت.اجتاحني شعور الغثيان أشد مما كان. غدت الغرفة أضيق من قبر يضغط على ل إلى غرفة للتعذيب! ليس غريبا أن أفكر بالموت منذ الصباح صدري. العالم تحوووضعي هذا أسوأ منه! والعار يجعلني أتجلل به ألني أخوض في الموت، وأنا أكتنف

في أحشائي كل الجمال.ض له طالب اللجوء! كل التقارير الطبية تبين دوما التبعات الجسدية لما تعرلت إلى التبعات الجسدية فحسب، وربما التبعات النفسية الواضحة، أي التي تحوقت هوا، مز ة الكثير من طالبي اللجوء شو ة، لكن ثم صة جلي أمراض عصبية مشخدواخلهم وعطبت أرواحهم، دون أن تكون هناك عالمات على أجسادهم. كم كانت

ما يقولونه كان يوضع في زاوية التشكيك! فرصة أولئك أقل! ذلك أن كل

روزا ياسين حسن

Page 97: Beirut39 Arabic Anthology

97

1 أعلم ذلك جيدا.2 افعلي ما ترينه األفضل.

3 مرحبا جون، كيف حالك؟4 كيف هو الجنين؟

5 جيد.6 إذا كنت متعبة عنات، نستطيع تأجيل مقابالت اليوم.

7 ال تقلق سأكون بخير.8 إذا.. اسمك سالفا كواجي.

بوه بسخانة كهربائية مشابهة لهذه.. انظري. 9 عذ

فصل من رواية »حراس الهواء« دار رياض الريس، بيروت 2009

حراس الهواء

Page 98: Beirut39 Arabic Anthology

98

زكي بيضون

قصائد

رحيل السماء

ذات يوم استيقظ الناس وهم يشعرون بقلق وفراغ غريب، كأن عداد األفكار اليومي اس كان ناقصا. كالعادة عندما يشعرون كان مغلوطا، كأن جزءا ال يتجزأ من فكرة النق بعض الفضاء، وهنا تجلى لهم الحدث بالحيرة بدأوا يتوافدون على الشرفات لتنشالمهول: لقد رحلت السماء... نعم، الشمس والقمر والكواكب والنجوم وذلك الفضاء الالمتناهي الذي يتسع لكل خياالتنا وتأمالتنا، كل ذلك اختفى ولم يبق سوى فراغ مرعب كنافذة جهنمية مفتوحة على المطلق. نعم، لقد فات العلماء والفالسفة أن السماء كائن حساس، وقد ضاقت ذرعا بانتهاكهم وتجاهلهم لها، لذا رحلت ضاربة عرض الحائط بكل القوانين الفيزيائية. فشلت مساعي البلدية لتهدئة الوضع بإقامة

خيمة زرقاء كبيرة.لم يكن من الممكن تجاهل األمر ومتابعة البداهة اليومية كأن شيئا لم يحدث،

فالسماء ليست هي نفسها... بال سماء.كأن العقاب على الخطيئة الكبرى الذي حذر منه رجال الدين قد وقع أخيرا، لذا دار الناس وتبعثروا في الشوارع كعش نمل مجنون، وهم ال يستطيعون احتمال

الالفكرة المرعبة فوق رؤوسهم.لم يكن بإمكان ذلك أن يستمر إلى ما ال نهاية... مع ذلك فالمشكلة لم تحل.

Page 99: Beirut39 Arabic Anthology

99

بائع الموت

أنا بائع الموت، أقدمـه غريبا من اللحظات الهاربة والهمسات المختنقة على طبق من رخام. أنا بائع الموت، صريح أكثر من أن أتكلم، متواضع أكثر من أن أملك وجها،

أمارس فكرة ما تشبه الصمت النعس في رأس بواب عجوز.وحده الموت ال يكذب، ألن الزمن ليس سوى غفلة إله ال يجرؤ على االستيقاظ.

صوت البداية

على القمة، ال أحد يسمع سوى الصمت... صوت البداية.هي مرايا النعاس، روح الماء، يد من غبار، نظرة من سراب.

ق في عيني أو هي شمس ثملة تتعريداي في الماء

وجهي هاوية من الهواءى من لوعتها على حافة فجر ذائب الشمس تتعر

أو هو قلبي يذوب لوعة سكرية في فميأفكاري بطعم الماءدمي عصير تفاح

أنكشي قلبي يا حبيبتي، قد تجدين ذهبا ميتا، ألما يبتسم.اليوم، الغروب كله يعود الي، حتى السماء عليها أن تتجاوز نفسها بال توقف

لتتدارك مدى نظراتي.

وجهي، بحيرة من الرياح تلفح وجه العالم. وجهي، ستار الجهة األخرى المنكشف فقط عند نافذة العينين. وجهي قناع األبدية، صرختي الصامتة التي ستعبر أشد

العواصف صخبا وجنونا بصالبة شعاع دقيق من الضوء.على القمة، هو الصمت وحده يسمعه العالم... صوت البداية.

قصائد

Page 100: Beirut39 Arabic Anthology

100

اإلمبراطور وبوابة السنديان

ز قرر اإلمبراطور األكبر أن يصل إلى حافة الوجود ويبلغ نهاية الكون، لذا جهجيوشه وانطلق على بركة اهلل.

ات وثقوبا سوداء. عبر جبالا ووديانا وبالدا وأفكارا، عبر سماوات وعوالم ومجرعبر كل شيء حتى بدا له كأنه عبر العبور نفسه، إلى أن وصل في النهاية إلى حائط أسود وعظيم االمتداد. حاول اختراق الحائط بقنابله الذرية والهيدروجينية ولم ينجح، فعلى ما يبدو كان ذلك الحائط أصلب ما في الوجود باعتبار أنه ال شيء د امبراطورنا العظيم حملة أخرى للبحث عن نهاية هذا الحائط. خلفه. لذا فقد جربعد سنوات فوجئ بأن تلك النهاية لم تكن سوى بداية حائط آخر. هكذا ولقرون اء، ولم يكن ينهي حائطا اال ليبدأ آخر. طويلة ظل إمبراطورنا يصطدم بالحيطان الصم

إال أنه في النهاية، في نهاية النهاية وصل ولفرط دهشته إلى آخر ما كان يمكن أن ابة صغيرة يتوقعه في سعيه اإلمبراطوري العظيم. وجد نفسه وجها لوجه أمام بوة. شيئا من خشب السنديان، وقف أمامها مذهولا وتوقفت وراءه جيوشه الكونيفشيئا بدأت حيرة وفراغ الموقف تبدد، عندها تلبست اإلمبراطور العظيم روح لطيفة، ابة برفق، ثم همس: »من هناك؟« فخلع عنه هيبته اإلمبراطورية، تقدم وطرق البوا وراء الصمت: »نحن الحمقى الذين من األبد وإلى األبد فأجابه صوت عميق آت مم

لن نخرج من هذه الغرفة.«

خيانة

عيناي تقوالن الكثير بلغة ال أفهمها، عيناي تفضيان بالكثير. ت ولم تقل، حتى غفل عنها اللسان وعلقت في العينين. أشياء كثيرة مر

ل وزر الجريمة. اهد األخرس وحده يتحم الشعيناي تخذالنني بال توقف : ما تقوله عيناي ال أراه... إال في عيون اآلخرين.

زكي بيضون

Page 101: Beirut39 Arabic Anthology

101

الصالة

حينما أمشي أحاول أن أحاكي األفق، ألن ال شيء أصغر من هذه اللحظة.الخالق العجوز يطبخ جريمته على مهل. نافذة عمياء ال تنفك تقذف أمامها بفجاجة

فكرة هذا العالم.هذا ما يعرفه الكهنة جيدا: األبدية طبخة ال تصلح إال على نار خفيفة.

الصالة والصبر، زاد المؤمنين.طوبى للسماء، ذلك العصفور األزرق الهائل والشامل ينطلق بال نهاية، أفقا

جامحا تغيب فيه األمكنة.طوبى للصمت، كائن خجول ال ينفك يفسح الكالم لغيره.

طوبى للعالم، رجل ساذج بلغت به الحماقة أن سجن نفسه داخل نفسه.طوبى لحقيقة ال تملك وجها، ذلك الثقب الوحيد على هامش األرق، رنين

القلق، عواء الوقت المستوحد.ليس القمر الجريح ما يقلق الليل، بل هو األلم الذي يستريح.

حينما أمشي أحاول أن أحاكي األفق، ألن اللحظات المغتربة ليست سوى لهجة القدر متنكرة، وما األفق إال حافة النظر المتعب.

»كوجيتو« شخصي

أخيرا، وبعد اثنين وعشرين عاما من االستغفال، صرت أعرف ما أنا : أنا تلفزيون شة. ة بحث ال تشبع عن قناة غير مشو معطل... وحياتي عملي

ها األزهار عربة كسولة تجر

لست سوى همسة عمياء في فم إعصار. أمشي، عيناي جسر ألشباح الشمس، ماء ثقيل في قلبي. أمشي، أجري في أنهار رأسي، أسراب من السنونو تغرب في أفقي.

قصائد

Page 102: Beirut39 Arabic Anthology

102

أمشي، أبني قرى دافئة لنمالتي، أجمع دموع الجدران المغلقة، وأمشي كعربة كسولة ها األزهار. تجر

العالم خارج الحمام

ذات يوم سأدخل الحمام وأغلق الباب جيدا على نفسي، بحيث أسجن العالم كله خارج الحمام.

القصائد من ديوانيه »ديوان جندي عائد من حرب البكالوريا« دار االنتشار العربي، بيروت 2001و»ملعب من الوقت النائم« دار النهضة العربية، بيروت 2007

زكي بيضون

Page 103: Beirut39 Arabic Anthology

103

سامر أبو هواش

تسع قصائدالذين رحلوا

أصدقائيولهم عيون تلمع

وتنظر بحنانمن وراء الغيوم

نهضوا فجأة بثيابهم الحقيقية

وخرجوابكل اعتيادية

تاركين لي الحياةبقشيشا سخياعلى الطاولة.

األشياء المعدنية

حبا باهلل وباألشياء المعدنية، امنحني يا رب،

قبل الجحيم، بعض السعادة العابرة على شاطئ البحر.

Page 104: Beirut39 Arabic Anthology

104

بعد بوب ديالن

شاهدت رجلا يجر منزلا قال إنه يريد أن يضعه على حافة البحر، وامرأة جميلة تعرج، تجر وراءها شعبا من األطفال العرج. وكلمات تنبح، ومستويات مختلفة من ها الخيول. شاهدت أكياس نايلون سوداء تطير في الصحراء، وشقراء الصمت، تجربشعر طويل ترفع نهدها إلى السماء، وتبكي. شاهدت الصديق الذي مات في نومه، يبتسم خلف المطر. شاهدت المطر أيضا. شاهدت قطارات تقتحم غرف نوم، ومرايا براقة تحطمها النظرات. ونظرات تتحطم وحدها. وكان صبي بالشورت يقفز، ليلمس فراشة يحسبها غيمة. وكان عجائز سود يتدربون على »الراب«، بالكز المستمر على أسنانهم. وكان فالسفة يحاولون عبثا تفسير جوز الهند. شاهدت طينا ينصب خيمة، ووحلا يحفر سراديب سرية. شاهدت الستينات تتقدم نحوي مادة ذراعيها، تي وعلى كتفيها غرابان أسودان. شاهدت السعادة عارية تقفز بالحبل. شاهدت جدتسبح في كأس. شاهدت أبي ينمو على جدار. شاهدت التسعينات طائرة ورقية

تذوب في ضباب.

فوتوشوب

بيدين من »فوتوشوب« أعلى المخيلة أحاول إصالح وجه عجوز عابر في المركز التجاري، مفكرا في معنى عجوز عابر، متأملا في الحيز الفيزيائي للحياة، مقطعا الصورة إلى مربعات ومستطيالت، واضعا في كل واحد منها غرضا أو شخصا، منتظرا أن يأتي المعنى وحده، مرددا: سيأتي، سيأتي المعنى، ليس عليك سوى أن تنظر، وتنتظر. أجعل ذئبا يعوي في وجه طفل خائف، وال يهمني تفسير الذئب أو الطفل أو الخوف. أضع مرآة على مؤخرة حسناء تمشي، وأرسم فيها عيني دلفين وأنف مهرج. أترك مكان الفم فارغا. وأحسب الدموع نوعا من العرق الغامض. يمكن أيضا ليدي، مستلقية على جذع شجرة عجوز، أن تبكي. أشرح، أعرف، البكاء: يدي مستلقية على جذع شجرة عجوز. يمكن دائما استخالص شيء من لحظة ميتة. يمكن تأكيد

شيء ما بكبسة زر.

سامر أبو هواش

Page 105: Beirut39 Arabic Anthology

105

مصالحة

أفكر أيها الحب أن أصالحك على نفسك،أن أشتري لك دراجة هوائية

وأدعوك إلى البحرحيث يمكننا الجلوس معا على مقعد مهجور

وتأمل الموج البسيطيغسل بعينيه أقدام العابرين

في غروبه السري،وعندئذ لن تحتاج إلى أكثر من تنهيدة

لتغفرزالت روحك

وال إلى أكثر من نظرةلتمأل بالنجوم

جيوب أطفالك المستوحشين.

قبل أن تبدأ البنايات باالنهيار

لم نكن نعرف شيئاكنا نحدث الهواء ببالهة تامة

ونرسم أشكالا غامضة على الماء وفي الغيوم

نة على الخرائط ونشك دبابيس ملوغير مكترثين

قلب أي مدينة ينزف اآلنوأي شعوب تأخذ باالنقراض

كنا نتقدم

تسع قصائد

Page 106: Beirut39 Arabic Anthology

106

من كل الجهاتباتجاه حفرة واحدة.

الرجل الذي يتأمل الوجوه

ال بد من أن يخرج في النهاية بنتيجة مارجل مثلي

ال يتعب من تأمل الوجوهال ألنه يحب ذلك

ه سر ما لكنيجعله ال يكف عن تأمل الوجوه

التي يعرف أنها

في نهاية األمرلن تقول شيئا.

وحيدا مع أغنية تطل على الشاطئ

السمكة الصغيرة تسابق ظلها في بركة الماء،تحلم بقرض للبدء بتجارة خاصة،

ام مع تاجر مخدرات آسيوي تمارس الجنس في الحميمارس الجنس مع وشم طويل أسفل ظهرها،

قون حلم صديقهم العب الفوتبول الذي مات بجرعة زائدة األصدقاء يحقفيذهبون إلى الشاطئ

ويرمون أنفسهم في الغروب،بينما

سامر أبو هواش

Page 107: Beirut39 Arabic Anthology

107

ابتسامة الصديق الميتتصنع ظاللا كاملة

مل. على الر

الوحيدون

على مقاعد الحدائق أو مراحيض البيوت

يجلس الوحيدون وحيدين تماما ال أحد يعرفهم

وال يعرفون بعضهموال أحد يعرف أنهم وحيدون ألنهم وحدهم

الوحيدون دائما

من كل شيء.

قصائد من ديوان غير منشور في كتاب.

تسع قصائد

Page 108: Beirut39 Arabic Anthology

108

سمر يزبك

مقطع من رواية

رائحة القرفة

إنه خط الضوء المائل!الباب كان مواربا. ولوال الضوء المنبعث كخط مائل نحو مرآة الممر، لما انتبهت حنان الهاشمي إلى الهسيس، وهي تمشي حافية القدمين، بعد أن قفزت من فراشها

كملسوعة، تحلم أنها تحولت إلى امرأة بخمسة أذرع، وثالثة أثداء.كانت ما تزال تهذي. تتلمس جسدها. تتحسس الدانتيال النبيذي الملتصق بصدرها. ق أنها ما زالت على حالتها الطبيعية، تبحث عن استطاالت وأذرع جديدة. لم تصدم الخشبي، وركضت نحو مرآة طوالنية، احتفظت بها من حتى هبطت درجات السلأثاث بيت حي المهاجرين القديم. تعرف أن المرآة لن تكذب عليها، وستجعلها تطمئن

إلى أن أذرعا نحيلة ومخيفة، ال تتراقص حول جسدها كأفاع.لكنه خط الضوء!

خط النور المائل الذي قسم الممر إلى شطرين، هو ما جعلها تفيق من كابوسها، وتنتبه إلى أنها حافية القدمين. تسمع هسهسات تنبعث من غرفة زوجها.

وقفت متصلبة. عيناها جاحظتان، لم تحرك قدميها لتعرف ما يحدث داخل الغرفة التي لم تدخلها منذ سنوات، وال تذكر محتوياتها. لم ينتبها أي فضول لمعرفة المكان

الذي ينام فيه زوجها. فقط، كانت تنتظر رحيله.خطت نحو المرآة. وقفت بعريها بعد أن أضاءت الممر. ولم يكن يسترها سوى ثوب الدانتيال القصير. حملقت في المرآة. لمعت فكرة غبية في ذهنها، فضول أعمى

لمعرفة ما يفعله زوجها. هل جننت؟ تساءلت.دت وركيها، وهي تحبس أنفاسها. دققت في وجهها بالمرآة، لمعت عيناها، مسضحكت وشعرت بامتالء بالسعادة. نسيت لحظات، ما وصل أذنيها من الغرفة، مستغرقة

Page 109: Beirut39 Arabic Anthology

109

في الغبطة التي تحسها بتأمل تفاصيل جسدها، أمام المرآة. ترفع ثوبها القصير، تتأمل ردفيها بفضول، وكأن ما تشاهده هو جسد امرأة أخرى. تتلمس سطح المرآة. تنتقل د خدها. تحس بالرضا للنعومة التي تشبه سطح المرآة بأصابعها إلى وجهها، تمس

الصقيل. تشرع في الضحك، تضع كفها على فمها كتلميذة خجول.نت أن ل الذي ستلمحه أمام المرآة، بعد أن تيق ت يدها وأطفأت النور، تفكر بالظ مدوجهها بقي على حاله. لكنها غرقت فجأة في العتمة، وانتبهت إلى أن الضوء المنبعث

من غرفة زوجها، قد اختـفى، والباب الموارب قد أوصد. ارتجفت. ا اقتحم الفيال. حاولت أن تتماسك. االحتمال الوحيد الذي مر على بالها، هو أن لصست س األمان. تنف تيبس الصراخ في حنجرتها، وبحثت وسط العتمة عن الجدار، تتلمرت في الوصول إلى أقرب هاتف، ألنها متأكدة أن زوجها لن يستيقظ بصعوبة. فكحتى ساعة متأخرة. وإذا حدثت معجزة وفعل، فلن يطفئ األنوار فجأة، عندما يسمع

وقع خطواتها.رت جسدها وذراعيها، كتمت أنفاسها. التصقت بالحائط حتى صارت جزءا منه. كوعندما انقضت دقائق، وهي ما تزال على هذه الحال، سطع ضوء من الغرفة، وعادت

الهسهسات ثانية.هسهسات ناعمة، ضحكات خافتة، وأنين ملتاع. مشت ببطء وتثاقل، محاولة التكهن بمصدر الصوت. جسدها يرتجف بشدة. وقفت أمام مقبض الباب، التصقت به، فتحته بحركة عنيفة. صارت وجها لوجه، أمام ما يحدث في الغرفة التي تحولت

إلى مسرح مظلم، تضيئه بقعة ضوء شاحبة.بهق وجهها، وتحولت مسام جلدها إلى حواف سكاكين حادة، برزت على شكل حبيبات ناعمة، من أخمص قدميها حتى مفرق شعرها المنكوش. كان زوجها العاري نات ألم واضحة على وجهه. ليس األلم تماما. هذه التعابير دا على السرير، وتغض ممده زوجها ، وهناك مثل لم تعرفها من قبل. تعيد تشكيل مالمحه. لم يكن هو نفسه، لكننفق عميق وسط الضوء الباهر، كانت... عليا. هذا ليس حلما؟ هي ليست مستلقية على فراشها، وقطرات العرق تنز من كابوسها. إنها عليا التي تعرفها أكثر مما تعرف

نفسها! إنها هي!عليا التي تتلوى لصق الزوج بغنج، وقد تصلب جسدها فجأة، عندما لمحت سيدتها، ها بقيت تحدق في عينيها بثبات حاد. كانت كلتاهما تمتصان خيطا حادا من النور لكن

رائحة القرفة

Page 110: Beirut39 Arabic Anthology

110

المتوهج، استقر في بياض عينيهما، واخترق مسام الجلد كحد سيف. لم تتفوه أي منهما بحرف. وجسد الزوج الفاصل بين جسديهما، ساكن، مفضوح بعريه الذي ال تعرفه. عاشت عمرها معه، وهي تعتقد أنه بال تفاصيل. حتى إحساسها بثقل جسده فوقها، لم يكن إحساسا أنثويا بوزن رجل. كان إحساسا بالثقل فقط. لكنه اآلن عار! متهالك، ينظر إلى الفراغ، ويبدو غير عابئ بما يحدث حوله. صالب يديه فوق بطنه، وتنفس بعمق، وكأنه يستعد للغوص في محيط عميق. انزلقت عينا حنان سريعا على جسده. عادت للتحديق داخل عيني عليا وفي تأمل تفاصيل جسدها. األصابع التي تعرفها جيدا يابسة، شديدة الزرقة، وعروقها الخضراء ترتجف وهي تحاول إفالت سها. بدت عليا كما لو أنها قطعة اللحم الرخوة. ضمت حنان أصابعها، أحست بتيبستنطلق في سباق طويل، منحنية، متوثبة فوق السرير. لم تجرؤ على االستقامة.

شعرت أن ظهرها سينقصم إذا بقيت ثواني أخرى على هذه الحال. انحبس الهواء في رئتيها، وخافت أن تتنفس، فتحدث كارثة، وتقع جدران البيت على رأسها. وحنان عة، وتتنفس بصوت عال أقرب إلى حشرجة اختناق، التي تسمع ضربات قلبها المتسرأمسكت بطرف السرير، وتقدمت خطوة. وفي اللحظة التي رفعت كفها في الهواء، ة من تحت أقدامها، يلمع الضوء في عينيها، انزلقت عليا تحت السرير، ومرت كسحليست قليلا، وهي تكاد تختنق. وتركض نحو غرفتها، وهي تسعل بشدة، بعد أن تنف

تتأمل حنان قبح عضو زوجها المتدلي كخرقة، تصرخ: عليا.لم تعرف من أين يخرج صوتها. من حلقها أم من مسام جلدها؟ أم من األثداء واألذرع

التي تطايرت فجأة في فضاء الغرفة!أخذت تدق بجنون، باب غرفة الخادمة المغلق عليها من الخارج. تصرخ فيها الهثة. وفجأة قررت أن تتماسك. توقفت أصابعها عن معالجة الباب، وخطت نحو غرفتها، بعد أن أصدرت بصالبة، األمر للخادمة بالرحيل. أغلقت بابها وراءها. جلست تحاول رت أن تمحو عليا من حياتها نهائيا، السيطرة على لهاثها الذي يتصاعد من جديد. قرنة بقلم رصاص باهت، جاهزة للمحو وكأنها لم تكن يوما هنا. ستشطبها مثل كلمة مدوة. تمضي إلى ذلك الزقاق السريع. تسمع دبيب أقدامها في الممر، وهي تنسحب كلصالضيق القذر الذي خرجت منه، بين أكوام الصفيح، وبكاء األطفال الحفاة، األطفال العراة الذين يلعقون مخاطهم، ويتدلون من حاويات القمامة، كأغصان برتقال محروق.شعرت بارتياح من يستيقظ من كابوس، وهي تسمع صرير باب السور الخارجي. ثم

سمر يزبك

Page 111: Beirut39 Arabic Anthology

111

صت بخوف. تراقب خيال ساد الصمت. فجأة هبت إلى النافذة. أزاحت الستائر، وتلصعليا، وتتمنى أن يكون هذا الخيال حلما أيضا، مثل خط الضوء المائل. تحاول أن تفتح النافذة بيديها المرتعشتين، فتتحول إلى تمثال من الحجر، وتأنف أن تصيح باسم ها تراجعت عن قرارها في اللحظة رت بذلك، لكن عليا، وتطلب منها العودة. لوهلة فك نفسها. ضغطت ثانية بقسوة حتى طقطقت عظامها، وتأكدت أنها كائن من لحم ودم.

بقيت تراقب خيال عليا في الفجر األزرق، وتذهب بعينيها إلى البعيد، حيث الحت أسراب من الطيور الغريبة، وكأنها تودع الصغيرة المتعثرة في مشيتها. عندما اختفى ت في فراشها، وهي تتشمم رائحة شراشف خيال عليا، أغلقت الستائر، واندس

الليلة الماضية، رائحة القرفة.

***

إنه خط الضوء المائل! الضوء الذي سيجعل لياليها تغرق في العتمة، بعد أن نسيت إقفال باب غرفة السيدة، عندما انسلت من الطابق العلوي، إلى غرفة السيد.

في الوقت الذي كانت فيه حنان الهاشمي تنزل الدرج، كانت عليا ترتجف من رت أن سيدتها لحقت بها، وستكشف أمرها أخيرا. توقفت عن الحركة، الخوف. فكتنتظر أن ينفتح الباب، وتلمح الظل الذي يتحرك وراءه. تيبست يدها، وأرخت ثقلها من فوق جسد السيد، تهاوت بجواره. لم تستطع فك أصابعها المتشنجة حول شيئه. ر في القفز من النافذة، أو االختباء تحت السرير، لكنها لم تقو على الحركة، تفككأنها في حلم. كان خط الضوء هو الحقيقة التي جعلتها تمرق كسحلية من تحت

أقدام حنان الهاشمي.تستغرب كيف طارت من سرير السيد إلى غرفتها. وفي اللحظة التي ارتطم رأسها باألرض، ظنت أنها في كابوس تهوي فيه نحو حفرة ال قرار لها. لكن صوت األقدام الذي يقترب من غرفتها، جعلها تتأكد أن ما يحدث أمر واقع. وعندما أخذت السيدة تدق بعنف على الباب المقفل بإحكام، أفاقت وعرفت أن وقت اللعب انتهى. قها بأسنانها، ألن صوت اصطكاك أسنانها كان كانت تعرف أن سيدتها تريد أن تمزلة القبيحة مسموعا كصرير باب عتيق. تنشج مثل طفلة، تصرخ وتصفها بالمتسو

ذات البثور السوداء.

رائحة القرفة

Page 112: Beirut39 Arabic Anthology

112

قبل أن ترتدي ثوب النوم، وتمضي من غرفة سيدتها إلى غرفتها، كما طلبت منها ية تحول جسدها إلى كتلة من االرتعاشات حنان الهاشمي، كانت تشعر بغبطة سر

ر كيف كانت عينا حنان تفوران بالرضى والحب. اللذيذة، وهي تتذكلة القبيحة؟ كيف تحولت العينان الجميلتان إلى حريق؟ كيف تصفها اآلن، بالمتسوأخذت شفتاها ترتجفان، وهي تجمع ثيابها، بينما تهب من أطرافها رائحة برد غريب. البرد غريب في عز الصيف الحارق، عندما تنز قطرات العرق المالحة فوق الجلد، ش، لحكايات الموت فينتفض جسد عليا بإحساس جليدي عن صور في ذهنها المشوبردا، وسط شارع خاو ورصيف قذر. لذلك كانت تقضي نهاراتها تحلم بالليل الذي ر بالتفاصيل، تفاصيل الليل الذي تحبه، وتنتظره. الليل الذي لها إلى ملكة. تفك سيحوتطلبها فيه سيدتها بعد عودتها من إحدى سهراتها، ليل التواطؤ القادر على مالمسة

شغاف قلبها.تمسك صولجانها في النصف األول من الليل. تتحسس تاج سيادتها الالمرئي، تغفو قليلا، وعندما تصحو تتناوم في سريرها، مرة أخرى، جاهزة الستدعاء السيدة. في النصف الثاني، تتسلل إلى غرفة سيدها. تنام قربه عارية، تعبث بلحمه المترهل. ثم تغادره إلى غرفتها، ال يتأفف من عبثها بجسده، حين ال تفلح في جعله يستعيد ل االستلقاء بحضنه، بعضا من رجولته، وهو ما لم يكن يعنيها في شيء، ألنها تفضواإلصغاء إلى أنفاسه المحروقة... في كل مرة تفعل ذلك، وقبل طلوع الفجر بقليل، تعود إلى غرفتها. تستحم، وتنام كقتيلة، فهي تعرف أن النهار قادم، وستخلع عنها رداء السحر، وتعود إلى تلقي األوامر. لم تدرك أن خط الضوء المائل الذي نسيته في ل مملكتها إلى خراب، رغم أن عرشها ذاك، لم يكن يحتاج إلى الكثير غفلة، سيحومن المهارة، بعد أن تعلمت فنون الحياة، وكيف تستطيع أن تكون األقوى في السرير. وغاب عن خيالها، التفكير بمرور سيدتها الخاطف آخر الليل، إلى غرفة الطابق

السفلي، بعد أن تركتها تعوم في نومها. اللحظة التي نظرت فيها الشرر بعيني سيدتها، قذفت بها إلى ذكريات خوف استعادته تماما، الخوف من شيء مجهول لم تعرف كنهه يوما، مع أن طعم الخوف ة سكن قلبها منذ زمن بعيد، لكن غشاوة كانت تفصلها عنه، غشاوة رقيقة وهشلن تزيدها صالبة كل التجارب التي ستعيشها في سنواتها القادمة. فهي محفورة حتى أعمق نقطة في قلبها. ولم تستطع السنوات التي ابتعدت فيها عن عالم الطفولة،

سمر يزبك

Page 113: Beirut39 Arabic Anthology

113

أن تمحو من عينيها ذلك االرتجاف القلق، والتشنجات الحادة في وجهها، التشنجات جات التي عادت التي وجدتها حنان الهاشمي مصدر جاذبيتها، وهي نفسها التشنفي لحظات، إلى تشنجات رعب، تتحرك عضالت وجهها بشراسة... خدها األيمن يعلو، فيهبط الخد األيسر، وتنفرج شفتاها عن أسنان صغيرة، ثم تعض األسنان الشفتين، وترتجف العينان، وهي تحاول منع دموعها من التدفق، فتختنق بها.في ذلك الزمن الخاطف الطويل كمئة عام، وهي تهرب إلى غرفتها، تذكر كيف اختفى الضوء من عينيها، وكيف هربت بعريها من غرفة العجوز، وشعرت بسقوط في الهاوية، فأقفلت الباب، وألقت بنفسها على البالط، وأجهشت ببكاء أوقفه صوت

حنان الهاشمي، يأمرها بالرحيل.ر لو أنها خرجت من غرفتها، ورمت بنفسها في حضن سيدتها، فإنها كانت تفك. فالليل ما يزال ليلا، والنهار لن ستقلب السحر على الساحر، وستجعل قلبها يرقيطلع عما قريب، وما تزال هي الملكة الوحيدة. وعندما يطلع النهار، وتتحول إلى رت أنها تستطيع أن تفعل ذلك لثقتها خادمة من جديد، سيكون لها شأن آخر. فكبسحر الليل، لكن الشراسة التي رأتها في عيني سيدتها منعتها، فحملت حقيبتها بهدوء، وانسلت من الفيال، دون أن تنظر إلى الخلف. ولم تنتبه وهي تغادر، أن حنان

الهاشمي لم تزل واقفة وراء النافذة.

فصل من رواية »رائحة القرفة«، دار اآلداب، بيروت 2007

رائحة القرفة

Page 114: Beirut39 Arabic Anthology

114

عبد الرحيم الخصار

قصيدة

األمازيغي

أنا حفيد الملك األمازيغي القديمالذي مات غدرا بطعنة من أيدي الرومان

هوايتي أن أضرم النار في الجليدوأبني المصائد لطيور ال تصل األرض

يخطر لي أحيانا أن أخرج سمكة من النهر، ثم أعيدها إليهوأقف عكس التيار أنتظر موهما نفسي أني سأصطادها يوما ما

يخطر لي أحيانا أن أفتح أقفاصا في السطحوأطلق العصافير التي أفنيت سنوات في رعايتها

أنا حفيد الملك األمازيغي القديمال أعرف جملة من لغتي، ال أذكر شيئا عن أسالفي

سوى أن جدي كان راعيا في جبال األطلس، يطارد قطعان األرويةوعبر منحدرات اللوز كان يركض بالليل والنهار

ناصبا شباكه وفخاخه، لطرائد الوادي والغابةوكباقي النازحين ستقذفه المجاعة إلى السهول

ل بامرأة ستغدو يوما ما جدتي ليصلح أواني العرب، ويتغز

أنا حفيد الملك األمازيغي القديمال كتاب يذكر شيئا مما أنتظر

Page 115: Beirut39 Arabic Anthology

115

كل الكتب تروي دائما عكس الحكايةغير أني حين أنظر إلى وجه جدتي

كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمرقالت لي فيما مضى: أنت حفيد الجبال

فاتجهت إلى الجنوب، كما يتجه أركيولوجي إلى صحراء بال خريطةسألت الشيوخ والعرافين والرعاة والحكماء

سألت مطاريد الليل، والباحثين عن الدفائن، وحفاري اآلبارتقفيت آثار الساللة في السفوح، وعلى مقربة من األفالج

في منعرجات القرى ومشاعاتها، في الكهوف والمداشر والمغاراتلم أسمع سوى رجع صوتي كهدير ركام من الثلج ينهار

خبرتني عجوز تتكئ على عكازة ومئة عام وأكثرأن جدي كان حطابا، لذلك حمل فأسه قبل الرحيل

وفي حمأة الغضب أسقط شجرة العائلة.

أنا حفيد الملك األمازيغي القديمفي داخلي تركض قطعان من الجواميس إلى أن تتعب

تتعارك النسور، ويتناثر ريشها بين الجبالتعوي ذئاب في أكماتها

بيد أن صوتها القاسي ال يجتاز الوجارفي الداخل تموت أفكار كثيرة بنيران صديقة

والدي ينظر إلى صورة أبيه المعلقة فوق الدوالبوتسقط من شفتيه الكلمات ثقيلة في جوف الليل

لم تقطب حاجبيك وتحمل الخنجر والبندقيةوال أحد يطاردنا اليوم؟

لماذا تركت اآلخرين وتدحرجت من الجنوبمثلما تتدحرج صخرة من أعالي الجبل،وتتفتت على جراف في ضفة الوادي؟

األمازيغي

Page 116: Beirut39 Arabic Anthology

116

أنا حفيد الملك األمازيغي القديملم أرث عن أسالفي سوى نظرتي المرتابة

وإحساسي الدائم بأني أمشي على رصيف يرتجوأتكئ على حائط سينهار

أمد يدي إلى ظلمة ال نهاية لها، وأسبح في مياه غادرةفماذا أفعل فيك أيها العالم؟ وكل أمالكي قلم وورقة

ب الكلمات أسهر الليالي أشذأناشد صورا في األلبوم أن ترقص معي

وأفتح نافذتي في عز الشتاء على نوافذ مغلقةيركض الناس متلهفين باتجاه الحياة

وأنا يجرفني التيار باتجاه حياة أخرىيهتف الناس بأسماء بعضهم كما لو أنهم قديسون

وأنا أفضل أن أحيا صامتا على أن أهتف باسم أحدأن أكون أعمى على أن أبصر مواكب العته تمر بزهو أمام بيتي

أن أكون أصم على أن أسمع نشازك أيتها الحياةربما اعتاد أجدادي الجلوس في أعالي الجبل

خوفا من غدر السفوحلذلك أحيا في غرفة على السطح

أقرأ كتابا عن شعوب الماياوأسمع أغنية ألحفاد آشور

أطيل النظر إلى السماء، وألملم شتات النجومأجلس مثل بومة على كتف العالم

وأخاف أن أسقط فتدهسني أطرافهأخاف أن تجتثني يد ما، وتطوح بي إلى سهب سحيق

أنا حفيد الملك األمازيغي القديمالذي ساد هذه األرض قبل ألفي عام

عبد الرحيم الخصار

Page 117: Beirut39 Arabic Anthology

117

والذي ال أملك له صورة على جدار غرفتيفقط أتخيله شبيها برجال األساطير

بصولجان من عاج الفيلة، وتاج من الريش والذهبرأيته مرة في منامي بعمامة رجل كردي

ربما أشياء كثيرة تربطني باألكرادغير أني أتنفس هواء هاته البالد كما يحلو لي

وأدب كسائر الخلق في المنحدراتلكنها رغبة الماء في أن يعرف نبعه

قبل أن يجرفه الشاللرغبتي أنا في أن ألتفت إلى الوراء

كي أجلو وجهتيلتبدو واضحة مثل صورتي في المرآة

من ديوان »أنظر وأكتفي بالنظر«، دار الحرف للنشر، الرباط 2008

األمازيغي

Page 118: Beirut39 Arabic Anthology

118

عبد الرزاق بوكبة

مقاطع من رواية

جلدة الظل

تساءلت في نفسها، بعد أن توقفت عن الغناء، وهي تغزل برنسا لوحيدها، في ترعة الدار: أليس لي هدف في الدنيا، إال أن أزوج ذيابا؟، ثم أطلقت نظرة إلى مقبرة جه، العمري، هناك على الربوة، فأجابت عن سؤالها فورا: نعم. ليس لي هدف، إال أن أزوهكذا وعدتك صبيحة زرت قبرك أول مرة، وهكذا سأفعل، أما أنا فقد نسيت نفسي، ولم أعد أذكرها إال في ولدنا، تدري؟ كرهتك يوم جاءني نبأ موتك، في معركة أعلى الجبل، فلم أبك، قلت لم يكن من حقه أال يعود، وقد وعدني بذلك، أو يذهب إلى حيث ال يعود، وال يأخذني معه، لكن عندما نبهتني أختي التي كانت نفساء بالجازية، إلى أنك عدت فعال من خالل ولدك، سامحتك من قلبي، وسخت في بكاء صامت، لم

ينقطع إلى يوم الصوف هذا.

1

الزمان: صيف 1847.المكان: شجرة الخروب العليا، حيث تجتمع جماعة العقالء، في أوالد جحيش،

ويحفظ الذراري القرآن العظيم.تساءل حلفانة كبير العقالء، بعد أن جرهم للصالة على النبي:ـ هل يبقى لهذه السبحة معنى، إذا طاحت منها حبة واحدة؟

بادر العاقل فالح، الطاعن في الحكمة والعمر:ـ عدد حباتها موروث، ومن الخيانة، أن ننقص منها شيئا.

ز عليه النظر: كافأه العاقل حلفانة، ألنه أعانه على التمهيد، فرك

Page 119: Beirut39 Arabic Anthology

119

ات ـ كذلك القرية، أيها العاقل فالح، تبقى ببقاء أهلها، وتزول بانفراطهم عنها، كحبالسبحة هذه، وعليه... أقترح أن نجمع الفتيان، فنحملهم على أن يقسموا، على

هم األول حسن بن جحيش، أال يغادروا القرية، حتى يدفنوا فيها. مصحف جدواصل العاقل فالح، بعد أن تلقى إشارة مدسوسة، من العاقل حلفانة: يجب أال ننسى، أن أهل قرية أعلى الجبل، كبروا وهم يعتقدون أن قبر جدتهم األولى واشية بنت ماعيه،

موجود في أوالد جحيش، وخلو القرية من أبنائها، فرصة لهم، ليستولوا عليها.تنحنح العاقل عصمان: قولوا هذا الكالم للفتيان، أما نحن...

قام متعثرا في برنسه، وانصرف دون أن يكمل جملته.

2

لم يتخلف فتى واحد، من فتيان أوالد جحيش، عن موعد العقالء، تحت شجرة هم جاؤوا، وهم ال يدرون أن الجماعة، إنما دعتهم، ليقسموا أال وب العليا، لكن الخريغادروا القرية، حتى يموتوا فيها. لذلك فقد كثرت الهمهمات بينهم، عندما واجههم العاقل حلفانة بذلك، حتى إن بعضهم، بيت أال يغضب الراعي، وال يجوع الذيب، ة، لكنهم تفاجأوا، بأن القسم يكون على المصحف الذي فيقسم من غير أن يعقد النيات، لقد كبروا على كتبه جدهم األول، حسن بن جحيش قبل قرون، فصححوا الني

أن ال لعب، مع مصحف الشيخ العزيز.غير أن فرحة العقالء بهذا اإلنجاز، لم تكن كاملة: الفتى ذياب... تعمد أن يكون

األخير في الصف، وضع يده على المصحف، ثم سحبها، رافضا أن يقسم.

3

تها قبيلة أعلى الجبل، في ليلة ثلجية على مات أبوه في إحدى الهجمات التي شنأوالد جحيش، وقد ولد في اليوم نفسه الذي دفن فيه أبوه.

م منها. رأت أمه في المنام، شيخا شديد بياض الشعر واللحية والفرس، يتقد أصيبت بالخوف على رضيعها، وعلى نفسها، فراحت تركض، هاربة من الشيخ

جلدة الظل

Page 120: Beirut39 Arabic Anthology

120

الغريب، الذي حث فرسه، على أن تسرع حتى يلحق بها، إذ كانت تجري، وذياب يهتز بين ذراعيها، ويبكي.

- توقفي يا مخلوقة، توقفي يا أم ذياب.زاد منسوب خوفها ودهشتها، ألن الشيخ الذي لم تعرفه، عرفها ورضيعها الذي

ولد عشية اليوم فقط. ظنته هو الموت جاء ليأخذه منها، إذ كانت تسمع أن الموت بلون الكفن، وعندما لم تتوقف مثلما طلب منها، أمر فرسه، فطارت في السماء، حتى سبقتها، ثم هبطت مباشرة أمامها. مد الشيخ يده إلى حضنها، وخطف الصبي، طائرا به بعيدا في األعالي، وب العليا، وإذا بالشجرة بينما بقيت هي تنوح، وتضرب رأسها إلى جذع شجرة الخرتكلمها: ال تخافي يا أم ذياب.. فإن هذا الشيخ هو سيدك حسن بن جحيش، وقد أخذ ابنك، ألنه أحسه أكثر أحفاده شبها به، وسيعيده إليك، بعد أن يشق رأسه، ويضع

ين. ه، فيصبح بمخ فيه مخدت رضيعها، فوجدت رأسه قد أصبح أضخم مما كان ا صحت في الصباح، تفق فلمجيم، وطلبت سي سالم رحمه اهلل عليه، فاستعاذت باهلل العظيم، من الشيطان الرت عليه منامها، فقرأ وب العليا، وقص معلم القرآن العظيم، من تحت شجرة الخرها، ثم عصرها في فم الصغير، طالبا منها أال تقص األمر، حتى الفاتحة على تمرة مص

على نفسها، وإال فإنه سيصاب بسوء.صاح كبير العقالء منفوخا بالغضب:

- كيف ترفض أن تقسم على مصحف سيدك بن جحيش، أال تغادر القرية، مثلما أقسم الجميع؟

يه، إذ كان كل انكمش ذياب في صمت كبير، جاءه من صراع في رأسه، بين مخمخ يحاول أن يجيب عن السؤال.

المخ الكبير للمخ الصغير: األرض ملك اهلل، ونحن عباده، ولنا حق فيما يملك، بل لذلك خلقنا، فلماذا نحرم أنفسنا، من أماكن أخرى، يتاح لنا أن نقيم فيها؟، الوطن ليس التراب الذي نولد عليه، بل هو ذاكرة التراب التي ترافقنا، إلى كل مكان نذهب إليه، نعرف وجوها جديدة، نفوسا جديدة، عقولا جديدة، جبالا جديدة، وحين

نحن، نجلس في زاوية من زوايا الليل، ونبكي في صمت لذيذ.صاح كبير العقالء بغضب أكبر:

عبد الرزاق بوكبة

Page 121: Beirut39 Arabic Anthology

121

- أجبنا يا ذياب، أهنتنا بعدم القسم، فال تهنا بصمتك.قال المخ الصغير للمخ الكبير، في رأس ذياب:

- إذن لماذا نغادر الوطن، ما دمنا نبكي عليه في النهاية؟المخ الكبير: كي نقول له، إننا لم ننسك، ما زلنا أوفياء لذكراك، رغم أننا وجدنا

أشياء جديدة ليست موجودة فيك.صاح العاقل فالح: إذا لم تجبنا، فإننا سنربطك إلى شجرة الخروب، ونمنع عنك الطعام

والشراب... لماذا لم تقسم مثلما فعل الجميع؟كاد المخ الصغير أن يصرخ من الخوف: عذرا يا سادتي... لقد أخطأت، وها أنا أقسم

لكم أنني لن أغادر الجبل حتى أدفن فيه.لوال أن المخ الكبير، وضع يده على فمه، ومنعه من الكالم:

- هذا استسالم... ال تقسم على ما ال تضمن الوفاء به، من أدراك أنك لن ترحل إلى مكان آخر؟، األقدار بيد اهلل.

هم سيربطونني إلى الشجرة، فتأكلني رد المخ الصغير، وهو يرتعد من الخوف: لكنالذئاب؟ هل نسيت ذلك الذئب الضخم الذي اصطاده الحواس؟ كان يخيف، حتى وهو ميت، فكيف إذا أتاني حيا، وأنا مربوط؟، عندما رأيته ثم نمت، رأيت نفسي بين ق القلب، مجموعة من الذئاب، تحت شجرة، كانت تحيط بها، وتصدر أصواتا تمزني، التصقت بالشجرة، فاقتربت أكثر، زدت التصاقا، فازدادت اقترابا، كادت أن تعضفأدركت أنه يمكنني تسلق الشجرة، فتسلقت... زادت حركاتها، ونضج عواؤها،

وألنها لم تغادر، فقد بقيت فوق الشجرة، حتى صرت شيخا.ضحك المخ الكبير: أرأيت؟، لقد علوت بهم.

صاح العاقل عصمان: اربطوه.أضاف حلفانة كبير العقالء، وقد امتعض من كون عصمان، سبقه إلى القرار: وال

تتركوا أحدا يقترب منه.

4

حاول ذياب أن يختبر مدى قدرته، على أن يفك نفسه، فأدرك أن ذلك مستحيل.

جلدة الظل

Page 122: Beirut39 Arabic Anthology

122

شعر بجفاف في حلقه، فأطلق صرخة سمعها الجبل كله، ثم راح يحس بأنه يفقد تها الغيوم، وأرضا كانت تحتفل بالربيع، أمست الوعي، رأى سماء كانت صافية، غطال تتخللها إال الجذوع، وسمع رعدا ممتلئا بالغضب، ومطرا مأل األرض، فأطلق صرخة تكاثرت أصداؤها، حاول أن يفتح عينيه وهو يمسح عنهما البلل، فرأى شيخا شديد بياض الشعر واللحية، يركض نحوه، على فرس بيضاء تلتهم األرض بحوافرها، مرفوقة بغضب الرعد والبرق، وصلت أمامه، فأطلقت صهيال كثرت أصداؤه، ترجل عنها الشيخ، وأخذ يمسح المطر عن جبهة ذياب بطرف برنسه: هل أنت جائع؟، انظر ما

الذي جلبت لك: عنبا ورمانا، ثم راح يطعمه حتى شبع وارتوى.صاح ذياب:

- أطلق سراحي.نظر إليه الشيخ في هدوء حزين:

- إال هذه... ال أستطيعها.تساءل ذياب، وهو مخنوق بالدموع:

- لماذا؟- حتى تتعلم كيف تحرر نفسك. كل األمور يمكن أن يساعدنا فيها اآلخرون، ما عدا

أمر الحرية.قال المخ الكبير، للمخ الصغير، في رأس ذياب:

- يا لك من غبي، لماذا أنت خائف؟- من الذئاب.

- الشجرة تتوسط القرية، وكالبها لن تسمح لذئب بالدخول.- إذن من الكالب.

ها تعرفك، وهي لن تخدعك، هل سمعت بكلب خدع من يعرف؟ - كل- ومع من ستنام أمي؟

- ستتعود على أن تنام وحدها، بعد أيام، مثلما ستتعود أنت.ضرب الرعد الجبل، فعاد ذياب إلى وعيه.

مقاطع من روايته االولى »جلدة الظل«، منشورات ألفا، الجزائر 2009

عبد الرزاق بوكبة

Page 123: Beirut39 Arabic Anthology

123

عبد العزيز الراشدي

فصل من رواية

بدو على الحافة

سجل رجال الدرك القادمون من المركز القريب، المستاؤون من البرد ورعونة ارة بيضاء أنيقة، دون أرقام، تصدم عمود الكهرباء الموقف، تفاصيل حادثة الليلة: سيالخشبي مما تسبب في انقطاع األسالك وتشابكها. وقد كانت عند التحاقهم بالموقع فارغة من الركاب رغم أنها جديدة، أعطالها بسيطة، وليس ثمة ضحايا على ما

يبدو.صرفوا جمهرة القرويين القالئل. تأملوا كل شيء، وسجلوا مالحظاتهم: درجة ميل ارة، انغراسها في الوحل القليل، قوة االصطدام المتوسطة المفترضة التي أسالت السيالبنـزين على األرض وأعاقت حركتها، التوقيت التقريبي لالصطدام، تفاصيل أخرى ال يطرقها غير مهووس، ولم ينسوا رغم النوم الممسك بأجفانهم سؤال الشهود، لكن

ما من أحد عاين الحادثة في وقتها.ارة الجديدة، بعجالتها المتينة، تتسبب في إيقاظهم في كان كل شيء أمامهم: السيارة ومتاعهم؟ متخففين من الدجى، ثم ال يجدون الركاب. أين ذهبوا تاركين السي المقاعد الوثيرة الساخنة في ليلة خريفية باردة يرتجف الناس فيها تحت األغطية؟ارة، وجدوا به كيس زرع وفأسا ومعوال غريب الشكل، حين فتحوا صندوق السي

وكان ثمة بعض الطعام واألوراق الممزقة.مر وقت طويل ولم يستطع أحد من أبناء القرية ادعاء امتالك تفاصيل ما حصل. سة، لكن الذين رووا الحادثة على الدوام، بمالمحهم المندهشة وعيونهم المتحم، عند كل حكي جديد، غرامهم اإلدهاش، ممعنين في التفاصيل، بإتقان زائد مملأكدوا أن جسد الصحراء ال يعزف سوى األراجيف. فلقد تساءلوا بعميق اليقين: هل كان الضباب هو الذي تسبب في الحادثة؟ هل كانت الظلمة أم الخمر؟ أم ربما كانت

Page 124: Beirut39 Arabic Anthology

124

السرعة؟ ثم أجمعوا، حين زاغت االحتماالت، على قوة الصدمة، إذ اهتز لها كل النيام واختلط صداها بأحالم بعضهم .

لقد وجد الحكاؤون األمر تسلية يقضون بها سحابة األيام التي ال تمنح جديدا. فهاهم نون في إطالق التفسيرات: فقائل: إن بعض السائحين من النصارى * جاؤوا إلى يتفنالمكان فأصيبوا في الحادثة ثم عادوا إلى بلدهم وهم، الشك، سيؤوبون مرة أخرى د أن النصارى ال يأبهون للمال والحديد، وأن ارة. وآخر يقاطعه، ويؤك السترداد السيعودتهم محال. وقائل: هم لصوص جاؤوا يبتغون محصول التمر في وقت نضجه، لم يفقهوا سر المكان، ولم يطلبوا التسليم ألهله، فأصابتهم لعنة من تخفى من رجال البالد.

أفاض الناس في الحديث واألسئلة: من أين جاء الغرباء؟ ما قصدهم وما قصتهم؟ ت بهم الدهشة وهم ينفذون إلى سكون المكان؟ أم عوضت الصدمة هل ألمارة غالية؟ مم كانوا يخافون؟ هل لصوصا دهشتهم؟ لـم ولوا األدبار تاركين سيلوا الفرار؟ أم كانوا؟ وهل من زعيم لهم؟ هل لملموا جراحهم، وقت االصطدام، وتوس أن الصدمة من تدبيرهم لصرف األنظار؟ فلربما كانوا يرغبون في إخفاء شيء ما؟لقد أفاض القرويون في األسئلة طوال الوقت وفي كل األمكنة، ممضين سحائب أيامهم في الثرثرة والخصام: في الحقول اليابسة منذ زمن، حين يعمدون إلى ربط الحمير إلى النخيالت الصغيرة، مقرفصين كيفما اتفق، أو مستلقين يسخن بينهم الجدل. وأحيانا، يتدلون بأقدامهم فوق الساقية الطينية، ويسترسلون. متنقلين من موضوع إلى آخر: من قلة الماء التي تعذبهم وتجعلهم يحدقون في كل األنحاء بشرود، إلى غواية السفر والنساء. وقرب المسجد، أمام الصومعة العالية اإلسمنتية، التي ال تتوافق مع المسجد الطيني، دبر كل صالة يقتعدون الثرى.

السهر، هواة من منهم، البعض يهرع لليل، ا يجن حين أخرى، أحيان في الحادثة حسب رون يفس ويتحاجوا. كالمهم ليكملوا الوحيد الحانوت إلى واالهتمام الشجاعة بعضهم ويركب بأشجانهم، تفاصيلها تختلط اعتقادهم، وهو يتوغل، فيومئ لعالقة مبهمة بالغرباء. وفي المطابخ، تقلب النساء الجمر ة بالدهشة، وأصوات اختالفهن تتعالى فتطفئها الريح. واالحتماالت، عيونهن ضاجم »المحجوب«، الوافد الجديد على ها قد تنافس الناس في تفسير الحادثة. ثم تكلالقرية من الصحراء، الساكن الذي لم يندمج بعد تماما مع إيقاع حياتهم، المنبوذ، فاستفاق الناس على الدهشة القصوى، وتعجبوا كيف نسوا االحتمال األقرب. ثم

عبد العزيز الراشدي

Page 125: Beirut39 Arabic Anthology

125

ب الخبر إلى األطفال، لم تفارقهم با للخطر. وحين تسر خبأوا أوالدهم بعناية تحسافات، ثم الرعشة، وسارعوا إلى مقارنة أياديهم ببعضها، قارئين الكف كما تفعل العر

تباهى بعضهم بأنه ال ينفع الغرباء في مبتغاهم.اشون، فلم يصدقوا رواية الرجل، بل تمسكوا بكون الغرباء جاؤوا بغنيمة أما الحشكبيرة: فقد اعتادوهم يقطعون المسافة من الشمال حتى الجنوب مشيا، يجيؤون بما ر فتكون لهم وألصحابهم من ساكنة الواحة الغلبة والشأن الرفيع. لذلك عمدوا تيسارة، وفي صندوقها، وقد إلى التنقيب بعين الحسرة عن قطعة حشيش قرب السيوجد بعضهم القليل، فتأكد لهم الكالم، بينما اآلخرون لم يظفروا سوى بكيس الزرع

والمعول القديم غريب الشكل والفأس.ثم أعياهم البحث فاستسلموا: سرقوا أغشية الكراسي، واألسالك الصالحة لشيء ارة عرضة للعزلة والبرد. كم ما، وقطع المحرك. سرقوا المعول والفأس وتركوا السيلعنوا في جلساتهم الحميمة، في قمة الجبل القريب، الظرف السيئ الذي أضاع لهم

شهوة معانقة »السبسي« ومتعة حرق الحشيش وتفتيته في باطن الكف .والمحجوب المفتون بحكايته لم يتوقف. غجريا كان، من الصحراء، استقر بالقصر الطيني القديم الموغل في الوهن، الموشك على التداعي، بعد أن غادر منازله السكان غات االختباء لالستقرار خارجا، في األرض الرحبة الممتدة دون أسوار، ألن مسومن الحروب والضغائن غابت، وإن لم تفتأ تتوهج بين الحين والحين. كان يحكي ة البيضاء ذاتها، والعينين الحازمتين، حكايته ويفسر الحادثة كما يريد، باللحية الكثوالحكايات التي ال تنتهي. من يهتم لكالم هذا الرجل المخرف؟ كبار القرية، عقالؤها، أصحاب األرض والجاه، ممن استوطن القرية أجدادهم األولون خاضوا الحروب في ما بينهم، وواجه بعضهم النصارى آن االستعمار، وهادنهم البعض وأصبح المال ة مؤكدة في كل فرح أو حزن، لون مجلس األعيان. هم سن والبنون لعبتهم. هم يشكهم يعرفون كل الحكايات من األلف، يعرفون ما يروج وما ينبغي. والمحجوب لعبة الصبيان، يقذفونه بالحجارة واللعنات فال يردعهم أحد. يحلق رؤوس الناس أمام الجامع، يفتت النخيل ليغدو حطبا ويقبض، يصلح النعال، ويثرثر... وهو ماض في ارة أربعة في عرفه. يفسر ذلك بسخونة المقاعد في تلك التأكيد: كان ركاب السيالليلة الخريفية الباردة، وبقشور الموز األربعة على الطريق التي لم يعرها اهتماما أحد. والسائق بالتأكيد هو السبب. كان الغرباء يسيرون ولم يصبر بعد أن دهمته

بدو على الحافة

Page 126: Beirut39 Arabic Anthology

126

ارة ل المزاج فلم يصغوا، فقرر المغامرة: ترك السي النشوة، طلب منهم التوقف ليعدتقودهم بعد أن اطمأن للمسار السلس في فراغ الطريق الجنوبي المتواطئ، استل قطعة الحشيش من جيبه، وبدأ في حرقها، غيمت نشوة الحشيش وضوء الوقيد ارة تلعب مع الريح. الصور أمامه، تناطحت أمام عينيه العوالم واألحالم، فبدأت السيلم يكونوا لصوصا، وال مرضى ببرد العظام جاؤوا إلى رمل الواحة التي تشفي. ولم ر. هل تخبئ هذه الواحة جديدا غير يكونوا مستكشفين كما أشاع البعض وقديباسها؟ كانوا عارفين بمبتغاهم، لهم حكمتهم ورزانتهم، يقودهم شيخ وقور حازم

مسيطر يتكلم باقتصاد.لقد توقفوا، حسب ما حكى »المحجوب«، في محطات كثيرة، قبل الوصول إلى القرية، تهامسوا في ما بينهم، مدققين في الخرائط التي يعرفون جيدا كيف يقرؤونها، مدركين بحصافتهم عناء الوصول إلى المبتغى، وقد رجح، أن يكونوا سافروا بذاكراتهم إلى حدود أزمنة أخرى، إلى قبة قديمة لولي بركاته ال تحصى أو موعد موسم أو مكان زاوية أو سوق شعبي اجتمعوا فيه على عجل ليتهامسوا حول المراد. إلى هناك حيث تقام النذور لألولياء وتقام األضاحي. إلى الكتب القديمة، حيث التلصص، ودربتهم في إقناع الباعة من لصوص الذخائر والجلود القديمة.يدفعون الكثير للظفر قين باألكثر. لقد تكلموا، ال شك، بخفوت كما تفعل العرافات والنسوة الخوافات، متحرشوقا إلى امتالك الخرائط التي تفضي. زادهم صبر قليل ولهفة تحرق الدواخل. يا ون المسافات في الليالي المظلمة، وسط الحر أو لتعبهم اللذيذ المرعش وهم يفتض، بحثا عن الخرائط التي تنجي! غرباء تمرسوا بالحديث مع الجميع بحميمية القرهوا السبل ويتيه الفضولي، يعرفون جيدا كل الكذاب، شارحين ما ليس قصدهم ليموالتفاصيل. يعرفون أين يضعون الخطى. حكى كل شيء عنهم. من لون الثياب حتى ون ة، يحن ون: الدرهم حبيبهم. القدور القديمة تجلب لهم المسر األطعمة التي يحب

إلى رائحة العتاقة في اصفرارها، غنائمها ترعش الفؤاد.وا موا على النيام في كل القرى التي مر وقال المحجوب إن الغرباء، دون شك، تهكفوا كثيرا، بتواطؤ خفيف هذه المرة، لبساطة المباني في قرى الصحراء. منها، وتأسكم راقهم سكون الليل الوديع ونقاء الجو. جاؤوا عازمين على االنتصار في معركتهم، دهم الشوق للمال، ال يركبون المخاطر إال ألنها تستحق. سالحهم المعول والفأس يوحون األلغاز والزرع الذي ينثرون ليدلهم على مكان الحفر، وزادهم الخرائط. سيفك

عبد العزيز الراشدي

Page 127: Beirut39 Arabic Anthology

127

هم زمان أو مكان. بدا الصحراوي متأثرا وهو يحكي عن ويعودون غانمين، ال يهمته. والناس يعرفون تخريفه، حين هؤالء الغرباء، كما لو كان معهم، كما لو كانت قضيانية، ويتغنى بعالقات نسائية غامضة، وصداقات تفوح منها روائح ينظم األشعار الحسالعشوب والهجر ابتلعتها الرمال. يعرفون عومه العميق في بحور االستعارة حتى يبكي، فقد كان شاعرا. يعرفون حكاياته عن الصحراء التي يختلط الجد فيها بالهزل، لذلك لم يهتموا. لكن اإلشاعات تتسرب، والدخان ال ينمو دون نار، وال يملك أحد إيقاف األسئلة. حتى إن قائد الدرك - الذي يقضي سحابة أيامه، في لعب الورق مع الدركيين الساهرين على األمن في الواحة، وشرب الشاي الثقيل، منتظرا أن يغادر يوما - فكل لون حل مشاكلهم بينهم، ويخشون ة حول النهر هادئة، والناس يفض القرى الملتف

المخزن وال يثقون به، أغرته الحكاية، فبعث للحاكي خفية، حسبما أشيع.أشرقت شموس، وانطفأت أخرى. ومرت أيام وليال. وبين البداية والنهاية زمن ارة. ظلت هامدة، كلوحة، يتأملها الرائح يتمدد، لكن رجال الدرك لم يرفعوا السيوالغادي. أضحت مشهدا يوميا في القرية الجنوبية النابتة في الخالء بين الرمال تابة في أيامهم يتخذونها لعبة. هاهم يتدربون ش الر والجبال، ثم بدأ األطفال الذين تعشعلى السياقة، يركب البعض ويدفع آخرون، متناوبين على ذلك، مختصمين حول

أدوارهم كل الوقت.ثم يجتمع الرجالـ الذين يخبئون أوالدهم حذر ما يقولـ أمام الجامع، بعد إدراكهم فداحة األمر لسن القوانين: ال خروج بعد صالة العشاء، ومن يخرج يعط »النصاف« ويطعم ستة أفراد من القبيلة في بيته حسب العرف القديم الدائم. وتبدأ المراقبة ون لدم ارة يهتم الدورية. لألطفال طبعا نصيب من كل حكاية، فأصحاب السياألطفال أكثر، الدم وسيلتهم في اكتشاف المبتغى. لكن نصائح اآلباء وعقوباتهم ال

تهم، واألطفال يلعبون.رين كالم الحالق بعد الغروب متوجسين قليلا من كل غريب عليه آثار السفر، متذكببعض الرعشة. يحتاطون من كل زائر أو غريب، من باعة المسك والزعفران على رون من كثرة التحديق الخصوص، ممن لهم مالمح ال تطالها السمرة، الذين أصبحوا يتذمارة، يحلق واألسئلة. والرجل يحكي في كل وقت يوميات الغرباء الذين جاؤوا بالسيرؤوس الناس ويحكي، يصلح النعال ويحكي دون كلل: ما يشربون، وما يأكلون، وما يفعلون. دون أن يسأله أحد أين يختبئون، كي ال يفسد متعة الحكي. تكبر صورته

بدو على الحافة

Page 128: Beirut39 Arabic Anthology

128

في القرية ويصبح حديثها، يضحك الناس من تخريفه المعتاد ويحسده البعض على اتساع المخيلة.

