طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

356
ﺍﳉﻮﺯﻳﺔ ﻗﻴﻢ ﺍﺑﻦ ﻟﻺﻣﺎﻡμm†bÉÜa lbi ì μm‹va Öî‹ 

Upload: ibngohar

Post on 27-Jul-2015

81 views

Category:

Documents


0 download

DESCRIPTION

طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزيةمن الروائع

TRANSCRIPT

Page 1: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

لإلمام ابن قيم اجلوزية

μm†bÉÜa@lbi@ì@μm‹va@Öî‹ 

Page 2: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

طريق اهلجرتني و باب السعادتني لإلمام ابن قيم اجلوزية

خطبة الكتاب للمؤلف

الحمد هللا الذى نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججا، وحجب العقول واألبصار أن جتد إىل ذ به تكييفه منهجا وأوجب الفوز بالنجاة ملن شهد له بالوحدانية شهادة مل يبغ هلا عوجا، وجعل ملن ال

واتقاه من كل ضائقة خمرجا، وأعقب من ضيق الشدائد وضنك األوابد ملن توكل عليه فرجا، وجعل قلوب أوليائه متنقلة من منازل عبوديته من الصرب والتوكل واإلنابة والتفويض واحملبة واخلوف والرجا

الذى كتبه، أن رمحته فسبحان من أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرمحة، وضمن الكتابأسبغ على عباده نعمه الفرادى والتوءام، وسخر هلم الرب والبحر والشمس والقمر والليل . تغلب غضبه

والنهار والعيون واألهنار والضياء والظالم، وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه يدعوهم إىل جواره ىف يه يشرح صدره لإلسالم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا فمن يرد الله أن يهد{دار السالم،

: الكهف* [}أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا{، فسبحان من ]١٢٥: األنعام* [}حرجامل مبحكمه وآمن مبتشاهبه ىف مراقى السعادة درجا، ، ورفع ملن ائتم به فأحل حالله وحرم حرامه وع]١

ووضع قهره على من أعرض عنه ومل يرفع به رأسه ونبذه وراء ظهره وابتغى اهلدى من غريه، فجعله ىف دركات اجلحيم متوجلا، فإنه الذكر احلكيم والصراط املستقيم والنبأ العظيم وحبل اهللا املتني املديد بينه

.ده الذى من استمسك به فاز وجناوبني خلقه، وعهوأشهد أن ال إله إال اهللا وحده ال شريك له وال مسى له وال كفو له وال صاحبة له وال ولد وال شبيه له وال حيصى أحد ثناء عليه بل هو كما أثىن على نفسه وفوق ما يثىن عليه خلقه، شهادة من أصبح قلبه

.تهجا، ومل يدع إىل شبه اجلاحدين املعطلني معرجاباإلميان باهللا وأمسائه وصفاته مبوأشهد أن حممدا عبده ورسوله، وخريته من خلقه وأمينه على وحيه وسفريه بينه وبني عباده، أرسله

أرسله على حني فترة من . رمحة للعاملني وقدوة للعاملني وحمجة للسالكني وحجة على العباد أمجعنيوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته وحمبته وتعزيره وتوقريه الرسل، فهدى به إىل أق

والقيام حبقوقه، وسد إىل جنته مجيع الطرق فلم يفتح ألحد إال من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له فهدى به من الضاللة وعلم به . على من خالف أمره] الصغار[ذكره، ووضع عنه وزره وجعل الذلة و

وكثر به بعد القلة، وأعز به بعد الذلة وأغىن به بعد العيلة، وبصر به من العمى، وأرشد به . جلهالةمن ا

Page 3: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وآذانا صما وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة وأدى األمانة ونصح األمة ] عميا[من الغى وفتح برسالته أعينا ىت أتاه اليقني فلم يدع خريا إال دل أمته عليه وال شرا إال حذر منه وجاهد ىف اهللا حق جهاده وعبد اهللا حففتح القلوب باإلميان والقرآن، وجاهد أعداء اهللا باليد والقلب . وهنى عن سلوك الطريق املوصلة إليه

ة، إىل أحسن سري -بالعدل واإلحسان وخلقه العظيم -فدعا إىل اهللا على بصرية، وسار ىف األمة. واللسانوسارت دعوته سري الشمس ىف . أن أشرقت برسالته األرض بعد ظلماهتا، وتألفت به القلوب بعد شتاهتا

واستجابت لدعوته احلق القلوب طوعا وإذعانا، وامتألت . األقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهارأفضل اجلزاء، وصلى عليه صالة متأل أقطار األرض بعد خوفها وكفرها أمنا وإميانا، فجزاه اهللا عن أمته

.والسماء، وسلم تسليما كثريا ..أما بعد

فإن اهللا سبحانه غرس شجرة حمبته ومعرفته وتوحيده ىف قلوب من اختارهم لربوبيته، واختصهم بنعمته، تؤتي أكلها كل * عها في السمآء كشجرة طيبة أصلها ثابت وفر{وفضلهم على سائر خليقته، فهى

، فكذلك شجرة اإلميان أصلها ثابت ىف القلب وفروعها الكلم ]٢٥-٢٤: إبراهيم* [}حني بإذن ربهاالطيب والعمل الصاحل ىف السماء، فال تزال هذه الشجرة خترج مثرها كل وقت بإذن رهبا من طيب القول

مل ما تقر به عيون صاحب األصل وعيون حفظته وعيون أهله وأصحابه ومن قرب منه، فإن وصاحل العمن قرت عينه باهللا سبحانه قرت به كل عني وأنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث وفرح به كل ه حزين وأمن به كل خائف وشهد به كل غائب، وذكرت رؤيته باهللا، فإذا رؤى ذكر اهللا فاطمأن قلب

إىل اهللا وسكنت نفسه إىل اهللا وخلصت حمبته هللا وقصر خوفه على اهللا وجعل رجاءه كله هللا، فإن مسع مسع باهللا وإن أبصر أبصر باهللا وإن بطش بطش باهللا وإن مشى مشى باهللا، فبه يسمع وبه يبصر وبه

طى فلله وإذا منع فلله، قد اختذ اهللا هللا وإذا أع] أبغض[يبطش وبه ميشى، فإذا أحب فلله وإذا أبغض وحده معبوده ومرجوه وخموفه وغاية قصده ومنتهى طلبه، واختذ رسوله وحده دليله وإمامه وقائده وسائقه، فوحد اهللا بعبادته وحمبته وخوفه ورجائه وإفراد رسوله مبتابعته واالقتداء به والتخلق بأخالقه

والتأدب بآدابههجرة إىل اهللا بالطلب واحملبة والعبودية والتوكل واإلنابة والتسليم والتفويض : وقت هجرتان فله ىف كل

واخلوف والرجاء واإلقبال عليه وصدق اللجإ واالفتقار ىف كل نفس إليه، وهجرة إىل رسوله ىف حركاته ومرضاته، وال يقبل وسكناته الظاهرة والباطنة، حبيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل حماب اهللا

اهللا من أحد دينا سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها ال زاد املعاد، وقال شيخ الطريقة وإمام الطرق كلها مسدودة إال طريق من اقتفى آثار النىب صلى اهللا : الطائفة اجلنيد بن حممد قدس اهللا روحه

Page 4: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

زتى وجاللى لو أتونى من كل طريق، واستفتحوا من كل وع: ((عليه وسلم، فإن اهللا عز وجل يقولكل عمل بال متابعة فهو عيش : وقال بعض العارفني)). باب، لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك

.النفسن نصح نفسه أن جيعل حلظات عمره مع ما جاء به كان جديرا مب -نفيا وإثباتا -وملا كانت السعادة دائرة

وقفا على معرفته وإرادته مقصورة على حمابه، وهذا أعلى مهة مشر إليها السابقون وتنافس فيها املتنافسون، فال جرم ضمنا هذا الكتاب قواعد من سلوك اهلجرة احملمدية، ومسيناه طريق اهلجرتني، وباب

وطريقها األقوم الذى ال سبيل ] األعظم[دية ؛ إذ هو باب السعادة السعادتني، وابتدأناه بباب الفقر والعبواآلخرة ومراتبهم ىف ] الدنيا و[إىل دخوهلا إال منه، وختمناه بذكر طبقات املكلفني من اجلن واإلنس ىف

د فجاء الكتاب غريبا ىف معناه، عجيبا ىف مغزاه لكل قوم منه نصيب، ولكل وار. دار السعادة والشقاوةوما كان فيه من ] وما كان فيه من حق وصواب فمن اهللا هو املان به فإمنا التوفيق بيده[منه مشرب

.زلل فمىن ومن الشيطان، واهللا ورسوله منه براء] خطأ و[فيا أيها القاريء له والناظر فيه، هذه بضاعة صاحبها املزجاة مسوقة إليك، وهذا فهمه وعقله معروض

فإن عدم منك محدا وشكرا، فال يعدم . ولك مثرته، وعليه عائدته. لى مؤلفه غرمهعليك، لك غنمه وع :عذرا، وإن أبيت إال املالم فبابه مفتوح، وقد] مغفرة و[منك

.استأثر اهللا بالثناء وبالحمد ووىل املالمة الرجالالدنيا واآلخرة، إنه مسيع الدعاء، واهللا املسئول أن جيعله لوجهه خالصا، وينفع به مؤلفه وقارئه وكاتبه ىف

.وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل فصل

ىف أن اهللا هو الغىن املطلق واخللق فقراء حمتاجون إليهسبحانه ، بين ]١٥: فاطر* [}يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغني الحميد{: قال اهللا سبحانه

ذاتى له، ] أمر[ىف هذه اآلية أن فقر العباد إليه أمر ذاتى هلم ال ينفك عنهم، كما أن كونه غنيا محيدا فغناه ومحده ثابت له لذاته ال ألمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته ال ألمر أوجبه، فال يعلل هذا

اجة العبد إىل ربه لذاته ال لعلة أوجبت تلك الحاجة، فح: الفقر حبدوث وال إمكان، بل هو ذاتى للفقري :كما أن غىن الرب سبحانه لذاته ال ألمر أوجب غناه، كما قال شيخ اإلسالم ابن تيمية

والفقر ىل وصف ذات الزم أبدا كما الغىن أبدا وصف له ذايتن أسباب الفقر واحلاجة فهى أدلة على فاخللق فقري حمتاج إىل ربه بالذات ال بعلة، وكل ما يذكر ويقرر م

الفقر واحلاجة ال علل لذلك، إذ ما بالذات ال يعلل، فالفقري بذاته حمتاج إىل الغىن بذاته، فما يذكر من

Page 5: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إمكان وحدوث واحتياج فهى أدلة على الفقر ال أسباب له، وهلذا كان الصواب ىف مسألة علة احتياج علة : قولني اللذين يذكرمها الفالسفة واملتكلمون، فإن الفالسفة قالواالعامل إىل الرب سبحانه غري ال

علة احلاجة احلدوث، والصواب أن اإلمكان واحلدوث متالزمان، : احلاجة اإلمكان، واملتكلمون قالوابه أمر ذاتى ال يعلل، فهو فقري بذاته إىل ر] عز وجل[وكالمها دليل احلاجة واالفتقار، وفقر العامل إىل اهللا

واملقصود أنه سبحانه أخرب . الغىن بذاته، مث يستدل بإمكانه وحدوثه وغري ذلك من األدلة على هذا الفقر، كما أخرب عن ذاته املقدسة وحقيقته أنه غىن محيد، ]عز وجل[عن حقيقة العباد وذواهتم بأهنا فقرية إليه

هى، والغىن املطلق من كل وجه ثابت فالفقر املطلق من كل وجه ثابت لذواهتم وحقائقهم من حيثلذاته تعاىل وحقيقته من حيث هى، فيستحيل أن يكون العبد إال فقريا، ويستحيل أن يكون الرب سبحانه

.إال غنيا، كما أنه يستحيل أن يكون العبد إال عبدا والرب إال رباوج لرب وال فاجر عنه، وهذا ال يقتضى فقر اضطرارى، وهو فقر عام ال خر: إذا عرف هذا فالفقر فقران

والفقر الثاىن فقر . مدحا وال ذما وال ثوابا وال عقابا، بل هو مبنزلة كون املخلوق خملوقا ومصنوعافمىت حصلت له . أحدمها معرفة العبد بربه، والثاىن معرفته بنفسه: اختيارى هو نتيجة علمني شريفني

فقرا هو عني غناه وعنوان فالحه وسعادته، وتفاوت الناس ىف هذا الفقر ] له[هاتان املعرفتان أنتجتا حبسب تفاوهتم ىف هاتني املعرفتني، فمن عرف ربه بالغىن املطلق عرف نفسه بالفقر املطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه باملسكنة التامة، ومن

ربه بالعلم التام واحلكمة عرف نفسه باجلهل، فاهللا سبحانه أخرج العبد من بطن أمه ال يعلم شيئا عرفوال يقدر على شيء، وال ميلك شيئا وال يقدر على عطاء وال منع وال ضر وال نفع وال شيء البتة، فكان

ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته، فقره ىف تلك احلال إىل ما به كما له أمرا مشهودا حمسوسا لكل أحد،وهو مل ينتقل من هذه الرتبة إىل رتبة الربوبية والغىن، بل مل يزل عبدا فقريا . وما بالذات دائم بدوامهافلما أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رمحته وساق إليه أسباب كمال وجوده . بذاته إىل بارئه وفاطره

مالبس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأقدره وصرفه ظاهرا وباطنا، وخلع عليهوحركه، ومكنه من استخدام بىن جنسه، وسخر له اخليل واإلبل، وسلطه على دواب املاء، واستنزال الطري من اهلواء وقهر الوحش العادية، حفر األهنار، وغرس األشجار، وشق األرض، وتعلية البناء،

على مصاحله، والتحرز والتحفظ ملا يؤذيه، ظن املسكني أن له نصيبا من امللك، وادعى لنفسه والتحيل ملكا مع اهللا سبحانه، ورأى نفسه بغري تلك العني األوىل، ونسى ما كان فيه من حالة اإلعدام والفقر

كما روى اإلمام واحلاجة، حىت كأنه مل يكن هو ذلك الفقري احملتاج، بل كأن ذلك شخصا آخرغريهأمحد ىف مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشى أن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم بصق يوما ىف

Page 6: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

يا ابن آدم أنى تعجزنى وقد خلقتك من مثل هذه حتى : قال اهللا تعاىل: ((كفه فوضع عليها إصبعه مث قالك مشيت بين بردين ولألرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقى، إذا سويتك وعدلت

، ومن هاهنا خذل من خذل ووفق من وفق، فحجب املخذول عن ))أتصدق، وأنى أوان الصدقة: قلتوعتا فحقت عليه الشقوة، قال ] وبغا[إىل ربه، فطغى حقيقته ونسى نفسه فنسى فقره وحاجته وضرورته

* فأما من أعطى واتقى {: ، وقال]٧-٦: العلق* [}أن رآه استغنى* كال إن اإلنسان ليطغى {: تعاىلفسنيسره * وكذب بالحسنى * ى وأما من بخل واستغن* فسنيسره لليسرى * وصدق بالحسنى

، فأكمل اخللق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته ]١٠- ٥: الليل* [}للعسرىأصلح ىل شأىن كله، : ((إىل ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عني، وهلذا كان من دعائه صلى اهللا عليه وسلم

يا مقلب القلوب ثبت قلبى : ((، وكان يدعو))طرفة عني وال إىل أحد من خلقكوال تكلىن إىل نفسى يعلم صلى اهللا عليه وسلم أن قلبه بيد الرمحن عز وجل ال ميلك منه شيئا، وأن اهللا سبحانه )). على دينك

* }لقد كدت تركن إليهم شيئا قليالولوال أن ثبتناك {: يصرفه كما يشاء كيف وهو يتلو قوله تعاىل، فضرورته صلى اهللا عليه وسلم إىل ربه وفاقته إليه حبسب معرفته به، وحسب قربه منه ]٧٤: اإلسراء[

وهذا أمر إمنا بدا منه ملن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاء، وهلذا كان أقرب اخللق إىل اهللا . ومنزلته عنده، ]عز وجل[ة وأعظمهم عنده جاها وأرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إىل ربه وسيل

ال : ((، وكان يقول))أيها الناس، ما أحب أن ترفعونى فوق منزلتى إنما أنا عبد: ((وكان يقول هلم )).مرمي وإمنا أنا عبد فقولوا عبد اهللا ورسولهتطرونى كما أطرت النصارى املسيح ابن

: وذكره اهللا سبحانه بسمة العبودية ىف أشرف مقاماته، مقام اإلسراء ومقام الدعوة ومقام التحدى، فقال، ]١٩: اجلن* [}وأنه لما قام عبد الله يدعوه{: ، وقال]١:اإلسراء* [}سبحان الذي أسرى بعبده ليال{

إن المسيح : ((، وىف حديث الشفاعة]٢٣: البقرة* [}وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا{: وقال، فنال ذلك ))راذهبوا إلى محمد عبد غفر اهللا له ما تقدم من ذنبه وما تأخ]: يوم القيامة[يقول لهم

* }أنتم الفقرآء إلى اهللا{: املقام بكمال عبوديته هللا وبكمال مغفرة اهللا له، فتأمل قوله تعاىل ىف اآلية :دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعى الفقر، فإنه كما تقدم نوعان] فعلق الفقر إليه بامسه[، ]١٥: فاطر[

بأسرها، وفقر إىل ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصاحلني، فقر إىل ربوبيته وهو فقر املخلوقات وهذا هو الفقر النافع والذى يشري إليه القوم ويتكلمون عليه ويشريون إليه هو الفقر اخلاص ال العام، وقد

سالم اختلفت عباراهتم عنه ووصفهم له، وكل أخرب عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبري، قال شيخ اإلالدرجة األوىل فقر الزهاد : الفقر اسم للرباءة من رؤية امللكة، وهو على ثالث درجات: ((األنصارى

وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا، وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا، والسالمة منها طلبا أو

Page 7: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الرجوع إىل السبق مبطالعة الفضل، وهو : ةالدرجة الثاني. تركا، وهذا هو الفقر الذى تكلموا ىف شرفه. يورث اخلالص من رؤية األعمال، ويقطع شهود األحوال، وميحص من أدناس مطالعة املقامات

صحة االضطرار والوقوع ىف يد التقطع الوحداىن واالحتباس ىف بيداء قيد التجريد وهذا : والدرجة الثالثة )).فقر الصوفية

يعىن أن الفقري هو الذى جيرد رؤية امللك ملالكه احلق، فريى )) لرباءة من رؤية امللكةالفقر اسم ل: ((فقولهنفسه مملوكة لله ال يرى نفسه مالكا بوجه من الوجوه، ويرى أعماله مستحقة عليه مبقتضى كونه مملوكا

ودية، فليس مالكا لنفسه عبدا مستعمال فيما أمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأعماله مستحقة مبوجب العببل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبدا . وال لشيء من ذراته وال لشيء من أعماله

اعمل وأد إىل فليس لك ىف نفسك وال ىف : خبالص ماله مث علمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال لهباب ما حصل مل ير له فيها شيئا، بل يراه كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من األموال واألس

كالوديعة ىف يده، وأهنا أموال أستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده، مستودعا متصرفا فيها لسيده ال لنفسه، واهللا إىن ال أعطى أحدا وال أمنع أحدا، وإمنا أنا قاسم : ((كما قال عبد اهللا ورسوله وخريته من خلقه

، فهو متصرف ىف تلك اخلزائن األمر احملض تصرف العبد احملض الذى وظيفته تنفيذ ))رتأضع حيث أمأوامر سيده، فاهللا هو املالك احلق، وكل ما بيد خلقه هو من أمواله وأمالكه وخزائنه أفاضها عليهم

فيبذل أحدهم ليمتحنهم ىف البذل واإلمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية هللا عز وجل،الشيء رغبة ىف ثواب اهللا ورهبة من عقابه وتقربا إليه وطلبا ملرضاته؟ أم يكون البذل واإلمساك منهم صادرا عن مراد النفس وغلبة اهلوى وموجب الطبع فيعطى هلواه ومينع هلواه؟ فيكون متصرفا تصرف

وغايته الرغبة فيما عند اخللق من جاه أو املالك ال اململوك، فيكون مصدر تصرفه اهلوى ومراد النفس،رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من احلظوظ، أو الرهبة من فوت شيء من هذه األشياء، وإذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه ال حمالة مالكا، فادعى امللك وخرج عن حد العبودية

املعرفة لعلم أمنا هو مملوك ممتحن ىف صورة ملك متصرف كما قال ونسى فقره، ولو عرف نفسه حق ، وحقيق هبذا ]١٤: يونس* [}ثم جعلناكم خالئف في األرض من بعدهم لننظر كيف تعملون{: تعاىل

، فإن من ادعى لنفسه املمتحن أن يوكل إىل ما ادعته نفسه من احلاالت وامللكات مع املالك احلق سبحانهحالة مع اهللا سبحانه وكل إليها، ومن وكل إىل شيء غري اهللا فقد فتح له باب اهلالك والعطب، وأغلق عنه باب الفوز والسعادة، فإن كل شيء ما سوى اهللا باطل، ومن وكل إىل الباطل بطل عمله وضل

اهللا انقطع به أحوج ما كان إليه، كما قال ] بشيء غري[سعيه ومل حيصل إال على احلرمان، فكل من تعلق ،]١٦٦: البقرة* [}إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم األسباب{: تعاىل

Page 8: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

حوج ما كانوا إليها، وذلك فاألسباب الىت تقطعت هبم هى العالئق الىت بغري اهللا ولغري اهللا، تقطعت هبم أألن تلك الغايات ملا اضمحلت وبطلت اضمحلت أسباهبا وبطلت، فإن األسباب تبطل ببطالن غاياهتا . وتضمحل باضمحالهلا، وكل شيء هالك إال وجهه سبحانه، وكل عمل باطل إال ما أريد به وجهه

دنيا من اضمحالل السعى والعمل وكل سعى لغريه باطل ومضمحل، وهذا كما يشاهده الناس ىف الوالكد واخلدمة الىت يفعلها العبد ملتول أو أمري أو صاحب منصب أو مال، فإذا زال ذلك الذى عمل له : عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعى ومل يبق ىف يده سوى احلرمان، وهلذا يقول اهللا تعاىل يوم القيامة

، فيتوىل عباد األصنام واألوثان ))كم ما كان يتوىل ىف الدنياأليس عدال مىن أىن أوىل كل رجل من((أصنامهم وأوثاهنم فتتساقط هبم ىف النار، ويتوىل عابدو الشمس والقمر آهلتهم، فإذا كورت الشمس

كذلك يريهم الله أعمالهم {: وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم، وهلذا كان املشرك من أخسر الناس ]١٦٧: البقرة* [}رات عليهم وما هم بخارجني من النارحس

صفقة وأغبنهم يوم معاده، فإنه حيال على مفلس كل اإلفالس بل على عدم، واملوحد حوالته على املليء .الكرمي، فيا بعد ما بني احلوالتني

ومل يقل من امللكة ألن اإلنسان قد يكون فقريا ال ملكة له ىف الظاهر )) ة امللكةالرباءة من رؤي: ((وقولهوهو عرى عن التحقق بنعت الفقر املمدوح أهله الذين ال يرون ملكة إال ملالكها احلق ذى امللك وامللكوت، وقد يكون العبد قد فوض إليه من ذلك شيء وجعل كاخلازن فيه، كما كان سليمان بن

عليهم الصالة [أوتى ملكا ال ينبغى ألحد من بعده، وكذلك اخلليل وشعيب واألغنياء من األنبياء، داود وكذلك أغنياء الصحابة، فهؤالء مل يكونوا بريئني من امللكة ىف الظاهر وهم بريئون من رؤية ] والسالم

هللا عارية ووديعة ىف أيديهم ابتالهم به امللكة لنفوسهم فال يرون هلا ملكا حقيقيا، بل يرون ما ىف أيديهملينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أو تصرف املالك الذين يعطون هلواهم ومينعون هلواهم، فوجود املال ىف يد الفقري ليس يقدح ىف فقره، إمنا يقدح ىف فقره رؤيته مللكته، فمن عوىف من رؤية امللكة مل

به وتدبريه واختياره، وكان كاخلازن لسيده الذى ينفذ أوامره ىف ماله، يتلوث باطنه بأوساخ املال وتعجبال الدنيا مل يضره ومن مل يعاف من ذلك ادعت نفسه امللكة ] مثال[فهذا لو كان بيده من املال

وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء احملبوب املعشوق، فهو أكرب مهه ومبلغ علمه، إن أعطى رضى، وإن مضاجعا له، تفرح نفسه ] فيبيت[فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهموما وميسى كذلك منع سخط،

إذا ازداد وحتزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إذا تومهت نفسه الفقر وقد يؤثر املوت على صاب املال الذى الفقر، واألول مستغن مبواله املالك احلق الذى بيده خزائن السموات واألرض، وإذا أ

ىف يده نائبة رأى أن املالك احلق هو الذى أصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع واهللع، وإمنا تصرف

Page 9: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن شاء أبقاه، وإن شاء ذهب به : مالك املال ىف ملكه الذى هو وديعة ىف يد مملوكه، فله احلكم ىف مالهرى تدبريه هو موجب احلكمة فليس لقلبه باملال تعلق وال له وأفناه، فال يتهم مواله ىف تصرفه ىف ملكه وي

به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع مهته إىل املالك احلق، فهو غىن به وحببه ومعرفته وقربه منه عن كل ما : سواه، وهو فقري إليه دون ما سواه، فهذا هو الربيء عن رؤية امللكة املوجبة للطغيان، كما قال تعاىل

إن استغىن، بل جعل الطغيان : ، ومل يقل]٧-٦: العلق* [}أن رآه استغنى* ن اإلنسان ليطغى كال إ{* وأما من بخل واستغنى {: ناشئا عن رؤية غىن نفسه، ومل يذكر هذه الرؤية ىف سورة الليل بل قال

واهللا أعلم ألنه ذكر موجب طغيانه -، وهذا]١٠- ٨: الليل* [}فسنيسره للعسرى* وكذب بالحسنى وهو رؤية غىن نفسه، وذكر ىف سورة الليل موجب هالكه وعدم تيسريه لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه مبا أمره من طاعته، فعل اململوك الذى ال غىن له

طرفة عني وال جيد بدا من امتثال أوامره، ولذلك ذكر معه خبله وهو تركه إعطاء ما وجب عن موالهعليه من األقوال واألعمال وأداء املال، ومجع إىل ذلك تكذيبه باحلسىن وهى الىت وعد هبا أهل اإلحسان

فسرها بشهادة أن ال إله إال اهللا فألهنا ، ومن]٢٦: يونس* [}للذين أحسنوا الحسنى وزيادة{: بقولهومن فسرها باخللف ىف اإلنفاق فقد هضم املعىن حقه وهو أكرب من . أصل اإلحسان، وهبا تنال احلسىن

وإن كان اخللف جزءا من أجزاء الحسىن، واملقصود أن االستغناء عن اهللا سبب هالك العبد . ذلك .غىن نفسه سبب طغيانه، وكالمها مناف للفقر والعبوديةوتيسريه لكل عسرى، ورؤيته

الدرجة األوىل فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا، وإسكات اللسان عنها : ((قولهفحاصل هذه )). ذما أو مدحا، والسالمة منها طلبا أو تركا، وهذا هو الفقر الذى تكلموا ىف شرفه

اليد نفض [د والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها، وعالمة فراغ الدرجة فراغ اليمع وجودها شحا وضنا هبا، وال يطلبها مع فقدها ] اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا فهو ال يضبط يده

ن هلا ىف فهذا اإلعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب، إذ لو كا. سؤاال وإحلافا وحرصاالقلب منزلة لكان األمر بضد ذلك، وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه هبا، ولكان يطلبها مع

وأيضا من أقسام الفراغ إسكات اللسان عنها ذما ومدحا ألن من اهتم بأمر وكان له . فقدها لفقره إليهامدحا أو ذما، فإنه إن حصلت له مدحها، وإن ىف قلبه موقع اشتغل اللسان مبا فاض على القلب من أمره

ومدحها وذمها عالمة موضعها من القلب وخطرها فحيث اشتغل اللسان بذمها كان بذلك . فاتته ذمهاوكذلك . خلطرها ىف القلب، ألن الشيء إمنا يذم على قدر االهتمام به، واالعتناء شفاء الغيظ منه بالذم

على قدر خطرها ىف القلب، إذ لوال خطرها وقدرها ملا صار للزهد فيها خطر، تعظيم الزهد فيها إمنا هو وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره، وصاحب هذه

Page 10: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الدرجة ال يضبطها مع وجودها وال يطلبها مع عدمها وال يفيض من قلبه على لسانه مدح هلا يدل على وال يفيض من القلب على اللسان ذم يدل على موقعها وخطرها، فإن الشيء إذا صغر أعرض حمبتها،

القلب عنه مدحا أو ذما، وكذلك صاحب هذه الدرجة سامل عن النظر إىل تركها وهو الذى تقدم من وتتلذذ به [ذكر خطر الزهد فيها، ألن نظر العبد إىل كونه تاركا هلا زاهدا فيها تتشرف نفسه بالترك

ولو صغرت ىف القلب لصغر . ، وذلك من خطرها وقدرها]دليل على شغله هبا ولو على وجه التركتركها والزهد فيها لو اهتم القلب مبهم من املهمات املطلوبة الىت هى مذاقات أهل القلوب واألرواح

من : األمراض كلها فصاحب هذه الدرجة معاىف من هذه. لذهل عن النظر إىل نفسه والترك بالزهدفهى بأسرها، وإن كان بعضها ممدوحا ىف العلم . مرض الضبط، والطلب، والذم، واملدح، والترك

مقصودا يستحق املتحقق به الثواب واملدح، لكنها آثار وأشكال مشعرة بأن صاحبها مل يذق حال اخللو املتنافس فيها، فصاحب هذه الدرجة متوسط والتجريد الباطن، فضال عن أن يتحقق من احلقائق املتوقعة

بني درجىت الداخل بكليته ىف الدنيا قد ركن إليها واطمأن إليها واختذها وطنا وجعلها له سكنا، وبني من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه، وختلص من قيودها ورعونتها وآثارها، وارتقى إىل ما يسر القلب وحيييه

ات العزة فهو ىف الربزخ كاحلامل املقرب ينتظر والدة الروح والقلب صباحا ويفرحه ويبهجه من جذبومساء، فإن من مل تولد روحه وقلبه وخيرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته

فهكذا هذا الذى بعد ىف مشيمة النفس، والظلمات. فهو كاجلنني ىف بطن أمه الذى مل ير الدنيا وما فيهافال بد من الوالدة مرتني كما قال املسيح . ظلمة النفس، وظلمة الطبع، وظلمة اهلوى: الثالث هىولذلك كان النىب صلى اهللا عليه وسلم أبا . إنكم لن جتلوا ملكوت السماء حىت تولدوا مرتني: للحواريني

، وهلذا تفرع على هذه ))أب هلم النىب أوىل باملؤمنني من أنفسهم وهو: ((للمؤمنني كما ىف قراءة أبىاألبوة أن جعلت أزواجه أمهاهتم، فإن أرواحهم وقلوهبم ولدت به والدة أخرى غري والدة األمهات، فإنه أخرج أرواحهم وقلوهبم من ظلمات اجلهل والضالل والغى إىل نور العلم واإلميان وفضاء املعرفة