ثم تسير األيام بالناس، يستيقظون ليصنعوا يومهم، منهم من عششت الحكاية في ه الزمن واقتاده اليومي إلى ركن قصي. وقيل إن ذهنه، يحكيها ويزيد، ومنهم من جرور ارة المهملة وأهداها لعروسه. عمود الكهرباء أصلح، والن عريسا نزع مرآة السير، والزمان يمحو كل شيء. لكن هل يتوقف المحجوب عاد مع التوقف المعتاد المتكرعن الكالم حرفته؟ بالطبع ال، فلطالما أكد، أمام الجامع وقرب حانوت البقال، بجدية قل نظيرها أن الغرباء، من فاتحي الكنوز، وقد جاؤوا لفتح واحد قريب، وأن دم طفل ع خطوط يده متطابقة يلزمهم: سيذبحونه وينثرون الزرع حول مكان الدم، ليتجماش، أصغر الغرباء، سبب حول مكان الكنز فيحفرون. وأضاف أن السائق األرعن الحشالحادثة. ثم يضيف – بينه وبين نفسه هذه المرة- إن الحياة، إن األيام، ستفضي ثين من أعيان القرية، هؤالء الذين ال يعرفون قيمة الرجال، ستفضي إلى هؤالء المخن

إليهم قريبا بما كانوا يجهلون.

فصل من رواية »بدو على الحافة«، منشورات دائرة الثقافة واالعالم، الشارقة 2006

عبد العزيز الراشدي

Page 129: Beirut39 Arabic Anthology

129

عبد القادر بن علي

قصة قصيرة

زيارة إلى المجزرة

كانت األمور ستسير على نحو آخر، لو لم يذهب مع أبيه لزيارة المسلخ. لو لم يحدث ذلك لظل مقيما في نفس الحي الذي يقطنه أبواه، ولربما تزوج من ابنة خالته، الفتاة التي أجرت عملية ألمعائها الدقيقة، كما أخبرته أخته، وجاهدت عائلتها على إبقاء ذلك األمر طي الكتمان، خوفا من أن تضيع على الفتاة فرص الزواج، إذ ال أحد

يرغب بالزواج من فتاة لديها شق في بدنها.كان أبوه قد جاء إلى أوروبا في الستينيات، في البدء إلى إسبانيا ففرنسا ثم استقر

ر، بعد ذلك، في أية سنة جاء إلى أوروبا. في هولندا، ولم يعد يتذكال تحسب كم من الوقت مضى على مجيئك، المهم أنك موجود هنا. لقد اندثرت بدورها أسماء المدن التي عاش فيها. إنهم يعيشون هنا اآلن، وليس هناك. ويعنون

بكلمة )هناك( القرية الواقعة على البحر حيث ولد أسالفه.أبوه، عمران، الذي زرعه في أحشاء أمه عند قدومه البيت في إجازة، لم يعد

ر الكثير عن تلك السنين. يتذكل، فيما لقد مضت بسرعة مثل فصل رتيب لم تهطل فيه دفقة مطر واحدة لتتحو

بعد، إلى عالمة فارقة يمكن أن تخطر في الذهن. لم تكن لوالده هوايات إلى جانب حرفة إصالح أجهزة الراديو »الترانسستور« العاطلة. لم يكن مغرما بالموسيقى. لم يكن مولعا بالسهر خارجا. لم يكن يحب معاشرة الناس. وكان أيضا ال يحب النوم المتواصل. في المنزل لم تكن توجد أجهزة

تنبيه. كان أبوه هو من يوقظه عندما يحين الوقت.كان االبن، كلما استيقظ من النوم، وجد أباه مشغولا بإصالح جهاز ما. لقد تعلم األب إصالح أجهزة الراديو العاطلة بعد أن دأب على فكها وإعادتها مجددا أكثر من

Page 130: Beirut39 Arabic Anthology

130

مرة. وبعد أن مرت بين يديه أجهزة عديدة، أصبح يعرف األدوات من األلف إلى الياء، والناس يقصدونه بأجهزتهم العاطلة، حين يصيبهم اليأس من إمكانية إصالحها، في محاولة لمنحها فرصة أخيرة للعودة إلى الحياة، ومنح أبيه فرصة إلثبات عبقريته. وبالفعل كان األب ينهمك في عمله بحماس عجيب، وكأنه يحاول إصالح شيء ما

في نفسه.ظل يصلح راديوات اآلخرين، مجانا حتى أدرك أنه يستطيع شراء راديوات عاطلة،

يصلحها ثم يبيعها.كان دائم التجوال في أسواق بيع األغراض القديمة، كل أسبوع، منذ أن تفتتح في الصباح الباكر. وحين تقترب مواقيت انتهاء العمل في تلك األسواق، يبدأ بسؤال الباعة إن كانوا يرغبون إعطاءه ما بحوزتهم من أجهزة راديو عاطلة، دون مقابل. وغالبا ما كان يحصل على تلك األجهزة بأثمان ال تذكر، حيث الباعة يسعدون أيضا

حين يمكنهم الخالص من أعباء تلك األجهزة.كانت تجارة ظريفة. ربما خمسة أجهزة في الشهر، أو نحو ذلك. هكذا سارت

األمور على ما يرام إلى أن ظهرت األجهزة الحديثة )الديجتال( في األسواق. قال األب:

- »هذه ال تحتاج التصليح، ألنها لن تتعطل أبدا.«وعندها بدأ األب بتصليح راديوات لن تباع أبدا.

مرة في الشهر كانت تدهمه استثارة خفيفة. عندها يسرع بشكل جنوني للخروج من المنزل. وحين يعود يستلقي مباشرة على األريكة وعالمات اإلنهاك بادية عليه. ولم يتحدث األب أبدا، بحضور االبن، عن المكان الذي ذهب إليه، بينما االبن كان يالحظ

فقط أن أباه منفعل، وكأنه خاض غمار نقاش حاد، في موضوع شائك ومستعص.- »خذني معك.«

قال االبن ألبيه ذات ليلة أثناء جلوسهم إلى مائدة الطعام. تظاهر األب بأنه لم يسمع، واستمر في المضغ دون انفعال.

- »خذني معك.« قالها االبن مرة أخرى بصوت أقوى.

ه. - »إلى أين؟« سألته أم

عبد القادر بن علي

Page 131: Beirut39 Arabic Anthology

131

- »إلى حيث يذهب.« ا: ا بمضغ طعامه. قال االبن بصوت قوي جد لم يجب األب وظل مستمر

- »خذني معك.« - »ماذا دهاك؟«

د، بالملعقة التي في يده، ضربة محكمة إلى وجنته. تراجع االبن قال األب وسدبته الملعقة في وجنته، لم يستسلم. برأسه إلى الخلف. ورغم اللهيب الذي سب

- »خذني معك.« رها االبن بصوت أكثر ارتفاعا وبحزم أشد. نالته الملعقة مرة أخرى في نفس كرالمكان. آلمته الضربة. دس األب الملعقة مرة أخرى في الطعام، فقد كان يحب تناول

الطعام بالملعقة. تحسس االبن وجنته بيده، صارخا:

- »خذني معك.« ضربه أبوه بالملعقة مع ما فيها من الطعام. صرخت األم:

»ال داعي لذلك. لقد وسخت طاولة الطعام. أليس في إمكانك أن تضربه في مكان آخر؟« دت إلى الجانب اآلخر من وجهه. سال الطعام على وجه االبن. كانت الضربة قد سد

بدا على األب أنه اكتفى بذلك. نهض قائلا: - »لم يكن ينبغي أن أتناول الطعام مع آدمي مثله.«

لماذا طلب من أبيه مرافقته؟ هل هناك عالقة باالبتسامة الودودة التي تعمر وجه األب، ونغمة الصوت البشوش التي يعامل بها األوالد حين ينتهي مفعول سحر الزيارة الشهرية الغامضة، ويرجع إلى سباته المعتاد؟ أم ألن االبن يشعر بأنه من خالل

لع على ما ال ينبغي معرفته؟ صحبة أبيه يمكن أن يط- »لماذا ال يرغب أبي باصطحابي معه؟«

سأل االبن أمه.- »إلى أين؟«

- »إلى حيث يذهب مرة في كل شهر.«- »ال أعرف عما تتحدث.«

لم تقل األم ذلك رغبة في الكذب أو بغية التسويف والمماطلة. كانت تريد أن ة. تفهمه بوضوح أن ثمة أمورا أكثر أهمية من اهتمامه بمعرفة أحوال أبيه المزاجي

زيارة إلى المجزرة

Page 132: Beirut39 Arabic Anthology

132

لم يفهم االبن وقتها أن أبويه كانا يدركان ما يفعالنه برفضهما الحاسم االستجابة لفضوله. لقد أوصدا الباب بوجهه، ألنهما يعتقدان أنه لن يعرف كيف سيتصرف إذا أصبح في الخارج. بدا له أن أخته، ثريا، هي األخرى، كانت متورطة في التآمر. لم تهرع لتقديم أية مساعدة له، حين أقدم على طلبه، مع أن التآمر كان يهدف إلى

منعه من ممارسة حق مشروع من حقوقه.- »لماذا ال تقولين شيئا عن رفض أبي اصطحابي معه؟ أنت أكبر مني سنا وهما

يصغيان إليك.«- »ولماذا أفعل ذلك؟ ربما لن تجدي زيارتك نفعا.«

غبة في الحديث. إذن هي تعرف بالتأكيد أين يذهب. كل ما هنالك، ليس لديها الر- »ما تفعله اآلن ال طائل منه. محاوالت إكراه هؤالء القوم لن تجدي نفعا.«

- »لماذا؟«- »ألنهما لن يسمحا باإلذعان لضغوط األوالد، عليك أن تفهم ذلك جيدا، سيذعنان لضغوط أي شخص آخر، لكن ليس لضغط ابنهما. بل قد يفضالن القفز من مكان مرتفع

على اإلذعان.«الرغبة باالنتقام، من وطأة التحريم الحصين، سيطرت عليه بدرجة كبيرة. فيما بعد سوف يدرك مدى قوة تلك المشاعر، وسوف يدرك أن توتر مشاعره الذي بلغ أقصى مداه، وصولا إلى التفكير باالنتقام من ذلك المنع، وكذلك تراكم التوترات النفسية،

لم تكن بمجملها قوية بما فيه الكفاية، لخرق ذلك التحريم.- »هل تظنين حقا أنه لن يصطحبني معه أبدا؟«

ة تقف حائلا دون اصطحابك معه؟ لماذا تظن - »لماذا ال تكون لديه أسباب مهمدائما أن رغباتك هي األكثر أهمية؟«

ثني.« ثني في األمر، ألن ليس ثمة من يريد أن يحد - »ألنه ال يريد أن يحد- »أنت ذكي، أعد النظر في أفكارك.«

- »أريد أن أفهم ما هي اللذة من وراء ذلك؟ أمي تعرف، أنت تعرفين، لماذا ال يسمح لي بأن أعرف؟«

قفزت ثريا من مقعدها لتجلب شرابا. ذهبت إلى المطبخ وتناولت قدحا من الرف.- »ما يجعلك تعاند هو شعورك بأن الجميع يعلمون باألمر، فيما عداك أنت، حتى الناس الذين ال تربطنا بهم صلة ما، من أولئك الذين ربما شاهدوه في ذلك المكان،

عبد القادر بن علي

Page 133: Beirut39 Arabic Anthology

133

الذي يتردد إليه، أو ربما سألوه متى سيجلب ابنه معه ذات مرة.« لم يكن لديه رد مناسب. كالعادة، غلبته ثريا بذكائها. عادت وهي تحمل كأسا من

عصير التفاح. - »رائع! إذن أعطني تفسيرا مقنعا، لماذا ال يريد أحد اطالعي على األمر، لماذا

يتآمر الجميع ضدي؟«احمرت أذناه من شدة الغضب. شربت أخته شيئا من العصير ثم جلست.

- »ال أدري، بالتأكيد لدينا الرغبة أن نخبرك، إذ ال أحد يعرف بالضبط لماذا نخفي األمر عنك.«

ئا، إلى الحد الذي يمنعك من الحديث عنه، - »لماذا ال تخبريني؟ إذا كان األمر سيفذلك أدعى أن تطلعيني عليه.«

- »ليس األمر في غاية األهمية.« ر المشط من خالل شعرها. قالت األخت ذلك وهي تهرب بنظراتها وتمر

- »األمر ليس ذا أهمية كبيرة، ولو أخبرناك به، سيصبح فجأة ذا أهمية كبيرة، وبالطبع ال أحد يرغب في ركوب تلك المخاطرة. هل فهمت صوت المنطق؟«

- »كال.«- »عظيم، هذا هو المطلوب.«

كان شعرها مفرطا في الطول بالمقارنة مع سنها. في الواقع كان كل ما فيها مفرط بالمقارنة مع سنها. وبحسب رأي معلمتها التي زارت المنزل، ذات مرة، بغرض

ا بثريا. إخبارهم أن الفتاة مفرطة الذكاء. المعلمة كالرا كانت معجبة جد- »حساب، لغة هولندية، تاريخ، أحياء، تربية بدنية، ابنتكم ممتازة، ينبغي أن

تبعثوها إلى مدرسة جيدة.« قال األب بعد أن غادرت المعلمة المنزل.

- »ذلك ما نريده بالتأكيد.«- »ماذا قلت؟« سألته زوجته.

- »نرسلها إلى مدرسة جيدة.«- »لقد نسيت منذ زمن حكايات تلك المرأة، هل ترغب بسماع إجابتي، أم انك

تعرفها مسبقا؟«

زيارة إلى المجزرة

Page 134: Beirut39 Arabic Anthology

134

- »أظن أنك تفضلين بقاءها في المنزل على الذهاب إلى المدرسة.« جها، الفتيات المتعلمات - »الفتاة التي تدرس لفترة أطول من الالزم لن تجد من يتزو

يتحذلقن في الكالم، يؤجلن الزواج، هذا ال يروق لي.«أصغى االبن جيدا لذلك الحوار. لفت نظره موقف أبيه المضاد لموقف األم. كانت لدى األب أفكار مزدوجة بشأن مستقبل ابنته، فهو يأمل لها مستقبلا زاهرا، لكن ضمن حدود معينة، بينما كانت األم تتمنى لها ما هو أفضل بحسب التقاليد، وكلمة ات »تقاليد« تكتب بالبنط العريض، بنط كبير جدا ال يمكن أن يغفله أحد، وبالذلت مع مرور الوقت إلى ب نمط الحياة العصرية في المغرب، وتحو أمه التي لم تجر

مولد نووي للتقاليد. ح بذلك، فهي لم تتقن كانت امرأة قوية بالقول والفعل. إذا لم يعجبها شيء فإنها تصرفن المجاملة. وكانت تكره البلد الذي تعيش فيه. كان ذلك واضحا من خالل أحاديثها عن العالم الخارجي، وكأنها تتحدث عن قضية فرضت عليها باإلكراه. ذلك العالم

الخارجي هو عدو تقاليدها. كانت تدرك ذلك جيدا كما يدرك هو وأخته ذلك. كان شعر أخته المميز سببا في نيلها اإلطراءات وكلمات اإلعجاب، عندما تذهب إلى ة. لم تكن تفعل شيئا يزيد من جمال وانسيابية از، من قبل بعض الزبائن أو المار الخبشعرها، وهي في عمر الصبايا اللواتي يلتصق الجمال بهن، مثل التصاق رائحة الكحول بالمدمن. مرة واحدة في األسبوع تمر على شعرها، مئة مرة، بالمشط الذي حصلت عليه من أمها. وقع شجار حول موضوع التمشيط. كانت ثريا تريد أن تفعل ذلك

بنفسها. فيما بعد، حين بدأ الكالم يطال أخته، بحسب رأي األم، قالت األم: - »المشط هو أصل البالء، ليتني لم أعطها المشط أبدا.«

راحت األم تتصرف، في ذلك الصدد، بشكل جاد. ابنتها تعني لها كل شيء. تقطع زيارتها لمعارفها، وتعود مضطربة إلى المنزل، كي تحتضن ابنتها، كأنها كانت طيلة

الوقت قلقة بسؤال يقض مضجعها: أين يمكن أن تكون ابنتها اآلن؟»أعلم أنك لست محظوظة مثلهن.«

صرخت األم، ألن الفتيات عند اآلخرين »لم يعدن صبايا: فلت زمامهن، شعورهن قصيرة مثل األوالد، دخول وخروج مستمر ثن بلغة ال تفهمها أمهاتهن، يشربن طيلة من الغرفة وإليها وكأنهن في متجر، يتحد

الوقت بطريقة الشفط بالقصبات.«

عبد القادر بن علي

Page 135: Beirut39 Arabic Anthology

135

وأوشكت أن تختنق وهي تقول: - »تخيلوا، واحدة من الفتيات صبغت شعرها باللون األشقر.«

حينما سأل الولد أخته فيما لو أنها ترغب بأن يكون شعرها أشقر، أجابت بأنها ال تدري.

بعها يخسر الكثير من قيمته الشخصية، لن يعثر - »أنا ال أتبع التقليعات، من يتعلى قيمته الشخصية دون اتباع التقليعات، لعبة غاشمة ال بد أن يلعبها المرء، اآلن

أو فيما بعد.« في مثل تلك اللحظات كنت أدرك لماذا تحصل أختي على عالمات دراسية عالية، على النقيض من تلك التي أحصل عليها أنا. لغة هولندية، هي: ممتاز. أنا: مقبول. ة، الحساب، هي: ممتاز. أنا: ال بأس. الجغرافية، هي: ممتاز، أنا: ال بأس. التربية البدنيهي: ممتاز. أنا: سيىء... وهكذا كل عالماتي الدراسية لم تكن كافية. أبي الحظ أن عالماتي الدراسية أقل من التي تحصل عليها أختي، لكن األم لم تهتم لذلك. علقت

على األمر بقولها: - »األوالد دائما هكذا.«

ذات مرة كان في حضن أمه وهي تقلب بعض الثياب بينما انفتح موضوع العالمات الرائعة التي تحصل عليها أخته:

- »معلمتها مسرورة بها.« قال األب، فأجابت األم:

ة لذلك.« - »ال أهمي- »ما الذي تريدينه إذن؟«

- »في لحظة ما سينتهي األمر، ليس أمامها فرصة للمضي في الدراسة.«في مثل تلك اللحظات، كان موقف أبيه يتراوح بين اللين والمسايرة، وبين

العناد واإلصرار.- »التعليم أمر جيد.«

- »ليس للبنات. إنهن يفقدن لغتهن، يصبغن شعورهن باللون األشقر، ينسين التقاليد، هل تسمي هذا أمرا جيدا.«- »إذن، ماذا ينبغي لها أن تفعل؟«

- »يمكن أن نبعثها إلى مدرسة التدبير المنزلي.«

زيارة إلى المجزرة

Page 136: Beirut39 Arabic Anthology

136

ثت لم يدرك االبن أن أمه قالت ذلك ألنها لم تكن تعلم بوجوده في المكان. تحدكذلك عن التقدم الذي أحرزته عائلة أختها بمزيج من القلق والغيرة والغضب، ف دون أن وهاجت أكثر حين أظهر زوجها تفهما لطموحات ابنته، مما دفعها للتصر

تشعر بوجوده معهما. لو كانت تعلم بوجوده فلربما كانت استخدمت نبرة صوت أكثر نعومة، ألنها تشعر أن دسيستها ال ينبغي أن تصل مسامع ابنها. فرغم أنها ذهبت عميقا في قناعاتها بأن ت كل السبل األخرى بإحكام، فقد التقاليد العظيمة يمكن أن تنجد ابنتها، إذا سدح بذلك، بأن الطريقة التي تود بها بلوغ كانت تشعر في ذات الوقت، دون أن تصرة. لم يختلف عندها إن كان قرارها بتصغير حجم ابنتها مرامها ال تخلو من الوحشيناجما عن دفاع انفعالي أو نتيجة لطبيعة بشرية اختلت بسبب قهر الظروف التي تحيط بها، والتي ال تستطيع فهمها أو التعايش معها. كل شيء في أمه غريزي، هكذا

بدا له األمر. وهذا هو سبب نسيانها لوجوده. غريزتها سبقتها. أن تخبر الوالد عن خططها الشائنة، كان أهم من تفادي وصولها إلى مسامع ابنها.

- »دعنا نبعثها إلى مدرسة التدبير المنزلي، تتعلم الطبخ والخياطة وتنظيف الصحون. المدرسة قريبة، وهي مدرسة خاصة بالبنات. في هذه االثناء سأبذل ل بهذا الموضوع. توقف عن كل جهدي ألحصل لها على عريس مناسب. سأتكفق في اطراءاتك المستمرة عليها. توقف عن المديح الذي تمطرها به عن التفوالدراسة. ابذل ما في وسعك وساعدني كي أوجه اهتمامها إلى المنزل. دعنا نحم

ابنتنا. ليس لدينا غيرها.«

ن من استيعاب ة الذهول لما سمع. لم يتمك مال رأس االبن إلى الخلف، من شدة التي تلبسته. في تلك اللحظة أدركت جدية األمر من جراء تلك القوة الشيطاني

األم وجوده معهم. - »ماذا تفعل هنا؟ يجب أن تذهب إلى الفراش. بسرعة.«

دفعته عنها بعيدا وضحكت حين رأت تقاسيم وجهه. - »من حسن الحظ أننا لن نواجه المشكلة نفسها معك.«

قالت، فأشعره ذلك بنوع من الغبطة.من أجل أن يجعله يدافع عن نفسه، دفعه أبوه إلى تعلم لعبة الجودو.

عبد القادر بن علي

Page 137: Beirut39 Arabic Anthology

137

- »يقولون أن لعبة الجودو مناسبة لك.« بيد أنه لم يتعلم من الجودو سوى القليل. ما إن ينتهي الدرس حتى يذهبوا ليغسلوا سون فيه. وبعد االنتهاء من أجسامهم. وأثناء االستحمام كان يلمحهم كيف يتفرالحمام يوسعونه ضربا. لم يكن يفهم لماذا يعتدون عليه بالضرب. ربما ألنه ال يدافع عن نفسه؟ وكان بدوره يخشى أن تصبح ضرباتهم أقسى إذا حاول مقاومتهم. في المنزل لم يجرؤ على إخبار أبيه أنهم يضربونه في نادي الجودو، ألنه كان يخاف

أن يضربه أبوه أيضا بسبب ضعفه. ام الذي يعقب درس الجودو، صرخ بهم وهم يضربونه: ة، بعد انتهاء الحم ذات مر

- »لماذا تضربونني؟« أجابه أحد الصبية:

- »ألنك مغربي فظيع الغباء، وليس لديك قلفة فوق حشفة قضيبك.« إذن، لو كانت لديه قلفة فوق الحشفة لما ضربوه. لم يكن يعرف أن امتالك قضيب غير مختون ينتج هذه الفروق. غضب من والديه ومن دينه، إذ أجبر

على الختان.- »كل تلك المصائب بسبب قطعة اللحم.«

لو كان يعيش في المغرب لما تعرض له أحد بالضرب. بالعكس. في المغرب كانوا سيضربون من ال يمتلك قلفة. وفيما لو وقعت حرب بين المسلمين وغيرهم، ربما ألصبحت القلفة البلهاء مبررا كافيا لقتل شخص ما. وشعر باالشمئزاز. تماما مثلما يشمئز من طبخة السبانخ مع عجين الخردل، التي تعتبرها أخته أفضل وجباتها. من األفضل لو كانت أخته هي التي تذهب لممارسة ألعاب الجودو. على األقل لن

يفعلوا لها شيئا.- »ما األمر؟« سألته أخته.

أحس أنه يمكن أن يصارحها، رغم صعوبة االعتراف عندما يتعلق األمر بالتعرض للضرب بعد دروس الجودو.

- »إنهم يضربونني بعد درس الجودو.«- »لماذا؟«

زيارة إلى المجزرة

Page 138: Beirut39 Arabic Anthology

138

- »ألن قطعة من اللحم تنقصني.«- »الزيادة والنقصان موضوع نسبي.«

قالت أخته بتزمت وأثلجت كلماتها صدره. فقد بدت وكانها تعرف عما تتحدث. كان عليه أن يصغي إليها: إنها الشخص الوحيد الذي يمكن أن يحكي لها همه.

- »من قال أنك قليل اللحم؟« في الغرفة األخرى انشغل الوالد بإصالح راديو. كان منكبا على عمله بصمت، وكأن

تلك الطريقة هي التي تسمح للتناغم الدقيق بين أصابعه وروحه. - »الشباب الذين يتابعون الدروس معي يقولون ذلك.«

- »الجودو لعبة قديمة جدا.«قالت أخته:

- »من المؤسف أنها تستقطب هذا العدد الغفير من المتابعين.«- »لقد الحظت ذلك.«

قال: - »وأين هو الموضع الذي يقل فيه اللحم؟«

أشار الى األسفل، فانفجرت أخته بالضحك، وكأن أحدا ما يدغدغها. - »هذه أول مرة أسمع فيها ما هو الضرر في أن تكون ذكرا! لن أخبرك عن معضالتنا نحن اإلناث، وعن اإلشكاالت التي تمر بنا. دعنا ال نتحدث في هذا االمر: دع هذا الباب من المعرفة مغلقا عليك حتى الموت، كمثل قلعة ال تستوجب الدخول إليها أبدا، قلعة ذات إطاللة رائعة على الروابي المحيطة، ولكنها باردة ومقززة. وال سيما للفتيات من جلدتنا، بكل قيودها وتطلعاتها البعيدة عن الواقع. بالنسبة لهن تشكل القلعة اختبارا حقيقيا، عندما يغادرنها، فعندها ال يمكن لهن أن ينسين وجودها حتى بعد

مرور السنين الطويلة، وأن عليهن العودة ذات يوم.«لم يفهم تماما ما ترمي إليه أخته. لم يفهم أنها اختصرت له مستقبلهما معا. ابتسمت

واحتضنته قبل أن ينفجر بالبكاء.- »ستصبح كل هذه األشياء ذكريات. أنت ذكر. قطعة لحم أقل أو أكثر. في نهاية المطاف كل شيء يتحول إلى ما هو ضده. الفتيان يحصلون على فرصة ثانية. ربما

عليك في المرة القادمة أن تقدم لهم مفاجأة إذا أرادوا أن يضربوك من جديد.«- »ماذا علي أن أفعل؟«

عبد القادر بن علي

Page 139: Beirut39 Arabic Anthology

139

- »ليس أمامك سوى أن تعيد الصفعة. أن تضرب بأعنف ما يمكن. بقبضتك.« وأرته كيف يكور قبضته.

- »لن أجرؤ.«- »ستجرؤ. وهل تعرف لماذا ستجرؤ؟ ألنك ستفكر بي. ستراني أمامك. وستراني أهمس لك كيف يجب أن تضرب. هكذا مباشرة. هذه ليست جودو. هذه

مالكمة. فهمت؟« أومأ باإليجاب. سيفعل ذلك. تعانقا وقبل أن يعرف ما الخبر نسي كل شيء. نسي أنه يتابع درس جودو، أنه يضرب أو ال يضرب، أن يسمح له أباه بمرافقته إلى مكان غامض تبين الحقا أنه مجزرة. نسي كل شيء وتمنى أن ال تكبر أخته أبدا. وعندما ذهب مجددا إلى دروس الجودو وبدأ األوالد يضربونه، ظهرت أخته

أمامه فانهال باللكمات.

قصة غير منشورة.ترجمتها عن الهولندية: جماعة زهرة الصبار

زيارة إلى المجزرة

Page 140: Beirut39 Arabic Anthology

140

عبد اهلل الطايع

ة قصيرة قص

جل الجريح الر

ا تناولنا إفطار رمضان منذ قرابة الساعتين. كان الوقت ليلا، وكان حي السالم كنان هذا الحي الشعبي من مدينة سال انتقلوا إلى هادئا على غير عادته. كما لو أن سكة األخرى من نهر بورقراق، غير بعيد عن شاطئ مدينة الرباط، عدا عائلتي. لم الضفيعد هناك أحد في الجوار. كان لدينا انطباع بأن شيئا استثنائيا سيحدث بين لحظة وأخرى، فيقلب البلد، واألرض ومن بقي هنا. عاصفة تحمل األمل والمطر وسنة

خير... أو القيامة: النهاية الفورية.كانت أمي، مباركة، تغط في نوم عميق.

كان رمضان شهرا منهكا لها. ولكن على الرغم من تعب الصيام، فقد كانت تحرص ن« الشهيرة، وحساء »الحريرة« على أن تعد بمفردها ويوميا الحلويات وفطائر »المسما مع كثير من الطماطم وعصير الليمون. ه حامضا جد بالطبع، الذي كانت دائما تحبكانت أخواتي في ما مضى يساعدنها طواعية على جعل كل يوم من هذا الشهر المبارك ا اليوم فالمنزل فارغ. احتفالا روحيا، وأيضا فرصة للتنعم باألكل، احتفالا ال ينتهي. أمانها. لقد ذهب الجميع إلى مكان ما، بعيدا، إلى مدينة ثالثة طوابق فارغة من سك

ف إليهم ولن أقبلهم أبدا في الحقيقة. أخرى، إلى بلد آخر، مع غرباء، أناس لن أتعرلم يكن في المنزل سوى أمي وأخي األصغر، مصطفى، الذي ال نراه في معظم األحيان، وأنا. أصبحت مباركة في أغلب األحيان تخاف من البقاء وحيدة، كانت تردد من حين ا. لم أكن آلخر أن العزلة سم بطيء ومؤلم. وهذا ما كان يجعلني حزينا، حزينا جدأستطيع أن أتقاسم معها معاناتها بالكامل. في المقابل، كانت تنتابني رغبة في البكاء كلما سمعتها تتحدث بتلك الطريقة. كانت ترجوني، كل يوم، أال أتأخر في المدينة بعد االنتهاء من دروسي في جامعة الرباط، وأن أعود باكرا قبل انسدال الليل، وأن أركب

Page 141: Beirut39 Arabic Anthology

141

الباص بسرعة وأعود ألمأل الفراغ، أكون الى جانبها، أشاركها أمور الحياة اليومية، وأبهجها بحضوري، وأسليها وأدفئها، أعيد تشكيل عائلتنا قبل حلول الظالم.

في الليل، حين يحين وقت االنفصال من جديد، لم تكن تريد أن أنسحب إلى ى تنام. النوم هو الموت. ك حت غرفتي، كانت تريد أن أظل إلى جوارها، وأال أتحرومنذ الموت المفاجئ ألبي قبل عام، أصيبت بنوبات من الخوف والهلع. ولذا كانت ر جهاز التلفاز. هي التي كانت تقول إنها تتعلق بي. تنام في الصالون حيث يتصدال تحب هذه اآللة، انتهى بها األمر إلى أن تجد فيها رفيقا أليامها، آلة تصدر أصواتا

وتطمئنها، قليلا، وليس دائما.منذ فترة قريبة، وبفضل الصحن الالقط، الذي أصبح ثمنه في متناول معظم األسر، ني بشكل خاص. كنت أشاهد، حين كان باإلمكان التقاط القنوات الفرنسية التي تهمأستطيع ذلك، قناة »آرتي« وفي قرارة رأسي، كان لدي انطباع بأني شخص مهم، طالب مثقف متابع للحدث يهتم بأشياء يعتبرها اآلخرون، من حولي، مملة وصعبة. كنت

فخورا. كنت أشعر بذلك بيني وبين نفسي. ذلك هو الدور الذي كنت ألعبه ذلك المساء، بعد أن التهمت قسما كبيرا من أطباق تها أمي. فتحت التلفاز. كانت قناة »آرتي« تعرض فيلما. ة التي أعد رمضان الشهيفيلما بدأ قبل بعض الوقت. كان الممثل الفرنسي جان-هوغ أنغالند يبكي بدمع هتون، ة قطار. كان يبدو أنه يشعر بنفسه منبوذا هو وقد سجن نفسه في مراحيض محطاآلخر... يكافح ضد شيء ما، العزلة ربما. على الفور تأثرت بالممثل وبالشخصية التي كان يمثلها. وبفضل معلوماتي عن السينما، نجحت في غضون دقيقة واحدة فقط في التعرف إلى الفيلم، الذي لم أره أبدا من قبل. كان فيلم »الرجل الجريح« للمخرج الفرنسي باتريس شيرو. وهو فيلم ظهر سنة 1984. فيلم غدا مرجعا. فيلم ممنوع. كانت أمي تغط في نوم عميق. والتلفاز يعرض هذا الفيلم، دون أن يستطيع أي ل إلعطاء درس في األخالق الدينية لهذا كان في المغرب فعل شيء إليقافه، أو التدخالبطل الصغير الخارج عن القواعد وذي الشعر الطويل، بعض الشيء، والذي يحب

الرجال. كان يحب رجلا.كنت في مأزق، في رغبة عارمة. مستعدا لمشاهدة الفيلم حتى النهاية. مشاهدته ائمة خلفي، في أية لحظة زا. كان يمكن أن تستيقظ أمي، الن بخوف، والبقاء متحفي الوحيد، نصفي اآلخر، ي، سر وتفاجئني بالجرم المشهود. ستعرف حينها سر

جل الجريح الر

Page 142: Beirut39 Arabic Anthology

142

موضوع عشقي. ستثير مشكلة. وستحصل الفضيحة. سأشعر بالعار، ولن أعرف ماذا أفعل وال بما سأجيبها.

بطني يؤلمني. كنت قد أكلت كثيرا في إفطار رمضان وأجد صعوبة في الهضم. كنت متهيجا من الرغبة التي تجتاح الفيلم، والتي تسكن جان-هوغ أنغالد والممثلين اآلخرين. لم يكونوا يعيشون إال ضمن هذه األشياء وعبرها: الجنس والحب ومخاطرهما. يشعر الواحد بانجذاب نحو اآلخر، يغازله، يالطفه، يشتريه، يلعب معه، يغتصبه، يرميه، ويذبحه شيئا فشيئا. كنت مسحورا، ومبهورا بما كنت أراه. وأردت أنا أيضا أن أفعل مثل هؤالء األشخاص، وأكون واحدا منهم. أريد أن أكون خارجا عن القانون. شا. أداعب جسمي، ون، وحيدا أو مع آخر، متوح كنت أريد أن أحب مثلما يحب

ه، أذهب نحو األقوى وأمنحه نفسي. ألحسه، أعضكان بطني ينتفخ. وقضيبي يتصلب. وال أعرف ما أفعله ألني كنت على الدوام خائفا ة الرغبة التي تخرج من التلفاز باتجاهي، لتقلبني رأسا على عقب، على الرغم من قو

وتذهب بي بعدها إلى تخوم الجنون.ة أو ه توقف مر أمي تشخر اآلن، شخيرا منتظما، قويا حينا وضعيفا حينا آخر. لكنتين. عندئذ غيرت القناة فورا. ولم أستطع منع نفسي من تفسير هذا التوقف بأنه مرعالمة على عودتها إلى الوعي، وأنا أشاهد فيلما ممنوعا. هدأ روعي قليلا بعد دقيقة د من أن عينيها ال تزاالن من االنتظار خلتها ال تنتهي، كنت ألتفت خاللها نحو أمي ألتأكمغمضتين، وأنها ال تزال بعيدة عني وعن صوري، وعدت إلى »الرجل الجريح« وإلى

ته. وعلى الفور عدت من جديد إلى رغبتي الجارفة وخوفي األول. قص . كان جان–هوغ أنغالد عاشقا لرجل مديد القامة وجميل وأسمر على ما أظناسا يشبه قليلا الممثل جيرارد ديبارديو في بداية الثمانينيات. كان رجلا فحلا وحس

ادا. وقاسيا وعديم الشفقة، ملكا، ديكتاتورا... قووقع أنغالد في غرامه حال أن رآه. سيتمحور العالم، من اآلن فصاعدا، حول هذا ته. منذ البداية الرجل الذي أنساه كل الرجال اآلخرين. ولن يكون أحد بمثل أهميهجر كل شيء كي يتبعه، ترك حياته السابقة وعائلته. ووجد نفسه في الشارع، ات، في المرائب، يتبعه ويطارده ويحاول بشكل أخرق أن يغويه. أن يكون في المحطمعه للحظة، مع جسده. وموضع عشقه. بال جدوى. أنغالد يعيش الوجد المطلق،

حا ومأساويا. الوجد الذي ال يمكنه سوى أن يكون مبر

عبد اهلل الطايع

Page 143: Beirut39 Arabic Anthology

143

فيلم باتريس شيرو، كما اكتسحني بطريقة صاخبة وعنيفة في ذلك المساء وكما ، منذ تلك الفترة، في ذاكرتي، كان مفرطا في تصاعد حدة المشاعر الغرامية ظلالتي يظهرها، ومفرطا في الهيمنة التي يمارسها الجنس على كل األجساد. في هذا الفيلم صفعات وشجارات ومطاردات ومتاجرات من كل نوع ودموع وخالعة وتهتك ج بالدم، ودم ومني وأشياء قذرة ووساوس وموت. إنه جري دون توقف لفتى مضر

محكوم عليه مسبقا، نحو الجريمة العاطفية.نسيت اسمه. كنت معه. محبا ومحروما مثله. مستعدا للتخلي عن كل شيء من أجل حلم كبير، رجل قوي، من أجل شعور نادر، كائن استثنائي. وكنت خائفا باستمرار. في بحث يائس عن موضوع الرغبة الوحيد، الذي اختاره القلب. الذي

.The One »يطلق عليه األميركيون »النصف اآلخرشخص وحيد وال أحد غيره. رجل أكبر سنا مني كي أتعلم منه، أعيد معه إحياء ماض ما، عالقة ال يعترف بها أحد. فقيه، معلم، بائع خبز، رجل مؤمن يؤدي صلواته

الخمس كل يوم، شخص ملهم، قريب، خال أو عم أو ابن عم...كان الفيلم يجري أمام ناظري وهو يطبع في عيني ورأسي قوته ويأسه وديانته. دا ومريدا هذه الطريقة في الحياة ومن دون أن أعرف كنت قد أصبحت تابعا ومتعووالرؤية والتيه وتدافع األجساد واالنغماس في الحياة، قبل أن أصبح مجنونا، أكثر ت به شجاعة م هناك أمامي، يمس جسدي الهزيل الذي استبد جنونا. كان المحر

م أيضا ورائي. مفاجئة. كان المحركان قضيبي ينتصب أكثر فأكثر، وقلبي يزداد ظلمة. وأصبحت عيناي حمراوين. دا كما لو اخترقني تيار هوائي قادم من الشمال، كنت سعيدا وحزينا. متهيجا ومتجمور، وأشركها أكثر في هذا من طنجة. وللحظة أردت أن أوقظ أمي وأريها هذه الصب بل يذهله. أردت الذهاب نحوها، ألحتمي بها، ألضع الفيلم الذي يؤثر في ابنها المهذنفسي في حضنها، وأضع يدها على بطني، وأحس بتنفسها في ظهري وعنقي، وأشم رائحتها بأنفي وجلدي. وأعود إلى األصول، إلى الباب األول الذي أطللت منه على العالم، على الحياة، على الضوء. وهناك في هذا المكان الذي بدأ فيه كل شيء، هذه ة، سأحفر مكانا، كرسيا، ثقبا، وأبكي وأنا أواصل مشاهدة هذا الرجل العتبة األصلي، وأبكي. أبكيه، وأرافقه في الجريح، هذا الفتى، هذا األخ الذي أربكه بريق الحببكائه، وأتناول عينيه في فمي برفق، ألحسهما ببطء، الواحدة بعد األخرى، ثم أشرب

جل الجريح الر

Page 144: Beirut39 Arabic Anthology

144

ين وعلى الجلد. الماء المالح قليلا الذي يخرج منهما، الماء الذي يسيل على الخدل. لم أكن أفكر. لم أعد أفكر. كنت أتألم: تؤلمني عيناي كنت أتماهى، وأحلم، وأتخي

وساقاي وركبتاي وقضيبي. اق. كان قدر عدت إلى نفسي. كان الرجل الجريح ما يزال في درب صليب العشهذا البطل يكتمل هنا، في منزلنا، في بيت من دون أب، في صالون بيتنا شبه الفارغ،

في حميميتنا وفي صمتنا وعتمتنا.كنت أعتبر نفسي شخصا مثقفا. اكتشفت، وأنا أمام فيلم باتريس شيرو ألول ة، أني كنت ال أزال عاشقا ساذجا للسينما يتلقى األفالم، كل األفالم، بنفس الطريقة مرسخت في السابقة. في السابق، أي في نهاية طفولتي التي برمجها اآلخرون، عندما ترأعماقي إلى األبد ديانة اإلفالم الهندية وأفالم الكاراتيه الصينية، كنت أعيد اكتشاف ور في القاعات المظلمة والشعبية، وسط المومسات واألوالد نفسي. كنت أعب الصرني من ضغوطات بلدي وتربطني بفن أصبح بالنسبة إلي، شيئا السيئين. كانت تحرفشيئا، منطق حياة، يدعوني لرؤية األشياء البعيدة والعليا. وللخروج وتجاوز العالم،

ألرى نفسي عاريا وأنزل من جديد ألقاتل.ة المعركة. كنت ثائرا، قبيل ليلة القدر بعدة أيام. كنت في لج

توقفت موسيقى أمي فجأة. لم يعد أي صوت يخرج من فمها، وال أي صفير وال أي سها؟ هل ماتت، دون خوف، دون قلق، ورحلت س. هل انقطع تنف أزيز، وال أي تنفلتلتحق بأبي؟ هل استيقظت؟ هل تشاهد اآلن »الرجل الجريح« مثلي؟ هل تفهم شيئا من هذه الصور الغريبة، اآلتية من عالم آخر ومن الجحيم؟ هل ستنهض، دفعة واحدة، وتصرخ، تصرخ في وجهي كما تفعل في األيام الصعبة، وتجذبني من شعري،

تعاقبني وتقرصني وتلعنني؟ أم أنها ستخصيني على الفور؟ ق ها تحد استدرت نحوها وفي قلبي فوضى عارمة. كانت عيناها مفتوحتين، ولكنها وحدها. اطمأننت بعض إلى السقف. كانت تحلم. وما تزال تتابع صور حلم يخصالشيء، وغيرت القناة وسألتها بصوت خافت يفيض احتراما إن كانت بحاجة شيء ة منذ فترة طويلة، وهي تغط في النوم. »كأس ما. كانت إجابتها فورية كما لو أنها معدا. كانت ماء يا حبيبي« هرعت إلى المطبخ وأحضرت لها كأس ماء. كانت عطشى جدعائدة من رحلة طويلة. طلبت مني كأسا ثانية. »كأسا أخرى، يا ولدي العزيز، وإال سأموت... اهلل يــ..«. لم تكن في حاجة إلى أن ترجوني طويلا. عدت مهرولا

عبد اهلل الطايع

Page 145: Beirut39 Arabic Anthology

145

رة ني به، مثلما تفعل دائما، أدعية مكر إلى المطبخ، وأنا سعيد بالدعاء الذي ستخصتتحدث عن الفردوس كشيء أكيد، وليس كخيال، أبدا.

بعد أن روت مباركة عطشها، عادت إلى نومها، وإلى أحالمها. ولكن، قبل أن تغلق عينيها من جديد، منحتني هذه البركة التي أثارت في بلبلة إضافية: »شاهد، يا

بني، شاهد التلفاز كما تشاء... أنت ال تضايقني... شاهد ما تشاء...”خفضت صوت التلفاز وانتظرت عودة شخير أمي كي ألتحق بـ»الرجل الجريح« وبطله المكلوم وأعثر من جديد عليهما. كان خائرا، أتعبه الحب من جانب واحد، ه كان دوما عاشقا مجنونا. وكاد الطريق نحو واإلهانات، متعبا من التجوال لكنالجريمة، االمتالك األول واألخير للجسد المحبوب، أن يصل تقريبا إلى نهايته. وحده ه األسمى، ة هذا الفتى المأساوية وحب الموت والقتل باستطاعتهما أن يمنحا قص

معنى وهدفا وبنية.كان عاريا قرب الرجل الذي يحب، منهمكا في خنقه بيديه، يخنقه وهو يمارس الجنس معه. هكذا كان يستسلم له بشكل كامل: جسدا، قلبا، وعقلا، وجلدا ودما ى النهاية أن يتشارك معه ونفسا. كان يمنح حياته من خالل أخذ حياة من رفض حت

في نفس العناق ونفس ديانة األحاسيس.كان األمر مأساويا.

الحب مأساة، كما هي الحياة التي يمنحها هذا الحب تألقا وقوة في لحظات رائعة. كنت أعرف ذلك بالحدس. كنت في العشرين من عمري. وذكرني بذلك ثانية فيلم »الرجل الجريح«، مرة وإلى األبد. كان ذلك تحذيرا وعلي أن أقرر، هل أتخلى عن

األمر؟ كال، أبدا.كان شريط األسماء في نهاية الفيلم يمر أمام عيني. وظهر على الشاشة اسم الكاتب هيرفي غيبيرت، الذي شارك باتريس شيرو في كتابة السيناريو. كنت قد نسيت ته وحياته، ونمط حياته الذي اكتشفته ة، هما أيضا قص أن هذا الفيلم وهذه القصوعشقته في كتبه. كان قد مات منذ أربع أو خمس سنوات. سالت دموع من عيني. في نهاية األمر، لماذا؟ ومن أجل من؟ لم أعرف، على وجه التحديد، بم أجيب، بم أجيب نفسي. أمن أجل هيرفي غيبيرت الذي كنت أعرفه بشكل وثيق بفضل مؤلفاته؟ أمن أجل بطل الفيلم الذي أصبح مجرما، أخا، صديقا، أصبح أنا؟ أمن أجل أبي الذي رحل ة مكتوبة؟ من أجل أمي التي لت إلى كتاب، وإلى قص مبكرا، قبل أن يراني وقد تحو

جل الجريح الر

Page 146: Beirut39 Arabic Anthology

146

عادت من جديد إلى مخاوف طفولتها؟ من أجل الحياة، التي هي، في الواقع، حزينة ومليئة بالوحدة بشكل رهيب، على الرغم من مباهج رمضان؟

ر في هذه ى اليوم، أبكي حين أفك ى يومنا هذا ال أعرف عن األمر شيئا. حت حتاللحظة المحددة، نهاية الفيلم، هيرفي غيبيرت، أنا... وأمي التي كانت تصرخ في

صمت. أبكي من أجلنا جميعا.ا. لم تكن تشغلني سوى فكرة واحدة. في اليوم التالي، استيقظت في وقت متأخر جدل شعيب، الذي كنت مغرما به بعض الشيء، إلغوائه، وإفساده الذهاب إلى قريبي المفضل معا أشياء وااللتصاق به وحثه على أن ننهي صيامنا قبل األوان. نفطر ونحن نتخيه، حي بطانة، بالقرب من المقبرة القديمة بالتحديد، جنسية. ثم نصعد بعد ذلك حية األخرى لنهر بورقراق، والرباط وبرج حسان حيث يمكننا من هناك أن نرى الضفن حشيشة الكيف معا. وقصبة األوداية والشاطئ البلدي، شاطئ الفقراء. ثم ندخوأضع رأسي على فخذيه، وأغمض عيني، ثم أقص عليه أخيرا، مع صمت وتأمل فيلم

البارحة وأدعوه مباشرة، بهدوء، إلى الخطيئة وإلى انتهاك المحرمات.

دة. الخطيئة المتعمسينظر اهلل إلينا.

ى السماء. ى البحر، حت ى النهاية، حت سوف نواصل حتملعون، في يوم ما سأكون ملعونا في الحب، مثل »الرجل الجريح«. وبانتظار ذلك، ني بجسده الكبير، أذهب وفي قلبي شعيب، قريبي ذو الشارب، الولد السيئ الذي يلف

كل يوم، تقريبا، نحو أضواء السينما، وعيناي مغلقتان جيدا

قصة غير منشورة.ترجمها عن الفرنسية: محمد المزديوي

مراجعة الترجمة: د. سحر سعيد

عبد اهلل الطايع

Page 147: Beirut39 Arabic Anthology

147

عبد اهلل ثابت

مقاطع من رواية

اإلرهابي 20

كتبت هذا العمل بين 1999 – 2005، وهو كتاب اجتهدت أال أصنفه. قصدت منه أن تعرفوا زاهي الجبالي، هذا الذي كان احتمالا أكيدا لتمام الـ 19 قاتلا في سبتمبر أميركا، فهو اإلرهابي الـ20. وكان احتمالا أوثق لتمام قائمة الـ 26، فهو اإلرهابي الـ27 في السعودية، وحرت كثيرا م بها هذين االحتمالين، وأخيرا رأيت أن يمضي في الطريقة التي أقدالعمل هكذا عفوا، فسحته لزاهي، يتحدث عن نفسه. )المؤلف(.

***

ربما سيكون لهذه األوراق شأن ذات يوم؟ فهي تبدأ مني، وتنتهي إلي. سأكتفي باحتفالي بها، على طريقتي عندما أرفع ريشة القلم عن آخر كلمة بآخر سطر. م أوراقي مة. سأكو وحدي سأشتري كعكة صغيرة وشموعا وزجاجة جميلة محرهذه على المقعد المقابل. وسأرفع صوت الموسيقى بالقدر الذي يليق بتلك الساعة، ووحدي سأرقص وأشعل السجائر وأشرب الكؤوس، وسأطلق حينها كل الشتائم التي أحفظها والتي ال أحفظها، وسأنشد كل القصائد التي أحفظها والتي ال أحفظها، سأفعل كل هذا وأكثر. وأكثر. تماما كذلك الذي يحتفل بعيد ميالده، وحيدا في بالد

ال يعرف بها أحدا، وال يتكلم إال اليسير من لغة أهلها.كل ما في هذه األوراق حدث في مكانين، أولهما: قريتي، والثاني: مدينتي، أبها، على أنهما ال يمكن أن يكونا مكانين مختلفين، بل مكانا واحدا فقريتي ومدينتي ال يفصل بينهما شيء، وهما على رأس هذه القمم الشاهقة، تقتسمان

Page 148: Beirut39 Arabic Anthology

148

بالغيم والضباب والبرد، بالخضرة والمياه، مزدانة ملونة مساحة مختصرة ال يكاد يغيب عنهما المطر بضعة أيام حتى يعاود ترتيب مالمحهما من جديد.

ال يليق بأبها إال أن تكون قرية مهما مألوها بأعمدة الضوء والبنايات والشوارع اإلسفلتية والمتاجر واألسواق. إنها قرية على طريقة المدن، مثل الفتاة الريفية التي ألبسوها ثياب المدينة، إال أنهم لن يستطيعوا تغيير جسدها الريفي... وهكذا

تين! أكون جبليا مرأحكي عن الناس هنا، عن طباعهم، ثقافتهم، كيف يتكلمون. وكيف هي الحياة عندهم. فالعسيريون طيبون، وال يمكنهم أن يكونوا سيئين هكذا دونما سبب، دون أن يضطرهم أحد إلى جنون غضبهم. حادون متوترون على الدوام، ال يبرحهم قلقهم وال ارتباكهم. على قدر من األنفة والكبرياء، بشكل يبدو أحيانا مدعاة للضحك، ففالن ظل لسنين يروح ويجيء بالقرب مما يريده ويشتهيه، فكان يمنع حتى عينيه عن رؤيته، إذ يشعر أن في هذا انتقاصا لمكانته وقيمته!أتهم بمزاجية الريح واألشباح والحيرة والسؤال، فهم شيء من القمم التي يسكنونها عبافون كضبابها، قون كشمسها، شف ريح، وشيء من سؤال، وشيء من حيرة، وهم متحرقساة كصقيعها، مخيفون كغيمها. كانت الطبيعة إذا ثارت وعربدت ما بينهم باألمطار

والصواعق والعواصف تمازحوا فيما بينهم »نشهد أن مطر ربي عسيري!«الكلمة التي تمس كبرياء أحدهم مبرر كاف عنده ليقترف القتل. فابن هذا المكان يعيش ليزهو، ويزهو فحسب، وبأي شيء، وهذا الذي يقتل لكلمة، هو ذاته الذي تهزمه كلمة أخرى، فيبكي ويعود مهتوك النفس والوجدان! هنا ال تطيح برؤوسهم السيوف

ر! ات كما تطيح برؤوسهم وقلوبهم كلمة من حبيب خان أو تنك وال البندقيا، عنيف حد أن يقدم الواحد منهم على التخلص إحساسهم تجاه العار عنيف جدمن حياته، إذا ما لحق به عار ما، والعار هنا يطال أشياء، لكثرتها ال تنتهي، فمس الوجه، مثلا، كارثة ال يمكن أن تمر هكذا دونما دم، وإذا ما اشتبك اثنان هنا فإن كلا منهما يفكر كيف يصل إلى وجه اآلخر، ليخدشه، أو يترك به أثرا يكون عالمة انتصاره عليه وهزيمته لألبد. فإذا ما فعل أحدهما ذلك فإنه ال بد من قتيل، إما أن يقتل المخدوش نفسه، وإما أن يقتل ذاك الذي هزمه، ما وجد إلى ذلك سبيلا.قبليون هم، وثاراتهم وحروبهم ومعاركهم ال نهاية لها، وأيما أسرة ال قتيل بها في معاركنا فإنها أسرة وضيعة في أعرافهم، وأيما مساس بأحد من أبناء القبيلة يعدونه

عبد اهلل ثابت

Page 149: Beirut39 Arabic Anthology

149

مساسا بالقبيلة كلها، يستوجب تغريم خصومهم أو حربهم!ون، وتبدأ كل حكايات الحب إما من نبع الماء، أو من المرعى أو حتى من لقاء ويحبعفوي ما بين بيوت الطين، أو خلف صخرة ضخمة أو حائط أو بستان، والحب عندهم عون ألجله األعراس، فيأتون ليتناشدوا شيء ال يتحدثون عنه إال في شعرهم، الذي يتتبض بعضهم بمن يحولون ون، ولربما عر حكاياتهم وآالمهم وفقدهم وحرمانهم ممن يحباتهم! بينه وبين فتاته، فما إن يفهم المقصود حتى يهب المعنيون إلى خناجرهم أو بندقيالعسيريون مولعون بالطرب، مفتونون بالغناء والرقص، وأي قرية من قراهم ال شاعر بها فهي قرية بائسة ناقصة، ألن الشاعر في القبيلة كلها موضع التقديس واالحتفاء من الجميع، والحداؤون في الزواجات والمناسبات أكثر الرجال شهرة وحضورا،

والناس هنا يحفظون القصائد الطويلة، ال سيما قصائد الحب والحرب!أيضا فالعسيريون مزروعون في حقل من الشيم والقيم فهم كل ما يمكن تخيله من الفروسية والنبل والرجولة! كرام، أجل هم كذلك، كرام حد الضحك، حد أن يعيش أحدهم، طول حياته، بائسا محتاجا ألنه أدمن الضيوف. أدمن هذه الوالئم التي يعجبه أن يقف على رؤوس أضيافه، وهم على الطعام، ثم يستحلفهم باهلل أال يكفوا

أيديهم عنه ونفوسهم تشتهيه!

***

تكرر أمي دوما أني كنت طفلا هادئا كثير الصمت!ا كبيرا يقف وهنا في الجنوب يخافون من الطفل الذي ال يتكلم، يعتقدون أن سروراءه، ويضطره إلى الصمت، ويدعون دائما كلما استفزهم صمته، إما على سبيل

ه.« التندر، أو على سبيل الدعاء بحق، فيقولون »اهلل يعطينا خيره ويكفينا شرترك أهلي القرية لينتقلوا للمدينة، كغيرهم ممن فتحت لهم أبواب الرزق، واستطاعوا أن يبتنوا بيوتا في المدينة، على أن أبها لن تتنازل عن قرويتها مهما بعثرت األوراق النقدية في شوارعها، وأكثر ما يمكن أن يبلغوه منها أنها حالة متوسطة ما بين القرى والمدن، فال هي ريف كامل وال هي مدينة كاملة. قريتنا ومدينتنا لم تكونا تبعدان عن بعضهما أكثر من ثالثة كيلومترات، وهكذا صرنا نسكن بيتا جديدا، وبقية ساكني القرية ينظرون إلينا نظرتهم لألثرياء من أبناء المدن!