الر كتاب أنزلناه إليك {: ورا مل يكن هلا هبا شعور قبله، قال تعاىلوالتوحيد، فشاهدت حقائق أخر وأمهو الذي بعث في االميني {: ، وقال]١: إبراهيم* [}لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم

كيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضالل رسوال منهم يتلو عليهم آياته ويزلقد من الله على المؤمنني إذ بعث فيهم رسوال من أنفسهم يتلوا عليهم {: وقال] ٢: اجلمعة* [}مبني

،]١٦٤: آل عمران* [}هم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضالل مبنيآياته ويزكيهم ويعلمقلب مل يولد ومل يأن له بل هو جنني ىف بطن الشهوات : واملقصود أن القلوب ىف هذه الوالدة ثالثة

ختلص من مشيمة الطباع والغى واجلهل والضالل وقلب قد ولد وخرج إىل فضاء التوحيد واملعرفة و

Page 11: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وظلمات النفس واهلوى، فقرت عينه باهللا وقرت عيون به وقلوب، وأنست بقربه األرواح، وذكرت رؤيته باهللا، فاطمأن باهللا، وسكن إليه، وعكف هبمته عليه، وسافرت مهمه وعزائمه إىل الرفيق األعلى، ال

طمئن بغريه، جيد من كل شيء سوى اهللا عوضا يقر بشيء غري اهللا، وال يسكن إىل شيء سواه، وال يوحمبته وقوته، ال جيد من اهللا عوضا أبدا، فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، وحمبته قوته، ومعرفته أنيسه، عدوه من جدب قلبه ورضاه غاية مطلبه، وحمبته قوته، ومعرفته أنيسه، عدوه من جذب قلبه عن

، ))وإن كان البعيد املناويا((ووليه من رده إىل اهللا ومجع قلبه عليه )). صافياوإن كان القريب امل: ((اهللاوقلب ثالث ىف الربزخ ينتظر الوالدة صباحا ومساء، قد أصبح على . فهذان قلبان متباينان غاية التباين

با إىل من فضاء التجريد، وآنس من خالل الديار أشعة التوحيد، تأىب غلبات احلب والشوق إال تقرالسعادة كلها بقربه، واحلظ كل احلظ ىف طاعته وحبه، وتأىب غلبات الطباع إال جذبه وإيقافه وتعويقه

واملقصود أن صاحب . فهو بني الداعني تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات، وبقى عليه مفاوز وفلواتىل مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقري هذا املقام إذا حتقق به ظاهرا وباطنا، وسلم عن نظر نفسه إ .حقيقى، ليس فيه قادح من القوادح الىت حتطه عن درجة الفقر

أحدمها موضع التزهيد فيها للراغب، والثاىن : واعلم أنه حيسن إعمال اللسان ىف ذم الدنيا ىف موضعنية الداعى، فيستحضر ىف نفسه قلة وفائها عندما يرجع به داعى الطبع والنفس إىل طلبها وال يأمن من إجاب

.وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن مت عقله وحضر رشده زهد فيها وال بدالرجوع إىل السبق مبطالعة الفضل وهو يورث اخلالص من رؤية األعمال، : الدرجة الثانية: ((وقوله

ه الدرجة أرفع من األوىل وأعلى، ، فهذ))ويقطع شهود األحوال وميحص من أدناس مطالعة املقاماتواألوىل كالوسيلة إليها، ألن ىف الدرجة األوىل يتخلى بفقره عن أن يتأله غري مواله احلق، وأن يضيع

فيوجب له . أنفاسه ىف غري مرضاته، وأن يفرق مهومه ىف غري حمابه، وأن يؤثر عليه ىف حال من األحوال، فيصبح ]الوداد واحملبة[اء العبودية، وعمارة السر بينه وبني اهللا وخلوص هذا اخللق وهذه املعاملة صف

وميسى وال هم له غري ربه، قد قطع مهه بربه عنه مجيع اهلموم وعطلت إرادته مجيع اإلرادات ونسخت :حمبته له من قلبه كل حمبة لسواه، كما قيل

رجـــحكان يسىب القلب ىف كل ليلـه مثانون بـل تسعون نفسـا وأ يهيم هبـذا ثـم يألــف غيــره ويسلوهـم من فوره حني يصبـح وقــد كان قلىب ضائعا قبل حبكم فكــان حبب اخللـق يلهو وميرح فلمــا دعا قلبـى هواك أجابــه فلست أراه عـن خـبائك يربح حرمت األماىن منك إن كنت كاذبا وإن كنت فـى الدنيا بغريك أفرح

Page 12: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

شيء ىف الوجود سواكـم يقر به القلب اجلريـح ويفــرحوإن كان إذا لعبـت أيـدى اهلوى مبحبكـم فليس له عن بابكـم متـزحزح

فـإن أدركته غربـة عن دياركـم فحبكـم بيـن احلشا ليس يبـرح وكم مشتر ىف اخللق قد سام قلبــه فلـم يـره إال حلبـــك يصلح

وحبكـم الفردوس أو هو أفسـحهـوى غريكم نار تلظى وحمبـس فيا ضيـم قلـب قـد تعلق غريكم ويا رمحة ممـا جيــول ويكـدح

واهللا سبحانه مل جيعل لرجل من قلبني ىف جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب خيرج منه فيه موضع لغريه، هم وإرادة وحب يقابله، فهو إناء واحد واألشربة متعددة، فأى شراب مأله مل يبق

وإمنا ميتليء اإلناء بأعلى األشربة إذا صادفه خاليا، فأما إذا صادفه ممتلئا من غريه مل يساكنه حىت خيرج ما :فيه مث يسكن موضعه، كما قال بعضهم

أتاىن هواها قبل أن أعرف اهلوى فصـادف قلبـا خاليــا فتمكنـانائه من كل شراب غري شراب احملبة واملعرفة، ألن كل شراب فمسكر ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إ

، وأين سكر اهلوى والدنيا من سكر اخلمر، وكيف يوضع ))ما أسكر كثريه فقليله حرام((وال بد، وىف إناء مآلن خبمر الدنيا واهلوى وال يفيق من سكره وال -الذى هو أعلى أشربة احملبني-شراب التسليم

ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأجنحة الشوق إىل اهللا والدار اآلخرة، ولكن رضى املسكني يستفيق، بالدون، وباع حظه من قرب اهللا ومعرفته وكرامته بأخس الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أى حظ

.أضاع إذا فاز احملبون، وخسر املبطلونعن سفرها إىل بلد حياهتا ونعيمها الذى ال سكن هلا غريه، وإذا كان التلوث باألعراض قيدا يقيد القلوب

وال راحة هلا إال فيه، وال سرور هلا إال ىف منازله، وال أمن هلا إال بني أهله، فكذلك الذى باشر قلبه روح ، التألة، وذاق طعم احملبة، وآنس نار املعرفة، له أعراض دقيقة حالية تقيد قلبه عن مكافحة صريح احلق

وصحة االضطرار إليه والفناء التام به، والبقاء الدائم بنوره الذى هو املطلوب من السري والسلوك، وهو الغاية الىت مشر إليها السالكون، والعلم الذى أمه العابدون ودندن حوله العارفون، فجميع ما حيجب عنه

السالك وينكس الطالب، فالزهد فيه أو يقيد القلب نظره ومهه يكون حجابا حيجب الواصل ويوقف على أصحاب اهلمم العلية متعني تعني الواجب الذى ال بد منه، وهو كزهد السالك إىل احلج ىف الظالل واملياه الىت مير هبا ىف املنازل، فاألول مقيد عن احلقائق برؤية األعراض، والثاىن مقيد عن النهايات برؤية

.الغاية املطلوبة، وترتب على هذا القيد عدم النفوذ، وذلك مؤخر خملف األحوال، فتقيد كل منهما عن

Page 13: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

تعني عليه الزهد ىف األحوال والفقر منها، كما تعني عليه ] علمه[و إذا عرف العبد هذا وانكشف له وملا كان موجب الدرجة األوىل من الفقر الرجوع إىل . الزهد ىف املال والشرف وخلو قلبه منهما

وجب االستغراق ىف هم اآلخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا، وإسكات اللسان عنها اآلخرة، فأومطالعة سبقه ] عز وجل[وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إىل فضل اهللا . مدحا أو ذما

لية، وبفضله ورمحته األسباب والوسائط، فبفضل اهللا ورمحته وجدت منه األقوال الشريفة، واملقامات الع وصلوا إىل رضاه ورمحته، وقربه وكرامته ومواالته

وكان سبحانه هو األول ىف ذلك كله كما أنه األول ىف كل شيء، وكان هو اآلخر ىف ذلك كما هو اآلخر ىف كل شيء، فمن عبده بامسه األول واآلخر حصلت له حقيقة هذا الفقر، فإن انضاف إىل ذلك

ه الظاهر والباطن فهذا هو العارف اجلامع ملتفرقات التعبد ظاهرا وباطنا فعبوديته بامسه األول عبوديته بامستقتضى التجرد من مطالعة األسباب والوقوف عليها وااللتفات إليها، وجتريد النظر إىل جمرد سبق فضله

يلة له ىف العدم قبل وجوده، وأى ورمحته، وأنه هو املبتديء باإلحسان من غري وسيلة من العبد، إذ ال وسمن الدهر مل يكن شيئا مذكورا، فمنه ] حني[وسيلة كانت هناك، وإمنا هو عدم حمض، وقد أتى عليه

سبحانه اإلعداد ومنه اإلمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من جمرد فضله وجوده مل تكن املعىن أوجب له فقرا خاصا وعبودية خاصة، وعبوديته فمن نزل امسه األول على هذا. بوسائل أخرى

] عدم ركونه ووثوقه باألسباب والوقوف معها فإهنا تعدم ال حمالة وتنقضى[بامسه اآلخر تقتضى أيضا باآلخرية، ويبقى الدائم الباقى بعدها، فالتعلق هبا تعلق مبا يعدم وينقضى، والتعلق باآلخر عز وجل تعلق

ميوت وال يزول فاملتعلق به حقيق أن ال يزول وال ينقطع، خبالف التعلق بغريه مما له آخر باحلى الذى ال يفىن به، كذا نظر العارف إليه بسبق األولية حيث كان قبل األسباب كلها، فكذلك نظره إليه ببقاء

. وجههاآلخرية حيث يبقى بعد األسباب كلها، فكان اهللا ومل يكن شيء غريه، وكل شيء هالك إالفتأمل عبودية هذين االمسني وما يوجبانه من صحة االضطرار إىل اهللا وحده ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن األمر ابتدأ منه وإليه يرفع، فهو املبتديء بالفضل حيث ال سبب وال وسيلة، وإليه ينتهى

خره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله األمر حيث تنتهى األسباب والوسائل فهو أول كل شيء وآوخالقه وبارئه، فهو إهله وغايته الىت ال صالح له وال فالح وال كمال إال بأن يكون هو غايته كما أنه ال وجود له إال بكونه وحده هو ربه وخالقه وكذلك ال كمال له وال صالح إال بكونه تعاىل وحده هو

ل الذى ابتدأت منه املخلوقات، واآلخر الذى انتهت إليه غايته وحده وهنايته ومقصوده، فهو األوعبوديتها وإرادهتا وحمبتها، فليس وراء اهللا شيء يقصد ويعبد ويتأله كما أنه ليس قبله شيء خيلق ويربأ،

Page 14: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فكما كان واحدا ىف إجيادك فاجعله واحدا ىف تأهلك وعبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه حبك وإرادتك وتأهلك إليه لتصح لك عبوديته بامسه األول واآلخر، وأكثر اخللق تعبدوا له فاجعله هناية

بامسه األول، وإمنا الشأن ىف التعبد له بامسه اآلخر فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العاملني وإله : ىب صلى اهللا عليه وسلم بقولهوأما عبوديته بامسه الظاهر فكما فسره الن. املرسلني سبحانه وحبمده

)).وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء((فإذا حتقق العبد علوه املطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قاهر فوق عباده يدبر

: فاطر* [}إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه{إليه األمر من السماء إىل األرض مث يعرج خبالف من ال يدرى أين ربه فإنه ضائع . يقصده، وربا يعبده، وإهلا يتوجه إليه] أمال[، صار لقلبه ]١٠

احب هذه احلال إذا سلك وص. مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه حنوها وال معبود يتوجه إليه قصدهوتأله وتعبد طلب قلبه إهلا يسكن إليه ويتوجه إليه، وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إال العدم، وأنه ليس فوق العامل إله يعبد ويصلى له ويسجد، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب وال يرفع

لوجود مجيعه فوقع ىف االحتاد وال بد، وتعلق قلبه بالوجود املطلق إليه العمل الصاحل، جال قلبه ىف االسارى ىف املعينات، فاختذ إهله من دون اإلله احلق وظن أنه قد وصل إىل عني احلقيقة، وإمنا تأله وتعبد

إن {: كلهملخلوق مثله، أو خليال حنته بفكره واختذه إهلا من دون اهللا سبحانه، وإله الرسل وراء ذلك ن شفيع إال ربكم الله الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر األمر ما م

ميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق إليه مرجعكم ج* من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفال تذكرون يم وعذاب ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حم

الله الذي خلق السماوات واألرض وما بينهما { :وقال تعاىل] ٤ -٣: يونس* [}أليم بما كانوا يكفرونيدبر األمر من * في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي وال شفيع أفال تتذكرون

ذلك عالم الغيب والشهادة * ي يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون السمآء إلى األرض ثم يعرج إليه فثم جعل نسله من ساللة من * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق اإلنسان من طني * العزيز الرحيم

* }م سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع واألبصار واألفئدة قليال ما تشكرونث* مآء مهني ].٩ -٤: السجدة[

. فقد تعرف سبحانه إىل عباده بكالمه معرفة ال جيحدها إال من أنكره سبحانه، وإن زعم أنه مقربهظاهر جيمع القلب على املعبود، وجيعل له ربا يقصده وصمدا يصمد إليه ىف واملقصود أن التعبد بامسه ال

حوائجه وملجأ يلجأ إليه فإذا استقر ذلك ىف قلبه وعرف ربه بامسه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له يق نطاق التعبري وأما تعبده بامسه الباطن فأمر يض. معقل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفر كل وقت إليه

Page 15: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

عن حقيقته، ويكل اللسان عن وصفه، وتصطلم اإلشارة إليه وجتفو العبارة عنه، فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل خملصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس احللول واالحتاد وعبارة مؤدية للمعىن

فمن رزق هذا فهم معىن امسه الباطن وصح . فكاشفة عنه، وذوقا صحيحا سليما من أذواق أهل االحنراوسبحان اهللا كم زلت ىف هذا املقام أقدام وضلت فيه أفهام، ونظم فيه الزنديق بلسان . له التعبد به

الصديق، فاشتبه فيه إخوان النصارى باحلنفاء املخلصني، لنبو األفهام عنه وعزة ختلص احلق من الباطل ا ىف اخلارج إال على من رزقه اهللا بصرية ىف احلق، ونورا مييز به بني اهلدى فيه، والتباس ما ىف الذهن مب

والضالل، وفرقانا يفرق به بني احلق والباطل، ورزق مع ذلك اطالعا على أسباب اخلطأ وتفرق الطرق .العظيم ومثار الغلط، فكان له بصرية ىف احلق والباطل، وذلك فضل اهللا يؤتيه من يشاء واهللا ذو الفضل

بالعامل وعظمته، وأن العوامل كلها ىف ] تبارك وتعاىل[وباب هذه املعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب وإذ قلنا لك إن {: قبضته، وأن السموات السبع واألرضني السبع ىف يده كخردلة ىف يد العبد، قال تعاىل

، وهلذا يقرن ]٢٠: الربوج* [}واهللا من ورآئهم محيط{: قال، و]٦٠: اإلسراء* [}ربك أحاط بالناساسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه ال شيء : سبحانه بني هذين االمسني الدالني على هذين املعنيني

* }ظيموهو العلى الع{: فوقه، واسم العظمة الدال على اإلحاطة وأنه ال شيء دونه، كما قال تعاىلولله المشرق {: ، وقال]٢٣: سبأ* [}وهو العلى الكبري{: ، وقال تعاىل]٤: الشورى] [٢٥٥: البقرة[

، هو تبارك وتعاىل كما أنه ]١١٥: البقرة* [}والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليمخلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء العاىل على

فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إىل كل شيء من نفسه، وهو حميط به حيث ال حييط الشيء بنفسه وكل .شيء ىف قبضته وليس شيء ىف قبضة نفسه، فهذا أقرب إلحاطة العامة

والسـنة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من مثرة التعبد وأما القرب املذكور ىف القرآن : البقرة* [}وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان{: بامسه الباطن قال تعاىل

، ]٥٦: األعراف* [}من المحسنني إن رحمة الله قريب{: ، فهذا قربه من داعيه، وقال تعاىل]١٨٦إن اهللا : بقربه تعاىل من احملسنني، فكأنه قال] إيذانا[فوجد اخلرب وهو قريب عن لفظ الرمحة وهى مؤنثة

أقرب ما يكون العبد من : ((وىف الصحيح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم قال. برمحته قريب من احملسنني، فهذا قرب خاص غري قرب ))أقرب ما يكون الرب من عبده فى جوف الليل((، و))و ساجدربه وه

وىف الصحيح من حديث أىب موسى أهنم كانوا مع النىب صلى اهللا عليه وسلم ىف . اإلحاطة وقرب البطونال تدعون أصم وال ] فإنكم[اربعوا على أنفسكم أيها الناس : ((سفر، فارتفعت أصواهتم بالتكبري فقال

، فهذا قربه من داعيه وذاكره، ))غائبا، إن الذى تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته

Page 16: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كما يسمعها إذا رفعت، فإنه يعىن فأى حاجة بكم إىل رفع األصوات وهو لقربه يسمعها وإن خفضت،وهذا القرب هو من لوازم احملبة فكلما كان احلب أعظم كان القرب أكثر، وقد استولت . مسيع قريب

كأنه يراه [حمبة احملبوب على قلب حمبه حبيث يفىن هبا عن غريها، ويغلب حمبوبه على قلبه حىت له و يستحيل عليه وإال طرق باب احللول إن إن مل يكن عنده معرفه صحيحة باهللا وما جيب]. ويشاهده

مل يلجه، وسببه ضعف متييزه وقوة سلطان احملبة، واستيالء احملبوب على قلبه حبيث يغيب عن مالحظة وحنو هذا من الشطحات الىت هنايتها . ما ىف اجلبة إال اهللا: سبحاىن، أو: سواه، وىف مثل هذه احلال يقول

فالتعبد هبذا االسم هو التعبد خبالص احملبة وصفو . وعدم متييزه ىف تلك احلال أن يغفر له ويعذر لسكرهالوداد، وأن يكون اإلله أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه، مع كونه ظاهرا ليس فوقه شيء،

:ومن كيف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحا إىل ما هو أوىل به، فقد قيل لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إىل ما تستطيـعإذا

فمن مل يكن له ذوق من قرب احملبة، ومعرفة بقرب احملبوب من حمبة غاية القرب، وإن كان بينهما غاية وال سيما إذا كانت احملبة من الطرفني، وهى حمبة بريئة من العلل والشوائب واألعراض القادحة -املسافةاحملب كثريا ما يستوىل حمبوبه على قلبه وذكره ويفىن عن غريه ويرق قلبه وتتجرد نفسه، فإن -فيها

فيشاهد حمبوبه كاحلاضر معه القريب إليه وبينهما من البعد ما بينهما، وىف هذه احلال يكون ىف قلبه ىف عينه وجوده العلمى، وىف لسانه وجوده اللفظى، فيستوىل هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أن

:وجوده اخلارجى للغلبة حكم القلب والروح، كما قيل خيالك ىف عيىن وذكرك ىف فمى ومثواك ىف قلبـى فأين تغيب

هذا ويكون ذلك احملبوب بعينه بينه وبني عدوه من البعد وما بينهما وإن قربت األبدان وتالصقت وإن كان مطابقا هلا لكن املثال العلمى حمله واملقصود أن املثال العلمى غري احلقيقة اخلارجية. الديار

األول، واآلخر، والظاهر، : القلب واحلقيقة اخلارجية حملها اخلارج فمعرفة هذه األمساء األربعة وهى .والباطن هى أركان العلم واملعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ ىف معرفتها إىل حيث ينتهى به قواه وفهمه

أوال وآخرا وظاهرا وباطنا، بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن، حىت اخلطرة واعلم أن لك أنتفأولية اهللا عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته . واللحظة والنفس وأدىن من ذلك وأكثر

اهريته سبحانه ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظ. فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعىن الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما عال منه وأحاط بباطنه

من ] حبيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غري قرب احملب[وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء ة وهى إحاطتان زمانيه ومكانيه على اإلحاط[فمدار هذه األمساء األربعة . حبيبه، هذا لون وهذا لون

Page 17: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إىل أوليته وكل آخر انتهى إىل آخريته ] فأحاطتفأحاطت أوليته وآخريته باألوائل واألواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من

وما من أول إال واهللا قبله وما من آخر إال واهللا ] [دونه[ ظاهر إال واهللا فوقه، وما من باطن إال واهللافسبق كل شيء . فاألول قدمه، واآلخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه] بعده

فال [بأوليته وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعال على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه ، وال حيجب عنه ظاهر باطن بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده ]وال أرض أرضاتوارى منه مساء مساء

شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده عالنية، فهذه األمساء األربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو ا وظاهرا األول ىف آخريته واآلخر ىف أوليته، والظاهر ىف بطونه والباطن ىف ظهوره، مل يزل أوال وآخر

.وباطناالرتبة األوىل أن تشهد األولية منه تعاىل ىف كل شيء واآلخرية بعد كل شيء : والتعبد هبذه األمساء رتبتان

والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء، فاملخلوق حيجبه مثله عما هو دونه فيصري يس دونه شيء أقرب إىل اخللق منه واملرتبة الثانية من احلاجب بينه وبني احملجوب، والرب جل جالله ل

بفضله وإحسانه ] وسبقه[التعبد أن يعامل كل اسم مبقتضاه، فيعامل سبقه تعاىل بأوليته لكل شيء األسباب كلها مبا يقتضيه ذلك من إفراده وعدم اإللتفات إىل غريه والوثوق بسواه والتوكل على غريه،

لك ىف األزل حيث مل تكن شيئا مذكورا حىت مساك باسم اإلسالم، وومسك بسمة فمن ذا الذى شفعاإلميان، وجعلك من أهل قبضة اليمني، وأقطعك ىف ذلك الغيب عماالت املؤمنني، فعصمك عن العبادة

ما دون ] تبارك وتعاىل[للعبيد، وأعتقك من التزام الرق ملن له شكل ونديد، مث وجه وجهة قلبك إليه سواه، فاضرع إىل الذى عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق ىف القدم، أن يتم عليك نعمة هو ابتدأها وكانت أوليتها منه بال سبب منك، واسم هبمتك عن مالحظة االختيار وال تركنن إىل

السامية الىت ال تنال إال الرسوم واآلثار، وال تقنع باخلسيس الدون، وعليك باملطالب العالية واملراتب بطاعته، ومن كان هللا كما يريد كان اهللا له ] فإن اهللا عز وجل قضى أن ال ينال ما عنده إال. بطاعة اهللا[

وقوته أالن له احلديد، ومن ترك ألجله ] حبوله[فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد ومن تصرف مث اسم بسرك إىل املطلب، واقصر حبك وتقربك . الديىن أراد ما يريد أعطاه فوق املزيد، ومن أراد مراده

على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك، بل هو الذى جاد عليك باألسباب، وهيأ لك وآثر رضاه [فتوكل عليه وحده وعامله وحده . وصرف عنك موانعها وأوصلك هبا إىل غايتك احملمودة

، واقفا مبلتزمها، ]مستلما ألركاهنا. ته هو كعبة قلبك الىت ال تزال طائفا هبا وأجعل حبه ومرضا. وحدهفيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من مالبس نعمه وخلع

Page 18: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اللهم ال مانع ملا أعطيت وال معطى ملا منعت، وال ينفع ذا اجلد منك اجلد سبحانك: ((أفضاله، مث تعبد له بامسه اآلخر بأن جتعله وحده غايتك الىت ال غاية لك سواه، وال مطلوب لك وراءه ))وحبمدك

فكما انتهت إليه األواخر، وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل هنايتك إليه، فإن إىل ربك املنتهى، إليه التنبيه على ذلك وعلى التعبد بامسه وقد تقدم. انتهت األسباب والغايات فليس وراءه مرمى ينتهى إليه

وأما التعبد بامسه الباطن، فإذا شهدت إحاطته بالعوامل وقرب العبيد منه وظهور البواطن له وبدو . الظاهرالسرائر له وأنه ال شيء بينه وبينها فعامله مبقتضى هذا الشهود، وطهر له سريرتك فإهنا عنده عالنية

.نده شهادة وزك له باطنك فإنه عنده ظاهروأصلح له غيبك فإنه عفهنا وقفت شهادة العبد . فانظر كيف كانت هذه األمساء األربعة مجاع املعرفة باهللا، ومجاع العبودية له

مع فضل خالقه ومنته فال يرى لغريه شيئا إال به وحبوله وقوته، وغاب بفضل مواله احلق عن مجيع ما منه من ] مهم[ليه أو يتحلى به أو يتخذه عقدة أو يراه ليوم فاقته أو يعتمد عليه ىف هو مما كان يستند إ

مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن احلقائق واألصول إىل األسباب والفروع كما هو شأن ته الطبيعة واهلوى وموجب الظلم واجلهل، واإلنسان ظلوم جهول فمن جلى اهللا سبحانه صدأ بصري

وكمل فطرته وأوقفه على مبادئ األمور وغاياهتا ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كمفلس حقا من أستغفر اهللا من علمى ومن عملى، أى من انتساىب إليهما وغيبىت : علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول

فهو ال يشهد . ب مىن يوجب ذلكهبما عن فضل من ذكرىن هبما وابتدأىن بإعطائهما من غري تقدم سبغري فضل مواله وسبق منته ودوامه، فيثيبه مواله على هذه الشهادة العالية حبقيقة الفقر األوسط بني

أحدمها اخلالص من رؤية األعمال حيث كان يراها وميتدح هبا : الفقرين األدىن واألعلى ثوابنيذاهبا عنها فانيا عن رؤيتها، الثواب الثاىن أن يقطعه عن ويستكثرها فيستغرق مبطالعة الفضل غائبا عنها

فإن احلال حمله الصدر والصدر بيت القلب -أى عن شهود نفسه فيها متكثرة هبا -شهود األحوالوالنفس، فإذا نزل العطاء ىف الصدر للقلب وثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء فتتمدح به وتدل به

فإذا وصل إىل القلب نور ]. والظلم[قرر إنيتها ألهنا جاهلة ظاملة وهذا مقتضى اجلهل وتزهو وتستطيل وتصفة املنة، وشهد معىن امسه املنان، وجتلى سبحانه على قلب عبده هبذا االسم مع امسه األول، ذهل القلب

عن شهود أمر أو حال والنفس به وصار العبد فقريا إىل مواله مبطالعة سبق فضله األول، فصار مقطوعاينسبه إىل نفسه حبيث يكون بشهادته حلاله مفصوما مقطوعا عن رؤية عزة مواله وفاطره ومالحظة

فصاحب شهود األحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله ومشاهدة سبق األولية لألسباب . صفاتهر ىف حق هذا العبد الفقري وتشغله كلها، وغائب مبشاهدة عزة نفسه عن عزة مواله، فينعكس هذا األم

وكذلك الرجوع . رؤية عزة مواله ومنته ومشاهدة سبقه باألولية عن حال يعتز هبا العبد أو يشرف هبا

Page 19: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إىل السبق مبطالعة الفضل ميحص من أدناس مطالعات املقامات، فاملقام ما كان راسخا فيه، واحلال ما هبا وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله ] وشرفه[ فمطالعات املقامات. كان عارضا ال يدوم

فاستحق أن ينسب إليه ويوصف به مثل أن يقال زاهد صابر خائف راج حمب راض، فكونه يرى نفسه خروج عن الفقر إىل - على وجه االستحقاق هلا - مستحقا بأن تضاف املقامات إليه وبأن يوصف هبا

وجهل حبق الربوبية فالرجوع إىل السبق مبطالعة الفضل يستغرق مهة العبد الغىن، وتعد لطور العبودية، .عن رذائل هذه األرجاس] عز وجل[وميحصه ويطهره من مثل هذه األدناس، فيصري مصفى بنور اهللا

]الدرجة الثالثة من درجات الفقر[ىن، واالحتباس ىف بدء قيد والدرجة الثالثة صحة االضطرار، والوقوع ىف يد التقطع الوحدا: ((قوله

وهذه الدرجة فوق الدرجتني السابقتني عند أرباب السلوك، وهى الغاية )). التجريد، وهذا فقر الصوفيةالىت مشروا إليها وحاموا حوهلا، فإن الفقر األول فقر عن األعراض الدنيوية، والفقر الثاىن فقر عن رؤية

لث فقر عن مالحظة املوجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى املقامات واألقوال، وهذا الفقر الثاالوجود احلارث ىف قبضة احلق عز وجل اهلباء املنثور ىف اهلواء، يتقلب بتقليبه إياه، ويسري ىف شاهد العبد

ىف كما هو ىف اخلارج، فتمحو رؤية التوحيد عن العبد شواهد استبداده واستقالله بأمر من األمور، ولوالنفس واللمحة والطرفة واهلمة واخلاطر والوسوسة، إال بإرادة املريد احلق سبحانه وتدبريه وتقديره ومشيئته، فيبقى العبد كالكرة امللقاة بني صوجلانات القضاء والقدر، تقلبها كيف شاءت بصحة شهادة

ال يدرك مبجرد العلم، وال يعرفه إال وهذا األمر . قيومية من له اخللق واألمر وتفرده بذلك دون ما سواهمن حتقق به أوالح له منه بارق، ورمبا ذهل صاحب هذا املشهد عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصح من مثل هذا العبد االضطرار إىل احلى القيوم، وشهد ىف كل ذرة من ذراته

هة كونه ربا ومن جهة كونه إهلا معبودا ال غىن له عنه كما ال وجود الظاهرة والباطنة فقرا تاما إليه من ج .فهذا هو الفقر األعلى الذى دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى. له بغريه

معرفة حقيقة الربوبية واإللهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، : وإمنا يصح له هذا مبعرفتني ال بد منهمام له معرفة هذا الفقر، فإن أعطى هاتني املعرفتني حقهما من العبودية اتصف هبذا الفقر حاال، فهنالك تت

فهو الغىن بال . فما أغناه حينئذ من فقري، وما أعزه من ذليل، وما أقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيدفقرت به كل عني، [هللا قد قرت عينه با. مال القوى بال سلطان، العزيز بال عشرية، املكفى بال عتاد

وال يتم له ذلك إال بالرباءة من فرث اجلرب ودمه فإنه إن طرق . فافتقر إليه األغنياء وامللوك] واستغىن باهللاباب اجلرب احنل عنه نظام العبودية، وخلع ربقة اإلسالم من عنقه وشهد أفعاله كلها طاعات للحكم

:القدرى الكوىن وأنشد

Page 20: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ملا خيتاره مىن، ففعلى كله طاعاتأصبحت منفعالإن كنت عاصيا ألمره، فأنا مطيع حلكمه وإرادته ، فهذا منسلخ : اتق اهللا وال تعصه، يقول: وإذ قيل له

، وىف هذه ]املوضع[من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو اهللا إبليس بل وظيفة الفقري ىف هذا شرع، ورؤية قيامه باألفعال وصدورها منه كسبا واختيارا، وتعلق األمر الضرورة مشاهدة األمر وال

والنهى هبا طلبا وتركا، وترتب الذم واملدح عليها شرعا وعقال، وتعلق الثواب والعقاب هبا آجال االضطرار ىف حركاته وسكناته، والفاقة ] شهود[وعاجال، فمىت اجتمع له هذا الشهود الصحيح إىل

مة إىل مقلب القلوب ومن بيده أزمة االختيار ومن إذا شاء شيئا وجب وجوده، وإذا مل يشأ امتنع التاالقلوب باإلرادات واجلوارح [وجوده، وأنه ال هادى ملن أضله وال مضل ملن هداه وأنه هو الذى حيرك

أن تتحرك بدون تسخريه مذللة حتت قهره، وأهنا أعجز وأضعف من] باألعمال وأهنا مدبرة حتتمشيئته نافذة فيها كما هى نافذة ىف حركات األفالك واملياه واألشجار وأنه حرك كال ] مشيئته، وأن[

منها بسبب اقتضى حتريكه وهو خالق السبب املقتضى وخالق السبب خالق للمسبب، فخالق اإلرادة اإلرادة بال خالق حمدث حمال، احلازمة الىت هى سبب احلركة والفعل االختيارى خالق هلما، وحدوث

فإرادته لإلرادة كذلك ويستحيل هبا التسلسل، ] بإرادته[وحدوثها بالعبد بال إرادة منه حمال، وإن كان فال بد من فاعل أوجد تلك اإلرادة الىت هى سبب الفعل، فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إىل

فها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه مالك اإلرادات ورب القلوب ومصرآل * [}ربنا ال تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب{: منها أقامهشرع، ومن خرج عنه واحنرف إىل أحد ، فهذا هو الفقر الصحيح املطابق للعقل والفطرة وال]٨: عمران

الطرفني زاغ قلبه عن اهلدى، وعطل مالك امللك احلق وانفراده بالتصرف والربوبية عن أوامره وشرعه وحكم هذا الفقري املضطر إىل خالقه ىف كل طرفة عني وكل نفس أنه إن حرك بطاعة أو . وثوابه وعقابه

وإن حرك مبباديء معصيته صرخ وجلأ . ومنه وجوده فله احلمدهذا من فضل اهللا : نعمة شكرها وقالأعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلىب على دينك يا مصرف القلوب صرف : ((واستغاث وقال

، فإن مت حتريكه باملعصية التجأ التجاء أسري قد أسره عدوه وهو يعلم أنه ال خالص له ))قلىب على طاعتكن يفكه سيده من األسر، ففكاكه ىف يد سيده ليس ىف يده منه شيء البتة، وال ميلك لنفسه من أسره إال بأ

، ]على ختليصه[ضرا وال نفعا وال موتا وال حياة وال نشورا، فهو ىف أسر العدو ناظر إىل سيده وهو قادر لتجاء، على معرفة االبتالء، إمنا يكون اال: قال سهل. قد اشتدت ضرورته إليه، وصار اعتماده كله عليه

وأعوذ بك : ((يعىن وعلى قدر االبتالء تكون املعرفة باملبتلى ومن عرف قوله صلى اهللا عليه وسلم، وقام هبذه املعرفة شهودا وذوقا، وأعطاها حقها من العبودية، فهو الفقري حقا، ومدار الفقر ))منك

Page 21: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الفقر احملمدى، فهو سبحانه الذى ] فهم سر[هذا فهم سر ] زرق[الصحيح على هذه الكلمة، فمن ينجى من قضائه بقضائه، وهو الذى يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذى يدفع ما منه مبامنه، فاخللق كله له، واألمر كله له واحلكم كله له، وما شاء كان وما مل يشأ مل يكن، وما شاء مل يستطع أن يصرفه إال

ميكن أن جيلبه إال مشيئته، فال يأتى باحلسنات إال هو، وال يذهب بالسيئات إال مشيئته، وما مل يشأ ملوإن يمسسك الله بضر {: هو، وال يهدى ألحسن األعمال واألخالق إال هو، وال يصرف سيئها إال هو

، والتحقق مبعرفة هذا يوجب ]١٠٧: يونس* [}لهفال كاشف له إال هو وإن يردك بخير فال رآد لفضصحة االضطرار وكمال الفقر والفاقة، وحيول بني العبد وبني رؤية أعماله وأحواله واالستغناء هبا

وكيف يدعى مع اهللا حاال أو ملكة أو مقاما من قلبه . واخلروج عن رفقة العبودية إىل دعوى ما ليس لههرة والباطنة بيد ربه ومليكة ال ميلك هو منها شيئا، وإمنا هى بيد مقلب القلوب وإرادته وحركاته الظا

ومصرفها كيف يشاء فاإلميان هبذا والتحقق به نظام التوحيد، ومىت من القلب احنل نظام التوحيد، بطاعته وال وال يطاع إال مبشيئته، وال ينال ما عنده من الكرامة إال. فسبحان من ال يوصل إليه إال به

سبيل إىل طاعته إال بتوفيقه ومعونته فعاد األمر كله إليه كما ابتدأ األمر كله منه، فهو األول واآلخر وأن .إىل ربك املنتهى

ومن وصل إىل هذا احلال وقع ىف يد التقطع والتجريد، وأشرف على مقام التوحيد اخلاص، فإن التوحيد

ن الصالة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، عام وخاص، كما أ: نوعانفاخلاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده حبيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما مل

فاملسلمون كلهم مشتركون ىف إتياهنم بشهادة أن ال إله إال اهللا، وتفاوهتم ىف معرفتهم . يكن كذلكذه الشهادة وقيامهم باطنا وظاهرا أمر ال حيصيه إال اهللا عز وجل، وقد ظن كثري من الصوفية مبضمون ه

أن التوحيد اخلاص أن يشهد العبد احملرك له ويغيب عن املتحرك وعن احلركة فيغيب بشهوده عن أمواجه ترفعه طورا حركته، ويشهد نفسه شبحا فانيا جيرى على تصاريف املشيئة، كمن غرق ىف البحر ف

وختفضه طورا، فهو غائب هبا عن مالحظة حركته ىف نفسه، بل قد اندرجت حركته ىف ضمن حركة املوج وكأنه ال حركة له باحلقيقة، وهذا وإن ظنه كثري من القوم غاية، وظنه بعضهم الزما من لوازم

ناء ىف توحيد الربوبية، وهو أن ال يشهد التوحيد فالصواب أن من ورائه ما هو أجل منه، وغاية هذا الفربا وخالقا ومدبرا إال اهللا، وهذا هو احلق، ولكن توحيد الربوبية وحده ال يكفى ىف النجاة فضال عن أن يكون شهوده والفناء فيه هو غاية املوحدين وهناية مطلبهم، فالغاية الىت ال غاية وراءها وال هناية بعدها

حيد اإلهلية وهو أن يفىن مبحبة ربه عن حمبة كل ما سواه، وبتأهله عن تأله ما سواه، وبالشوق الفناء ىف تو

Page 22: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

له والفقر إليه من جهة كونه معبوده وإهله ] والفقر[إليه وإىل لقائه عن الشوق إىل ما سواه، وبالذل سواه ورجائه، فريى أنه وحمبوبه عن الذل إىل كل ما سواه، وكذلك يفىن خبوفه ورجائه عن خوف ما

ليس ىف الوجود ما يصلح له ذلك إال اهللا، مث يتصف بذلك حاله وينصبغ به قلبه صبغة مث يفىن بذلك عما سواه، فهذا هو التوحيد اخلاص الذى مشر إليه العارفون، والورد الصاىف الذى حام حوله احملبون، ومىت

اشتمل بلباس الفقر احلقيقى، وفرق حب اهللا من قلبه كل وصل إليه العبد صار ىف يد التقطع والتجريد، وحمبة وخوفه كل خوف ورجاؤه كل رجاء، فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإيثاره وإرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد، فلم ينقسم طلبه وال مطلوبه، فتعدد املطلوب وانقسامه قادح ىف التوحيد

ىف الصدق واإلرادة، فال بد من توحيد الطلب واإلرادة وتوحيد واإلخالص، وانقسام الطلب قادح املطلوب املراد، فإذا غاب مبحبوبه عن حب غريه ومبذكوره عن ذكر غريه ومبألوهه عن تأله غريه صار من أهل التوحيد اخلاص، وصاحبه جمرد عن مالحظة سوى حمبوبه أو إيثاره أو معاملته أو خوفه أو

ىف قيد التجريد عن مالحظة فاعل غري اهللا وهو جمرد عن مالحظة ] الربوبية[حب توحيد وصا. رجائهوجوده، وهو كما كان صاحب الدرجة األوىل جمردا عن أمواله وصاحب الثانية جمردا عن أعماله

بتغاء مراضى حمبوبه وأوامره قد فىن حببه وا[وأحواله، فصاحب الفناء ىف توحيد اإلهلية جمرد عن سوه وهذا هو التجريد الذى مست إليه مهم السالكني، فمن جترد عن . حب غريه وابتغاء مرضاته] مرضاته عن

ماله وحاله وكسبه وعمله مث جترد عن شهود جتريده فهو اجملرد عندهم حقا، وهذا جتريد القوم الذى عليه قاؤه مبوجوده، حبيث يفىن من مل يكن حيومون، وإياه يقصدون، وهنايته عندهم التجريد بفناء وجوده، وب

أكمل منه، ونسبته إليه ] جتريدا[ولعمر اهللا إن وراءه . ويبقى من مل يزل، وال غاية عندهم وراء هذابعري، وهو جتريد احلب واإلرادة عن الشوائب والعلل واحلظوظ، فيتوحد ] ظهر[كفتلة ىف حبر وشعرة ىف

منه، بل يبقى مراد حمبوبه هو من ] مبراد حمبوبه[مراده من حمبوبه حبه كما توحد حمبوبه، ويتجرد عن نفس مراده، وهنا يعقل االحتاد الصحيح وهو احتاد املراد، فيكون عني مراد احملبوب هو عني مراد احملب، . وهذا هو غاية املوافقة وكمال العبودية، وال تتجرد احملبة عن العلل واحلظوظ الىت تفسدها إال هبذا

فرق بني حمبة حظك ومرادك من احملبوب وأنك إمنا حتبه لذلك وبني حمبة مراد احملبوب منك وحمبتك له فالوأما االحتاد ىف اإلرادة فمحال كما أن االحتاد ىف املريد حمال، فاإلرادتان . لذاته أنه أهل أن حيب

.ل واحلظوظ فواحدوأما مراد احملب واحملبوب إذا خلصت احملبة من العل. متباينتانمن قسم النهايات، وحده )) منازل السائرين((وقد جعله صاحب . فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد

الدرجة األوىل جتريد الكشف عن : شهود الشواهد، وجعله على ثالث درجات] من[بأنه االخنالع .جتريد اخلالص من شهود التصريح كسب اليقني، والثانية جتريد عني اجلمع عن درك العلم، والثالثة

Page 23: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

...)يتبع(يريد كشف اإلميان ومكافحته للقلب، وهذا )) جتريد الكشف عن كسب اليقني: ((فقوله ىف األوىل@

وإن حصل باكتساب اليقني من أدلته وبراهينه، فالتجريد أن يشهد سبق اهللا تعاىل مبنته لكل سبب ينال به كشفه لذلك عن مالحظة سبب أو وسيلة، بل يقطع األسباب والوسائل وينتهى اليقني أو اإلميان، فيجرد

نظره إىل املسبب، وهذه إن أريد جتريدها عن كوهنا أسبابا فتجريد باطل، وصاحبه ضال وإن أريد جتريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتساهبا إليه وصريورهتا عنوان اليقني إمنا كان به وحده، فهذا جتريد

.صحيح ولكن على صاحبه إثبات األسباب، فإن نفاها عن كوهنا أسبابا فسد جتريدهملا كانت الدرجة األوىل جتريدا عن )) جتريد عني اجلمع عن درك العلم: ((وقوله ىف الدرجة الثانية

ب، اقتضت الكسب وانتهاء إىل عني اجلمع الذى هو الغيبة بتفرد الرب باحلكم عن إثبات وسيلة أو سبفاألوىل جتريد عن رؤية السبب . جتريدا آخر أكمل من األول وهو جتريد هذا اجلمع عن علم العبد به

والفعل، والثانية جتريد عن العلم واإلدراك وهذا يقتضى أيضا جتريدا ثالثا أكمل من الثاىن وهو جتريد اجلمع قد اجتمعت مهته على احلق، التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث ىف عني

وشغل به عن مالحظة مجعه وذكره وعلمه به، قد استغرق ذلك قلبه، فال سعة فيه لشهود علمه بتجريده ووراء هذا كله جتريد . وال شعوره به، فال التفات له إىل جتريده، ولو بقى له التفات إليه مل يكمل جتريده

ظهر بعري إىل مجلته، وهو جتريد احلب واإلرادة عن تعلقه بالسوى، نسبة هذا التجريد إليه كشعرة منوجتريده عن العلل والشوائب واحلظوظ الىت هى مراد النفس، فيتجرد الطلب واحلب عن كل تعلق خيالف

.واهللا املستعان وعليه التكالن وال حول وال قوة إال به. مراد احملبوب، فهذا جتريد احلنيفية فصل

الغىن إىل عال وسافلىف تقسيم فأفقر الناس إىل اهللا أغناهم به، وأذهلم له أعزهم، -وملا كان الفقر إىل اهللا عز وجل هو عني الغىن به

كأن -وأضعفهم بني يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسه أعلمهم باهللا وأمقتهم لنفسه أقرهبم إىل مرضاة اهللاواعلم أن الغىن على . ه متالزمني متناسبني، فنذكر فصال نافعا ىف الغىن العاىلذكر الغىن باهللا مع الفقر إلي

احلقيقة ال يكون إال هللا الغىن بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم تقدم بيانه، وغناه بسمة اخللق والصنع، وكما أن كونه خملوقا أمر ذاتى له، فكونه فقريا أمر ذاتى له كما

أمر نسىب إضاىف عارض له، فإنه إمنا استغىن بأمر خارج عن ذاته فهو غىن به فقري إليه، وال يوصف بالغىن .على اإلطالق إال من غناه من لوازم ذاته، فهو الغىن بذاته عما سواه، وهو األحد الصمد الغىن الحميد

Page 24: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الغىن السافل الغىن بالعوارى املستردة من النساء والبنني والقناطري ف. غىن سافل، وغىن عال: والغىن قسماناملقنطرة من الذهب والفضة واخليل املسومة واألنعام واحلرث وهذا أضعف الغىن، فإنه غىن بظل زائل،

قضى، وعارية ترجع عن قريب إىل أرباهبا، فإذا الفقر بأمجعه بعد ذهاهبا، وكأن الغىن هبا كان حلما فانوهذا غىن أرباب الدنيا الذى فيه . وال مهة أضعف من مهة من رضى هبذا الغىن الذى هو ظل زائل

يتنافسون، وإياه يطلبون، وحوله حيومون، وال أحب إىل الشيطان وأبعد عن الرمحن من قلب مآلن حبب يفرحوا بشيء كفرحهم إذا اجتمع إبليس وجنوده مل: قال بعض السلف. هذا الغىن واخلوف من فقده

وهذا الغىن حمفوف . مؤمن قتل مؤمنا، ورجل ميوت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر: بثالثة أشياءفحقيق مبن نصح نفسه أن ال يغتر به وال جيعله هناية . فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما: بفقرين

سيلة إليه، وجيعله خادما من خدمه ال خمدوما له، مطلبه، بل إذا حصل له جعله سببا لغناه األكرب و .وتكون نفسه أعز عليه من أن يعبدها لغري مواله احلق، أو جيعلها خادمة لغريه

فصل

ىف الغين العايلغىن القلب، وهو سالمته : الدرجة األوىل: هو على ثالث درجات: ((أما الغىن العاىل فقال شيخ اإلسالم

مساملته للحكم، وخالصه من اخلصومة، والدرجة الثانية غىن النفس، وهو استقامتها على من السبب، و: الغىن احلق وهو ثالث مراتب: والدرجة الثالثة. املرغوب، وسالمتها من احلظوظ، وبراءهتا من املراءاة

ثبت عن النىب : قلت. ))الفوز بوجوده: دوام مطالعة أوليته، والثالثة: األوىل شهود ذكره إياك، والثانية، ومىت استغنت ))ليس الغىن عن كثرة العرض ولكن الغىن غىن النفس: ((صلى اهللا عليه وسلم أنه قال

غىن القلب : ((النفس استغىن القلب، ولكن الشيخ قسم الغىن إىل هذه الدرجات حبسب متعلقة فقالأن هذا شرط ىف الغىن، ال أنه نفس سالمته من السبب، ومساملته للحكم، وخالصه من اخلصومة ومعلوم

الغىن، بل وجود املنازعة واملخاصمة وعدم املساملة مانع من الغىن، فهذه السالمة واملساملة دليل على غىن القلب، ال أن غناه هبا نفسها، وإمنا غىن القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتى بيانه إن شاء اهللا، فالغىن

وىف القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة . حبصول ما يسد فاقته ويدفع حاجتهإمنا يصري غنيا ال يسدها إال فوزه حبصول الغىن احلميد الذى إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل

ىن بغريه فكما أنه سبحانه الغىن على احلقيقة وال غىن سواه، فالغىن به هو الغىن ىف احلقيقة وال غ. شيءألبتة، فمن مل يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، ومن استغىن به زالت عنه كل

.حسرة وحضره كل سرور وفرح، واهللا املستعان

Page 25: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وإمنا قدم شيخ اإلسالم الكالم على غىن القلب على الكالم على غىن النفس ألن كمال صالح النفس وه، وبلوغها إىل درجة الطمأنينة ال يكون إال بعد صالح القلب، وصالح غناها باالستقامة من مجيع الوج

النفس متقدم على صالح القلب هكذا قيل، وفيه ما فيه، ألن صالح كل واحد منهما مقارن لصالح ولكن ملا كان القلب هو امللك وكان صالحه صالح مجيع رعيته كان أوىل بالتقدمي، وقد قال . اآلخر

إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد : (( عليه وسلمالنىب صلى اهللا، والقلب إذا استغىن مبا فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية ))لها سائر الجسد، أال وهى القلب

بها، فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة والرضا واإلخبات، خلع على األمراء والرعية خلعا تناسفأدت احلقوق مساحة ال كظما بانشراح ورضا ومبادرة، وذلك ألهنا جانست القلب حينئذ ووافقته ىف أكثر أموره، واحتد مرادمها غالبا فصارت له وزير صدق، بعد أن كانت عدوا مبارزا بالعداوة، فال تسأل

هذا ومل . ا أحدثت هذه املؤازرة واملوافقة من طمأنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أهل اجلنةعمتضع احلرب أوزارها فيما بينهما بل عدهتا وسالحها كامن متوار، لوال قوة سلطان القلب وقهره حلاربت

.حلياةبكل سالح، فاملرابطة على ثغرى الظاهر والباطن فرض متعني مدة أنفاس ا وتنقضى احلرب حممودا عواقبها للصابرين، وحظ اهلارب الندم

وخلع على اجلوارح خلع اخلشوع والوقار، وعلى الوجه خلعة املهابة والنور والبهاء، وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت واحلكمة النافعة، وعلى العني خلعة االعتبار ىف النظر والغض عن احملارم،

لى األذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعه للعبد ىف معاشه ومعاده، وعلى اليدين وعفغدا العبد . والرجلني خلعة البطش ىف الطاعات أين كانت بقوة وأيد، وعلى الفرج خلعة العفة واحلفظ

نفس مشتق من غىن القلب وفرع عليه، فغىن ال. وراح يرفل ىف هذه اخللع وجير هلا ىف الناس أذياال وأرداناوغىن القلب ما يناسبه من حتقيقه بالعبودية احملضة الىت هى أعظم . فإذا استغىن سرى الغىن منه إىل النفس

خلعة ختلع عليه، فيستغىن حينئذ مبا توجبه هذه العبودية له من املعرفة اخلاصة واحملبة الناصحة اخلالصة، صفات املقدسة وما تقتضيه من األحكام والعبوديات املتعلقة بكل صفة على ومبا حيصل له من آثار ال

االنفراد وجمموعها قائمة بالذات، وهذا أمر تضيق عن شرحه عدة أسفار بل حظ العبد منه علما وإرادة فسالت أنزل من السمآء مآء{: واهللا عز وجل. كما يدخل إصبعه ىف اليم، بل األمر أعظم من ذلك

، فإذا استغىن القلب هبذا الغىن الذى هو غاية فقره استغنت النفس غىن ]١٧: الرعد* [}أودية بقدرهايناسبها، وذهبت عنها الربودة الىت ثقلها وكسلها وإخالدها إىل األرض وصارت هلا حرارة توجب

دهتا ىف شهواهتا وحظوظها ورعوناهتا حركتها وخفتها ىف األوامر وطلبها الرفيق األعلى، وصارت برووذهبت أيضا عنها اليبوسة املضادة للينها وسرعة انفعاهلا وقبوهلا، فإهنا إذا كانت يابسة قاسية كانت

Page 26: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

بطيئة االنفعال بعيدة القبول ال تكاد تنقاد، فإذا صارت برودهتا حرارة، وبوبستها رطوبة وسقيت مباء على قلوب أنبيائه وجعلها قرارا ومعينا له ففاض منها على ] من السماء[وجل احلياة الذى أنزله اهللا عز

قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كرمي، فحينئذ انقادت بزمام احملبة إىل موالها احلق مؤدية حلقوقه ارجعي إلى ربك راضية * نة يأيتها النفس المطمئ{: قائمة بأوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأنينتها

.، فلنرجع إىل كالمه]٢٨ - ٢٧: الفجر* [}مرضيةأى من الفقر إىل السبب وشهوده )) إنه سالمته من السبب: ((فقوله ىف الدرجة األوىل وهى غىن القلب

واثقا به مل يطلق عليه اسم ] هغنا[واالعتماد عليه والركون إليه والثقة به، فمن كان معتمدا على سبب الغىن، ألنه فقري إىل الوسائط، بل ال يسمى صاحبه غنيا إال إذا سلم من علة السبب استغناء باملسبب، بعد

فمن . الوقوف على رمحته وحكمته وتصرفه وحسن تدبريه، فلذلك يصري صاحبه غنيا بتدبري اهللا عز وجلأى باالنقياد -، ومن علة املنازعة للحكم باالستسالم له واملساملةكملت له السالمة من علة األسباب

للقلب بوقوفه على حسن تدبريه ورمحته وحكمته، فإذا وقف العبد على ] فحمى[حصل الغىن - حلكمهحسن تدبريه واستغىن القلب به مل يتم له االستغناء مبجرد هذا الوقوف، ان مل ينضم إليه املساملة للحكم

نقياد له، فإن املنازعة للحكم إىل حكم آخر دليل على وجود رعونة االختيار، وذلك دال على وهو االمل يطلق ] عز وجل[فقر صاحب االختيار إىل ذلك الشئ املختار، ومن كان فقريا إىل شيء مل يرده اهللا

إال باملساملة حلكمه بعد عليه اسم الغىن بتدبري اهللا عز وجل، فال يتم الغىن بتدبري الرب عز وجل لعبده الوقوف على حسن تدبريه، مث يبقى عليه اخلالص من معىن آخر وهو خماصمة اخللق بعد اخلالص من

فإن منازعة اخللق دليل على فقره إىل األمر الذى وقعت فيه اخلصومة من احلظوظ . خماصمة الرب سبحانهال يطلق عليه اسم -فوته وخياصم اخللق عليهيسخط ل - العاجلة، ومن كان فقريا إىل حظ من احلظوظ

الغىن حىت يسلم اخللق من خصومته بكمال تفويضه إىل وليه وقيومه ومتوىل تدبريه، فمىت سلم العبد من ومن علة خماصمته للخلق على حظوظ، ] عز وجل[علة فقره إىل السبب، ومن علة منازعته ألحكام اهللا

ه مفوضا إليه ال يفتقر قلبه إىل غريه وال يسخط شيئا من أحكامه وال استحق أن يكون غنيا بتدبري موالخياصم عباده إال ىف حقوق ربه فتكون خماصمته هللا وباهللا، وحماكمته إىل اهللا، كما كان النىب صلى اهللا

يك توكلت، وإليك اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعل: ((عليه وسلم يقول ىف استفتاح صالة الليل، فتكون خماصمة هذا العبد هللا ال هلواه وحظه وحماكمته خصمه ))أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت

إىل أمر اهللا وشرعه ال إىل شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت ومن حاكم . ، وهذا لتكميل عبوديته))صلى اهللا عليه وسلم لنفسه قطما انتقم رسول اهللا : ((عائشة

Page 27: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

خصمه إىل غري اهللا ورسوله فقد حاكم إىل الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، وال يكفر العبد بالطاغوت .حىت جيعل احلكم هللا وحده كما هو كذلك ىف نفس األمر

لذى ذكره الشيخ ىف منازل السائرين حكم كوىن قدرى، وحكم أمرى ديىن، فهذا ا: واحلكم نوعانوشرحه عليه الشارحون، إمنا مراده به احلكم الكوىن القدرى، وحينئذ فال بد من تفصيل ما أمجلوه من مساملة احلكم واالستسالم له وترك املنازعة له، فإن هذا اإلطالق غري مأمور به وال ممكن للعبد ىف نفسه

حكم أمرى ديىن، فهذا الذى ذكره الشيخ ىف منازل السائرين حكم كوىن قدرى، و: واحلكم نوعانوشرحه عليه الشارحون، إمنا مراده به احلكم الكوىن القدرى، وحينئذ فال بد من تفصيل ما أمجلوه من مساملة احلكم واالستسالم له وترك املنازعة له، فإن هذا اإلطالق غري مأمور به وال ممكن للعبد ىف نفسه

حكم شرعى ديىن، فهذا حقه أن يتلقى باملساملة والتسليم وترك املنازعة، بل باالنقياد : ام ثالثةبل األحكاحملض، وهذا تسليم العبودية احملضة فال يعارض بذوق وال وجد وال سياسة وال قياس وال تقليد، وال

القبول فإذا تلقى هبذا التسليم واإلذغان و[يرى إىل خالفه سبيال البتة، وإمنا هو االنقياد احملض والتسليم وتصديقا بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعمال، فال تكون له شهوة ] واملسألة إقرارا

تنازع مراد اهللا من تنفيذ حكمه، كما مل تكن له شبهة تعارض وإقراره، إميانه وهذا حقيقة القلب السليم ق وشهوة تعارض األمر، فال استمتع خبالقه كما استمتع به الذين يتبعون الذى سلم من شبهة تعارض احل

الشهوات، وال خاض ىف الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خالقه حتت األمر، واضمحل خوضه ىف معرفته باحلق فاطمأن إىل اهللا معرفة به وحمبة له وعلما بأمره وإرادته ملرضاته، فهذا حق احلكم

حكم شرعى ديىن، فهذا حقه أن يتلقى باملساملة والتسليم وترك املنازعة، بل : بل األحكام ثالثة.الديىنباالنقياد احملض، وهذا تسليم العبودية احملضة فال يعارض بذوق وال وجد وال سياسة وال قياس وال تقليد،

واإلذغان والقبول فإذا تلقى هبذا [سليم وال يرى إىل خالفه سبيال البتة، وإمنا هو االنقياد احملض والتوتصديقا بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعمال، فال تكون ] التسليم واملسألة إقرارا

له شهوة تنازع مراد اهللا من تنفيذ حكمه، كما مل تكن له شبهة تعارض وإقراره، إميانه وهذا حقيقة ن شبهة تعارض احلق وشهوة تعارض األمر، فال استمتع خبالقه كما استمتع به القلب السليم الذى سلم م

الذين يتبعون الشهوات، وال خاض ىف الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خالقه حتت ، األمر، واضمحل خوضه ىف معرفته باحلق فاطمأن إىل اهللا معرفة به وحمبة له وعلما بأمره وإرادته ملرضاته

.فهذا حق احلكم الديىناحلكم الكوىن القدرى الذى للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذى إذا حكم به يسخطه : احلكم الثاىن

ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن وال يسامل البتة، بل ينازع باحلكم الكوىن

Page 28: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وله كما قال شيخ العارفني ىف وقته عبد القادر أيضا، فينازع حكم احلق باحلق للحق ويدافع به،الناس إذا دخلوا إىل القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت ىل روزنة فنازعت أقدار احلق : ((اجليالىن

ا هـ، فإن ضاق ذرعك عن هذا )) باحلق للحق، والعارف من يكون منازعا للقدر ال واقفا مع القدرأتفر من : ((-وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له -عمر ابن اخلطاب الكالم وفهمه فتأمل قول

، مث كيف ينكر هذا الكالم من ال بقاء له ىف هذا العامل إال ))نفر من قدر اهللا إىل قدره: قدر اهللا؟ فقالترك االنقياد له به، وال تتم له مصلحة إال مبوجبه، فإنه إذا جاءه قدر من اجلوع والعطش أو الربد نازعه و

ومساملته، ودفع بقدر آخر من األكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر اهللا بقدره، وهكذا إذا وقع احلريق ىف داره فهو بقدر اهللا، فما باله ال يستسلم له ويسامله ويتلقاه باإلذعان؟ بل ينازعه ويدافعه باملاء والتراب

خرج ىف ذلك عن قدر اهللا، وهكذا إذا أصابه مرض بقدر اهللا وغريه حىت يطفيء قدر اهللا بقدر اهللا ومادافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه األدوية الدافعة للمرض فحق هذا احلكم الكوىن أن حيرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما ميكنه، فإن غلبه وقهره، حرص على دفع آثاره وموجباته باألسباب

اهللا لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع احلكم باحلكم، وهبذا أمر، بل هذا حقيقة الىت نصبهاالشرع والقدر، ومن مل يستبصر ىف هذه املسألة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أىب،

ه الدنيوية وال ينازع بأقداره ىف حظوظه وأسباب معاشه ومصاحل] تعاىل[فما للعبد ينازع أقدار الرب أقداره ىف حق مواله وأوامره ودينه؟ وهل هذا إال خروج عن العبودية ونقص ىف العلم باهللا وصفاته وأحكامه؟ ولو أن عدوا لإلسالم قصده لكان هذا بقدر اهللا، وجيب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر

عا لقدر اهللا بقدره فما لالستالم واملساملة هنا مدخل ىف حيبه اهللا وهو اجلهاد باليد أو املال أو القلب دف .العبودية، اللهم إال إذا بذل العبد جهده ىف املدافعة واملنازلة وخرج األمر عن يده

فصل ىف تفسري غىن النفس، يريد ))استقامتها على املرغوب، وسالمتها من احلظوظ وبراءهتا من املراءاة: ((قوله ىف غىن النفس أنه

قامتها على األمر الديىن الذى حيبه اهللا ويرضاه، وجتنيها ملناهيه الىت يسخطها ويبغضها، وأن تكون استهذه االستقامة على الفعل والترك تعظيما هللا ستحانه وأمره، وإميانا يه، واحتسابا لثوابه، وخشية من