اإلرهابي 20

Page 150: Beirut39 Arabic Anthology

150

ون القرية: الوطن، وال يعنون بهذا الدولة أو اإلقليم األكبر، وعندنا في الجنوب يسموإنما يعنون به قراهم الصغيرة. يقولون: »كنت في الوطن، أتيت من الوطن، ذاهب

للوطن، التقيت أهل الوطن...إلخ.«والدي أول من استطاع شراء التلفزيون، ذي اللونين األسود واألبيض، وكان ذهول الحي كله به يشبه ذهول الناس حين يسمعون الحكائين وخرافاتهم، وكأنما هو آت

ثهم عن الحيوات التي لم يروها! من عالم الغيب... يحدمنظر الرجال والنساء كل ليلة، وهم يجلسون متحلقين يتوسطهم هذا التلفاز، وهم على درجة من اإلنصات واالنبهار تجعل الجميع يتسابقون كل مغرب بعد انتهائهم من أعمالهم إلى منـزلنا ليشاهدوا هذا الجهاز السحري. كانوا يأكلون الخبز المعجون بالسمن والسكر، ويشربون الشاي األحمر، مشدوهين بالمسلسلة البدوية »وضحى وبن عجالن«، ويتمتمون مع أغنيات سميرة توفيق، وأم كلثوم وفايزة أحمد،

وعبدالحليم حافظ، وسعدون جابر وفيروز وغيرهم.ا متأثرا ا جد نا حاد في تلك الفترة، أي أواخر السبعينات، تدين أخي األكبر تديبالمتطرفين، الوافدين من بلدان مجاورة، وكذلك تأثر بعمله في المدارس القرآنية مع س لهم. مجموعة من المغالين، الذين استطاعوا أن يضموه إليهم فحمل فكرهم، وتحمم كل ما يدور بالمنـزل، فتشب المناجزات، ال سيما بينه وبين الذين كان أخي يحره. ومن الطرائف التي ما زالت تتحرك بون ضد يلونه من إخوتي، الذين كانوا يتحزفي ذاكرة إسرتي يوم كانوا يتعاقبون على »الماطور« أي مولد الكهرباء، فيقومون بتشغيله كي يتابعوا التلفزيون، فيغضب أخي األكبر، ويخرج ليطفئ هذا الحرام، ثم يل كله على هذه الحال، وكثيرا ما تصل يعودون فيشغلونه ليعود فيطفئه، ويمضي اللاألمور إلى درجة االشتباك باأليدي والمشاجرات العنيفة، التي توقظ أبي. أبي الذي

يقرر دائما أن يضرب الجميع، فوالدي الجبلي ال يحدد من يعتدي عليه إذا غضب!ف كانت تلك الفترة، التي تدين بها أخي األكبر، بداية للتجمع الذي قام به المتطرالشهير بالجزيرة العربية، جهيمان وأتباعه. كانوا يدورون بالناس يعظونهم ويأخذون ين على الفساد األخالقي برأيهم، الذي تبدت مظاهره في أغنيات تأييدهم، محتجالتلفزيون والنساء الظاهرات به وغير ذلك، وانتهت باحتاللهم الحرم المكي. كان هدفهم من ذلك الثورة على النظام السعودي، الذي يعتقدون فساده، وأن عليهم تطهير البالد من هذه الحكومة الكافرة بزعمهم، إال أن الدولة استطاعت إخمادهم والفتك

عبد اهلل ثابت

Page 151: Beirut39 Arabic Anthology

151

بهم داخل الحرم، والقبض على جهيمان وعدد من أتباعه وإعدامهم إثر ذلك! كاد أخي األكبر، الذي استدعته أجهزة الدولة حينها، أن يخسر حياته إذ كان طه في هما بانتمائه إليهم، لكنه نجا فلم يكن هناك من الدالئل ما يؤكد على تور متأية أعمال تدينه، حدث هذا كله ابتداء من أواخر السبعينيات وحتى القضاء عليهم سنة 1979. ال يمكن ألهلي أن ينسوا يوم طرق أحد رجال المباحث الباب، واستدعى أخي ليذهب معه. تقول أمي إني من فتح الباب، وإنه على الفور طلب أخي. كانت

ليلة أليمة، فقد كان الجميع على ما يشبه اليقين أنهم لن يروا ولدهم مرة أخرى!

***

في العام 1979 بلغت السادسة، وهذ يعني حان وقت الدراسة، ذلك المكان الذي طالما أغاظني به أخواي اللذان يكبرانني مباشرة: اليوم لعبنا، اليوم لهونا، اليوم قال لنا المعلم كذا وكذا، غدا سنضحك... ونرسم. وقبل أن ينتهي الصيف ويبدأ العام الجديد، يحتد والدي وأكبر إخواني، الذي كان متدينا لدرجة مؤذية، وكادت حياته

طه في أي من أعمال احتالل الحرم المكي! تنتهي تماما لو أنه ثبت تورأبي يريد أن يضمني إلى أخوي االثنين بنفس المدرسة، على مبدأ أن األعواد يصعب كسرها إذا صارت معا. وهي مدرسة حكومية عادية كغيرها من المدارس، وكان أخي المتدين يصر على أن يأخذني معه إلى المدرسة القرآنية، التي كان يعلم فيها، م كل الحجج والمبررات لتسجيلي بها: »سيحفظ القرآن كاملا. وأنا معه، أحميه وقد

وأشرف على تعليمه عن قرب. في هذه المدرسة يعطونه مالا كل شهر.«ه لم يكن من اليسير أن يقتنع والدي بحجج أخي هذا الذي تسبب في متاعب لكنكثيرة له، وكان يخيفه أن يصبح هذا الطفل الصغير مثل أخيه، متدينا مؤذيا، فما كان بني في هذه المدرسة: »زاهي، المدرسة القرآنية من أخي إال أن اختلى بي وأخذ يرغتضمن بها الجنة، فيها ستحفظ القرآن، وتصير شيخا كبيرا، يحبك الناس ويطلبون منك أن تدعو لهم«، »بالمدرسة الكثير من األلعاب والمرح والمال، وسيكون معك الكثير من المال لتشتري به ما تشاء، أال ترى بقية إخوانك ال يحصلون على أي مال من مدارسهم!« »سأعطيك كل ما تريد لو طلبت من أبي أن تكون بهذه المدرسة.«

كان كل شيء مغريا، وامتألت نفسي باألحالم داخل هذه المدرسة فبكيت، وولولت،

اإلرهابي 20

Page 152: Beirut39 Arabic Anthology

152

وصرخت، وجادلت لكي ألتحق بالمدرسة القرآنية، فوافق أبي مستسلما لبكائي.ودموعهم. الصغار بكاء إال شيء، كل يتجاهلوا أن العسيريون يستطيع عندنا لنمر ا للنساء. وال لألطفال ض يتعر ال عسير في لنمر ا إن ويقال فعل عن ع يتور ال الذي فهو لذئب ا ما أ لنبل، وا لقوة وا الشجاعة مثال دجاجة. أو رجلا أو ة امرأ أو طفلا فريسته تكون أن يعنيه وال شيء،

ني ما كدت اللحظة األولى التي ألج بها المدرسة. بي خوف، وبي ترقب، وبي فرح، لكنأنضم إلى مجموع طالب فصلي حتى بدأت أسمع التهديد والوعيد، كان المعلمون الدينيون يصرخون ويوبخون الصغار: »امش لفصلك«، »ما الذي أخرك؟«، »قف ل معلم ولدى جلوسه أخذ يتهددنا عندك وأحضر يا فالن العصا« حتى دخل علينا أو

بألوان العقاب إن نحن لم نمتثل ألوامره ونواهيه.ش، المقصف ليرى طفلا في الفسحة... يدخل مدير المدرسة، ذلك الرجل المتوحشاميا يلبس البنطال فيصرخ صرخة أسكتت جميع الطالب. قال للطفل »تعال هنا« فجاءه الطفل يكاد يغشى عليه من الخوف، ثم قال له: »أين هو الثوب الذي يسترك؟ لم تأتي بهذا البنطال الذي ال يلبسه الرجال؟« فحاول الطفل أن يشرح أنه للتو عائد من بالده، ولم يكن يعرف انه ال بد من لبس الثوب، وأن والده لم يذهب للسوق بعد ليشتري ثوبا له. ضربه المدير يومها في سائر جسده... جلده ببشاعة. كان يمسك فروة رأسه، ثم يطرحه يمينا وشمالا ويقول له: »ستكون رجلا رغما عنك... ال

تلبس لبس الكافرين هنا!« ال أنسى أبدا بكاء الطفل وهلعه واستنجاده، وال أنسى أنه حين توارى المدير عن أعيننا هربت إلى فصلي واختبأت تحت إحدى الطاوالت، مذعورا أن يدخل علينا هذا المدير، فيفعل بي ما فعله بالطفل الشامي. لقد كانت صدمة عنيفة. كانت كل ة والسعادة تتحول إلى أشباح مخيفة، كلمات أخي عن اللعب والمرح وطريق الجن

لها أنياب حادة تنظر إلي وتقهقه!د من القرآن، وخوفا من عقوبة الجلد العنيف ذات يوم، وألنني لم احفظ الواجب المحدالذي ينتظرني في هذه الحالة، حاولت التمثيل على والدي مدعيا أنني أعاني من بعض ا. وبالفعل وافق والدي على أال أذهب للمدرسة في اآلالم في بطني، وأنني مريض جدني لفرط فرحي وذهولي بموافقة والدي لم أستطع البقاء بفراشي. بعد ذلك اليوم، لكنلحظات قصيرة دعاني والدي وأمرني بلبس ثيابي وحمل حقيبتي ليوصلني للمدرسة،

عبد اهلل ثابت

Page 153: Beirut39 Arabic Anthology

153

ولم تنفع كل توسالتي. الفظيع في األمر، أننا حين بلغنا المدرسة، طلب أبي من مديرها أن يضربني ألنني كذبت عليه وادعيت المرض، فسألني المدير عن سبب ذلك. حدثت رت عن كذبتي بالصدق، وقلت نفسي بالصدق، الذي ربما شفع لي، فيرون أني كفعلى الفور: »فعلت هذا، ألني لم أستطع حفظ القرآن، وخشيت أن يضربني األستاذ.«

حينها غمز والدي لمدير المدرسة، واستأذن ومضى.ه هكذا في العلن، ولبالغ صغره وضعفه ال ساعة يرى أحد ما مؤامرة تدبر ضده من تآمر عليه. يملك غير النظر واالنتظار فإن داخله يتهاوى. يتساقط قبل أن يمس

ال أعنف من أن يتداعى البنيان من داخله! لقد أوقفني المدير في نهاية غرفته ساعتين، ساعتين من القهر والعذاب النفسي، خصوصا وهو يسحب الخيزران، تلك العصا الملفوفة، ويضعها على طرف مكتبه، ثم يرمقني من وقت آلخر بنظرات تسري في جسدي كالكهرباء. في آخر األمر قال: »افتح يديك« وضربني بعصاه تلك في كفي اليمين، ثم كفي اليسار على التوالي، وحين انتهى صبري، ولم أعد قادرا على احتمال أي جلدة، رفضت مد يدي لخيزرانه، فأخذ دت عليها، يضربني في سائر جسدي، ضربني حتى جثوت على األرض، حتى تمدولوال أن بعض المعلمين بالغرفة تحركت رحمتهم علي فقاموا يمنعونه من مواصلته

تعذيبي ما كان ليكف عن تلك البشاعة.لبست الثياب القصيرة، وهدلت الشماغ على صدغي، ولم يكن السواك ليفارق ني كنت كائنا آخر في داخلي: أحب فمي، وتعلمت كلماتهم ودعواتهم الخاصة، لكنن منها. أجل كنت أصلي األغنيات والصور والرسم واللعب، وال أستطيعها وال أتمكني لم أكن على وضوء، وكنت أصلي وأجلس بالمسجد، وأقف والسواك بفمي، لكن

ني كنت أكرههم! لكنكنت أقضي يومي على هذه الشاكلة: أستيقظ فزعا كل فجر على صراخ والدي، الذي ينادي لصالة الفجر. كان يدعونا بصرخة واحدة لنهب جميعا ونصطف وراءه، ها. وطالما عوقبت عقابا أليما ألنني تأخرت عن ركعة من الصالة، أو فاتتني الصالة كلومع لحظات الصباح األولى أتهيأ للذهاب للمدرسة، وأكمل ما بقي من الواجبات، ه، وفي مخيلتي صورة مدير المدرسة البشعة التي لم أكملها والحفظ الذي لم أتم

سين القساة! والمدريمضي الوقت الشاق في المدرسة: حصص القرآن وما فيها من الرعب، وحصص

اإلرهابي 20

Page 154: Beirut39 Arabic Anthology

154

الدين والمساءالت، حتى تأتي ساعة الفرح الوحيدة في اليوم وهي ساعة خروجي من ذلك المعتقل وعودتي للبيت. وفي البيت أقضي الوقت، حتى يحين العصر، في إنجاز بعض الواجبات وحفظ القرآن، ألنه يتوجب علي أن أخرج مع أغنامي لرعايتها

بعد أن أؤدي صالة العصر!اجاتهم لون بدر كثيرا ما كنت أمر بغنيماتي أمام أبناء الحي، وهم يلعبون الكرة ويتجوالصغيرة، فتتعالى ضحكاتهم: »الراعي... الراعي... الراعي.« كنت أعرض عنهم بزهو مصطنع، لكن بداخلي جرحا عميقا، إذ لم أكن مثل هؤالء، أنعم باللعب والمرح، حتى إذا ما خلوت بأغنامي هجمت على بعضها ألضربها وأشتمها، وأحملها سبب حرماني،

ثم أبكي بكاء حارا!

مقاطع من رواية »االرهابي 20« دار المدى، دمشق 2006

عبد اهلل ثابت

Page 155: Beirut39 Arabic Anthology

155

عدنية شبلي

فصل من رواية

كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب

بريد الحب

لقد تركت المدرسة اليوم. بعدما أعادت الصف الرابع مرتين والصف السابع مرتين، وأوشكت على أن تعيد الصف التاسع هذه السنة أيضا، رفع والدها حاجبيه نافيا.

وهذه الحركة بالذات هي ما كانت عفاف بانتظاره منذ الصف الرابع.ار وقتل في الـ 84، فان والدها كان عميلا، وقد ها كان من الثو بالرغم من أن جدولته الحكومة العديد من المهام المتعلقة بوزارات مختلفة، كتسلم طلبات إصدار هويات، تصاريح سفر، تصاريح بناء، خدمات بريد، إجازة مد خط هاتف، بيع سوالر، ت في كل صوب إلخ. لكن ولكونه ثقيل الحركة، نتيجة الدهون الزائدة التي استقرل ع أغلب مهام التجسس بين أفراد عائلته، واكتفى هو بتشغيل المسج من جسمه، وزالصغير الموضوع في جيب قميصه األبيض، النظيف والمكوي دائما. كان رجلا كسولا، ه أيضا لم تكن هنالك حاجة ألن يفعل ك من مكانه تحت شجرة اللوز. لكن وقلما تحرذلك، وال حتى ألن يغادر مقعده، كي يعرف ما يحيكه أهالي الحي من مؤامرات قد ة كسله تضر بأمن الدولة، فقد كان هؤالء يأتون إليه بأنفسهم. بل لو أتيح له، لشدل في جيب قميصه. وثقل حركته، لكان نادى على عفاف كي تضغط زر المسججهة إلى البيت تاركة والدها خلفها جالسا تحت الشجرة في قطعت عفاف الساحة متا وجدته نظيفا، داللة على أن زوجة ست الصعداء لم . صعدت درج البيت وتنف الظل

أبيها قد أنهت شغل البيت. دخلت، ثم دخلت غرفتها هي وإخوتها. رت بيديها االثنتين على وجهها لتمسح بعد أن جلست على حافة السرير، مرالعرق عنه، ثم أخذت نفسا طويلا أن »الحمد هلل«. عادت تقلب يديها أمام ناظريها،

Page 156: Beirut39 Arabic Anthology

156

وكانتا تلمعان بالرغم من قلة الضوء في الغرفة. رويدا رويدا راحت تستعيد وعيها بعد أن سطلتها حرارة الشمس، وبعدها فقط انتبهت إلى ثقل حقيبتها على ظهرها

فأنزلتها، ووضعتها على األرض آلخر مرة. وداعا!وقفت تخلع عنها مالبس المدرسة، ثم اتجهت إلى ماكينة الخياطة في غرفة ا. طبعا قفزت زوجة أبيها تسألها لماذا الجلوس وأخرجت من تحت غطائها مقصث معها إلى المقص ولم ترد عليها. هذه المخلوقة ال تفهم بالمرة أنها ال تريد أن تتحد، معلنة بهذا قطع كل صلة لها بنظام التعليم والتأكيد األبد، ثم قصت بنطالها المدرسي

على استحالة الرجوع إليه. جعلته حتى الركبة حتى ال يفتح أحد فاهه، رغم أنهم سيفتحونه على أية حال، ت من أكل زوجة والدها الباهت، ثم خرجت. وسمعتها، لقد لكن المهم والدها. تغد

رن كل حرف في إذنيها. د أنها هي العاهرة، أي زوجة أبيها، »عاهرة«. وما لمثل هذه المقولة إال أن تؤكر مزاجها وسعادتها ولكن ال عدل في الدنيا. ال تريد أن تعود لتشاجرها حتى ال تعك

باختفاء المدرسة نهائيا من عالمها. ل ساقيها. قطعت الساحة متجهة إلى أبيها تحت اللوزة، والذي بدأ من بعيد يتأم

عندما وصلت إليه، خرج صوته من تحت شاربه بصعوبة: ما هذا البنطلون؟ت بال مباالة: للركبة. رد

فعاد من خلفها: للركبة آه؟!وبعد لحظتين ممكن: لمن ستطلعين غير ألمك!؟

: ألبي ممكن. وجدت نفسها تردجها مباشرة إلى رأسها ليخبط به، وللحظات فإذا بحذائه البيتي يطير بالهواء مت

كانت ال تشعر إال بموقع الضربة. - آه يا عاهرة.

أكمل. ي في رأسها، ثم الحقتها أوامره: عادت أدراجها وخف والدها يدو

- غدا مبكرا تصحين وتفتحين البريد. ال تعتقدي أنك إن بال مدرسة ستنخمدين في فراشك حتى الظهر.

يوما ما، إن شاء اهلل يوما ما، سوف تطلق النار عليه وعلى زوجته، من ذات

عبد اهلل ثابت

Page 157: Beirut39 Arabic Anthology

157

تها وليفتح س هذا الذي يضعه خلف ظهره. ولن تخلع البنطال ولو على جث المسدهو البريد كل يوم.

***

ط شعرها وتعيد حساباتها: ام واستحمت، ثم وقفت أمام المرآة تمش دخلت الحمحسنا. البريد البريد، فليكن! المهم أنها نفذت من المدرسة وكذلك من شغل البيت.

د. مشكلتها الوحيدة اآلن في الحياة هي أن شعرها مجعام، أخرجت من علبتها )علبة شوكالطة سابقا( والتي اصطحبتها معها إلى الحمينة دبابيس شعر سوداء كانت قد تركتها والدتها خلفها من ضمن ما تركت، ثم دزسحبتها جميعا من حول قطعة الكرتون ووضعتها أمامها، فانضم للحظة إلى العتمة من حولها رنين ناعم صدر إثر اصطدام الدبابيس ببعضها وبحافة المرآة حيث نثرتها. ط شعرها بعد أن فرقته على اليسار، وبدأت تدفع الدبابيس فيه، الفة عادت تمشإياه حول رأسها من اليسار إلى اليمين، مبعدة كل دبوس عن الثاني بمقدار ثالثة ته بمنديل، ثم عادت إلى غرفة نومها هي وإخوتها، وضعت أصابع. بعدما انتهت غطة، ونامت. وبينما هي مستغرقة في نوم قيلولة عميق، راحت رأسها على المخدة تحتها تخضل ببطء وبإصرار نتيجة شعرها المبتل والعرق المتصبب من المخدوجهها في هذا اليوم الحار، وزادته األحالم المرعبة التي خلفتها في نفسها كلمات والدها وزوجة والدها الجارحة. بعد ساعتين تقريبا أفاقت للحظات، بقيت أثناءها في الفراش، تحس بخدر وثقل شديدين في رأسها، فيما أصوات شخصيات مسلسل

تلفزيوني ما تنبعث وحدها في فضاء البيت، ثم عادت ونامت حتى الصباح. ة سعادتها، في الصباح حلت المنديل وأزالت الدبابيس من شعرها. وكان شعرها، لشدته بالمنديل ها عادت ووضعت الدبابيس فوقه ولف ناعما، فبدت جميلة قليلا. لكن

ثانية، إذ لم تود أن تهدر جمالها سدى. صبت لنفسها كأسا من الشاي شربته وهي واقفة أمام جرن المطبخ، في حين ث هواء الصباح بأنفاسها جلس خلفها إخوتها يفطرون وزوجة والدها إلى جانبهم تلووألفاظها. بعدما انتهت وضعت الكأس الفارغ في الجرن، تناولت مفاتيح البريد عن

قة، ونزلت. العال

نا بعيد بذات المقدار عن الحب كل

Page 158: Beirut39 Arabic Anthology

158

لحظة فتحت الباب، اصطدمت مباشرة بهواء بارد جعل القشعريرة تعلو ذراعيها، فيما أخذ الضوء المتسلل من خلفها عبر فتحة الباب، يكشف أمامها تدريجيا للمرة المليون محتويات المكتب. لكن بما أنها من اآلن فصاعدا ستعمل بينها وستكون إلى

جانبها يوميا، نظرت إليها هذه المرة بطريقة مختلفة وبتأن. على الحائط إلى يمينها هواية ذات لون أبيض قديم، أسفلها لوحة كبيرة تسرد ه لم يكن هنالك حاجة لمتابعتها بإسهاب رسوم البريد حسب الوزن والبعد، لكنحتى النهاية: الصف األول على اليسار يكفي وزيادة، إذ أن كل ما كان يبعث به أهل الحي هو رسائل تزن أقل من خمسين غراما داخل البالد. أي نعم تظهر أحيانا موجة هواية المراسلة، ركوب الخيل والسباحة، ولكن بما أن الخيول قليلة وبرك السباحة معدومة، تبقى إمكانية المراسلة فقط، فيبعث الواحد منهم برسالة أو برسالتين إلى الخارج خالل حياته كلها، وتحديدا في فترة ما بين الصف التاسع والثاني عشر، حيث ن البعض أخيرا من كتابة رسالة باإلنجليزي بعد سنين طويلة من دراسة هذه يتمكة من أوروبا أو أميركا، تتبناهم فتنقذهم ها قلوب تبحث عن عجوز غني اللغة. وكلمن الحياة في البالد، التي تعد بأن تكون رتيبة حتى الممات. وأحالم... لوالها لما

كانوا حلوا وظيفة جغرافيا أو إنجليزي واحدة. ثم ينهار كل شيء وتتضح عدم واقعية مثل هذه األحالم بإيعاز من األهل، فتنتهي هواية المراسلة، وينتقلون إلى الحلم الثاني: الزواج، وعندها يبدأون يمينا. أو يسارا تنظر وال تضحك، ال رزينة فتاة الصيد: هواية بممارسة يندرج في التي ال األبدية، السأم يبدأ هو وفريسته رحلة بيد، يدا ومعا، البريد، الممثلة بجهاز االتصال إلى وسيلة الحاجة المرسوم هذا، مسارها اليوم على عاتق وحياة عفاف. والذي تسقط مسؤوليته ومهام تشغيله منذ قرب الحائط إلى اليسار وقف سطل بالستيكي أرجواني ضخم يخدم سلة للمهمالت، . بينما في وسط الغرفة، امتد قاطع خشبي قاتم اللون معلق فوقه هاتف عمومي رماديوطويل هو عمليا »البريد«، وقد وضعت عليه بعض العدة الالزمة: قلم حبر ينتهي بخيط طويل مربوط بمسمار مدقوق في الجزء الداخلي من القاطع، وعلبة صغيرة مؤلفة من قطعة خشب محفورة مملوءة بالماء، داخلها دوالب أسطواني عريض، ل لعابها عوضا عنها. تستخدم للصق الطوابع، لكن عفاف لن تستخدمها ألنها تفض

أما الجزء الداخلي للقاطع فقد كان يخفي عالما آخر. كان فيه رف ثان عليه دفتر

ة شبلي عدني

Page 159: Beirut39 Arabic Anthology

159

تجسس ودفتر وصوالت وملف طوابع، خبئت جميعها عن أعين المرسلين. وخلف الرف استقر كرسي له أن يدور حول نفسه وأن يزحف في جميع االتجاهات.

ثم راح يختتم المكان بكل محتوياته السابقة، ساعة حائط كبيرة تشير جملة صغيرة في وسطها إلى أنها مهداة من شركة تأمين سيارات. إلى يسار الساعة علق ة إلى درجة علم إسرائيل متسخ ومهترئ، وتحته صورة لرئيس الدولة لم تكن مغبرين إلى تغييرها بين الحين واآلخر بسبب من كبيرة مثل العلم، إذ أنهم كانوا مضطر

الديموقراطية. سحبت عفاف الكرسي وجلست تستقبل انعدام القادمين.

***

كان قد مضى أكثر من ثالثة شهور على عمل عفاف في البريد، لكن معاناتها لم تتفاقم، كما لم تقل، إذ أنها كانت قد استسلمت لمصيرها تماما منذ اليوم األول. ولقد كانت مهمتها الرئيسية في البريد فتح الرسائل وقراءتها، ومن ثم تبليغ والدها بمضامينها. كذلك، كان هنالك شخص من أهل الحي يسكن في أميركا ب عليها شطب يبعث أحيانا إلى أهله برسائل يعنونها إلى »فلسطين« ويتوجالكلمة وكتابة »إسرائيل« بدلها. عدا ذلك، لم تكن أي من الرسائل تحوي ما يمكن أن يضعضع أمن الدولة وال حتى أخبارا مثيرة يمكنها أن تسلي عفاف.

إذا كان أمرا عاديا بالنسبة إلى أهالي الحي أن تصل رسائلهم مفتوحة. غير أن ما د مع دخول عفاف إلى سلطة البريد هو شطب لبعض العبارات من الرسائل، تجدين. فاالعتقاد السائد هو أن ما شطب مما أثار العديد من الشجارات بينها وبين المتلقجملة تذكر شيئا مرفقا بالرسالة، أي هدية من المرسل، قررت عفاف مصادرتها

بعدما نالت إعجابها.، هو ل مرة منذ دخول سلطة البريد إلى الحي د في عهدها وألو كذلك مما تجدخة بالملل بمساعدة مفتاح تها يدها الملط بعض الكتابات على القاطع الخشبي التي خطالبريد، ومن بينها تظهر العبارات التالية: »عفاف«، خنجر تسيل منه ثالث قطرات ها، »31 - 6 - 78« دم، »8 - 9 – 71« تاريخ عيد ميالدها، »31 - 9 – 81« تاريخ أمتاريخ »تبطيل« المدرسة، قلب يخترقه سهم يخرج من نقطة تبدأ بحرف الـ »ع«،

وينتهي بعالمة سؤال.

نا بعيد بذات المقدار عن الحب كل

Page 160: Beirut39 Arabic Anthology

160

عالمة السؤال هذه تعني إجابة وحيدة وهي أنه لن يكون أبدا من نصيبها قصة ا وال بد أنه سيستخرج لها من تحت ج هذا أكيد، ألن يد أبيها طائلة جد حب. ستتزواألرض عريسا، عاجلا أم آجلا، وعلى األغلب بين هذا وذاك أي قبل أن تعنس، وبعد

أن يستفيد منها قليلا في خدمة البريد. ل الحياة الزوجية، وما سيقع على عاتقها من شغل البيت مرة وراحت عفاف تتخيأخرى والذي هي مرتاحة منه حاليا. ربما ستكون سعيدة، ولكن مستحيل. إن كانت ر؟ ها هكذا وتصبح سعيدة. ماذا سيتغي ر حظ كل حياتها كومة من الخراء، لن يتغيدت. ا عليها من والديها! ثم تنه العريس الغريب بالتأكيد لن يكون أكثر حبا لها وحنو

ا. أحيانا تجد تهما عفاف جد ها تتنهد مصدرة بذلك نغما ووقعا أحب كثيرا ما كانت أمعفاف نفسها مشتاقة إلى أمها رغم كل ما فعلته األخيرة.

هي ال تدري أين أمها اآلن أو ماذا تفعل، وال تدري كيف ولماذا حدث كل شيء. ذات يوم، في الصف الرابع، وكان الفصل األول قد بدأ منذ أيام فقط، صحت هي وإخوتها ولم يجدوا ال الشاي وال اإلفطار جاهزين، فراحت تبحث عنها في غرفة نومها هي وأبيها، ت كل البيت ولم تجدها، وال فائدة كم من الوقت ستبقى ها وجدتها فارغة. لف لكنرت أن تذهب للبحث عنها تبحث وتدور في أرجائه. ربما تكون في الحاكورة، فقرتها على الدرج، حتى قبل أن هناك. أحيانا هي تكون هناك. عندما خرجت التقت عم

تفتح فاهها، قالت تلك بازدراء: وال كلمة. فطري إخوتك، واذهبوا إلى المدرسة. الحقا من ظهر ذلك اليوم الموافق 31 - 9 - 1981، حين جلست هي وإخوتها حول ون، أعلن والدها من تحت شاربه، فيما هو يمسك بيده اليمنى بالمسدس السدر يتغدواليسرى تدلت فارغة عدا بعض الخطوط التي رسمها الضوء القادم من نافذة المطبخ، أنه ممنوع ألحد أن يذكر كلمة »أمي« أو يسأل عنها. ما اتضح بعد تجميع شخصي ألشالء جمل من أحاديث الناس قامت به هي سرا، جعل ذلك اليوم أطول أيام حياتها، لا إياها إلى كومة من الخراء ال تتوقف عن النمو: بل امتد ليصبح كل حياتها، محو

ت مع رجل آخر. أمها فرفجأة سمعت عفاف صوت تصفيق أجنحة حمامة، كانت كما يبدو واقفة عند باب بت عما قد تكون تفعله حمامة البريد، انتشلها من هذه الذكريات القاسية، فتعجس بظاهرهما في مثل هذا المكان القاحل المعتم. شبكت عفاف يديها وراحت تتحستة في شعرها، ألقت أثناءها نظرة خاطفة إلى الساعة على الحائط الدبابيس المثب

ة شبلي عدني

Page 161: Beirut39 Arabic Anthology

161

خلفها. كانت الساعة تقترب من العاشرة. بقي ما يقارب العشرين دقيقة من السأم التام أمامها، حتى تعود إلى القليل من الحياة مع قدوم الرسائل.

فصل من رواية »كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب« دار االداب، بيروت 2004

نا بعيد بذات المقدار عن الحب كل

Page 162: Beirut39 Arabic Anthology

162

عالء حليحل

قصة قصيرة

تعايش

يجب أن أتحدث معه. فاألمر لم يعد يحتمل التأجيل، حتى لو أنه ال يعرفني أو لم يسمع بي. سأتصل به وسأقول: يتكلم أنا وأريد منك »إكسا ووايا وزدا.« هكذا، بصراحة ومن غير مواربة، وإذا تلعثم أو استهجن المكالمة فإنني سأغير من لهجتي. سأقول له: اسمع، نحن عرب ونفهم بعضنا بعضا. كل ما أطلبه منك هو »إكس وواي « وكفى. أنا متأكد من أنه سيصغي فمن المفروض أنه قائد شجاع وهمام ويصغي وزدللبشر. وأنا فلسطيني، سيستمع إلي بالتأكيد، وإذا لم يستمع فقد يحق لي أن أسأل

ساعتها: فما الذي جرى، يا ترى؟أصال، كل الذي أطلبه منه هو أن يبتعد عن هنا. ال تعقيد في األمر. يمكنه أن يصوب حممه نحو الخضيرة أو العفولة أو حتى نتانيا. ما السيئ في هذه المدن؟ »تصطفل« يا أخي. لماذا حيفا بالضرورة؟ فحيفا مليئة بالعرب. تجدهم في كل مكان: في المقاهي والبارات والمساجد والكنائس والشوارع والباصات. الباصات! الباصات اد مليئة بالعرب يا أخي، تنغل نغلا، تطفح طفحا، تفيض فيضا. والعرب فقراء وروالباصات من الفقراء. والفقراء هم الذي يأكلون الخراء في دولة اليهود وأول من يتسخمون تاريخيا. يأكلون وال يجدون الحلوى لترطيب أفواههم. سأقول له ذلك، وهو سيفهمني بالتأكيد. ال بد أن يفهمني. فأنا فلسطيني مثلي مثله، والفلسطيني للفلسطيني ان ال يفترقان. نا في الهواء سواء، ولنا في البرتقالة شق سند، وعون وعضد. وكل

فنحن الفلسطينيين، على اختالف مشاربنا ومذاهبنا وانتماءاتنا الجغرافية، مثلنا كمثل المرأة التي اشترت لزوجها ربطتي عنق، هدية لعيد ميالده. فما كان منه في اليوم التالي إال أن ارتدى إحدى الربطتين الجديدتين. فلما رأته زوجته قالت مندهشة:

لماذا تلبس هذه، ألم تعجبك الثانية؟ فأسقط في يده وقلبه ولسانه!

Page 163: Beirut39 Arabic Anthology

163

فمن جهة، وأنا أحسبها اآلن، قد يجوز أن الصواب في أن أبعث إليه برسالة، بدال من الهاتف. فقد يتذرع بأن الهواتف مراقبة، أو قد يقول مساعده إنه ال يتحدث في الهواتف ليصعب عليهم معرفة مكانه. ولكنني أعتقد أنهم يعرفون مكان سكناه. فهذه هينة جدا. ولكن قد يكون أنه ال يبيت في بيته أو أنه دائم التنقل من مكان إلى آخر

لتفادي أخطارهم، فاستحسنت الفكرة والمؤدى.المهم، أن قراري قر اآلن على أن أبعث له برسالة. أخرجت دفتر الخربشات األصفر

والقلم األسود الذي أكن له كل اإلخالص وكتبت:»إلى حضرة القائد المحترم،

تحية وبعد.الموضوع: أنا أكره العمليات في حيفا.

ال شك في أن حضرتكم يعلم أن هناك أكثر من 35.000 عربي يسكنون في حيفا. وال شك أيضا في أنك تعرف أن الشباب الفلسطينيين الذين تبعثون بهم لينفجروا في

شوارع دولة اليهود، يفجرون أنفسهم أحيانا في شوارع حيفا.تي وإخالصي للقضية. أنا فلسطيني ك في وطني أيها القائد العزيز، أرجوك أال تشكملتزم وبحماس منقطع النظير. ولكن هل سيكون مبالغا به لو طلبت من حضرتكم أال قني. ولكنني ال ترسلوا الشباب إلى حيفا؟ ليس ألنني أخاف على حياتي شخصيا، صدأحب كل األحاديث التي تدور بعد ذلك عن »التعايش« بين اليهود والعرب في حيفا.

أكرهها كما أكره البحر ورائحته.أرجو أال تفهمني بشكل خاطئ. ولك مني بالغ التحيات والشكر...«

ن. أعجبني مقطع: »وبحماس منقطع النظير«، ألن فيه كلمة قرأت الرسالة بتمع»حماس« ولكن في سياق آخر، ولكن ال بد أنها ستؤثر فيه... في الالوعي، ألنها ة ثالثة. جيدة. ال أعرف إذا كنت اة. قرأت الرسالة مر اسم حركته وحبيبته المفداوي وقد يكون مغرما سأبقي على قضية أنني أكره البحر ورائحته. فقائدنا غزبالبحر والساحل، على عكسي، أنا الفالح المتقاعد، سليل الجبال والوديان والتالل، امة النزاع األزلي بين أهل مفتقر ألي رأسمال. وأنا بصراحة ال أريد أن أدخل في دوة. كل ما أطلبه اآلن هو الساحل وأهل الجبل. فهذا زائد اآلن وال يفيد أحدا، بالمرم. ولذلك فإنني أن يولي طلبي األهمية الالئقة، وأن ينظر إليه بعين الرضى والتفه

تعايش

Page 164: Beirut39 Arabic Anthology

164

ة البحر. سأحذف قضيقرأت الرسالة للمرة الرابعة. جيدة. قد يجوز أن علي االستغناء عن مقطع...»الشباب الفلسطينيين الذين تبعثون بهم لينفجروا في شوارع دولة اليهود.« فقد يرى في هذا المقطع تقييما مني ونقدا مباشرا له ولحركته. وهذا سيخلق ال شك توترا غير مطلوب وغير محمود اآلن. ماذا يعنيني اآلن إذا كانوا هم من يرسلون لونهم أن يكونوا اآلتين في الدور الشباب أم أن الشباب هم من يطلبون منهم ويتوسني أقطن في حيفا، وال ة؟ ال يعنيني أبدا. صحيح أنني فلسطيني، ولكن إلى الجنة لما يعانيه إخوتي في المناطق أعرف حيثيات وتراكمات اإلسقاطات الحتميالمحتلة. والذي يده في النار ليس كمن يده في الماء. ومن يأكل العصي ليس كمن ي. فقلت: أشطب هذا المقطع، فشطبته. ها... والذي يأخذ أمي، ال يكون إال عم يعد

ني ا كتبته ولكن ثم قرأت الرسالة للمرة الخامسة. كنت في رضى شبه تام عمرأيت من المناسب أن أتنازل عن مقطع: »أرجو أال تفهمني بشكل خاطئ«، ألنه قد يشتم منه أن فهمه ال يستوعب ما أقوله، وهذا سيئ جدا في مراسلة تتم للمرة األولى بين فلسطينيين. فحذفت المقطع، ورأيت أن ما فعلته حسنا، فانفعلت. فقلت: أقرأها مرة سادسة. فالعجلة من الشيطان وشر البالء أسرعه، والشطيرة ة بالبصل. ناديت عليه بهدوء وطلبت منه أن التي أحضرها النادل اآلن محشويفرغها من البصل ألنني ال أحب البصل النيء. أحبه مطبوخا. فمنذ أن دس زميلي إياه، فحل البصل إياه، في المظاهرة إياها، في فمي إياه، بعد إطالق الغاز المسيل أت أمعائي على أرض فلسطين اه، وأنا أكره البصل النيء. أذكر اآلن أنني تقي للدموع إيالتاريخية، ليس من الغاز، بل من قطع البصل الكبيرة التي علقت في منخري وقصبتي الهوائية. وهكذا صرت أكره البصل، بحيث لم يكن رفضي له تبرجزا ة، بل كان رفضي لحفظ رائحة فمي للحظات الحميمية التي قد تدهمني على حين غرتي. نابعا عن مظاهر بوست- صدامية تدهمني على حين غرة فتفسد علي شهيوعندما تأخر النادل في تنقية شطيرتي من البصل النيء قلت: أقرأ الرسالة مرة سابعة، فقرأتها. فتوجست قليلا. فماذا لو ظن أنها من »الشاباك« المخابراتي؟ هذا جائز جدا. فقد يرى فيها تجربة ما أو توريطا له في مأزق سياسي. تعالوا نحسبها: لو أنه استجاب للرسالة وأوقف العمليات في حيفا فإنه سيلقى معارضة، إن لم تكن اءة ال شك. فكيف يمكن استثناء حيفا من أهداف العمليات عاصفة فإنها ستكون بن

عالء حليحل

Page 165: Beirut39 Arabic Anthology

165

ة؟ أفي براز حيفا خرزة زرقاء؟ ومن التفجيرية/ االنتحارية/ االستشهادية/ النوعيجهة أخرى قد يطيب االعتقاد بأن هذا الطلب ليس إال تمويها لمؤامرة »فتحاوية« تسعى لشهر عرضه في شوارع القدس- مدينة الصالة. بمعنى: ألم تر كيف فعل

شيخك بأصحاب العويل، فجعلهم في تهليل )والتهليل للطبطبة(؟بعد القراءة الثامنة تأبطت حيرة. قلت أحملها إلى صديقتي التي لم تعد صديقتي، مع أنها صديقتي، ولتحكم هي. فهي تقرض القانون والقضاء وفيها من الحكمة والحنكة ما قد يجعل الجدار الفاصل أمثولة للرائين، طينه من طين، وأسالكه من عجين. ا أمسى المساء جاءت إلي كعادتها، فتطارحنا العتاب وقلت أسألها، فسألتها. فقرأت فلمالرسالة وقالت من دون ريب: حمار! فقلت: ولماذا؟ فقالت: و»الشاباك؟« قلت: ما ون أن لك مشورة عند الشيخ، له »الشاباك؟« قالت: إذا قبضوا على الرسالة سيظناءات في قفصه الصدري. فقلت: فاتتني هذه واهلل، فقالت: يفوتك الكثير ولرغباتك بكوال تتعلم. فلمحت في جوابها تلميحا غليظا إلى فراقنا األخير، فتجاهلت تلميحها، فحذت حذو النساء في عدم استسالمهن لتجاهلك لتلميحاتهن وأردفت بنبرة أقوى

وأشد من األولى: حمار!مت شطر وادي النسناس العربي القح فلما أصبح الصبح وأنا في عداد الحمير، يموقلت، أفطر على طاجن من الحمص والفول ألعود للنوم بعد الموقعة، فال يصح بعد الحمص والفول إال النوم. )وفي رواية أخرى: ال يصح إال الغطاط في النوم، واألمران ان(. وفيما كنت منهمكا في ضرب الحصار المحكم بقطعة الخبز المحكمة على سيخة بدم الزيتون، فاجأني صوت المذيع المتلفز يعلن بقعة الزيت الخضراء المضمة طلقة: انفجار في حيفا! يا إلهي، يا إلهي، انفجار عن خبر عاجل بعبرية ساميفي حيفا! إخص!! إذ كيف يصح ذلك؟ أينها لترى أنني لست حمارا، أينها لتعتذر ملء مهانتها عن ملء مهانتي؟ لو كنت أرسلت الرسالة إلى الشيخ لما حصل ما حصل! يا إلهي، ستطوف غدا الطواقم المتلفزة والورقية واألثيرية في حيفا، هنا، قرب مطعم الحمص والفول، لتسأل العرب عن شعورهم حول العملية وما إذا كان ذلك سيؤثر على التعايش. كل ذلك وأنا ما زلت محكما القبضة على بقعة الزيت الخضراء، غامسا يدي في الصحن، ومثبتا عيني في التلفاز: العملية في الباص المؤدي إلى الجامعة،

وأخي في الباص المؤدي إلى الجامعة.هرولت إلى الشارع مضطربا، وعندها فقط تأكدت من أنها على حق. فأنا حمار.

تعايش

Page 166: Beirut39 Arabic Anthology

166

لو كنت اقتنعت بابتهاالتها لكي أقتني هاتفا محمولا لما كنت اآلن أركض في الشارع كاألبله أبحث عن هاتف عمومي أبله يحملني عبر الخطوط البلهاء إلى حضن صوت أخي الدافئ. فلما كللت من البحث اتكلت على الباري وقلت: أعود إلى المطعم، فعدت. فلما جلست جاءت صاحبة المطعم وقالت: قهوة؟ فقلت لها: الحساب. فقالت: مت صعودا نحو بيتي الكائن عند كذا وكذا، فنقدتها كذا وكذا من الشيكالت ويمأسفل قدمي الكرمل. في البيت وجدت أخي، لم يمسسه بشر. فقلت: الحمد أنك بال دنس من الدماء، فقال: والحمد أنك كذا. فارتحنا وجلسنا نرقب الدماء على الدماء. ثم قال: اتصلوا بك من الجريدة العبرية. يريدون أن يسألوك عن تأثير العملية على التعايش بين العرب واليهود في حيفا. فقلت: قل لهم حذار من جوعي ومن غضبي! رت على صحن الحمص بالفول الذي لم أنتهكه إال قليلا، وأنشدت لبقعة الزيت وتحس

الخضراء األصلية، ما أنشده الشاعر:

وبيض الهند تقطر من دمي ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني لمعت، كبارق ثغرك المتبسم فوددت تقبيل السيوف ألنها

من كتابه "االب واالبن والروح التائهة"، رواية قصيرة وخمس قصص، دار العين، القاهرة 2008

عالء حليحل

Page 167: Beirut39 Arabic Anthology

167

فايزة غوين

قصة قصيرة

ميمونة

1- الصرخة

أطلقت صرخة كبيرة. كانت صرخة قوية إلى حد أنها اصطدمت بالسقف، قبل أن تتناثر على أرضية

الغرفة المبلطة، كما تسقط آالف الكريات الرصاصية.ة مما يمكنكم أن تتخيلوه. صرخة من رة، أكثر حد صرخة حادة، مزعجة ومكدالوزن الثقيل، من نفس نوع »المدافع الصوتية« التي يستخدمها اليوم شبه العسكريين

أو الشرطة بهدف إبعاد العدو. صرخة مبرمجة كي تحدث زلزالا. أظهرت النسوة المهتاجات حولي بعض الرضى، بل االرتياح.

ن ، والحر خانق. أكاد أختنق وال يتحس أالحظ أن رائحة لحم قوية اجتاحت الجوالوضع مع كل هذه الجلبة.

اق، والوجه كما أن هناك هذه المرأة الشابة، المرتعشة قليلا، ذات الجبين البرالوردي، وعيناها تتدفقان بالدموع وهي تنظر إلي ألول مرة.

نحن في 19 أغسطس 1947، لقد ولدت.»بعد الوالدة بداية الموت« تيوفيل غوتيي

Page 168: Beirut39 Arabic Anthology

168

2- بداية الموت

ق، إذا سألتموني لماذا يبدأ المرء بالصراخ، ما إن يخرج، حتى تكاد حنجرته تتمزالي: هل تتذكرون ما يشعر المرء به بعد تسعة أشهر قضاها في فسأجيبكم بالت

العتمة؟ أولا: تسعة أشهر هو زمن طويل. لقد شعرت بالعزلة إلى أقصى درجة خالل هذه الت العديدة التي جرت الفترة. كنت مرغمة على أن أعيش، وحيدة، تجربة التحو، أشياء جديدة تنمو في في داخلي بشكل يصيب بالدوار. كنت أالحظ، بشكل مستمرلوا أنكم تكتشفون كل مكان: ذراعين، ساقين، أصابع وشعرا...أمر مقلق بالفعل. تخيكل صباح، وأنتم تنظرون إلى أنفسكم في المرآة، أن أذنا أو قدما. وانتهى بي األمر إلى أن أعتاد على ذلك كسائر األمور. ثم ال بد من القول إن ذلك كان جميلا ومرتبا ر، بشكل ة وبدقة األبعاد. أتذك ق. كنت معجبة بالنوعي بشكل رائع، بشكل ال يصد

. في ذلك اليوم عرفت األشياء. خاص، اللحظة التي اكتشفت فيها يديلقد نمت في معظم األحيان. من اإلنصاف القول إن المكان كان مريحا. لقد نعمت بأكثر القيلوالت عذوبة في حياتي، خصوصا في األشهر األولى، إذ كان المكان ما يزال ط. غدا األمر أكثر إجهادا بعد ذلك. وبسرعة ازددت فسيحا، وكنت أستطيع التمط

ميليمترات ثم سنتمترات، وفي النهاية كنت محشورة بصراحة.ى بعض العالم الخارجي... نعم، لدينا فكرة حدسية عنه: إحساس، عالمات، بل حت

ات. اليقينيأخيرا: ال أحد يصل إلى هنا بمحض المصادفة.

الي كنت أستفيد منذ كنت جنينا، كنت أترقب مستقبلا أتوقعه مظلما. وبالتمن هذا العالم المطمئن خالل إقامتي تلك، عائمة في الجو الرطب، مدركة أن هذا

الشعور باألمان لن يدوم.كنت أمتلك، لحسن الحظ، بعض العالمات: أصواتا أصبحت مع الوقت مألوفة بالنسبة هت ركلة ا أسمعه أحيانا، حدث أن وج إلي. فضلا عن ذلك، أنني بسبب االنزعاج ممات عديدة، صارخة إلى أحد الجدران المحيطة بي. لقد أطلقت العنان لغضبي، مرضد جدران ما أسميته »غرفتي المؤقتة«. لكن احتجاجاتي ظلت غير مفهومة،

لألسف، بل إنها أثارت البهجة. ال بد أنهم اعتبروني قوية منذ البدء.

فايزة غوين

Page 169: Beirut39 Arabic Anthology

169

ة أشياء كثيرة ال نفهمها. وال يمكن أن نمنع أنفسنا من التساؤل: لماذا أتينا إلى ثمهنا وليس إلى مكان آخر. أي مصادفة جعلتنا نجد أنفسنا في هذه القرية، في حضن

ث هذه اللغة ونحمل هذا التاريخ؟ هذه العائلة، نتحدبالتالي من أجل نيل جواب على كل هذه األسئلة، يوجد خياران: اإليمان بمشيئة قة، كل هذه الظروف وفق هدف نهائي. أو قرار االتكال على صنعت، عبر نظام بالغ الدما نسميه جميعا المصادفة، مع كل ما يتطلبه األمر من عبء: العيش مع نفس األسئلة

التي تنهال علينا دونما انقطاع، وهذا حتى النهاية التي ال يجهلها أحد.إذا فأنا أؤمن، بحزم.

فأنا، مثل الكثيرين، ال أحب أن تظل أسئلتي من دون أجوبة.ات، التي تحمل وشما على جبهتها، على صدر أمي وضعتني إحدى النساء المسنالساخن. أحسست بقلبها يخفق اضطرابا. بدت أمي نحيفة القوام ويافعة، الحظت أنها ال تزال تبكي، كالطفلة، عندئذ طلبت منها المرأة العجوز الموشومة السكوت، ة وقطعته. مثلما يطلب من طفلة. امرأة عجوز أخرى، بال أسنان، أمسكت بحبل السرفتني بقطعة من قماش خشن تغمسه بماء رفعتني كي تحملني إلى الحوض، حيث نظ

ساخن، كان األمر مزعجا، وكان القماش يحك جلدي.ونظرت إلى يدي المرأة العجوز. كانتا رقيقتين، وناتئتي العظام وعليهما بقع ضاربة إلى السمرة. وكانت من حين آلخر تعيد خصلة من شعرها الرمادي إلى

داخل خمارها الملون.أكثر من عشر نساء يتشاغلن من حول والدتي المسكينة.

دة تماما من اللحم، هياكل ة، مجر ة لدجاجات مسن ر منظرهن بهياكل عظمي يذكة من ركن إلى آخر في الغرفة، كما عظمية مسنة تتقاذف فيما بينها أصواتها الحاد

لو أنها تتراشق بحبال معقدة األلياف.واستسلمت لهن أمي اليافعة المنهكة.

ات، قمن بغسلها، وأنهضنها، وتحدثن إليها بصوت ات ومر ر مر وبحركات تتكرمنخفض، بينما واصلت المرأة العجوز، التي ال أسنان لها، عملية التنظيف: دهنتني اء، ومن جديد ماء ساخن، تني بالحن بالصابون األسود، صبت علي الماء الساخن، غطتني بشكل كامل بقماش سا بالكحل، وأخيرا، لف رت بين أجفاني عودا صغيرا مغم ثم مر

ميمونة

Page 170: Beirut39 Arabic Anthology

170

تت يدي بين طبقات النسيج مانعة إياي ا، فثب ة جد ة خاص طويل مستخدمة تقنيمن وضعهما فوق وجهي. وأخرجت المرأة العجوز عندئذ من جيب معطفها منديلا أبيض صغيرا، في داخله تمرة، قضمت نصفها بصعوبة بواسطة لثتها البائسة العارية ووضعت النصف الثاني من التمرة في فمي، بضع ثوان فقط. وشعرت بمذاق لذيذ ظ بأدعية ليحفظني اهلل قبل أن تضعني كمومياء بين وحلو. وأنهت عملها وهي تتلف

ل، بحزن، في الفراغ ولم تعد تعيرني أي انتباه. ذراعي والدتي. كانت نظرتها تتجوفجأة دخل ولد صغير إلى الغرفة، يحمل بيده عصا خشبية أطول منه، وكان شعره ه كالمه للمرأة العجوز، التي بال أسنان، والتي غسلتني، المتجعد منفوشا وأغبر. وج

ئ باليد األخرى على عصاه: وهو يلعب بيد بحاشية سرواله الرياضي القصير ويتك»ما األمر يا أمي؟ بابا واآلخرون يسألون! لم يسمعوك.«

ة. استدارت، ألقت عليه نظرة حادفجأة انحنت والتقطت صندال قذفته به كالعاصفة. تفاداه بالكاد وضحك.

- »حسنا، إن لم يسمعوا شيئا... أفلم يفهموا؟ عد لرؤيته وقل له إنه ليس من ا انصرف وأعد العصا ألبيك!« حاجة لذبح الثور، سيفهم عندئذ، أليس كذلك؟ هي

كت الستارة الخضراء المزهرة، والتي تقوم مقام الباب، فظهرت نسمة خفيفة حرل فيها الدجاجات وتقوقئ تحت شمس ملتهبة. وبينما كان ساحة صغيرة تتجوالرجل - الولد الصغير- يبتعد، طرد الدجاجات وهو يقفز، وحاول ضربها بعصاه

الخشبية.- أنا تعبة وأحس بجفني ثقيلين.

هت المرأة الموشومة بالحديث إلى والدتي بنبرة جافة: توج- »واسمها؟«

ست في لحظة وأجابت: وأخيرا، استدارت أمي نحوي، تفر- »ميمونة«

ساد صمت ثقيل، ثالث أو أربع من النساء العجائز اللواتي كن موجودات هناك، التقطن لباس الحايك ولففن به أجسامهن. أصبحن مجهوالت من جديد وبحركة ين بقايا الدجاجات قبل أن يختفين في بياض نسيجهن، تجر كت الجو الحار، حي حركل منهن هيكلها العظمي. وسمحت لنا رقصة أخرى للستارة الخضراء المزهرة برؤية

موكب الدجاجات العجائز وهو يخترق موكب الدجاجات الحقيقية، ذات الريش.

فايزة غوين

Page 171: Beirut39 Arabic Anthology

171

3- العودة

كم أغبط عبد الحق.وفي األزرق، والذي كان الطفل الصغير ذو الشعر المنفوش، والسروال القصير الصه إلى المدرسة التي تبعد 9 كيلومترات يركض دون توقف، أصبح شابا مجتهدا. يتوجه إلى أقصى العالم. لم من هنا. يستيقظ قبل الديك، كل صباح قبل الفجر، ويتوجه، كلثوم، الهيكل العظمي الذي فقد أسنانه، تريده أن يتابع دراسته. حاولت تكن أمت عن ذلك لحسن الحظ. لقد ها كف ثنيه عن الذهاب إلى المدرسة بكل وسيلة. لكني أحمد. لم يتبق منه سوى عصاه قدمت الكثير من التنازالت منذ وفاة زوجها، جد

البائسة المعلقة بمسمار بالقرب من فرن الخبز.ى منه، أيضا، 15 ابنا. ونسيت: تبق

ى إنه كان قيل عن جدي إنه كان ينجب أبناء أقوياء. وقد نال شهرة كبيرة. حتنا. ال أستطيع فهم العرب بسبب قصصهم المتعلقة يسأل إن كان يتناول غذاء معير. إذا كان كل أبنائه قد ظلوا على قيد الحياة فاألمر ال يتعلق بالسحر، أو الحظ، بالتطيتي خصبين، ي وجد أو شيء يكون قد شربه أو أكله، ولكن بفضل اهلل، الذي جعل جددة. 15 ابنا! بذلك أجد أنه بشكل استثنائي، ومنح أبناءهما الخمسة عشر صحة جيي عجوزا كثير الدمدمة، من الجحود أن ينسبا لنفسيهما كل هذا الفضل. كان جديشكو من كل شيء. لم يكن يشكر اهلل رغم كل النعم التي أغدقها عليه. لم تكن زوجته، وحدها، الخصبة، بل أراضيه أيضا، لكن قلبه، لألسف، هو الذي كان مجدبا.ر كل يوم، كان منزلنا مرتفعا، يشرف على األراضي والحقول، نفس الطقوس تتكري وطريق أشجار الزيتون في وسطها. كانت أمي تعرف الساعة التي يعود فيها جدده وهي تنشر الغسيل في فناء البيت. كان من عادته أحمد عادة من السوق، تترصأن يضع على رأسه رزة، وهي عمامة ذات لون فاقع، أصفر أو برتقالي، وعليه ها ة، وأحس كانت رؤيته سهلة. كنت أساعد أمي في هذا العمل. أحب هذه المهمي، وهو يمضغ بالغة األهمية. كان البغل المحمل يصعد بصعوبة، وعلى ظهره جد

التبغ كالعادة.ا وبالغة االنحدار، بحيث إنه من اللحظة التي تبدأ فيها كانت الطريق طويلة جدي عن ظهر بغلته، تكون أمي ى نزول جد العمامة الصفراء في الظهور في األفق حت

ميمونة

Page 172: Beirut39 Arabic Anthology

172

ن الماء وتضع زيت قد أنهت واجباتها. كان عليها أن تخرج الخبز من الفرن وتسخالزيتون في جفنة، وتهيئ الشاي وتمدد حصيرة الخيزران في الفناء، مع وسائد،

من أجل ظهره.وحالما كان يربط بغله إلى جذع شجرة، كانت أمي تسرع لمالقاته، وتخلصه من سالله وتسبقه، كي تضعها قي المطبخ، ثم تعود لتساعد جدي على الجلوس، فتخلع حذاءه وتضع قدميه في الماء الساخن، الذي وضعت فيه قبلا قطعة ملح كبيرة. ثم م له الشاي والخبز الساخن الذي كان يحب غمسه في زيت الزيتون. بعد كانت تقدش هذه اآللية كل هذا، يمكن ألمي أن تركن للطمأنينة. وإذا ما حدث خطأ صغير شو

ي يستشيط غضبا، وأحيانا يبصق في وجه أمي. المتناغمة، كان جدلم يكن العجوز والد أمي، بل كان حماها، والد زوجها. ربما كان األمر أكثر سوءا. عبد الحق هو االبن الخامس عشر واألخير في هذه العائلة الكبيرة. كل اآلخرين جوا وغادروا البيت. على كل حال، نبالغ إذ نقول »غادروا«، إذ أنهم موجودون تزودوا منازلهم الخاصة من الحجر، ومنحوا على بعد بضع مئات األمتار من هنا، وقد شيتهم حول الحقول. سوى واحد منهم ألنفسهم ما يشبه االستقاللية من خالل تشتا. وهو االبن الثامن، محمد، أبي، الذي يعيش شتت روحه بالذهاب للعمل بعيدا جدفي فرنسا، والذي لم أره قط. نحن في شتاء سنة 1953 وأنا أحيك له زوج جوارب ارتين. سيعود إلى الجزائر في سميكا بصوف خرافنا وبريشتي ديك أستخدمهما صن

بداية الربيع. وأنا أستعجل عودته.

4- المنفى األخير

ة االهتياج، أنا ووالدتي. سيتسنى لي أخيرا أخذ كل األجوبة ا في قم حين عاد، كنى اللحظة، عن أسئلتي التي لم أتوقف عن طرحها على أمي، طوال هذه السنوات. حتف بها األطفال كي لم يكن أبي بالنسبة لي حقيقيا أكثر من »األم الغولة« التي يخويظلوا هادئين، أو من جحا، الشخصية الهزلية، الذي تحكى مغامراته العجيبة في كل العالم العربي. كان أبي، بالنسبة إلي، إحدى هذه الشخصيات التي تسكن مخيلتي. تي كلثوم شيئا، وتخلط كل ر جد لم أكن أعرف وجهه وال صوته وال ميوله. وال تتذك

فايزة غوين

Page 173: Beirut39 Arabic Anthology

173

ت ر المرء الطرف عندما يكون لديه 15 ابنا... قص األشياء. ليس من السهل أن يتذكعلي أمي بعضا من هذه األشياء الصغيرة لكني وجدتها تافهة. على كل حال، حسب

ما عرفت لم يكن أبي ثرثارا. ي من السوق. د كما نفعل حين ننتظر عودة جد ا واقفين على عتبة الباب نترص كنأبي يقترب في ضباب الصباح، كما في الحلم، كان األمر رائعا ومضطربا في آن. وجدته تي بالبكاء وهي تجري نحوه، تتبعها أمي. كان من العادي ا. انفجرت جد جميلا جدرؤية أمي تبكي، أما رؤية جدتي كلثوم تذرف الدموع، فكان أمرا نادرا، حتى كدت

أتصور أن ثمة علجوما عجوزا يجثم على صدرها، ويجلس مكان قلبها.كان العناق قصيرا ولكن قويا. بقيت متنحية، كنت على غاية االستحياء، وهو

م. الذي طلب مني أن أتقدعتني أمي بتربيتة خفيفة على ظهري وقالت ألبي: »ها هي ميمونة! إنها شج

تساعدني كثيرا!«ا. بشارب أنيق ورقيق، وشفتين ممتلئتين، وحين ابتسم بدت نعم، كان جميلا جد

أسنانه فائقة الجمال.خالفا لكل أعمامي الذين لم تكن لهم أسنان شنيعة فحسب، بسبب مضع التبغ، ا قاتمة، تخفي كل أفواههم! فكأنهم ألصقوا ذيل بغل ولكن أيضا شوارب كبيرة جد

على وجوههم! يا له من رجل جميل، أبي! كما قلت سابقا: من البداية يوجد خياران. اإليمان أو االعتقاد بالمصادفة.

ب عليه الرجوع، بفضل رسالة عاد أبي قبيل الحرب ببضعة أشهر. أدرك أنه يتوجمن أخيه عبد العزيز، كتبها عبد الحق )المتعلم الوحيد في العائلة( والتي يقول فيها: »عليك العودة فورا، ألننا، أخيرا، سنحصد الشعير.« بطبيعة الحال، كان كل

هذا ألغازا.إذا اندلعت الحرب: الجوع، والصليب األحمر، والنفي إلى المغرب، والمدرسة، والخوف. هذا الجندي الذي وضع بندقيته على صدغ أخي الصغير مصطفى وكان ا يتجاوز عمره بضعة شهور، وكان ينام على ظهر أمي. قال الجندي: »يجب أن لم

نقتله اآلن قبل أن يكبر، ويلتحق باآلخرين في الجبل.«

ميمونة

Page 174: Beirut39 Arabic Anthology

174

ثم الحرية.يت هذه الكلمات، من أعماق روحي: بعد أن غن

1قسما بالنازالت الماحقات

والدماء الزاكيات الطاهراتوالبنود الالمعات الخافقات

في الجبال الشامخات الشاهقاتنحن ثرنا فحياة أو ممات

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائرفاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

2نحن جند في سبيل الحق ثرنا

وإلى استقاللنا بالحرب قمنالم يكن يصغى لنا لما نطقنافاتخذنا رنة البارود وزنا

اش لحنا وعزفنا نغمة الرشوعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

3يا فرنسا قد مضى وقت العتاب

وطويناه كما يطوى الكتابيا فرنسا إن ذا يوم الحساب

فايزة غوين

Page 175: Beirut39 Arabic Anthology

175

ا الجواب ي وخذي من فاستعدإن في ثورتنا فصل الخطاب

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائرفاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

4نحن من أبطالنا ندفع جنداوعلى أشالئنا نبعث مجداوعلى أرواحنا نصعد خلدا

وعلى هاماتنا نرفع بنداجبهة التحرير أعطيناك عهداوعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

5صرخة األوطان من ساح الفداء

فاسمعوها واستجيبوا للنداءواكتبوها بدماء الشهداء

واقرأوها لبني الجيل غداقد مددنا لك يا مجد يدا

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائرفاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

وطئت قدماي أرض فرنسا. تزوجت، في سن العشرين، عاملا متخصصا. كان ه كان ن السجائر طوال النهار، لكن قصيرا وسمينا، وكان أخرق بعض الشيء ويدخ

ه فيه. با دائما. هذا ما كنت أحب بالغ اللطافة. كان طي

ميمونة

Page 176: Beirut39 Arabic Anthology

176

ما كان يضجرني فيه أنه يشتغل كثيرا، وكنت أظل معزولة، وحيدة، كل الوقت. المنفى وقسوته. أن يهجر المرء عائلة كبيرة، والفضاء الفسيح والحب واألهل، والوطن، ويجد نفسه يقيم في الطابق العاشر من برج خراساني يحوي من الحزن ان. لم أكن أعرف لغتهم ولم يكن لدي هوايات، ووجدت من قدر ما يحوي من السكالغرابة بمكان أن يلبس هؤالء الفرنسيون كالبهم معاطف أنيقة في الشتاء! وسقطت مريضة، كنت حاملا بابني األول، ولم تكن لدي رغبة في أي شيء، وكان الهزال ظاهرا علي. قال األطباء إن األمر يتعلق باكتئاب عميق. وكانت توقعاتهم متشائمة

بصددي وبصدد الرضيع. كل يوم، في الساعة العاشرة والثانية بعد الظهر والسادسة مساء، كانت راهبات طيبات من كنيسة سانت –جيرمان يقمن بزيارتي. لقد واسينني وقمن بحقني

رني ولم تفدني حقنهن شيئا. باإلبر. كان الحزن يخدنت حالتي، والتقيت نساء أخريات، مثلي. كان يجمعنا الحنين مع الزمن، تحسالمشترك. األطفال يكبرون وكان علينا مواجهة أشياء جديدة أكثر فأكثر. انتهى بي

األمر إلى أن أتعلم اللغة، لكن بصعوبة. مت بنا السن، وتزوج األبناء. ووضعت ابنتي البكر للتو طفلة صغيرة. لحسن وتقدالحظ أننا في زمن مختلف، وقد احتفلنا بهذا الميالد كما ينبغي. ولو كنا نمتلك ثورا، ة. يا له من إحساس ة، أصبحت بدوري جد لكنت أنا من يقوم بذبحه. وألول مر

تي كلثوم، رحمها اهلل. غريب! لم أستطع منع نفسي من التفكير في جده حياتنا استعرضت كل هذه الذكريات، ال أعتقد حقا أن المصادفة هي التي توجبطريقة اعتباطية، وبأني أتيت عن طريق قرعة ما دون سبب أو نتيجة. مات والدي. ه وإيمانه. لوال هذا كنت سأقول لكم إن ليس للحياة كان مؤمنا ورعا، ونقل إلي حبمعنى، وإن ثمة معاناة ثقيلة الحمل مع بعض لحظات السعادة العابرة عديمة الجدوى. ده برحمته، وأذكر من أنا جالسة القرفصاء بالقرب من قبره، أطلب من اهلل أن يتغمجديد ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه بصعوبة، في الضباب، طريق أشجار الزيتون.

قصة غير منشورة.ترجمها عن الفرنسية: محمد المزديوي مراجعة الترجمة: د. سحر سعيد

فايزة غوين

Page 177: Beirut39 Arabic Anthology

177

كمال الرياحي

مقطع من رواية

المشرط

لماذا ال يكون الجاني امرأة؟

اجة نارية د الصحف استنادا إلى الشهود أن الجاني كان يلبس خوذة ويركب در تؤكاجات الحمراء من ذلك الصنف المذكور د استطالع للرأي أن معظم الدر حمراء. وأكعلى ملك فتيات من الوسط الراقي. بل إن واحدة من الضحايا قالت إنها سمعت صوتا أنثويا يصيح بها قبل أن يخترق المشرط سروالها الجـينز ويذبح مؤخرتها، وقالت أخرى – قبل أن تتراجع عن شهادتها- إن حجم الجاني كان صغيرا مما يرجح أنه شاب ضعيف البنية أو فتاة. أما بقية الضحايا فقد أكدن أنه ليس هناك من شك في أن الجاني رجل، »ال يمكن للمرأة أن تفعل ذلك بامرأة مثلها، هذه العدوانية ال تكون ة اآلنسة إال عند الرجال، إنها سادية الرجال ال شك في ذلك«، هكذا حللت القضية العلوم اإلنسانية، أطالت في مقالها الحديث عن ام أستاذة علم النفس بكلي ليلى غش

السادية ومفهومها:»جاء مصطلح السادية الذي دخل لغة العامة نسبة إلى النبيل الفرنسي المركيز ة من دو ساد )1740-1814(. لقد بدأ دو ساد سيرته المنحرفة عندما استمال صبيدها هناك ونزل بها ضربا بالسكين، بعدها قتل الشارع وأحضرها بيته الصيفـي ثم قيامرأتين من بائعات الهوى عندما قدم لهما جرعة من »الناعوظ« السام. لقد قاده هذا

إلى سجن دام 27 عاما.ال يمـكن أن يكـون الجاني إال رجلا. لو عدنا إلى كتب علم النفس التحليلي سنرى ته من إذالل »الشريك« ورميه في بؤرة االنحطاط والقذارة، أن السادي يستمد لذوألنه توجد سادية فكرية خالصة أيضا والتي تكون برسائل التهديد مثلا فاني أرى أن

Page 178: Beirut39 Arabic Anthology

178

ق هذا أيضا عندما نشر الرعب في صدور كل النساء، لذلك فجريمته الجاني قد حقطالت المجتمع اآلمن بأسره.«

ل وفي نفس سمعت أن األستاذ بيرم الرابحي من نفس القسم رد عليها في مقال مطود أن االحتمال األرجح أن يكون الجاني امرأة، ألن المجلة التي نشرت فيها مقالها، وأكالمرأة في حاالت اليأس تصبح أكثر عدوانية من الرجال، وتتجه عدوانيتها أساسا رها بفشلها إال المرأة الناجحة. واستند نحو بنات جنسها، ألن المرأة الفاشلة ال يذكاألستاذ في تحليله إلى أن معظم الضحايا من الفاتنات، ويبدو أن الضحايا ناجحات د ح أن الطعنة جاءت من داخل األسرة األنثوية«، كما أك في حيواتهن و»هذا ما يرجام الدكتور الرابحي أن السادية ليست صفة ذكورية، كما تريد األستاذة ليلى غشأن توهم الرأي العام، وقال: إن »السادية النسائية تأتي من النساء الباردات جنسيا، ل إلى كراهية وانتقام، وإلى كما إن عـدم اإلشباع الجنسي عند المرأة يمكن أن يتحو

نزوة في التخريب، حتى يصل األمر إلى سادية أحيانا.« ح إليه الدكتور من المعرفة العلمية المتواضعة لألستاذة ليلى اء ما لم لم يفت القرغشام، فقال إنه ليس من حق أي شخص أن يفتي في مسائل علمية دقيقة، خاصة إذا ح إلى كان ما زال بعد طالب علم، وقد حللت الصحافة ذلك بأن الدكتور الرابحي يلمأن األستاذة ليلى غشام لم تنجز أطروحتها بعد وأن بحوثها السابقة لم تكن بمستوى ا عن القضية يؤهلها للتدريس في الجامعة. هنا دخل الجدل في مأزق آخر بعيدوصل حد التقاذف، فقد أشار الدكتور الرابحي إلى الحالة المدنية لألسـتاذة ليلى ام ت عليه األستاذة غش ام التي ما زالت عزباء، رغم أنها تجاوزت األربعيـن. ورد غشهما باتهامه باالنحراف الجنسي مع طلبته. األسبوع الماضي رد الدكتور الرابحي متاألستاذة غشام بالجنسية المثلية، وأنه ضبطها في قاعة األساتذة في وضع مساحقة فة دورة المياه، وختم الدكتور الرابحي مقاله باإلعالن عن توقيف جدله مع مع منظلها للجدل العلمي الراقي، األستاذة ليلى، ألنها حسب رأيه ليست بالمستوى الذي يؤهوأن عليها أن تعرض نفسها على دكتور نفساني قبل أن تعود إلى تدريس علم النفس، رها، بأسلوبه وأنه لوال سمنتها المفرطة لما استغرب من أن تكون هي الجانية وحذة ذلك المشرط، فهي تحمل بعض مواصفات م، من أن تكون ضحي اخر المتهك الس

الضحايا المستهدفات ويقصد كبر اإلست طبعا ألنها لم تكن جميلة.ارتها إال أمام بيتها وتكثر ام تنزل من سي بعد تلك المقالة لم تعد األستاذة ليلى غش

كمال الرياحي

Page 179: Beirut39 Arabic Anthology

179

من االلتفات وراءها، وكأن هناك من يصبعها طول الوقت. ا، وأنها لم تعد تنهض من مكتبها د الطلبة األشقياء أنها أصبحت عصبية جد يردوأصبحت تملي درسها وهي جالسـة وال تستدير إلى »السبورة« أبدا. وقالوا إنها لبست معطفها القطيفة الثقيل في بداية الخريف، رغم أن الطقس مازال حارا والصيف

لم يرحل نهائيا. ام والدكتور ال أنكر أني تعلمت كثيـرا من ذلك الجدل العجيب بين األستاذة ليلى غشالرابحي، فقـد علمـت أن حالـة ابن الحجـاج، صديق بو لحية، الذي يحلو له دائما أن ي« وأطرف ما عرفته ى حالة »العـرض والتعر ى في النافذة، لتـراه النساء تسم يتعرأن هذا الصنف من الرجال عاجز جنسيا، على عكس ما يبدو »فلو أن المرأة مثلا التي يلح عليهـا استجابت إلى طلبه في الوصال الختفى تهيجه سريعا وسيظهر بالتأكيد أمامها قاصرا جنسيا. إنه ال يفكر بتاتا ببناء شركة حقيقية، هدفه هو التحريض

واإلثارة المفاجئة وغير المرتبطة.«عندما قرأت ذلك في تلك السجاالت أشفقت على ابن الحجاج ثم تساءلت: أيكون

هو الجاني؟لون الرتكاب الجريمة: بو لحية مثلا أقواله متضاربة كل الذين يحيطون بي مؤهم بيتهم عندما سقطت والده مات مع أمه بعد أن تهد بشكل غريب، مرة قال لي إنوب. حكاية غريبة، كنت استمع إليها كمن يستمع إلى خرافات عليهم شجرة الخراألجداد. منذ أيام قال لي إن والده مات في الحقل عندما انفتح الفتق الذي يعاني أوجاعه منذ سنين، وعندما قلت له »إنك رويت لي حديثا آخر عن موت أبيك« غضب وتركني لكي يختلي بكتبه. لم أعد أفهمه وال أدري ما الذي أصابه. يبدو أنه بدأ يفقد ذاكرته تدريجيا. أشك في أن تلك الكتب الصفراء التي يعود بها كل ليلة

ويظل يقرأها وينسخها حتى الفجر هي التي ذهبت بعقله.الكتابة في السرير مقلقة.. سأنام، ال أدري لماذا حملت هذا الدفتر اللعين معي إلى الفراش. بو لحية دخل غرفته منذ ساعة، ولم أعد أسمع صوته لكن الغرفة مضاءة، هذا يعني أنه يجالس دفتره. كم أتمنى أن أقرأ ما يكتب هذا الرجل الغريب!

الفضول يقتلني.

المشرط

Page 180: Beirut39 Arabic Anthology

180

اسة بولحية من كرت العالم قصة خديجة التي هز

دا أني لقد حسمت أمري، لن أكتب شيئا بعد اليوم عن ابن خلدون. أصبحت متأكل. التماثيل هي التماثيل، ك ويصيبها القم ـم وتتحر م. ال يمكن للتماثيل أن تتكل أتوهرت ذلك بأن األمر مجازي ورمزي، ى لو بر عيب ما أفعله، ألدعها تنام في سالم، حتففي الحياة ما هو أعجب من هذا القص العجائبي. هذا الذي يذبح مؤخرات النساء مثلا، ل إلى أرضة ؟! النيقرو شبه األمي الذي تحو ته أكثر عجائبية مما أقص أليست قصكتب؟! شورب نفسه الذي لم أفهمه برغم األشهر الطويلة التي قضيناها معا تحت سقف واحد؟! ما زلت أذكر يوم اقتحم حياتنا كالكابوس. كنت أنا والنيقرو، كعادتنا في المطبخ، نقلي البيض للعشاء، وكنت ألوم النيقرو ألنه لم يجهزه، فهو يقضي اليوم كاملا في البيت وعلى الساعة الخامسة مساء يذهب لحراسة مصنع المعكرونة.

كان يقول إن المصنع ال يحتاج من يحميه، ألن الناس كرهت المعكرونة.هو ال يطيق الحديث عنها وحرمني منها أكثر من مرة. كان يقول لي: »اطبخها في الليل بعد أن أترك البيت ثم أفتح كل النوافذ حتى تخرج رائحتها بال رجعة فال تقززني عندما أعود«، من حسن الحظ أنه عاد إلى الشغل ليلا بعد أن استجاب رئيس العمال لرسائل الشكوى التي يثقل بها صندوق االقتراحات في المصنع، قال إنه لم يعد قادرا د السهر، لذلك كان يضبط نائما في النهار في كشك الحراسة. على النوم ليلا، ألنه تعوة »لم أعد قادرا على العيش عوقب أكثر من مرة، وكان يدافع عن نفسه بنفس الحجبالنهار« يومها عاد سعيدا، وهو يخبرني بأن حليمة عادت إلى عادتها القديمة وأن الليل عاد إليه. النيقرو يعاني من ضعف نظر، يقلقه الضوء، قلت له إنك تشبه بطل »الغريب« أللبير كامو فأصر أن يقرأ الرواية، ومنذ ذلك اليوم سقط في عشق الروايات،

ه وتسبب في طرده من المصنع. وازداد ولعه بالكتب بعد أن فتح شورب خدرا، وإنه كان تحت وطأة كابوس: »رأيت قال لي يومها النيقرو إنه استيقظ متأخى بقر بطني، كأن طائرا بشعا حط فوق صدري، وأخذ ينقر وجهي وجسمي حتوأخذ يسحب أمعائي، يلوكها وقتا ثم يرمي بها على وجهي. كابوس بشع قمت على

د التفكير في الطعام.« ر مجر أ، فلم أستطع أن أفك إثره أتقياخ. ة المخ يبدو لي اآلن أنني في تلك الليلة كتبت قص

كمال الرياحي

Page 181: Beirut39 Arabic Anthology

181

المهم أن في تلك اللحظة التي روى لي فيها النيقرو حلمه، وأنا أنشغل بقلي البيض، طرق الباب. ذهب النيقرو ليستطلع قارعه ثم عاد، وقد ازداد وجهه اسودادا وتمتم ا يرتجف، تركت المقالة على النار وخرجت: رجل غريب »الكابوس بالباب« كان حقبشقرة بربرية بشعة. يشد شعره األصفر الطويل ذيل حصان. وشم الثعبان المخيف يه لتظهر يطل من تحت القميص الضيق الذي عقد طرفيه فوق سرته وطوى كممها عروق خضراء ناتئة، بينما تكشف فتحة القميص تضاريس عضالته المفتولة، تحزف. صدرا رياضيا أملط، يزينه خيط أسود سميك، يتدلى منه رأس فرعون وصليب معق

وجهه طويل يشبه وجه جمل وشفتاه الغليظتان تجعالنه وحشا آدميا أشقر. بعد لحظات من الصمت سألني إن كنت أنا مالك المنفوخي الملقب ببو لحية وعندما قلت له »أنا هو«، دخل البيت وهو يقول مبتسما ابتسامة خبيثة »لماذا ال ترحب بي إذن، ألم تكن تنتظر أحدا؟« ركضت وراءه إلى داخل البيت »ال... ال أنتظر ر جيدا« وأخذ يبعبع ماء القارورة أحدا، من تكون سيادتك؟!« هز رأسه الكبير: »تذكالبلورية التي كنت أحرم النيقرو من الشرب منها، قلت له عندما هم بالشرب منها »اتركها وخذ غيرها ال أريد أن يشاركني قارورتي أحد«، ها هو هذا الغريب يضعها بين شفتيه الكبيرتين المقززتين دون أن يستأذن، ودون أن يستعمل الكأس التي أضعها بجانبها. قلت، وأنا أهتز غيظا »من أنت أيها الرجل، إن لم تقل من أنت وماذا

تريد سأتصل بالشرطة.« ترك القارورة التي أجهز على مائها واستغرق في الضحك وقتا » يبدو أنك نرفوزي

برشا، ال أدري كيف سنتعاشر؟«- وهل تنوي أن تعاشرني؟! من أنت؟

عندما انتهيت من طرح السؤال هذه المرة اشتعل في ذاكرتي االحتمال. قلت مغمغما »هل أنت قريب سفيان؟!« ابتسم ابتسامته ذاتها مرة أخرى وأجاب برأسه: نعم، تمالكت

رت وسكن مكانك مستأجر آخر.« ك تأخ نفسي من الصدمة وقلت »ولكن عندها التفت غاضبا »آشكون اللي داعيه عليه أمو اللي سكن في عوضي خليني

نفشخلو الراس متاعو. وأنت كان الزم تستنى شوية حتى نجي.«- ومن يدفع معي إيجار البيت؟!

- كنت سأعطيك ما دفعته وحدك. هيا اطرد هذا الشيء وأخبرني كم دفع؟- ال يمكن أن يحدث هذا، الرجل استأجر البيت بشكل قانوني.ال يمكنني أن

المشرط

Page 182: Beirut39 Arabic Anthology

182

أطرده، باإلضافة أني ارتحت له. - لكني ما هضمتوش!- هل تعرفه أنت؟

امي اتقول شاف غول؟! - موش هاك المحماش اللي حلي الباب وفصع من قد- هـو ذاك، وال يهـم أن ترتاح لـه، المهم أن أرتاح لـه أنا، أنا الذي يشاركني البيت .

صه عب ما زالت تحتل وجهه. تفح في تلك اللحظة أطل النيقرو وعالمات الرالزائر جيدا ثم قال« مش مشكلة خليه ثالث، هاو نيه ومسكين، هاني خارج ومش انجي امخر ماتستنونيش عندي مفتاح، سفيان أعطاني نسخة، ما حبيتش نستعملو

اليوم خاطر نعرف األصول.« رمى بحقيبته ومعطفه المترب وخرج مقهقها ألدخل مع النيقرو في كابوسه. ة. كم هي مظلمة تلك الشهور التي قضيناها مع ذلك الوحش الذي اقتحم بيتنا بالقور ذلك الثعبان الذي احتل بيت طفولتي وجعلني وعائلتي ره اليوم أتذك عندما أتذكل طول الوقت بين أعمدة السقف نبيت في إسطبل البهائم، كان الثعبان يتجوكأنما هو المالك ونحن الضيوف الثقالء. يداعب بلسانه المسموم سعفة النخيل اليابسة، ويطلق أحيانا صفيرا مزعجا. كان ذلك قبل أكثر من عشرين عاما، وقبل أن تنزل تلك الصاعقة التي أخذت معها أمي والبيت، وظل أبي زمنا يبكيها تحت ك بها، ويقول إنها تحمينا. أذكر أنه قام يوما غاضبا وحمل وبة التي يتبر الخرفأسه واتجه نحو الخروبة العمالقة وراح يقطعها، لكن الفتق الذي كان يعاني منه ى من األلم وفارق قبل أن يصل األهالي إلسعافه. جارنا لم يمهله، فانهار تحتها يتلوته ازرورقت. قال الذي كان أول الواصلين إلى الخروبة قال إنه ملسوع ألن جثه استغرب من موضعها، كانت اإلصابة في الجانب إنها لدغة أفعى أو ثعبان، لكن

األيسر من المؤخرة .ف إليه، الضحايا الثعبان منذ شهور يحصد مؤخرات النساء بمشرطه، ال أحد تعرباآلالف والشوارع تكاد تخلو من النساء. منذ أسابيع ال أرى في الشارع الكبير غير جات والالتي تطل أطراف العجائز. ما لم أفهمه كيف ال تخشى تلك السائحات المتبرا حمراء من وهج الشمس على الشواطئ مؤخراتهن من تحت سراويلهن القصيرة جدالتونسية؟! أحيانا أقول: انتحاريات، وأحيانا أتساءل كيف يمكن أن تدفن الواحدة

نفسها في البيت وكل جريمتها أن لها مؤخرة جميلة؟!

كمال الرياحي

Page 183: Beirut39 Arabic Anthology

183

د فيها جدل كبير حول تأويل اآلية الكريمة يقال إن مساجد المدينة كان يترد»نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم« وكانت صالة الجمعة تنتهي كل مرة بمعركة دامية بين المختلفين حول معنى اآلية ومعنى »أنى« تحديدا، والتي قيل ح وكاالت األنباء د أنها تفيد »الكيف« و»األين«، لذلك ترج إن معاجم اللغة تؤكاألجنبية أن الجاني متطرف إسالمي حاول حل المسألة بطريقته فعمل على تشويه

مؤخرات النساء حتى يزهد فيها الرجال ويعودوا إلى آية اهلل.رة م، وهو يجلد مؤخ دة على اإلنترنيت صورة ملث عرض موقع جماعة متشدسائحة أجنبية وقع اختطافها في بغداد، قبل أن يذبحها من الوريد إلى الوريد ويتلو بيان المقاومة الذي ذكر فيه أن جماعته تتعاطف مع المجاهد الذي ظهر في تونس

ليحارب الفسق والفجور ووصفه بالمجاهد األصغر .استضافت إحدى الفضائيات، المعروفة بمعاداتها لإلصالحات االجتماعية والحقوقية دين وسألته عن رأيه في التي حصلت في تونس منذ االستقالل، واحدا من المتشدد س، فلم يكفهم منع تعد ة فقال: »لقد ذهب التونسيون بعيدا في هتك المقد القضيالزوجات وما أغدقوه على المرأة من حقوق عارضوا بها أحكام الشريعة، وصل بهم األمر اليوم إلى تسمية المؤخرة باسم إحدى زوجات النبي، بل أقرب زوجاته إليه. وهذه واهلل من عالمات الساعة التي ال بد أن ينزل اهلل عقابه على هذه األمة التي فاتت في فجورها قوم لوط تجدر اإلشارة إلى أن اإلرسال انقطع وعاد بعدها المذيع ليعتذر ويقول إن األمر خارج عن نطاقهم، وإن زحمة االتصال للمشاركة في البرنامج أحدثت تشويشا على القمر الصناعي. ألغيت بعد ذلك المداخالت الهاتفية واكتفي

بالرسائل اإللكترونية التي تصل البرنامج عبر شبكة اإلنترنت .نقلت الفضائية نفسها في موجز األخبار الذي تخلل البرنامج، مسيرة سلمية دات بما تتعرض له لنساء المكسيك خرجن فيها تضامنا مع المرأة التونسية مندة ونادين بتنظيم أجسادهن من قمع واعتبروا المجامعة الدبرية حرية شخصي

مسيرات مساندة مماثلة في كل أصقاع العالم .فة كثيرا من مة متخو مة الصحة العالمية أن المنظ ث باسم منظ نقل عن متحدمستتبعات هذه األزمة، بعد أن وصلتها تقارير تشير إلى أن عدد الوالدات في تونس يتزايد بشكل مفزع. المحللون أرجعوا ذلك إلى إعراض الرجال عن عادة تغيير دين بتحليل ذبح مؤخرات النساء الخارجات عن الرحل. أفتى أحد الشيوخ المتشد

المشرط

Page 184: Beirut39 Arabic Anthology

184

شرع اهلل في بالد اإلسالم وقال إن ثواب ذبح مؤخرة فاجرة واحدة بمئة حسنة يوم القيامة.

ذهب آخر إلى تكفير كل من اتبع مالك بن أنس ألنه، حسب رأيه طبعا، هو الذي رين للفجور خرجوا من تونس أحل تغيير الرحل في المجامعة. وأضاف إن كل المنظوذكر أسماء منها التيفاشي والتجاني والنفزاوي، واعتبر أن على المسلمين أن يمتنعوا عن الحج إلى القيروان هذا العام في المولد النبوي الشريف احتجاجا على ما وصل

ة . إليه حال اإلسالم في تلك األمبت وكالـة تونس إفريقيا لألنباء ما أوردته إحدى صحف المعارضة في الخارج كذن من إذن العمل، اء خديجة« منعت من مزاولة نشاطها، ولم تمك ة أحب من أن »جمعيدت الوكالة ات. وأك دها قانون الجمعي رغـم أنها استوفت الشروط القانونية التي حداستنادا إلى تصريح مسؤول كبير أنه ال وجود لجمعية بهـذا االسم، وأن األمر ال ى محاولـة تشويه دنيئة قـام به بعض الخـونة الناشطين بالخـارج والمتاجرين يتعد

بأوطانهم.

مقاطع من رواية »المشرط« دار الجنوب للنشر، تونس 2007

كمال الرياحي

Page 185: Beirut39 Arabic Anthology

185

محمد حسن علوان

قصة قصيرة

حنيف من جالسكو

كنت أعبر جسر الخليج عندما جاءني صوته عبر الهاتف. كانت عيناي تدمعان قليلا، وزوجتي صامتة. قال لي: مبروك. وفي صوته رائحة الصوف التي تليق بالرجل الذي جدلت حنجرته في كشمير، وما زلت ألمس في قلبه نفس خطوط الوفاء المعتادة التي رتب بها عالقته معنا طيلة عشرين سنة، وأوحت إليه اليوم أن يبعث بركته

البعيدة، عبر مكالمة هاتفية ال بد أنها تكلفه كثيرا في جالسكو. فاجأني في منتصف الجسر تماما، ولهذا بدا الحوار معلقا، مرتبكا، ومعرضا في أي ة البرود والرسمية التي ال أشعر بأنها الئقة. ولهذا لحظة أن يسقط من حافته، وفي لجخففت سرعتي قليلا، وحاولت أن أكون بمستوى كرامته حتى ال تتضاعف ذنوبي. كانت حالة غريبة، كما ظلت غريبة دائما، أن تكون حميما لصديق لم تزل عربيته رة جدا، وإنكليزيته في عثارها األول، والتأرجح بين اللغتين آخر شيء ينقص مكس

عاطفتي المتحفظة أصلا، وغير المعتادة على التعبير عن خالج مفاجئ كهذا. عانقته آخر مرة قبل سنتين. أخبرني أن تأشيرة هجرته إلى بريطانيا صدرت أخيرا، متأخرة عشر سنوات عن مواقيت أحالمه، وأخبرتني حقيبته المتأهبة جدا للشمال أننا لم نكن أطيب معه من تلك البالد الموعودة. عشرون سنة وهو يذرع شوارع الرياض حتى استوت عنده هي وجبال كشمير، فلم يعد ألي منهما سطوة أعلى في ذاكرته. اقتسمت المدينتان حياته تماما حتى أصبح التحيز إلى إحداهما في هذا المنعطف األربعيني من العمر يهدده بكساح في الذاكرة ال أعتقد أنه يحتاجه اآلن أبدا، ال سيما وهو متجه إلى مدينة ثالثة جديدة، ال يعرف نواياها تجاهه.

ترك الرياض للمرة األخيرة وفي جوازه تأشيرة تشبه تلك التي دخل بها قبل عشرين سنة. لم نكتب شيئا مختلفا في جوازه، مقابل الكثير الذي كتبناه على أيامه هنا.

Page 186: Beirut39 Arabic Anthology

186

تذكرت -وأنا في الخامسة- سعادة االحتفال بسائق جديد للعائلة: طويل جدا، أسود الشعر، غليظ الشفتين، ونحيل. ولم يلبث طهو أمي أن غير من صفته األخيرة تلك، وأحدث في بدنه استدارة بطنية متنافرة مع طوله الفارع. اآلن، أتذكر وداعنا قبل سنتين، ما زال طويلا ولكن شعره اشتعل تدريجيا ببياض مدروس، موقع بالتعب الذي دهمه فجأة، وصارت قدرته على المزاح أقل، وغابت ضحكاته الالمبالية تماما،

حتى ال أتذكر أني سمعته يضحك منذ سنوات! ظل واقفا في منتصف المسافة بين عائلتنا وخدمتنا لوقت طويل، ال يستطيع تجاوز إحداها إلى األخرى. سافر وعاد، وسافر وعاد عشرات المرات، وفي كل مرة تنوء حقيبته البسيطة بالهدايا القماشية الصغيرة، وتحف المرمر، وفواكه السند، وأشرطة الفيديو التي صورها في قريته. عندها كنا نتحلق جميعا في صالة المنزل، تلتحف أمي بخمارها وتجلس في الخلف، ونضطجع - أنا وإخوتي- حول التلفاز، بينما يجلس هو بتواضع قريبا من جهاز الفيديو، ويمد ذراعه الطويلة بين فينة وأخرى، ليشير إلى زقاق يظهر في التلفاز أو دكان أو منعطف »يمشي قدام شوي في بيت أخت أمي أنا... بعدين اثنين شارع يسار في بيت أخوي كبير...« وكثيرا ما قاطعته أنماط مختلفة من األسئلة حسب أعمار السائلين. وعني أنا، فقد تجاهلت كل تاريخه العائلي الذي يحاول أن يوضحه لنا، وسألته »ما فيه أسفلت؟« وضحك

حنيف وأمي وأخي األكبر، وظلت أختي الصغرى تنتظر اإلجابة، مثلي. تأجلت طفولته طويلا. عندما ولد في كشمير، كان أبوه قد صار عمدة القرية منذ سنتين تقريبا. اجتمعت لديه وظيفة الحكومة ووجاهة المنصب، فتزوج امرأة ثانية، ليكمل بها زينته. وولد حنيف وأخوه األصغر من هذه الزوجة الثانية، وكل المؤشرات كانت توحي أنه وأخاه سيقطفان حتما ثمرات كثيرة من كونهما ابنين لشيخ كبير، وزوجة صغيرة أثيرة، ومنصب جديد. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، ألن أباه مات كما يموت الشيوخ، بينما كان أغلب إخوته الكبار من الزوجة األولى

كبارا بما يكفي، ليتركوا القرية إلى أصقاع األرض، للعمل. ولهذا تأجلت طفولته ككل األيتام. ترك المدرسة صغيرا، وصار يبيع القفازات الصوفية التي تغزلها أمه للجنود المرابطين على الحدود. والطريق ما بين القرية إلى ثكناتهم كان مسكونا بأصوات القنابل البعيدة، وأناشيد األطفال التي تسخر من الهنود، وتخترع حكايات صورية عن جبنهم وضعفهم. وعندما بلغ العشرين، انتقاه أحد

محمد حسن علوان

Page 187: Beirut39 Arabic Anthology

187

حنيف من جالسكو

ها تبدأ، مثلما يشعر مكاتب االستقدام وجاء به إلى السعودية وهو يشعر بأن حياته لتواآلن بنفس البداية، وهو في جالسكو: أبا لثالث بنات، وفي األربعين، ويصنع همبورغر إسالميا لطالب الجامعة، وينتظر أن تنتهي إجراءات جنسيته البريطانية في أسرع وقت. كانت السعودية عندما قدم إليها حنيف أول مرة تشبه واحة طيبة في منتصف الصحراء. غريبة، ولكنها مريحة. أصوات األذان تخرج من عشرات المآذن، عبر مكبرات الصوت التي تبعث في روحه المهابة، وتطمئنه إلى أن القوم مسلمون، يحبون اهلل واألذان، وسيعتنون به جيدا. كان يتقاضى راتبا لم يره جيبه، ويتناول ثالث وجبات كاملة في اليوم، مقابل أن يقود سيارة حديثة في مدينة عصرية، ويروي أشجار الحديقة القليلة. إنها غربة بال أنياب، والخير مبعثر في الطرقات، والناس ال يقلقون من شيء وال ينتظرون شيئا. ولهذا اطمأن قلبه، وتذكر أنه لم يعش طفولته بعد، فقرر أن يجترها من ماضيه، ويمضغها بيننا على مهل. هاجمته أزمة منتصف العمر، وهو ما يزال ذارعا وجه الرياض الذي لم يتغير كثيرا هو اآلخر. األربعون تدقه مثل وتد ال يريد أن ينزل أكثر في هذه الصحراء، فيضيع فيها إلى األبد. والبنيات الصغيرات اللواتي سماهن بأسماء عربية ما زلن بعيدات عن ذراعيه، في كشمير، يربين الطواويس، ويغزلن الصوف، وينتظرن األب البطل، ويكبرن بسرعة ال يتحملها قلبه البعيد. أكبر، صديقه الباكستاني الذي ري قريبا كان يعمل سائقا أيضا في الرياض منذ ثالثين سنة، مات في نوبة سكمن بيت مخدوميه في حي الورود. سقط في منتصف الشارع، وسقط معه بيض، وجريدة، وعلبة زيت. كان عند حنيف صورة أخرى للموت، ال تشبه هذه أبدا.

ظل المقود اللعين يصلب كتفيه، ويقودنا بالسيارة إلى كل االتجاهات التي نريد، ما عدا اتجاهاته التي يريدها هو. في الوقت الذي أصبح فيه أطفال العائلة التي يعمل لديها مختلفين تماما. كبروا، وصاروا يتكلمون لغة صعبة على قاموسه اإلنساني المكون من عشرين سنة من العشرة، والعمل المخلص. بدا واضحا لعيني أمي الرحيمتين أن القوي األمين الذي استأجرته لخدمتها وأطفالها منذ أن ترملت لم يعد قويا، وإن ما زال أمينا. سمعته مرة يتحدث إلى خادمتنا المغربية بشجن هائل. عيناه دامعتان مثل الزيتون األخضر المبتل. كان يتناول كوب الشاي الذي اعتادت أن تناوله إياه الخادمة بعد المغرب. جلس هذه المرة عند عتبة باب المطبخ، وجلست هي. حدثها عن بناته اللواتي يكاد يشم رائحة الطين في أقدامهن من آالف األميال، وحدثته هي

Page 188: Beirut39 Arabic Anthology

188

عن أمها المريضة، وابنتها التي أخذها طليقها معه إلى إيطاليا، ولم تسمع عنها منذ سنوات. تحولت عتبة المطبخ البسيطة تلك إلى قطع غير منتظمة من حزن طارئ،

ن مثل قوالب الجبن المكعبة، له رائحة نافذة، وعمر قصير. متغضعاد إلى غرفته، والخادمة إلى المنزل، وبقيت أوجاعهما المتشابهة مبعثرة عند عتبة المطبخ، تمضغها القطط التي تحوم حولها طيلة الليل. زادت أمي راتبه بضع مئات، بعد أن أمرته أن يقطع أمامها وعدا باتخاذ تدابير أكثر محافظة فيما يتعلق بتوفير المال، وأن يمتنع عن شراء األجهزة اإللكترونية الحديثة التي يغرم بها. م. ومنحته حرية أن يعمل كانت تؤنبه مثل طفل، وهو يهز رأسه بحياء، وال يتكلفي اإلجازات األسبوعية في نقل الخضراوات والفاكهة مع بعض بني جلدته، لعله

يجني لنفسه بضع مئات أخرى.أخبرني أنه يتمنى لو ينتقل بأسرته إلى مكان آخر، بعيدا عن قريته الكشميرية حيث ال يأمن عليهم من هجمات الهنود، ورصاصهم الطائش، في تلك المنطقة الحدودية المتنازعة بين البلدين. وأخبرني أنه يتمنى لو اشترى سيارة نقل صغيرة، لينقل المسافرين بين بيوتهم الجبلية ومحطة القطار، وفي ذلك رزق كاف. وأخبرني أيضا، في وقت الحق، أن كل ما جناه في السعودية أنفقه في حفل زواجه المكلف، ثم في ة لزوجته التي خلفها وراءه هناك، وراح يزورها كل سنة، زارعا في حواالت سخي

بطنها طفلة حنطية. اختلف حنيف العازب، في سنواته الخمس عشرة األولى سائقا، عن ذلك المهموم شارد الذهن الذي صار يشاركنا البيت، دون أن يلفت االنتباه. كانت ابتسامته قبل ذلك أكثر اتساعا، واستغراقه في الحياة أعمق، وكأننا لسنا إال أسرته التي لن يفارقها با يوما بتأشيرة خروج نهائي. وفي السنوات الخمس األخيرة، صار حنيف األب، مقطأكثر الوقت، بعد أن بنى لنفسه عائلة صغيرة في كشمير، يقلق عليها. اختفت مالمحه ق. وتغيرت عاداته المتأنقة في اللباس، الضاحكة، واستبدلها بوجه متوتر وجبين متعر وصار يبدو في مالبسه الباكستانية المعتادة مثل أي باكستاني كادح في هذه المدينة.اآلن - وصوته معلق معي على الهاتف - كان أوسع ما يمكنني منحه من الوفاء، أن أطيل في سالمي عليه، والسؤال عن أطفاله. وألن كل هذا ال يحتمل إال سؤالين على األكثر، كان من الضروري أن أكررهما أكثر من مرة، ثم أهرب من نفاد األسئلة إلى جالسكو، وأسأله عنها وأهلها، فيضحك: »كثير سعودي هنا يا محمد، يدرس جامعة،

محمد حسن علوان

Page 189: Beirut39 Arabic Anthology

189

يجي مطعم عشان لحم حالل. أنا كالم أنا في عشرين سنة في سعودية، هو ما صدق!« لين في جالسكو تبهجه وال أدري إذا كانت رؤية السعوديين الذين صاروا زبائنه المفضأو تزعجه، بعدما قضى في بلدهم نصف عمره تماما. بالتأكيد لم يكونوا جميعا لطيفين معه، ولم يكن حنيف يتوقع منهم لطفا يشبه هذا الذي يراه منهم اآلن في جالسكو.

الشرطة، وحضرنا الرياض من قسم في بنا اتصل يوم عندما ذات رت تذكالستالمه وهو ملطخ بالدماء، بعد أن تعارك مع خمسة شباب سعوديين دفعة واحدة، حاولوا التحذلق عليه أثناء القيادة. كان وجهه يبدو مثل كرة مثقوبة، رغم ابتسامته الالمبالية، وتلك الدماء المتجمدة على جبينه، وشاربه، والتي الخمسة المارة. ولكن ه يفض أن قبل دقائق طويلة استمر العراك أن تنبئ اآلخرين لم يكونوا أحسن حالا منه، بعد أن فهموا جيدا أن الحياة في كشمير، في منطقة حدودية متنازع عليها منذ عقود، تصنع قلوبا أبية، وقبضات قوية! يؤلمني أن أجد صعوبة في تسيير الحوار مع الرجل الذي اقتسمت معه ذاكرة طفولتي كاملة، تلك المنصفة منها على األقل. وال زلت أتذكرها بكل وضوح، وباأللوان الطبيعية، في الوقت الذي ال أستطيع فيه اآلن أن أبتكر كالما تلقائيا ينقله األثير الهاتفي! كل الذكريات حاضرة في ذاكرتي، ولكنها بكماء: لعب الكرة في الصيف الثقيل، سقيا الحديقة في العصر الدامع، حلقة المصارعة التلفزيونية ليلة الثالثاء، مباريات المنتخب في كأس آسيا 88، عمرات رمضان المزدحمة، السباحة في شاطئ نصف القمر، إصالح »اللمبات« المحترقة، الشواء في الشتاءات المملة، صالة العيد م على بدانة الخادمة ذات التكبيرات، الغناء في مطاعم الوجبات السريعة، التهكالمغربية، والكثير من الذكريات المفترضة لطفل تحرك بسرعة من الخامسة، إلى الخامسة والعشرين، كان حنيف حاضرا فيها جميعا، في منتصفها تماما، إذ ال تكاد ف رأس الفيديو القديم تكون ممكنة لو لم يكن موجودا. هو الذي علمني كيف أنظق بين اللغتين الهندية واألردية، وكيف يمكنني أن أنفخ بقطرات البنزين، وكيف أفرالكرة باستخدام مبيد الحشرات، وكيف أوقف أزيز لمبات النيون البيضاء دون أن أضطر إلى تغييرها. ذلك عندما كان تعلم هذه األشياء البسيطة ممتعا، قبل أن أكبر،

وتتناقص متع الحياة تدريجيا.

حنيف من جالسكو

Page 190: Beirut39 Arabic Anthology

190

***

عني حنيف بالكلمات التي يسمح بها قاموسه العربي المحدود، وودعته وأنا ودأعبر األمتار المتبقية من الجسر، وبقيت قابضا على هاتفي الجوال بحنق قصير، وكأني أحاول حبس شيء من صوت حنيف فيه، أستطيع أن أصنع منه حوارا أكثر بة، وليست تلك التي تزداد شعثا كلما نبلا فيما بعد، كما يستحق هو إنسانية مشذكبرت. فتحت النافذة، لعل الهواء المندفع يبرر إدماعي، وانتظرت أسئلة زوجتي

التي تتربص بي من أول المكالمة.

- مين؟- حنيف، سواقنا القديم.

- وليه الدموع؟- ألني اشتقت إليه.

- السواق؟!!

قصة قصير غير منشورة في كتاب.

محمد حسن علوان

Page 191: Beirut39 Arabic Anthology

191

محمد صالح العزب

مطلع رواية

قارب ال يحب شط النهر

1ا، يظل العم سمعان هو العم سمعان، ببشرته السمراء، وجلبابه ذي الكم الواسع جد

باسما طوال الوقت كأنما يفاخر بأسنانه الناصعة ويقول:»هذه الدنيا هكذا... ال عيش فيها للمتجهم.«

هو العم سمعان بأعوامه السبعين دون أن تنحني منه عظمة، أو تشيب له شعرة: »كيف يا عم سمعان؟!«

»البركة والكرامة يا حفيد الشيخ، منحك اهلل السر.«له في خدمة جدي الشيخ منها ثالثون عاما. برغم تلعثمه وشروده ونسيانه إال أنه هو ركن الحكاية، العم سمعان في الحكاية هو الراوي، وعلى من يريد سماع

حكايات البداية أن يصبر، وأن ينتبه.»يا عم سمعان، احك لي حكاية العم سمعان.«

يخجل وال يحكي، يهرب مني إلى حكاياته األخرى التي ال تنتهي، لكنني ال أتركه، أظل ألح عليه، فال أراه يبخل إال في هذه الحكاية.

»سمعان الفقير، أصله ليس من هنا، سيظل رملك األصفر يا صحراء يجهله، وال يأنس به، وسيظل لماء البئر وماء العين طعمهما الغريب في فمه، وسيظل- ة: سمة كلما واجهته وجوه البدو الخشنة، بعيونهم المختبئة، وشفاههم المبيضة تعرف وقع خطوه. سمعان العطش األزلي ـ يحن إلى هناك، حيث األرض البنير، واألخضر يفرش حتى آخر العين، أصله من عند آخر النهر، حيث الماء كالسكن، وحيث الفتيات السمر يغنين أغاني العرس بصوت له حالوة صوت المؤذ لكن الرزق الوفير هناك - الذي اتسع لكل باسط يد- أتى عند الفقير، وضاق.

Page 192: Beirut39 Arabic Anthology

192

قالوا: يا فقير اركب النهر، أو اركب السيارة، أو اركب ظهر القطار، وفي البالد الكثيرة رزق لكل نازح. لم يعلموا – وأنى لهم – أن رزق الفقير الذي لم يجده وسط الخير والزرع مخبوء له في جدب الصحراء القاسية. سمعان قال: يا أم، هنا في كل يوم عرس يقام، الصغار يكبرون ويزفون، وسمعان قارب أن يشيخ وليس في يده جنيه، ليقول: يا عم، هذا مهر ابنتك، أو: يا خال، سمعان يطلب القرب. الفقير لم يخرج إال

بجلبابه، ولم يترك إال أما عجوزا صلبة قالت:ا. وأخفت دمعتها، ربتت على ظهر المرتحل بيد قوية، وقالت: يا ـ ال تحمل هم

صاحب الدنيا... ارزق الفقير نور الطريق.«من عاداته أنه إذا دخل في الحكاية ال يرد علي إن قاطعته، يشير بيده، أو يربت على ركبتي بحزم أن اصمت. ظلت أكف البالد تتقاذفني، والرزق يضيق، يضيق، حتى كاد أن يقتل الحلم المستكين داخل صدر الفقير بابنة سمراء صغيرة، لها شعر أسود طويل، وعينان سوداوان، وبشرة ناعمة كورقة الوردة، يجلسها على رجله داخل

قارب صغير ال يحب شط النهر، وال يهتز بالصغيرة حتى ال تخاف.ظلمت نفسك يا سمعان بالحلم، تحلم بالزواج وأنت الجائع؟!

لكن هل كان أحد يسوقني من طوق الجلباب، يا حفيد الشيخ، إال صاحب الطريق؟ هل كان أحد سواه يقول: تقاذفيه يا أكف البالد بضيق الرزق حتى يصل.

استغفر يا سمعان لجهلك أيام كنت تعترض ـ وأنت الجاهل ـ على خواء بطنك، اعتذر يا ساذج عن سوء الظن. خبأت حلمك حتى ال يعلم به، فيكيد لك من ال تعلم

شر شيطانه كيدا، وقلت: يا أكف البالد حسبي من الحلم أال أبيت جائعا.وخشيت أن تظل هكذا تعد الشمس الطالعة، وتحسب الشمس الغاربة، وليس ثمة ما هو أسرع من الزمن يا حفيد موالنا، وكل يوم عرس يقام، خشيت أن ترجع فتجد كل البنات قد تزوجن، وال تجد واحدة تغني أغنية عرسك، وتقول لك، وأنت خارج من البيت، والبنت على ذراعك: ال تتأخرا... وانتبه حتى ال تخاف البنت من

اهتزاز القارب.أشكر جوعك يا سمعان، وأشكر فقرك، وصفعات أكف البالد، وابن الحالل الذي

حكيت له شقاءك فحملك إلى الصحراء على ظهر سيارته.نزلت فأطعموني، وسمعت بالشيخ على كل لسان، سألت عنه، ثم قلت له: أريد

أن أنهل من بركتك. وقلت في نفسي: وأن أجد المأكل والمأوى.

محمد صالح العزب

Page 193: Beirut39 Arabic Anthology

193

ك، بنفسه جهز لي مكان العيش، وظللت مقيما معه، بعد حين قال رحب بي جدلي: وضعت قدمك على عتبة الطريق، منتصف الطريق أن تنزع من صدرك صورة

البنت السمراء، والقارب، وآخر الطريق عند آخر النهر.«»وال بد يا عم سمعان أنك نزعت الحلم من صدرك منذ زمن.«

ها، لكني رأيتها تعبث بطرف ثوبه، أشاح بوجهه إلى البعيد، وهبت نسمة لم أحسفرفرف، قال:

... ولم أصل إلى منتصف الطريق.« »زمن طويل مر

2فرحت كثيرا بالقصر الكبير الذي سيجاور حوش جدي، هو بعيد بشكل ما، لكنه قصر، أستطيع أن أراه جيدا من فوق صخرتي المواجهة للبحر، وأنا جالس أستمع لحكايات سمعان. عامين كاملين استغرقهما بناؤه، حتى استوى قصرا كبيرا بأدوار

ثالثة، وبسور حجري زرعت فيه المصابيح.عامان كامالن وعمال البناء يروحون ويجيئون من القصر إلى حوشنا، ومن حوشنا إلى القصر، يأتون كل ليلة ليجلسوا إلى جدي الشيخ بإجالل، عندما يرونه، ينحنون لتقبيل يده التي يسحبها بسرعة، يطلبون منه الدعاء لهم بالبركة في الرزق، وبأن

يحفظ اهلل لهم البعيد حتى يدركوه. يشير إليهم سمعان:»هذا حفيد الشيخ، فيه نور من نوره، وفيه بركة منه.« فيعاملونني بلطف شديد. أحدهم أتى لي بزجاجة عطر، وضع قليال منها على يدي، وجعلني أمر بهما على وجهه ا طويلا، ينتظرون أن أفعل المثل معهم جميعا، ورقبته، وجدتهم يقفون وراءه صف

مها من على ثيابي. كان عطرا ذا رائحة جميلة يحب جدي تنسا، وهى تخبئ رأسها وأطرافها فتصير آخر أتى لي بسلحفاة صغيرة، فرحت بها جد

كحجر، سلحفاتي هذه كانت تأكل الخضرة وتبتسم.هناك أيضا من أتى لي بحذاء جديد، ومن أتى بساعة يد، ومن أعطاني عمالت معدنية قديمة مثقوبة... نفس صاحب السحلفاة أتى ذات مرة بقنفذ، أول مرة أرى ا، ظل قنفذا حقيقيا، وضعه ثم وضع فوقه قفصا مقلوبا، هذا القنفذ كان طريفا جدما أدخلت له طرف العصا من بين فتحات يدور، يدور، يدور داخل القفص، وكل

القفص ينشر شوكه ويتقنفذ.

قارب ال يحب شط النهر

Page 194: Beirut39 Arabic Anthology

194

أحببت هؤالء العمال، ورغم كثرتهم حفظت أسماءهم جميعا، ومهنة كل واحد منهم. يوميا بعد أن ينتهوا من أعمالهم ينزلون إلى البحر، يمكثون فيه طويلا، يستحمون، ويصخبون، يخرجون مع العشاء إلى حوشنا، بعد الصالة يصنع لهم سمعان الشاي في األكواب الصغيرة، فيرشفونه وشعورهم مبتلة ال تزال وهم ينصتون باهتمام إلى حكاياته،

عن قريته البعيدة، فأفرح ألني أعرف أكثر منهم، وألنه يخصني بحكايات أكثر.هم أيضا لهم حكاياتهم التي ال يكملونها أبدا، أول ما ينتهي كوب الشاي آلخر واحد

حون للعم سمعان ولي: منهم يقومون، يلو»أمامنا عمل كثير في الصباح، غدا نلتقي، آخر النهار.«

تهم، يقسمون - دون أن يطلب منهم أحد حكاياتهم دوما عن بالد بعيدة فيها أحبذلكـ أنه لوال الحاجة لما فارقوهم، يتكلمون أيضا عن المهندس الكبير الذي يشرف عليهم، أكثر من مرة أراه هناك، لكني لم أره عن قرب، يتكلمون كذلك عن صاحب

القصر الكبير الذي اختار هذا المكان لعزلته.أحببت هؤالء العمال، واستكثرت عليهم بعيونهم الطيبة، وهداياهم لي، ونكاتهم

أن يشيدوا قصرا، فظللت أتابع البناء يوما بعد يوم بقلق، كأنه قصري أنا.ارتحل العمال بوداع حار، وقد تركوا خلفهم قصرا حقيقيا رائعا، أجمل من كل

أحالمي عن قصور حكاياتك يا عم سمعان.لكني لم يكن لي صديق أحكي له عن القصر... زمالء المدرسة لم يكرهوني، لكنهم تجنبوا الكالم ألنني كنت أخاف االقتراب منهم، أرى هذا في أعينهم، فأحزن وأبتعد عنهم. يظل القصر مغلقا ال يسكنه أحد، ليس سوى الحارس الصامت الذي يخرج

ه في النهار ليجلس أمام البوابة، في الليل يغلق القصر وال يظهر. كرسيكل صباح قبل أن أذهب إلى المدرسة البعيدة أدور حوله، أظل مبهورا بطوابقه الثالثة العالية، ونوافذه الزجاجية العاكسة كمرآة، وسوره الحجري المزروعة فيه

المصابيح المضيئة برغم النهار.أكثر من مرة أحاول أن أكلم ذلك الحارس، لكنه كان يخاف، أحاول أن أكلمه، فيحمل كرسيه ويهرول داخال دون أن يتكلم، وأسمع أصواتا كثيرة لغلق البوابة من الداخل.

ويظل القصر الكبير مهجورا بعد أن يجن الحارس ويهرب منه، وتثار حوله اإلشاعات، فال يستطيع أحد دخوله، وال يدركون تسللي إليه كل ليلة بعد الغروب،

سعيدا كما يليق بصاحب قصر كبير ال يجرؤ على االقتراب منه أحد.

محمد صالح العزب

Page 195: Beirut39 Arabic Anthology

195

3صبيحة أن أتم عامه الثالثين في رفقة جدي وجدت سمعان متهللا ومنشرحا كما لم

أره من قبل.قال: »اليوم أرجع.«

تعجبت.»ترجع؟! إلى أين يا عم سمعان؟ وهل لك مكان سوى هنا؟!«

قال: »سأسميها )نور(... يا كف الطريق إطو المسافة الطويلة حتى أرجع ألمي العجوز، وأقول يا أم، الفقير عاد غير فقير، سمعان يملك ما يدفعه مهرا لفتاة سمراء، تطرح له النور في حجره بنتا صغيرة بشعر أسود طويل وعينين سوداوين، يجلسها على

رجله في القارب الذي ال يعرف أي شط، وال تخاف الصغيرة من اهتزازه.« »سترحل يا عم سمعان؟«

ك أمامه: قال: »عقب صالة الفجر أجلسني جد - عد يا سمعان.

- هل فعلت ما أغضبك مني؟

- أضناك الطريق وأضنيته وما قدر على وأد الحياة داخل صدرك. - حاولت ولم أترك وسيلة.

- عد يا سمعان وانطلق من البداية، الطرق عديدة، وقدرك السير في الطريق األصعب.«

»سترحل يا عم سمعان؟« قال: »ابنة الخال طيبة... ابنة العم جميلة... الغريبة تعيش.«

- »سترحل؟« قال: »اآلن أملك المهر، أغدق علي جدك، أملك ما أدفعه مهرا ألربع.«

»سترحل؟ وتتركني؟«قال: »سأختار السمراء حتى تمنحني »نورا« سمراء كما أحبها، سأختار ابنة

الخال، الخال صياد، ولدى الصياد قارب، أجلس فيه، وتجلس »نور« في حجري، جات النهر السائرة إلى الفرح.« ونمضي مع تمو

ظل شاردا ينظر إلى البعيد، فلم ير دموعي التي سقطت فأنبتت صبارا شائكا على طول الطريق. أنا الذي أوصله هذه المرة، أمسك حبل البغلة بيدي وأسير أمامه،

قارب ال يحب شط النهر

Page 196: Beirut39 Arabic Anthology

196

وهو غير قادر على الكف عن االبتسام. قال: »سأركب بطن السيارة حتى القطار وأركب بطن القطار حتى حضن أمي التي قالت :

- سأعد الغداء وأنتظرك على عتبة الدار.اآلن أراها جالسة تنتظرني، كعادتها لن تأكل حتى أعود. تأخرت عليك، يا أم،

ستضطرين إلى إعادة تسخين الغداء.«لكنه انتبه فجأة بعد أن ودعته واحتضنته وأغلق من الداخل باب السيارة التي

بدأت في السير، فأخرج جذعه كله من شباكها.قال: »أخشى أن تكون ابنة الخال الصياد قد خطبت يا حفيد الشيخ.«

أشرت اليه برأسي ويدي بقوة مؤكدا أن ال، غيب تراب العجالت ابتسامته التي اتسعت وهو يرجع بجذعه إلى الداخل، ويختفي.

مقاطع من رواية قيد االنجاز.

محمد صالح العزب

Page 197: Beirut39 Arabic Anthology

197

منصور الصويم

فصل من رواية

ماد تخوم الر

ابين شهرة، كل المدينة صارت صرت أسطورة فاقت حتى أسطورة أعتى النهاقية الجميالت. رجل تلهج باسمي: المسؤولون الكبار والوجهاء وفتيات األحياء الرك في نزاهتي، وأخذ يتساءل عبر تقاريره عن مغزى التطابق دني وشك وحيد ترصها، وتلك التي ال تجد من ى لها وأنجح في صد الغريب لعمليات النهب التي أتصدة أمنية مدهشة عدد العمليات التي خضتها د ذلك الرجل بدقة وبحاس يجابهها. عدشمالا وجنوبا والعدد الموازي لها جنوبا أو شمالا. ذكر بتقاريره الرجل تاجر العطور وعالقاته المريبة وتساءل عن صلته بي، ذلك رجل لن أنساه ابدا: الرائد اني علنا ويقسم على فضحي واإليقاع بي. ارته ويتحد عيسى، كان يخترقني بنظت بحثا عن مفر، الرجل تاجر العطور بدأ يتململ كثر الهمس، كثرت أموالي فتلفويكيد لي، تعرضت لمحاولتي اغتيال، وجدتني محاصرا عند قمة مجدي. الرائد عيسى بنزاهته الغريبة والرجل تاجر العطور بمكائده الخطرة. عيسى الذي ال ينسى خلصني منه سليم حين برز، أما الرجل تاجر العطور فأعددت له ما يليق به.