طلبا للجاه واملنزلة عندهم، عقابه، ال طلبا لتعظيم املخلوقني له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وفسالمة النفس من ذلك . فإن هذا دليل على غاية الفقر من اهللا، والبعد عنه وأنه أفقر شئ إىل املخلوق

واتصافها بضده دليل غناها، ألهنا إذا أذعنت منقادة ألمر اهللا طوعا واختيارا وحمبة وإميانا واحتسابا، ها ىف القيام بعبوديته كما كان النىب صلى اهللا عليه وسلم حبيث تصري لذاهتا وراحتها ونعيمها وسرور

حبب إىل من دنياكم النساء والطيب : ((، وقال صلى اهللا عليه وسلم))يا بالل أرحنا بالصالة: ((يقول

Page 29: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ن قرة ، فقرة العني فوق احملبة، فجعل النساء والطيب مما حيب، وأخرب أ))وجعلت قرة عيىن فى الصالةالعني الىت يطمئن القلب بالوصول إليها وحمض لذته وفرحه وسروره وهبجته إمنا هو ىف الصالة الىت هى صلة باهللا وحضور بني يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف ال تكون قرة العني، وكيف تقر عني احملب

فاهتا حىت تلتفت إليه؟ وال فإذا حصل للنفس هذا احلظ اجلليل فأي فقر خيشى معه، وأي غىن . بسواهاحيصل هلا هذا حىت ينقلب طبعها ويصري جمانسا لطبيعة القلب، فتصري بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة، وإمنا تصري مطمئنة بعد تبادل صفاهتا وانقالب طبعها، الستغناء القلب مبا وصل إليه من نور احلق جل

ه وبشره وعظمه وحلمه ودمه وسائر مفاصله، جالله، فجرى أثر ذلك النور يف مسعه وبصره وشعروأحاط حبهاته من فوقه وحتته وميينه ويساره وخلفه وأمامه، وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا، وقوله

.نورا، ومدخله نورا وخمرجه نورا وكان يف مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به اجلسرطاول إىل الشهوات اليت توجب اقتحام احلدود وإذا وصلت النفس إىل هذه احلال استغنت هبا عن الت

املسخوطة، والتقاعد عن األمور املطلوبة املرغوبة، فإن فقرها إىل الشهوات هو املوجب هلا التقاعد عن املرغوب املطلوب، وأيضا فتقاعدها عن املطلوب بينهما موجب لفقرها إىل الشهوات، فكل منهما

ن افتقرها إىل الشهوات، فإنه حبسب قيام العبد باألمر تدفع عنه موجب لآلخر، وترك األوامر أقوى هلا م، وقال ]٤٥: العنكبوت[} إن الصالة تنهى عن الفحشاء واملنكر{: جيوش الشهوة، كما قال تعاىل

، فكمال الدفع )يدفع(، ويف القراءة األخرى ]٣٨: احلج[} إن اهللا يدافع عن الذين آمنوا{: تعاىلسب قوة اإلميان وضعفه، فإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية مبا أغناها به مالكها واملدافعة حب

وفاطرها من النور الذي وقع يف القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغىن على األمر املوهوب، وهلذا وسلمت به عن األمر املسخوط وبرئت من املراءاة، ومدار ذلك كله على االستقامة باطنا وظاهرا،

إن الذين قالوا {: ، وقال سبحانه]١١٢: هود[} فاستقم كما أمرت{: كان الدين كله يف قوله تعاىل ].١٣: األحقاف[} ربنا اهللا مث استقاموا فال خوف عليهم وال هم حيزنون

فصل فيما يغىن القلب ويسد الفاقة

احلق تبارك وتعاىل عن كل ما سواه، وهذه االستقامة ترقيها إىل الدرجة الثالثة من الغىن، وهو الغىن بفأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر اهللا عز وجل إياك قبل ذكرك له، وأنه تعاىل . وهى أعلى درجات الغىن

ذكرك فيمن ذكره من خملوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك ا البتة، وذكرك سبحانه باإلسالم فوفقك له واختارك له وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث مل تكن شيئ

]٧٨: احلج* [}هو سماكم المسلمني من قبل{: دون من خذله، قال تعاىل

Page 30: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فجعلك أهال ملا مل تكن أهال له قط، وإمنا هو الذى أهلك بسابق ذكره، فلوال ذكره لك بكل مجيل ومن الذى ذكرك سواه باليقظة حىت استيقظت وغريك ىف رقدة الغفلة مع أوالكه مل يكن لك إليه سبيل،

النوام؟ ومن الذى ذكرك سواه بالتوبة حىت وفقك هلا، وأوقعها ىف قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأحىي عزماتك الصادقة عليها، حىت تبت إليه وأقبلت عليه، فذقت حالوة التوبة وبردها ولذاهتا؟ ومن الذى

ك سواه مبحبته حىت هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت حنوه سبحانه ركائبها، وعمر قلبك مبحبته ذكربعد طول اخلراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة واالغتراب ومن تقرب إليك أوال حىت تقربت إليه،

قرب بعده وتقرب ت: مث أثابك على هذا التقرب تقربا آخر فصار التقرب منك حمفوفا بتقربني منه تعاىلذكر قبله : حب قبله وحب بعده، والذكر منك حمفوفا بذكرين: قبله، واحلب منك حمفوفا حببني منه

وذكر بعده، فلوال سابق ذكره إياك مل يكن من ذلك كله شيء، وال وصل إىل قلبك ذرة مما وصل إليه إليه والتقرب إليه، فهذه كلها آثار من معرفته وتوحيده وحمبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه واإلنابة

ذكره لك،مث إنه سبحانه ذكرك بنعمه املترادفة املتواصلة بعدد األنفاس، فله عليك ىف كل طرفة عني ونفس نعم عديدة ذكرك هبا قبل وجودك، وتعرف هبا إليك وحتبب هبا إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء،

ه وجوده، إذ هو اجلواد املفضل احملسن لذاته ال ملعاوضة وال لطلب جزاء وإمنا ذلك جمرد إحسانه وفضلمنك وال حلاجة دعته إىل ذلك كيف وهو الغىن احلميد، فإذا وصل إليك أدىن نعمة منه فاعلم أنه ذكرك هبا، فلتعظم عندك لذكره لك هبا، فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه وابتدأك مبعروفه وحتبب إليك

.بنعمته، هذا كله مع غناه عنكفإذا شهد العبد ذكر ربه تعاىل له، ووصل شاهده إىل قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غىن عال ال يشبهه شيء، وهذا كما حيصل للمملوك الذى ال يزال أستاذه وسيده يذكره وال ينساه، فهو

نعام سيده عليه وعطاياه السنية له، فهذا هو غىن غىن زائد على إ -بشعوره بذكر أستاذه له - حيصل لهمن ذكرنى ىف نفسه : ((وقد قال صلى اهللا عليه وسلم، فيما يروى عن ربه تبارك وتعاىل. ذكر اهللا للعبد

))ذكرته فى نفسى، ومن ذكرنى فى مأل ذكرته فى مأل خير منهبد لربه غري الذكر األول الذى ذكره به حىت جعله ذاكرا، وشعور العبد بكال فهذا ذكر ثان بعد ذكر الع

الكلم الطيب -الذكرين يوجب له غىن زائدا على إنعام ربه عليه وعطاياه له، وقد ذكرنا ىف كتاب من فوائد الذكر استجالب ذكر اهللا سبحانه لعبده، وذكرنا قريبا من مائة فائدة تتعلق -والعمل الصاحل

بالذكر كل فائدة منها ال نظري هلا، وهو كتاب عظيم النفع جدا واملقصود أن شعور العبد وشهوده لذكر

Page 31: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اهللا له يغىن قلبه ويسد فاقته، وهذا خبالف من نسوا اهللا فنسيهم، فإن الفقر من كل خري حاصل هلم، وما .يظنون أنه حاصل هلم من الغىن فهو من أكرب أسباب فقرهم

فصل يان الدرجة الثانية من درجات الغىن باهللا عز وجلىف ب

الدرجة الثانية من درجات الغىن باهللا عز وجل دوام شهود أوليته تعاىل، وهذا الشهود عند أرباب فتح السلوك أعلى مما قبله، والغىن به أمت من الغىن املذكور، ألنه من مباديء الغىن باحلقيقة، ألن العبد إذا

اهللا لقلبه شهود أوليته سبحانه حيث كان وال شيء غريه، وهو اإلله احلق الكامل ىف أمسائه وصفاته، الغىن عما سواه، احلميد اجمليد بذاته قبل أن خيلق من حيمده ويعبده وميجده، فهو معبود حممود حى قيوم له

فا بصفات اجلالل، منعوتا بنعوت الكمال، امللك وله احلمد ىف األزل واألبد، مل يزل وال يزال موصووكل شيء سواه فإمنا كان به، وهو تعاىل بنفسه ليس بغريه فهو القيوم الذى قيام كل شيء به، وال

.حاجة به ىف قيوميته إىل غريه بوجه من الوجوهات فىن ىف وجوده فإذا شهد العبد سبقه تعاىل باألولية ودوام وجوده احلق وغاب هبذا عما سواه من احملدث

وبقى من مل يزل، واضمحلت املمكنات ىف وجوده األزىل الدائم حبيث ] كأنه مل يكن[من مل يكن عن ] هبا[صارت كالظالل الىت يبسطها وميدها ويقبضها، فيستغىن العبد هبذا املشهد العظيم ويتغذى

الذى قبله فيه شائبة مشرية إىل وجود وإمنا كان هذا عندهم أفضل مما قبله ألن الشهود . فاقاته وحاجاتهالعبد، وهذا الشهود الثاىن سائر املوجودات كلها سوى األول تعاىل قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت

، فبقى العبد حموا صرفا وعدما حمضا، وإن كانت ]تبارك وتعاىل[كأوليتها وهو العدم، فأفنتها أولية احلق لكنها ملا نسبت إىل أولية احلق عز وجل اضمحلت وفنيت وبقى الواحد احلق انيته مشخصة مشارا إليها

الذى مل يزل باقيا، فاضمحل ما دون احلق تعاىل ىف شهود العبد كما هو مضمحل ىف نفسه، وشهد العبد ذا الشهود باطل، وأن احلق املبني هو اهللا وحده، وال ريب أن الغىن هب] اهللا[حينئذ أن كل شيء ما سواى

من الغىن بالذى قبله، وليس هذا خمتصا بشهود أوليته تعاىل فقط بل مجيع ما يبدو للقلوب من ] دائم[ .يستغىن العبد هبا بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها] جل جالله[صفات الرب

خرب به أعرف اخللق فمن شهد مشهد علو اهللا على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أوأعلمهم به الصادق املصدوق وتعبد مبقتضى هذه الصفة حبيث يصري لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجيا

فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه . له مطرقا واقفا بني يديه وقوف العبد الذليل بني يدى امللك العزيزأن يصعد إليه من كلمه ما خيزيه ويفضحه هناك، معروض عليه مع أوىف خاصته وأوليائه، فيستحى

من اإلماتة -ويشهد نزول األمر واملراسيم اإلهلية إىل أقطار العوامل كل وقت بأنواع التدبري واملصرف

Page 32: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

واإلحياء والتولية والعزل واخلفض والرفع والعطاء واملنع وكشف البالء وإرساله وتقلب الدول ومداولة ىف اململكة الىت ال يتصرف فيها سواه، فمرامسه نافذة كما ] التصرف[إىل غري ذلك من - الناس األيام بني

* }نيدبر األمر من السمآء إلى األرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدو{يشاء وكذلك من شهد مشهد العلم . حقه معرفة وعبودية استغىن بهفمن أعطى هذا املشهد ] ٥: السجدة[

احمليط الذى ال يعزب عنه مثقال ذرة ىف األرض وال ىف السموات وال ىف قرار البحار وال حتت أطباق اجلبال بل أحاط بذلك علمه علما تفصيليا مث تعبد مبقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته

اته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإرادته ومجيع أحواله ومجيع أحواله وعزموكذلك إذا أشعر قلبه صفة مسعه تبارك . ظاهرة مكشوفة لديه عالنية له بادية ال خيفى عليه منها شيء

عنده من أسر القول ومن جهر به ال] وسواء[وتعاىل ألصوات عباده على اختالفها وجهرها وخفائها مسع عن مسع وال تغلطه األصوات على .. يشغله جهر من جهر عن مسعه لصوت من أسر وال يشغله

كثرهتا واختالفها واجتماعها بل هى عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق اخللق مجيعهم وبعثهم عنده مبنزلة نفس واحدة

السوداء على الصخرة الصماء إذا شهد معىن امسه البصري جل جالله الذى يرى دبيب النملة.. وكذلكىف حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغرية وخمها وعروقها وحلمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها ىف ظلمة الليل، وأعطى هذا املشهد حقه من العبودية حبرس حركاهتا وسكناهتا وتيقن

شئ ومشاهدة ال يغيب عنه منها] تبارك وتعاىل[أهنا مبرأى منه وكذلك إذا شهد مشهد القيومية اجلامع لصفات األفعال وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس

، وأنه تعاىل هو القائم بنفسه املقيم لغريه القائم عليه بتدبريه وربوبيته وقهره وإيصال جزاء ]مبا كسبت[ينام، خيفض القسط ويرفعه، ] بغى له أناحملسن إليه وجزاء املسيء إليه وأنه بكمال قيوميته ال ينام وال ين[

وهذا . يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، ال تأخذه سنة وال نوم وال يضل وال ينسى .املشهد من أرفع مشاهد العارفني، وهو مشهد الربوبية

ال إله إال هو وأن إهلية وأعلى منه مشهد اإلهلية الذى هو مشهد الرسل وأتباعهم احلنفاء، وهو شهادة أنما سواه باطل وحمال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك فال أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق هناية احلب مع هناية الذل لكمال أمسائه وصفاته وأفعاله، فهو املطاع وحده على

لغريه باطلة وعناء وضالل، وكل حمبة لغريه ، واملألوه وحده، وله احلكم وحده، فكل عبودية ]احلقيقة[، وكل عز بغريه ذل وصغار، وكل تكثر بغريه قلة وذلة، ]وفاقة[عذاب لصاحبها، وكل غىن لغريه فقر

فكما استحال أن يكون للخلق رب غريه فكذلك استحال أن يكون هلم إله غريه، فهو الذى انتهت إليه

Page 33: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

هو الغىن ] احلقيقة[ن يكون معه إله آخر، فإن اإلله على الرغبات وتوجهت حنوه الطلبات، ويستحيل أوال حاجة به إىل أحد، وقيام كل شيء به ] الكامل ىف أمسائه وصفاته الذى حاجة كل أحد إليه[الصمد

وليس قيامه بغريه، ومن احملال أن حيصل ىف الوجود اثنان كذلك، ولو كان ىف الوجود إهلان لفسد نظامه يستحيل أن يكون له فاعالن متساويان كل منهما مستقل ] أنه[عظم اختالل، كما أعظم فساد واختل أ

بالفعل، فإن استقالهلما يناىف استقالهلما واستقالل أحدمها مينع ربوبية اآلخروقع االحتجاج به ىف القرآن أكثر مما وقع بغريه، ] وذلك[فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد اإلهلية،

ظهورها وقبول العقول والفطر هلا، والعتراف أهل األرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان لصحة داللته و، مع ]٥: ص* [}أجعل اآللهة إهلا واحدا{: عباد األصنام يقرون به وينكرون توحيد اإلهلية ويقولون

د مبلك ذلك كله، اعترافهم بأن اهللا وحده هو اخلالق هلم وللسموات واألرض وما بينهما، وأنه املنفروحده ال شريك له وأهنم لو رجعوا ] توحيده[فأرسل اهللا تعاىل الرسل يذكر مبا ىف فطرهم اإلقرار به من

إىل فطرهم وعقوهلم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطالنه، فمشهد األلوهية هو مشهد سم الدال على هذا املعىن هو اسم اهللا جل احلنفاء، وهو مشهد جامع لألمساء والصفات، ولذلك كان اال

الرمحن الرحيم العزيز : جالله، فإن هذا االسم هو اجلامع، وهلذا تضاف األمساء احلسىن كلها إليه فيقال* }وهللا األسماء الحسنى{: اهللا من أمساء الرمحن، قال اهللا تعاىل: الغفار القهار من أمساء اهللا، وال يقال

]١٨٠: عرافاأل[فهذا املشهد جتتمع فيه املشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإمنا هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه ملشهد اإلهلية وقام حبقه من التعبد الذى هو كمال احلب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية،

:ان حال مثل هذا يقولفقد مت له غناه باإلله احلق، وصار من أغىن العباد، ولس غنيت بال مال عن الناس كلهم وإن الغىن العاىل عن الشيء ال به

فياله من غىن ما أعظم خطره وأجل قدره، تضاءلت دونه املمالك فما دوهنا، وصارت بالنسبة إليه كالظل .من النوم من احلامل له، والطيف املواىف ىف املنام الذى يأتى به حديث النفس ويطرده االنتباه

فصل ىف بيان الدرجة الثالثة من درجات الغىن بالرب

أعلى درجات ] بالغ[الفوز بوجوده، هذا الغىن ] جل جالله[الدرجة الثالثة من درجات الغىن بالرب ، ففاض على القلب من صدق التوجه ]إليه[الغىن، ألن الغىن األول والثاىن كانا من آثار ذكر اهللا والتوجه

لصفات املقدسة، واستغىن القلب بذلك وحصل أيضا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن أنوار االذى هو - وأما هذا الغىن الثالث. وكالته وقيوميته بتدبريه وحسن تدبريه فاستغنت النفس بذلك أيضا

Page 34: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

صفات إىل آثار وجود فهو من آثار وجود احلقيقة، وهو إمنا يكون بعد ترقيه من آثار ال - الغىن باحلقالذات، وإمنا يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عني اليقني عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أوله وكماله عند طلوع مشسه فينقطع ضباب الوجود الفاىن وتشرق مشس الوجود الباقى فينقطع هلا كل ضباب، وهذا

الذات كما كشف له بالنور الذى قبله عبارة عن نور يقذف ىف القلب يكشف له بذلك النور عن عظمةعن عظمة الصفات، فإذا كان أثر من آثار صفات الذات أو صفات األفعال يغىن القلب والنفس فما ظنك مبا تكاشف به األرواح من أنوار قدس الذات املتصفة باجلالل واإلكرام فهذا غىن ال يناله الوصف

قري بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضى ومن وال يدخل حتت الشرح فيستغىن العبد الفغىن يدوم ومن عيش ألذ من املىن، فال تستعجز نفسك عن البلوغ إىل هذا املقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإمنا هى عزمة صادقة وهنضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أن يبيعها بالدون، وقد

فال تلعب وتكفلت برزقك فال تتعب ابن [ابن آدم خلقتك لنفسى : ((يقول اهللا عز وجل جاء ىف أثر إهلىفإن وجدتنى وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل ] آدم أطلبىن جتدىن

أغناه وجوده عن كل شيء، فأصبح حرا ىف غىن ] وجده[ومن ، فمن طلب اهللا بصدق وجده، )) شيءومهابة على وجهه أنواره وضياؤه، وإن فاته مواله جل جالله تباعد ما يرجو وطال عناؤه، ومن وصل إىل هذا الغىن قرت به كل عني ألنه قد قرت عينه باهللا والفوز بوجوده، ومن مل يصل إليه تقطعت نفسه

من أصبح والدنيا أكبر همه جعل اهللا فقره بين : ((وقد قال صلى اهللا عليه وسلم على الدنيا حسرات،ناه بر همه جعل اهللا غعينيه وشتت عليه شمله ولم يأته من الدنيا إال ما قدر له، ومن أصبح واآلخرة أك

، فهذا هو الفقر ))فى قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهى راغمة، وكان اهللا بكل خير إليه أسرع] عز وجل[احلقيقى والغىن احلقيقى، وإذا كان هذا غىن من كانت اآلخرة أكرب مهه فكيف من كان اهللا

.من باب التنبيه واألوىل أكرب مهه، فهذا فصل

ىف ذكر كلمات عن أرباب الطريق ىف الفقر والغينيريد عدمها ىف : قلت. الفقر أن ال تستغىن بشيء غري اهللا ورمسه عدم األسباب كلها: قال حيىي بن معاذ

وسئل . ه باألزليةاالعتماد عليها والطمأنينة هبا، بل تصري عدما بالنسبة إىل سبق مسببها باألولية، وتفردإذا صح االفتقار إىل اهللا تعاىل : واالستغناء به فقال] تعاىل[حممد بن عبد اهللا الفرغاىن عن االفتقار إىل اهللا

صح االستغناء به، وإذا صح االستغناء به صح االفتقار إليه، فال يقال أيهما أكمل ألنه ال يتم أحدمها إال باهللا هو عني الفقر إليه، ومها عبارتان عن معىن واحد، ألن كمال الغىن به هو االستغناء: قلت. باآلخر

كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال االفتقار إليه من كل وجه، وهذا االفتقار هو عني الغىن به، فليس

Page 35: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ه واملفتقر هنا شيئان يطلب تفضيل أحدمها على اآلخر، وإمنا يتوهم كوهنما شيئني حبسب املستغىن عن)) فقرا((بالنسبة إىل فراغه عن املوجودات الفانية، و)) غىن((إليه، فهى حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى

، فهى مهة سافرت عن شيء واتصلت بغريه، فسفرها ]عز وجل[بالنسبة إىل قصر مهته ومجعها على اهللا غنت به بكمال فقرها إليه، إذ يصري هلا بعد عن الغري غىن، وسفرها إىل اهللا فقر، فإذا وصلت إليه است

إرسال : وسئل رومي عن الفقر فقال. الوصول فقر آخر غري فقرها األول، وإمنا يكمل فقرها هبذا الوصولإن أراد احلكم الكوىن القدرى ] أو[إن أراد احلكم الديىن فصحيح، : قلت. النفس ىف أحكام اهللا تعاىلوإرسال النفس ىف أحكامه الىت . بل ال بد فيه من التفصيل كما تقدم بيانهفال يصح هذا اإلطالق

.يسخطها ويبغضها، وإرساهلا ىف أحكامه الىت جيب منازعتها ومدافعتها بأحكامه خروج عن العبوديةة حفظ السر كتمانه صيان: قلت.. حفظ سره، وأداء فرضه وصيانة فقره: نعت الفقري ثالثة أشياء: وقيل

وأداء الفرض قيام حبق العبودية . له من األغيار، وغرية عليه أن ينكشف ملن ال يعرفه وال يؤمن عليهوقال . وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة األغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع

وسئل حيىي بن معاذ . قبلهم الفقرطلبنا الفقر فاستقبلنا الغىن، وطلب الناس الغىن فاست: إبراهيم بن أدهم: مباذا ينبغى أن يقدم الفقري على ربه؟ فقال: وسئل أبو حفص. هو األمن باهللا عز وجل: عن الغىن فقال

إن الفقري الصادق ليخشى من الغىن : وقال بعضهم. ما ينبغى للفقري أن يقدم على ربه بشيء سوى فقرهوقال . ه، كما خيشى الغىن احلريص من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناهحذرا أن يدخله فيفسد عليه فقر

:ومن هاهنا قال القائل: قلت. أفضل املقامات اعتقاد الصرب على الفقر إىل القرب: بشر بن احلارث خلعة ساق رحبه جرعـا: غدا العيد ماذا أنت البسه؟ فقلت: قالوا

فة األعياد واجلمعـافقر وصـرب مها ثوبان حتتهمـا قلب يرى أل الدهر ىل مأمت إن غبت يـا أملى والعيد ما دمت ىل مرأى ومستمعا

كيف ذلك؟ : فقيل له. إذا مل يبق عليه بقية منه: مىت يستحق الفقري اسم الفقر؟ فقال: وسئل ابن اجلالءبقى عليه بقية من نفسه، فإذا معىن هذا أنه ال ي: قلت. إذا كان له فليس له، وإذا مل يكن له فهو له: فقال

وإذا مل يكن لنفسه بل كان كله لربه . كان لنفسه فليس هلا بل قد أضاع حقها وضيع سعادهتا وكماهلافقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادهتا فإنه إذا كان هللا كان اهللا له، وإذا مل يكن هللا مل يكن اهللا له

.وا أنفسهمفكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسرأحسن ما : ((وقال أبو حفص. حقيقة الفقر أن ال يستغىن الفقري ىف فقره بشيء إال مبن إليه فقره: وقيل

توسل به العبد إىل مواله دوام الفقر إليه على مجيع األحوال، ومالزمة السنة ىف مجيع األفعال، وطلب يشري إىل تعلق : قلت)). ال تسبق مهته خطوته ينبغى للفقري أن: ((وقال بعضهم)). القوت من وجه حالل

Page 36: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وأيضا يشري إىل قصر أمله، وأن مهته . مهته بواجب وقته، وأنه ال تتخطى مهته واجب الوقت قبل إكمالهغري متعلقة بوقت ال حيدث نفسه ببلوغه وأيضا يشري إىل مجع اهلمة على حفظ الوقت، وأن ال يضعفها

.بتقسيمها على األوقات. علم يسوسه، وورع حيجزه، ويقني حيمله، وذكر يؤنسه: أقل ما يلزم الفقري ىف فقره أربعة أشياء: وقيل

: فقال أبو سهل. بل فقر وعز: فقال منصور. إمنا هو فقر وذل: وقال أبو سهل اخلشاب ملنصور املغرىبوقال . ة ومنصور إىل الغايةأشار أبو سهل إىل البداي: قلت. بل فقر وعرش: فقر وثرى، فقال منصور

يا أبا : فقلت. إذا لقيت الفقري فالقه بالرفق وال تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه: اجلنيدنعم، الفقري إذا كان صادقا ىف فقره، فطرحت عليه العلم : القاسم، كيف يكون فقري يوحشه العلم؟ فقال

الفقري هو الذى ال يكون له إىل اهللا : أبو املظفر القرميسيىنوقال . ذاب كما يذوب الرصاص ىف الناروهذا اللفظ فيه أدىن غموض على من مسعه على وصف الغفلة عن : قال أبو القاسم القشريى. حاجة

مرمى القوم، وإمنا أشار قائله إىل سقوط املطالبات، وانتفاء االختيار، والرضى مبا جيريه احلق سبحانه وبعد فهو كالم مستدرك خطأ فإن حاجات هذا العبد إىل اهللا بعدد األنفاس إذ : قلت. ىلبتارك وتعا

حاجته ليست كحاجات غريه من أصحاب احلظوظ واألقسام، بل حاجات هؤالء ىف حاجة هذا العبد ىف مقامات كتفلة ىف حبر، فإن حاجته إىل اهللا ىف كل طرفة عني أن حيفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه

العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأوقاهتا ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها وجيتنبها، فأى حاجات أكثر وأعظم من هذه؟

و أكثر، فالعبد له ىف كل نفس وحلظة الفقري هو الذى حاجاته إىل اهللا بعدد أنفاسه أ: فالصواب أن يقالوطرفة عني عدة حوائج إىل اهللا ال يشعر بكثري منها، فأفقر الناس إىل اهللا من شعر هبذه احلاجات وطلبها

هو الذى ال : من معدهنا بطريقها، وإن كان ال بد من إطالق تلك العبارة على أن منها كل بد فيقالته وحتطه عن مقام العبودية إىل منزلة االستغناء، وأما أن يقال ال حاجة له حاجة له إىل اهللا ختالف مرضا

وأما محل أبى القاسم لكالمه على إسقاط املطالبات وانتفاء االختيار والرضى . إىل اهللا فشطح قبيحه وال يكون ، بغري اختيار]فإمنا حيسن ىف بعض احلاالت، وهو ىف القدر الذى جيرى عليه[مبجارى األقدار

وأما إذا كان مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر هو أحب إىل اهللا . مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدمفإسقاط املطالبات وانتفاء االختيار فيه والسعى عني -وهو مأمور به أمر إجياب أو استحباب - منه

عدم األمالك، واخلروج عن أحكام [الفقر : فيفوقال أبو خ. العجز، واهللا تعاىل يلوم على العجزإليه إضافة ملك، وأن خيرج عن أحكام صفات نفسه ويبدهلا ] يريد عدم إضافة شيء: الصفات، قلت

بأحكام صفات مالكه وسيده مثاله أن خيرج عن حكم صفة قدرته واختياره الىت توجب له دعوى امللك

Page 37: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ة القدرة األزلية الىت توجب له العجز والفقر والفاقة، كما ىف والتصرف واإلضافات ويبقى بأحكام صفاللهم إىن أستخريك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك : ((دعاء االستخارة

، فهذا اتصاف بأحكام الصفات العلى ىف العبد، ))تقدر وال أقدر، وتعلم وال أعلم وأنت عالم الغيوب .عن أحكام صفات النفس وخروج

ال يصح ألحد الفقر حىت يكون العطاء أحب إليه من األخذ وليس السخاء أن يعطى : وقال أبو حفصالفقري الذى ال يرى لنفسه حاجة إىل : وقال بعضهم. الواجد املعدم، وإمنا السخاء أن يعطى املعدم الواجد

إذا مل ير : مىت يستريح الفقري؟ فقال: وسئل سهل بن عبد اهللا. شيء من األشياء سوى ربه تبارك وتعاىلمن حكم الفقري أن ال يكون له رغبة، وإن : وقال أبو بكر ابن طاهر. لنفسه غري الوقت الذى هو فيه

الذى ال يملك وال يملك : كان ال بد فال جتاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقري الصادق فقال .دوام الفقر إىل اهللا مع التخليط أحب إىل من دوام الصفاء مع العجب واهللا أعلم: نوقال ذو النو

فصل ىف حتقيق نعت الفقري

ال يستغىن هبا تكثرا، وال . فجملة نعت الفقري حقا أنه املتخلى من الدنيا تطرفا واملتجاىف عنها تعففامل تضره، بل هو فقري غناه ىف فقره، وغىن فقره ىف يستكثر منها متلكا، وإن كان مالكا هلا هبذا الشرط

ومن نعته أيضا أن يكون فقريا من حاله وهو خروجه عن احلال تربيا، وترك االلتفات إليه تسليا، .. غناه. وترك مساكنة األحوال والرجوع عن موافقتها فال يستغىن هبا اعتمادا عليها وال يفتقر إليها مساكنة هلا

الصرب والرضى والتوكل واإلنابة، فهو عامل على مراد اهللا منه ال ] و[ته أنه يعمل على موافقة اهللا ومن نععلى موافقة هواه وهو حتصيل مراده من اهللا، فالفقري خالص بكليته هللا عز وجل، ليس لنفسه وال هلواه ىف

غيبه شاهد احلق عن شاهد أحواله حظ وال نصيب، بل عمله بقيام شاهد احلق وفناء شاهد نفسه، قدنفسه فهو يريد اهللا مبراد اهللا، فمعوله على اهللا، ومهته ال تقف دون شيء سواه، قد فىن حببه عن حب ما سواه وبأمره عن هواه وحبسن اختياره له عن اختياره لنفسه، فهو ىف واد والناس ىف واد خاضع متواضع

إىل ذكر اهللا، بريء من الدعاوى ال يدعى بلسانه وال سليم القلب، سلس القيادة للحق، سريع القلب بقلبه وال حباله، زاهد ىف كل ما سوى اهللا، راغب ىف كل ما يقرب إىل اهللا، قريب من الناس أبعد شيء منهم، يأنس مبا يستوحشون منه ويستوحش مما يأنسون به، متفرد ىف طريق طلبه ال تقيده الرسوم وال

يفرح مبوجود ال يأسف على مفقود، من جالسه قرت عينه به ومن رآه ذكرته رؤيته متلكه العوائد وال باهللا سبحانه، قد محل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل هلم نصيحته وسبل هلم عرضه ونفسه ال ملعاوضة وال لذلة وعجز، ال يدخل فيما ال يعنيه وال يبخل مبا ال ينقصه، وصفه

Page 38: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الصدق والعفة واإليثار والتواضع واحللم والوقار واالحتمال، ال يتوقع ملا يبذله للناس منهم عوضا وال مدحة، ال يعاتب وال خياصم وال يطالب وال يرى له على أحد حقا وال يرى له على أحد فضال، مقبل

اره ويقظته ومنامه ال يضع عصا على شأنه مكرم إلخوانه خبيل بزمانه حافظ للسانه، مسافر ىف ليله وهنالسري عن عاتقه حىت يصل إىل مطلبه، قد رفع له علم احلب فشمر إليه، وناداه داعى اإلشتياق فأقبل بكليته عليه، أجاب منادى احملبة إذ دعاه حى على الفالح، ووصل السرى ىف بيداء الطلب، فحمد عند

:الصباح الوصول سراه، وإمنا حيمد القوم السرى عند فحى على جنـات عـدن فإنـهـا منازلك األوىل وفيها املخيــــم ولكننا سىب العـدو، فـهل تـري نعود إىل أوطاننـا ونسلــــم

وحى على روضاهتـا وخيامهـــا وحى على عيش هبا ليس يســأم وحى على يوم املزيد وموعـد الــ حمبني، طـوىب للذى هو منهــم

هبـا هـو أفيح وتربته من أذفر املسك أعظـــموحــى على واد ومـن حوهلا كـثبان مسك مقاعـد ملن دوهنم هذا الفخار املعظـــم يرون به الرمحـن جــل جاللــه كرؤية بدر التـم ال يتوهــــم أو الشمس صحوا ليس من دون أفقها ضباب وال غيم هناك يغيــــم

...)يتبع( ـــم وأرزاقهم جترى عليهم وتقســـموبينـا ىف عيشهم وسروره@

إذا هـم بنور ساطح قد بدا هلـــم فقيل ارفعوا أبصاركم، فإذا هــم سالم عليكم طبتم وسلمتــــم: برهبم مـن فوقهـم وهـو قائـل

فيـا عجبـا، ما عذر من هو مؤمن هبذا وال يسعى له ويقـــــدم بول وصرفك قيـــمفبادر إذا مـا دام ىف العمـر فسحة وعدلك مق

فما فرحت بالوصل نفس مهـــينة وال فاز قلب بالبطالة ينعــــم ]تسعى وتغنـم[فجد وسارع واغتنم ساعة السـري ففى زمن اإلمكان

وسر مسرعا فالسري خلفك مــسرع وهيهات ما منه مفر ومهــــزم أو عليك ستقــدم] قدوم[فهــن املنــأيا أى واد نزلتــه عليها

وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك الـ معىن رهني ىف يـديها مسلـــم هبا يتنعــم] والواشـى[وقد ساعدت بالوصل غريك فاهلوي هلا منك

]يبسـم[فدعها وسل النفس عنهــا جبنـة من الفقر ىف روضاهتا الدر

Page 39: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومن حتتها األهنار ختفـق دائـــما وطري األماىن فوقهــا يتـــرمن منها القطوف فمن يــرد جناها ينله كيف شاء وينعـــموقد ذللت

]مقســم[وقد فتحـت أبواهبا وتزينــــت خلطاهبا فاحلسن فيها أبواهبـا داعـى اهلـدي هلموا إىل دار السعادة تغنمـــوا] أقام علي[

وقد طاب منها نزهلا ومقيلهــــا فطوىب ملن حلوا هبا وتنعــــموا غراســــه من الناس، والرمحن بالغرس أعلـم وقد غرس الرمحن فيها

فمن كان من غرس اإلله فإنــــه سعيد وإال فالشقا متحتـــــم فيا مسرعني السري باهللا ربكــــم قفوا ىب على تلك الربوع وسلمـوا

]تعيشوا وتسلموا[حمب قاده الشوق حنوكــم قضى حنبه فيكم : وقولوا بأن اهلوى يعمى القلوب ويبكــمقضى اهللا رب العاملــني قـضيـة

وحبكم أصل الهـدى ومـــداره وعليه وفوز للمحب ومغنــــم وتفىن عظام الصــب بعـد ممـاته وأشواقه وقف عليه حمـــــرم

فيا أيها القلب الذى ملك اهلـــوي أعنتــه، حتام هذا التلــــوم والناس نــوم وحتام ال تصحو وقد قرب املــدي ودقت كئوس السري

بلى سوف تصحو حني ينكشف الغطا ويبدو لك األمر الذى كنت تكتـم ويا موقدا نارا لغريك ضؤوهــــا وحر لظاها بني جنبيك يضـــرم أهذا جىن العلم الذى قد غرستــه وهذا الذى قد كنت ترجوه تطعـم وهذا هو احلظ الذى قد رضيتـــه لنفسك ىف الدارين لو كنت تفهـم

هذا هو الربح الذى قد كسبتــه لعمرك ال ربح وال األصل يســلمو خبلت بشيء ال يضـرك بذلـــه وجدت بشيء مثله ال يقـــتوم وبعت نعيما ال انقضاء لـــه وال نظرب ببخس عن قليل سيـــعدم فهال عكست األمر إن كنت حازمـا ولكن أضعت احلزم إن كنت تعلم

جاهــــدا فأنت مدى األيام تبنـى وهتــدم وهتدم ما تبىن بكفك وعند مراد احلق تفــىن كــميت وعنـد مراد النفس تسدى وتلـحم وعنـد خالف األمــر حتتج بالقضا ظهريا على الرمحن للجرب تزعــم تنزه تلك النفس عن سوء فــعلهـا وتغتاب أقدار اإلله وتظلــــم

ت يقينا ىف الذى أنت تزعــموتزعم مع هذا بأنك عــــارف كذب

Page 40: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وما أنت إال جاهل مث ظــــامل وإنك بني اجلاهلني مقـــــدم إذا كان هذا نصح عبد لنفســـه فمن ذا الذى منه اهلدى يتعلـــم :وىف مثل هذا كان قد قال من مضـي وأحسن فيما قالـه املتكلـــم

ة أعظــمفإن كنت ال تدرى فتلك مصيبـــة وإن كنت تدرى فاملصيب ولو تبصر الدنيا وراء ستورهــــا رأيت خياال ىف مـنام سيصــرم

كحلم بطيف زار ىف النوم وانقضى الـ منام وراح الطيف والصب معــرم وظل أرته الشمس عند طلوعهـــا سيقلص ىف وقت الزوال ويفصــم ومزنة صيف طاب منها مقيلـــها فولت سريعا واحلرور تضـــرم

ا ممرا ال مقرا، وكن هبــــا غريبا تعش فيها محيدا وتسلـــمفجزه أو ابن سبيل قال ىف ظل دوحـــة وراح وخلى ظلها يتقســـــم أخـا سفر ال يستقر قــــراره إىل أن يرى أوطانه يسلـــــم فيا عجبا كم مصرح عطـــبوا به بنوها ولكن عن مصارعهـا عمـوا

إذا انثنـوا سقتهم كئوس السم والقوم قد ظمواسقتهم بكأس احلب حىت وأعجب ما ىف العبد رؤية هذه الــ ـعظائم منها وهو فيـها متيــم وأعجـب من ذا أن أحباهبــا األيل هتني ولألعداء تراعـى وتكــرم وذلك برهان على أن قــــدرها جناح بــــعوض أو أدق وأألم

: هلا ولدار اخللد واحلق يفهــــموحسبك ما قال الرسول ممثـــال كما يدخل اإلنسان ىف اليم إصبعــا وينزعها منه فما ذاك يغنــــم أال ليت شعرى هل أبينت ليـــلة على حذر منها وأمرى حمكـــم وهل أردن ماء احلياة وأرتـــوي علـى ظمأ من حوضه وهو مفعـم

ـا السواىف تستبني وتعلــموهل تبدون أعالمهم بعد ما سفــت عليهـ وهـل أفرشن خدى ثرى عتباهتــم خضوعا هلم كيما يرقوا ويرمحــوا وهـل أرين نفسى طرحيا ببـــاهبم وطري أماىن احلب فوقى حتـــوم فوا أسفى تفىن احلياة وتنقــــضي وعتبكم باق، بقيتم وعشتـــم

سلو عنكـــمفما منكم بد وال عنكم غــــين وما ىل من صرب فأ فمن شاء فليغضب سواكـم فال أذي إذا كنتم عن عبدكم قد رضيتــم وعقبـى اصطبارى ىف رضاكم هوي لكم محيد ولكنه عقاب ومغــرم

Page 41: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومـا أنا بالشاكى ملا ترتضونـــه ولكنىن أرضى به وأسلـــــم وحسىب انتساىب من بعيد إليكـــم وذلك حظ مثله يتيمــــــم

يـل هذا عبــدهم وحمبهــم هتلل بشــرا ضاحكا يتبســـمإذا ق :وهـا هو قد أبدى الضــراعة قائال لكم بلسان احلال واحلال يعلــم أحبتنا عطفا علينـا فـإنـنــــا بنا ظمأ، واملورد العذب أنتـــم فيا ساهيا ىف غمرة اجلهل واهلــوي صريـع األماىن عن قليل ستنــدم

قد دنا الوقـت الـذى ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضـــرمأفق وبالسنة الغــراء كن متمســكـا هى العروة الوثقى الىت ليس تفصـم متسك هبا مسك البخيل مبــــاله وعض عليها بالنواجذ تسلــــم وإياك مما أحدث الناس بعــــدها فمرتع هاتيك احلوادث أوخـــم

ماذا أجبتــم: ا تسمع الـــندا من اهللا يوم العرضوهيء جوابا عندم به رسلـى ملـا أتوكم، فمن جيـب سواهم سيخزى عند ذاك وينــدم وخذ من تقى الرمحن أسبغ جنـــة ليوم به تبدو عيانـا جهنــــم وينصباك اجلسر من فوق متـــنها فهاو وخمدوش وناج مسلــــم

فيفصــل ما بني العباد وحيكــم ويأتى إله العاملـــــني لوعـده ويأخذ للمظلوم إذ ذاك حقــــه فيا ويح من قد كان للخلق يظلـم وينشر ديــوان احلساب وتوضع الـ ـموازين بالقسط الذى ليس يظلم فـال جمرم خيشى هناك ظالمـــة وال حمسن من أجره الذر يهضــم

املهيمن خيتــم وتشهد أعضاء املسـيء مبـا جـين لذاك على فيــه ويا ليت شعرى كيف حالك عندمـا تطاير كتب العاملني وتقســــم أتأخذ باليمىن كتابك أم تــــري بيسراك خلف الظهر منك يسلــم وتقرأ فيـه كل شيء عــــملته فيشرق منك الوجه أو هو يظلــم تقول كتـاىب هـــاؤم اقرؤوه يل تبشر باجلنات حقا وتعلـــــم

إن تكن األخرى فإنك قائــــل أال ليتىن مل أوته فهــو مغــرمو فال والذى شق القلـوب وأودع الـ ـمحبة فيها حيث ال تتصـــرم ومحلهـا قلب احملـــــب وإنه ليضعف عن محل القميــص ويأمل وذللها حىت استكانت لصــولة الـ ـمحبة ال تلوى وال تتلعثــــم

Page 42: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

نفسـا دون ذهلا حياض املنايا فوقها هى حـــوموذلــل فــيها أ لقد فـاز أقوام وحازوا مـــراحبا بتركهم الدنيا واإلقبال منهـــم@

على رهبم طول احلياة وحبهــــم على هنج مــا قد سنه فهم هـم قاعدة شريفة عظيم القدر

.ىل الروح الىت بني جنبيهحاجة العبد إليها أعظم من حاجته إىل الطعام والشراب والنفس بل وإاعلم أن كل حى سوى اهللا فهو فقري إىل جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، واملنفعة للحى من جنس النعيم،

:فالبد من أمرين. واللذة واملضرة من جنس األمل والعذابوصل احملصل لذلك هو املعني امل: هو املطلوب املقصود احملبوب الذى ينتفع به ويتلذذ به، والثاىن: أحدمها

أمر حمبوب مطلوب : فها هنا أربعة أشياء. املقصود واملانع حلصول املكروه والدافع له بعد وقوعهالوجود، والثاىن أمر مكروه مطلوب العدم، والثالث الوسيلة إىل حصول احملبوب، والرابع الوسيلة إىل دفع

لكل حى سوى اهللا، ال يقوم صالحه إال هبا إذا عرف فهذه األمور األربعة ضرورية للعبد بل و. املكروههذا فاهللا سبحانه وتعاىل هو املطلوب املعبود احملبوب وحده ال شريك له وهو وحده املعني للعبد على حصول مطلوبه، فال معبود سواه وال معني على املطلوب غريه، وما سواه هو املكروه املطلوب بعده وهو

إياك نعبد {: بحانه اجلامع لألمور األربعة دون ما سواه، وهذا معىن قول العبداملعني على دفعه، فهو س، فإن هذه العبادة تتضمن املقصود املطلوب على أكمل الوجوه، واملستعان ]٥: الفاحتة* [}وإياك نستعني

يته، والثاىن من مقتضى فاألول من مقتضى ألوه. هو الذى يستعان به على حصول املطلوب ودفع املكروهربوبيته، ألن اإلله هو الذى يؤله فيعبد حمبة وإنابة وإجالال وإكراما، والرب هو الذى يرب عبده فيعطيه خلقه مث يهديه إىل مجيع أحواله ومصاحله الىت هبا كماله، ويهديه إىل اجتناب املفاسد الىت هبا فساده

إياك نعبد وإياك {: أحدها قوله تعاىل: تظم هذين األصلنيوىف القرآن سبعة مواضع تن. وهالكه، ]١٠: الشورى] [٨٨: هود* [}عليه توكلت وإليه أنيب{: ، الثاىن قوله تعاىل]٥: الفاحتة* [}نستعين

عليك توكلنا وإليك {: قوله تعاىل، الرابع ]١٢٣: هود* [}فاعبده وتوكل عليه{: الثالث قوله تعاىل* }وتوكل على الحى الذى ال يموت وسبح بحمده{: ، اخلامس قوله تعاىل]٤: املمتحنة* [}أنبنا

واذكر اسم {: ، السابع قوله]٣٠: الرعد* [}عليه توكلت وإليه متاب{: ، السادس قوله]٥٨: الفرقان[، ومما يقرر ]٩ -٨: املزمل* [}رب املشرق واملغرب ال إله إال هو فاتخذه وكيال* ربك وتبتل إليه تبتيال

م هذا أن اهللا خلق اخللق لعبادته اجلامعة ملعرفته واإلنابة إليه وحمبته واإلخالص له، فبذكره تطمئن قلوهبوبرؤيته ىف اآلخرة تقر عيوهنم، وال شيء يعطيهم ىف اآلخرة أحب إليهم من النظر إليه، وال شيء يعطيهم ىف الدنيا أحب إليهم من اإلميان به وحمبتهم له ومعرفتهم به، وحاجتهم إليه ىف عبادهتم له وتأهلهم له

Page 43: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن ذلك هو الغاية املقصودة الىت هبا سعادهتم كحاجتهم إليه بل أعظم ىف خلقه وربوبيته هلم ورزقه هلم، فوفوزهم، وهبا وألجلها يصريون عاملني متحركني، وال صالح هلم وال فالح وال نعيم وال لذة وال سرور بدون ذلك حبال، فمن أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا، وحيشره يوم القيامة أعمى، وهلذا ال

أفضل )) ال إله إال اهللا: ((ويغفر ما دون ذلك ملن يشاء، وهلذا كانت يغفر اهللا ملن يشرك به شيئاوكان توحيد اإلهلية الذى كلمته ال إله إال اهللا رأس األمر، فأما توحيد الربوبية الذى أقر به . احلسنات

.كل املخلوقات فال يكفى وحده، وإن كان ال بد منه، وهو حجة على من أنكر توحيد األلوهية، وأن ))فحق اهللا على العباد أن يعبدوه وال يشركوا به شيئا وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن ال يعذهبم((

يكرمهم إذا قدموا عليه، وهذا كما أنه غاية حمبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أيضا إذا رجع إليه وإىل عبوديته وطاعته حمبوب الرب من عبده ومطلوبه الذى يرضى به، ويفرح بتوبة عبده

أعظم من فرح من وجد راحلته الىت عليها طعامه وشرابه ىف أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيس منها، وهذا أعظم فرح يكون، وكذلك العبد فال فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له

والشوق إىل لقائه، فليس ىف الكائنات ما يسكن العبد وإقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه مبعرفتهوإن حصل له نوع من اللذة -إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إال اهللا سبحانه، ومن عبد غريه وأحبه

ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام - واملودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده :اللذيذ الشهى الذى هو عذب ىف مبدئه عذاب ىف هنايته كما قال القائل املسموم

فصارت ىف املشيب عذابا] عذابا[مآرب كانت ىف الشباب ألهلها م ، فإن قوا]٢٢: األنبياء* [}لو كان فيهمآ آلهة إال الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون{

السموات واألرض واخلليقة بأن تأله اإلله احلق، فلو كان فيهما إله آخر غري اهللا مل يكن إهلا حقا، إذ اإلله احلق ال شريك له وال مسى له وال مثل له، فلو تأهلت غريه لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صالحها، إذ

ها إىل الرب الواحد القهار ويستحيل أن تستند ىف صالحها بتأله اإلله احلق كما أهنا ال توجد إال باستناد .وجودها إىل ربني متكافئني، فكذلك يستحيل أن تستند ىف بقائها وصالحها إىل إهلني متساويني

إذا عرف هذا فاعلم أن حاجة العبد إىل أن يعبد اهللا وحده ال يشرك به شيئا ىف حمبته وال ىف خوفه وال ىف كل عليه وال ىف العمل له وال ىف احللف به وال ىف النذر له وال ىف اخلضوع له وال ىف رجائه وال ىف التو

بل ليس هلذه . التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة اجلسد إىل روحه والعني إىل نورهاله إال هو، فال احلاجة نظري تقاس به، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه وال صالح هلا إال بإهلها الذى ال إ

تطمئن ىف الدنيا إال بذكره وهى كادحة إليه كدحا فمالقيته، وال بد هلا من لقائه، وال صالح هلا إال مبحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه هلا ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغري اهللا ما حصل مل يدم

Page 44: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

شخص ويتنعم هبذا ىف وقت مث يتعذب به وال بد بل ينتقل من نوع إىل نوع ومن شخص إىل. له ذلكىف وقت آخر، وكثريا ما يكون ذلك الذى يتنعم به ويلتذ به غري منعم له وال ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك، وإمنا حيصل له مبالبسته من جنس ما حيصل للجرب من لذة األظفار الىت

وتزيد ىف ضرره، وهو يؤثر ذلك ملا له ىف حكها من اللذة، وهكذا ما حتكه، فهى تدمى اجللد وخترقهيتعذب به القلب من حمبة غري اهللا هو عذاب عليه ومضرة وأمل ىف احلقيقة ال تزيد لذته على لذة حك

كما اجلرب، والعاقل يوازن بني األمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما، واهللا املوفق املعني، وله احلجة البالغةواملقصود أن إله العبد الذى ال بد له منه ىف كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عني فهو . له النعمة السابغة

اإلله احلق الذى كل ما سواه باطل، والذى أينما كان فهو معه، وضرورته إليه وحاجته إليه ال تشبهها آل أحب {: ذا قال إمام احلنفاءضرورة وال حاجة بل هى فوق كل ضرورة وأعظم من كل حاجة، وهل

.واهللا أعلم] ٧٦:األنعام* [}االفلني فصل

ىف بيان أصلني عظيمني مبىن عليهما ما تقدم :وهذا مبىن على أصلني

أن نفس اإلميان باهللا وعبادته وحمبته وإخالص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء اإلنسان : أحدمهاإن : ه، كما عليه أهل اإلميان، وكما دل عليه القرآن، ال كما يقوله من يقولوقوته وصالحه وقوام

عبادته تكليف ومشقة على خالف مقصود القلب ولذته بل جملرد االمتحان واالبتالء كما يقوله منكرو ب احلكمة والتعليل، أو ألجل التعويض باألجر ملا ىف إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره، أو ألجل هتذي

النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إىل النبوات من الفالسفة بل األمر أعظم من ذلك كله وأجل، بل أوامر احملبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم األرواح ولذات النفوس

ه ىف ذلك وىف الصيام وهبا كمال النعيم، فقرة عني احملب ىف الصالة واحلج، وفرح قلبه وسرره ونعيموالذكر والتالوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما اجلهاد واألمر باملعروف والنهى عن املنكر، والدعوة إىل اهللا والصرب على أعداء اهللا سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر ال يناله الوصف وال يدركه من

من االلتذاذ به أعظم، ومن غلظ فهمه وكثف ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحباهبم ومفارقة أوطاهنم وبذل حنورهم ألعدائهم وحمبتهم للقتل وإيثارهم على البقاء وإيثار لوم الالئمني وذم املخالفني على مدحهم

لبشر بدون أمر يذوقه من حالوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع وتعظيمهم، ووقوع هذا من ا

Page 45: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

شاهد بذلك، بل ما قام بقلوهبم من اللذة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذى يتحمل ما :يتحمله ىف موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به ملا يعلم من سرور معشوقة به

تأخر فإنه حرام على اخلفاش أن يبصر الشمسا فيا منكرا هذافمن كان مراده وحبه اهللا، وحياته ىف معرفته وحمبته ىف التوجه إليه وذكره، وطمأنينته به وسكونه إليه

.وحده عرف هذا وأقر بهبه ورضوانه برؤيته ومساع كالمه وقر: كمال النعيم ىف الدار اآلخرة أيضا به سبحانه وتعاىل: األصل الثاىن

ال كما يزعم من يزعم أنه ال لذة ىف اآلخرة إال باملخلوق من املأكول واملشروب وامللبس واملنكوح، بل اللذة والنعيم التام ىف حظهم من اخلالق تعاىل أعظم وأعظم ما خيطر بالبال أو يدور ىف اخليال، وىف دعاء

: د ىف مسنده وابن حبان واحلاكم ىف صحيحيهماالنىب صلى اهللا عليه وسلم الذى رواه اإلمام أمحوهلذا قال )) أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، فى غير ضراء مضرة، وفتنة مضلة((

: املطففني* [}ثم إنهم لصالوا الجحيم * ن كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبو{: تعاىل ىف حق الكفار، فعذاب احلجاب من أعظم أنواع العذاب الذى يعذب به أعداءه، ولذة النظر إىل وجه اهللا ]١٦ -١٥

الكرمي أعظم أنواع اللذات الىت ينعم هبا أولياؤه، وال تقوم حظوظهم من سائر املخلوقات مقام حظهم .اع كالمه والدنو منه وقربهمن رؤيته ومس

وهذان األصالن ثابتان بالكتاب والسـنة، وعليهما أهل العلم واإلميان، ويتكلم فيهما مشايخ الطريق العارفون وعليهما أهل السـنة واجلماعة، ومها منفطرة اهللا الىت فطر الناس عليها، وحيتجون على من

وقد ذكرنا . ذوق والوجد وبالفطرة تارة وبالقياس واألمثال تارةينكرمها بالنصوص واآلثار تارة وبالىف احملبة )) املورد الصاىف، والظل الضاىف((جمموع هذه الطرق ىف كتابنا الكبري ىف احملبة الذى مسيناه

وأقسامها وأنواعها وأحكامها وبيان تعلقها باإلله احلق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة ومما يوضح ذلك ويزيده تقريرا أن املخلوق ليس عنده للعبد نفع وال بضر وال عطاء وال منع بل . وجه

ربه سبحانه الذى خلقه ورزقه وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمة وحتبب إليه هبا مع غناه عنه ومع تبغض هو، وإذا أصابه بنعمه فال راد هلا العبد إليه باملعاصى مع فقره إليه، فإذا مسه اهللا بضر فال كاشف له إال

وإن يمسسك الله بضر فال كاشف له إال هو وإن يردك بخير فال رآد لفضله {: وال مانع كما قال تعاىلما يفتح الله للناس من رحمة {، و ]١٠٧: يونس* [}يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم

، فالعبد ال ينفع وال ]٢: فاطر* [}فال ممسك لها وما يمسك فال مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، هو مقلب القلوب يضر وال يعطى وال مينع إال بإذن اهللا، فاألمر كله هللا أوال وآخرا وظاهرا وباطنا

ومصرفها كيف يشاء، املتفرد بالضر والنفع والعطاء واملنع واخلفض والرفع، ما من دابة إال هو آخذ

Page 46: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

بناصيتها، أال له اخللق واألمر تبارك اهللا رب العاملني، وهذا الوجه أعظم لعموم الناس من الوجه األول، لكن من تدبر طريقة القرآن تبني له أن اهللا سبحانه يدعو وهلذا خوطبوا به ىف القرآن أكثر من األول،

عباده هبذا الوجه إىل ألول، فهذا الوجه يقتضى التوكل على اهللا واالستعانة به والدعاء له ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضا حمبته وعبادته إلحسانه إىل عبده وإسباغ نعمه عليه، فإذا عبده وأحبه وتوكل

وهكذا كمن نزل به بالء عظيم وفاقة شديدة أو خوف مقلق . من هذا الوجه دخل ىف الوجه األولعليه فجعل يدعو اهللا ويتضرع إليه حىت فتح له من لذيذ مناجاته له باب اإلميان به واإلنابة إليه وما هو أحب

يطلبه ويشتاق إليه فعرفه إياه مبا إليه من تلك احلاجة الىت قصدها أوال لكنه مل يكن يعرف ذلك أوال حىت والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إىل اهللا دون ما سواه ومن . أقامه له من األسباب الىت أوصلته إليه

ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به ىف اآلخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند املخلوق .وكل على اهللا والشكر له وحمبته على إحسانهفهذا الوجه حيقق الت. شيء من هذا

ومما يوضح ذلك ويقويه أن ىف تعلق العبد مبا سوى اهللا مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته املعينة له على عبودية اهللا وحمبته وتفريغ قلبه له، فإنه إن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أو

من النكاح واللباس، وإن أحب شيئا حبيث يخالله فال بد أن يسأمه أو يفارقه، فالضرر أهلكه، وكذلك حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد تعذب بالفراق وتأمل، وإن وجد فإنه حيصل له من األمل أكثر مما

شيئا دون اهللا لغري اهللا فإن وهذا أمر معلوم باالعتبار واالستقراء أن كل من أحب. حيصل له من اللذةمضرته أكثر من منفعته وعذابه أعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحا أن اعتماده على املخلوق وتوكله

وهذا أيضا معلوم باالعتبار واالستقراء فأنه . عليه يوجب له الضرر من جهته، فإنه خيذل من تلك اجلهة: إال خاب من تلك اجلهة، وال استنصر بغريه إال خذل، قال تعاىلما علق العبد رجاءه وتوكله بغري اهللا

* }كال سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا* واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا {ال يستطيعون نصرهم * ه آلهة لعلهم ينصرون واتخذوا من دون الل{: ، وقال تعاىل]٨٢ - ٨١: مرمي[

].٧٥- ٧٤: يس* [}وهم لهم جند محضرونإنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة {: وقال تعاىل عن إمام احلنفاء أنه قال للمشركني

، وملا كان غاية ]٢٥: العنكبوت* [}م يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاالدنيا ثومما . صالح العبد ىف عبادة اهللا وحده واستعانته وحده كان ىف عبادة غريه واالستعانة بغريه غاية مضرته

محيد كرمي رحيم، فهو حمسن إىل عبده مع غناه عنه يريد يوضح األمر ىف ذلك ويبينه أن اهللا سبحانه غىنبه اخلري ويكشف عنه الضر، ال جللب منفعة إليه سبحانه وال لدفع مضرة، بل رمحة وإحسانا وجودا حمضا فإنه رحيم لذاته حمسن لذاته جواد لذاته كرمي لذاته كما أنه غىن لذاته قادر لذاته حى لذاته،

Page 47: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

بره ورمحته من لوازم ذاته ال يكون إال كذلك، كما أن قيامه قدرته وغناه من لوازم فإحسانه وجوده وذاته فال يكون إال كذلك، وأما العباد فال يتصور أن حيسنوا إال حلظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن

به، فهو ىف احلقيقة حيبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسري اهللا وإذنه هلموىل هذه النعمة ومسديها وجمريها على أيديهم، ومع هذا فإهنم يفعلون ذلك إال حلظوظهم من العبد، فإهنم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من حمبته سواء أحبوه جلماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا األنبياء

ون التمتع برؤيتهم ومساع كالمهم وحنو ذلك، وكذلك من أحب إنسانا واألولياء فطلبوا لقاءهم فهم حيبلشجاعته أو رياسته أو مجاله أو كرمه فهو حيب أن ينال حظه من تلك احملبة ولوال التذاذه هبا ملا أحب

ولو بالدعاء فهم يطلبون العوض إذا مل -كمرض وعدو -ذلك، وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرةيكن العمل هللا، فأجناد امللوك وعبيد املماليك وأجراء املستأجر وأعوان الرئيس كلهم إمنا يسعون ىف نيل أغراضهم به، ال يعرج أكثرهم على قصد منفعة املخدوم إال أن يكون قد علم وهذب من جهة أخرى

اب املكافأة والرمحة، وإال فاملقصود فيدخل ذلك ىف اجلهة الدينية، أو يكون فيه طبع عدل وإحسان من ببالقصد األول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة اهللا الىت أقام هبا مصاحل خلقه إذ قسم بينهم معيشتهم ىف

.احلياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا

فصل اينىف بيان منفعة احلق، ومنفعة اخللق، وما بينهما من التب

إذا تبني هذا ظهر أن أحدا من املخلوقني ال يقصد منفعتك باملقصد األول، بل إمنا يقصد منفعته بك، وقد . يكون عليك ىف ذلك ضرر إذا مل يراع احملب العدل، فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه

، وذلك منفعة لك حمضة ال ضرر فيها، وأما الرب تبارك وتعاىل فهو يريدك لك وملنفعتك ال لينتفع بكفتدبر هذا حق التدبر وراعه حق املراعاة، فمالحظة متنعك أن ترجو املخلوق أو تطلب منه منفعته لك فإنه ال يريد ذلك البتة بالقصد األول، بل إمنا يريد انتفاعه بك عاجال أو آجال، فهو يريد نفسه ال

عك بنفسه، فتأمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأسا من يريدك، ويريد نفع نفسه بك ال نفاملخلوقني، سدا لباب عبوديتهم وفتحا لباب عبودية اهللا وحده، فما أعظم حظ من عرف هذه املسألة

وال حيملنك هذا على جفوة الناس وترك اإلحسان إليهم واحتمال أذاهم، بل . ورعاها حق رعايتهاال لرجائهم، فكما ال ختافهم فال ترجوهم، ومما يبني ذلك أن غالب اخللق يطلبون إدراك أحسن إليهم هللا