ط معه لواحدة من كبرى عملياتهما المشتركة، استدعى ذلك الرجل العطار وخطالقاسية والريح ه شمالا حيث الصحارى والجفاف، حيث الجبال تركه يتجد كتيبته الخاصة، اثني الصرصر والعطش، حيث يتربع وبجالل مالك الموت، جربة جيدا على الموت والريح الدمار، ثالث سيارات عشر رجلا، ستة جمال مدرت المنافذ أمام الرجل تاجر العطور، أمامه وخمسة براميل مملوءة بالماء. سدفقط الرمال الشاسعة القاسية والجبال الموت، شم رائحة الخيانة فأخذ يدور وسط رجاله كالمجنون، رصاصه ال يكفي لمعركة تدوم ساعة، جماله اصطيدت واحدا واحدا، رجاله اغتالهم العطش والجوع والرصاصات المكتومة في فضاء

Page 198: Beirut39 Arabic Anthology

198

ح له من بعيد الصحراء، الحجارة الجامدة ال تحمي اآلن، والرجل المالزم يلود بموات: »ماء... ماء... ماء.« ويتركه مدفونا حتى عنقه وسط الرمال الشاسعة يرد

ة تنداح. ربابته القديمة المعطوبة، أم كيكي، تدفع األلحان األنغام قديمة ومنسيالغريبة في فضاءات الصالة، بأنامل موسيقي عريق يولد األلحان من الوتر الواحد ة المعتمة والقرعة المشروخة، وشفتاه تتمتمان بالحروف المقلوبة. األماكن القصيبدواخلي تتماوج وتترقرق بصدى األلحان المبهمة. أحاول المروق تثبتني األنغام وتأسرني، الوقت يتفلت، أحاول اإلمساك به، المكان يذوب والشخص القابع أمامي حاضنا ربابته، متمتما باألغاني البعيدة اآلفلة ال ينتمي للرجل الكهل جاحظ العينين د واأللحان أسيانة تتماوج وال الغارق في الالمباالة. الوقت يتفلت والظالم، ظالمي، يتمدتنتهي. أتم وقفتي وأستقيم، أصارع ضد تيار األلحان األسيانة والشجن المتماوج، أتركه

حاضنا ربابته أم كيكي ينتج ألحان أيامه الغابرة التي لن ترجع إليه وإلى األبد. ي األشياء، وينشر سطوته ا أحياء المدينة الهالم. الظالم يغط ج بالعربة شاق أتدروجبروته على كل المدينة. أشباح البيوت الهرمة المتداعية تتزاوغ أمام أنوار العربة وتضيع في الظالم. جماعات األرقين الحالمين بالمسالك المستحيلة تمسحهم كاشفات دين التراب يتبادلون الكلمات الميتة، ويتجشأون عرق المساء. الظالم، العربة متوس، يدق. الصداع كاسحا يجتاحني والنار تلهب جسدي ظالمي، ينحت في الرأس يدقحين أصل إلى أطراف المدينة الغارقة في السبات، أخرج عربتي من جب األحياء ة ثم أعود بها، وأظل أدور وألف وسط الخيران الصغيرة القذرة وبين الصخور الطرفيالمنتشرة بإهمال. شيء غريب وبال معنى يقودني إليهن، ألمحهن من بعيد: العاهرات المتنكرات في أزياء بائعات الشاي قاعدات قدام بيوتهن القش التراب، حاضنات مواقد هن مع مساءات هذه المدينة التي ال تنتهي. نارهن وأباريق شايهن وقهوتهن راجيات حظ

ة، يتبلبلن أقترب بعربتي منهن، عربتي ذات الشكل المريب المحيل إلى جهات عدوويرتبكن وأنا أقف قربهن. النسوة المومسات يلملمن ثيابهن وفساتينهن القصيرة طبة وأشم يحاولن ستر جسد مباح، أجر بنبرا وأرتمي عليه. أتأمل وجوههن الررائحتهن الوجلة. أرقبهن وهن يحاولن لملمة أشيائهن وإيهامي بانتهاء يومهن. أتابعهن

بصمت ثم أضغط بيدي على رأسي أقول: »قهوة.«

أشرب قهوتي بتأن وروية، أحدق بعيون تعبة في وجه بائعة الشاي أمامي، وأهم

منصور الصويم

Page 199: Beirut39 Arabic Anthology

199

ماد تخوم الر

بسؤالها عن اسمها... عن أي شيء. أهم بسؤالها عن فتاة من فتياتها ترضى أن تطارح ى وشطط الحكايات عقله، لكني أظل صامتا وهن صامتات. ال شيء رجلا أطارت الحمم بالكامل ات قدمي. رجل عنيد ملث يسمع، فقط صوت رشفات قهوتي المتباعدة وحكيجلس قريبا مني مصرا على اقتناء مسائه هذا، رغم وجودي بكل خطورتي ونذالتي. ك رأسي ببطء وأرحل بعيوني التعبة متأملا في البيوت الخربة واالكواخ القذرة، أحرانا نحافا يمرقون كالسهام، مأوى األفراح المسروقة واللذة المغتصبة. ألمح بعيدا شبر ثانية بسؤالها عن فتاة ترضى بسفري فيها، أنا ويضيعون في جوف الظالم. أفك المجهد الحزين الباحث عن الراحة وسط الحطام، لكني أسمعها تتكلم عامدة إسماعي:

رنا يا أمينة كم الساعة؟« »الليلة اتأخ»الكالم اخدنا لملمي سريع.«

ل وتأن عل صداع ظالمي يضيع. أتابعهن في فتور وهن في ارتباكهن أظل أشرب بتمهينقلن األشياء إلى الداخل وأسمعه صديقي المنسي يقول:

ية لممارسة دورهن »العاهرة أفضل من يربي الرجال، يجب أن يتركن وبحرالمقدس في تربية الرجال.«

اآلن األمهات العظيمات شاحبات وخائفات من وجودي، أنا يا سيدي، أنا سيد الخوف والظالم واألوهام.

أترك بائعات الشاي البائسات ورائي. أقود عربتي بأقصى سرعة وأمضي باتجاه ونني وينتصبون مداخل المدينة البعيدة. الرجال الكسالى الموهومون بأهميتهم يحيأمامي كالكارثة، أحييهم وأنتظر تقاريرهم ورأسي ألم ساحق. أجلس على أقرب مقعد ون لي تقاريرهم ألقرأها. أسمع أصواتهم آتية من بعيد وأراهم والرجال الوهم يمدون على إيضاحها لي. أشكو إليهم آالم رأسي أمامي يتراقصون، يتلون تقاريرهم ويصروأوجاعي والظالم. يثرثرون بوجهي عن العربات المريبة المرصودة خلف الوديان بة إلى القرى والفرقان. أمسك رأسي ات السالح المهربة والمتسر البعيدة وعن كميأ أمامهم ه، أتقي بيدي فيقولون إن أزمة الوقود تتفاقم وإنهم يرصدون بوادر انفجار. أتأو

د على التراب. أسمعهم يهمهمون: مستفرغا كل أحشائي وأتمد»سيادتك أنت تعب، يمكن أن ترتاح بالداخل.«

د في تعب وأحس بالعرق يحاولون سندي وإيصالي إلى الفراش الخشن الجاف، أتمدى طاغية، وبرغبة عارمة في امتطاء غزيرا ينز من كل مسام جسدي، وأحس بالحم

Page 200: Beirut39 Arabic Anthology

200

ل وجه بائعة الشاي أمامي تبتسم، أشم رائحتها الغريبة. أشم جسد أنثى. أتخيرائحتهن، أتخيلهن أمامي، أحسهن بقربي، لصقي دافئات يعركن جسدي، ويطردن

ني مسافرا راحلا في الظالم. عني هذا البرد المقيم، ثم أحسى والهذيان، حاولوا نقلوني إلى القصر. يومين قضيتهما تائها في بحيرات الحمه رفض وأبيت أنا أثناء واحدة من نوبات صحياني. اهتم نقلي إلى المستشفى لكنبي بشكل حنون وقلق وبقلب مشفق أخذ يرعاني، يقضي الساعات الطوال بجواري ربات الرقيقة الشفافة، متمترسا قربي، ال مراقبا انسياب الكينين عبر أنابيب الد

يتحرك، يصر عند لحظات إفاقتي على سقيي مستحلب أعشاب أصفر مر. عند اليوم السادس لمرضي كنت نشطا بشكل تام، أخذت أتكلم وآكل بشهية جيدة نوعا ما، بدا أنه ال يصدق أني أحادثه من جديد وأضحك لقفشاته، وأشخط ة في الرجال أمامه. فرح بصورة طفولية لشفائي وأخذ يصف لي فوائد الكبدة النية كبدة اإلبل، ويتكلم عن ضرورة تناول البيض المسلوق والبرتقال قه خاص لفترة النالطازج والكريب فروت وكل ما خطر بباله من أنواع الفواكه والمأكوالت، ألستعيد قواي سريعا حتى إنه عرض علي كأس ويسكي واحدة أصر على تجرعي لها واصفها بأنها دواء قبل أن تكون أي شيء آخر. لكني جسد منهك وروح محبطة واشمئزاز

بال حدود.عند الصباح كان يأخذني ويجول بي وسط أشجار وأزهار حديقته، ويخبرني بأن المالريا طريق مسفلت لإلصابة باألزمات النفسية. يقعدني بقربه تحت شجرة

الياسمين ويقول لي: ة.« »شم... استنشق بعض ريح الجن

يستنشق هو بعمق ويغمض عينيه. أتساءل أنا: ماذا أفعل بقرب هذا الرجل! أسأله:

»سيادتك... فترة مرضي... ألم يحدث جديد؟، أقصد بخصوصك!« يستنشق بعمق ويربت على كتفي:

قني لن يحدث شيء!، سيتركونني هكذا »أنت لم تغب أكثر من خمسة أيام، ثم صدشهرا آخر... عاما... ثم سيعيدون كل شيء إلي أو يعيدونني أنا نفسي.«

قال هذا وقهقه بصدى داو، قلت: ات ضخمة ترتب بحقك.« »ال أظن ذلك، هنالك ملف

منصور الصويم

Page 201: Beirut39 Arabic Anthology

201

تراخى وتثاءب: »لن يجدوا شيئا، أنا أدرى الناس بنفسي.«

»التقارير تقول إنهم بصدد ترتيب ما يليق وعظمتك، سيادتك.« لمحني بضجر وقال:

»ليرتبوا ما شاءوا بصددي أو بصدد الجميع، لكن خير لهم أن يرتبوا ألنفسهم قبل كل شيء، أال تراهم وقد بدأوا يفغرون أفواههم كالبلهاء؟«

صمت ثم أضاف: ك ما زلت بعيدا، قم، فأنت مريض وتحتاج للراحة.« »أنت معهم بالطبع لكن

م، كنت غاضبا ومستاء من نفسي. كنت أود أن اقول إنهم سيرسلونه إلى جهنوإني هنا لحبسه ومراقبته ولست باقيا لمسامرته ومشاركته جلسات خمرة. كنت أود أن أقول له إنه نفاية، وإن مكانه مزبلة التاريخ! لكنه يسندني ويعد لي الدجاج المسلوق ويختار أشرطة الموسيقى الحالمة، يدغدغني بها حتى أنام، لقد

كان رحيما وشفوقا بي كأم. في اليوم السادس لمرضي استيقظ فجرا كعادته مع زقزقة العصافير وانبثاق حبيبات الندى على ورق األشجار. دلف إلى غرفتي كما ظل يفعل عند كل صباح ه لم يجدني بالفراش. طاف بالشرفات الواسعة وأخذ يبحث عني منذ مرضي، لكننة الضخمة ووسط انتيكاته الغريبة وبين حيواناته بتجاويف كراسيه المبطالضخمة المحنطة. طاف بالصاالت الخالية من األثاث حتى خرج إلى الحديقة، فرد صدره واستنشق عبير الورود، تريض بقرب أرانبه وغزالنه، ثم اتجه إلى الرجال المتمترسين جوار البوابة الضخمة، سألهم عني، فأخبروه بأني لم أخرج مطلقا فعاد

إلى غرفه العديدة، ليبحث عني. حين دلف إلى داخل غرفته األثيرة مخزن الذكريات وجدني مسترخيا على كرسيه از وبيدي واحد من ألبوماته الكثيرة أتفرج على صوره فرفع أصابعه كحاو عريق الهز

ومخضرم، حنى رأسه قليلا وقال: »كنت أعرف أني سأجدك هنا، لكن كيف دخلت؟«

»سيادتك، كل الغرف والدواليب والخزانات، كل ما له قفل ومفتاح، لدينا منه نسخة، سيادتك، هل نسيت من نحن؟«

بدا مستاء قليلا وهو يجلس قبالتي. تجاهل كالمي عن المفاتيح واألقفال والـ»نحن«.

ماد تخوم الر

Page 202: Beirut39 Arabic Anthology

202

أشار إلى البوم الصور بيده وسألني: النقيب، سيادة »سيادتك، بسخرية أضاف ثم ابتسم ج؟ تتفر ماذا »على

جنابو...«ثت معه بنزق غريب ال مبرر له، قلت: تحد

»هذا ما يجب أن توضحه، سيادتك.« »أوضحه!«

ن وجهه بشكل مفاجئ وقفزت ق مباشرة في عيني وقد تلو قال هذا وأخذ يحدشرايين جبينه وتقلص فمه، صار شكله غريبا وهو غاضب قال:

»لن أوضح شيئا، وأطلب منك أن تعيد األلبوم إلى مكانه واآلن...«ة فترة من الوقت ووجهه يزداد اسودادا وعيناه حمرة. لقد تبادلنا النظرات الحادكان غاضبا بشكل كامل وغريب ولقد كنت أرغب في الضحك حقا وأنا أراه أمامي ل بهذه السرعة المفاجئة على غير عادته. كان بإمكاني أن أطور المسألة، وأن يتبدأحسم أموري معه تماما وأتخلص وبشكل حاسم من مأزق مالزمتي له، فقط بافتعال عراك مزخرف بكل عبط الجنود وقساوتهم. كانت فرصتي للتخلص منه، ومن هذا األلم المتجدد يوما إثر يوم، لكني وبكل أدب، أمسك بألبوم الصور أعيده إلى مكانه ثم أقترب منه، وأربت بيدي على كتفه، ثم أعتذر وأتأسف له، وأعده بأن هذا لن

ه يدي بكتفه قال: يتكرر ثانية حتى المست كف»أرجو أن ال يتكرر.« »نعم سيادتك.« قلت.

أشعل سيجارة وناولني واحدة. قني، ال أحد يجبرني اآلن وبعد كل هذه السنوات على فعل شيء. كل ما أقوله »صد

لك أو أسرده فأنا أفعله برغبة حقيقية دون أي ضغط أو خالفه.« قال هذا وشرد بنظراته قليلا.

ر هذا.« ر... لن يتكر »أعتذر ثانية من سيادتك وأكره باغتني بقوله: صمت برهة ليست قصيرة حتى ظننت أنه نسيني لكن

»هات ألبوم الصور جنابو.« كانت صورا فوتوغرافية قديمة باألبيض واألسود أخذت له في زمن آفل وقديم. عالي الجسد نزق العينين مختلفا كثيرا عن هذا الكهل، لكنه هو بعيونه الجاحظة

منصور الصويم

Page 203: Beirut39 Arabic Anthology

203

امة المستطيلة الممتدة على طول عنقه، عار تماما وشهوة فاقعة وتحد مريع وبالشان من عينيه، بين يديه أنثى عارية ايضا ذات جسد جميل التقاطيع ورشيق، يشعتدفن وجهها تحت إبطه في إحدى الصور وتدفنه بين فخذيه في صورة أخرى،

د الصور إال أن وجهها ال يبين مطلقا. سألته: ورغم تعد»كيف حدث هذا سيادتك؟«

ة، وقت أن كانت المدينة كلها »حدث في الزمن الجميل، وقت الجبروت والفتوتلهج باسمي.«

ز نظراته على وجهي ثم بدأ يتجاوزني ويرحل بعيدا. كان يرك»نعم، بعد تلك الزوبعات المثيرة التي كنت أثيرها عقب كل مطاردة بغابر األزمان، والتي كانت تحوطني وتخلق ذلك الضجيج الذي ال يهدأ أثناء وجودي بالمدينة، كل هذا جعل الجميع يسعون ألجل أن يتعرفوا إلي، أن يروا هذا الرجل األسطورة عن قرب، أن يتحادثوا معه، ويشربوا برفقته قهوة، أو يتعاطوا معه زجاجة عرق، ثم يتباهون بذلك. لكني كنت أختار من أود معرفتهم بعناية ودراية. تعرفت إلى الكثيرين خالل اجتماعات وجهاء المدينة، خالل رحالت الصيد الطويلة مع أبناء الذوات والعوائل ات النزقة، الكبيرة، تعرفت إلى الصعاليك والمغامرين من أبناء الوجهاء خالل األمسيحيث الخمرة والنساء وطاوالت القمار. من بين الكثيرين تعرفت إلى سليم الشيخ

ي، أنت تعرفه؟ نعم.« سليم أمبدف إلى ذلك الرجل سليم في واحدة من سهرات الليل الفاجرة التي كانت تشهدها تعرب مقصود من المدينة في ذلك الوقت. تعارفا على دعوات الشراب بإصرار شديد وتقرقبل سليم أمبدي، ثم تكاثرت لقاءاتهما بعد ذلك. حفالت مجون صاخبة، وسهر حتى الفجر، دعوات عشاء مهيبة ولقاءات بأناس مهمين يأتون من العاصمة ومن المدن المجاورة، لكنه ظل يحس دوما بأن سليم يخفي وراءه أمرا غامضا ويحمل هما ثقيلا ده ورتب له حتى انفردا في إحدى الليالي وحيدين بينهما يعجز عن تحمله. ترص

ان سليم. زجاجة عرق وصمت ثقيل وحزن وقلق ظاهران يلفم بصوت خفيض وهامس وضوء القمر ينعكس على في تلك الليلة كان سليم يتكلوجهه البهي. لقد كان في تمام وسامته في تلك الليلة، بعينيه المتسعتين والقلق ال منهما وهو يحكي ويكاد يتالشى خجلا. شيء غريب العميق والحزن األسيف الطومبهم ال عالقة له بودي لسليم وال عالقة له بتعاطفي معه لحساسية وضعه، شيء

ماد تخوم الر

Page 204: Beirut39 Arabic Anthology

204

آخر بعيد عن كل هذا غامض ومثير دفعني إلى االستماع إليه ومساندته. ال مشعوذ، يعمل بعالج النسوة العواقر رجل مجهول حط فجأة بوسط المدينة، دجنة ال أحد يذكر متى وصل إلى المدينة، وكيف امتلك ذلك البيت وبالقوادة المبطالكبير في وسطها متزوجا من أنثى شيطانية الجمال، جعل من منزله بؤرة لسهرات ين في أتون مخططاته المجون الخالدة، يعمل وبخبث على اإليقاع بالرجال المهمين في المدينة، يجعله يشرب من الخمر الدنيئة، يختار بعناية أحد الرجال المهمما ينسيه حتى نفسه، ثم يخرج من البيت ويتركه برفقة امرأته خارقة الجمال يوما أو اثنين، ويفاجأ الرجل بصور له وهو عار تماما بأحضان امرأة ال يبين وجهها

مطلقا ويبدأ االبتزاز.

فصل من رواية »تخوم الرماد« منشورات مكتبة الشريف، السودان 2001

منصور الصويم

Page 205: Beirut39 Arabic Anthology

205

ين منصورة عز الد

قصة قصيرة

نحو الجنون

كنت أراقب جارتي وهي تخطو بدأب نحو الجنون. كانت تتجه إليه بالبساطة تها كل صباح، باإلتقان نفسه الذي نفسها التي تضع بها أكياس القمامة أمام باب شقة كلما مررت بشقتها الواقعة أسفل تطهو به أصناف الطعام التي تغمرني روائحها الشهيشقتي مباشرة. حين انتقلت للسكن في البناية لم ألحظ أي شيء غريب أو حتى غير اعتيادي فيما يخصها. امرأة في أوائل الثالثينات. ربة بيت نشيطة وأم وحيدة تبالغ

قليلا في رعاية أطفالها الثالثة الذين يبلغ أكبرهم تسعة أعوام كما أخبرتني.تبتسم في وجهي كلما قابلتني على السلم وأنا متجهة إلى عملي أو عائدة منه. صوتها خافت ومالمحها منمنمة بما يتناسب مع قصر قامتها وصغر وجهها. ورغم ارتدائها العباءة والحجاب، الذى يصل إلى ما تحت صدرها، كانت ال تحرمني من تعليق مجامل على تسريحة شعري أو فستاني القصير أو حتى رائحة عطري. »تحفة«

ق للتواصل مع اآلخرين. تقول وعيناها تلمعان بطريقة شخص متشوظ الذي يشعرني بالذنب بعدها. حرصت عادة ما كنت أتقبل تعليقاتها بنوع من التحفمنذ البداية على أن أضع مسافة مالئمة بيني وبين جيراني، فنمط حياتي ال يسمح لي بتضييع أي وقت في محاولة التواصل مع أناس مختلفين كليا عني. أنا بالنسبة إليهم د مكان للنوم، إذ كنت أغادر في الواحدة امرأة غريبة األطوار تتعامل مع بيتها مجر

ظهرا وال أعود إال مع اقتراب منتصف الليل.ت الثالثين مثلي بمفردها: ال زوج، لم يكن مألوفا بالنسبة إليهم أن تعيش امرأة تعدال أوالد، وال أقارب. لكن هذه المرأة بدت كأنما ترغب في أن تتغاضى عن كل هذه المآخذ التي أخذها الجيران علي. كنت أرى في عينيها نوعا من التوق للتواصل معي، عزوت ذلك لالختالف بيننا، فأنا بالنسبة إليها أشبه ذلك الغريب الذي نقابله في

Page 206: Beirut39 Arabic Anthology

206

سفرة بعيدة ونفضي إليه بأدق أسرارنا، ألننا ندرك أننا لن نراه مرة أخرى.قد أكون جنحت إلى المبالغة في تفسير نظراتها إلي، لكني كنت واثقة من بأن

هذه المرأة القصيرة ذات المالمح المنمنمة لديها ما تريد إخباري به.صوت ثم ة، بشد لها أطفا تعنف وهي لهستيرى ا صراخها أسمع عندما كيف إذ بالحيرة، أصاب كنت اليومية، التعنيف وصلة يتلو الذي نشيجها للمرأة الهادئة، ضئيلة الجسم، دقيقة المالمح، التي اصطدم بها من وقت آلخر على درج البناية أن تتحول إلى مخلوقة هستيرية تحول صباحاتي إلى جحيم را حتى في أيام العطل؟ بشجارها الدائم مع أوالدها، وتضطرني إلى االستيقاظ مبك

ر اآلن متى بدأ صوتها المرتفع ينطلق لتصدح به وهي تقف على بسطة الدرج، ال أتذكتها، منادية زوجة البواب كي تشتري لها ما تريده من الخارج، رغم وجود أمام شقنها من طلب ما تريده من المرأة بصوت هادئ وهي جهاز »اإلنتركوم« الذي يمك

جالسة فى مكانها.همة إياها بتجاهلها، وأشفق اب وأنا أسمع جارتي تسبها مت كنت أتعاطف مع امرأة البوعلى أطفال جارتي المشاغبين )الذين لم أرهم أبدا( حين تعاقبهم بأن تحبسهم فى إحدى الغرف وتغلق الباب عليهم، من دون أن تكترث بتوسالتهم أو بالجلبة التى

يسببونها بطرقهم المتواصل على الباب.قت بفعل العطش ثم فتحت ذراعيها للماء ل عقلها كقطعة أرض تشق بدأت أتخيي عقلها ويواريه يا إياها، الماء هو الجنون الذي يزحف ليغط وقد أخذ يجرى مغط

في الخلفية.لم استطع أبدا أن أتخلص من صورة األرض العطشى والماء يفيض عليها. كلما اصطدمت بالمرأة على الدرج أو سمعت صوتها الذي أصبح مبحوحا بفعل الصراخ

المتواصل ألتفه األسباب، أرى شقوقا تبتلع الماء.ذات صباح فوجئت بها تطرق بابي، كانت مرتبكة وعيناها حمراوان كأنما قضت الليل كله في البكاء. فسحت لها الطريق فدخلت مباشرة إلى الصالون كأنها تحفظ د شقتي عن ظهر قلب. لم أكن قد أفقت تماما من أثر النوم، فتبعتها بكسل وأنا أردكلمات الترحيب المعتادة. عندما جلست في مواجهتها الحظت أن نظراتها زائغة، وجسدها يرتعش بعض الشيء. أخذت تنظر حولها بتوتر للتأكد من أننا وحدنا. ته بمفرش منضدة الصالون. نظرت ثم انتفضت فجأة متجهة لجهاز التلفاز، وغط

ين منصورة عز الد

Page 207: Beirut39 Arabic Anthology

207

للسقف والجدران بتمعن، ثم اقتربت لتجلس بجواري على الكنبة وهي تهمس:»معلش. االحتياط واجب.«

قها عة، فبدأت تحكي وهى ترجوني أن أصد لم أعلق واكتفيت بابتسامة مشجوأال أتهمها بالجنون كاآلخرين. قالت إنها لم تعد تتحمل الحياة على هذا النحو، وأن طليقها يراقبها ويرصد كل حركاتها حتى في غرفة نومها لدرجة تضطر معها إلى تها لرؤية الكاميرات النوم وهي مرتدية العباءة والحجاب. طلبت مني أن أنزل إلى شقة. حين وصلنا لباب شقتها وضعت سبابتها أمام المزروعة في أركانها فتبعتها مضطرفمها طالبة مني أال أتكلم، دخلت على أطراف أصابعها وأنا خلفها. بدا بيتها كأنه نسخة منقولة عن بيتي بكل تفاصيله: األثاث، وألوان الستائر وحتى اللوحات المعلقة على الحوائط. تلفازها كان مغطى هو اآلخر. اندهشت وشعرت ببعض الخوف النابع من عدم الفهم. نظرت حولي بحثا عن أوالدها إال أنني لم أعثر لهم على أي أثر. دخلت معها كل الغرف فأخذت تشير إلى ما تظنه كاميرات سرية وأجهزة تنصت. كنت مشغولة فقط بالبحث عن أي أثر لألوالد الثالثة المزعجين. تركتني دقائق للذهاب إلى الحمام، فتسللت لغرفة نومها، كان هناك جهاز تسجيل كبير وبجواره عدة شرائط كاسيت، من دون أن أفكر أخذت الشريط الموجود داخل المسجل وأخفيته

في مالبسي واتجهت للباب.في شقتي رحت استمع ألصوات األطفال المنطلقة من الكاسيت، مرة يطرقون بابا لون من أجل إخراجهم، وأخرى وهم يلعبون بأصوات صاخبة تقطعها ما وهم يتوسفترات صمت تام. كانت األصوات نفسها التي اعتدت سماعها منبعثة من شقة جارتي،

لكن من دون صوتها هي، يبدو أنها كانت تضيفه على األصوات المسجلة.عندما دخلت زرتها في شقتها، لم أجد أطفالها الثالثة، الذين لم أرهم أبدا، كانت كل معلوماتي عنهم مستقاة من الكلمات القليلة التي كنت أتبادلها مع جارتى حين ها لهم، وأيضا من ألتقيها على بسطة السلم، ومن روائح األطعمة الشهية التي كانت تعد

خالل مالبس األطفال التي اعتادت أن تنشرها كل يوم تقريبا على حبل غسيلها. رت أن أزورها في اليوم التالي متعللة بأي حجة، شعرت بنوع من التعاطف معها وقررغم معرفتي بأنها نظرا للبارانويا التي بدت واضحة عليها ونظرا لخروجي المفاجئ

تها ربما تظنني جاسوسة لطليقها عليها. من شقشقتي. أسفل قعة لوا ا ة لشق ا م ما أ قفة وا نفسي وجدت لصباح ا فى

نحو الجنون

Page 208: Beirut39 Arabic Anthology

208

الخمسين في حوالي امرأة لي ففتحت ثالث طرقات خفيفة، الباب طرقت عن... عن... سألتها بة. مرح ابتسامة وتبتسم قطنية بيت مالبس ترتدي ة. اكتشفت أنني ال أعلم اسم جارتي فوصفتها لها وقلت إنها تسكن هذه الشق

أخبرتني المرأة الخمسينية أنها تسكن هنا مع ابنتها الجامعية منذ عشر سنوات، وال كة، فاعتذرت تعرف عمن أتحدث. بدا عليها نفاد الصبر وهي ترمقني بنظرة متشك

وأنا أغادرها محرجة.

***

تي، من دون أن ة التي تعلو شق كنت أتابع المرأة غريبة األطوار التي تسكن في الشقأتكلم معها، اعتدت أن أقابلها من وقت آلخر على درج البناية، كانت دائما في عجلة

من أمرها، تهبط درجات السلم أو تصعدها عدوا كأن هناك من يطاردها.امرأة في الثالثينات تقريبا بجسد ضئيل ومالمح منمنمة، تترك شعرها الطويل منسدال على كتفيها، وترتدي مالبس قصيرة وأحذية ذات كعب عال بدرجة ملحوظة. زنة بعض الشيء. سمعتها أكثر حرصت على تجنبها منذ البداية إذ بدت لي غير متة الصباح أو ث نفسها وهي تصعد أو تهبط. كنت فقط أتبادل معها تحي من مرة تحدالمساء حين أقابلها على الدرج، فترد دون أن تنظر إلي ثم تواصل همهماتها غير

المفهومة.كان من الممكن أن تظل كغيرها من الجيران بالنسبة إلي، فعدم اتزانها يخصها وحدها ما دامت مسالمة وغير عدوانية، غير أنني بدأت اتضايق من الجلبة التي تها على رغم معرفتي بأنها تسكن وحدها. كانت هناك تصدر بشكل دائم عن شقضوضاء ناجمة عن بكاء أطفال صغار وشجارهم مع بعضهم بعضا. وصوت امرأة تبدو

هم تعنفهم وتصرخ فيهم بشكل دائم. كما لو كانت أمحين شكوت لحارس البناية وطلبت منه أن يبلغها بانزعاج الجيران من األصوات زنة المرتفعة الصادرة من عندها ليل نهار، فوجئت به يخبرني أن جارتي غير المتنفسها قد اشتكت من تلك الضجة مؤكدة له أنها تصدر من شقتي أنا!! ذات يوم كنت على وشك الصعود إليها كي أبدي لها انزعاجي وعدم استطاعتي النوم بسبب صخبها، إال أنني وجدتها هى من يطرق بابي لتسألني عن امرأة ضئيلة الجسم ترتدي العباءة

ين منصورة عز الد

Page 209: Beirut39 Arabic Anthology

209

عية أنها تسكن شقتي. والحجاب مدق هذه االدعاءات السمجة، فالمرأة ذات العباءة أصبت بالذهول، وأنا أراها تلفرت معها حين رأيتها للمرة األولى أنها والحجاب تشبهها هي تمام الشبه لدرجة تصوتوأمها وتسكن معها، إال أن البواب أخبرني أنه لم ير االثنتين معا ولو مرة واحدة،

وأنه يعتقد أنهما الشخصية نفسها.تمالكت أعصابي واكتفيت بقول إني أسكن هنا مع ابنتي وحدنا منذ عشر سنوات وال نعلم شيئا عن المرأة التي تسأل عنها. بدا اندهاشها حقيقيا وهي تسمع مني ذلك، كانت على وشك أن توجه لي أسئلة أخرى، فأمسكت بالباب كأني على وشك إغالقه

وأنا ابتسم لها بود مصطنع فغادرت محرجة.

***

ال أعرف على وجه اليقين من أوصلني إلى هذا المكان القبيح، لكني أعتقد أن المهووسة ذات العباءة السوداء والمالمح الدقيقة لها عالقة باألمر، أو قد تكون المرأة

تها بدلا منها. الخمسينية التي وجدتها تسكن في شقأريد العودة إلى بيتي وعملي من جديد. لن أزعج أحدا مرة أخرى رغم تيقني من أنني لم أزعج أي أحد في المرة األولى. لماذا لم يصدقوني حين أخبرتهم أن المرأة الهستيرية التي تسكن أسفل شقتي هي من يزعجهم؟ وجود عباءتها ومالبس أطفالها في دوالب مالبسي ال يثبت أي شىء. يجب أن يصدقوني. يمكنهم أن يتصلوا بطليقها

الذي انتزع أطفالها منها بحكم محكمة، كي يؤكد لهم جنونها هي ال أنا.

قصة قصيرة غير منشورة.

نحو الجنون

Page 210: Beirut39 Arabic Anthology

210

ناظم السيد

قصائد

نصائح اآلخرين

ال أفعل شيئا سوى كتابة نصائح اآلخرينأكتبها على أوراق صغيرة، وأضعها في الجارور المعتم

بعد فترة طويلة أو قصيرة أعود إلى هذه النصائح

وال أتفاجأ، حين أجدها ال تشبه تلك التي قدمت إليلهذا أكتبها

تلك النصائحوأتركها هناك تتغير من تلقاء نفسها.

هذا االنتظار

في المكان ذاتهحفرت طويلا

وما كان همي أن أجد شيئاأو أثرا أو مقعدا أو حتى عظاما

كل ما طمحت إليهأن تتغير- مع اإلصرار- يداي.

Page 211: Beirut39 Arabic Anthology

211

يوم هناك

من موقعي هذا في البحرأرفع يدي وأقول:

هاي يا أرضولدت هناك،

ألرافق اآلن مشيتك بالسباحة والتحياتلقد صرت في الماء،

وال يربطني بك سوى هذا الفم العائمتذكار اليابسة.

آه كم أنا في الوسط

ها استعملت وعودي كلوها أنا

أجلس مع حاضريملتصقا به مرتجفا

كسابح نادم بين ضفتينيقيس أمامه بخلفه.

الشريك

تعال أيها النفسآلخذك معي

لترى بعينك كل ما أخبرته عنه:نهايتنا معا.

نصائح اآلخرين

Page 212: Beirut39 Arabic Anthology

212

كل شيء على حاله

حين عدتوجدت كل شيء على حاله

بما فيهالظل الواهن الذي رسمته في الهواء تلويحتي األخيرة.

حنان

كدت تكتشفين رقتيحين دخلت فجأة

غيرة التي جلبناها من الشارع ة الص ورأيت تلك القطنائمة قربي على الكنبة

وكيف كانت تغمض عينيها ببطءتحت يدي التي انفصلت عني

وأعلنت حنانهاآه نسيت أن أقول:

ها األشياء التي في كلتركتني إلى الرقة

تركتني وحيدا وقاسياكضرس مات صاحبه.

ظالل

عند الظهيرةظل شجرة

يستريح تحتها

ناظم السيد

Page 213: Beirut39 Arabic Anthology

213

***ينفصل الظل عن صاحبه

لكنه يمشي خلفهصامتا، باردا

معيدا كل حركةبطريقته الخرقاء

***يتمدد هذا الظل

على األرضمتعبا

من لعب دور عمود كهربائي***

أنا ولدت فجأةكبيرا وقاسيا

- يقول ظل العمود -أنت على األقللديك طفولة

يا جاريظل الشجرة

***ارتفع الطائر

لكن ظلهبقي ممسكا باألرضوهما ينوب عن أصل

***ظل طائر في السماء

يعود إلى األرضخائفا وقد فقد لونه الحقيقي.

نصائح اآلخرين

Page 214: Beirut39 Arabic Anthology

214

الجورب بعد يوم عمل

بعدما استحم جيداوجف في الهواء والشمس

عاد الجورب إلى بيتهالتف على نفسه

قبضة دافئةطابة مرحة

كوكبا خاليا من األقدام.

على حبل الغسيل

جوارب على حبلتنقط منها

خطواتغسلت صباح اليوم.

مقبرة األوتوبيساتمررت بها

تلك المقبرةحيث األوتوبيسات

متروكةللريح وللشمس

وأيضا للقمر

الذي ينزل كل ليلةد بنفسه ليتأكمن أنها ميتة.

ناظم السيد

Page 215: Beirut39 Arabic Anthology

215

ما حدث للناجيين الوحيدين

يأتيان يوميا إلى المقهى ليشربا القهوةاألم التي اقتربت من السبعين، واالبن العازب الذي غادر األربعين

وبينما يفعالن ذلك يتشاجراندائما يتشاجران

ودائما يتنازل االبن الذي بدت على جبهته آثار جروح بالغةبعد ذلك ينهضان

يمشي االبن أولا، وتتبعه األمإنه يتقدمها ببضع خطوات

ملتفتا كل مرة إلى الصوت الغاضب خلفهينعطفان اآلن

وحيديننهائيين

مخبئين عن القدر ما غفل عنهعائدين إلى المنزل الذي

ما زالت إلى اليومقذيفة واحدة تسقط فيه

وتقتل عائلة ينجو منها اثنان فقط.

منزل األخت الصغرى

في المرطبان الزجاجيبقايا متيبسة من مربى المشمش

وعلى البابقشر برتقال

يقود النمل إلى بيت فارغ.

من ديوانه الجديد »منزل األخت الصغرى« دار رياض الريس، بيروت 2009

نصائح اآلخرين

Page 216: Beirut39 Arabic Anthology

216

نجاة علي

قصائد

ين مثل شفرة سك

إليكترا

لم يكن سيئارجة التي تراه بالد

بها،هو على األرجح

لم يكن يحب أحدافي األصل.

مهنته جالداجعلته

ال يعشق سوى منظرختين بهم يديه الملط

حتى بعد نهايةالعرض.

هي أيضا لم تلعبة كاملا دور الضحي- كما طلب منها -

كانت تهرب كلما

Page 217: Beirut39 Arabic Anthology

217

استدرجها بثقةللمشهد األخير

وتسخر منهثها عن إليكترا كلما حد

»قرينتها القديمة«،تلك التي منحتها

وخزات غائرة فيالرأس

وعلمتها كيف تحيالة. بأعضاء معط

الغريمة

لم تكن تلعنها، أبدا. على العكس تماما، تراها بائسة، غريمتها الجميلة، التى تتأملها على بعد سنتيمترات، بنظرات حادة، وتتهيأ لجولة جديدة، الستعادة الصيد ، بها الحب الثمين. كانت تشبهها فى كل شيء: العينين العميقتين، الحواس التى خرالجسد الذى أدركه العمى. لكن على أية حال، غريمتها، كانت أكثر براءة منها

وال تكتب الشعر.

الشحاذإلى نجيب محفوظ

المعتوهةسوف تدعه يمر

دون أن تهتزلغفلته

»الصعلوك المراهق«

ين مثل شفرة سك

Page 218: Beirut39 Arabic Anthology

218

الذي نبش بأصابعهالنحيلة

دون قصد –صديدا بجسدهايركض بين اللحم

والعظم.

كان يحكي...ر يده على - وهو يمر

خصالت شعرها الطويل -عن تاريخه الضائعبين البنايات التي

احترق معظمهافي وسط البلد.

لم يكن يراها سوىطفلة تمتلك عينين

حائرتينتحفران بقسوة

في كل كائنتقابله،

هي التي ترتعد مناسمها

إذا نطقه أحدهمعلى نحو صاخب

وتغضب من األوالدإن حكوا عن صدرها

الفاتن.

نجاة علي

Page 219: Beirut39 Arabic Anthology

219

ظلت واقفة كتمثالبليد

تتابعه،لم يكن في نظرها

أكثر من بائسيلهث خلف أثداء

البديناتيتعثر بينهن وهو يسأل

- بنصف وعي-عن معنى الحقيقة

التي ال رأس لهاوال قدم

وعن ضرورة أن يظلحيا،

هو الذي لم يعد قادراعلى الدهشة

أو البكاء

لم يكن يتمنى كل ليلةوهو يمشي وحيدا

بصحبة الكالبالضالة

سوى أن يرجم بحجركل أعمدة اإلنارة في

الشوارعلئال يعرف الطريق

إلى البيت.

ين مثل شفرة سك

Page 220: Beirut39 Arabic Anthology

220

قبور زجاجية

1

تي، أقطع فيها المسافات ه فيها على سجي أحب هذه القبور المظلمة بال صخب، أتنزع الوقت على طريقتي. بإمكاني مثال أن أنعم بصحبة الموتى »جيران أبي ألضيث عنه، وأنا أنبش قبورهم الطيبين«، هم - فقط - الذين ال يقاطعونني حينما أتحدبحثا عن جثمانه، فكثيرا ما حاولت أن أخمن موضع الحفرة التي دفنته فيها، ألرى ى منه، حين كنت أجيء لزيارته أيام السبت في الشتاء، الشتاء الذي يحبه ما تبقمثلي، مع أنه مات دون أن يقول لي شيئا عن غاية وجودي في هذا المكان القذر. هو في الحقيقة لم يقل لي أية إجابة واضحة حينما كنت ألح عليه في السؤال، ولم أرث منه سوى حفنة هواجس، وبعض الوصايا القديمة التي يعلقها إخوتي - بإصرار مدهش – على حوائط البيت بجوار صورته الكبيرة، ظللت لسنوات طويلة أنتظر

بثقة اليوم الذي ستسقط فيه هذه الوصايا وصورته والحوائط. أتصدقون؟ رغبة واحدة هي ما تشغلني... أتعرفونها؟!

أن أغيب عن الوعي - ولو دقائق - ثم أفيق بعدها ألجد الولد الذي خانني - دون ة متحللة تحت قدمي، تأكل عظام رأسه حشود النمل التي تزحف خجل - جثخلفي لتفترسني، وأن أنسى ذلك العجوز الذي ظللت ألهث وراءه خمسة أعوام ني. كان يشبه أبي فعلا، الخربشات التي تركها لي كاملة دون كلل، على أمل أن يحب

دت لي ذلك. في الصدر أكأعرف أنني أفسدت عليكم عزلتكم بأمور مزعجة ال فائدة منها، ومع ذلك يمكننا أن نتكلم عن شيء أفضل، نفتح حديثا أقل ألما، نتكلم عن العناكب مثلا التي تلتف حولي من كل جانب، سأدخل مغاراتها الموحشة، ألعرف لماذا ضللتني طويلا، وألتفرج على

خرائب الهياكل القديمة، واألفاعي التي تطن بأجراسها في رأسي. رها أمثالكم، يعرف قيمتها- فقط - أصدقائي وللكالم عن العناكب مزايا عظيمة ال يقد

من الشعراء والحمقى. صرت أتابع حركاتها بحماس زائد، كانت في الغالب سوداء ومثلثة الزوايا، وال تنظر إلي مطلقا حين »أندهها«. أفرح حين أشعر بحركة الساقط منها في معترك الحياة أو

نجاة علي

Page 221: Beirut39 Arabic Anthology

221

حين أرى المسجى منها في التوابيت المغطاة بالزجاج. مها أحد حتى اآلن، وال حتى أنا. مسكينة فعلا هذه العناكب، لم يكر

يكفيني إذن أن أراقب - بنشوة - العقارب التي تتلكأ في لدغي. أتأملها وأنا عارية ني. أستقبل برحابة صدر- تحسدونني عليها- من كل شيء إال هذا البياض الذي يلفل تلك الوخزات المتالحقة. رغم أنكم مثلي، تصبحون معي على هذا العدم الذي ال أوله وال آخر، وتلك العينين المتبلدتين، وهذا الجسد الممدد وحده في الظالم، وذلك

الصمت المطبق على الصدر.

2

ك بخفة في الظالم دون أن يصطدم لعلي صرت اآلن شبحا خفيفا قادرا على التحربهذا األثاث القديم الذي مأل البيت وجعل منه مقبرة عظيمة.

سأقنع بفضيلة الكذب التي صرت أهلا لها وسأمتدح جلوسي بين الخفافيش التي ص تهوي من الخرابات المجاورة وأسعى إلى الجحيم الذي تحدثوا عنه طويلا وأتلصبريبة على من يقولون: »من يتعلم كثيرا يفقد شهواته العنيفة كلها.« ربما ألنني

لم أعد أثق بأحد.سأحاول إذن أن أزيح هذا الغبار المتراكم على الحوائط، وأداعب األفاعي التي تطن بأجراسها العالية، ثم أنقش اسمي على الماء، وأزيف األشياء لتكون أكثر جماال. وبالطبع سوف أتعالى على كل البقع الحمراء التي جعلت مني كائنا دمويا، ولن أشفق على أحد، ليس ألن الشفقة ترتبط بممارسة العدمية - كما يقولون - أو ألنها دوما

تقود إلى الال شيء، بل ألنني أراها ليست فضيلة من األساس.شا وقسوة رغم أن الضوء في غرفتي صار سأعود ثانية إلى عزلتي ألزداد توحشحيحا، وسأكتفي فقط باالستماع إلى ضربات المطرقة الثقيلة، وأنا أزيح حكايات مؤلمة تسيل من رأسي، ال فائدة اآلن من الكالم عنها ألنها سوف تتحول في النهاية إلى نكات بائسة ال تفضي إلى شيء. إذن سأتسلى بالفرجة - فقط -على النعوش د حارس قبور. سوف تبصرون بعيونكم مالمحي بعدما فشلت حتى في أن أصير مجر

الحقيقية، لتعرفوا أن الكالم هو أقل المرايا خدعة لما يشعر به المرء.

ين مثل شفرة سك

Page 222: Beirut39 Arabic Anthology

222

ك«. صدقوني حين أقول لكم ر معكم من جسدي، ذلك »القبر المتحر سوف أتحره وجوهكم قريبا. صراحة إنني مثلكم: لي أظافر حادة سوف تشو

سأصرخ، وأنا أزيح صورة حبيبي التي صارت هيكلا يبعث على الرعب، ال بد إذن ي حتى أكون بصيرا وعليما بكل شيء. ب حواس أن أخر

سأرى جسدي المعلق نصفه المسيح ونصفه اآلخر يهوذا وسوف أستهزئ مثلكم يني.« د بثقة »ما ال يقتلني سوف يقو بجميع مآسي الحياة، وأرد

ير- الذي نادرا ما يستيقظ - حين يناديني سوف أضحك بسخرية على ذلك السكمن الغرفة المجاورة، سأخبره بزهو أنني صرت مثل دود القبور الذي يأكل بعضه

بعضا بعد أن يتغذى من جيفة ال حياة فيها.

قصائد من ديوان "مثل شفرة سكين"، دار النهضة العربية، بيروت 2010

نجاة علي

Page 223: Beirut39 Arabic Anthology

223

نجوى بنشتوان

مقاطع من رواية

من سيرة البركة والبيانو

1

أخذنا من وقت دراستنا لتنظيف المدرسة من الرماد األسود الذي خلفه حرق مناهج اللغات األجنبية. نحن في أحد أيام ثمانينيات القرن الماضي، تلك األيام المتشابهة ة التي لم يبق منها إال الرماد متى أتى المرء على ذكرها. كانت حرائق الكتب األجنبيتتم في كل مكان من أرجاء البالد، وقد التزمت مدرستنا ضمن أربع مدارس في حينا بطاعة األوامر وإخراج كل الكتب األجنبية من أماكنها من المنهج ومن أفئدة

المفتونين بتعلمها ثم إعدامها في فناء المدرسة بمشاركتنا خالصة النية.كان ثمة من أسعدته الحرائق ألنه يكره اللغات وال يسير سيرا حسنا في تعلمها. أحد إخوتي في الثانوية المجاورة أصيب بالكمد نظرا لحبه اللغة اإلنكليزية وتفوقه الدائم فيها، رفض الذهاب للمدرسة بعد خروج اإلنكليزية من مقرره وظل مريضا ة( ألننا جميعا كنا من المتفوقين في البيت أليام، واسته أمي فقط )وهي للعلم أميمها األعداء. باختصار كنا حينها نشبه وزير التعليم، رسوبا في هذه اللغة التي يتكلباستثناء أخي الذي أوجعه الفقد وشبهه بموت أهم أفراد أسرتنا، سخرنا تلك األيام من حساسيته األنثوية، وكثيرا ما تمثلنا ببعض جمل وعبارات كان يقولها لنا نحن

وثلة من المحرقين في حينا واألحياء المجاورة.»يا جهلة يا متخلفون، ستعرفون حجم المصيبة فيما بعد.«

والواقع أننا لم نتبين مصيبة آنذاك عدا وجود ذلك األخ المهرطق بيننا.

Page 224: Beirut39 Arabic Anthology

224

2

سد المطر طريقنا، ونحن نجري من بيوتنا إلى المدرسة في أول يوم دراسي بعد عطلة منتصف العام، فصنعنا معبرا مائيا من أحجار وإطارات تالفة جئنا بها من كوم قمامة قريب، ووضعناه وأشياء أخرى داخل البرك الضحلة لنعبر فوقها. سارع من لديه »بوط« مطاطي، من تلك التي تترك أثرا غير ذكي بالقدمين، إلى انتعاله وحمل

المقشات والمماسح إلى البر إلعادة وجه المدرسة الفعلي إليها.فالمدرسة يخدمها طالبها، وذلك يلزمنا بكنس المدرسة وتنظيفها من السناج الذي علقها إثر حرق كتب اللغة األجنبية، كانت المدرسة خالل فترات الحرق تتنفس الغبار األسود وتعطس بأبجدية غريبة عنا. مكثنا نكنس مدرستنا وننظفها آلجال اة تحت إشراف المعلمين والمعلمات، ممن كان الكنس مناسبة اشتراكية غير مسمعظمى الكتشاف الجوانب اإلنسانية فيهم. كانت وجوهنا ووجوههم سوداء، وأيدينا

وأيديهم في المحرقة سواء!استغرقنا دون توقف في كنس رماد الكتب األسود العالق بكل شيء، حتى ظهرت ة، وعادت لنا براحا بريئا من السواد. كشطنا، ونحن نرتدي ة أبي علينا المدرسة، حرأزياءنا المدرسية، عجاج العطلة المتراكم عن األدراج والسبورات واألبواب والطباشير ارات الناظرة مديدة الذراع، وكذلك عن لوحة اإلعالنات التي ما بقي عليها من ونظاألموات سوى جد نائب الناظرة المعلن عن وفاته منذ حولين دراسيين. وفي سبيلنا لنظافة شاملة رششنا سارية العلم بالقار، وقررنا غسل العلم بعد موافقة اإلدارة

لكي يكون كل شيء في المدرسة نظيفا.

4

تشاجرت أنا وتلميذ تشادي من خارج صفي على غسل العلم، فقلت له: هذا علم بالدي وأنا األجدر به، فرد التلميذ بكلمات غريبة لم أتبين منها إال بريقا مسعورا في ني عما قلته منذ قليل، فاحتفظ ببالدي لنفسي واحتفظت من عينيه أوشك أن يردنفسي لبالدي بخريطتي النفسية، علها تعثر على نفسها في خالل اختالط األنساب،

نجوى بنشتوان

Page 225: Beirut39 Arabic Anthology

225

ارة بالسالم والراكنة للهدوء أال ضير في تنازلي عن الجانب جا أمام نفسي األم متحجس. بيد أن الناظرة استخدمت فجأة طول المزمع غسله من بالدي ألي شنين أو مجننظرها االحتياطي وغير المستخدم وقارنت سمرتي بسواد الفتى التشادي فرأتني )بنسبة وتناسب( األقرب للعلم فأوكلته لي، وأخذته من فوري إلى بيتنا القريب من ضلع المدرسة األعوج لكي تضعه أمي في سطل الغسيل، وكانت أمي تدير وجهها ها من كف أبي، حين أتيتها به وقالت: لحلة الطعام وعينها على الساعة خوفا على خد

»ضعه« على مضض، فاغتسل العلم في دورة الغسالة األخيرة.

5

عادت المدرسة جاهزة الستقبالنا فعدنا نصطف قبالة اللوح المتين. حيينا العلم الذي رف بخفة أنا والتلميذ التشادي وآخرون من أنساب عدة، حتى وصلت رائحة صابون العلم مناخير الجميع، فيما ظلت التحية قاصرة عليه وحده دون الصابون. شرعنا في تعلم الدروس وتركناه يرفرف وحيدا في ساحة المدرسة الكبيرة. كان صوته نافذا مثل عاصفة، لهذا أغلقنا النوافذ التعليمية نصف إغالقة وسرى التعلم فينا. بدأ فصلنا بدرس المحفوظات، والفصل المجاور بدأ بالرياضيات، واآلخر بدأ بتاريخ الصراعات، ا ياضة، فلم ل إلى ممارسة الر واآلخر كان معلمه غائبا فسادته الفوضى قليلا ثم تحوة من الرياضة إلى الرسم، فكان واحد كان حمل معلمة الرياضة أكيدا تحولت الحصاسات األوالد من رسوم. كنا نحسدهم من بين التالميذ هو الذي رسم كل ما في كرعلى تحول الحصص من الرياضة إلى الرسم، وعلى حمل المعلمة وعلى ألوان طلعت اساتهم. ولما لقيناهم في ن كر أشجارها عند نوافذ فصلهم، بفعل ذلك التلميذ الذي لواالستراحة كان حسدنا حقيقيا، وكان اعتيادهم على ممارسة الرياضة في حصة

الرسم أكيدا، أما حمل المعلمة فعنقودي في معظم األوقات.

من سيرة البركة والبيانو

Page 226: Beirut39 Arabic Anthology

226

6

ع عندها مياهنا بمياه الجيران، تراكم بها إهمال البلدية بالوعة الشارع التي تتجمفأغلقها، لذلك خرجت مياه غسيلنا وصنعت في الحال بركة طحلبية اللون اعترضت سبيل لعبنا كلما مشطنا الشارع جريا هنا وهناك. عن نفسي خبطت قدمي عشرات

المرات حواف البركة الطحلبية وابتلت أطراف سروالي بمياه الغسيل.ارات حت مدرسة التربية الفنية( فقد صادرت نظ ونظرا إلهمال األمهات )كما صرالناظرة سراويلنا في اليوم التالي، ولم يبق في الفصول الدراسية لمتابعة الدروس عدا التالمذة الذين ال يرتدون سراويل أصلا، والذين لم يحملوا تاريخ البركة في أرجلهم، وبضعة طيور بنت أعشاشها فوق األشجار المرسومة، داخل فصل ذهب

جميع تالمذته لممارسة الرياضة بالجالبيب.

***

ة مصيونة للمستوصف بعد وصلة سعال ارة إسعاف مهترئة، لنقل الحاج جاءت سيت منها بوال الإراديا، وهنا يلزم التنويه إلى أن سيارات حاد قطعت عنها النفس وأدراإلسعاف ال تأتي عادة لنجدة أحد إال إذا كان سائقها على قرابة أو مقربة شخصية ارة أمام بيت الحاجة مصيونة بالمصاب أو بعض من معارفه. للسبب األول وقفت السيتة، ة أو مي وانتظر سائقها )خليفة( بحرارة سيجارته المائلة في فمه أن يخرجوها حيالمهم أن يخرجوها، لكي يؤدي وظيفته التي تبدأ بتشغيل صافرة الطوارئ، وتنتهي ارة على الرصيف أسفل نافذة »مربوعته« واالطمئنان إلى بإطفاء الصافرة وإيقاف السيارة، قفز راتبه. لوهلة لم تعمل الصافرة، ولم يكتمل إدخال رجلي المريضة في السيخليفة قفزات متتالية في الهواء نحو الصافرة وضربها بيده، فأطلقت ولولة مذبوحة

ارة. ارة إلى السي مع نجاح الجيران في حشر مصيونة األطول من خلفية السيارة إسعاف في حينا، ما كنا لنشهدها لو لم تصب أطول إنها أول عملية استخدام سيإنسانة بيننا بتوقف النفس، جراء سوء الهواء في بيتها المجاور للمدارس المشتعلة صباحا مساء. وقفنا نتفرج على عملية اإلنقاذ التي يقوم بها أهل الحي لجارتهم الطويلة، كنا نتزاحم للمشاهدة حتى سد وجودنا درب خليفة فأخرج رأسه الحليق، وأطلق

نجوى بنشتوان

Page 227: Beirut39 Arabic Anthology

227

ق وحدة البركة بدوسه على البنزين، ة شتائم غير خادشة لحيائنا، ثم مز علينا عدة وبللتنا كما بللت قدمي الحاجة مصيونة الناتئين من فتطايرت مياهها المستقرة سرواله، لتقريب جانبيه من بعضهما، فتحة الباب الذي تبرع )سالم حمد( بتك

وإنقاذ الحاجة مصيونة من أزمة فقدان النفس.نت بتفاعل على حواف البركة قذفت سرعة خليفة بعض الحشرات التي تكو البركة مع نفسها، فتفرق الجمع هاربين من رذاذ متى التصق لن يزول بغير ماء النار!صرخ الطفل التشادي صراخ غوريال إفريقية قتل أطفالها عندما دخل جزء من الضفدع بعينيه المبحلقتين، تركناه يصرخ وهربنا حتى ال تطالنا لعنته. على حواف البرك المنتشرة قبالة المدارس واألخرى التي تتوسط البيوت وتصل نهاية الشارع، ولدت مائيات كثيرة بلون البرك التي استولدتها، استخرج األوالد األشقياء منها لعبا مسلية: كانوا يضعون السجائر في أفواه الضفادع التي تستنشق الدخان حتى تنتفخ رئاتها وتنفجر ملطخة ما تجده أمامها، كانوا يتركونها تدخن وتنتفخ ويختبئون لمشاهدتها تتفرقع مثل األلعاب النارية. ظن أوالد من أحياء أخرى أننا نحتفل بإحدى المناسبات

من تلك التي تمتلئ بها أجندتنا، وفي هذه الحال سيكون بعض الظن ظنا كاملا.

7

من فضائل ارتداء السراويل ذات السحاب تعطيل المغتصب عن الوصول لفريسته، لكن بعد أن صارت الجالبيب دون سراويل وجد الشيطان فرصته الكبرى في ان المدينة واستدراجهم إلى الرذيلة في وضح القيلولة وفي وسط الوسوسة لسكالحرم المدرسي. تكلم الناس عن بعض محاوالت من هذا النوع وعن مساع حثيثة ش، أطلق عليها داخل جرائم الشرف تسمية جرائم المعرفة لتمييز القائمين بالتحربها والعاملين عليها. ولألمانة العلمية فقد عثرت شرطة المنطقة على بعض مرتدي الجالبيب ممن ليسوا طالبا أو متعلمين، كانوا رجال أمن وبقالين وسائقي شاحنات ومعلمين ومتقاعدين... الخ، انتهزوا فرصة العراء المدرسي لتصريف غرائزهم، لكن العين الساهرة أنزلت بهم أقسى العقوبات المعمول بها آنذاك وهي ارتداء سروالين

أسفل الجالبية، حفظا للشرف العام من كل شيطان رجيم.