حاجتهم بك وإن كان ذلك ضررا عليك، فإن صاحب احلاجة أعمى ال يرى إال قضاءها، فهم ال يبالون هذا إذا و. مبضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هالك دنياك وآخرتك مل يبالوا بذلك

Page 48: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

تدبره العاقل علم أنه عداوة ىف صورة صداقة، وأنه ال أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة، فهم يريدون أن يصريوك كالكري ينفخ بطنك ويعصر أضالعك ىف نفعهم ومصاحلهم، بل لو أبيح هلم أكلك جلزروك

وكم اختذوك جسرا ومعربا هلم ، ]ملصاحلهم[كما جيزرون الشاة، وكم يذحبونك كل وقت بغري سكني وكم بعت . إىل أوطارهم وأنت ال تشعر، وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت ال تعلم، ورمبا علمت

حظك من اهللا حبظوظهم منك ورحت صفر اليدين،وكم فوتوا عليك من مصاحل الدارين وقطعوك عنها حنن : وىل ودارك الىت دعيت إليها وقالواوحالوا بينك وبينها، وقطعوا طريق سفرك إىل منازلك األ

وكذبوا واهللا إهنم ألعداء ىف صورة . أحبابك وخدمك، وشيعتك وأعوانك، والساعون ىف مصاحلكفواغوثاه مث واغوثاه باهللا الذى يغيث . أولياء وحرب ىف صورة مساملني، وقطاع طريق ىف صورة أعوان

، ]١٤: التغابن* [}ا إن من أزواجكم وأوالدكم عدوا لكم فاحذروهميأيها الذين آمنو{وال يغاث ئك هم يأيها الذين آمنوا ال تلهكم أموالكم وال أوالدكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأول{

فالسعيد الرابح من عامل اهللا فيهم ومل يعاملهم ىف اهللا، وخاف اهللا فيهم ]. ٩: املنافقون* [}الخاسرونومل خيفهم ىف اهللا وأرضى اهللا بسخطهم ومل يرضهم بسخط اهللا، وراقب اهللا فيهم ومل يراقبهم ىف اهللا،

وفه وآثر اهللا عليهم ومل يؤثرهم ىف اهللا، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه وأحى حب اهللا وخورجاءه فيه، فهذا هو الذى يكتب عليهم، وتكون معاملته هلم كلها رحبا، بشرط أن يصرب على أذاهم

.ويتخذه مغنما ال مغرما ورحبا ال خسراناومما يوضح األمر أن اخللق ال يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة البتة إال بإذن اهللا ومشيئته وقضائه

وإن يمسسك الله {: قيقة الذى ال يأتى باحلسنات إال هو، وال يذهب بالسيئات إال هووقدره فهو ىف احل، قال النىب صلى اهللا عليه ]١٠٧: يونس* [}بضر فال كاشف له إال هو وإن يردك بخير فال رآد لفضله

خليقة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إال بشيء كتبه اهللا واعلم أن ال: ((وسلم لعبد اهللا بن عباس، وإذا كانت هذه حال اخللقة ))لك ولو اجتمعوا على أن يضروك مل يضروك إال بشيء كتبه اهللا عليك

.أعلم واهللا. فتعليق اخلوف والرجاء هبم ضار غري نافع فصل

ىف بيان أن املنفعة واملضرة ال تكون إال من اهللا وحدهومجاع هذا أنك إذا كنت غري عامل مبصلحتك وال قادر عليها وال مريد هلا كما ينبغى فغريك أوىل أن ال

در، يكون عاملا مبصلحتك وال قادرا عليها وال مريدا هلا، واهللا سبحانه هو يعلم وال تعلم ويقدر وال تقويعطيك من فضله ال ملعوضة وال ملنفعة يرجوها منك، وال لتكثر بك وال لتعزز بك وال خياف الفقر وال تنقص خزائنه على سعة اإلنفاق، وال حيبس فضله عنك حلاجة منه إليك واستغناه حبيث إذا أخرجه أثر

Page 49: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

حتب أنت األخذ واالنتفاع مبا سألته، ذلك ىف غناه، وهو حيب اجلود والبذل والعطاء واإلحسان أعظم مماأحدمها أن تكون أنت الواقف ىف طريق مصاحلك : فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين ال ثالث هلما

وأنت املعوق لوصول فضله إليك وأنت حجر ىف طريق نفسك، وهذا هو األغلب على اخلليقة، فإن اهللا نده ال ينال إال بطاعته، وأنه ما استجلبت نعم اهللا بغري طاعته، وال سبحانه فيما قضى قضى به أن ما ع

استدميت بغري شكره، وال عوقت وامتنعت بغري معصيته، وكذلك إذا أنعم عليك مث سلبك النعمة فإنه مل م حىت يسلبها لبخل منه وال استئثار هبا عليك وإمنا أنت املسبب ىف سلبها عنك، فإن اهللا ال يغري ما بقو

ه ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الل{: يغريوا ما بأنفسهم :، فما أزيلت نعم اهللا بغري معصيته]٥٣: األنفال* [}سميع عليم

فإن املعاصى تزيل النعــم إذا كنت فى نعمة فارعهافآقتك من نفسك، وبالؤك من نفسك، وأنت ىف احلقيقة الذى بالغت ىف عداوتك، وبلغت من معاداة

:نفسك ما ال يبلغ العدو منك، كما قيلـه ما يبلغ األعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسـ

أنك مع نفسك وأنت تشكو احملسن الربيء عن الشكاية، وتتهم أقداره وتعانيها ومن العجب أن هذا شوتلومها، فقد ضيعت فرصتك وفرطت ىف حظك، وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادهتا، مث

:قعدت تعاتب القدر بلسان احلال والقال، فأنت املعىن بقول القائل فات أمر عاتب القدرا وعاجز الرأى مضياع لفرصته حىت إذا

ولو شعرت برأيك، وعلمت من أين دهيت ومن أين أصبت، ألمكنك تدارك ذلك، ولكن قد فسدت الفطرة وانتكس القلب وأطفأ اهلوى مصابيح العلم واإلميان منه فأعرضت عمن هو أصل بالئك

ه فإذا شكوته إىل خلقه ومصيبتك منه وأقبلت تشكو من كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنيا هذا تشكو : فقال -وقد رأى رجال يشكو إىل آخر ما أصابه ونزل به - كنت كما قال بعض العارفني .من يرمحك، إىل من ال يرمحك

وإذا أتتك مصيبة فاصرب لـها صــرب الكرمي فإنه بك أرحـم ال يرحم وإذا شكوت إىل ابن آدم إمنا تشكو الرحيم إىل الذى

وإذا علم العبد حقيقة األمر، وعرف من أين أتى ومن أى الطرق أغري على سرحه ومن أى ثغرة سرق أن يشكو أحدا من خلقه أو يتظلمهم أو يرى - إن مل يستح من اهللا -متاعه وسلب استحى من نفسه

* }ة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثريومآ أصابكم من مصيب{مصيبته وآفته من غريه، قال تعاىل أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند {: ، وقال]٣٠:الشورى[

Page 50: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الله ومآ أصابك من سيئة فمن مآ أصابك من حسنة فمن{: ، وقال]١٦٥: آل عمران* [}أنفسكم ].٧٩: النساء* [}نفسك

فالسبب الذى أصبت منه وأتيت منه ودهيت منه قد سبق به القدر : فإن أصررت على اهتام القدر وقلتواحلكم وكان ىف الكتاب مسطورا، فال بد منه على الرغم مىن، وكيف ىل أن أنفك منه وقد أودع

اب األول قبل بدء اخلليقة والكتاب الثاىن قبل خروجى إىل هذا العلم وأنا ىف ظلمات األحشاء حني الكتإىل سعادتى ما جريت حىت بقى بيىن ] جريت[أمر امللك بكتب الرزق واألجل والسعادة والشقاوة فلو

يقلبه كيف يشاء ويصرفه وبينها شرب لغلب على الكتاب فأدركتىن الشقاوة، فما حيلة من قلبه بيد غريه كيف أراد، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وهو الذى حيول بني عوارى املرء وقلبه، وهو الذى يثبت قلب العبد إذا شاء ويزلزله إذا شاء، فالقلب مربوب مقهور حتت سلطانه ال يتحرك إال

ما من قلب إال وهو بني إصبعني من أصابع : ((به صلوات وسالمه عليهبإذنه ومشيئته، قال أعلم اخللق براللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا : ((، مث قال))الرمحن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه

لريشة ىف مثل القلب مثل ا: ((وقال بعض السلف)) ال ومقلب القلوب: ((، وكان أكثر ميينه))على دينكله مشيئة بدون ] وقل[، فما حيلة قلب هو بيد مقلبه ومصرفه، ))أرض فالة تقلبها الرياح ظهرا لبطن

، وروى عن ]٢٩: التكوير* [}وما تشآءون إال أن يشآء الله رب العالمني{: مشيئته، كما قال تعاىلتال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم قوله عز : د قالعبد العزيز ابن أىب حازم عن أبيه عن سهل بن سع

، وغالم جالس عند رسول اهللا صلى ]٢٤: حممد* [}أفال يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالهآ{: وجلفلما ولى . أقفلهابلى واهللا يا رسول اهللا، إن عليها ألقفاهلا، وال يفتحها إال الذى : اهللا عليه وسلم فقال

أدركت ثالمثائة من : ، قال طاوس))مل يقل ذلك إال من عقل: ((عمر بن اخلطاب طلبه ليستعمله وقالأدركت : وقال أيوب السختياىن. كل شيء بقدر: أصحاب رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم يقولون

:س ىف قوله تعاىلوقال عطاء عن ابن عبا. إن قضى، إن قدر: الناس وما كالمهم إالكتب اهللا أعمال بىن آدم وما هم عاملون إىل : ، قال]٢٩: اجلاثية* [}إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون{

إن كنا نستنسخ ما كنتم {: واملالئكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يوما بيوم فذلك قوله: قال. يوم القيامةإن استنساخ املالئكة هو كتابتهم ملا يعمل بنو آدم بعد أن : وىف اآلية قول آخر] ٢٩اجلاثية * [}تعملون

إن اآلية تعم األمرين، فيأمر اهللا مالئكته فتستنسخ من أم الكتاب أعمال : يعملوه وقد يقال وهو األظهرالكتاب ذرة وال تنقصها، وقال بىن آدم مث يكتبوهنا عليهم إذا عملوها فال تزيد على ما نسخوه من أم

، خلق اهللا ]٤٩: القمر* [}إنا كل شيء خلقناه بقدر{: على بن أىب طلحة عن ابن عباس ىف قوله تعاىل .اخللق كلهم بقدر، وخلق اخلري والشر، فخري اخلري السعادة وشر الشر الشقاوة

Page 51: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أرأيت ما يعمل الناس اليوم : عمران بن حصني قال ىل: وىف صحيح مسلم عن أىب األسود الدؤىل قالويكدحون، أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون ممن أتاهم به نبيهم

ففزعت : أفيكون ذلك ظلما؟ قال: ال، بل فيما قضى عليهم ومضى قال: قلت: وثبتت به احلجة؟ قال: األنبياء* [}وال يسأل عما يفعل، وهم يسألون{: ال خلقه وملكهإنه ليس شيء إ: فزعا شديدا، وقلت

أتى النىب صلى اهللا -أو جهينة -إن رجال من مزينة. سددك اهللا إمنا سألتك ألحرز عقلك: ، فقال]٢٣م ومضى، أو يا رسول اهللا، أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضى عليه: عليه وسلم فقال

ففيم العمل؟ قال رسول : فقال الرجل. فيما قضى عليهم ومضى: فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم؟ قال، وتصديق ذلك ىف ))من كان خلقه اهللا إلحدى املنزلتني فسيستعمله هلا: ((اهللا صلى اهللا عليه وسلم

، وقال جماهد ]٨ - ٧: الشمس* [}مها فجورها وتقواهافأله* ونفس وما سواها {: كتاب اهللا عز وجلوقال . علم إبليس املعصية وخلقه هلا: ، قال]٣٠: البقرة* [}إننى أعلم ما ال تعلمون{: ىف قوله تعاىل

إن اهللا سبحانه بدأ : اس، قال ابن عب]٣٠: األعراف* [}فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضاللة{: تعاىل، مث ]٢: التغابن* [}هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن{: خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا مث قال

: عن ابن عباس ىف قوله تعاىل: وقال سعيد بن جبري. يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمن وكافرحيول بني املؤمن والكفر ومعاصى اهللا، : ، قال]٢٤: األنفال* [}يحول بين المرء وقلبه واعلموا أن اهللا{

وال {: وقال ابن عباس ومالك ومجاعة من السلف ىف قوله تعاىل. وجيول بني الكافر واإلميان وطاعة اهللاخلق أهل الرمحة : ، قالوا]١١٩ - ١١٨: هود* [}لقهمإال من رحم ربك ولذلك خ* يزالون مختلفني

ولو شئنا { ٢٥٣: البقرة* [}ولو شاء اهللا ما اقتتلوا{: وقال تعاىل. للرمحة، وأهل االختالف لالختالف* }كلهم جميعا ولو شاء ربك آلمن من فى األرض{، ]١٣:السجدة* [}التينا كل نفس هداها

* }ولو شاء ربك ما فعلوه{، ]٣٥: األنعام* [}ولو شاء اهللا لجمعهم على الهدي{، ]٩٩: يونس[نالهم فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ي{: ، وقال تعاىل]١١٢: األنعام[

كذلك سلكناه فى قلوب {: وقال. أى نصيبهم مما كتب هلم] ٣٧: األعراف* [}نصيبهم من الكتابكال إن كتاب {: وقال تعاىل. الشرك والتكذيب: ، قال احلسن وغريه]٢٠٠: الشعراء* [}المجرمني

رقم اهللا سبحانه كتاب الفجار ىف : ، قال حممد بن كعب القرظى]٧: املطففني* [}الفجار لفى سجنيأسفل األرض، فهم عاملون مبا قدر رقم عليهم ىف ذلك الكتاب ورقم كتاب األبرار فجعله ىف عليني،

* }تبت يدا أبى لهب{: وقال ابن عباس. فهم يؤتى هبم حىت يعملوا ما قدر رقم عليهم ىف ذلك الكتابوجعلنا من بين أيديهم {: ، مبا جرى من القلم ىف اللوح احملفوظ، وقال جماهد ىف قوله تعاىل]١: سدامل[

: اإلسراء* [}وجعلنا على قلوبهم أكنة{: وىف قوله. عن احلق: ، قال]٩: يس* [}سدا ومن خلفهم سدا

Page 52: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

: اجلاثية* [}وأضله اهللا على علم{: ، وقال ابن عباس ىف قوله تعاىلفاجلعبة فيها السهام: ، قال]٤٦* }فبما أغويتنى{: أضله ىف سابق علمه، وقال ىف قوله تعاىل حكاية عن عدوه إبليس: ، قال]٢٣

* }ن هو صال الجحيمإال م* مآ أنتم عليه بفاتنني {: أضللتىن، وقال ىف قوله: ، قال]١٦: األعراف[لو أراد اهللا : وقال عمر بن عبد العزيز. من قضيت له أنه صال اجلحيم: ، قال]١٦٣ - ١٦٢: الصافات[

أن ال يعصى مل خيلق إبليس، وقد فصل لكم وبني لكم ما أنتم عليه بفاتنني إال من قدر أن يصلى أم -يعىن السماء -أهلذه خلق آدم: قلت للحسن: أنبأنا خالد قال: وقال وهيب بن خالد. اجلحيم

.ال بل لألرض:لألرض؟ فقالسبحانه اهللا أكان له بد : قلت أرأيت لو اعتصم من اخلطيئة فلم يعملها، أكان ترك ىف اجلنة؟ قال: قال

وجعلناهم {: ، وقال تعاىل]٧٣:بياءاألن* [}وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا{: من أن يعملها؟ وقال تعاىل، أى أئمة ]٧٤: الفرقان* [}واجعلنا للمتقني إماما{: ، وقال]٤١: القصص* [}أئمة يدعون إلى النار

: األنعام* [}عنه ولو ردوا لعادوا لما نهوا{: يهتدى بنا، وال جتعلنا أئمة ضالني يدعون إىل النار، وقالولو {: ، وقال]١١٠: األنعام* [}ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة{: ، وقال]٢٨

ما كانوا ليؤمنوا إال أن يشآء أننا نزلنآ إليهم المآلئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبالواهللا ما قالت القدرية كما قال اهللا وال كما قال رسله وال : ، وقال زيد بن أسلم]١١١: األنعام* [}الله

وما {: كمال قال أهل اجلنة وال كما قال أهل النار وال كما قال أخوهم إبليس، قال اهللا عز وجلال علم لنا إال ما {: ، وقالت املالئكة]٢٩: التكوير] [٣٠: اإلنسان* [}أن يشاء اهللا تشاءون إال

: األعراف* [}وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إال أن يشآء الله{: ، وقال شعيب]٣٢: البقرة* [}علمتنا: األعراف* [}انا لهذا وما كنا لنهتدي لوآل أن هدانا اللهالحمد لله الذي هد{: ، وقال أهل اجلنة]٨٩رب بمآ {: ، وقال أخوهم إبليس]١٠٦: املؤمنون* [}غلبت علينا شقوتنا{: ، وقال أهل النار]٤٣

،]٣٩: احلجر* [}أغويتنيمكتوب ىف عنقه : ، قال]١٣: اإلسراء* [}زمناه طآئره في عنقهوكل إنسان أل{: وقال جماهد ىف قوله

] ٤١: املائدة* [}ومن يرد اهللا فتنته فلن تملك له من اهللا شيئا{: وقال ابن عباس ىف قوله. شقى أو سعيدحديث سويد بن سعد عن سوار وذكر الطربى وغريه من. ومن يرد اهللا ضاللته مل تغن عنه شيئا: يقول

صعد النىب صلى اهللا عليه وسلم املنرب، فحمد اهللا : بن مصعب عن أىب محزة عن مقسم عن ابن عباسبسم اهللا الرمحن الرحيم، كتاب من اهللا الرمحن الرحيم ألهل : ((وأثىن عليه، مث بسط يده اليمىن فقال

ائرهم، فجمل أوهلم على آخرهم، ال ينقص منهم وال يزاد اجلنة بأمسائهم، وأمساء آبائهم وقبائلهم وعشفرغ . ال ينقض منهم وال يزاد فيهم[فيهم، فرغ ربكم وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حىت يقال

Page 53: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كأهنم هم بل هم هم، ما أشبههم هبم بل هم ] وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حىت يقال. ربكمن اهللا من السعادة، فيعمل بعمل أهل اجلنة فيدخلها قبل موته بفواق ناقة، وقد هم فريدهم ما سبق هلم م

يسلك بأهل الشقاء طريق السعادة حىت يقال كأهنم هم بل هم هم، ما أشبههم هبم بل هم هم، فريدهم توم له ما سبق هلم من اهللا، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفواق ناقة، فصاحب اجلنة خم

بعمل أهل اجلنة وإن عمل عمل أهل النار، وصاحب النار خمتوم له بعمل أهل النار وإن عمل بعمل أهل : ، وقال على بن أىب طلحة عن ابن عباس ىف قوله تعاىل))األعمال خبواتيمها: ((اجلنة، مث قال رسول اهللا

ولو شآء {: ، وىف قوله]٦: البقرة* [}هم أم لم تنذرهم ال يؤمنونإن الذين كفروا سوآء عليهم أأنذرت{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره لإلسالم {، وىف قوله ]٣٥:األنعام* [}الله لجمعهم على الهدى

ما كانوا ليؤمنوا إال أن {: ، وىف قوله]١٢٥: األنعام* [}يقا حرجاومن يرد أن يضله يجعل صدره ض: ، وقوله]١٣: السجدة* [}ولو شئنا آلتينا كل نفس هداها{: ، وىف قوله]١١١: األنعام* [}يشآء اهللا

إنا جعلنا فى أعناقهم {: ، وقوله]٩٩: يونس[ *}ولو شاء ربك آلمن من فى األرض كلهم جميعا{، وحنو هذا من ]٢٨: الكهف* [}وال تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا{: ، وقوله]٨: يس* [}أغالال

يؤمن إال القرآن، إن رسول اهللا كان حيرص أن يؤمن مجيع الناس ويتابعوه على اهلدى، فأخربه اهللا أنه ال * }لعلك باخع نفسك أن ال يكونوا مؤمنني{: من سبق له من اهللا السعادة ىف الذكر األول، مث قال لنبيه

: الشعراء* [}إن نشأ ننزل عليهم من السمآء آية فظلت أعناقهم لها خاضعني{: ، ويقول]٣: الشعراء[* }ما يفتح الله للناس من رحمة فال ممسك لها وما يمسك فال مرسل له من بعده{: مث قال ،]٤، وىف صحيح مسلم عن ]١٢٨: آل عمران* [}ليس لك من األمر شيء{: ، ويقول]٢: فاطر[

ومسعت عبد اهللا بن عمر . كل شيء بقدر: أدركت ناسا من أصحاب رسول اهللا يقولون: طاووس، وىف صحيح ))كل شيء بقدر، حىت العجز والكيس: ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: يقول

كتب اهللا : ((مسعت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم يقول: قال] عمر[عن عبد اهللا بن ] أيضا[مسلم ، وىف صحيحه أيضا ))مسني ألف سنة وعرشه على املاءمقادير اخللق قبل أن خيلق السماوات واألرض خب

املؤمن القوى خري وأحب إىل اهللا من املؤمن : ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: عن أىب هريرة قاللو : فاحرص على ما ينفعك واستعن باهللا وال تعجز، وإن أصابك شيء فال تقل. الضعيف، وىف كل خري، وىف صحيحه ))فإن لو تفتح عمل الشيطان. قدر اهللا وما شاء اهللا فعل: ، ولكن قلأىن فعلت كذا وكذا

إن النذر ال يقدر البن آدم شيئا لم يكن : ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: أيضا عن أىب هريرة قال ))رج ذلك من البخيل ما لم يكن يريد أن يخرجهاهللا قدره ولكن النذر يوافق القدر فيخ

Page 54: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اإلميان أن تؤمن باهللا ومالئكته : ((حديث جربائيل وسؤاله النىب صلى اهللا عليه وسلم عن اإلميان قالفوالذى ال : ((مسعود ىف التخليق وفيه، وىف الصحيحني حديث ابن ))وكتبه ورسله والقدر خيره وشره

إله غريه إن أحدكم ليعمل بعمل أهل اجلنة حىت ما يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حىت ما يكون بينه وبينها إال ذراع

، وذكر الطربى احلسن بن على الطوسى أنبأنا ))ل بعمل أهل اجلنة فيدخلهافيسبق عليه الكتاب، فيعمرأيت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ىف النوم : حممد بن يزيد األسفاطى البصرى حمدث البصرة قال

: فقال -أعىن حديث القدر -يا رسول اهللا، حديث عبد اهللا بن مسعود حدثىن الصادق املصدوق: فقلتاهللا الذى ال إله إال هو حدثت به، رحم اهللا عبد اهللا بن مسعود حيث حدث به، ورحم اهللا حيث إى و

حدث به، ورحم اهللا األعمش حيث حدث به، ورحم اهللا من حدث به قبل األعمش، ورحم اهللا من .حيدث به بعد األعمش

، وقد ))من وعظ بغريه الشقى من شقى ىف بطن أمه، والسعيد: ((وىف صحيح مسلم عن ابن مسعودروى حديث تقدير السعادة والشقاوة ىف بطن األم من حديث عبد اهللا بن مسعود، وأنس بن مالك،

: وقال أبو احلسن بن عبيد احلافظ. وعبد اهللا بن عمر، وعائشة أم املؤمنني، وحذيفة بن أسيد، وأىب هريرةاحندرت من سر من رأى : و بن على الفالس يقولمسعت عمر: مسعت أبا عبد اهللا بن أىب خيثمة يقول

إىل بغداد ىف حاجة ىل فبينما أنا أمشى ىف بعض الطريق إذا جبمجة قد حنرت فأخذهتا، فإذا على اجلبهة وىف . وهؤالء كلهم أئمة حفاظ، ذكره الطربى ىف السنة. والياء مكسورة إىل خلف)) شقى((مكتوب

ما منكم من أحد إال كتب مقعده من النار : ((النىب صلى اهللا عليه وسلم] على عن[الصحيحني حديث اعملوا، فكل : ((يا رسول اهللا، أفال نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: ، فقالوا))ومقعده من اجلنةأما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل : ميسر ملا خلق له

فسنيسره * وصدق بالحسنى * فأما من أعطى واتقى {: ، مث قرأ))لشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوةا ]١٠ -٥: الليل* [}فسنيسره للعسري* وكذب بالحسنى * وأما من بخل واستغنى * لليسرى

أعلم أهل اجلنة من أهل النار؟ : بن حصني أن النىب صلى اهللا عليه وسلم سئل وىف الصحيحني عن عمرانوىف صحيح مسلم )). نعم، كل ميسر ملا خلق له: ((؟ قال]العاملون[ففيم يعمل ]: له[، قيل ))نعم: ((قال

يا : إىل جنازة غالم من األنصار، فقلت] صلى اهللا عليه وسلم[دعى رسول اهللا : ((عن عائشة قالتأو غري ذلك، إن : ((رسول اهللا، طوىب هلذا، عصفور من عصافري اجلنة، مل يدرك السوء ومل يعمله، قال

اهللا تعاىل خلق للجنة أهال، خلقهم هلا وهم ىف أصالب آبائهم وخلق للنار أهال خلقهم هلا وهم ىف : لى اهللا عليه وسلم قال، وىف الصحيحني عن ابن عباس عن أىب بن كعب عن النىب ص))أصالب آبائهم

Page 55: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وىف مسند اإلمام )) الغالم الذى قتله اخلضر طبع يوم طبع كافرا، ولو عاش ألرهق أبويه طغيانا وكفرا((إن اهللا خلق : ((مسعت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم يقول: أمحد عن عبد اهللا بن عمرو بن العاص قال

واحدة، فأخذ من نوره فألقاه على تلك ] ليهم من نوره وىف لفظ فجعلهم ىفظلمة مث ألقى ع[الخلق فى ، وذكر ))جف القلم على علم اهللا:الظلمة، فمن أصابه النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول

خلق اهللا : ((مى أن أبا قتادة مسع النىب صلى اهللا عليه وسلم يقولراشد بن سعد عن أىب عبد الرمحن السل: قيل: ، قال))هؤالء فى الجنة وال أبالى، وهؤالء فى النار وال أبالى: آدم وأخرج الخلق من ظهره فقال

كر أبو داود ىف كتاب القدر عن عبد اهللا بن مسعود أنه ، وذ))على مواقع القدر: ((على ما نعمل؟ قالأرأيتم لو قطعتم يده، كنتم تستطيعون أن : ونالوا منه، فقال عبد اهللا.. هذا هذا: مر على رجل فقالوافلو : قال]. قال فلو قطع رجله أكنتم تستطيعون أن ختلقوا له رجال؟ قالوا ال[ال : ختلقوا له يدا؟ قالوا

فكما ال تستطيعون أن تغريوا خلقه ال : ال، قال: ، كنتم تستطيعون أن ختلقوا له رأسا؟ قالواقطع رأسهتستطيعون أن تغريوا خلقه، إن النطفة إذا وقعت ىف الرحم بعث اهللا ملكا فكتب أجله وعمله ورزقه

الهدى والكالم فأحسن الكالم : إنما هما اثنتان: ((وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعا. وشقى أو سعيدكل ما هو كالم اهللا، وأحسن الهدى هدى محمد، وشر األمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضاللة، وإن

أخربىن يونس : ، وقال ابن وهب))وعظ بغيرهآت قريب وإن الشقى من شقى فى بطن أمه والسعيد من قال رسول اهللا صلى اهللا عليه : عن ابن شهاب أن عبد الرمحن ابن هنيدة حدثه أن عبد اهللا بن عمرو قال

نثى؟ فيقضى اهللا أمره يا رب، أذكر أم أ: إذا أراد اهللا أن يخلق النسمة قال ملك األرحام تعرفا: ((وسلم، ثم يكتب بين عينيه ما هو الق حتى النكبة ]يا رب أشقى أم سعيد؟ فيقضى اهللا أمره: مث يقول[

))ينكبهاأخربىن أبو بكر بن عبد الرمحن بن احلارث بن هشام أن رسول : وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب

.. وحدثىن عبد الرمحن بن أذينة عن ابن عمر: قال الزهرى. فذكره سواء: ى اهللا عليه وسلم قالاهللا صلإن اهللا حني يريد أن خيلق الخلق يبعث ملكا فيدخل : ((وذكر أبو داود أيضا عن عائشة يرفعه. مثل ذلك

أى : فيقول. أن خيلق ىف الرحم غالم، أو جارية، أو ما شاء اهللا: أى رب ماذا؟ فيقول: على الرحم فيقولفتقول أى . أى رب، ما أضله، فيقول كذا وكذا: فيقول. شقى أو سعيد: رب، أشقى أم سعيد؟ فيقول

فما من : كذا وكذا، قال: يا رب، ما خالئقه؟ فيقول: فيقول: كذا وكذا، قال: رب، ما خلقه؟ فيقولابن هليعة عن بكر بن سوادة عن أىب متيم وذكر ابن وهب عن)) شيء إال وهو خيلق معه ىف الرحم

] تعاىل[اجليشاىن عن أىب ذر أن املىن إذا مكث ىف الرحم أربعني ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إىل الرب أشقى أم سعيد؟ فيكتب ما هو . يا رب عبدك ذكر أم أنثى؟ فيقضى اهللا ما هو قاض: ىف راحته فيقول

Page 56: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أخربىن : وقال ابن وهب. وقرأ أبو ذر من فاحتة سورة التغابن مخس آيات: متيمقال أبو . الق بني عينيةإذا مكثت : ابن هليعة عن كعب بن علقمة عن عيسى بن هالل عن عبد اهللا ابن عمرو بن العاص أنه قال

اخلق يا :النطفة ىف رحم املرأة أربعني يوما جاءها ملك فاختلجها، مث عرج هبا إىل الرمحن عز وجل فقاليا : فيقضى اهللا فيها مبا يشاء من أمره، مث يدفع إىل امللك، فيسأل امللك عن ذلك فيقول. أحسن اخلالقني

يا رب ذكر أم أنثى؟ : يا رب واحد أو توأم؟ فيبني له، مث يقول: رب، سقط أم مت؟ فيبني له، مث يقوليا رب، أشقى أم سعيد؟ : ؟ فيبني له ذلك، مث يقوليا رب، أناقص األجل أم تام األجل: فيبني له، فيقول

فوالذى نفسى بيده ما ينال من . ، فيهبط هبما مجيعا]خلقه[يا رب، اقطع رزقه مع : فيبني له، مث يقول )).الدنيا إال ما قسم له، فإذا أكل رزقه قبض

يدخل الملك على : ((عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النىب صلى اهللا عليه وسلم قال: وىف صحيح مسلميا رب، أشقى أم سعيد؟ فيكتبان، : النطفة بعد ما تستقر ىف الرحم بأربعني أو مخس وأربعني ليلة فيقول

يا رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه، مث تطوى الصحف وال يزاد فيها وال : فيقول: إن اهللا وكل بالرحم ملكا فيقول: ((قال -ورفع احلديث - وىف الصحيحني عن أنس بن مالك)). ينقص

أى رب ذكر : أى رب نطفة، أى رب علقة، أى رب مضغة، فإذا أراد اهللا أن يقضى خلقا قال الملكوىف الصحيحني من )). بطن أمهأو أنثى؟ شقى أو سعيد، فما الرزق، فما األجل؟ فيكتب ذلك ىف

إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعني يوما : ((حديث ابن مسعود عن النىب صلى اهللا عليه وسلمثم يكون علقة مثل ذلك، مث يكون مضغة مثل ذلك، مث ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه امللك فيؤمر بأربع

وىف حديث ابن مسعود أن هذا التقدير وهذه )). رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد بكتب: كلماتالكتابة ىف الطور الرابع من أطوار التخليق عند نفخ الروح فيه، وىف األحاديث الىت ذكرت أيضا آنفا أن

ة ثنتان وأربعون ليلة إذا مر بالنطف: ((ذلك ىف األربعني األوىل قبل كونه علقة ومضغة، وىف رواية صحيحةإن ذلك يكون ىف بضع : ((وىف رواية)) بعث اهللا إليها ملكا فصورها، وخلق مسعها وبصرها وجلدها

.واهللا أعلم)) وأربعني ليلة فصل

ىف اجلمع بني الروايات املتقدمةنطفة، هذه يا رب هذه: اجلمع بني هذه الروايات أن للملك مالزمة ومراعاة حبال النطفة، وأنه يقول

، وهو أعلم هبا وبكالم ]تعاىل[فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر اهللا . علقة، هذه مضغة ىف أوقاهتاأحدها حني خيلقها اهللا نطفة مث ينقلها علقة، وهو أول أوقات علم امللك بأنه : امللك، فتصرفه ىف أوقات

-واهللا أعلم - وهلذا. ألوىل ىف أول الطور الثاىنولد، ألنه ليس كل نطفة تصري ولدا، وذلك بعد األربعني ا

Page 57: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

خلق اإلنسان من * إقرأ باسم ربك الذى خلق {: وقعت اإلشارة إليه ىف أول سورة أنزهلا على رسولهإذ خلقه من علقة هو أول مبدء اإلنسانية، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله ] ٢ -١: العلق* [}علق

وهو تصويره وختليق مسعه وبصره وجلده ] ىف وقت آخر[وسعادته مث للملك فيه تصرف آخر وشقاوته وعظمه وحلمه وذكوريته وأنوثيته وهذا إمنا يكون ىف األربعني الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح

ء تعليق التخليق ىف التقدير األول عند ابتدا: فها هنا تقديران وكتابان. ال يكون إال بعد متام تصويرهإذا مر بالنطفة : ((وهلذا ىف إحدى الروايات. النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت ىف طور العلقة

إذا كمل تصويره وختليقه وتقدير أعضائه وكونه ] الثانية[والتقدير الثاىن الكتابة )). ثنتان وأربعون ليلةن للنطفة بعد األربعني، والتقدير الثاىن تقدير ملا يكون للجنني فالتقدير األول تقدير ملا يكو. ذكرا أو أنثى

بعد تصويره، مث إذا ولد قدر مع والدته كل سنة ما يلقاه ىف تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر من العام إىل العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثاىن، والثاىن أخص من األول ونظري هذا أيضا أن اهللا

قدر مقادير اخلالئق قبل أن خيلق السموات واألرض خبمسني ألف سنة، مث قدر مقادير هذا ] نهسبحا[وهكذا تقدير أمر . اخللق حني خلقهم وأوجدهم مث يقدر كل سنة ىف ليلة القدر ما يكون ىف ذلك العام

شأهنا قبل خلق النطفة وشأهنا يقع بعد تعلقها بالرحم، وبعد كمال تصوير اجلنني، وقد تقدم ذكر تقدير ونظري هذا أيضا رفع األعمال وعرضها على اهللا فإن عمل العام . السموات واألرض فهو تقدير بعد تقدير

فأحب أن يرفع عملى : ((يرفع ىف شعبان كما أخرب به الصادق املصدوق أنه شهر ترفع فيه األعمال، قالم االثنني واخلميس كما ثبت ذلك عن النىب صلى اهللا عليه ، ويعرض عمل األسبوع يو))وأنا صائم

وسلم، ويعرض عمل اليوم ىف آخره والليلة ىف آخرها كما ىف حديث أىب موسى الذى رواه البخارى عن أن اهللا ال ينام وال ينبغى له أن ينام، خيفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل : ((النىب صلى اهللا عليه وسلم

، فهذا الرفع والعرض اليومى أخص من العرض يوم االثنني ))ر وعمل النهار قبل الليلالليل قبل النهاواخلميس، والعرض فيها أخص من العرض ىف شعبان، مث إذا انقضى األجل رفع العمل كله وعرض على

ما تقولون ىف : وهذه املسائل العظيمة القدر من أهم فإن قيل. اهللا وطويت الصحف، وهذا عرض آخررها وجلدها إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث اهللا إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبص: ((قوله

يا رب : مث يقول. يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب امللك: ولحمها وعظمها ثم قال، وهذه بعض ألفاظ مسلم ىف احلديث، وهذا يوافق الرواية ))أجله؟ فيقول ربك ما شاء ويكتب امللك

يا : يدخل امللك على النطفة بعد ما تستقر ىف الرحم بأربعني أو مخس وأربعني ليلة فيقول: ((األخرى ))سعيد؟] أم[رب أشقى

Page 58: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

على كاشف الغمة وهادى األمة حممد صلى اهللا عليه ويوافق مسائل اإلميان بالقدر، فصلوات اهللا وسالمه .وسلم

إن النطفة تقع ىف الرحم أربعني ليلة مث يتسور عليها امللك، وهذا يدل على أن : ((الرواية األخرىال ريب أن التصوير احملسوس وخلق اجللد والعظم واللحم إمنا يقع : قيل. تصويرها عقيب األربعني األوىل

ثالثة، ال يقع عقيب األوىل، هذا أمر معلوم بالضرورة، فأما أن يكون املراد باألربعني ىف ىف األربعني الهذه األلفاظ األربعني الثالثة ومسى املضغة فيها نطفة اعتبارا بأول أحواهلا وما كانت عليه، أو يكون املراد

صورها : ((مبا يئول، فيكون قولهوتقديره اعتبارا ] تصويرها وختليقها[هبا األربعني األوىل ومسى كتابة أى قدر ذلك وكتبه وأعلم به، مث يفعله به بعد األربعني الثالثة أو يكون املراد )) وخلق مسعها وبصرها

األربعني األوىل وحقيقة التصوير فيها، فيتعني محله على تصوير خفى ال يدركه -أى األربعني - بهانتقلت علقة، وحينذ يكون أول مبدإ التخليق فيكون إحساس البشر، فإن النطفة إذا جاوزت األربعني

مع هذا املبدإ مبدأ التصوير اخلفى الذى ال يناله احلس مث إذا مضت األربعون الثالثة صورت التصوير احملسوس املشاهد فأحد التقديرات الثالثة يتعني وال بد، وال جيوز غري هذا البتة، إذ العلقة ال مسع فيها وال

د وال عظم، وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ احلديث وأشبه وأدل على القدر، واهللا أعلم بصر وال جلمبراد رسوله، غري أنا ال نشك أن التخليق املشاهد والتقسيم إىل اجللد والعظم واللحم إمنا يكون بعد

وحيتمل . ليقهعند أول خت] كان[األربعني الثالثة واملقصود أن كتابة الشقاوة والسعادة وما هو الق، وجها رابعا وهو أن النطفة ىف األربعني األوىل ال يتعرض إليها وال يعتىن بشأهنا، فإذا جاوزهتا وقعت ىف

فحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك . أطوار التخليق طورا بعد طور، ووقع حينئذ التقدير والكتابةبن أسيد وغريه من األحاديث املذكورة إمنا فيه بعد الطور الثالث عند متام كوهنا مضغة، وحديث حذيفة

وقوع ذلك بعد األربعني، ومل يوقت فيها البعدية بل أطلقها، وقد قيدها ووقتها ىف حديث ابن مسعود، واملطلق ىف مثل هذا حيمل على املقيد بال ريب، فأخرب مبا تكون النطفة بعد الطور األول من تفاصيل

ا وعليها، وذلك يقع ىف أوقات متعددة، وكله بعد األربعني األوىل، وبعضه شأهنا وختليقها وما يقدر هلمتقدم على بعض، كما أن كوهنا علقة يتقدم على كوهنا مضغة وكوهنا مضغة متقدم على تصويرها

إن النطفة بعد األربعني تكون علقة ومضغة، : والتصوير متقدم على نفخ الروح مع ذلك، فيصح أن يقال، وتركب فيها العظام واجللد، ويشق هلا السمع والبصر، وينفخ فيها الروح ويكتب ويصور خلقها

وهذا وجه . وهذا ال يقتضى وقوع ذلك كله عقيب األربعني األوىل من غري فصل. شقاوهتا وسعادهتا .حسن جدا

Page 59: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ه اجلنة أو واملقصود أن تقدير الشقاوة والسعادة واخللق والرزق سبق خروج العبد إىل دار الدنيا، فأسكنإن : ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: وىف الصحيحني عن أىب هريرة قال. النار وهو ىف بطن أمه

وىف صحيح البخارى عن أىب . احلديث)) اهللا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك ال محالةما بعث اهللا من نبى وال استخلف من خليفة إال كان له : ((السعيد عن النىب صلى اهللا عليه وسلم ق

))ن عصمه اهللابطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم م: بطانتانيا عدى أسلم : ((أتيت النىب صلى اهللا عليه وسلم فقال: عن عدى بن حامت أنه قالوىف سنن ابن ماجه

تشهد أن ال إله إال اهللا وأنى رسول اهللا، وتؤمن باألقدار كلها خيرها : ((وما اإلسالم؟ قال: قلت)) تسلمأتى النىب : صحيح البخارى من حديث احلسن عن عمرو بن تغلب قالوىف)) وشرها وحلوها ومرها

إنى أعطى الرجل وأدع : ((صلى اهللا عليه وسلم مال، فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أهنم عتبوا، فقالى قلوبهم من الجزع واهللع، وأكل الرجل، والذى أدع أحب إلى من الذى أعطى، أعطى أقواما لما ف

.أقواما إلى ما جعل اهللا فى قلوبهم من القناعة والخير احلديثكان اهللا ولم يكن شيء : ((وىف الصحيحني من حديث عمران بن حصني عن النىب صلى اهللا عليه وسلم

)).شه على املاء وخلق السموات واألرض وكتب فى الذكر كل شيءقبله، وكان عرإن فيك لخلقين : ((وىف الصحيح عن ابن عباس أن النىب صلى اهللا عليه وسلم قال ألشج عبد القيس

بل جبلت : ((لقت هبما، أم جبلت عليهما؟ قاليا رسول اهللا خلقني خت: قال)) الحلم واألناة: يحبهما اهللاقال النىب صلى اهللا عليه : وقال أبو هريرة. الحمد هللا الذى جبلىن على خلقني حيبهما اهللا: قال)) عليهما .رواه البخارى تعليقا)) جف القلم بما أنت الق: ((وسلم

* }أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون{: وله تعاىلوذكر البخارى أيضا عن ابن عباس ىف ق .سبقت هلم السعادة: قال] ٦١: املؤمنون[

وىف سنن أىب داود وابن ماجه من حديث عبد اهللا بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبى بن كعب، وزيد رضه لعذهبم وهو غري ظامل هلم، ولو رمحهم كانت أن اهللا لو عذب أهل مساواته وأهل أ: ((بن ثابت

رمحته هلم خريا هلم من أعماهلم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ىف سبيل اهللا ما قبله اهللا منك حىت تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك مل يكن ليخطئك وما أخطأك مل يكن ليصيبك، ولو مت على غري هذا

))لدخلت النار .ثابت عن النىب صلى اهللا عليه وسلم وقاله زيد بن

يا بىن، إنك لن جتد طعم اإلميان : قال عبادة بن الصامت: وىف سنن أىب داود عن أىب حفص الشامى قالحىت تعلم أن ما أصابك مل يكن ليخطئك، وما أخطأك مل يكن ليصيبك، مسعت رسول اهللا صلى اهللا عليه

Page 60: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اكتب مقادير : يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب، قال: القلم فقال لهإن أول ما خلق اهللا: ((وسلم يقولمن مات على غير : ((يا بىن، مسعت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم يقول)) كل شيء حتى تقوم الساعة

)).هذا فليس منىكنا ىف جنازة فيها رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ببقيع : ه قالوفىالصحيحني عن على رضى اهللا عن

الغرقد، فجاء رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم فجلس ومعه خمصرة، فجعل ينكت باملخصرة ىف األرض، أو الجنة، إال قد ما منكم من أحد من نفس منفوسة إال قد كتب مكانها من النار: ((مث رفع رأسه فقال

يا نىب اهللا أو ال نتكل على كتابنا وندع العمل، : فقال رجل من القوم: قال)). كتبت شقية أو سعيدة: فمن كان من أهل السعادة ليكونن إىل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إىل الشقاوة؟ قال

، مث قرأ ))أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوةاعملوا، فكل ميسر، ((* وأما من بخل واستغنى* فسنيسره لليسرى * وصدق بالحسنى * فأما من أعطى واتقى {: نىب اهللا

وىف السنن األربعة عن مسلم بن يسار اجلهىن ]. ١٠- ٥:الليل* [}فسنيسره للعسرى* وكذب بالحسنى * }وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم{: أن عمر بن اخلطاب سئل عن هذه اآلية

لى اهللا عليه وسلم قد سئل عنها، فقال رسول اهللا صلى مسعت رسول اهللا ص: ، فقال]١٧٢: األعراف[خلقت هؤالء للجنة، : خلق اهللا آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: ((اهللا عليه وسلم

خلقت هؤالء للنار، وبعمل أهل : ستخرج منه ذرية فقالوبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاإن اهللا : يا رسول اهللا، ففيم العمل؟ فقال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: قال رجل)) النار يعملون

اجلنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل اجلنة فيدخله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهلال أهل النار به اجلنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعم

))فيدخله به النارإن اهللا خلق آدم من : ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: وىف الترمذى عن أىب موسى األشعرى قال

ود قبضة قبضها من جميع األرض، فجاء بنو آدم على قدر األرض، جاء منهم األحمر واألبيض واألس .حديث حسن صحيح: قال الترمذى)). هل والحزن والخبيث والطيبوبين ذلك والس

ال : ((وذكر الطربى من حديث مالك بن عبد أن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم قال البن مسعود ))همك، ما يقدر يكن، وما ترزق يأتك] تكثر[

بعثت داعيا ومبلغا، : ((ول اهللا صلى اهللا عليه وسلمقال رس: وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال ،))وخلق إبليس مزينا، وليس إليه من الضاللة شيء. وليس إلى من الهدى شيء

Page 61: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

خرج النىب: عبد الرمحن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال] أخربنا: [وقال ابن وهبإنكم قد أخذتم فى شعبتين بعيدتى : صلى اهللا عليه وسلم فسمع ناسا من أصحابه يذكرون القدر فقال

هذا كتاب من اهللا الرمحن : ((، ولقد أخرج يوما كتابا فقال))الغور، فيهما هلك أهل الكتاب من قبلكمص مية أهل اجلنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم فحمل على آخرهم ال ينقالرحيم فيه تس

)).فريق فى اجلنة وفريق فى السعري: منهم أحديا غالم، أال : ((م يوما فقالردفت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسل: وىف الترمذى عن ابن عباس قال

الرخاء أعلمك كلمات ينفعك اهللا بهن؟ احفظ اهللا يحفظك، احفظ اهللا تجده أمامك، تعرف إلى اهللا فىاهللا، رفعت األقالم وجفت الصحف، لو يعرفك فى الشدة إذا سألت فاسأل اهللا، وإذا استعنت فاستعن ب

جهدت األمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إال بشيء قد كتبه اهللا لك ولو جهدت األمة على أن ر وأن الفرج مع يضروك بشيء مل يضروك إال بشيء قد كتبه اهللا عليك، واعلم أن النصر مع الصب

فلو أن الناس اجتمعوا : ((وىف بعض روايات احلديث ىف غري الترمذى)). الكرب وأن مع العسر يسران يمنعوك شيئا قدره اهللا على أن يعطوك شيئا لم يعطه اهللا لم يقدروا عليه، ولو أن الناس اجتمعوا على أ

))لك ما استطاعوا، فاعبد اهللا مع الصبر على اليقني] الوليد بن[سألت : أنبأنا عبد الواحد بن سليم البصرى عن عطاء بن أىب رباح قال: وقال على بن اجلعديا بىن اتق اهللا، : جعل يقول: ؟ قالكيف كانت وصية أبيك حني حضره املوت: عبادة بن الصامت

يا أبت : قلت. واعلم أنك لن تتقى اهللا ولن تبلغ العلم حىت تعبد اهللا وحده وتؤمن بالقدر خريه وشرهمل ] أخطأك[تعلم أن ما أصابك مل يكن ليخطئك وأن ما : كيف ىل أن أؤمن بالقدر خريه وشره؟ قال

إن : ((ر، مسعت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم يقوليكن ليصيبك، فإن مت على غري هذا دخلت الناما أكتب؟ فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن : اكتب، فقال: له] فقال[أول ما خلق اهللا القلم

))إلى األبد ...)يتبع(

@ حدثنا : كر العنسى عن يزيد بن أىب حبيب وحممد بن يزيد قاالوذكر الطربى من حديث بقية أنبأنا أبو ب

يا رسول اهللا، ال تزال نفسك ىف كل عام وجعة من تلك الشاة : قالت أم سلمة: نافع عن ابن عمر قال )).تهشيء منها إال وهو مكتوب على وآدم فى طين] من[ما أصابنى : ((المسمومة الىت أكلتها؟، قال

Page 62: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الحمد هللا نحمده : ((وىف صحيح مسلم من حديث ابن عباس ىف خطبة النىب صلى اهللا عليه وسلمحده ال شريك ونستعينه، من يهده اهللا فال مضل له ومن يضلل فال هادى له، وأشهد أن ال إله إال اهللا و

)).محمدا عبده ورسوله له وأناللهم آت نفسى تقواها، : ((كان النىب صلى اهللا عليه وسلم يقول: وىف صحيحه أيضا عن زيد بن أرقم

عن ] رضى اهللا عنه[وىف صحيحه أيضا عن على )). وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها وموالها : صلى اهللا عليه وسلم ىف دعاء االستفتاحالنىباللهم اهدنى ألحسن األخالق، ال يهدى ألحسنها إال أنت، واصرف عنى سيئ األخالق، ال يصرف ((

ليه وسلم ، وىف الترمذى واملسند من حديث عمران بن حصني أن النىب صلى اهللا ع))عنى سيئها إال أنت )).اللهم ألهمنى رشدى، وقنى شر نفسى: ((علم أباه هذا الدعاء

] باجلابية[قام عمر بن اخلطاب : وروى سفيان الثورى عن خالد احلذاء عن عبد اهللا بن احلارث قالوعنده اجلاثليق يسمع ما )) هادى له من يهده اهللا فال مضل له ومن يضلل فال: ((خطيبا فقال ىف خطبته

يا أمري املؤمنني يزعم أن اهللا ال يضل : ما تقولون؟ قالوا: فنفض ثوبه كهيئة املنكر، فقال عمر: يقول، قالكذبت يا عدو اهللا، بل اهللا خلقك وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء اهللا، أما واهللا لوال : أحدا، قال

إن اهللا خلق اخللق فخلق أهل اجلنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عهد لك لضربت عنقك، خلق اهللا اخللق فكانوا : وذكر الطربى عن أىب بكر الصديق قال. هؤالء هلذه وهؤالء هلذه: عاملون قال

باىل، ادخلوا النار وال أ: ادخلوا اجلنة بسالم، وقال ملن ىف يده األخرى: ىف قبضته، فقال ملن ىف ميينه. نعم: أرأيت الزنا بقدر اهللا؟ فقال: جاء رجل إىل أىب بكر فقال: فذهبت إىل يوم القيامة، وقال ابن عمر

نعم يا ابن اللخناء، أما واهللا لو كان عندى إنسان أمرت أن جيأ : فإن اهللا قدره على مث يعذبىن؟ قال: قالر يوما فأدخل إصبعيه السبابة والوسطى ىف فيه وذكر عن على رضى اهللا عنه أنه ذكر عنده القد. أنفك

إن : وذكر عنه أيضا أنه قال. أن هاتني الرقمتني كانتا ىف أم الكتاب] أشهد: [فرقم هبما باطن يده فقالأحدكم لن خيلص اإلميان إىل قلبه حىت يستيقن يقينا غري ظن أن ما أصابه مل يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه

.ويقر بالقدر كلهمل يكن ليصيبه الشقى من شقى ىف بطن أمه، والسعيد من وعظ : وذكر البخارى عن ابن مسعود أنه قال ىف خطبته

ألن أعض على مجرة أو أن أقبض عليها حىت تربد ىف يدى أحب إىل من أن : وقال ابن مسعود. بغريه يؤمن بالقدر ويعلم أنه ميت، ال يطعم رجل طعم اإلميان حىت: وقال. ليته مل يكن: أقول لشيء قضاه اهللا

إن العبد ليهم باألمر من : ابن مسعود] خثمة عن[وأنه مبعوث من بعد املوت، وقال األعمش عن اصرفوه عنه، فإىن إن : التجارة واإلمارة حىت يتيسر له، نظر اهللا إليه من فوق سبع مسوات فيقول للمالئكة

Page 63: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

من أين دهيت؟ أو حنو هذا وما هو إال فضل : فيقول: عنه، قالفيصرفه اهللا : قال. يسرته له أدخلته النار ].عز وجل[اهللا

وذكر الزهرى عن إبراهيم بن عبد الرمحن بن عوف أن عبد الرمحن بن عوف مرض مرضا شديدا، أنطلق : أغمى على؟ قالوا نعم قال أنه أتاىن رجالن غليظان فأخذا بيدى فقاال : واغمى عليه وأفاق فقال

حناكمه إىل العزيز األمني : أين تريدان به؟ قاال : إىل العزيز األمني فنطلقا ىب فتلقهما رجل فقال حناكمك دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعاده وهو ىف بطن أمه: فقال

العجز والكيس : مسعت ابن عباس يقول ]أىن[أشهد : وقال ابن جريج عن أنبأنا طاوس عن ابيه قال بقدر

يكذبون بالكتاب إن أحدث أحدهم : قال: إن ناسا يقولون ىف القدر: يل البن عباسق: وقال جماهد شعرا التصونه إن اهللا عزوجل كان على عرشه قبل أن خيلق شيئا، فخلق القلم، فكتب ماهو كائن إىل

من القدر نظام التوحيد، ف: يوم القيامة، فإنه جيرى الناس على أمر قد فرغ منه وقال ابن عباس أيضا وحد اهللا ومل يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد، ومن وحد اهللا وآمن بالقدر كانت العروة

الوثقى الانفصام هلاياابن عباس، أرأيت من صدىن عن : كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال : وقال عطاء بن رباح

إن كان اهلدى شئ كان لك عنده : قال اهلدى وأوردىن دار الضاللة واردا ، إال تراه قد ظلمىن؟ ف .قم وال جتالسىن. فمنعكه فقد ظلمك ، وإن كان اهلدى هو له يؤتيه من يشاء فال يظلمك

فكيف ذاك؟ اهلدهدد ينصب : كان اهلدهد يدل سليمان على املاء فقلت له : قال عكرمة عن ابن عباس القضاء ذهب البصر له الفخ عليه التراب فقال أعضك اهللا هبن أبيك ن إذا جاء

سليمان الذدى عن أىب حيىي ] ابو[أنبأنا إمساعيل ، أنبأنا أبا هارون الغنوى ، أنبأنا : وقال اإلمام أمحد فقلت يا -أو ينكرونه - قال اتيت ابن عباس ، ومعى رجالن من الذين يذكرون القدر" موىل بىن عفراء"

القدر ، إن زىن وإن سرق وإن شرب فحسر ابن عباس ما تقول ىف القدر؟ فإن هؤالء يسألونك عنيا حيىي لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبوون به ، واهللا لو أعلم : قميصه حىت أخرج منكبيه وقال

أنك منهم وهذين معك جلاهدتكم ، إن زىن بقدر ، وإن سرق بقدر وإن شرب اخلمر فبقدرإذا : ال قدر ، وأن األمر أنف فقال : يقولون إن ناسا : وصح عن ابن عمر أن حيىي ابن يعمر قال له

لقيت هؤالء فأخربهم أن ابن عمر برئ منهم وأهنم براء منه ، وقد تقدم قول أيب ابن كعب ، وحذيفة لو أنفقت مثل جبل أحدا ذهبا ىف سبيل اهللا ما قبل منك حىت تؤمن : وابن مسعود ، وزيد ابن ثابت

ليخطأك وأن ما أخطأك مل يكن ليصيبك ، وإن مت على غري ذلك بالقدر وتعلم أن ما أصابك مل يكن

Page 64: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

لن تؤمن حىت تؤمن بالقددر خريه وشره، وتؤمن أنه ما : دخلت النار وتقدم قول عبادة ابن الصامت أصابك مل يكن ليخطأك وأن ما أخطأك مل يكن ليصيبك

لم ، وأمور بقظاء قد خالقضى القضاء وجف الق: وقال قتادة عن أىب السوار عن احلسن بن على قال املرء يفر من القدر وهو لقيه ، ويرى ىف عني أخيه : انتهى عجىب إىل ثالث : وقال عمرو بن العاص

الفذة ويكون ىف عينه مثل اجلذع فال يعيبها ، ويكون ىف دابته الطفر قيقومه جهده ويكون ىف نفسه الطفر فال يقومهاالصرب للحكم ، والرضا بالقدر ، واإلخالص للتوكل ، واالستسالم ذروة اإلميان أربع: قال أبو الدرداء

للربأن تعلم إن ما أصابك مل يكن ليخطأك : سألنا سلمان ما اإلميان بالقدر؟ فقال : وقال احلجاج األزدى

إن اهللا مل خلق أدم مسح ظهره فأخرج منها : وأن ما أخطأك مل يكن ليصيبك ، وقال سلمان أيضا وم القيامة، وكتب األجال واألعمال واألرزاق والشقاوة والسعادة فمن علم السعادة فعل زرارى إىل ي

ال يؤمن عبد : اخلري وجمالس اخلري ومن علم الشقاوة فعل الشر وجمالس الشر، وقال جابر ابن عبد اهللا وقال هشام حىت يؤمن بالقدر خريه وشره ، وأن ما أصابه مل يكن ليخطئه ، وما أخطأه مل يكن ليصيبه ،

إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل اجلنة وإنه عند اهللا مكتوب من : بن عروة بن الزبري عن أبيه عن عائشة أهل النار ، واألثار ىف ذلك أكثر من أن تذكر ، وإمنا أشرنا إىل بعضها أشارة

فصل ىف بعض أقوال القدريه ومذاهبهم

دى وجناة ، ومقام ضالل وردى وهالك زلت فيه أقدام مقام إميان وه: أن هاهنا مقامني : فاجلواب فهوت بصاحبها إىل دار الشقاء

فأما مقام اإلميان واهلدى والنجاة فمقام إثبات القدر واإلميان به ، وإسناد مجيع الكائنات إىل مشيئة رهبا اس، وهذه وبارئها وفاطرها ، وأن ماشاء كان وإن مل يشأ الناس ، وما مل يشأ مل يكن وإن شاء الن

األثاركلها حتقق هذا املقام وتبني أن من مل يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك ، بل مل يؤمن باهللا ومل يعرفه ، وهذا ىف كل كتاب انزله اهللا على رسله

نبه على وهو مقام اهلدى وهو مقام الضالل والردى واهلالك فهو االحتجاج به على ذ: وأما املقام الثاىن اهللا ومحل العبد ذنبه على ربه وتنزيه النفس اجلاهلة الظاملة األمارة بالسوء وجعل أرحم الرامحني وأعدل العادلني وأحكم احلاكمني وأغىن األغنياء أضر على العباد من أبليس ، كما صرح به بعضهم واحتج عليه

مبا خصمه فيه من ال تدحض حجته

Page 65: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

:ئل هؤالء وال تطاق مغالبته حىت يقول قا ما حيلة العبد واألقدار جارية عليه ىف كل حال أيها الرائي ألقاه ىف اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل باملــاء

:ويقول قائلهم دعاىن وسد الباب دوىن فهل إىل دخوىل سبيل؟ بينوا ىل قصيت

:ويقول اآلخر وضعوا اللحم للبزاة على ذروتى عــدن

اة إذ خلعوا عنهم الرسـنمث المـوا البز لو أرادوا صيانـىت ستروا وجهك احلسن

ىل مخس بنات ال أخاف على إفسادهن غريه : فقال -وقد ذكر له ما خياف من إفساده -وقال بعضهموصعد رجل يوما على سطح دار له، فأشرف على غالم له يفجر جباريته فنزل وأخذمها ليعاقبهما، فقال

لعلمك بالقضاء والقدر أحب إىل من كل : فقال. والقدر مل يدعانا حىت فعلنا ذلك إن القضاء: الغالمورأى آخر رجال يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب املرأة . شيء، أنت حر لوجه اهللا

أو تركت السنة : يا عدوة اهللا أتزنني وتعتذرين مبثل هذا؟ فقالت: فقال. القضاء والقدر: وهى تقوللوالك لضللت، ورأى آخر : أخذت مبذهب ابن عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقالو

اخلرية فيما قضى اهللا، فلقب : فقال. هذا قضاء اهللا وقدره: ما هذا؟ فقالت: رجال آخر يفجر بامرأته فقالوال {: يقول] عز وجلاهللا[أليس : باخلرية فيما قضى اهللا، وكان إذا دعى به غضب، وقيل لبعض هؤالء

دعنا من هذا، رضيه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غريه، ولقد : فقال] ٧: الزمر* [}يرضى لعباده الكفر :القدر عذر جلميع العصاة، وإمنا مثلنا ىف ذلك كما قيل: بالغ بعضهم ىف ذلك حىت قال

إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيـكم فنعتــذرمن غرهم؟ : فقيل. بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم: وبلغ بعض هؤالء أن عليا مر بقتلى النهروان فقال

كان على قدريا، وإال فاهللا غرهم : الشيطان، والنفس األمارة بالسوء، واألماىن، فقال هذا القائل: فقالفتذاكروا القدر، فجرى ذكر واجتمع مجاعة من هؤالء يوما. وفعل هبم ما فعل وأوردهم تلك املوارد

كان اهلدهد قدريا أضاف العمل : فقال] ٢٤: النمل* [}وزين لهم الشيطان أعمالهم{:اهلدهد وقولهما منعك {: وسئل بعض هؤالء عن قوله تعاىل إلبليس. إليهم والتزيني إىل الشيطان، ومجيع ذلك فعل اهللا

نعم، قضى عليه ىف : أمينعه، مث يسأله ما منعه؟ قال]: ٧٥: سورة ص* [}ت بيدىأن تسجد لما خلق: النساء* [}وماذا عليهم لو آمنوا باهللا{: فما معىن قوله: السر ما منعه ىف العالنية ولعنه عليه، قال له