من سيرة البركة والبيانو

Page 228: Beirut39 Arabic Anthology

228

8

ر حتى ما قبل حريق الكتب كانت أمي مواطنة ليبية، ولم يعد أحد في حينا يتذكأصلها المغربي ألبتة، غير أن حادثة حرق الكتب أعادت أمي إلى نقطة البداية في بة بالطربوش كفاحها ضد امتهان النساء لها لكونها غريبة ومغربية كانت ترتدي الجالات في ليبيا( حين جاء )سمعتهما غير حسنة الرتباطهما بعامالت المقاهي المغربيبها أبي إلى البيت، واضعا إصبعه في أعين الجميع الرافضة أن يبحث عن نسله في تهما لغيره، كان الشرف آنذاك احترافا ليبيا محتكرا، وسعره مثل ترائب امرأة ربما مدعود الكبريت رغم غالء المهور! إن ذكر أصول أمي يعود إلى قصة عيشة الكيناوية أو السودانية كما هي معروفة في المغرب، والتي حدثتنا عنها أمي مرارا وكان حريق

الكتب مناسبة من مناسبات االتحاد المغاربي الستحضارها. فـ »اللة عيشة« سيدة المستنقعات جنية مائية تخرج في أماكن وجود المياه واألماكن الرطبة، وانتقامها سريع وفتاك. أحيانا تأخذ شكل عجوز شمطاء، وأحيانا فتاة جميلة، وأحيانا حشرة أو حيوان مائي ذي قداسة، وتروي لنا أمي أن اللة عيشة حرقت أستاذا أوروبيا للفلسفة في إحدى الجامعات المغربية وأتلفت بحوثه ألنه قال فيها كالما لم يعجبها. إن حلول اللة عيشة بيننا في مدرسة الوحدة جاء لسببين، األول: وجود البرك والمستنقعات السوداء والخضراء في محيطنا ووجود الروح المغربية قريبا من هذه المجاري المائية ممثال في وفي إخوتي، والسبب الثاني: اساتنا من حقائبنا ثم رؤيتها تحترق في فناء المدرسة مع الكتب اختفاء بعض كر

نا، واهلل على ما أقول شهيد! المكتوبة بلغة األعداء، مع أنها مكتوبة بأيدينا وبخطاساتنا ويحرقها؟ كان شيئا مثيرا للدهشة واالستغراب، فمن يسرق كر

ولما لم نعرف الفاعل و»عدو المعرفة« لم نرد تقييد القضية ضد مجهول، لذا استحضرنا اللة عيشة السودانية أو الكيناوية استخداما للمنطق االستداللي، فربما

اساتنا تثير الغضب. تكون هي الفاعلة نظرا لوجود أشياء كثيرة مدونة في كربسبب ذلك اإلسناد حدث القتال بيني وبين التلميذ السوداني، الذي ساءه نسب عيشة لبالده ومن ثم اعتبارها )من وجهة نظره( ضد مقرراتنا الدراسية في ليبيا،

نجوى بنشتوان

Page 229: Beirut39 Arabic Anthology

229

واعتبار بالده تتدخل في شؤون الدول المجاورة، استنادا لنفس المنطق المستخدم من البداية!

ة طويلة كي نقنع التلميذ السوداني الغاضب بأننا ال نتهم بالده وأنها استغرقنا لفخارج االستدالل الرياضي الذي نتبع ملته، فرغم امتالكها جزءا كبيرا من نهر النيل إال أنها بريئة من تصدير سادة البرك والمستنقعات للدول الشقيقة والصديقة، فهي بالكاد تغطي استهالكها المحلي منهم، وأن الدول الشقيقة والصديقة تنتج بركها ومستنقعاتها بنفسها، بعد أن تكون انتجت سادتها الذين يديرونها، ويحرقون ما ال

يعجبهم من البحوث والمعارف.قا على مقعده وقد بدأ االرتخاء يسري في جسده اقتنع التلميذ السوداني، وجلس متعرة النحيل، لكن التفاوض بشأن نسب اللة عيشة كان مازال ساريا، فنحن في حصرياضة أي في حصة رسم، وليس فينا من يجيد رسم شجرة أو سحابة أو محرقة. قال شقيقي سعيا إلخماد غل التلميذ السوداني: يا أصدقاء يقال إن اللة عيشة كيناوية ا كان المغاربة يأتون أيضا أي: جاءت مع الرقيق المسترق من كينيا للمغرب، ثم لمإلى هنا ويقيمون مستنقعاتهم الخاصة بهم لزمهم سادة منهم... لم يتم أخي استدالله الرياضي )على وجود كيناوية في ليبيا مرورا باألراضي المغربية!( حتى دخلنا في صراع جديد مع تلميذ آخر كنا نظنه لثالث سنوات ليبيا وحسب، فإذ به كيني األصل، اعتبر حرق كراساتنا بيد مواطنة كينيه مشكلة تقطع في سبيلها الرقاب، وتنتشر ات حفظ السالم الدولية ما بين المستنقع والمستنقع، وما بين المدرسة بفضلها قوينا اآلمر معه برشوته بالحلوى والسندوتشات كي يسكت، وباب الفصل، بالكاد سولحسن حظنا كان جائعا ولسوء حظنا كنا ننظر إليه وهو يلتهم شطائرنا بشراهة، بينما في الجهة األخرى تتطاير شظايا كراساتنا المحترقة وتدخل من نوافذ الفصل. كانت قلوبنا مليئة بالقهر وأفواهنا مربوطة عن الكالم، وفي نهاية اليوم الدراسي عدنا خائبين لبيتنا وأقفلنا بابنا علينا نحن واللة عيشة، فسألتنا أمي عما بنا وهي تعبئ بطوننا بطعام ليبي صرف. تبادلنا النظرات، أنا وأخي، وخشينا من مشاكل ة خالصة. في ة حتى في بيتنا، لهذا آثرنا عدم الكالم عن شؤون مدرسي الجنسيالمساء حين خرجنا لنلعب وجدنا عارنا كبيرا جدا )أكبر من المستنقعات الخضراء( بين األوالد الذين تقمصهم أهلهم ألن أمنا ليست ليبية، أي مثل المقررات األجنبية

يجب التخلص منها على الفور!

من سيرة البركة والبيانو

Page 230: Beirut39 Arabic Anthology

230

9

طلع ظلها أولا وكان أسود كأي ظل ألي شيء، عرفناها بما فيها من طول فاض على الجدار وانثنى المتبقي منه إلى السقف، حتى مأل السقيفة التي تتقدم دورات المياه ل. كنا نغسل المدرسية، كنت وأخي نهرب من حصة الجغرافيا ونصطنع الحاجة للتبوأيدينا بعد دخولنا المرحاض، فإذ بظلها يمأل سقيفة المراحيض، وينثني للسقف، ثم يعم الظالم في دورات المياه كلها. ناديت أخي وناداني: أين أنت، أنا هنا، لكني ال أراك، ماذا حدث؟ انقطع الضوء، ال، إنه شيء يشبه الكسوف أو الخسوف، ربما لعنة درس الجغرافيا الذي تجاوزناه، كال، درس اليوم عن تقسيم المناخ في قارة إفريقيا وليس عن ظاهرتي الكسوف والخسوف، دعك من هذا ومد يدك باتجاهي ألجدك.

مد يدك لي يا أخي.انحسر الظالم تدريجيا وتقلص ظل القادمة التي جلبته بطولها فظهرت علينا ة مصيونة هزيلة طويلة لكن ويا للمفاجأة بشرتها كانت ضفدعية، وكأن الحاجضفدعا من ضفادع المستنقعات انفجر بها، كال بل ضفادع، إذ ال يكفي لطالء الحاجة مصيونة ضفدع أو ضفدعان. خفنا منها فصرخنا وعدونا إلى صفنا. كنت وجدت أخي منكمشا بقرب المرحاض لما انقشع الظالم، وكان لون بشرته ضفدعيا، لذا عدوت مثله لما انطلق كرصاصة نحو فصلنا ودفع الباب وعانق مدرس الجغرافيا مرتجفا. كان المدرس والطالب متضفدعي الوجوه واأليدي، جاءت وراءنا الحاجة بخطوات ثابتة وكانت صامتة، رغم أن تنفسها طبيعي وصحتها جيدة وطولها بخير ة سروال )سالم حمد( تتأرجح في جيدها. أطلت داخل الفصل فعال الصراخ وتكوبدأت الهروب الجماعي من النوافذ والباب الوحيد الذي قفله ظلها. اتجهت لمدرس الجغرافيا فخنقته، حسنا فعلت ألن أحدا لم يحبه في المدرسة كلها، على عكس معلم ة الجميع له، وقف فوق ظل الحاجة ح من عمله رغم محب اللغة اإلنكليزية الذي سربالباب بعض التالميذ الشجعان بوجوههم الضفدعية، وشاهدوا عملية خنق مدرس وا هاربين قبل أن يروا عيني ة، ثم فر الجغرافيا، فقالوا لها: زيديه ورأس أمك ياحاجت عملية هروبهم المستنقعات المدرس تجحظ كعيني ضفدع، يوشك أن ينفجر، صدالخارجية فلم يجدوا عنه مصرفا، علقت بهم الضفادع والثعابين والسرطانات، فغادر ت عنه تلك الكواكب صراخهم المجال الشمسي لكوكبنا إلى كواكب مجهولة ثم ارتد

نجوى بنشتوان

Page 231: Beirut39 Arabic Anthology

231

هاب المبين في أسماعنا ولم يكن يا للغرابة ضفدعيا! فنزل كالشة سروال )سالم حمد( على السبورة علقت الحاجة مصيونة مدرس الجغرافيا بتكت آثار قدميها الخضراء ثم اختفت كما ظهرت، ولم تعثر عليها الشرطة قط وقد تقص

الضفدعية في كل مكان. كلمني أخي: هيه يا أنت لماذا تنادي على مصيونة وهي في بيتها أال يكفيك عيشة السودانية؟ فصحوت حينها من نومي وتأكدت من أنني قلت له: »ال تقل كيناوية فكنا من مشاكل نا. الغريب أن لون الجغرافيا اللي تنحل بالسندويشات.« ثم نظرت في وجهه متبي

بشرته لم يكن متضفدعا كما رأيته منذ قليل!

10

أحد إخوتي من كبار زعماء حرق الكتب، قام بجهد كبير في التخلص منها حتى ض التالميذ على تقليب الكتب آخرها. كان يقلب النيران بعصا مكنسة، ويحروهي تحترق، ليتأكد من وصول النار إليها كلها، لم يبق هذا األخ على حرف مكتوب بلغة إنكليزية أو فرنسية، إال شارك مشاركة نظيفة في تنظيف الحياة التعليمية منهما. تصور أنه يحرق األعداء حقا ولم يتنازل عن حمل العصا منذ ذلك اليوم، وقد تطورت الرغبة في الحرق لحرق اآلالت الموسيقية الغربية، فأخرج أخي وأصدقاؤه كل اآلالت في المدرسة وحرقوها في الفناء الكبير، بعد أن جلبوا برميلا من البنزين المحلي ساعد على إضرام النار فيها. لم يصدر عن اآلالت أي صوت، احترقت بهدوء، وسرعان ما تفحمت، وكأن إرادة فيها كانت تستجيب حبا وكرامة للنار، تفضيلا لـ»أنا ال أعزف فأنا غير موجود«، وخالصا من المشاركة في صناعة جوقة من

هم أحد. عازفين لن يحبلم يعد منها عدا هياكل متآكلة رميت عند آخر السور، أما البيانو فنظرا لثقل ه ر أخي وجنده في جر وزنه وكبر حجمه فقد أخذ وقتا وجهدا لكي يحترق. فكإلى المحرقة بواسطة عاملين نيجيريين، واقترح حارس المدرسة التباوي سحقه أولا بماء النار في مكانه من غرفة الموسيقى، ثم استعمال المناشير في تقطيعه

وتجهيزه للحرق الخارجي.

من سيرة البركة والبيانو

Page 232: Beirut39 Arabic Anthology

232

لم أر بعد ذلك اليوم بيانو مسلوخ الوجه، مبتور األرجل، مقطوع األصابع، عديم الصوت، كالبيانو الذي رأيته في مدرسة طارق بن زياد، وكانت تعزف عليه معلمة لبنانية بالغة الجمال والرقة، اختفت تلك المعلمة من المدرسة قبل اختفاء البيانو ون في ظروف معلومة. لقد كان رأيا تباويا سديدا وافق حملة العصي عليه وهم يهزهم في النار الناشبة به. تقاطعت رائحة البيانو في الهواء مع بخور تبخره فتيات عصيالحي كل اثنين وخميس استجالبا ألرواح الخاطبين، فأفسدت رائحة االحتراق عملية الجلب التي لم ينجح المالئكة الموكلين بها في تخطي ألسنة اللهب، كما أن أرواح اب التي تهفو لفتيات حينا صادفت في األثير روح البيانو وهي تخرج فولت من الخطالهول جزعا. إن آخر صوت صدر عن البيانو، اختلطت فيه كل أحرف الهجاء، وهو

ال ريب صوت من الغريب أن يصدر عن بيانو غربي الصنعة!!في المساء اشتعلت معركة منزلية في بيتنا بين أخي صاحب العصا وأخي الموصوف هت بعض معالم وجهه، ولما بالحساسية األنثوية، كسرت فيها أسنان األخير وشوة صاحب العصا قال: أفتوني فيه، فقلنا سلمه لألمن الداخلي ألنه خائن مالت كفات واألمن الداخلي متخصص في سبر كنه األشياء الداخلية، بالتالي هو األعلم بنيام المظلم تلتقطه شقيقنا الداخلية، فقال قائل منا: ال تسلموه وألقوه في غيابة الحمالعفاريت، فالتقطته فسمعناه يبكي بدموع من دم، راطنا لنفسه في مرآة الحمام

برطانة أجنبية، لم نستطع كتمان ضحكنا إثر سماعها.بيد أن ما يحض على المضي في الضحك بعد مرور سنوات على النزال المنزلي الذي جعل أحد إخوتي صاحب نفوذ واآلخر مجرد عفريت حمامات، أن الحمام المظلم

لم تكن به مرآة يرى فيها الباكي دموعه والضاحك ضحكته!

مقاطع من قصة قصيرة نشرت على موقع www.kikah.com

نجوى بنشتوان

Page 233: Beirut39 Arabic Anthology

233

نجوان درويش

قصائد

ريشنا

لت إلى فندق أقفاص دجاج ال يعرف أحد كيف تحووكيف وجدت نفسي هناك أصارع أقفاصا وأبحث عن الذين أدخلهم المطار إلى

شدقه الواسع وابتلعهم.ة، وغرف أو لعله ابتلعني أنا، ألصارع أقفاص دجاج على هيئة سقوف، وأسر

أقفاص مهجورة، نعثر في بعضها على ريش آدمي، وبقايا مالبسلت إلى معسكرات عمل، وقطارات ال تتوقف... أقفاص دجاج ال يعرف أحد كيف تحو

لت إلى مستوطنات. ال يعرف أحد كيف تحو.......

أقفاص دجاج لم نجد فيها أثرا للدجاج...سوى ريشنا!

Page 234: Beirut39 Arabic Anthology

234

كول هاموسيكا

1

ون البيانو »أفسنتير« أعداؤنا يسم

منذ متى وهذه األفسنتيرات تضرب في يقظة الميت النائم؟منذ متى تواصل شغلها من إذاعة »كول هاموسيكا«- بينما طائرتهم تقصف

»الضاحية الجنوبية« وتغير م جباليا؟ على بيت من ثالث غرف في مخي

األفسنتيرات...ة األخرى التي ظلت تطارده إلى ظلمات الضف

األفسنتيرات...التي تضرب اآلن بالوتيرة الجليدية نفسها

األفسنتيراتاألفسنتيرات

.......

.......سيواصل مناداتها بلغة األعداء

حتى تكف اآللة الموسيقية عن التواطؤ مع الجريمة!

2

»البيانو حفيد آللة القانون«هذه حقيقة تاريخية

نجوان درويش

Page 235: Beirut39 Arabic Anthology

235

قصائد

ال شأن لها بهذه »األفسنتيرات«ق وجهي اآلن بشفرات الحالقة... التي تمز

هم قصص الدم والسالالت المحتلون ال تهمونه »أفسنتير«. د لقيط يسم البيانو بالنسبة إليهم مجر

3

... أخال أحياناأن جنودا قتلوا عازفي البيانو

وأن جنراالت يعزفون اآلن بدلا منهم داخل األسطوانات.

صورة جانبية للبحر

ل التفكير بهذا النسيم القادم من الجبل تفضبالحمائم التي تصفق أجنحتها قبالة البحر

باألشجار التي تظلل المماشي بهذه العمائر السكنية التي ينقصها الكثير من الذوق ل النظر لهذا الغراب وهو يقفز عن عمود الضوء تفض

لا! - ل أن يكون متسو –كم يشبه راهبا طرد من الدير وفضل النظر إلى قدمك في مهب النسيم تفض

تقول: هذا الصباح سأترك قلبي نائما يحلم أنه في حيفا وأن المراكب تروح وتجيء من صور وطرطوس ونجمة الهالل الخصيب

ة في البحر يدعونني بلهجة أهل اإلسكندرية وأن مراكبيفأضحك وال أصدق

Page 236: Beirut39 Arabic Anthology

236

وأقول: »دعوات مراكبية في بحر...«

ل التفكير بهذا النسيم القادم من ثالثينات القرن الماضي تفضيز مصر بقامة امرأة من أبنوس السودان وجم

تقف لتغني في يافا فيهدون إليها منديلا من الحرير ويقولون لها: »أنت كوكب الشرق.«

ل التفكير بهذا النسيم القادم من الجبل تفضبالحمائم التي تصفق أجنحتها قبالة البحر...

د نساء الل

نساء طويالت من الخشب اليابس ال تجد الذاكرة لهن تشبيها سوى الرمح

كن رماحا تشرئب من الحافالتحين يجئن لزيارة القدس.

كان هذا قبل قدوم مستوطنات قصيرات ال تجد الذاكرة لهن تشبيها... سوى رصاص »الدمدم«.

ج مهر

اليوم هو السبت، اليوم كان السبتصار األحد وغدا يصير اإلثنين وبعد غد يصير الثالثاء

وبعد الثالثاء األربعاء دائما تسبق الخميس الذي يسبق الجمعة...

ج األسبوع مهر

نجوان درويش

Page 237: Beirut39 Arabic Anthology

237

يلعببكرة واحدة.

Reserved

حاولت مرة أن أجلسعلى واحد من مقاعد األمل الشاغرة

reserved لكن كلمةكانت تقعي هناك كالضبع،لم أجلس، ولم يجلس أحد.

مقاعد األمل دائما محجوزة!

قصائد غير منشورة في كتاب.

قصائد

Page 238: Beirut39 Arabic Anthology

238

هالة كوثراني

ثالث قصص قصيرة

33 عاما

أنفخ اآلن على أربعين عاما من الفشل. أقول ما أقوله ثم أغير رأيي: هي أربعون عاما من اإليمان األبله بأنني أهرب، أنجو من عتمة جهل هؤالء الذين وجدت نفسي بينهم. ال أقصد أمي طبعا بل أقصد أقربائي الذين اضطررت للعيش بينهم بعد وفاة والدي. وأقصد أصدقائي أيضا. وعيت كل لحظة ضرورة أن أغير مصيري. لم أكن محتاجا ر مستوى حياتنا االجتماعية إلى أي شيء. حصلت دوما على كل ما أردته. لم يتغيبعد غياب والدي المفاجئ. لكنني ابن نفسي. خنقتني أمي بحنانها، إال أنها لم تقل لي ب دوما إنني أخطأت في أمر من األمور، أو إنني لم أرتكب خطأ. علمت نفسي. وأتعجكيف أنني نجوت من الضياع في الدراسة، وفي دوامة معارك الشوارع والمناطق التي

انجرف فيها أصدقائي وجيراني وزمالئي، خالل أعوام الحرب األهلية في لبنان.أنقذني الفن. أنقذتني رغبتي في التعامل مع األلوان وفي أن أصنع شيئا ما، أن أرسم ، وأن أستمتع بهدوء مكتبة عامة، حيث أعرف أو أنحت، أن أستعمل أصابعي ويديالوجوه وال أعرف أصواتها. هربت من العائلة، من مشكالت إرث أبي واألراضي التي أراد أعمامي انتزاعها من األرملة أمي، ومني أنا، وأخواتي الثالث. هربت أنا الصبي

الوحيد بين أربع نساء، هربت إلى أميركا. تعتبر أختي الكبرى، التي تزوجت قبل أن تصبح في العشرين، البلد اإلفريقي الذي انتقلت للعيش فيه مع زوجها، بلدها. تتصل بأمي مرة في األسبوع فقط. كانت أمي تنتظر يوم السبت، لسماع صوتها، وتقول إنها تحس بالذنب تجاه ابنتها الكبرى التي ها. ال لت إفريقيا على العيش مع أم رمت نفسها بين ذراعي العريس ما إن دق بابها، وفضأعرف أختي الكبرى نجالء جيدا. كنت صغيرا يوم االحتفال بزفافها في منزلنا. كانت

د لعبة مؤقتة، مباراة ظنناها تنتهي قريبا. الحرب في بدايتها. كانت ما زالت مجر

Page 239: Beirut39 Arabic Anthology

239

ثالث قصص قصيرة

اس مثل النساء. وهل يجب أن يكون الرجل قطعة من يتهمونني بأنني حسالخشب؟ هل الرجال بال إحساس؟ وقد أكلت مع هؤالء الذين يتهمونني باألنوثة )وهي تهمة في بلدي( »سندويشات« النخاع واأللسنة من دكان »أبو علي«، وبرعت في مباريات كرة القدم بين األحياء في منطقتنا. إال أنني بكيت يوم بكت »سوسو« ابنة الجيران ألن انفجارا هز الشارع قبل عودة أمها إلى البيت. »سوسو اصمتي«، قلت لها.»تشاهدين أفالم أكشن ورعب كثيرة. ال تتخيلي الدم. أغمضي عينيك وتخيلي ألوانا أخرى: األزرق جميل، األزرق أجمل األلوان. هادئ وعميق مثل البحر وغني باألسرار.« »كفى فلسفة«، قال لي جاد صديقي... فلنكمل »الماتش«. أربعون عاما من المشي في الشوارع. 33 عاما كي أكون أكثر دقة. مشيت في بيروت ونيويورك وفي جنوب لبنان، مشيت بين القبور في قريتي، مشيت وراء صديقة ست لفكرة أنني أعيش من خالل المشي، طفولتي التي يصفونها اآلن بـ»الفالتة«. تحمأعيش بقدمي لكنني تحمست لها بهدوء. وأنا ال أخرج عن هدوئي، وال يخرج هدوئي مني. ال أغضب. أحزن فحسب. وال عالقة لهدوئي بأنني تربيت بين نساء، فأمي تجن

ها. من الغضب. يفقدها الغضب القدرة على التفكير والحركة، يشلهكذا بهدوء فهمت فشلي في الرسم، واقتنعت بأنني لن أبرع فيه. فغرقت في التاريخ، تاريخ الفن وتاريخ القمع في منطقتي، تلك المنطقة من العالم حيث الشمس

تشع ظالما.

لبنان سويسرا؟ بيروت باريس؟

بطاقتي في جيبي مع علبة السجائر، بطاقتي واسمي العربي في جيبي حيث تختبئ صورتي وعيناي وشفتاي وجبيني وذاكرتي. أمشي وتمشي في الرغبة في لقائك. لم يتأخر الوقت. ما زلت قادرا على استعادتك إذا أردتني. أعود في طائرة الغد إلى باريس ومنها إلى نيويورك. ال شيء مستحيل. »الثالثاء 17 فبراير« تاريخ مطبوع على بطاقة أخرى في جيبي. أتذكرين ذلك اليوم؟ أمضيناه في المتحف. أشتاق إلى أن أتنقل في المدينة تحت المدينة، أركض بين باب سحري وآخر، في المترو أنتظر المفاجآت

وأسعد بها. أركض كي ال يتأخر الوقت. أخيرا ما عدت أخاف من البرد.تركت لك أن تجربي العيش من دوني، تركت لك زمنا تنسين خالله أنك تواعدت

Page 240: Beirut39 Arabic Anthology

240

مع رجل قبلي على أن تمضيا الحياة معا، وأنجبت منه صبيا قبلت بأن يناديني »بابا«. ال بأس، ال يمكن أن يكون قلبي أطيب، وال أقبل أن تسرقي مني كالمي على تعلقي

بالوحدة وتقديري لها، لتقولي إنك أنت أيضا تريدين العيش وحدك.عدت من بلدك إلى بلدي، واسمي اليوم هو االسم نفسه الذي حملته البارحة. ما زلت أحب االستماع ألسمهان وموسيقى أستور بيازوال، وأخاف من أفالم الرعب. أنا هنا وهناك في الوقت نفسه. طالما كنت هنا وهناك معا رغم ادعائي أنني محوت الحنين إلى بيروت وإلى قريتي في جنوب لبنان. أعد رسائلك اإللكترونية، وأحصي أمكنتي التي اختفت في بيروت بعدما تركتها خالل عشرين عاما. وأقول: إن اختفاءها عقاب لذاكرتي ولقسوتي على نفسي، عبر الجمع بين إحساس بأنني ناقص وأنني

أكتمل بك، وخوف عجيب منك على وحدتي.أنا لست أنا. أنا اآلن شخص آخر، أنا بطل رواية عشتها. ولدت في لبنان وكبرت فيه وعدت إليه رجلا في منتصف العمر، وربما األربعون عاما التي عشتها منذ لحظة والدتي في 22 آذار 1968 هي عمري كله، من يدري؟ ما زلت ال أفهم لبنان. ال أفهم العالقات بين األحزاب فيه وبين السياسيين، وال أفهم المقاالت في الصحف. ال أفهم من يحب من ومن يكره من. ال أفهم لم بدأت حرب وانتهت أخرى، ولم يحمل الشبان في الشوارع سكاكين في جيوبهم، أو لم سموا لبنان سويسرا الشرق، وبيروت باريس

الشرق األوسط. أضحك لفكرة أن بيروت تشبه باريس.حين بدأ هوسي بكتب التاريخ، محاولا فهم تاريخ المنطقة الحديث، كنت مسكونا بشغف بأخبار أمي عن بيروت الخمسينيات والستينيات، حين كانت وجوه من نة بألوان مختلفة تمشي في شارع الحمرا، حيث تسمع لغات بلدان مختلفة ملوالعالم كله. كان كل شيء مسموحا به في بيروت »كل فكرة، كل هوية« كما قرأت في خاتمة كتاب رائع للمفكر إدوارد سعيد العربي النيويوركي مثلي، والذي يحمل

عنوان قصيدة لمحمود درويش: »بعد السماء األخيرة.«وعيت سريعا أن حنيني إلى ماض لم أعشه، وإلى زمن دارت أحداثه قبل والدتي، غبي. وأن الكالم كله عن سويسرا الشرق لم يكن سوى سراب. حين زرت سويسرا أدركت كم ظلمناها بتشبيهها بلبنان، حيث نعيش اآلن مهددين بالحرب وبأن ننقض

على بعضنا بعضا وبأن ينقلب استقرارنا الهش إلى جحيم. أفتح عيني ألتحدى ليلا طويلا، مصحوبا بأنغام راديو العسكري حارس جاري: الزعيم

هالة كوثراني

Page 241: Beirut39 Arabic Anthology

241

السياسي، أحد تماثيل حروبنا الخالدة. لو كنت في نيويورك النتظرت أول الصباح ألقول لك: أريد أن نعيش معا. لكن جمال الصباح وعالقتي الرائعة به ينسيانني حاجتي إليك. وبين الصحف وكلماتها والخطوط تحت الجمل في الكتب، أعترف

بأنني أنساك.

تهمة الصمت

كل ما فعلته هو أنني لم أفعل شيئا. أيقظها برودي من غيابها. نامت ثالثين ساعة أو أكثر، ولم أحاول إيقاظها. دخلت الغرفة، من غير المعقول أال أكون قد دخلتها. وتأكدت من أنها تتنفس، لكنني لم أحاول إيقاظها. لم أفعل شيئا، لم أخف ذلك الخوف الذي يوجع القلب وما جهزت نفسي للسيناريو األسود. تركتها نائمة. وقد كانت نائمة قبل نومها في كهف أحداث حياتها القديمة التي مر عليها ستون عاما أو أكثر. لم أفعل شيئا، وأفادها أنني ما فعلت شيئا، ألنها بعدما صحت من نومها الطويل، عادت إلى الحاضر. نادتني، حاولت أال أسمع النداء، لكنني اشتقت إليها فجأة. أنا طفلها الصغير، آخر العنقود الذي عاد إلى حياته القديمة بعدما ثار عليها. عدت إليها، إلى أمي. ال أستطيع أن أهرب من تأثيرها في. أحارب ما شربته من طفولتي معها والذي عبر إصراري على محاربته، يتحكم بي. أحارب ما تبقى في من فضولها قبل أن تفقد القدرة على التشبث به. إال أنها تتمسك بفضولها مرات كثيرة خالل نوبات الغياب التي تصيبها. وربما بسبب النسيان تتراكم عالمات االستفهام في عقلها حتى ال تستطيع

السيطرة عليها، فتصمت أو تنام نوما طويلا.ال أفهم سبب عودتي من حياة هربت إليها. اشتقت إلى بيت أهلي القديم في الجنوب، إلى الشمس هناك، إلى قهوة لم أعثر على رائحتها خالل عشرين عاما من الهجرة. هربت إلى أميركا من الحرب، وكي أكمل دراستي. كانت الجامعة األميركية في بيروت قد دخلت لعبة الحرب رغما عنها، أحزاب و»قبضايات« ومؤامرات غزت فسحاتها وبناياتها، وحاصرت أشجارها والورود المطلة على أجمل بحر في العالم. وكنت مؤمنا، قبل عامين من سفري وبعدما أصبحت رسميا من تالميذ الجامعة األميركية، بأنني أحقق أجمل أحالمي. لكن الحرب لم تهمني، ولم أحاول معرفة ما

ثالث قصص قصيرة

Page 242: Beirut39 Arabic Anthology

242

يجري، لم يسكني أي فضول من هذا النوع، لم يغرني فضول سياسي بأن أحاول اتخاذ ط مع أي من األطراف. حملت موقف ما. وقد غادرت البلد قبل أن أضطر إلى التوررسومي وهربت. وعدت بعد عشرين عاما ألرسم الشمس من شرفة بيت أهلي القديم في القرية. كانت أمي قد نسيت البيت وأضاعت مفتاحه، وربما نسيتني. غنيت لها قبل أن أدخل غرفتها يوم رجعت من السفر. قبلتني على عيني وجبيني، قبلت يديها كما أحبت أن أفعل صباح العيد. لم تكن نوبات الغياب قد بدأت تصيبها. كانت في تلك المرحلة تخبرنا قصصا اقترحت أن نسجلها على أشرطة، كي ال تضيع. أستطيع أن أرسم هذه القصص، ولو كنت كاتبا لكتبتها. لكنني ال أجيد التعامل مع الكلمات، وغالبا ما أتهم بالصمت. الصمت تهمة في مجالسنا العائلية، التساع دالالته من السخرية إلى التعالي والقرف والملل والتآمر والهروب... ثم اضطرت أمي إلى الصمت. أجمل ما في مرضها أنها غير مضطرة إلى شرح أسباب عزوفي عن الزواج، واإلجابة عن أسئلة تدور حول اقترابي من الخمسين ووحدتي وشيخوختي

والصمت »المرعب«. ارتاحت أختي رندة حين قلت لها إنني سأحمل أمي إلى بيتنا في القرية. ارتاحت من أمي، لكنها ادعت القلق أو ربما أقلقتها فعلا قلة خبرتي في التعامل مع أمي بعد ارة، كي تعود إليه مرضها، ووجودنا في البيت المنسي الذي يحتاج إلى جهود جبفته ورتبته، كي نستطيع لتها مرسما. نظ الحياة. أهديت إلى نفسي غرفة في البيت، حوام أمي وثيابها وطعامها. أحسست العيش فيه. واتفقت مع أم عبداهلل على أن تهتم بحم

لثوان بالرضا وربما بالسعادة. كان ذلك قبل أن تدق الكوابيس أبواب نومي.

ثالث قصص قصيرة غير منشورة في كتاب.

هالة كوثراني

Page 243: Beirut39 Arabic Anthology

243

هيام يارد

قصة قصيرة

بطن ليلى

حين اعتقدت ليلى أنها عرفت الحب، كان األوان قد فات. كانت قد التقت »ويل« بعد أن قرأت لمارغريت يورسينار: »الحب عقوبة. لقد عوقبنا ألننا لم نستطع البقاء وحدنا.« حدث ذلك في بيروت، في شارع يعج بالحركة، في منطقة الجميزة، شارع غورو. لطالما رفضت المشاركة في رقصة هز البطن، التي تقوم بها هذه المدينة المشغولة بتقطيع ألياف ألمها، وتأجيل تفعيل ذاكرتها. وجعلها هذا الرفض، مصحوبا بتقنية الموسيقى الصاخبة، حزينة. كانت تتأثر دائما لرؤية الناس يتشاجرون في

النوادي الليلية حول دفع الحساب، صراع السلطة حول ثمن الليمونادة.ل على أخرجت نفسها من الرقص ومن الحرب في الوقت نفسه. كانت تفضة أخرى. وكانت ة، واألبيض مر ط، الرمادي مر ها ذي الوبر المخط االثنين صحبة قطر في جمال األشياء الذي ال يحتمل. وتقول في نفسها إنه ال يقتل كلما أطعمته تفك... كانت ليلى تنتظر شيئا أكثر جوهرية من الحياة، ة ه يترك فقط خدوشا إضافي لكنلكن شيئا لم يتغلغل عبر شقوق كيانها. حدث أن أرغمتها عزلتها على االنخراط ة: إيليمنتس، جيم، سونترال، مينت. ب 018. كانت كل هذه المالهي في نزهات ليليالليلية تتنافس في التسميات، وفي اختراع األعداد واألرقام والديكور الذي يكون في اقا. كانت ليلى تخرج محشورة في سروال جينز، د األلوان بر معظم األحيان متعديقولبها بما يكفي لتنال النجاح المنتظر، والعري أيضا. كانت تملك ثيابا لكل مناسبة: الصيد، واإلغواء. وكانت من حين آلخر تطلق لنفسها العنان في مغامرة مع شخص ية. ولدى عودتها إلى أجنبي. ذلك أفضل من أوالد البلد، بسبب القيل والقال والسرف ها في انتظارها. حين لحظها ويل، رأى من الحكمة أن يتصر منزلها كانت تجد قطبهدوء. لم يتحدث معها على الفور عن رغبته. تكلم معها عن روحه... هذا اللهب

Page 244: Beirut39 Arabic Anthology

244

الكامن في عروقه، ربما في مثانته. وجدته مفعما بالحكمة، كوسيط روحي. كثيرا رة. واستشارت طبيبا اختصاصيا نصحها بعدم تغيير ة متكر ضت اللتهابات بولي ما تعر

شركائها كثيرا.كان التغيير هو األسلوب الوحيد الذي تتقنه، كي تتجنب التعلق بأي شخص. وكانت ا أقل في القلب. وكان عليها دوما تقول في نفسها: إن رجلا إضافيا في سريرها يعني ألمن أن تطرد من نفسها العزلة المالزمة لها في هذا العالم. تقول لصديقاتها: » أنا أدخالحياة، أستنشقها، لست محتاجة إلى المورفين. الحياة تكفيني«، وكانت صراحتها تجذب إليها عددا كبيرا من الرجال. تتناولهم من دون فرز، وتموت كل مرة موتا يل الحظ األمر د أنه موتي األخير هذه المرة.« ال بد أن و مختلفا، وتقسم: »من المؤكث إليها بلغة الروح، تحدث معها عن اإلنسان. ألنه تحاشى النظر إلى وركيها. تحدون المضاجعة: ابتهجت من عناية قدر كان قد جعلها فيما مضى تلتقي رجالا يحبرجالا عرجا، رجالا خائفين. لم تلتق أبدا توأم روحها. في هذا المساء، كان ويل

حريصا على أال يتعجل أي شيء، فاكتفى بطبع قبلة على وجنتها وهو يودعها.ة، والقبلة التي تبادالها رسخت في ذهن ليلى كل كلمات وحركات هذه األمسير في ويل، مستلقية على ظهرها، ثم انقلبت على الرصيف. وجافاها النوم. كانت تفكلت جسمها أعضاء صاخبة. كانت قد عاشت، حتى اآلن، تراكم على بطنها. قبلته حواللحظات فوق بعضها، مع الرغبة والحب والحركة المستهلكة قبل اإلخصاب. هذا المساء، انسحبت من معانقته كي ال تستبق الزمن. بدا لها أنها تكتشف شيئا نادرا في ظ. لم تعد متأكدة من أنها تريد تأجيل ظه. وفور ابتعاد ويل، ندمت على ذلك التحف تحفرج، وأن تطلب منه البقاء قريبا الرغبة. كان بإمكانها اإلمساك به وهي واقفة على الديها الترقب. حين هاتفها، في من جسدها. لم تفعل شيئا من ذلك ونامت وحيدة، يعزف، وقالت: اليوم التالي، أبدى أسفه ألنه لم يبق إلى جوارها. وافقت على كالمه بتله. كانت تشعر باألرض عبر قدميها، وبمهبلها »لدي نفس الشعور.« كان قلبها يدقعبر رأسها، وبدماغها عبر دمها. لم يكن أي عضو في مكانه. حين التقيا من جديد . اخترقها ويل. وأغمضت عينيها، فاتحة جسدها وقلبها، وقالت في مارسا الحب

نفسها: هذا ما يجب أن يكونه جسدان، بال عزلة.كانت ليلى تحب كيال تتالشى.

أشعل ويل سيجارة. المس جسده ظهر ليلى المستلقية. كان دخان السيجارة

هيام يارد

Page 245: Beirut39 Arabic Anthology

245

يغطي العري. وأطلق نفسا قبل أن يسألها: »أهناك شخص في حياتك؟« لم تفهم هذا ك ردفيها كما فعلت االنتقال بعد االنتصاب. كان بودها أن تقول إنها ال تستطيع أن تحرلو كان هناك شخص آخر. كما هو الحال في أغنية باربارا، مثلما نموت من الحب.

استدارت نحوه، وقالت:»إنهم عديدون، ولكن ال أحد عندي. وأنت، هل عندك امرأة؟«

- »نعم.«كها ة محر رت ليلى في سيارة ستروين قو اص. فك انطلق الجواب مثل رصاصة قنان يشعران بالضجر. من المؤكد أن زوجته كذلك. حصانان يملكها زوجان مسنستروين مترنحة اضطر ويل إلى أال يغادرها كيال يجرحها. تظاهرت بعدم االكتراث كالنساء العابرات اللواتي ال ندين لهن بشيء، وبدا سؤال ويل بعد الجماع اغتصابا. رت بأنه كان بإمكانه كشف أوراقه قبل ممارسة الجنس، وشعرت بالخيبة ألن فكالحب والجنس أصبحا، هكذا، مباراة شطرنج. وسألته: »هل أنتما معا منذ فترة ين، مقتنعة بأنه بقي طويلة؟« متشبثة بفكرة زوال الرغبة بين الزوجين المسنرت ليلى في أنه تجاوز سن األربعين، وال بد أنه مع زوجته حتما بحكم االعتياد. فكد توقعاتها. ف إليها في بداية مشواره. حب شباب، خطأ ربما. وانتظرت أن يؤك تعرخمس عشرة سنة. سيقول لها خمس عشرة سنة. ربما، اثنتا عشرة سنة. عشر

ت سنة.« سنوات، على أكثر تقدير. وأتاها صوت ويل: »سنة واحدة. مرمرت أربع وعشرون ساعة منذ أن أقنعها بخطابه األفالطوني ليصل إلى الجسد. رت في أنه ربما ال يحب هذه المرأة التي التقاها قبل سنة. لم تلق عليه السؤال. فك

ها.« لكن ويل مع ذلك هز رأسه وهو يقول: »نعم، أحبا يحتمل. كانت األسئلة تتدافع في رأسها. مرور هذا الرجل على جسدها أكثر مموكان عليها أن تغادر على الفور. إنها تلومه على أنه استخدم الروح سبيلا للمضاجعة، رت، وهي تلبس حذاءها، في أن الروح ثم سحب كل شيء فور انتهاء الجنس. فكة جيدة، مضاجعة جيدة. كانت خبيرة بالجنس عند اللزوم. المت نفسها ألنها حجتين ومسحورتين لهما هدف أخطأت طريقها من جديد. كانت قد آمنت بروحين حرها عثرت على جسد منهك، وكذبة. قال كمن يقرأ أفكارها: »المطلق أكثر واحد. لكنقذارة مما تتصورين. ليس الواقع هو من يخونك، بل أنت من يطلب منه أكثر مما

يستطيع أن يعطيه.«

بطن ليلى

Page 246: Beirut39 Arabic Anthology

246

هيام يارد

في انتظار ذلك كان قلبها هو ما تريد أن تمنحه في كل مكان، وبأي طريقة كانت، ه. سئمت ليلى من كونها شوكة رغبة متروكة في صحن، وألي كان، شريطة أن يحبا للنزوات. يقال كما أنها سئمت التقاء رجال متلهفين على جعل ردفيها مرحاضا عامرت عن النساء سهالت المنال إن القطارات فقط هي التي لم تمر على أجسادهن. فكليلى في ألم سكة الحديد، وفي األجساد التي سحقت لكثرة العبور فوقها. ومهما كذبت لم يكن بإمكانها إهمال نظرتها نفسها. كان وهنها جيفة ما كانت لتخرج منها سالمة. كان بودها أن تشطب الماضي، وتهضم بقايا عالقاتها. حين قرأت الروائي

مارسيل بروست قالت في نفسها: ربما كان الزمن هكذا: حرمانا ضائعا.كانت كلما دخلت بيتها، في وحدة أشد من الموت، وحرمان يفوق العطش، تشعر، ها. كانت كلما ما إن تجتاز عتبة بيتها، باللهيب داخلها كما هو، على األريكة مع قطأدارت المفتاح في القفل، يراها هذا الجزء منها ويقفز إلى وجهها. ويغير القط وضعيته، فتستعيد ليلى وجهها. لم يحدث شيء في اليوم الذي أعقب لقاء ويل. لم يظهر أي أثر للهيب. احتل الفراغ مكانه، والغياب في كل مكان. بحثت تحت السرير، خلف الباب، ر. نزلت إلى الشارع، عادت على تحت الحصيرة. بكل بساطة، اختفى اللهيب. تبخعقبيها، سارت في الطريق التي سلكتها... عبثا. كان عليها أن تفتش عنه في جسد ة، مستفسرة عن شيء ثت إلى المار ه لم يعد يرد على مكالماتها. تحد ويل، ولكنيشبه االهتزاز، أقسم الجميع أنهم لم يروا شيئا. لم يروا أي لهيب في أي مكان. مرت ليال طويلة، وكانت تنام في غياب اللهيب. ذات صباح أحست بانتفاخ في جسمها. اطي ذات مساء شربت فيه الكثير رت ثقبا في الواقي المط لقد انتفخ بطنها، وتذكمن النبيذ. أسرعت إلى المطبخ وهي تخلع مالبسها، تغادر جلدها. توقفت أمام الة، وأدخلت فيها كل ما أرادت أن يهترئ بالغسل. كانت ستلقي بجسمها أيضا الغسلت اآللة على برنامج قوي مع مقدارين من مسحوق التنظيف. لو استطاعت. وشغة، تمنت لو أنها بأكبر قدرة ممكنة على الحك. وظلت تنتظر. حين فتحت الكوتجد فيها فقدانا للذاكرة، ذاكرة غمست في ماء ساخن، ذاكرة مهترئة، جرفها الماء الجاري. كان قلبها سليما موضوعا على الغسيل األبيض، مثل زبد على سطح األشياء. زت من رائحة الغسيل النظيف. جمعت كل شيء وهي تتحرر من أوهامها، وتقزطوت الغسيل ووضعته في مكانه، وخرجت من جديد لتواجه الشارع: حاملا. هذا ة. كانت تشعر، أكثر اص في جث ما كانت عليه، امرأة حامل. كما تفعل رصاصة قن

Page 247: Beirut39 Arabic Anthology

247

فأكثر، بصعوبة في المشي. على كل حال، لم تكن هي من يسير،كانت الحياة هي التي تمشي في داخلها. كانت خطواتها تحملها. وجدت ما يكفي ة كي تجرجر نفسها إلى عيادة طبيب يمارس اإلجهاض. كان جازما: »سيدتي، من القو

ال أستطيع أن أفعل أي شيء من أجلك. اإلجهاض مستحيل. أنت حبلى بالفراغ.«

قصة غير منشورة.ترجمها عن الفرنسية: محمد المزديويمراجعة الترجمة: د. سحر سعيد

بطن ليلى

Page 248: Beirut39 Arabic Anthology

248

وجدي األهدل

قصة قصيرة

جريمة في شارع المطاعم

إذا كانت صنعاء هي عاصمة البالد، فإن شارع المطاعم يمثل عاصمة صغرى بداخل المدينة المترامية األطراف. أي شخص يقول إنه زار مدينة صنعاء ولم يعرف شارع

المطاعم، فاعلم أنه لم يزرها.ن في طبخ وكما تدل التسمية، فإن هذا الشارع يحوي سلسلة من المطاعم التي تتفن الوجبات الشعبية، وعنقودا من المقاهي التي يتردد إلى يوميا عدد ال يحصى من البشر.

لكن في يوم لم يظهر قرص الشمس بسبب عاصفة من غبار، أطل وجه غير مألوف، يرتدي بذلة بنية غالية، وربطة عنق وردية، ويحمل حقيبة »سامسونايت«. جلس ل إلى النقد األدبي، وطلب منه طلبا غريبا، أن يأتي معه إلى بجوار شاعر سابق، تحوالبنك القريب من شارع المطاعم ليدلي بشهادته حول أحد رواد المقهى، ومقابل

تلك الشهادة سيحصل على مبلغ طيب.ك الناقد األدبي في جدية العرض، وظهرت ابتسامة ساخرة على شفتيه شكم نفسه بصفته »مندوب البنك« حتين من مرض السكر. لكن الرجل الذي قد المتقرها في جيب الناقد األدبي، ووعده بمبلغ أخرج من الحقيبة عشرين ألف ريال ودسمماثل عند فراغه من شهادته. تنحنح الناقد األدبي وبرقت عيناه، ثم تناول عصاه التي يهدد بها األدباء المبتدئين، وخف خطاه إلى البنك. اقتاده المندوب إلى مكتب مدير البنك، وعندما دخل الناقد األدبي دهش من البهو الهائل المساحة المسمى »مكتبا« وشعر بالرهبة من هيبة المكان، وانتابه إحساس بالخزي من رثاثة مالبسه.ر وكاد رأسه في طريقه السريع إلى المدير القصير القامة النحيل كعود خيزران، تعثيرتطم بمبخرة مشتعلة تبث دخانا عطرا. رحب به مدير البنك وطلب منه الجلوس. قها واستحسن طعمها المر. فيما قدمت له فتاة باهرة الجمال، قهوة بال سكر، تذو

Page 249: Beirut39 Arabic Anthology

249

خاطبه مدير البنك وابتسامة عريضة تلوح على وجهه:- أنت ناقد أدبي؟

- نعم. أفضل ناقد أدبي في اليمن.- هل صحيح أنك تأخذ أموالا من األدباء لتمدحهم؟

- كذب. أعدائي الصهاينة عمالء السي آي إيه هم الذين يشيعون هذه االفتراءات.- هل تعرف عبد اللطيف محمد أحمد؟

- عبد اللطيف... عبد اللطيف... آه أعرفه.- ممتاز. أريدك أن تحدثني عن كل صغيرة وكبيرة تخص هذا الشخص.

- لماذا، هل تربطك به عالقة قرابة؟ذ ما أطلبه منك دون أسئلة. - هذا ليس من شأنك. عليك أن تنف

غاص مدير البنك في كرسيه الوثير مريحا ظهره، وأعطى إشارة البدء. وبعد لحظات صمت ثقيلة مزعجة كان الناقد األدبي يبحث خاللها عن بداية مناسبة، مأل األخير

فمه بالهواء حتى انتفخت وجنتاه، ثم زفر وقد استجمع قواه:- ما أعرفه أنه موظف في وزارة اإلعالم... ال... لست صديقه... لكن المقهى كما تعرف يجمع اإلنس والجن. هو موجود في المقهى يوميا لشرب الشاي بالحليب. يحضر جاللته منذ الصباح الباكر، ويبقى في شارع المطاعم يرتع هنا وهناك كالجدي التائه، ات حتى يحين موعد إغالق المحالت في الساعة العاشرة ليلا. يفطر بثالث أو أربع حبخمير مع كوب شاي بالحليب، ويتغدى في ساعة متأخرة، بعد أن تغلق المطابخ، ويتسلل إلى مطعم يملكه أحد معارفه ممن ينتمون إلى نفس منطقته ويأكل البقايا. وأما كيف يدبر وجبة العشاء فهذا أمر ال أعرفه، ألنني أعود إلى بيتي قبل حلول ه من وجهة نظري يشبه أخطبوطا عمالقا زحف الظالم. يقال إنه مهندس ديكور، ولكنإلى عالمنا من بالوعة مجار متصلة بالبحر دون أن يالحظه أحد. يبدو أنه درس في الخارج. إنه من أولئك النفر المتفرنجين الذين انبهروا بالبلد األجنبي الذي درسوا فيه، وتأثروا بنمط جديد من الحياة المنفلتة، فلما عادوا لليمن فشلوا في التأقلم مع المجتمع وعاداته وتقاليده، فإذا هم معلقون في الهواء، مقتلعون من جذورهم، غير قادرين على االندماج. يفصلهم عن محيطهم غشاء رقيق. مكوناته: إحساس مفرط ر مقرون بالذات، واستعالء على اآلخرين، وغرور مجنح يبرز في اهتزاز الرأس، وتكبل في العبوس األبدي، والجلوس في المقهى بجنون عظمة خفي، وعدم تنازل يتمث

جريمة في شارع المطاعم

Page 250: Beirut39 Arabic Anthology

250

مه أنه شخصية شهيرة يفترض منه الترفع وكأنه العبقري محط أنظار الجميع، وتوهعن مخاطبة الغوغاء. بل إنه ينغمس في اعتبار نفسه شخصا مشهورا، فتجده يبالغ في التخفي وحجب شخصه المعروف، لكيال يزعجه المعجبون المفترضون بحضرته، مقلدا في حركاته الموزونة وتصرفاته المحسوبة كبار المشاهير في العالم! من صبح ربي يخرج وقد شرب الخمر البلدي الرخيص، فتراه جالسا في المقهى وتحته الجريدة الرسمية، ورغم أن الجريدة تحوي آيات قرآنية وصورا للرموز الوطنية، فإنه يبرر فعلته بحرصه على بقاء مقعدة بنطلونه نظيفة. ثم يصحو من سكرته بالتدريج كلما تقدم النهار. نعم، إنه يشتم النظام بانتظام. وهو يفتتح يومه بشتائم نارية، العنا عار هذه البالد التي فيها خمسة ماليين قواد وخمسة ماليين شاذ! ويظل طوال اليوم في مزاج عكر، نزق، عدواني، ويعتقد أن الجميع يتقصدون إهانته والتقليل من شأنه. عندما تستمع إليه، تكتشف أنه يحمل في نفسه ضغينة على الناجحين، يظل يهذي في الصبح والمساء بكالم تشم منه المقت والكراهية ألصحاب الثروة والشهرة. مرة جاء إلى المقهى ملحن موسيقي أسمر البشرة، وبعد انصرافه، قال صاحبنا مخاطبا رواد المقهى: »واهلل عشنا وشفنا األخدام قدهم يفهموا في الموسيقى...« هذه نبرة عنصرية، نفثة شخص عذبه الفشل، وأخرجته عقدة النقص عن طوره. لم يتمالك أعصابه حين رأى فنانا موهوبا يحظى بتقدير المجتمع واحترامه، فراح ينتقص منه معرضا بأصوله الطبقية. عندي حدس أن في داخله عنفا مكبوتا، حلما بدمار العالم نت ذلك من ثنائه غير المتوقع بوصفه مهندس ديكور وصيرورته خرابا مقفرا. خمعلى زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن الدن. ورغم أنه ليس متدينا، وال تربطه أدنى صلة بالتنظيمات اإلسالمية، فإنه يعد أسامة بن الدن المنقذ الذي يعلق عليه آماله الكبيرة. سمعته مرة يتكلم بحماسة شديدة قائلا بالحرف: »أسامة بن الدن هو الرجل الوحيد القادر على وضع حد للفوضى في العالم.« إذا الحظ أحدا في المقهى يتكلم ويجذب إليه األنظار، فإنه يشعر بالغيرة والحسد، فيضع رجلا على رجل، وينظر في االتجاه اآلخر قائلا: »خذ الحكمة من أفواه التيوس!«، إنه موهوم، يخال نفسه ا. وهو يتصرف مع الناس على هذا األساس. لذلك ليس من عادته رد ا جد رجلا مهمالتحية، أو الرد على الذين يخاطبونه، فهو يسمح لنفسه بممارسة أحد االمتيازات

المقصورة على الملوك: عدم التخاطب مع األشخاص األقل مكانة. يمشي ورأسه مرفوع إلى عنان السماء، وفي مرات نادرة كان ينزل رأسه من

وجدي األهدل

Page 251: Beirut39 Arabic Anthology

251

عليائه ليثرثر مع أحد معارفه. ال يضحك وال يبتسم، مقطب الجبين، مالمحه منقبضة متجهمة، وعيناه تبعثان رسالة مشاكسة لكل من يراه. يحيط نفسه بالغموض، ط في الحديث، وال تنفرج أساريره، وال يرفع وهالة من الهيبة الزائفة، ألنه ال يتبسصوته، فكالمه هامس، وكأنه يسر بأشياء خطيرة، ال يريد للمخبرين أن ينقلوها م ذاته. حركة عينيه عنه. يعطي نفسه أهمية مصدرها هلوسة ال واعية، ويضخارة الشمسية التي ال تفارق وجهه تارة يمينا وتارة يسارا، في مراقبة من خلف النظال تكل لحركات جلسائه ومن منهم ينصت ألقواله، تدل على المقلب الكبير الذي أخذه في نفسه! لقد رأيته مرة يخترق جماعة كبيرة من المراجعين المتجمعين حول الوزير، ووقف قبالته بقوة وثبات رافعا رأسه حتى كاد أنفه يلمس أنف الوزير وكأنه من علية القوم، فتهيبه األخير وظنه شخصية ذات مركز مرموق، وحين سمع منه، تبين أنه يطلب مساعدة مالية، فأمر له الوزير بمبلغ معقول، فإذا به يجادل جدالا شديدا ويرفع صوته على الوزير، ففقد معاليه أعصابه وراح يصرخ هو اآلخر، ل الحرس وأبعدوه بالقوة وبطريقة غير الئقة، فرحل وهو يدمدم وقد ازداد فتدخ

عبوسه، وصار جسده يتلوى بحركات عصبية ال إرادية. آخر مرة رأيته؟ طة بخطوط اليوم في المقهى قبل ثالث ساعات تقريبا. كان يلبس بذلة كحلية مخطرأسية. يمكنك أن تقول إنها قبيحة جدا عندما تتأملها عن قرب وتكتشف أنها غير مكوية أيضا. أتذكر أنه رآني أقصد المقهى، فوقف، ومشى باتجاهي متعمدا ة في كتفي. كان يريد استفزازي والتنفيس عن عقده االحتكاك بي. صدمني بقوني تجاهلته وتابعت طريقي وكأنه غير موجود. النفسية في مشاجرة معي. ولكن

نظر مدير البنك في ساعته وأشار إلى الناقد األدبي أن يتوقف.- هل هذا يكفي؟

- نعم. اذهب إلى المحاسب الستالم بقية أتعابك.شكرا.

جريمة في شارع المطاعم

Page 252: Beirut39 Arabic Anthology

252

***

بعد أيام طلب مدير البنك البحث عن شخص آخر يدلي بشهادته عن عبد اللطيف محمد أحمد.

ولم يتأخر المندوب األلمعي في تلبية رغبة سيده.»مهندس الديكور عبد اللطيف هو الوحيد بين الذكور الذي التفت إلي وغازلني. كان يرسل قبالته إلى ثغري والشارع يعج بالناس، وكأنه ال يقيم وزنا ألحد منهم. اي من الحياء. أصبحت عندما أراه يثب قلبي بين كنت أنظر إليه بصمت، ويحمر خدور يتوقد. أقف كل صباح في ضلوعي، وأشعر بحرارة تلفحني في صدري وكأني تنته المفضلة، وتحته ناصية شارع المطاعم أتسول من السابلة، ويجلس هو على دكقطعة كرتون نظيفة. وعندما يكون مزاجه رائقا، فإنه يحتويني بنظراته الدافئة، خني، لم أسمعها من أي ويتحرش بي بقبالته الطائرة، ويسمعني كلمات عذبة تدومخلوق قبله قط. عمري سبعة عشر عاما، أدب كما ترى على عكازين، وأعاني من زيادة خطيرة في وزني. لقد أصبت بفيروس شلل األطفال في صغري، وها أنا اليوم ل نفسي زوجة له، وأغرق شابة كسيحة بدينة ال يرغب فيها أحد. كثيرا ما أتخية تعلقي به، حفظت عن ظهر في أحالم يقظة مرحة عن حياتنا العائلية. من شدنها، وصرت قلب عاداته اليومية، وأطباقه المفضلة، وماركة السجائر التي يدخأعرف األشياء التي تفرحه، أو بالعكس التي تكدره. ربما حتى والدته لم تفهمه كما فهمته أنا. إن طبقه المفضل في وجبة اإلفطار هو الفول مع اللحم المفروم، وهو يتناوله تحديدا في مطعم صغير محجوب عن األنظار، يقع في نهاية شارع المطاعم ى في مطعم مجاور وجبة سلتة دسمة. وأما من الجهة المسدودة بجدار. ويتغدوجبة العشاء فال أدري ماذا يأكل. أخي الكبير يحملني بسيارته إلى البيت قبل غروب الشمس بساعة على األقل، والسبب أنني في مرة تأخرت إلى الليل فهاجمتني عصابة من صبيان الشوارع ونهبوني حصيلة ذلك اليوم، فلقيت ملء جلدي ضربا في البيت. عمره أقل من الخمسين، متوسط القامة، ووزنه مضبوط، فهو يساوي تقريبا طوله. بشرته سمراء فاتحة، وذقنه وشاربه حليقان. عيناه صغيرتان غائرتان في محجريهما، وشعره أسود يخلو من الشيب. ال. ال أظنه يصبغ شعره. يضع على عينيه ة لونها ضارب إلى الكستنائي، تضفي عليه سمتا جليلا، وتمنحه مهابة ارة شمسي نظ

وجدي األهدل

Page 253: Beirut39 Arabic Anthology

253

في القلوب. يهوى الظهور ببذلة كاملة، إذ لم أره وال مرة واحدة طيلة سنوات بمظهر غير رسمي. يعني ليس من الممكن أن تراه بالقميص فقط، أو في ثوب أو مئزر.

ل البذل الفضية أو ذات اللون األخضر بدرجاته المختلفة. وربطات العنق هو يفضالذهبية أو الحمراء. الشيء الوحيد الذي يخدش مظهره األنيق، لبسه أحيانا شبشبا ال يناسب البذلة الكاملة، ولكنه غالبا ما يرتدي جزمة تناسب لون البذلة. وأما أكثر شيء يجذبني إليه، فهو حرصه الدائم على تغطية رأسه بقبعات ذات ألوان ان عظيم. إنه رجل متواضع رغم أنه فيلسوف واسع رائعة، تظهر معدن وأصالة فناالطالع. لقد سمعته مرة يتكلم مع شبان صغار بهذه الحكمة: »إذا توقفت األرض عن دورانها المجنون حول نفسها، فإن اإلنسان سيكف عن الجري وراء لقمة عيشه ويرتاح.« وعندما اندلعت الحرب بين لبنان وإسرائيل، رأيته يظهر في وقت مبكر جدا، وذقنه غير محلوقة، ووجهه مقلوب كامد اللون، وقد ألصق راديو ترانزستور بأذنه والهوائي مرفوع إلى األعلى. كان يتابع أخبار الحرب على لبنان أولا بأول، وكأنه مواطن لبناني مقيم في اليمن! في تلك األيام نسيني تماما، وصار يمضي اليوم بطوله في استماع األخبار، وهو يمشي ذهابا إيابا كذئب محبوس في قفص. آه كم تعجبني مشيته! إنها مشية تميزه عن كافة الرجال. مشية أريحية متقاربة الخطوات، فيها موسيقى. إيقاع راقص. رأسه يتماوج في حركة متسقة مع جسده، وكأنه ال يمشي بقدميه فقط، بل بجسمه كله. أليست هذه المشية المختالة تشبه مشية األسود الفخورة بنفسها! مرة ناولني ورقة خضراء ال أعرف من أية شجرة انتزعها، وطلب رت ماذا مني أن أتأملها بدقة، وأن أخبره ماذا تشبه. شغلت عقلي بأقصى طاقته، وفكر، وذهب ليشرب شايه العدني، ارتشفه تشبه، فلم أصل إلى أي جواب. تركني أفكرت أن أقول له إن ورقة الشجرة بمهل وهو يختلس النظر إلي من حين آلخر. فكتشبه قلب اإلنسان. ارتحت لهذه الفكرة وشع محياي بالفرح، وافترضت أن هذا هو بني منه أكثر. حين أنهى كأسه، وقف ورماني بنظرة استفهامية، الجواب الذي سيقرفلما حزر من ابتسامتي أنني توصلت إلى الجواب، اقترب مني وأشار بيده مستطلعا جوابي، فلما سمع كالمي رفع حاجبيه وحك أنفه، ورد علي بأن تشبيهي خاطئ. فقلت له: »ما هو الجواب الصحيح؟« أمسك بيدي وشرح بسبابته قائلا: »ورقة الشجرة هذه تشبه عورتك!« ثم ابتعد عني وهو يقهقه من أعماق قلبه، وأما أنا فقد ارتعش بدني، وكاد يغمى علي من الموقف المخجل الذي وضعني فيه. فيما بعد، تبين لي

جريمة في شارع المطاعم

Page 254: Beirut39 Arabic Anthology

254

أنه على حق، فورق األشجار يشبه ما تخفيه النساء. أو ربما بالعكس، نحن النساء نحاول جعل ما نخفيه يشبه ورق األشجار.«

***

اكة في معرفة المزيد من بعد أسبوع واحد فقط، شعر مدير البنك برغبة فتالمعلومات عن عبد اللطيف محمد أحمد. اتصل بصحفي يعمل في جريدة محسوبة على المعارضة، مشهور بلقب »الرنجلة » وأمره أن يجري حوارا صحفيا مع مهندس

الديكور المغمور. وما هي إال أيام قالئل حتى نشر الحوار في الجريدة الرسمية.شغل الحوار صفحة كاملة، وظهرت صورة مهندس الديكور وهو في حالة طبيعية، رأسه مائل إلى الجانب األيمن، ويده ممتدة باتجاه المصور وكأنه يطلب صدقة.

وهنا نص الحوار:»اليوم نسلط الضوء على واحد من أعظم مهندسي الديكور في وطننا الغالي، إنه المهندس عبد اللطيف محمد أحمد. وهذا الفنان المرهف الحس منضبط في حياته، حتى إنك تستطيع أن تضبط ساعتك على موعد مجيئه إلى شارع المطاعم، فهو يداوم على الحضور في تمام الساعة السابعة صباحا، ويتخذ من مصطبة قريبة من مبنى

البريد مقرا إلنجاز أعماله اليومية.حين نتأمل جلسته على تلك المصطبة العالية، ينتابنا شعور قوي بأنه يشبه نسرا جاثما فوق قمة ال تدركها األبصار، أو أنه ملك لمملكة ال تدركها الحواس البشرية المحدودة. يمضي نهاره كله وجزءا من الليل عند تلك المصطبة العتيدة، ة، كأنها تمثل بالنسبة إليه مركز الكون، والنقطة وكأنه مشدود إليها بأغالل خفيالتي يتوازن فيها روحيا، فتنقذه من حركة األرض العبثية حول نفسها. إنه ثابت وراسخ ما دام هناك وليس مضطرا لمجاملة األرض في حركتها الدورانية كما يفعل

البشر العاديون.ا عندما اقتربنا منه، أنا والمصور، رجوناه أن يسمح لنا بإجراء مقابلة معه، فطلب منفي البداية أن نبرز بطاقاتنا الصحفية، ومن حسن الحظ كنت أنا أحمل بطاقتي فناولتها إياه. قرأ بيانات البطاقة بدقة، ثم أعادها إلي. وضع رجلا على رجل، وحدق في نقطة

قه إنسان: ثابتة، واسترجع بعين خياله ماضيا ذهبيا، لو رواه باللسان، ما صد

وجدي األهدل

Page 255: Beirut39 Arabic Anthology

255

اسمي عبد اللطيف محمد أحمد بالبيد، من مواليد 1958 محافظة حضرموت، ي معه إلى نشأت يتيما في بيت جدي، وعندما بلغت العاشرة من عمري أخذني عمأبو ظبي، وبعد أشهر قليلة توفي عمي، وطردتني زوجة عمي إلى الشارع. وكان من حسن طالعي أن أسرة لبنانية مارونية تبنتني وعاملتني كواحد من أبنائها، حيث عرفت الحياة على حقيقتها، ولقيت تربية أسرية راقية جدا لدرجة ال تتصورها. ضت ما فاتني من التعليم، ودرست في مدارس فرنسية، وتعلمت الرسم والعزف عو

على البيانو والرقص، وأتقنت الفرنسية واإلنكليزية واإلسبانية.رت الحرب األهلية عام ا نقضي اإلجازة الصيفية في بيروت، وعندما تفج كن1975، أصبحنا نقضي اإلجازة الصيفية كل عام في بلد أوروبي مختلف. ثراء أسرتي اللبنانية سمح لي أن أزور العالم كله. لقد عبرت المحيط األطلسي عشر مرات، وتجولت في أميركا الشمالية والجنوبية وعرفتها بلدا بلدا، وأما تشيلي فأعرفها وأعرف شوارع سانتياغو، كما أعرف كفي هذه، ألنني عشت هناك سنتين ونصف في رعاية شقيقة والدي اللبناني بالتبني. هناك حاولت دراسة الهندسة اإلنشائية، هت إلى باريس لدراسة فن الديكور. ولكنها لم تعجبني، فغادرت سانتياغو وتوجعشت سبعة عشر عاما مع عائلتي اللبنانية، ذقت خاللها كل متع العالم، وحصلت على كل ما تتخيله من ملذات. كان المال يجري في يدي كشالل ال يتوقف. أنا ذقت كل أنواع الخمور الموجودة على وجه األرض، وأما النساء فلم يبق لون أو عرق أو جنس لم أمارس معه. صديقاتي التشيليات وحدهن يربو عددهن على العشرين. ما زلت أحتفظ بصوري معهن حتى هذه اللحظة، وعندما أموت سأحملها معي إلى قبري.

نساء تلك البالد هن الوحيدات الالتي بقيت ذكراهن خالدة في قلبي.عندما مات والدي بالتبني، قررت عائلتي اللبنانية الهجرة نهائيا إلى أوروبا، فانفصلت عنهم، وعملت في مجال المقاوالت، وبسرعة فرضت اسمي في السوق، وكسبت ثروة.جت مرتين، األولى كانت فرنسية، ملكة جمال مدينة نيس، ولم أستمر معها تزو

سوى سنة واحدة.وأما الثانية فكانت مصرية، وقد عاشت معي ثالث سنوات ثم طلقتها، ولم أرزق بأطفال من أي منهما. شاء القدر أن تحدث لي مشكلة لم تكن في حسباني، دخلت لت من أبوظبي إلى بلدي في لمح البصر. كان ذلك في بداية بسببها السجن، ثم رحام ا بين البلدين بسبب دخول صد التسعينيات، وكانت العالقات وقتها متوترة جد

جريمة في شارع المطاعم

Page 256: Beirut39 Arabic Anthology

256

إلى الكويت. طيلة سنوات إقامتي هناك لم تخطر اليمن ببالي قط، وأما مسألة العودة إليها فكانت غير واردة إطالقا.

لم أستسلم لليأس، وحاولت النهوض من كبوتي، فوظفت األموال التي عدت بها من نت من الفوز بأهم المناقصات التي كان يعلن عنها اإلمارات في أعمال المقاوالت، وتمكالبنك...« » آنذاك. وشاءت الظروف المعاكسة أن أتعب نفسيا في تلك الفترة، وكانت لي مستحقات مالية تقدر بحوالي ثمانمئة ألف دوالر لدى البنك، لم أتمكن فيما بعد من استردادها. ساءت حالتي النفسية أكثر مع انفجار حرب 1994 التي حطمت أعصابي تحطيما، وأصبت بمرض اتصال الخاليا. إنه مرض خبيث نادر، العلم ال يعرف عنه أي شيء تقريبا. وعندما أصبت به أمست خاليا عقلي ترسل ذبذبات في الفضاء، وتحمل معها كل شيء أفكر فيه، وهم بأجهزتهم الخاصة يلتقطونها، وبهذه الطريقة هون أفكارهم الشريرة إلى يتجسسون علي ويعرقلون أي شيء أريد إنجازه. ثم يوجخالياي لتدميري وتحويلي إلى مجرم ينفذ أطروحاتهم القذرة. إنهم يفعلون معي هذا ألنني رفضت أن أكون تابعا لهم، رفضت أن أنفذ أوامرهم، هم يريدون الخالص مني ت وأنا أعاني من هذه الحالة المرضية. لقد قطعوا بأية طريقة. سبعة عشر عاما مرعني كل سبل العيش الكريم، وحاربوني في كل مكان أذهب إليه للحصول على عمل. حتى الزبائن الذين يطلبونني في أعمال الديكور، يأتي مندوب منهم ليحذرهم من التعامل معي، بدعوى أنني مختل عقليا. ومع ذلك أنا ما زلت متمالكا نفسي وقواي

العقلية، ووضعي ما زال تحت السيطرة.قد منهم تجد واحدا أن اك أتحد وأنا العفنة. الكون وفضالته هم سفلة اك أن تجد واحدا منهم قد عاش بشرف. تأكد جمع ماله بعرق جبينه. أتحدأنني لست الوحيد في هذه البالد الذي ضاعت حقوقه المالية. أنا ال أتكلم عن مشكلتي الشخصية. أنا أتكلم عن مشكلة يعاني منها كل الناس. كل واحد من ضائعة. مالية حقوق لهم هنا تائهين تراهم الذين المساكين البشر هؤالء النفط؟ إيرادات من نصيب بالفقر المخنوقين هؤالء من واحد لكل أليس

مشكلتي أنني حامل لهموم الناس جميعا، ولذلك ال يتركونني أنام. يبعثون برسائلهم إلى خالياي طيلة الليل. وبالكاد أنام ليلة واحدة فقط في األسبوع.

د القهر والظلم واإلجرام كانت أشياء أسمع عنها وال أعرفها، كانت بالنسبة إلي مجركلمات موجودة في القواميس، أو حاضرة في األفالم السينمائية، لكن منذ عودتي إلى

وجدي األهدل

Page 257: Beirut39 Arabic Anthology

257

هنا وجدتها متجسدة في الواقع، تلمسها في كل شبر من األرض. فأي انحطاط أكثر من لوا البالد إلى مزبلة بال قاع، وسوق لبيع كل شيء.« هذا؟ السفلة المجرمون حو

***

هذه المرة ذهب مندوب البنك رأسا إلى عبد اللطيف محمد أحمد، وجده في ى قد قرأ المقهى يرتشف أحزانه. عرفه بنفسه وقال له إن مدير البنك المفدالمقابلة الصحفية التي أجريت معه، وأنه يرغب في حل مشكلة حقوقه المالية لدى البنك. نظر إليه مهندس الديكور من فوق إلى تحت بازدراء، وطلب منه أن ة. فتح المندوب حقيبته السامسونايت، وأخرج بطاقة وردية يريه بطاقته المهني

تثبت صحة كالمه.د: تكلم مهندس الديكور بصوت أجش متوع

- ومتى سأتسلم أموالي؟- ستتسلمها بعد تنفيذك للشرط.

- أي شرط؟- نحن نشترط عليك ارتكاب جريمة ما. جريمة واحدة فقط، وبعد ذلك يمكنك

المجيء إلى البنك لتسلم الثمانمئة ألف دوالر.- ما هذا الكالم. هل أنت عاقل أم مجنون؟

يخرج المندوب من حقيبته السامسونايت مظروفا أسود، يفرغ محتوياته ويستعرضها:

- انظر يا سيد عبد اللطيف. هذا شيك بثمانمئة ألف دوالر يدفع لحامله سوف يسلم إليك عقب تنفيذك لشرطنا. وهذه قائمة تحتوي سبع عشرة جريمة مقترحة

من جانبنا، وعليك اختيار واحدة منها.ارة الشمسية عن عينيه وبحلق بكل روحه في أبعد مهندس الديكور النظه... الحظ المندوب أن سحنة المهندس القائمة الزرقاء، وراح يقرؤها في سرقد انقلبت وكأن أحدهم دلق عليها زيتا حارا، ثم رأى وجهه يحمر احمرارا شديدا، وجسده كله يرتجف رجفا عصبيا يدل على غضبه البالغ. انقلبت أمعاء ق الورقة الزرقاء المندوب من الخوف عندما وقف مهندس الديكور كالمارد، ومز

جريمة في شارع المطاعم

Page 258: Beirut39 Arabic Anthology

258

وفتتها فوق رأسه، وراح يصرخ بجنون العنا البنك وكل بنوك العالم األخرى.

وعلى الفور تجاوبت مع المهندس عشرات الحناجر بالصفير وصيحات االستنكار، وتحول شارع المطاعم في لحظة إلى بركان يدمدم بغضب.

انسحب مندوب البنك بخطوات عجلى متعرجة، ورجاله تدوسان على حاجبيه من الذل.

***

ض لها مندوبه، فقرر أن يسلك لم ينس مدير البنك اإلهانة البالغة التي تعرطريقا آخر:

غافل مجنون مهندس الديكور وأخذ كوبه، ودلق المشروب الساخن على وجه، وعلى الفور اشتبكا في شجار عنيف كالديكة. وصل رجال الشرطة في وقت قياسي، وقام عميل يعمل لحساب مدير البنك بسكب محلول أحمر اللون على رأس المجنون الذي مثل أنه فقد وعيه. ألقي القبض على مهندس الديكور، ونقل إلى قسم الشرطة. وأما غريمه المجنون فقد نقلته عربة إسعاف إلى المستشفى. وفي فترة زمنية وجيزة، أحيل مهندس الديكور إلى النيابة بتهمة الشروع العمد في القتل،

وهذه تهمة قد تصل عقوبتها إلى السجن عشر سنوات.

***

قضى مهندس الديكور سبعة عشر شهرا في السجن. نسي خاللها ضوء الشمس، احين وكل أيامه الطيبة. وقد بدلته الزنزانة الضيقة التي حشر فيها مع زمرة من السفب ظهره، واللصوص وهاتكي األعراض تبديلا كليا. فغزا الشيب رأسه بكثافة، وتحد

ونمت لحيته، وصار جلدا على عظم.وقد رأى مدير البنك أن الظروف قد باتت مواتية لتحقيق مراده، فأوعز للمندوب أن

ك. يتحروفي اليوم المسموح فيه بزيارة المساجين، وقف المندوب متأبطا حقيبة ر على مسامع عبد اللطيف محمد أحمد عرضه السابق بحذافيره. السامسونايت، وكر

وجدي األهدل

Page 259: Beirut39 Arabic Anthology

259

في هذه الجولة لم يثر مهندس الديكور، وال تغيرت مالمحه، بل مكث في مكانه را: كصنم حجري. أمسك المندوب بربطة عنقه الوردية وقال محذ

- بالمناسبة لقد قمنا بإحراق ملفك. وهذا يعني احتمالين. األول: أننا نستطيع إخراجك من هنا بمكالمة تلفونية، والثاني: أننا نستطيع سجنك هنا إلى آخر أيامك،

ألنك سوف تعتبر في نظر القانون مجرما بال جريمة.ت دقيقة صمت، كأنهما يقفان حدادا على روح ميت. مر

استيقظ مهندس الديكور من شروده ونطق أخيرا:- يوما ما ستظهر الحقيقة.

ضحك المندوب حتى تطاير اللعاب من فمه:الحقيقة. يا لك من ساذج. يا صاحبي الحقيقة تساوي ما يدفع فيها. وبما أننا نحن الذين ندفع المال فإنه من حقنا أن نحصل على الحقيقة التي نرغب بها. ال بد أن تفهم أن الحقيقة وثيقة الصلة بالجيب. وبما أن جيبك فارغ وجيبي أنا مآلن، فهذا

يعني أن الحقيقة ليست في جيبك بل في جيبي!ل مهندس الديكور أصابع المندوب القصيرة البضة الناعمة فترة من الوقت، تأم

تكلم ببطء: أريد أن أعرف. ما هي الجريمة التي ارتكبتها في حق مديرك؟- جريمتك أنك لم ترتكب أية جريمة على اإلطالق!

- ولماذا يصر مديرك على تحويلي على مجرم؟ة في أن تنال حقوقك. أن تأخذ الثمانمئة ألف دوالر، ولكن - ألنه يرغب بشد

بشرط: أن تثبت جدارتك.ي تلطيخ يدي بدم األبرياء جدارة؟! - أي جدارة. هل تسم

- مديري فيلسوف من طراز فريد. اخترع نظرية أخالقية جديدة، وأنت أحد النماذج التي يشتغل عليها.

- أنا؟نا - نعم. النظرية تقول باختصار إن على اإلنسان أن يسلك سلوكا إجراميا معيلكي ينال حقوقه المادية والمعنوية في المجتمع، كما تفعل الحيوانات المفترسة في

الغابة. ونتيجة لسجله اإلجرامي فإنه يصير بالضرورة مواطنا صالحا!- هذا يعني أن المواطن األصلح هو األكثر إجراما؟

- بالضبط.

جريمة في شارع المطاعم

Page 260: Beirut39 Arabic Anthology

260

- وإذا رفض إنسان هذه النظرية جملة وتفصيال، وأصر أن يبقى بريئا؟- في هذه الحالة سيعتبر هذا اإلنسان مواطنا غير صالح، وسيصنف بالضرورة مجرما ارتكب أسوأ الجرائم في حق المجتمع. أال وهي أنه لم يمتلك الشجاعة الكافية

الرتكاب أية جريمة.- نظرية مديرك األخالقية معقدة جدا.

- بالعكس إنها سهلة جدا جدا. لو أنك تتكرم بالموافقة حينئذ ستراها كما أراها أنا.صمت مهندس الديكور وغرق في تفكير عميق.

تحلى المندوب بالصبر، ولم يحاول أن يقطع حبل أفكار السجين الذي بدا خلف الشبك الحديدي وكأنه قد فارق الحياة.

مالت أشعة الشمس للغروب، انتفض مهندس الديكور ولف ذراعيه حول نفسه وكأنه عار. تكلم بصوت مختلج:

- هل لديك سجائر؟احة، أخرج المندوب من جيبه علبة سجائر، أخذ واحدة لنفسه وأشعلها بقدثم سحب واحدة أخرى وأشعلها من مؤخرة سيجارته، وناولها للمهندس من ثقوب

الشبك الحديدي.تنشق مهندس الديكور الدخان بلذة عامرة، وتأوه من شدة النشوة. بعد أن أنهى

مهندس الديكور سيجارته، طلب من المندوب أن يناوله القائمة الزرقاء.

***

في اليوم التالي ظهر مهندس الديكور في شارع المطاعم، ببذلة نظيفة، ووجهه حليق. وإن كان الناس قد الحظوا أنه قد شاخ وانحنت قامته. تساءلوا أين غاب طيلة

هم لم يحصلوا ال منه وال من غيره على أي جواب. تلك األشهر، ولكن

***

بون الخروج من وأقبل فصل الشتاء ببرده القارس، وأصبح كثير من الناس يتجنبيوتهم قبل شروق الشمس. تداول رواد شارع المطاعم أنباء فاجعة عن شحاذة معوقة

وجدي األهدل

Page 261: Beirut39 Arabic Anthology

261

دة على في ريعان الصبا، وجدت في غبش الفجر وقد فارقت الحياة. وجدوها ممدوجهها بجوار مكتب البريد عند مصطبة حجرية، وخيط دم يسيل من زاوية فمها.

تهامسوا واللوعة تعذبهم بأنها ماتت مسمومة.

قصة قصيرة نشرت في مجلة »صيف« صنعاء، أغسطس 2009

جريمة في شارع المطاعم

Page 262: Beirut39 Arabic Anthology

262

ياسين عدنان

تان قص

ثرثرة باألبيض فقط

أف. لقد بدأت أنزعج. حاول أن تفهمني أرجوك. سأنسحب إذا بقيت على هذه الحال. عجبا، وتسأل ماذا فعلت؟ الطريقة التي تنصت بها وأنت تحملق في وجهي ع الهدوء واالهتمام لكي تبدو عاقلا ورزينا. ال... صدقني، لسنا في ني. تتصن تستفزمسجد اآلن... نحن في بار. وأنت فعلا تحرق أعصابي... حتى االبتسامة المصلوبة على شفتيك تبدو أذكى من الالزم. إنها تهينني. فهل تظن نفسك فعلا ذكيا إلى هذا الحد؟ واآلخرون... مجرد كائنات فارغة ال تجيد غير الثرثرة؟ ال يا صديقي أنت ر ببالدة. ع الذكاء وأنت تفك مخطئ. هل أكشف النقاب عما يجول بخاطرك؟ تتصند عاهرة. واحدة من إياهن. تبدو سكرانة وهذا لقد قلت في نفسك: هذه مجرممتاز. فلن أدفع عنها أكثر من بيرتين ثم أدعوها إلى الذهاب معي. ستكون متعبة ت. دون شك، وفي حاجة ماسة للنوم... للنوم فقط. في البيت، لن أسألها هل تعشسآخذها مباشرة إلى غرفة النوم. نطفئ الضوء وننااام... بعد أن أقضي حاجتي، أدير لها ظهري... وكالعادة أنخرط في الشخير إلى الصباح. استيقظ من فضلك، فقد راحت عليك النومة هنا في البار. هل تظن نفسك في حالة صحو؟ اهلل يجيبك على خير. كيف لم يتبادر إلى ذهنك - ولو احتمالا صغيرا - أن الجالسة إلى جانبك ليست ة لشخص عاهرة، وأنها تشرب بهذا الشكل فقط ألنها تعاني، وأنها في حاجة ماسعميق، يحاورها بعمق وينصت لها بصدق. ولهذا ربما بدأت تحكي معك. وحتى إذا ير قذر. سأشرب كنت عاهرة، فما الذي يمنعني من أن أفكر مثلك: أنت مجرد سكعلى حسابك بعض الكؤوس ثم أزحلقك. ولنفترض أنني ذهبت معك إلى البيت، لم

Page 263: Beirut39 Arabic Anthology

263

تان قص

ال أكون أنا التي ستدير ظهرها بعد الجنس؟ لم ال أكون أنا التي ستقضي وطرها ثم تصفق الباب خلفها في الصباح، لتذهب إلى أوطار أخرى، فيما تظل أنت في بيتك لترتيب الفراش، تغسل المناديل وتفرك اللزوجة التي علقت بها وأنت تغمض عينيك الذابلتين عساك تستعيد بعض الحرارة التي ألهبتك ليال. من أتفه من اآلخر؟ ومن يحق له االبتسام بتلك الطريقة السمجة؟ أف، ما زلت تبتسم وكأني كنت أروي لك نكتة؟ صدقني... أنت ال تطاق. هل تعرف ما الذي يزعجني في الرجال؟ إنها بالدة ة على االنسجام في ذواتهم. لديكم استعداد دائم الحس التي تمنحهم قدرة خرافيلإلحساس بأنكم غير معنيين حتى والنار تشتعل في تالبيبكم. خذ نفسك مثلا: أنت اآلن ترى الوضع في الحانة غريبا... عاهرات، سكارى، صخب وضوضاء، خصومات، ك في الوقت ذاته تنسى أنك بدورك هنا، وسط هذا العالم. آه.. عالم مجانين. لكننسيت... أنت ملك على عرشه، واآلخرون جوقة ممثلين. انخراطك معهم في قلب د تكسير للجدار الرابع، تواضع منك ال أقل وال أكثر، ال يا صديقي أنت المشهد مجرواهم. الفرق الجوهري بيني وبينك هو أنني، على العكس، أعتبر نفسي جزءا من هذا العالم المقزز. أعرف أنني في حانة نتنة. وحين أغادر في آخر الليل، علي أن أنتبه لوقع خطاي، فأمثالك ال يترددون في إفراغ البيرة المخمرة في أمعائهم قرب الكونتوار، أو عند المدخل دون أن يرف لهم جفن. أحيانا يفعلونها بين سيقان بة جليساتهم متناسين أنهم قبل لحظات فقط كانوا جنتلمانات مهذبين. أنا لست مهذيا صديقي. إنني مجرد عاهرة. لكنك بالتأكيد لست أحسن حالا. أنت داعر مثلي. جئت إلى هذا الدهليز النتن لتمأل جوفك بالبيرة الرخيصة وتأخذ امرأة مجهولة إلى سريرك. أرأيت كيف أننا بالوضاعة ذاتها.. وبالتفاهة نفسها؟ ومع ذلك ال أقول إن الجميع هنا تافهون. في هذا البار التقيت رجالا حقيقيين، رجالا بمعنى الكلمة. هل ة؟... ال، الذي هناك... ترى مثال الكهل ذا المعطف الكاكي المنزوي وحيدا أقصى الدكيرا حقيقيا، من ال وراء فتيحة، الشقراء صاحبة »البودي« األحمر. إذن، لست سكيعرفه هنا؟ اسمه سيف المنصوري، موظف قديم بالتعاون الوطني، ومراكشي مثلك. جاء إلى هذه المدينة في السبعينيات واستقر بها نهائيا. إنه يوميا هنا. اهلل يعمرها ني كثيرا. يبدو أنه لم يرني اآلن؟ يا سي دار، أعرفه منذ سنوات عديدة، وهو يعزل الصخب على الثرثرة. سيف.. يا سي سيف... لم يسمعني... قال لي مرة إنه يفضفي البيت، ال يطيق ثرثرة التلفاز، ثرثرة الزوجة، ثرثرة األبناء. هنا على األقل يضيع

Page 264: Beirut39 Arabic Anthology

264

ياسين عدنان

وسط الصخب وال أحد يهتم لوجوده. بعض اللئام من رواد البار أطلقوا عليه لقب »سيف اهلل المسلول«. الرجل مريض واألنذال يسخرون منه. المسكين... لو تدري كم يعاني. بعدما أصيب بالسل، أصبحوا جميعا يجتنبونه. قال لي مرة إن زوجته بدورها أصبحت تتحاشى من مجاورته في الفراش. هو ليس مستاء من المرض، بل شت بين من الناس. في السبت الماضي، أخبرني أنه قد تآلف مع العناكب التي عشون على التعريض بي. إذا كنت مسلولا فالصدر رئتيه، قال: لكن هؤالء األوغاد يصرصدري، والرئتان أنا من يتنفس بهما وليست أمهاتهم. ثم فيم سأحتاج جسدي وأنا في هذه السن، لكي أحافظ عليه؟ عمري تسعة وستون عاما. إنني فقط أتجرجر قيني يا ابنتي، مع الزمن، وأجرجر السنوات ورائي، وأنا أسعل كقطار عجوز. صدل لن أندم على شيء كما سأندم إذا مت غدا وفي جسدي عضو ال يزال صالحا. أفضأن أتداعى بالتدريج على أن أحترق فجأة كتلفاز أخذ جرعة صاعقة من الكهرباء. صدقني، إنه فعلا شخص مختلف. مرة قبل ست سنوات، سهر معنا في حانة »الكثبان السبعة«، وشرب أكثر من الالزم. لم أشأ تركه على تلك الحال فأخذته معي إلى ة الرباطية - تعرفها؟ - وفتاة أخرى هاجرت إلى البيت. كنت حينها أسكن مع سميإيطاليا وتزوجت هناك. ولم يكن قد نخره الداء بعد. ال أخفيك، كنا نجده جذابا تلك

األيام. في البيت، أخذته إلى غرفتي، مددته على السرير واتكأت بجانبه. ى. لم أتمالك رغبتي. بقيت فقط بمالبسي قني، لم أشعر بنفسي إال وأنا أتعر صدني ة إلى صدري. هل اشتهيته تلك الليلة؟ ال أعرف. لكن الداخلية. وضممته بشدضممته وأمطرت وجهه بالقبالت. وحين بدأت أفك أزرار قميصه، همس في أذني بصوت مهدود: ال يا حجيبة... أنت مثل ابنتي... فاهتز جسدي بالبكاء. هو لم يخن د عاهرة. فهل كان د عاهرة. كنت مجر زوجته قط، هكذا أخبرني فيما بعد. وأنا مجريكفيني ساعتها البكاء؟ غادرت السرير، وبدأت أرتدي مالبسي، لكنه فتح عينيه

ق بي... فجأة وحد- ابقي كما أنت يا حجيبة، قال لي، وتعالي لتنامي إلى جانبي. سأحضنك كأب، فضعي رأسك على صدري ونامي. كم أحب مالبسك الداخلية البيضاء. األبيض شريف

يا صغيرتي. فتعالي لتنامي في حضني بأمان.منذ تلك الليلة ومالبسي الداخلية دائما بيضاء. فعلا، األبيض شريف. أنظر إلى الناس في األعياد الدينية، ماذا يرتدون؟ المالبس البيضاء، أيام الجمع، يرتدي المصلون

Page 265: Beirut39 Arabic Anthology

265

الجالبيب البيضاء. الميت نكفنه باألبيض، في األعراس يرتدون األبيض، وفي العزاء، األبيض. وأنت، أما زلت تبتسم؟! أف... ماذا أيها الشقي؟ كيف تجرؤ؟ تريد أن تتأكد بنفسك من لون منهدتي؟ إذن، إدفع ثمن البيرة أيها البخيل. وال تهتم للعشاء. سأدعوك لوجبة خفيفة في »مطعم المسافرين.« الليلة، سأجعلك تندم على هذه االبتسامة. سأشعل النار في جسدك وأجعله يصرخ في السرير بكامل مسامه. قم إذن... يا سي سيف… يا سي سيف... بالصحة... كيفاش؟... ال... عذرا عزيزي.. معي الليلة صديق.

وأنا ذاهبة اآلن... إلى اللقاء... غدا طبعا... طبعا... طبعا..

حاطب حب

ال يمكن إلنسان أن يحتمل الوحدة مهما بلغت درجة يأسه وحنقه على العالم. د نباح كلب دائما نحتاج إلى حس نستجير به من عنف الصمت، حتى لو كان مجرفي خالء. ربما أنا الشخص األنسب لهجاء الصمت والعزلة والبرد. فأنا أعيش وحيدا بهذه المدينة القارسة المنزوية عند قدم الجبل منذ أكثر من خمسة عشر عاما. كل مشاريعي هنا آلت إلى الفشل. فشلت في الزواج من نجوى، بنت السيد مشكور ة أن يعطي ابنته لشخص لم يسبق أن صادفه مدير مكتب البريد. أبوها رفض بشدم عليهم. فشلت في مشروع في المسجد وكأنه من جنس آخر، دخول المساجد محرالمكتبة التي فتحتها لمدة عشرة أشهر، لم أبع خاللها ولو كتابا واحدا. اكتشفت أن ر في أن يبيع أهلها كتبا. ال أحد يقرأ في هذه المدينة، وأن المجنون وحده من يفكوفشلت أيضا في االنتخابات البلدية التي لم أحصل فيها ولو على صوت واحد بما في ذلك صوتي. ألن فترة الحملة االنتخابية كانت كافية إلقناعي بقذارة اللعبة وال جدواها. وهكذا تخليت عن الحلم الذي من أجله ولجت غمار هذه المعمعة: أن أغرس بضع أشجار في شارع المدينة الوحيد دون أن أحتاج رخصة من أحد. تخليت عن هذا الحلم بيني وبين نفسي في اليوم الثاني للحملة وقاطعت االنتخابات بضمير مرتاح. كل مشاريعي بهذه المدينة باءت بالفشل. والشيء الوحيد الذي أفلحت فيه هو أن أكرههم جميعا. كرهت المدينة وأهلها ابتداء من محماد البقال الذي نادرا ما أجد عنده الخبز في منتصف النهار، وعوض أن يخجل من نفسه يصر على أن يحكي

تان قص

Page 266: Beirut39 Arabic Anthology

266

لي قصصا سخيفة ال تنتهي. وكما لو أنه يتعمد إغاظتي، يختار بعناية المواضيع التي زني تماما. دائما لديه فيها الجديد، ودائما ينجح في حقني بالمزيد من محلول تقزالملل. في هذه المدينة كنت أحس دائما بالبرد. اقترحت علي أمينة أن أسكن الحي القديم، فالبيوت الطينية هناك أكثر دفئا. أجبتها أنني طبعا ال أطيق البرد، لكنني أكره الصراصير أكثر. قالت أمينة إن الصراصير الحقيقية موجودة في رأسي، وهي ال تفهم

كيف يمكن لشخص مثلي أن يبدو طبيعيا ومتوازنا وهو يكره العالم بهذا الشكل. ولكنني ال أكره العالم يا أمينة! كيف سأشرح لك ذلك؟ انني أحب اهلل ومالئكته والرسل. وفي الشتاءات الباردة أحب اليوغورت المنكه والنبيذ االحمر. أنت أيضا أحبك في الشتاء حينما يتحول جسدك إلى حطب طري. وفي الصيف، حينما ترتدين ر ذا اللونين البرتقالي واألزرق السماوي والتنورة البيضاء القصيرة. قميصك المشجقيني في مالبس أخرى، لكنني ال أقولها لك. أكون مستغرقا في حبك يا وأحبك صدأمينة ولهذا ال أقول شيئا. انه طقس مقدس يا عزيزتي، يجب ان نحتفي به في السر، لكنني طبعا ال أحب 24 على 24. لست ماكينة أحاسيس. وأنت تخطئين حينما تطلبين مني المستحيل. المستحيل هو أن أحبك صباح مساء، وأن أكرر ذلك على مشاعرك صباح مساء. هكذا دون مناسبة ومن دون نبيذ. مشكلة أمينة الحقيقية هي أنها

تريد مني أن أحبها وال تطالب نفسها بأي شيء بالمقابل. وأنت يا أمينة أحبيني قليلا أنت األخرى؟

ولكنني آتي إلى بيتك مرتين في األسبوع وأنام معك، ورفضت أن أتزوج بمحسن المعلم من أجلك، ماذا تريدني أن أفعل أكثر؟

ماذا ستفعلين؟ أحيانا أشعر أن المرأة فعلا من جنس آخر. تصير غبية تماما في اللحظة التي تطالبها فقط ببعض التركيز، وحين تكون أنت قد تعبت تسترجع صفاء ذهنها ولياقتها كاملة وتشرع في التنكيل بك. أمينة مثلا لم تفهم أشياء كثيرة رغم تي منذ ثالث سنوات. أنا مثلا شخص طيب وبسيط. يكفيني عشاء أنها تتردد إلى شقخفيف وكأس نبيذ وامرأة إلى جانبي في هذا البرد، ألحس بأنني ملك. لكن أمينة ال تعرف كيف تلعب دور زوجة الملك، ومع ذلك أحبها. حينما التقينا أول مرة في كشك الجرائد المجاور لبيتي كانت تسأل عن مجلة للطبخ. لم أجدها جميلة ولم يثرني فيها أي شيء: جسد كالماء العذب، بال طعم وال لون وال رائحة، تغيب تفاصيله خلف جالبة رمادية، شعر ال هو باألسود وال باألشقر مشدود إلى الخلف بصرامة،

ياسين عدنان

Page 267: Beirut39 Arabic Anthology

267

ني ضة بقسم الطوارئ. ال شيء فيها يثير في الواقع. لكن وابتسامة فاترة كأنها لممربحكم العادة فقط بدأت أحكي معها عن الطبخ وأصنافه. تحدثنا عن الكسكس والبيتزا، عن اللحم بالبرقوق وطاجين الدجاج بالليمون. ثم صعدت معي إلى الشقة. وألنه لم يكن في بيتي تلفزيون نتسلى بالتفرج على برامجه مارسنا الجنس. وهكذا بحكم العادة صارت أمينة تتردد إلى شقتي وتقول لي: أحبك. وألنني لطيف بطبعي ومجامل أقول لها: وأنا أيضا. لكن بالتدريج، ونحن في السرير، بدأ جسدها الجني يخرج من قمقمه. كان شيئا مبهرا. قبل أن أتعرف إلى هذه البنت كانت تتردد إلى سريري فتيات جميالت يرتدين تبابين مطرزة بألوان مثيرة. لكن مع أمينة اكتشفت أن هؤالء البنات ة موظفي المدينة، كن دون خبرة في الغالب. الثرثارات، اللواتي يتنقلن بين أسرن سجائرهن من علب اآلخرين دون أن البنات اللواتي يمارسن الجنس كثيرا ويدخيات. ولهذا يبقين دون خبرة مهما تقاذفتهن األسرة. يتقيدن بصنف بعينه لسن جدأمينة كانت فتاة محرومة. ربما لم يجاملها أحد قبلي بحديث عن الطبخ وأطباقه. لم يدعها أحد قبلي إلى شاي بالبيت. لكن جسدها بالفطرة فقط، بالفطرة والحرمان وبعض التفاني، كان يفعل بي األفاعيل. والغريب أنها لم تطالبني قط بالزواج. لم تكن تطلب أي شيء. كانت فقط تريد أن تأتي من حين آلخر، وأن تنام معي قليال ثم د إلى جانبي ساعات تحدثني خاللها عن محسن المعلم وأبيها المتقاعد وأختها تتمدالمتزوجة بمراكش، وأخيها الذي سيتخرج بعد سنتين طبيب أسنان. ولم يكن لدي ا أن تطلب مني -بين حين وآخر- االعتراف مانع من االستماع لهذه الحكايات. أمبالحب دون مناسبة وال نبيذ، فهذا أمر ال يحتمل. صحيح أن المدينة صغيرة ودرجة االنخراط في ممارسة الجنس التي وجدتها عند أمينة غير متوافرة لدى المراهقات المكلفات والمتكلفات، اللواتي كن يترددن إلى سريري قبل مصادفة الكشك ومجلة الطبخ. صحيح أن المدينة باردة وأمينة حطب ضروري في فصل الشتاء، لكنني أكره أن يطلب مني أحد االعتراف له بشيء. قلت ألمينة مداعبا: لست مجرما ألعترف لك بجريمتي، لكنها لم تضحك. قلت لها: دعيني أقتلك أولا وبعدها سأعترف للمحققين بحبي لك. ومرة أخرى لم تضحك. مشكلة أمينة هي أنها جدية أكثر من الالزم. صحيح أن جديتها وتفانيها يشعالن النيران في جسدي ونحن في الفراش، وينسيانني ا أن يمزح مع حبيبته، أقصد البرد الذي في الخارج، لكن مع ذلك من حق الواحد من

مع الفتاة التي تتردد إلى بيته من حين آلخر وتعتبر نفسها حبيبته.

تان قص

Page 268: Beirut39 Arabic Anthology

268

لكن يا أمينة، أخبريني لماذا علي دائما أن أعترف؟ لم ال تكتشفين بنفسك إلى أي ج صوتي على الهاتف حينما يشتد البرد وتكونين حد أحبك فقط من نظرتي، من تهد

بعيدة؟ لماذا علي أنا أن أقول كل شيء؟في هذه المدينة عليك أن تثرثر كمذياع دون أن تفعل شيئا، أو تفعل عكس ما ال يحكي دائما عن حذقه بالتجارة، وحينما انقطع التيار تقوله بالضبط. محماد البقالكهربائي بالحي قبل أسبوعين ولجأت إليه، لم أجد عنده ولو شمعة واحدة. مشكور مدير مكتب البريد الذي أعطاني دروسا في األخالق واالستقامة قبل أن ته المصونة في حفل بهيج لحميد النكودي صاحب حانة يطردني من بيته زف در

»الكثبان السبعة.« آه يا أمينة لست مثلهم، فأنا ال أريد شيئا من أحد. حتى جسدك الذي يدفئني في هذا البرد خذيه إلى سرير آخر، واتركيني أخلو إلى نبيذي أقارع به البرد. ل البقاء وحدي على أن أخضع البتزازك السخيف. أرفض أن ينتزع مني أي كان أفضاعترافات تحت الضغط. ال أريد أن أعترف بشيء، فما رأيك؟ دعيني وشأني أرجوك. لكن أمينة التي كنت أظن في البداية أنها ال تعرف كيف تلعب دور الملكة، زوجة

تني إلى صدرها بحنان وهي تشهق: الملك، ضمآه يا حبيبي، نم في حضني ودعني أحتويك. كانت تحضنني إلى صدرها، تدفن رأسي بين نهديها، تقبلني في كل مكان من جسدي وهي تشهق وتبكي وأنا كالمصعوق مستسلم بالكامل، وال أفهم ما الذي حصل بالضبط. كانت أمينة مستغرقة مندمجة غ على صدري ودموعها تسقي عشب جسدي. ثم سمعتها تنشج في الدور وهي تتمر

باكية من فرط التأثر ووجهها مدفون بين فخذي: ني إلى هذا الحد... آه يا روحي، لم أكن أظن أنك تحب

قصة »ثرثرة باألبيض فقط« نشرت ضمن كتاب »من يصدق الرسائل«، دار ميريت، القاهرة 2001قصة »حاطب حب« نشرت في كتاب »تفاح الظل« عن منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، كلية اآلداب ابن امسيك، الدار البيضاء 2006

ياسين عدنان

Page 269: Beirut39 Arabic Anthology

269

يحيى امقاسم

مقطاعين من رواية

ساق الغراب

كان »حمود الخير« يمسك بفأس، لنصلها وميض خاطف، وهو يقتعد قطعة خشب ان يلمع أمامه كسطح غيل كبيرة داخل األحراش، عاريا وواضعا ذكره على حجر صوة، ة الختان، دون اكتراثه للمرحلة األولى من هذه العملي ساكن، وذلك استعدادا لعملي ، إذ يلزمه ابتداء إدخال بعرة بعير من خالل قلفته دافعا بها الحشفة إلى أقصى حدلتحمي ذكره من أي خطأ محتمل، وليأتي النصل على كامل القلفة دون سواها، إال أنه اخل، حاشرة حشفته إلى منبت اكتفى بسبابته عوضا عن البعرة، إذ غرس إصبعه للدقضيبه، ثم عند الحد الفاصل بين ظفر إصبعه ورأس ذكره ضغط بنصل الفأس، وعندما د القلفة على الحجر كجزء من اطمأن إلى أنه خلص إلى بغيته أخرج إصبعه، لتتمدها سريعا، ثم يكمل ختانه عندما يسلخ الجلد من خرقة قماش بالية، وعليه أن يجز

قا بذلك عادة أجداده في الختان. عانته وحول ذكره، وباطن فخذيه، محقب سمع من خالل األحراش، وبعيدا عن نظره، لهاث رجل فيما هو في حالة تأهر، ولن ا سيفعله شيء - كما قر ه لن يردعه عم كأنه يحمل سوءا ال يعلمه، ولكنينهاه أحد عن إثبات رجولته وقدرته على القيام بهذا العمل العظيم، رغم العقاب زه بداخله قائلا لنفسه: »يقتلوني... وه لمن يقوم بختان نفسه. هذا ما عز الذي سن

لكن ما يلمس واحد منهم رجولتي وانا ابن عصيرة.«لم يعر اهتماما ألنفاس ذلك الرجل المتالشية من المكان، وال ريب أنه يراقبه منذ ة«، تلك ته »صادقي دخوله األحراش، وقد اطمأن إلى فكرة أنه عين لوالده أو جديا من يسمع ومن العين التي ال تغادره على الدوام. ثم أردف: »ابن عصيرة« متحدا ال غير، لكن ال يسمع، هذا وهو يعود في فكرة االطمئنان، ألن الرجل قد يكون شرتة منذ أيام خلت، فهو ليس أقل شأنا من سواه في وادي ته المبي ذلك لن يثنيه عن ني

Page 270: Beirut39 Arabic Anthology

270

»الحسيني«.»ابن عصيرة« عبارة تجمل كل أمجاد عشائره في وادي »الحسيني«، وتحديدا تها في قريته »عصيرة«، عاصمة وداعية الوادي، التي ال يستنهضون في أرواحهم أبولهم إال ألمر جلل ال يتراجعون عنه. وعندما صرخ بأنه ابن لتلك القرية استحث من أعماقه مواقد اإلقدام، وأشعل في شخصه فتيل الشجاعة، ليتدفق الدم إلى أعلى د صمت األحراش في تلك الظهيرة ا حماسه على إنهاء األمر، ولم يتبد رأسه حاضمن صراخه بتلك العبارة، ولم تفر الطيور من بين األغصان الكثيفة، إال وقد رفعت يده الحجر اآلخر، وهوت به دون هوادة على رأس الفأس، الذي نفذ نصله لمالمسة الحجر األملس، باترا بذلك قلفته التي قفزت بسهولة على التراب، وشخب الدم

سريعا مبهورا بمخرجه.ه أدرك ى، وهو يستبشر فخرا بما فعل، لكن وقعت الفأس بمحاذاة الحجر المدملت الدماء من حوله بشكل مخيف لم يسبق له أن سمع خطأ فادحا ارتكبه، إذ تشكن جيدا وشعر بوخز مريع، ثم وجد أنه قد بخس حشفته بحالة مماثلة له! تمعرها البيضاوي بمزق نال من طرفها األيمن، وترك هذا المنظر الغريب في نفسه تكوشيئا من الرهبة، فعدل عن إكمال سلخ جلد عانته وباطن فخذيه، كما كان يجب ر في والده الشيخ »عيسى ة، وعدلا لعادتهم في الختان. فك عليه تحقيقا لتمام العمليالخير« الذي سيعالج األمر ال محالة، وبهل في التراب المعجون بالدماء حتى وجد د منافذ األحراش وأي طريق سيكون ضالته الضئيلة من الحشفة، وأسرع في تفقها بأذن أمير »صبياء«. فأعداء والده سلكه آمنا من أعين تتربص به لوشاية ما تدسر كثر وال بد أن تطهيره لنفسه سيكون نكاية بأبيه من قبلهم لدى األمير الذي يحذ

من اقتراف هذا الفعل، وأن القصاص ممن يرتكبه سيكون قاسيا.برغم وصوله خفية إلى البيت إال أن أعين الظالم في القرية ال يمكن مغافلتها، نوا تماما الخطر المحدق، فأسرع والده في هذا في تقدير أهله الذين من فورهم تيقته تطبيب الجرح، ثم تدبرت األم مع إخفاء ابنه عن األنظار، ورتب مع نفر من خاص

. الجارية »زهرة« دفن الجزء المبتور من حشفة الصبيركب الشيخ عند الظهر دابته باتجاه »صبياء«، وتحديدا نحو األمير الذي استقبله ها، مع أنه فوجئ بزيارته، فهو الذي كان يرسل له أكثر من خطاب برحابة يستحقللتداول معه في أي أمر ذي صلة بوادي »الحسيني« فال يجيبه مطلقا، وكل ما يفعله

يحيى امقاسم

Page 271: Beirut39 Arabic Anthology

271

ساق الغراب

ة هو وضعها تحت فراشه، ويأمر جنود األمير بالذهاب، ي الشيخ تجاه الدعوة الخطحاملين منه إلى أميرهم عبارة واحدة: »إذا كان هو بحاجتي فبيتي واسع«، وال يأتيه في مجلسه إال إذا نزل سوق »صبياء« يوم الثالثاء وسمع به األمير، فيسارع هذا األخير ى يلين الشيخ لحيله، فيعبر بدار إلى مقابلته على مضض ويالطف عرش أنفته، حتاإلمارة على عجل، فهو لم يكن يوما ليذهب عنوة إلى مقر اإلمارة، ولم يحمله على

ث األمير في نفسه حين رآه. هذا العمل إال أمر مستطير. ربما هكذا تحدته للخالص من العيون المتربصة به، حين بدأ الشيخ بتنفيذ أهم خطوة في خطدعا األمير وصحبه لحضور »شهرة« ابنه »حمود« عصر غد، الذي سيكون إيذانا ببداية ليالي التشهير بيوم ختانه، وأصر عليه في دعوته ليكون ضمن »المطاليب« ة انشغاله، ، لهذه المناسبة الكبيرة، فاعتذر األمير بحج الذين يدعون، وبشكل خاصل الحضور نيابة عنه وبصحبته بعض عساكره، فأضمر الشيخ وطلب من معاونه األوه لم يظهر فرحه بأي سلوك مبالغ فيه ت بالوكالة، لكن سعادته بهذه التلبية التي تم

ا طواه في نفسه. يكون من شأنه إيضاح بعض مم

***

ونه »القايم«، إلطاللته وا في »الحباطة« نازحين. اختاروا منها مكانا يسم استقرة األرض الصخرية المحيطة، الشاهقة على األودية من الجانبين، وارتفاعه عن بقيفأقيمت عليه بعض البيوت بسواعد النساء واألطفال من القش وجذوع السمر، ولم مة أقيم د. وفي المقد ة المحاربين إال وكل أسرة لها خدرها المشي يصل الشيخ وبقيل في استقرارهم هناك، بعد عقد تفاهم عريش كبير للشيخ، بأمر األم ذات الفضل األوبوا بهم، كما ينبغي لذوي المكانة والجاه العالي مع أعيان تلك الناحية الذين رحأمثالهم، وقد طمأنتهم أن الغزاة ال مكان لهم في ذاكرتها، ولم ينبئ أي كتاب من قبل ة هت شيوخ القبائل وعلى رأسهم قائدهم - ابنها - إلى مغب بحرب كهذه، وأنها قد نبهم لم يعوا حدسها، وهي التي لم يعص لها أمر من قبل هذا، خروجهم من قراهم، لكنة غلبت وشق عليها مخالفة إصرار الرجال وابنها على الخروج من لكن هذه المرواديهم. في الليلة ذاتها التي لحقوا بأهاليهم كانت األم تجتمع في خدرها الصغير ات، ولم يكن مستغربا أن تطرد الجميع بمن فيهم بثالث نساء من مساعداتها الخاص

Page 272: Beirut39 Arabic Anthology

272

أ أحد بالسؤال الشيخ العليل عن جوار ذاك الخدر الضاج بالصياح. كما أنه لم يتجرعن سبب االضطراب الظاهر على وجهها من خالل عبارات الشتم والسباب لكل من شعرت باقترابه منها، أو من النساء الثالث، ولو لمعرفة أسباب الصراخ المنبعث من ة »زهرة« تنبهها فورا القتراب حنجرة امرأة يوجعها المخاض، وكانت جاريتها الخاص

أي شخص يستطلع األمر.وقد تضاربت اآلراء حول اسم المرأة التي يصلهم صراخها وكأنها تسألهم غوثا ال اس فيما بعد أن هناك أكثر من امرأة تصرخ وتستنجد، وراح تجده أبدا، كما تناقل الن

الجميع يفترضون ما استطاعوا، في محاوالت مضنية لمعرفة سر تلك الليلة.في الصباح كان يظهر على األم جهد ما كان ليصيبها - بحسب تقدير ابنها الشيخ ت إليه مسبقا بدواعي ذلك الجهد، ولم يخطر بباله أن يستدرج إحدى - لو أنها أسرالنساء الثالث الالتي خرجن بصمت هلع، فهو لن يخرج منهن بشيء ما دامت األم هي من تقود فريق القبالة طوال الليل، وبين أيديهن امرأتان تضعان حمليهما في ى يحين الحديث كما ل الشيخ السكوت حت ليلة واحدة - كما علم فيما بعد - ففضل في تلك األمور المقدور على إنهائها ترغب هي، كما أنه لم يكن بحال جيدة للتدخ

ة وأنها من شؤون النساء. من دونه، خاصهتهم األم إلى صالة الميت على امرأتين وطفل واحد. ثالث عصر ذلك اليوم وججنازات عناء الليل الفائت، وكانت إحدى المتوفاتين زوجة »بشيبش« الغائب ا المرأة الثانية فكانت مجهولة، وقد جهز الموتى في الخدر ذاته، ثم بأمر عنهم. أمة إحدى المرأتين جوار نزل »الساحلي«، واألخرى والطفل دفنا خارج األم دفنت جثة »زهرة« تتسلل ل الليل كانت جارية األم الخاص نطاق مقامهم، وحين هبط أوي للطفلة الباقية على قيد ناحية واديهم غربا مخبئة فيما حملته معها الحبل السرالحياة، فيما كان رغاء »البارق« - جمل بشيبش - يعلو في سماء المكان فقدا على ا دعاهم إلى شد وثاقه إلى قائم قعادة األم خوفا من أن يسري إلى زوجة صاحبه، ممالقبر ويدك معالمه، كما أن الجمل لن يجر قعادة األم ليلا، فهو يعرفها، وقد أمرت األم »ولد بالل« بأال يطيل في عزفه لحن الموت، كونهم ال يقيمون في ديارهم، وكيال يفجعوا »بشيبش« بصوت الناي الباكي، إذا ما اقترب من مكان إقامتهم ذاك، مع علمها اعة كان يجبر إلى غار يحميه من الليل المطير، ولن يصلهم في أنه عند تلك الس

»القايم« إال ضحى الغد.

يحيى امقاسم

Page 273: Beirut39 Arabic Anthology

273

عشاء في عريش األم، والسماء تهدر بالرعود، كان الشيخ على حالته مثخنا بحزن وحرقة، ومنثنيا عن حادثة الموت والصالة والدفن، ولم تذهب عنه تلك الحالة سوى األم القادرة وحدها على تطبيب كافة آالمه. فعندما شعرت في جواره بصمت

تعرف مغزاه، بادرته تقول: »زوجاتك ماتوا وحقك ما مات... عادوه في مكانه...”ته ومن حضر للتعزية في زوجة م ابتسامة لم يشعر بها سواها رغم وجود خاص تبسهم التخفيف من كمد شيخهم، ثم ليستغلوا ى تلك الساعة، وسر »بشيبش« الغائب حترته بأن عضوه باق رغم موت كل نسائه وآخرهن فرصة مراوغة األم له حين ذكاة قبل سنتين، ولكيال يصمتوا لحظتئذ، علق »سبيع« - ابن األم أم »حمود« المتوفاألصغر - على ما ذكرته العجوز قائلا لها: »ما عاد في حق ولدك اال البول.« وبذلك ضا بعجزه، فعندها ارتفع ر بعضو أخيه »عيسى«، معر زاد »سبيع« من صخب التندت األم على »سبيع«: »أنا ضحك »بن شامي« غير الواعي بحال حزنهم، وبدورها رد

ادرى بولدي يا هين... أرجل منكم كلكم.«ك شيئا بداخله للحديث، دافعت عنه بأنه أكثرهم وفي محاولة أخرى منها لتحرر الحديث بسؤاله عن رجولة، ومع هذا لم يستجب الشيخ لما ذهبوا إليه، بل غيى من بندقيات األسلحة، وما إذا كان النساء الالتي وصلن قبلا بيوم، قد أتين بما تبقدة وصول الجميع وبكل أسلحتهم، وهي تتنهد قليلا ت عليه األم مؤك وذخيرة. ردمتذكرة »بشيبش« وكيف سيستقبل خبر وفاة زوجته، وأضافت: »روحوا معهن لوها في طريقهم متعسرة... يمكن زوجها أسروه قوم بواحدة حبلى في حدها... حص

لول وهو هاربها.« الذة وفزع، سأل رجاله: »من هو زوجها؟” بشد

: »ما نعرفها... كانها من وادي ضمد.« هونت عليه األمه الحديث لها متسائلا: »قالوا لي انكن ولدتن صمت قليلا بفعل االطمئنان، ثم وجحا ب أخوه »سبيع«، مصح ثنتين ماتوا مع ولد واحد وبقي صبى حي... ولد من؟” عق

له جنس المولود، قائلا: »اللي بقيت صبية يا عيسى.«ها عن السؤال، وكأنها تثير انتباههم لالهتمام بما ستقوله، أخذت لت حواس عطر من شيء، وبعيدا عن أي ملمح حت بها في الهواء كمن يحذ بعصاها من طرفها ولوإلجابة عن سؤاله، قالت: »أنتم مقدمين على زمن ما عادوه لكم... صحيح ان هاذوال ما اجوا يحاربون مثل ما تحسبونهم... لكنهم اجوا بشرع غير... حياتنا شا تتغير

ساق الغراب

Page 274: Beirut39 Arabic Anthology

274

كثير... فعينكم بعيالكم ألنهم بعد زمن يهجون مشايم ويخلون بالدهم... يهجون ورا دولة... يطاردون ورق... ويمكن الواحد فيهم ينسى أهله وأرضه وحياته ها هنا كلها... هذا الشام ما عاده زي زمان... فيه دولة جديدة... وشرع جديد... يحكم ظهار

باسلة وبعيدة... واللي مروا هم عسكر لهذيك الدولة.. يصلون حتى زبيد.«وكأن في مسامعهم وقرا بعد حديث األم التي توقفت لتقرأ في صمتهم خشية ك واحد فيهم ساكنا، وكاد وجيب قلوبهم أن يسيطر على ا قالته، ولم يحر عارمة مما سمعوا، فلم يخطر ببالهم أن تسير األمور إلى هذه الدرجة من مجلسهم الهلع ممد أوالدهم، وتقضي على ذخيرتهم في هذه الحياة، ولم دهم وتهد الخطورة التي تهددوا مثل يمعنوا جيدا في واقع كهذا من قبل، أو أن زمنا كهذا سيدركهم، فهم لم يتعوهذه األحداث المثيرة، حيث ذكرت أن هناك دولة قائمة تجوب أراضي كثيرة ويصل راتهم من سلطة ة ستفني مقد ة، وهذه القو ى مدينة »زبيد« اليمني شأن قوتها حت

تها، واألدهى أن هذا الحكم سيستقطب أبناءهم للشمال! لها شرعيات وعن الحكم الجديد الذي يستشري مرورا لجموا بحديث األم عن هذه القو

ببالدهم، وال يعلمون أي مستقبل ينتظرهم في خضم هذه الواقعة الجلل.، مع جمع الشيخ لعابه وقذفه خلف مجلسه، رافضا هذه األفكار التي ذكرتها األمة بثت مرارة ال تحتمل، أنه يعلم تماما قدرتها على كشف ما يجهلونه، وهذه المر

فكيف سيرضون بهذه اإلهانة، وأي قدر ضرير يحل بهم؟!ا هو ج صوته في وجهها وكأنه يسألها تبديل حديثها بقول أكثر تفاؤلا مم تهدعليه اآلن، إذ كان قولا يشوي لحى الرجال ويصفع النساء، يتغلغل في أرواحهم ة واحدة مونها مر ة« التي ييم بفجيعة مهولة. ال يعرفون من الشمال غير »مك، وال يرحل الواحد منهم أبدا غير تلك الرحلة الشاقة التي في العمر ألداء الحجتستغرق شهورا عسيرة، فكيف سيعيشون زمنا فيه أوالدهم يغادرون بذلك االتجاه،

وبعضهم قد ال يعود؟!رون جميعهم في المعضلة ذاتها، هذا السفر الذي سيغدون طريدته السهلة، يفكرونها فريسته المواتية، رغم أنه لم يكن مخيفا من قبل، فلديهم مقولة عريقة يكردائما عندما يناقشون أمرا يتعلق بسفر أحد أوالدهم، تلك المقولة التي صرخ بها ه مشايم خله، وإذا وجه اش« - عند نهاية حديث األم - غاضبا: »ولدك إذا وج »الهبرهم بأمر الموافقة على سفر أحد األوالد من عدمها، فلو كان ميمن أمسكه«، فذك

يحيى امقاسم

Page 275: Beirut39 Arabic Anthology

275

ه شمالا فعلى أهله أن يخلوا سبيله، ألنه سيجد الجوع ويضطر هذا االبن سيتوجر ا إذا كان سيسافر جنوبا، باتجاه اليمن تحديدا، فحينئذ تتعذ لإلياب نحوهم، أمالموافقة، خوفا من عدم رجوعه، فاليمن مشهور بالخيرات وقد تمنعه النعم من العودة للبالد وألهله الذين سيخسرونه عضدا يجابه معهم ويالت الحياة. لذا كيف لهم أن يعتقدوا اآلن أن الشمال بقحطه وموته سيأخذ فلذاتهم بدلا من اليمن؟ وهذا با والحسرة ، حين عاد متعج ما أشعله »الهباش« في قلوبهم الساكنة إلى صبر ممض

: »عسى الزمن انقلب يا صادقية؟!« تنشب أظفارها في قلبه، سائلا األم، والشيخ كان في مركب خشن هذا السؤال أضمره كل قلب حضر حديث األمته، ولم يكترث كثيرا بفكرتهم تلك التي أثارها ها سالمة رعي وأسبابه كثيرة، أهم

ون من األم اإلجابة الشافية عنها. أكثر من شخص في استفسارات متالحقة يوددت األم طويلا، بآهتها المعروفة: »إييييييييهأ...«، ليحل وفي معرض األحاديث تنهدا، وتشق عليهم هذه البادرة للخوف، فال تقدم األم على تنهيدتها تلك الصمت مجدى قالت: »الرجال يموتون.. ما إال لرعب يتسلقها، ولم يفتق الترقب منهم شيئا حت

يبقى اال النساء.«

مقاطع من رواية »ساق الغراب«، دار اآلداب، بيروت 2008

ساق الغراب

Page 276: Beirut39 Arabic Anthology

276

يوسف رخا

مقطع من رواية

المقامة الحاكمية أو المنتحر 20

حدث راشد جالل السيوطي قال:ة منطوية في وضع أن تفتح كبوت عربتك بعدما تقف منك على الطريق، فتجد جثجنيني مكان الموتور، تخيل! ليس هذا ما حصل بالضبط، لكن قياسا إلى أن هذه أول زيارة أعملها للقاهرة من ثالث سنين، ما حصل كان على نفس درجة الغرابة. بعد ذلك، بعدما أعرف بالذي مر به صديق عمري مصطفى نايف الشوربجي، وجعله يغادر القاهرة قبل وصولي بأسبوع – أنا لن أعرف حكاية مصطفى لحد ما أرجع لحياتي الطبيعية كطبيب احتياط في مستشفى بيثنال غرين، شرق لندن، حين يبعث لي باإليميل »پي-دي-إف« مخطوطة ضخمة دون فيها انفصاله عن امرأته وما تاله، ه مع سطر واحد في شباك الرسالة يتساءل إن كنت بعدما أقرأ المرفقات سأظنمجنونا*، سيتأكد لي أني لم أخترع تلك الليلة على طريق صالح سالم، تحت ضغط مشروع زواجي أنا، واإلكثار من التفكير في أكبر عقبة أمامه. يعني أنا أسكن جوار عملي في بيثنال غرين، ومن وقت انتقلت إلى هناك سنة 5002، قبل سنتين تقريبا، وأنا أعيش مع زميلة درزية أحبها وكان زماني تزوجتها لوال أن أهلها مستحيل أن يخلوها تتزوج غير درزي، فلما طلع لي شبح المنتحر لحما ودما يقول إنه التجسد رقم 19 لروح اإلمام الحاكم بأمر اهلل الذي يؤلهه الدروز، شككت بأني أهلوس نتيجة التفكير في ذلك والقراءة عن تلك الديانة المجهولة، وأن هذا سبب حرماني من تأسيس أسرة مع حبيبتي. أصلا ساعات ينتابني الفزع من أن أكون، بعالقتي مع البنت هذه، فعلا تعديت على حرمة ما أو قداسة. ومع أن المكتوب في »پي-دي-إف« مصطفى ما كان يمكن أن يخطر لي أثناء وجودي في القاهرة، فطنت بعد مكالمتي الثانية لوالدته - الشخص الوحيد الباقي لمصطفى صلة حقيقية به هناك - إلى أن

Page 277: Beirut39 Arabic Anthology

277

المقامة الحاكمية أو المنتحر 20

ما جرى له قد يشبه ما رأيته أنا في الليلة تلك.»ومن أقر أن ليس له في السماء إله معبود، وال في األرض إمام موجود، إال موالنا

الحاكم جل ذكره، كان من الموحدين، الفائزين.«من نص عهد الدعوة الدرزية لحمزة بن علي المعروف بـ«ميثاق ولي الزمان«.

ليلتها عرفت أن اختفاء سادس وأغرب أئمة بني عبيد اهلل )الفاطميين( – ذلك الطاغية المتقشف الذي حرم على الناس أكل الملوخية، وألزم النساء البيوت، ثم ب ر« في مدينة مصر القديمة )كان يقوم بتصفية كل من تقر عمل »جينوسايد صغيإليه( – اختفاء هذا المجنون الملهم لم يكن إال انتحارا تلى ظهور الدعوة الدرزية، د البشري لإلله الواحد. أن توقن بأنك أنت اهلل – هكذا قال لي التي قالت إنه التجسالمنتحر – ال بد أن يؤدي ذلك إلى االنتحار، فكيف يعيش اهلل بين الناس حتى لو كان إمامهم؟ واالنتحار هذا – شرح لي – يتكرر مرة كل خمسين عاما منذ حدوثه األول ية، سنة 1021 تكون روح الحاكم حلت بشخص عادي له جذور في القاهرة المعزوبعد أن ينتحر بدوره يتجلى لوريثه، ويكون مر على انتحاره خمسون سنة بالتمام، رت ساعتها أن أبي وأمي ولدا وعاشا ليخبر ذلك الوريث أنه التالي في الترتيب. تذكجا غير بعيد من جامع الحاكم ذي المئذنة التي تشبه جذع عمرهما كله إلى أن تزوعي أنه من شجرة عجوز يطل وراء حائط مفرود كالمالءة، وأن جدي ألبي كان يدنسل شيخ حارة برجوان )ذلك المكان المسمى على اسم أشهر خصيان الحاكم، وأحد ضحاياه( فيقول الرجل العجوز نصف مازح إن تاريخنا في المنطقة يعود أليام المماليك.. هكذا في أول زيارة بعد غياب ثالث سنين إلى مسقط رأسي وأحلى أيامي ل نفسي أموت نفسي بسيف اإلمام العزيز – وأنا عاشق درزية – كان علي أن أتخي

باهلل، أبي الحاكم، بصفتي )ويا خرابي( المنتحر 20.ثم استطرد راشد السيوطي يتذكر حديث المنتحر:

الذي يموت وحده، ال يعرف، ال يرجف بالمفاجأة أو يعميه البريق. )هذا ما قاله لي المنتحر 19 في طريق الرجوع، لما وقفت العربة، كأن كهرباءها فصلت على طرف الطريق بموازاة القرافة، وكان مكانا مظلما، لكني شددت الفرامل وخرجت أفتح الكبوت فإذا بضوء السماء يتغير لحظيا، كأن الصبح طلع لمدة ثانية ثم غاب، برقت م من فوقي كأنها أصبحت فوسفورية، وشيء ككف اليد خاللها حجارة جبل المقطيخزني في كتفي، لما نظرت حولي لم أجد له أثرا. حين عدت إلى مقعد القيادة،

Page 278: Beirut39 Arabic Anthology

278

ك يائسا، فإذا إلى جواري شاب مهندم في بدلة كاملة موديل أحاول أن أدير المحرريترو وفي يده مسبحة... بدأ يتكلم على الفور(. الذي يموت دون أن يملك موته في يده، ال تهزه البهجة الخرافية لمغادرة الحياة. وحده المنتحر هو الخالد الباقي، ومن أين لغيره بفرحة اليقين؟!.. أنا أكلمك عن خبرة، صدقني: أنت لن تموت ككافة الناس. ستموت نفسك بنفسك في اللحظة الحاسمة، واللحظة الحاسمة دائما فيها اآلخرون. أكلمك، مع أني لم أدبر لذلك، ألني مت بحضور أبي وأختي وخليلي، في ية قبل وقت الحوش الحاوي قبر أمي أيضا وراء باب النصر، حيث كانت القاهرة المعزطويل – اآلن هنا طبعا ال شيء اسمه وقت، لكن ليس غير لغتكم للتفاهم – وكانت أختي تظنني أقتلها بالسيف وأبي مريض بالداخل، لكني سأناديه حتى يخرج قبل موتي بدقيقة واحدة. كل األرواح السائحة على روحي، أقول لك، شهدتني أعبر. بحسابكم كان عمري وقتها أربعة وعشرين، ولوال أني جل ذكري من النسل المقدس، ما كنت فطنت لروعة الذهاب مبكرا، أو علمت أن كل شيء حدث، حدث لكي يؤدي بشكل ال يقلل من حتميته أنه غير واضح وغير منطقي، إلى لحظة واحدة فقط من دها لي سلفي بدقة، تحت سنة 1958، لحظة ثبت رأس السيف في النقطة التي حدثديي األيسر وعلى بعد عقلة إبهام إلى اليمين. كانت يداي حول المقبض وذراعاي ممدودتين، كأن جذعي النحيل في الجلباب األسود أصبح قوسا مشدودا، ومتشبثا بقدمي الحافيتين في األرض الرملية، مرة واحدة، شددت. أنا الكامل الذي يجيء

موته منه، الحامل من ساعتها سيف العزيز باهلل، اسمع حكايتي.ومحاكيا الهمذاني والحريري، قال:

جئت القاهرة في زيارة. وصحبة صديقي الحقيقي مصطفى، نويت أمشي من حارة لحارة. كان هذا ما اتفقت عليه وإياه: أن نشاهد ما بقي في القاهرة من مجد إسالمي وجاه. وأنا لي في إنكلترا سبع سنين، نزعت أثناءها عصب الحنين. »إنه من زمان أول لقاء بدرش، تقولش سلطان راجع إلى العرش.« فراعني أن ال أجده في الديار، وكأن مدينتي زايلها العمار. نقض اتفاقنا ابن القديمة، فأسلمتني الدهشة لتنا في غبرة وتراب، وسط قاهرة المعز بين باب وباب. ألحزان عظيمة. بحنين تخيحتى قلت في عقل بالي: ملعون أبو مصطفى، سأستأنس بالكاميرا والسجائر وكفى. وأخذت عربة أبي ذات ليلة ذاهبا، فما كدت أذهب حتى رجعت تائبا. فإن ما رأيته في زيارة باب الفتوح، يخيف أبا الهول نفسه لو يبوح. وحتى أكتشف أن مصطفى

يوسف رخا

Page 279: Beirut39 Arabic Anthology

279

هو اآلخر معذور، إذ له مع الجنون قبل دوري دور... )لكن شيئا ال يدفع على حكي الحكاية، إلى أن تتسنى قراءة الپي-دي-إف/الرواية.( من غير ترتيب وال تمحيص

أقول، وقد أصاب أعضائي، من الرهبة، الخمول:

كان في درب النشـور من بطيف الموت يشقى ـل بالعبـور أن أعـج من دواعي قـتل نفـسي

أمضيت خمسة أيام فقط بعد الحدث في القاهرة، ومهجتي بصدمة اللقاء ورهبته حائرة. وانتظمت في جلسات األقارب على الموائد، مداريا كل ما ألم بزيارتي من شدائد. طوال الوقت لم يلهني شيء ظهر أو خفى، عن مواصلة التفكير في غيبة مصطفى. ومنذ وجدت موبايله مقفولا ليلة وصولي، ليس سوى والدته أرمي عليها ر من الليل، فإذا في صوتها إلى البؤس متها على الفور في وقت متأخ حمولي. كلوالحيرة ميل. ثم عدت وكلمتها بعد ظهور وريث اإلمام، وقد بقي على عودتي إلى إنكلترا ثالثة أيام. فكررت علي كيف غادر مصطفى فجأة في إبريل، بعد ثالثة أسابيع منذ أن وجد إلى بيتها السبيل. وكان رجع يعيش معها بعد انفصاله عن زوجته، ثم سارع بالطالق تعبيرا عن نقمته. بعد مغادرته – هكذا روت لي – لم يتصل سوى رت وأنا أسمعها مرة من بيروت، يطمئنها على حاله، ويؤكد لها أنه لن يموت. وفكتحكي معي بكبد: إحساسها أنها فقدته إلى األبد. األمر الذي أكده اختفاؤه المريب،

وأنه على »إيميالتي« ظل ال يجيب.حتى عاد مجددا إلى حديث المنتحر:

لن يهم اسمي أو نسبي. المهم أن جثماني اختفى حال موتي بسيف العزيز. لتعلم أن السيف سيصلك أنت أيضا، وحال تغرسه في مكانه ال يعثر لك على أثر. أنا وثمانية عشر منتحرا قبلي نثبت لك ذلك بالدليل. بوسعك أن تعرف إن سألت، فحدث واحد كل خمسين سنة ال يلفت إليه األنظار الفانية. أنت خائف ألنك لم توقن بعد أنك ها حياتك، بما الخالد الباقي، وال أن كل شيء يحدث في تلك الغرفة الضيقة التي تظنك في وجودي وارتباكك من مشهد الجبل في ضوء عينيك فيه تماثلي أمامك وشك– لن يتجلى الضوء ثانية، حتى تموت، فيصير بصرك القدسي – كل شيء يحدث، يحدث لكي يؤدي إلى لحظة واحدة من سنة 2008 )هكذا مضى المنتحر يحدثني

المقامة الحاكمية أو المنتحر 20

Page 280: Beirut39 Arabic Anthology

280

فيما كنت، برعب يرج جسدي ويشله تباعا، ال زلت أنكر وجوده إلى جواري فال أنظر إليه وأعافر بلهوجة مع الكونتاكت حتى يدور المحرك. ضحك المنتحر ضحكة واحدة قصيرة ثم مد يده، ليريني البقعة التي يجب أن أغرس فيها سيف انتحاري. ب شيئا مثلها طول حياتي. في وشعرت إثر مالمسة إصبعه صدري بدغدغة لم أجرضة لالنتهاء، كأنها المالمسة متعة، دون أن تنطوي على جهد أو غريزة أو تكون معرع بكلتا يديك، وتكون صوبت األورجازم(. عليك أن تمسك المقبض الذهبي المرصطرف النصل إلى صدرك، تحت ثديك األيمن مباشرة ولكن على بعد مسافة عقلة إبهامك إلى اليمين. عليك أن تميل كالقوس وتثبت قدميك في األرض ثم، مرة واحدة،

تشد. )وما كاد يسحب يده حتى أنشد يقول:

لم أبدأ أفهم حتى اعتقدت أني فهمتوصرت أرى األشياء كأنما بعيني بوذا

تلك الرسمة الطفولية الشاخصة بأحجام ضخمةعلى الجدران الخارجية للمباني

ترى من كل شيء كل شيء(.

اني مصدوما فيهما، أختي وخليلي، ألن موقفي بالسيف تلى اكتشافي لهما لعلهما ظنفي ظالم الحوش قبل ليلة واحدة بالتمام، حين دخلت حافيا وكلوب الكاز في يدي ألجد ساقي أختي كأنهما مرفوعتان على شيء واطئ تحت جلبابها المنحسر، وكانت دة على ظهرها في األرض، فال أثر لنصفها األعلى من بعيد، تتأوه بحرقة كأنها ممدتنتحب. عرفتهما، ساقيها. )هكذا واصل المنتحر بعدما أمرني بابتسامة فاترة أن أدير المحرك، فانطلقت العربة فعلا وإذا بصالح سالم كأنه يقول: أنا أسوق بسرعة عالية كي أخرج من هذه المنطقة المظلمة، لكني أظل سائقا وال أتقدم سنتمترا. حين ينتهي من كالمه، دون أن أدري، سيعود صالح سالم إلى طبيعته، وأعرف أني خرجت فعلا من البقعة التي التقيته فيها... ودون أن أدري أيضا سيكون قد اختفى( فلم أتبين ما ة يسندهما من أسفل حتى اقتربت وانحنيت: كان خليلي يزحف على بطنه كالحيا شهقت فرفعها، رأيت فرج أختي ورأسه مدفون بينهما، كتفاه تحت الفخذين. ولما ومنتفشا في ضوء الكلوب، ولعاب خليلي يقطر من حوله، وقد علق الحليق محمر

يوسف رخا

Page 281: Beirut39 Arabic Anthology

281

جا فعلا دون أن جا! ثم استدرت. لقد تزو جا، تزو بجذور الشعر. صرخت فيهما: تزويعرف أبي بالواقعة... لكن كان عليهما أن ينتظرا سبع سنين بعد انتحاري المفاجئ.

هما الدفين. وسيظل في قلبيهما شك حتى يموتا بأن السبب هو سر

ا إلى بداية حكايته، حدث قال: ثم مرتدمن أول يوم كنت قررت أن أؤجل األوضاع العائلية التي تنتظرني مع كل زيارة، فتحججت بأني أفضل االنفراد بأمي وأبي وإخوتي بعد الفراق. وأمضيت أسبوعا أتنقل بين بارات الزمالك وقهاوي وسط البلد، أستعمل عربة أبي »الرينو« المركونة معظم الوقت، بعدما كشف عليها الميكانيكي – وكان أداؤها يعتمد عليه بشهادته وتجربة

أسبوع – حتى جاء في بالي أن أذهب وحدي إلى باب الفتوح فحدث ما حدث.نسكن في مصر الجديدة، في عمارة بنيت أواخر الخمسينات، أيام عاش المنتحر 19 في باب الفتوح، جنبا إلى جنب مع أبي الذي بلغ الخامسة والسبعين قبل سنة. نعم، هذا ما خطر لي أولا، حتى تذكرت حكاية كانت تتردد بتنويعات مختلفة في ما فتحت معها تها، حكاية كانت أمي تنفيها بغضب كل د من صح العائلتين دون أن أتأكالموضوع، وأبي ينفي معرفته بها باقتضاب غريب عليه: أن خالي فتحي، الوحيد بين ارة، ة، ألنه مات شابا، والمفروض أنه مات في حادثة سي إخوة أبوي الذي لم أره وال مررغم أن الغموض المحيط بموته من النوع الذي يقترن بجرسة أو شيء يخيف، وليس ثم ما ينفي بشكل قاطع أنه انتحر. كان خالي فتحي ضبط أبي وأمي معا في وضع مخل وهما بعد شابان ال تربطهما معرفة معلنة، بينما أبي صديقه الروح بالروح. د من خيانة صديقه وفجر أخته الصغرى، هناك من يقول إنه مات كمدا بعد أن تأكمت العائلتان على الجريمة ألنهما قريبتان وهناك من يقول إنهما تخانقا فقتله أبي وعتأ دا من الذكرى مئة في المئة، لكن تهي وحريصتان على تجنب الفضائح. لم أكن متأكرت لي أيضا أني سمعت من يقول إن خالي فتحي رجل مبارك وإنه حين مات تبخ. ما ته، فصعدت مباشرة إلى السموات، فقد رفعها اهلل إليه كما رفع عيسى النبي جثتي ألمي فعلا ماتت حين كانت أمي ال تزال طفلة صغيرة، وأن قبرها ي أن جد أكد شكفي األرض التي كان يملكها جدي بباب الفتوح. )لم أفلح خالل جولتي في الوصول إلى قبر جدتي ألمي.( الصراحة: خفت. وزاد الخوف في قلبي لدرجة أني لم أجرؤ على

ذكر أي شيء ألبي أو أمي، خالل أيامي الخمسة األخيرة في القاهرة.

المقامة الحاكمية أو المنتحر 20

Page 282: Beirut39 Arabic Anthology

282

نسكن في مصر الجديدة، أقول، ومن أكثر األشياء التي كنت أفتقدها في إنكلترا إحساس طريق صالح سالم الذي ال بد من المرور ولو على جزء منه في أي رحلة أعملها من أو إلى بيتنا بالعربة: أنك فوق جسم الثعبان الذي يسعى على ظهر القاهرة كلها – من الشمال حيث نسكن إلى جزيرة الروضة المحاذية لمصر القديمة في الجنوب – وكأنه عمود فقري قابل لالنخالع... أنا ركنت بعيدا على الجانب المقابل يت بحذر، ومددت الخطى من الشارع ناحية مطعم زيزو المشهور بالسجق، ثم عدج على المباني القديمة كأني عشت فيها أيام فلم أعد إال بعد ثالث ساعات. كنت أتفر

ها، وأحسست بألفة عنيفة مع مكان لم أعرفه إال لماما. عزم، ثم لم ير »ركب الحاكم ذات مساء في بعض جوالته الليلية، وقصد إلى جبل المقطبعد ذلك قط ال حيا وال ميتا، ولم يعرف مصيره قط، ولم يوجد جثمانه قط، ولم تقدم إلينا

الروايات المعاصرة أو المتأخرة، أية رواية حاسمة عن مصرعه أو اختفائه«»الحاكم بأمر اهلل وأسرار الدعوة الفاطمية«، محمد عبد اهلل عنان 1983

مرت اآلن ثالثة أشهر وهناك ابتهاج زائد في عالقتي بحبيبتي. كنت فكرت فيها طويلا ويدي تحتك بالجدران التي حلمت برؤيتها منذ كانت طفلة في مدينة السويداء، سوريا، وحتى بعدما جاءت إلى مانشستر مع أسرتها في الخامسة عشرة )هي لم تزر مصر أبدا مع أن حكاية الحاكم طبعا حاضرة عندها، بالذات نهايته: أنه م ولم يعد، ثم لم يجدوا له أثرا إال الجباب خرج بحماره يتطلع في النجوم على المقطالسبع التي كان يلبسها، أزرارها لم تفك ومعكوكة بالدم. كانت ملقاة في الخالء وقيل تحت ماء بركة في حلوان(. لكن إلى اآلن ما زلت أتجنب أي حديث معها عن زيارتي األخيرة إلى القاهرة. في البداية ما كان يخطر لي أن طلوع المنتحر ممكن أن يكون أهم عندي من زواجنا، لكن مع الوقت – وبعد أن انتهيت من قراءة پي- دي- إف مصطفى، بالذات – بقيت شبه متأكد أنه صار فعلا أهم. ما هالني – بعد ذكرى أو اثنتين ألشياء لم تحدث لي أصلا – أن أجدني مطمئنا، إن لم أكن متحمسا، لفكرة قتل نفسي، بالضبط كما تنبأ المنتحر. أول من أمس، في الذكرى السنوية الثانية لقرارنا أن نسكن معا من وراء أهلها، جاءتني حبيبتي بهدية لم أتوقعها منها بالذات ولم أتوقع أبدا أن تفرحني إلى هذا الحد. كنت مشغولا أمام الكمبيوتر حين دخلت الشقة، فرحبت بها دون أن أرفع عيني عن الشاشة وإذا بقطعة معدن مستطيل تلمع قت رأسي بذراعيها وفي يديها ما كاد أمام عيني. هي تسحبت من وراء ظهري وطو

يوسف رخا

Page 283: Beirut39 Arabic Anthology

283

يغمى علي حين نطقت اسمه: سيف العزيز. ثم وضعته على الطاولة تقول إن أباها مصدق أنه كان ملك العزيز باهلل بالفعل، مردفة أن عمره ال يمكن أن يكون أكثر من ألف عام بالقياس على الحالة الجيدة التي هو عليها. كانت عثرت عليه في خزينة أبيها وتوسلت إليه حتى أعطاه لها، فخبأته في كبوت عربتها حتى يوم عيدنا. ببطء مددت يدي أرفعه من المقبض الذهبي المرصع وبدا جديدا كأنما صنع أمس. وقربت نظري من النصل فظهر لي أنه أمضى من أن يكون صنعه بشر. سرحت قليلا وبدا

وجه حبيبتي مالئكي الجمال حين أفاقتني سائلة: أعجبك؟

فصل من رواية جديدة قيد االنجاز

المقامة الحاكمية أو المنتحر 20

Page 284: Beirut39 Arabic Anthology

284

المؤلفون

أحمد سعداويولد في بغداد عام 1973. روائي، وشاعر، ورسام، وصحفي عراقي. عمل كاتب ريبورتاج في العديد من الصحف والمجالت والمؤسسات الصحفية المحلية. عمل مراسلا للبي بي سي في بغداد 2005-2007. يعمل حاليا في كتابة األفالم الوثائقية وإعداد البرامج التليفزيونية وكتابة السيناريو في بغداد. ينشر عمودا ثقافيا أسبوعيا في صحيفة »الصباح الجديد« البغدادية. له روايتان: »البلد الجميل« بغداد 2004 و«إنه يحلم، أو يلعب، أو يموت« عن دار المدى، دمشق 2008. حاز الجائزة األولى في

فرع الرواية بمسابقة الصدى اإلماراتية بدبي 2005 عن روايته »البلد الجميل«.

أحمد يمانيشاعر ومترجم مصري مقيم في مدريد. مواليد القاهرة عام 1970. حاصل على دبلوم الدراسات العليا DEA من جامعة Complutense في مدريد عام 2008. بدأ في نشر قصائده منذ عام 1989 في المجالت والجرائد األدبية في العالم العربي. حصل عام 1991 على الجائزة األولى في مسابقة رامبو التي نظمتها مجلة »إبداع«، بذكرى مرور مائة عام على وفاة الشاعر أرتور رامبو. صدرت له أربعة دواوين شعرية: »شوارع األبيض« 1995، »تحت شجرة العائلة« 1998 »وردات في الرأس« عن دار

ميريت، القاهرة 2001 »أماكن خاطئة« ميريت، القاهرة 2008.

Page 285: Beirut39 Arabic Anthology

285

إسالم سمحانولد في مدينة الزرقاء باألردن في 11 يونيو 1981. تلقى تعليمه في مدارس وجامعات األردن، ويعمل حاليا محررا ومديرا للقسم الثقافي في جريدة »العرب اليوم« اليومية. أصدر أول ديوان عام 2008 بعنوان »برشاقة ظل« وشنت عليه حملة تكفيرية، ولوحق أمنيا وقضائيا بتهمة اإلساءة لألديان. والشاعر ينتظر اآلن إما قبول االستئناف، أو تنفيذ الحكم الصادر بحقه، وهو السجن لمدة عام وغرامة 15 ألف دوالر أمريكي. صدرت له

مجموعة شعرية باإليطالية بعنوان »لمن تحمل الوردة؟« ترجمها فالنتينا كولومبو.

باسم األنصارولد في 1970 في بغداد، العراق. حصل عام 1994 على بكالوريوس إدارة أعمال من الجامعة المستنصرية في بغداد. بدأ نشر نتاجه األدبي منذ بدايات التسعينيات في الصحف والمجالت العراقية والعربية. صدرت له المسرحية الشعرية »رجل الصفصاف« بغداد 1997. وقد صدر ديوانه األول »ترانيم ابن آدم« في دمشق عام

2007. يقيم في الدانمارك منذ العام 1998.

جمانة حدادمواليد بيروت 1970. شاعرة، ومترجمة، وصحافية لبنانية. محررة القسم الثقافي في جريدة »النهار« اللبنانية، ومديرة إدارية لجائزة البوكر العربية. باإلضافة إلى ذلك، رئيسة تحرير مجلة »جسد« المتخصصة في آداب الجسد وفنونه. أصدرت تسع مجموعات شعرية منذ العام 1995. ولها في الترجمة: »لمسات الظل«، 2002، شعر، ايمانويل ميناردو، عن اإليطالية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. »بيروت عندما كانت مجنونة«، 2003، رواية، »أنطونيو فيراري«، عن اإليطالية، دار النهار للنشر، بيروت. »هناك حيث يشتعل النهر«، »أنطولوجيا الشعر اللبناني الحديث« باإلسبانية – »سيجيء الموت وستكون له عيناك: مئة وخمسون شاعرا انتحروا في القرن العشرين«، 2007، دار النهار للنشر والدار العربية للعلوم، بيروت.

نالت جائزة الصحافة العربية في دبي عام 2006.

المؤلفون

Page 286: Beirut39 Arabic Anthology

286

حسين العبريكاتب وطبيب عماني، من مواليد 1972. نشر ثالث روايات: »ديازيبام« 2000، »الوخز« 2005 و»المعلقة االخيرة« 2006 عن دار االنتشار العربي في بيروت، باإلضافة الى مجموعته القصصية التي نشرت عام 2003 بعنوان »نوافذ وأغطية وأشياء أخرى«.

حاصل على وسام السلطان قابوس لألدب والفنون عام 2007.

حسين جلعادمواليد مدينة إربد - االردن عام 1970. شاعر وصحفي أردني، يعمل محررا صحفيا في شبكة الجزيرة الفضائية في الدوحة - قطر. عمل سابقا محررا ثقافيا في صحيفتي »العرب اليوم« و»الرأي« األردنيتين. راسل عددا من الصحف العربية مثل »القدس العربي« في لندن. صدر له: »العالي يصلب دائما« شعر عن دار أزمنة في عمان 1999. »كما يخسر األنبياء« شعر، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت

2007. يكتب حاليا في صحيفة »النهار« اللبنانية.

حمدي الجزارروائي وقاص مصري. ولد عام 1970 في القاهرة. حصل على ليسانس اآلداب فى الفلسفة من جامعة القاهرة 1992، صدرت روايته األولى »سحر أسود« عن دار ميريت فى طبعتين: 2005 و 2007وطبعة ثالثة عن دار الدار 2007، ونالت روايته جائزة مؤسسة ساويرس لألدب المصري في الرواية عام 2006، ثم صدرت باإلنكليزية عن مطبوعات الجامعة األميركية في القاهرة 2007. في العام 2008 صدرت روايته الثانية عن دار الدار. نشرت نصوصه في مجالت أدبية بارزة مثل »Banipal« في لندن، و »TriQuarterly« في شيكاغو. شارك حمدي الجزار فى برنامج الكتابة الدولية »International Writing Program« بجامعة أيوا بالواليات المتحدة األميركية، ونال زمالته 2007. يعمل مشرفا على مركز أبحاث القناة الثقافية

بالتليفزيون المصري.

المؤلفون

Page 287: Beirut39 Arabic Anthology

287

ديمة ونوسمن مواليد دمشق 1982، درست األدب الفرنسي في جامعة دمشق. كتبت في الصحافة العربية مثل »السفير« و»األخبار« في بيروت. لها مقاالت عديدة في المجالين الثقافي والسياسي. عملت عدة سنوات في مجال الترجمة اإلخبارية. صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان »تفاصيل« في العام 2007 عن دار المدى. شاركت بكتابة تعليق في الطبعة الجديدة لكتاب »النقد الذاتي بعد الهزيمة« للمفكر صادق جالل العظم، الذي أصدرته دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع في العام 2007. في العام 2008 صدرت روايتها األولى »كرسي« عن دار اآلداب البيروتية. تعمل حاليا معدة ومقدمة للبرنامج

الثقافي »أضواء المدينة« في قناة »المشرق« الخاصة.

ربيع جابرمن مواليد بيروت 1972. تخرج من الجامعة األمريكية عام 1993 بدرجة بكالوريوس علوم الفيزياء. يعمل محرر الملحق الثقافي االسبوعي »آفاق« في جريدة الحياة منذ سنة 2001. صدرت روايته األولى »سيد العتمة« عام 1992 وحصلت على جائزة مجلة الناقد للرواية في 1992. منذ ذلك الوقت أصدر 16 رواية، منها »شاي أسود« 1995، »رالف رزق اهلل في المرآة« 1997، »يوسف اإلنجليزي« 1999، »رحلة الغرناطي« 2002 صدرت باأللمانية في برلين في 2005. »بيروت مدينة العالم« الجزء األول 2003. »بيريتوس: مدينة تحت األرض« 2005 الترجمة الفرنسية صدرت في 2009 عن دار غاليمار. بيروت مدينة العالم« الجزء الثاني 2005. »بيروت مدينة العالم« الجزء الثالث

2007. »االعترافات« 2008 وروايته األخيرة صدرت عام 2009 بعنوان »أميركا«.

رندا جرارروائية، ومترجمة، وكاتبة قصص قصيرة تكتب باللغة اإلنكليزية. من أصل فلسطيني و لكن نشأت في الكويت ومصر وانتقلت الى الواليات المتحدة عام 1991. حازت كتاباتها القصصية على عدة جوائز. روايتها األولى: »خارطة البيت« 2009 صدرت في ست لغات، ونالت الكثير من االهتمام ومديح النقاد وحازت على جائزة هوبوود، وجائزة غوزلينغ وجائزة الكتاب العرب األميركيين. تعمل حاليا على رواية جديدة

ومجموعة قصص قصيرة.

المؤلفون

Page 288: Beirut39 Arabic Anthology

288

روزا ياسين حسنولدت في دمشق في العام 1974. درست الهندسة المعمارية وتخرجت في العام 1998. بدأت الكتابة في العام 1992 وفازت لسنتين متتاليتين في مسابقات تقيمها الجامعة للقصة القصيرة. ثم نشرت أول مجموعة قصصية لها في العام 2000 بعنوان »سماء ملوثة بالضوء«. فازت روايتها األولى »أبنوس« في العام 2004 بجائزة »حنا مينه للرواية« وصدرت الحقا باأللمانية عام 2009. صدرت روايتها الثانية »نيغاتيف«: من ذاكرة المعتقالت السياسيات في العام 2008 في القاهرة عن مركز القاهرة لحقوق اإلنسان. وعن دار رياض الريس في بيروت، صدرت روايتها الثالثة »حراس الهواء«

.2009

زكي بيضونولد عام 1981 في مدينة صور )لبنان(، حاصل على الماجستير في الفلسفة من جامعة سان دينيس، في باريس 2007. صدر له ديوانان، األول: »جندي عائد من حرب البكالوريا« عن دار االنتشار العربي 2002، والثاني »ملعب من الوقت النائم« عن دار النهضة البيروتية 2005. وفي الرسم، أقام زكي بيضون معرضه األول عام 1995 في مركز معروف سعد الثقافي في صيدا، والثاني في صالة »زيكو« في بيروت

عام 2003.

سامر أبو هواششاعر، وروائي، ومترجم فلسطيني. ولد في صيدا بالجنوب اللبناني عام 1972. يحمل دبلوما في اإلعالم من الجامعة اللبنانية، 1996. أصدر منذ العام 1997 ست مجموعات The Life« شعرية وثالث روايات. وفي الترجمة، قام بترجمة ثماني روايات منهاof Pi« ليان مارتل The Buddha of Suburbia« ،2004« لحنيف قريشي 2006، وترجم األعمال القصصية الكاملة لوليم فوكنر وصدرت عن دار اآلداب عام 2009. يعمل منذ العام 2000 على ترجمة الشعر األميركي، وقد صدرت ترجماته لخمسة ا أميركيا في العام 2009 باالشتراك بين مشروع كلمة ودار الجمل. يعيش عشر شاعرا للكتب في هيئة منذ العام 2004 في اإلمارات العربية المتحدة، حيث يعمل محرر

أبوظبي للثقافة والتراث.

المؤلفون

Page 289: Beirut39 Arabic Anthology

289

سمر يزبكولدت في مدينة جبلة عام 1970. تعمل في مجال الصحافة والتليفزيون. نشرت مجموعتها القصصية األولى في دمشق عام 1999 بعنوان »باقة خريف« ثم ألحقتها بمجموعة أخرى بعنوان »مفردات امرأة« عام 2002. ثم اتجهت الى كتابة الرواية فنشرت ثالث روايات: »طفلة السماء« 2002، »صلصال« 2005 و»رائحة القرفة« عن دار اآلداب 2008. روايتها الثانية »صلصال« نالت اهتماما إعالميا، وأعيد طبعها

أربع مرات. وتكتب سمر يزبك، سيناريوهات ومسلسالت للتليفزيون.

عبد الرحيم الخصارولد في آسفي، المغرب عام 1975. نشر قصائده في العديد من الصحف والمجالت والمواقع اإللكترونية المهمة. أصدر عام 2004 مجموعته الشعرية األولى »أخيرا وصل الشتاء« مع تنويه من بيت الشعر المغربي. ثم »أنظر وأكتفي بالنظر«، عن دار الحرف للنشر والتوزيع بالمغرب 2007 و»نيران صديقة« عن دار النهضة بيروت 2009. ترجمت قصائدة إلى عدة لغات. يعمل مراسلا ثقافيا لعدة صحف عربية ويعمل

أستاذا في التعليم الثانوي منذ عام 1999.

عبد الرزاق بوكبةمن مواليد 1977 بأوالد جحيش شرق الجزائر.حاصل على بكالوريا آداب عام 1996. أصدر: »من دس خف سيبويه في الرمل؟« وهي نصوص إبداعية عن المكتبة الوطنية الجزائرية ودار البرزخ 2004. كما أصدر »أجنحة لمزاج الذئب األبيض« نصوص إبداعية عن دار ألفا 2008. عمل مستشارا للمكتبة الوطنية من 2003 الى 2005. حصل على جائزة رئيس الجمهورية للشعر عام 2007 وعلى جائزة الكتابة

المسرحية عام 2009. »جلدة الظل« هي روايته األولى.

عبد العزيز الراشديروائي وقاص مغربي. ولد في تالبرجت في المغرب عام 1978. حاصل على إجازة تخصص أدب عربي من جامعة ابن زهر كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بأغادير المغرب. نشر في العام 2004 أول مجموعة قصصية بعنوان »زقاق الموتى« تبعها بمجموعة

المؤلفون

Page 290: Beirut39 Arabic Anthology

290

أخرى عام 2005 »طفولة ضفدع« التي نال عنها جائزة اتحاد كتاب المغرب. في العام 2006 صدرت في الشارقة روايته االولى »بدو على الحافة«، وأعيد نشرها في بيروت وصدرت عن الدار العربية للعلوم، 2008. وله أيضا مجموعة قصصية بعنوان »وجع الرمال«، نشرت في السعودية عام 2007، وآخر عمل له صدر عن منشورات وزارة الثقافية المغربية بعنوان »غرباء على طاولتي« وهو عبارة عن

نصوص أدبية. حصل على جائزة الرواية للعام 2006 في الشارقة.

عبد القادر بن علي1975 في المغرب، وجاء الى هولندا وهو في ولد عبد القادر بن علي عام سن الخامسة. وفي سن الحادية والعشرين كتب روايته األولى »زواج قرب البحر«، 1996 التي تتحدث عن شاب هولندي من أصل مغربي يعود إلى بالده للبحث عن عريس شقيقته الفار. نالت الرواية جائزة »غيرتيان لوبرهويزن -

Geertjan Lubberhuizen Prize«. كما حصل بن علي على جائزة »ليبريس - Libris Prize« لألدب عن روايته الثانية »المنتظر« التي نشرت عام 2002. Laat Het Morgen Mooi -بعد ذلك ظهرت له روايتان: »ليكن الغد بخيرWeer Zun« عام 2005 و»فيلدمان وأنا- Feldman en ik« عام 2006. يكتب بن علي أيضا مسرحيات ومقاالت صحفية. نشر في عام 2005 وبالتعاون مع المؤرخ Marokko door 2005 -1650 هيرمان اوبديجين كتابه »المغرب بعيون هولندية

. Netherlandse ogen 1605-2005

عبد اهلل الطايعولد في الرباط سنة 1973، وسط عائلة فقيرة. عاش في مدينة سال حتى سنة 1998. درس األدب الفرنسي في جامعة محمد الخامس، كما درس مدة سنة في نيويورك في Bard College. صدرت معظم رواياته عن دار النشر الفرنسية المعروفة »لو ،2006 »L’armèe du salut« ،2005 »Le rouge de tarbouche« :سوي«. من بينها»Une mélancolie Arabe« 2008. ترجمت أعماله إلى عدة لغات ورشحت مرتين إلى جائزة »Le prix Renaudot« الفرنسية. في سنة 2007 كتب مع السيناريست »Luis Gardel« سيناريو فيلم »La saniora«. عبد اهلل الطايع هو

المؤلفون

Page 291: Beirut39 Arabic Anthology

291

أول كاتب مغربي عربي يعلن عن مثليته الجنسية في كتبه وفي الصحافة واإلعالم. يقيم في باريس منذ عشر سنوات.

عبداهلل ثابتمواليد 1973 بمدينة أبها، المملكة العربية السعودية، حاصل على بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة الملك خالد بأبها 1997. بعد كتابه األول »النوبات« وهو مجموعة نصوص أدبية صدرت في العام 2005، أصدر ثابت روايته األولى الشهيرة »اإلرهابي 20« عام 2006 عن دار المدى. ثم ألحقها بعملين شعريين هما: »الهتك« دار طوى عام 2008، و»كتاب الوحشة« دار اآلداب - بيروت 2009. يكتب

في صحيفة »الوطن« السعودية منذ العام 2001.

عدنية شبليكاتبة فلسطينية مواليد 1974، نشرت العديد من النصوص في دورية »الكرمل« الصادرة في رام اهلل، ومجلة »اآلداب« البيروتية، ومجالت أخرى، وقد ترجمت الكثير من هذه النصوص الى اإلنكليزية، والفرنسية، واأللمانية. صدرت روايتها األولى »مساس« عن دار اآلداب في بيروت في العام 2002، وروايتها الثانية« كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب«عن دار اآلداب أيضا. وكانت هاتان الروايتان قد حازتا في عامي 2001 و 2003 على جائزة الرواية - مسابقة الكاتب الشاب، المقدمة من

مؤسسة عبد المحسن القطان في فلسطين.

عالء حليحلمولود في قرية الجش في الجليل األعلى 1974، وخريج مدرسة كتابة السيناريو في تل أبيب ومقيم حاليا في عكا. أصدر رواية بعنوان »السيرك« و مجموعة قصصية بعنوان »قصص ألوقات الحاجة«. والكتابان حاصالن على جائزة مؤسسة القطان األدبية للعامين 2001 و 2003. كما له رواية »األب واالبن والروح التائهة عن دار العين في القاهرة. عالء كاتب مسرحي، كتب كاباريه »خبر عاجل« ومونودراما »دياب« و»الجندي المخلص بالتأكيد« ومسرحيات لألطفال. حازت مسرحيته »حيضستان« على جائزة القطان

للمسرح في العام 2005. كما أخرج فيلما قصيرا بعنوان »هيا إلى الحمص«.

المؤلفون

Page 292: Beirut39 Arabic Anthology

292

المؤلفون

فايزة غوينكاتبة وسينمائية شابة، فرنسية من أصل جزائري، ولدت في منطقة بوبيني في ضواحي باريس عام 1985. عرفت من خالل روايتيها »غدا كيف كيف« التي أصدرت عام 2004 و هي في التاسعة عشر من عمرها وترجمت إلى 22 لغة ورواية وكذلك روايتها »حلم من أجل البيض«. وقد أخرجت عدة أفالم قصيرة، من ضمنها »ال شيء سوى الكلمات« عام 2004. ترعرعت فايزة غوين في منطقة بانتان شمال شرق باريس، ودرست علم االجتماع في جامعة باريس الثامنة، قبل أن تكرس كل وقتها

للكتابة وإخراج األفالم.

كمال الرياحيمن مواليد قرية »المنافيخ« من الشمال الغربي التونسي، 1974. حاصل على أستاذية في اللغة العربية وآدابها من المعهد العالي للغات الحية سنة 2001، مع شهائد تكميلية في السينما وعلوم التربية والجغرافيا عند العرب. صدر له »نوارس الذاكرة«، قصص 1999، »سرق وجهي«، قصص وشعر 2001. ترجمت بعض هذه القصص إلى الفرنسية. في العام 2006 صدرت روايته األولى »المشرط« التي حصلت على جائزة الكومار الذهبي ألحسن رواية تونسية لسنة 2007. لكمال الرياحي العديد من الدراسات

النقدية في األدب والفلسفة.

محمد حسن علوانروائي وقاص وشاعر وكاتب مقالة سعودي. ولد في أغسطس عام 1979 في مدينة الرياض. حاصل على درجة البكالوريوس في نظم معلومات الحاسب اآللي من جامعة

الملك سعود.أثناء دراسته الجامعية بدأ كتابة روايته األولى »سقف الكفاية« التي نشرت في

بيروت عام 2002، بعد أن تعذر نشرها داخل السعودية ألسباب رقابية، وقد أثارت الرواية التي تتحدث عن قصة حب حميمة وحزينة بين شاب وفتاة في قلب

ا كبيرين في المشهد الروائي السعودي، مدينة الرياض المحافظة، جدلا واهتماموكتب عن الرواية نقاد سعوديون كبار مثل الدكتور عبداهلل الغذامي، والدكتور معجب الزهراني، والناقد محمد العباس وغيرهم، ونوهوا بلغتها وجرأتها. بعدها

Page 293: Beirut39 Arabic Anthology

293

المؤلفون

نشر روايته الثانية »صوفيا«، دار الساقي بيروت 2004 وأخيرا رواية »طوق الطهارة« عام 2007 عن دار الساقي أيضا.

محمد صالح العزبمواليد القاهرة 19 سبتمبر 1981. منذ العام 2003، أصدر أربع روايات ومجموعة قصصية واحدة. طبعت روايتية »وقوف متكرر« و»سرير الرجل اإليطالي« أربع طبعات، األولى عن دار الشروق والثانية عن دار ميريت. حصل على جوائز أدبية عدة منها، جائزة سعاد الصباح في الرواية – الكويت 2002، وجائزة الصدى للمبدعين في المجموعة القصصية – اإلمارات – 2004، وجائزة المجلس األعلى للثقافة – مصر- في

القصة »مرتين«: 1999 و2004، جائزة المجلس األعلى للثقافة للرواية عام 2004.

منصور الصويمكاتب سوداني من مواليد والية جنوب دارفور 1970. صدرت روايته االولى »تخوم الرماد« عام 2001، ثم أصدر مجموعة قصصية »نبض راعش« عام 2004 باللغتين العربية والفرنسية، عن المركز الثقافي الفرنسي في السودان. حصلت روايته الثانية »ذاكرة شرير« على جائزة الطيب صالح لإلبداع الروائي عام 2005. يقيم

ويعمل في السودان.

منصورة عز الدينكاتبة مصرية من مواليد 1976، درست الصحافة واإلعالم بكلية اإلعالم بجامعة القاهرة. بدأت نشر قصصها القصيرة فى الصحف والمجالت المصرية والعربية وهي في سن العشرين. نشرت أول مجموعة قصصية عام 2001 بعنوان »ضوء مهتز« عن دار ميريت بالقاهرة، وترجمت العديد من قصص المجموعة إلى اإلنكليزية، واإليطالية، والفرنسية، والسلوفينية. صدرت روايتها األولى »متاهة مريم« عام 2004 عن دار ميريت، وصدر منها حتى اآلن ثالث طبعات بينها طبعة شعبية عن »مكتبة األسرة«، كما صدرت باإلنكليزية عن منشورات الجامعة األميركية، القاهرة 2007.

روايتها الثانية »وراء الفردوس« صدرت عن دار العين القاهرة 2009.

Page 294: Beirut39 Arabic Anthology

294

المؤلفون

ناظم السيدولد عام 1975 في بلدة بنت جبيل )جنوب لبنان(، يعمل في الصحافة منذ العام 1996 حيث كتب في العديد من الصحف والمجالت منها »السفير«، »ملحق النهار الثقافي«، »الحياة« و«النهار«، ويعمل أيضا في برامج ثقافية لصالح قناة »الحرة« األميركية. أحد مؤسسي ومنظمي اللقاء الشعري األسبوعي في حانة »جدل بيزنطي« البيروتية. مراسل القسم الثقافي في صحيفة »القدس العربي« في لندن منذ مطلع العام 2007 )من بيروت(. أصدر ثالث مجموعات شعرية »برتقالة مقشرة من الداخل« منشورات اآلن – بيروت 2002 . »العين األخيرة« دار مختارات – بيروت 2003 . »أرض معزولة بالنوم«، رياض الريس للكتب والنشر- 7002. نشرت قصائده في

أنطولوجيات باإلسبانية، واإلنكليزية، والفرنسية، واأللمانية.

نجاة عليشاعرة مصرية من مواليد القاهرة 1975. تخرجت من قسم اللغة العربية وآدابها، وحاصلة على الماجستير بدرجة امتياز عن: »المفارقة في قصص يوسف إدريس القصيرة« من قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، 2006. صدر لها ديوانان »كائن خرافي غايته الثرثرة«، القاهرة 2002، »حائط مشقوق« القاهرة 2005، حصل على

جائزة أفضل ديوان شعر عن وزارة الثقافة المصرية 8991.

نجوى بنشتوانقاصة وروائية ليبية، من مواليد 1970. أول إصدار لها كان »مسرحية المعطف« التي شاركت بها في مهرجان الشارقة لإلبداع العربي عام 2003، ونالت الترتيب الثالث وقد صدرت عن وزارة اإلعالم والثقافة اإلماراتية. كما صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان »قصص ليست للرجال« عن دار الحضارة العربية، القاهرة 2003 ورواية »وبر األحصنة« عن دار الحضارة العربية، القاهرة 2005 ثم مجموعة قصصية بعنوان »طفل الواو« عن مجلس الثقافة العام، ليبيا 2006 ورواية »مضمون برتقالي« عن دار شرقيات، القاهرة 2007 كما نشرت في العام 2008 مجموعة قصصية بعنوان

»الملكة« وصدرت عن مجلس الثقافة العام، ليبيا.

Page 295: Beirut39 Arabic Anthology

295

المؤلفون

نجوان درويشمواليد القدس، فلسطين 1978، صدرت مجموعته الشعرية األولى »كان يدق الباب األخير« عام 2000. رئيس تحرير مجلة »من وإلى«، وكاتب في القسم الثقافي لجريدة »األخبار« اللبنانية. ظهر شعره في أنطولوجيات مختلفة، كانت آخرها »القصيدة الفلسطينية المعاصرة« - منشورات »لوتايي بريه« بلجيكا 2008، و«لغة لقرن جديد« منشورات نورتون، نيويورك 2008. شارك في تأسيس وتنفيذ مشاريع مختلفة في اإلعالم الثقافي والفنون البصرية، من بينها: »القدس في المنفى«، مجلة »رؤى جانبية«، مشروع »مسارات« سنة فلسطين الثقافية والفنية في بلجيكا، »أن تكون

بلجيكيا« برنامج للكتاب يبحث في موضوعة الهوية، وغيرها.

هالة كوثرانيولدت في بيروت أغسطس عام 1977. درست العلوم السياسية واألدب العربي في الجامعة األميركية في بيروت. تعمل على إنهاء رسالة الماجستير في األدب العربي بالجامعة نفسها. تعمل حاليا مديرة تحرير مجلة »لها« التابعة لجريدة »الحياة« البيروتية. أصدرت روايتي »األسبوع األخير«، 2006 و»استديو بيروت« 2008 عن

دار الساقي. تنشر أسبوعيا قصة قصيرة في مجلة »لها« منذ عام 2000.

هيام ياردولدت سنة 1975 في بيروت، حيث أكملت تعليمها في جامعة القديس يوسف ببيروت. بدأت الكتابة باكرا، ولكنها شرعت في النشر منذ سنة 2001. شاعرة وقاصة، نشرت مجموعتين شعريتين عن دار النهار. األولى، »انعكاسات القمر« ظهرت سنة 2001، الثانية »جراحات الماء«، وصدرت سنة 2004، وقدم لها الشاعر صالح ستيتية، وقد أتاحت لها هذه المجموعة المشاركة في عديد من التظاهرات األدبية، خصوصا في البرتغال، والمكسيك، والسويد. روايتها »خزانة األشباح« نالت جائزة فرنسا-لبنان، وأتاحت لها دعوات كثيرة، ومن بينها دعوة من قناة فرانس 3 للمشاركة في برنامج أدبي يعده أوليفيي باروت. فازت بجائزة فيال مرغريت يورسينار Villa Margeurite Yourcenar Prize ونالت منحة »ديل دوكا« التي تقدمها األكاديمية الفرنسية. روايتها األخيرة »تحت العريش«، ظهرت في أكتوبر

Page 296: Beirut39 Arabic Anthology

296

المؤلفون

2009، وتتناول قضية االنتقال بين أجيال مختلفة. تقيم حاليا في بيروت، مع بناتها الثالث، وهي منصرفة للكتابة.

وجدي األهدلروائي، وقاص، وكاتب مسرحي من اليمن، ولد في محافظة الحديدة 1973. بدأ بنشر أعماله األدبية في الصحف والمجالت منذ عام 1995. اختير أفضل قاص يمني في االستفتاء الثقافي السنوي الذي أجرته صحيفة الجمهورية في األعوام 1997، 1998، 1999. صودرت روايته األولى »قوارب جبلية« عام 2002، وأغلق مركز عبادي للدراسات والنشر الذي نشر الرواية، وأحيل الكاتب إلى النيابة العامة للتحقيق معه. وعقب حملة تكفيرية في خطب الجمعة من قبل أئمة المساجد، اضطر الكاتب إلى مغادرة البالد. وقد استمرت محاكمته غيابيا. وفي ديسمبر من العام نفسه توسط الروائي األلماني غونتر غراس لدى رئيس الجمهورية، وطالب بعودة الروائي، وإسقاط الدعوى القضائية المرفوعة ضده، وقد استجاب رئيس الجمهورية لوساطة غونتر غراس، وأمر بإغالق ملف القضية، والسماح للكاتب بالعودة إلى وطنه. أصدر أربع مجموعات قصصية وأربع روايات. روايته »فيلسوف الكرنتينة« اختيرت في القائمة الطويلة في جائزة البوكر للرواية العربية في دورتها األولى 2007. حصل

على عدة جوائز أدبية محلية.

ياسين عدنانشاعر، وقاص، وإعالمي مغربي من مراكش. ولد سنة 1970 بمدينة آسفي. حاصل على إجازة في األدب اإلنكليزي من جامعة القاضي عياض بمراكش، ودبلوم كلية علوم التربية من جامعة محمد الخامس بالرباط، وشهادة من جامعة أوريغن األميركية في تخصص تدريس مهارات التفكير النقدي. يشتغل في الصحافة الثقافية العربية منذ عقدين تقريبا. يعد ويقدم منذ أربع سنوات البرنامج الثقافي األسبوعي »مشارف« الذي يبثه التليفزيون المغربي على قناتي »األولى« و»المغربية«.أصدر ثالث مجموعات قصصية وثالث مجموعات شعرية، وكتابا مشتركا عن مدينة مراكش مع مواطنه سعد سرحان. حصل على عدة جوائز أدبية منها »جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر«، الجزائر 1991، وجائزة اتحاد كتاب المغرب لألدباء الشباب، البيضاء 1999،

Page 297: Beirut39 Arabic Anthology

297

المؤلفون

وجائزة بلند الحيدري للشعراء العرب الشباب، أصيلة 2003.

يحيى امقاسممواليد وادي الحسيني - جازان، جنوب غرب السعودية 1971. حصل على بكالوريوس في القانون من جامعة الملك سعود 1998. أصدر مجموعة قصصية بعنوان »المخش« عن- الكنوز األدبية - بيروت 2000، و»قصص من السعودية« عن - وزارة الثقافة اليمينة - صنعاء 2004، و»ساق الغراب )الهربة(« عن - دار اآلداب - بيروت 2008.

يعمل حاليا في الشؤون الثقافية بالمكتب الثقافي السعودي في باريس.

يوسف رخامواليد القاهرة 1976، حاصل على بكالوريوس في الفلسفة من جامعة هل 1998. يكتب بالعربية واإلنكليزية. عين في جريدة »Al-Ahram Weekly« من عام 1980 و يعمل حاليا فيها محرر ثقافي باإلنكليزية. . عمل لمدة سنة كاتب تحقيقات في جريدة »The National« في أبو ظبي. في العام 1999 أصدر أول مجموعة قصصية له بعنوان »أظهار شمس« عن دار شرقيات. ثم اشتهر يوسف رخا بكتابة أدب الرحالت، حين أصدر »بيروت شي محل« عن منشورات أمكنة عام 2006، ثم »بورقيبة على مضض« عن دار رياض الريس عام 2008، وأخيرا »شمال القاهرة غرب الفلبين«

عن رياض الريس أيضا، 2009.

Page 298: Beirut39 Arabic Anthology

298

المترجمون

د. أميرة نويرةأميرة نويرة هي أستاذة األدب اإلنكليزي في قسم اللغة اإلنكليزية بكلية اآلداب جامعة اإلسكندرية ورئيسة القسم سابقا. حصلت على درجة الدكتوراه من قسم اللغة اإلنكليزية بجامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة، ولها العديد من الدراسات النقدية وأعمال الترجمة والكتابة اإلبداعية. تشمل اهتماماتها األدب اإلنكليزي والعربي والمقارن وكتابات المرأة. ترجمت إلى العربية كتاب سوزان باسنت »األدب المقارن: مقدمة نقدية« في 1999 وإلى اإلنكليزية )باالشتراك مع عزة الخولي( رواية إقبال قزويني »ممرات السكون« في 2008، كما شاركت في تحرير كتاب »المرأة تكتب

إفريقيا - منطقة إفريقيا الشمالية« الذي أصدرته Feminist Press في 2009.

جماعة زهرة الصبارجماعة زهرة الصبار مؤسسة ثقافية بلجيكية تعنى باآلداب والفنون العربية والبلجيكية. سبق وأن ترجمت المؤسسة للعديد من الشعراء والكتاب البلجيكين،

منهم: ايفا كوكس، بول هوسته، رشيدة لمرابط و حازم كمال الدين.

د. سحر سعيد طبيبة سورية درست الطب في جامعة دمشق ثم أمراض المفاصل والروماتيزم في جامعة رينيه ديكارت في باريس– فرنسا. لها اهتمامات ثقافية عديدة وهي أمينة سر جمعية المنتدى االجتماعي الثقافية في دمشق. باإلضافة إلى عملها في عيادتها،

Page 299: Beirut39 Arabic Anthology

299

تزاول الترجمة من اللغة الفرنسية إلى العربية، وقد ترجمت العديد من الكتب في مجال األدب والفلسفة والسياسة والعلوم االجتماعية، والعديد من المقاالت الطبية

والعلمية والدراسات االجتماعية.

محمد المزديويمحمد المزديوي كاتب وصحفي ومترجم من الريف المغربي، مواليد 1964، مقيم في باريس منذ أكثر من عشرين سنة. بعد دراسات في األدب العربي في السوربون،

كرس وقته للعمل الصحفي والترجمة والسفر.من ترجماته العديدة: »األمير الصغير« لسانت إيكزوبيري، دار الجمل 2000، »المتمردة« لمليكة مقدم، المركز الثقافي العربي 2002، و«حراكة« للماحي بينبين، دار الجمل 2003(، »احتمال جزيرة« لميشيل ويلبيك، دار الجمل 2007، و»مقهى

الشباب الضائع« لباتريك موديانو، دار مقاليد 2009.كما أنه أصدر مجموعتين قصصيتين: »أحالم الهدهد«، دار جلجامش 1995، و»غرق القبيلة«، وزارة الثقافة المغربية 2000، ويكاتب العديد من الصحف والمجالت العربية

من بينها صحيفتا »الشرق األوسط« و»العرب«. L'Islamisme a l'heure من الكتب التي ترجمتها »اإلسالم السياسي في زمن القاعدةd'Al-Qaida« للباحث الفرنسي فرانسوا بورغا François Burgat، وسلسلة كتب

.Fred Vargas للكاتبة الفرنسية فرد فارغاس

المترجمون

Page 300: Beirut39 Arabic Anthology

300

شكر وتقدير

يود الناشر أن يتوجه بالشكر لمهرجان “هاي فيستيفال” والحكام والمؤلفين والمترجمين والمحرر وكل من ساهم في جعل هذا الكتاب واقعا. كما نتقدم بالشكر لراكيل فسيدو وكريستينا فوينتس من مؤسسة »هاي فيستيفال« اللتين كانتا على دائم االستعداد لمد يد المساعدة. ونخص بالشكر أندي سمارت، جيهان مرعي، صفاء مريش، ومريم السبيعي لعملهم على تنسيق وإخراج هذا الكتاب. ونتوجه بخالص الشكر واالمتنان للكاتب محمد هديب، الذي قام بالمراجعة اللغوية للنصوص العربية. وأخيرا وليس آخرا، نتوجه بالشكر الجزيل إلى الناشرين األصلييين لسماحهم

باستخدام النصوص المنشورة سابقا.

Page 301: Beirut39 Arabic Anthology
Page 302: Beirut39 Arabic Anthology
Page 303: Beirut39 Arabic Anthology
Page 304: Beirut39 Arabic Anthology