Page 66: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ا يفعل اهللا بعذابكم إن م{: فما معىن قوله: قال. استهزاء هبم: إذا كان هو الذى منعهم؟ قال] ٣٩قد فعل ذلك هبم من غري ذنب جنوه، بل ابتدأهم بالكفر مث : قال] ١٤٧: النساء* [}شكرتم وآمنتم

إن كنت : وقد عوتب على ارتكابه معاصى اهللا فقال -عذهبم عليه، وليس لآلية معىن، وقال بعض هؤالءند بعض هؤالء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود آلدم، وجرى ع. عاصيا ألمره فأنا مطيع إلرادته

وأخذ يقيم . إىل مىت هذا اللوم؟ ولو خلى لسجد، ولكن منع: فأخذ اجلماعة يلعنونه ويذمونه، فقالتبا لك سائر اليوم، أتذب عن الشيطان وتلوم الرمحن؟ وجاء مجاعة إىل : عذره فقال بعض احلاضرين: وأصلحت بينهم؟ قال: كنت أصلح بني قوم فقيل له: دوه، فلما رجع قالمنزل رجل من هؤالء فلم جيبؤسا لك، أحتسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك؟ ومر : فقيل له. أصلحت، إن مل يفسد اهللا

مسكني، مظلوم، أجربه على السرقة مث قطع يده عليها، وقيل : بلص مقطوع اليد على بعض هؤالء فقالواهللا قد فعل ذلك، ولكن ال جنسر : أترى اهللا كلف عباده ما ال يطيقون مث يعذهبم عليه؟ قال :لبعضهم. استودعهم اهللا واستحفظهم إياه: فقيل. وأراد رجل من هؤالء السفر، فودع أهله وبكى. أن نتكلم

ومل؟ : يلق. ذنبة أذنبها أحب إىل من عبادة املالئكة: ما أخاف عليهم غريه، وقال بعض هؤالء: فقالالعارف ال : لعلمى بأن اهللا قضاها على وقدرها، ومل يقضها إال واخلرية ىل فيها وقال بعض هؤالء: قال

ولقد دخل شيخ من هؤالء بلدا، فأول ما بدأ به من الزيارات . ينكر منكرا، الستبصاره بسر اهللا ىف القدر .كيف أنتم ىف قدر اهللا :زيارة املواخري املشتملة على البغايا واخلمور، فجعل يقول

احملبة نار حترق من القلب ما : عاتبت بعض شيوخ هؤالء فقال ىل: ومسعت شيخ اإلسالم ابن تيمية يقولفقلت له إذا كان احملبوب قد أبغض : سوى مراد احملبوب والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منه؟ قال

: هم، أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له؟ قالبعض من ىف الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتهم أنت وواليتقال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت {: وقرأ قاريء حبضرة بعض هؤالء. فكأمنا ألقم حجرا

هو واهللا منعه، ولو قال إبليس ذلك لكان صادقا، وقد أخطأ إبليس احلجة، : ، فقال]٧٥: ص* [}بيديوأما ثمود فهديناهم فاستحبوا {: أنت منعته، ومسع بعض هؤالء قارئا يقرأ: را لقلت لهولو كنت حاض

فما معىن : قالوا. ليس من هذا شئ، بل أضلهم وأعماهم: فقال] ١٧: فصلت* [}العمى على الهدى .خمرقة ميخرق هبا: اآلية؟ قال

دة أعداء اهللا حقا الذين ما قدروا اهللا حق قدره، وال عرفوه حق اهللا أكرب على هؤالء املالح: فيقالمعرفته، وال عظموه حق تعظيمه، وال نزهوه عما ال يليق به، وبغضوه إىل عباده وبغضوهم إليه سبحانه،

يقال يوم : ((وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم، وهؤالء خصماء اهللا حقا الذين جاء فيهم احلديث :قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ىف تائيته)). أين خصماء اهللا؟ فيؤمر بهم إلى النار: قيامةال

Page 67: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ويدعى خصوم اهللا يوم معاده إىل النار طرا فرقة القدرية سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به اهللا أو ماروا به للشريعة

نفاته، وهم : وعلى لسان السلف هم هؤالء الفرق الثالثالقدرية املذمومون ىف السنة : ومسعته يقول، وهم ]١٤٨: األنعام* [}لو شاء اهللا ما أشركنا{: القدرية اجملوسية، واملعارضون به للشريعة الذين قالوا

. القدرية الشركية واملخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداء اهللا وخصومه وهم القدرية اإلبليسية، ومل يعترف ]٣٩: احلجر* [}بما أغويتنى{: ليس، وهو أول من احتج على اهللا بالقدر فقالوشيخهم إب

بالذنب يبوء به كما اعترف به آدم، فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه ريب أن هؤالء القدرية اإلبليسية وال . ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. فما ظلم

وتعظيما له أن يقدر الذنب مث ] تعايل[والشركية شر من القدرية النفاة، ألن النفاة إمنا نفوه تنزيها للرب يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقب العبد على ما ال صنع للعبد فيه البتة بل هو مبنزلة طوله وقصره

ك، كما حيكى عن بعض اجلربية أنه حضر جملس بعض الوالة فأتى وحنو ذل] وحوله[وسواده وبياضه فقال له بعض -يعىن سوطا -اضربه مخسة عشر: ما ترى فيه؟ فقال: بطرار أحول فقال له الواىل

فقال . حلوله] ومثلها[لطره، ] مخسة عشر[بل ينبغى أن يضرب ثالثني سوطا : احلاضرين ممن ينفى اجلربكما يضرب على الطر وال صنع له فيه عندك، : احلول وال صنع له فيه؟ فقالكيف يضرب على : اجلربى

وأما القدرية اإلبليسية والشركية فكثري منهم منسلخ عن الشرع، عدو هللا ورسله، ال يقر . فبهت اجلربىآء الله مآ سيقول الذين أشركوا لو ش{: بأمر وال هنى، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال اهللا فيهم

هل عندكم أشركنا وال آباؤنا وال حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل : ، وقال تعاىل]١٤٨: اماألنع* [}من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إال الظن وإن أنتم إال تخرصون

دونه من وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن وآل آباؤنا وال حرمنا من{: ، وقال تعاىل]٣٥:النحل* [}شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إال البالغ المبني

، ]٢٠: الزخرف* [}وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إال يخرصون{ا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم اهللا قال الذين كفروا للذين آمنو{: وقال

، فهذه أربعة مواضع ىف القرآن بني سبحانه فيها أن االحتجاج ]٤٧: يس* [}إن أنتم إال في ضالل مبني .بالقدر من فعل املشركني املكذبني للرسل

:أربعة فرق] اآليات[وقد افترق الناس ىف الكالم على هذه مث افترق هؤالء . جعلت هذه اآليات حجة صحيحة، وأن للمحتج هبا احلجة على اهللا: األوىلالفرقة فرقة كذبت باألمر والوعد والوعيد، وزعمت أن األمر والنهى والوعد والوعيد بعد هذا يكون : فرقتني

Page 68: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

س ذلك لي: ظلما، واهللا ال يظلم من خلقه أحدا وفرقة صدقت باألمر والنهى والوعد والوعيد وقالتيشاء، ويعذب العبد على ما ال صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو ] كما[بظلم، واهللا يتصرف ىف ملكه

فإن . سبحانه ال على فعل عبده، إذ العبد ال فعل له، وامللك ملكه وال يسأل عما يفعل وهم يسألونمنهم، ولو قالوها اعتقادا للقضاء والقدر هؤالء الكفار إمنا قالوا هذه املقالة الىت حكاها اهللا عنهم استهزاء

عليهم، ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه ] ذلك[وإسنادا جلميع الكائنات إىل مشيئته وقدرته مل ينكر حجة صحيحة إذا قالوها على وجه االعتقاد ال على جهة االستهزاء فيكون للمشركني على اهللا احلجة،

.وكفى هبذا القول فسادا وبطالناجعلت هذه اآليات حجة هلا ىف إبطال القضاء والقدر واملشيئة العامة إذ لو صحت املشيئة : لفرقة الثانيةا

العامة وكان اهللا عز وجل قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة األوثان لكانوا قد قالوا احلق وكان اهللا كذب، ونفى عنهم يصدقهم عليه ومل ينكر عليهم، فحيث وصفهم باخلرص الذى هو ال] عز وجل[

العلم، دل على أن هذا الذى قالوه ليس بصحيح، وأهنم كاذبون فيه إذ لو كان علما لكانوا صادقني ىف ، وجعلت هذه الفرقة هذه اآليات ]١٤٨: األنعام* [}هل عندكم من علم{: اإلخبار به ومل يقل هلم

كون ىف ملكه ما ال يشاء، ويشاء ما ال يكون، حجة هلا على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت هبا أن يوأنه ال قدرة له على أفعال عباده من اإلنس واجلن واملالئكة وال على أفعال احليوانات، وأنه ال يقدر أن يضل أحدا وال يهديه وال يوفقه أكثر مما فعل به، وال يعصمه من الذنوب والكفر وال يلهمه رشده، وال

وال هو الذى جعل املصلى مصليا والرب برا والفاجر فاجرا واملؤمن مؤمنا والكافر جيعل ىف قلبه اإلميان،فهذه الفرقة شاركت الفرقة الىت قبلها ىف إلقاء احلرب . كافرا، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك

لشرع فاألوىل حتيزت إىل القدر وحاربت الشرع، والثانية حتيزت إىل ا: والعداوة بني الشرع والقدر .وكذبت القدر

.والطائفتان ضالتان، وإحدامها أضل من األخرىفالقضاء والقدر . آمنت بالقضاء والقدر، وأقرت باألمر والنهى، ونزلوا كل واحد منزلته: والفرقة الثالثة

فاإلميان بالقضاء والقدر عندهم من متام التوحيد . يؤمن به وال حيتج به، واألمر والنهى ميتثل ويطاعمن مل يقر : وقالوا. ادة أن ال إله إال اهللا، والقيام باألمر والنهى موجب شهادة أن حممدا رسول اهللاوشه

مث افترقوا ىف وجه . بالقضاء والقدر ويقوم باألمر والنهى فقد كذب بالشهادتني وإن نطق هبما بلسانهلعامة والقضاء والقدر على رضاه إمنا أنكر عليهم استدالهلم باملشيئة ا: فرقة قالت: هذه اآليات فرقتني

وحمبته لذلك، فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليال على رضاه به وحمبته له، إذ لو كرهه وأبغضه حلال بينهم وبينه، فإن احلكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا مل مينع من

Page 69: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كمته، وكالمها ممتنع ىف حق اهللا، فعلم حمبته ملا حنن عليه من عبادة وقوعه لزم إما عدم قدرته وإما عدم حإن اهللا حيب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى هبا، : غريه ومن الشرك به، وقد وافق هؤالء من قال

ولكن خالفهم ىف أنه هنى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم ىف نصف قوهلم وخالفهم ىف ذه اآليات من أكرب احلجج على بطالن قول الطائفتني، وأن مشيئة اهللا تعاىل العامة الشطر اآلخر، وه

وهؤالء املشركون ملا استدلوا مبشيئته على . وقضاءه وقدره ال يستلزم حمبته ورضاه لكل ما شاءه وقدرهبة اهللا حمبته ورضاه كذهبم وأنكر عليهم وأخرب أنه ال علم هلم بذلك وأهنم خارصون مفترون فإن حم

للشيء ورضاه به إمنا يعلم بأمره به على لسان رسوله ال مبجرد خلقه له، فإنه خلق إبليس ] تعاىل[وجنوده وهم أعداؤه وهو تعاىل يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه، فهكذا ىف األفعال خلق خريها وشرها،

مها خلقه وهللا تعاىل وهو حيب خريها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكالاحلكمة البالغة التامة ىف خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات واألفعال، كل صادر عن حكمته

إمنا أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر : وقالت الفرقة الثانية. وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئتههم أمره وهنيه دفعوه بقضائه وقدره، فجعلوا القضاء ودفع األمر باملشيئة، فلما قامت عليهم حجة اهللا ولزم

والقدر إبطاال لدعوة الرسل ودفعا ملا جاؤوا به، وشاركهم ىف ذلك إخواهنم وذريتهم الذين حيتجون بالقضاء والقدر على املعاصى والذنوب ىف نصف أقواهلم وخالفوهم ىف النصف اآلخر وهو إقرارهم

.باألمر والنهىمت هذه املواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسالفهم، إما ىف مجيع فانظر كيف انقس

وهدى اهللا بفضله ورثة أنبيائه ورسله ملرياث نبيهم . وإما ىف جزء منها. تركتهم وإما ىف كثري منهاة، وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء اهللا وقدره ومشيئته العامة النافذ

وأنه ما شاء اهللا كان وما مل يشأ مل يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذى جعل املؤمن مؤمنا واملصلى مصليا واملتقى متقيا، وجعل أئمة اهلدى يهدون بأمره وأئمة الضاللة يدعون إىل

ه ورمحته ويضل من يشاء بعدله النار، وأنه أهلم كل نفس فجورها وتقواها ؛ وأنه يهدى من يشاء بفضلوحكمته، وأنه هو الذى وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء خلذهلم فعصوه وأنه حال بني الكفار وقلوهبم فإنه حيول بني املرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهد اهللا فال

شاء آلمن من ىف األرض كلهم مجيعا إميانا يثابون عليه ويقبل مضل له ومن يضلل فال هادى له، وأنه لوولو شآء ربك ما فعلوه فذرهم {: منهم ويرضى به عنهم، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن اهللا يفعل ما يريد

].١١٢: األنعام* [}وما يفترون

Page 70: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

علمه السابق مبا هم : األوىل: وأخرب هبا عن ربه تعاىل والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب جاء هبا نبيهمالثالثة مشيئته . الثانية كتابة ذلك ىف الذكر عنده قبل خلق السموات واألرض. عاملوه قبل إجيادهم

الرابعة خلقه له وإجياده . املتناولة لكل موجود، فال خروج لكائن عن مشيئته كما ال خروج له عن علمهفاخلالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق وال . لق إال اهللا، واهللا خالق كل شيءوتكوينه، فإنه ال خا

واسطة عندهم بني اخلالق واملخلوق، ويؤمنون مع ذلك حبكمته، وأنه حكيم ىف كل ما فعله وخلقه، وأن مصدر ذلك مجيعه عن حكمة تامة هى الىت اقتضت صدور ذلك وخلقه، وإن حكمته حكمة حق عائدة

ه كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه ملعلومه وقدرته ملقدوره كما يقوله نفاة إليه قائمة باحلكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها، بل هى أمر وراء ذلك، وهى الغاية احملبوبة له املطلوبة الىت

وأضل وهدى هى متعلق حمبته ومحده، وألجلها خلق فسوى وقدر فهدى، وأمات وأحيا وأسعد وأشقى، ومنع وأعطى، وهذه احلكمة هى الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفى للغايات وهو حمال، إذ نفى الغاية مستلزم لنفى الوسيلة، فنفى الوسيلة وهى الفعل الزم لنفى الغاية

ة، إذ فعل ال يقوم بفاعله وحكمة ال تقوم وهى احلكمة، ونفى قيام الفعل واحلكمة به نفى هلما ىف احلقيقباحلكيم شيء ال يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإهليته، وهذا الزم ملن نفى ذلك، وال حميد له عنه وإن أىب التزامه، وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه املطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل مل

بل قوله حق، والزم احلق حق كائنا ما كان يلزم من قوله حمذور البتة،آمنوا بالقضاء والقدر واحلكم والغايات -لكمال مرياثهم لنبيهم - واملقصود أن ورثة الرسل وخلفاءهم

احملمودة ىف أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك باألمر والنهى، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا باخللق إثبات القدر واحلكمة، وباألمر الذى من متام اإلميان به اإلميان بالوعد والوعيد الذى من متام اإلميان به

وحشر األجساد والثواب والعقاب، فصدقوا باخللق واألمر، ومل ينفومها بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية اجملوسية والقدرية املعارضة لألمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس باخللق وأقرهبم عصبة ىف هذا

.املرياث النبوى، وذلك فضل اهللا يؤتيه من يشاء واهللا ذو الفضل العظيمواعلم أن اإلميان حبقيقة القدر والشرع واحلكمة ال جيتمع إال ىف قلوب خواص اخللق ولب العامل، وليس الشأن ىف اإلميان بألفاظ هذه املسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثري من طوائف الضالل، فإن

ؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إىل العلم، ومنهم من يرده إىل األمر الديىن وجيعل قضاءه القدرية توقدره هو نفس أمره وهنيه ونفس مشيئة اهللا ألفعال عباده بأمره هلم هبا وهذا حقيقة إنكار القضاء

ابقة علمه تعاىل وكذلك احلكمة، فإن اجلربية تؤمن بلفظها وجيحدون حقيقتها، فإهنم جيعلوهنا مط. والقدروالقدرية النفاة . ملعلومه تعاىل، وإرادته ملراده تعاىل، فهى عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته

Page 71: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ال يرضون هبذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل المه وإرادته فهؤالء كلهم أقروا بلفظ احلكمة احلكيم وجيعلوهنا خملوقا من خملوقاته كما قالوا ىف ك

إن اهللا مل يتكلم وال : وكذلك األمر والشرع، فإن من أنكر كالم اهللا وقال. وجحدوا معناها وحقيقتهايتكلم، وال قال وال يقول، وال حيب شيئا وال يبغض شيئا، ومجيع الكائنات حمبوبة له وما مل يكن فهو

] والرب[ى وال يغضب، وال فرق ىف نفس األمر بني الصدق والكذب مكروه له، وال حيب وال يرضوالفجور، والسجود لألصنام والشمس والقمر والسجود له، ومل يكلف أحدا ما يقدر عليه بل كل

ما ال يطاق وال قدرة للمكلف عليه البتة، وجيوز أن يعذب رجاال إذ مل يكونوا نساء ] تكليف[تكليفه كونوا رجاال وسودا حيث مل يكونوا بيضا وبيضا حيث مل يكونوا سودا، وجيوز أن ويعذب نساء إذ مل ي

يظهر املعجزة على أيدى الكذابني ويرسل رسوال يدعو إىل الباطل وعبادة األوثان، ويأمر بقتل النفوس به لكانوا وال ريب أن هذا يرفع الشرائع واألمر والنهى بالكلية، ولوال تناقض القائلني. وأنواع الفجور

ولكن مشى احلال بعض املشى بتناقضهم وهو خري ] صلوات اهللا وسالمه عليه[منسلخني من دين الرسل .هلم من طرد أصوهلم والقول مبوجبها

إال أتباع ] اإلميان[واملقصود أنه مل يؤمن بالقضاء والقدر واحلكمة واألمر والنهى والوعد والوعيد حقيقة القدر قدرة اهللا، : والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، وهلذا قال اإلمام أمحد الرسل وورثتهم، والقضاء

إنه شفى هبذه الكلمة وأفصح هبا عن : واستحسن ابن عقيل هذا الكالم من أمحد غاية االستحسان وقال حقيقة القدر

سلف واألئمة فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غالهتم الذين كفرهم ال: املنكرون للقدر فرقتنيوفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة هللا تعاىل . وتربأ منهم الصحابة

وصرحت بأن اهللا ال يقدر عليها، فأنكر هؤالء كمال قدرة الرب، وأنكرت األخرى كمال علمه، هلذا كان مصدر اخللق والعلم وأنكرت احلكمة والرمحة، و] القدرة[وقابلتهم اجلربية فجاءت على إثبات

من ] والصفتني[واألمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، وهلذا يقرن تعاىل بني االمسني تنزيل {: ، وقال]٦:النمل* [}وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم{: هذه الثالثة كثريا كقوله

* }تنزيل الكتاب من اهللا العزيز العليم* حم {: ، وقال]١: الزمر] [احلكيم* [}يزالكتاب من اهللا العز ]١٢: فصلت* [}ذلك تقدير العزيز العليم{: ىف حم فصلت بعد ذكر ختليق العامل: وقال] ٢- ١: غافر[

ل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك فالق اإلصباح وجع{: فقال] ىف األنعام[وذكر نظري هذا ].٩٦: األنعام* [}تقدير العزيز العليم

Page 72: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فارتباط اخللق بقدرته التامة يقتضى أن ال خيرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضى إحاطته مل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية به وتقدمه عليه، وارتباطه حبكمته يقتضى وقوعه على أك

أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم خبلقه وأمره ] ارتباط[وكذلك ]. تعاىل[احملمودة املطلوبة للرب وهلذا كان احلكيم من أمسائه احلسىن واحلكمة من صفاته العلى، . حكيم ىف خلقه عزيز ىف خلقه وأمره

ى احلكمة، والرسول املبعوث هبا مبعوث بالكتاب واحلكمة، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها علعنه ] واخلرب[به ] والعمل[واحلكمة هى سنة الرسول صلى اهللا عليه وسلم وهى تتضمن العلم باحلق

إن من الشعر : ((، وىف احلديث))احلكمة ضالة املؤمن((واألمر به، فكل هذا يسمى حكمة وىف األثر عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا ال خيرج عن حكمته ومحده وهو ، فكما ال خيرج مقدور))حكمة

حممود على مجيع ما ىف الكون من خري وشر محدا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن احلكمة، فإنكار احلكمة إنكار حلمده ىف احلقيقة واهللا أعلم

فصل ىف تفصيل ما أمجل فيما مر وتوضيحه

هذا ببيان وجود احلكمة ىف كل ما خلقه اهللا وأمر به وإمنا يتبني، وبيان أنه كله خري من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنه من تلك اإلضافة خري وحكمة، وأن جهة الشر

لبيك : ((صلى اهللا عليه وسلم ىف دعاء االستفتاح] النىب[منه من جهة إضافته إىل العبد، كما قال ، فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعاىل ))خير فى يديك، والشر ليس إليكوسعديك، وال

بوجه، فال يضاف إىل ذاته وال صفاته وال أمسائه وال أفعاله، فإن ذاته تعاىل منزهة عن كل شر، وصفاته ليس كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جالل ال نقص فيها بوجه من الوجوه، وأمساؤه كلها حسىن

فيها اسم ذم وال عيب، وأفعاله كلها حكمة ورمحة ومصلحة وإحسان وعدل ال خترج عن ذلك البتة، وهو احملمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه، وحتقيق ذلك أن الشر ليس هو إال الذنوب

هللا من شرور احلمد هللا نستعينه ونستغفره ونعوذ با: ((وعقوباهتا كما ىف خطبته صلى اهللا عليه وسلم، فتضمن ذلك االستعاذة من شرور النفوس ومن سيئات األعمال وهى ))أنفسنا ومن سيئات أعمالنا

املراد السيئات من : من باب إضافة املتغايرين، أو يقال)) الالم((وعلى هذا فاإلضافة على معىن . عقوباهتاع إىل جنسه، ويدل على األول قوله وهى من باب إضافة النو)) من((األعمال، فعلى هذا اإلضافة مبعىن

] أنه[وهذا أشبه : قال شيخنا] ٩: غافر* [}وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته{: تعاىلال [إذا أريد السيئات من األعمال، فإن أريد ما وقع منها فاالستعاذة إمنا تكون من عقوباهتا، إذ الواقع

وأيضا فال يقال ىف . من شر النفس] فعه وإن استعاذه منها قبل وقوعها لئال تقع فهذا هو االستعاذةميكن د

Page 73: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

هذه الىت مل توجد بعد سيئات أعمالنا فإهنا مل تكن بعد أعماال فضال عن أن تكون سيئات، وإضافة من سيئات األعمال الىت : األعمال إلينا تقتضى وجودها إذ مل يوجد بعد ليس هو من أعمالنا إال أن يقال

العقوبات ليست جلميع األعمال، بل : وملن رجح التقدير الثاىن أن يقول. كانت سيئات] عملناها[إذا للمحرمات منها، واألعمال أعم ومحلها على احملرمات خاصة خالف ظاهر اللفظ، خبالف ما إذا كانت

ات بعضها، فتكون السيئات على فتكون األعمال على عمومها والسيئ)) من((اإلضافة على معىن ويترجح أيضا أن االستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشر كله، وهو شر النفس الكامن . عمومها

فيها الذى مل خيرج إىل العمل، وشر العمل اخلارج الذى سولته النفس فاألول شر الطبيعة والصفة الىت ىف دة، ويلزم من املعافاة من هذين الشرين املعافاة من النفس والثاىن شر العمل املتعلق بالكسب واإلرا

موجبهما وهو العقوبة، فتكون االستعاذة قد مشلت مجيع أنواع الشر باملطابقة واللزوم، وهذا هو الالئق البديعة العظيمة الشأن الىت ال يعرف قدرها إال أهل ] كلمة[مبن أوتى جوامع الكلم، فإن هذا من جوامع

.العلم واإلميانإذا عرف هذا وأنه ليس ىف الوجود شر إال الذنوب وموجباهتا، وكوهنا ذنوبا تأتى من نفس العبد، فإن و

سبب الذنب الظلم واجلهل ومها من نفس العبد، كما أن سبب اخلري احلمد والعلم واحلكمة والغىن وهى وذات العبد مستلزمة مستلزمة للحكمة واخلري واجلود، ] تعاىل[وذات الرب ] تعاىل[أمور ذاتية للرب

للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإمنا حصل له بفضل اهللا عليه وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد اهللا به خريا أعطاه هذا الفضل فصدر منه بوحيه من اإلحسان والرب والطاعة، ومن أراد به شرا

وجب اجلهل والظلم من كل شر وقبيح، أمسكه عنه وخاله ودواعى نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه م، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظاملا، ال سيما إذا منعه عن حمل ال ]تعاىل[وليس منعه لذلك ظلما منه

وأيضا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه . يستحقه وال يليق بهض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلم باحملل الذى يصلح هلذا الفضل وال خيلى بينه وبني نفسه، وهذا حم

وكذلك فتنا بعضهم ببعض {وقد أشار اهللا تعاىل إىل هذا املعىن بقوله . ويزكو به] فيه[ويليق به ويثمر ، فأخرب سبحانه أنه ]٥٣: األنعام* [}بالشاكرين ليقولوا أهؤآلء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم

.أعلم مبن يعرف قدر هذه النعمة ويشكره عليهاعليها فإن أصل الشكر هو االعتراف بإنعام املنعم على وجه اخلضوع له والذل واحملبة، فمن مل يعرف

كرها أيضا، ومن عرف النعمة، بل كان جاهال هبا مل يشكرها، ومن عرفها ومل يعرف املنعم هبا مل يشالنعمة واملنعم لكن جحدها كما جيحد املنكر لنعمة املنعم عليه هبا فقد كفرها، ومن عرف النعمة واملنعم وأقر هبا ومل جيحدها ولكن مل خيضع له وحيبه ويرض به وعنه مل يشكرها أيضا، ومن عرفها وعرف املنعم

Page 74: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فال . ه واستعملها ىف حمابه وطاعته فهذا هو الشاكر هلاهبا وأقرهبا وخضع للمنعم هبا وأحبه ورضى به وعنكما ىف -وهو امليل إىل املنعم وحمبته واخلضوع له -بد ىف الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم

سيد االستغفار أن : ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: صحيح البخارى عن شداد بن أوس قالاللهم أنت ربى ال إله إال أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت : يقول العبد

نوب إال الذأعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى فإنه ال يغفرت من أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قاهلا إذا أمسى موقنا هبا فما

يتضمن اإلقرار واإلنابة إىل اهللا بعبوديته، فإن املباءة )) أبوء لك بنعمتك على: ((ليلته دخل اجلنة، فقولهصلى اهللا [واملباءة هى املستقر، ومنه قوله -أى يرجع إليها رجوع استقرار -هى الىت يبوء إليها الشخص

، أى ليتخذ مقعده من النار مباءة يلزمه ))من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار]: ((عليه وسلمبنعمته عليه، ويبوء ] عز وجل[فالعبد يبوء إىل اهللا . يرحل عنهويستقر فيه، ال كاملنزل الذى ينزله مث

بذنبه، ويرجع إليه باالعتراف هبذا وهبذا رجوع مطمئن إىل ربه منيب إليه، ليس رجوع من أقبل عليه مث أعرض عنه، بل رجوع من ال يعرض عن ربه بل ال يزال مقبال عليه إذا كان ال بد له منه، فهو معبوده

. ثه، ال صالح له إال بعبادته، فإن مل يكن معبوده هلك وفسد، وال ميكن أن يعبده إال بإعانتهوهو مستغامثل المؤمن مثل الفرس فى آخيته يجول ثم يرجع إلى آخيته، كذلك المؤمن يجول ثم : ((وىف احلديث

)).يرجع إلى اإليمانفإىن -إما بالذنب وإما بالتقصري ىف الشكر - يتضمن أىن وإن جلت كما جيول الفرس)) أبوء: ((قولهف

وذكر النعمة والذنب ألن العبد دائما يتقلب . راجع منيب أواب إليك، رجوع من ال غىن له عنكليك نازل، وشرك ابن آدم خريى إ: ((بينهما، فهو بني نعمة من ربه وذنب منه هو، كما ىف األثر اإلهلى

إىل صاعد، كم أحتبب إليك بالنعم وأنا غىن عنك، وكم تتبغض إىل باملعاصى وأنت فقري إىل وال يزال ))امللك الكرمي يعرج إىل منك بعمل قبيح

إىن أجدىن بني : وكان ىف زمن احلسن البصرى شاب ال يرى إال وحده، فسأله احلسن عن ذلك فقالأن أحدث للنعمة شكرا وللذنب استغفارا، فذلك الذى شغلىن عن الناس نعمة من اهللا وذنب مىن فأريد

.من احلسن] عندى[أنت أفقه : فقال له. أو كما قالواعلموا {، وقال تعاىل ]٥٣: النحل* [}وما بكم من نعمة فمن اهللا{: فاخلري كله من اهللا كما قال تعاىل

و يطيعكم في كثري من األمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم األميان وزينه في قلوبكم أن فيكم رسول الله ل - ٧: احلجرات* [}فضال من اهللا ونعمة* وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون

ان يمنون عليك أن أسلموا قل ال تمنوا علي إسالمكم بل الله يمن عليكم أن هداكم لإلمي{: ، وقال]٨

Page 75: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

عمت صراط الذين أن* اهدنا الصراط املستقيم {: ، وقال تعاىل]١٧: احلجرات* [}إن كنتم صادقنيومن يطع الله والرسول {: ، وهؤالء املنعم عليهم هم املذكورون ىف قوله]٧ -٦: الفاحتة* [}عليهم

* }لئك رفيقافأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيني والصديقني والشهدآء والصالحني وحسن أومن نعم اهللا ومنه ] من نعم الدين والدنيا وهو أن األعمال ىف الدنيا واآلخرة[فالنعم كلها ] ٦٩:النساء[

فإنه -وإن كان أجود األجودين وأرحم الرامحني وأكرم األكرمني -وفضله على عبده وهو سبحانهيناقض جوده ورمحته أحكم احلاكمني وأعدل العادلني، ال يضع األشياء إال ىف مواضعها الالئقة هبا وال

ولو رأى العقالء واحدا منهم قد وضع املسك ىف احلشوس واألخلية ووضع . وفضله حكمته وعدلهالنجاسات والقاذورات ىف مواضع الطيب والنظافة الشتد نكريهم عليه والقدح ىف عقله ونسبوه إىل

وضع العقوبة لسفهوه السفه وخالف احلكمة، وكذلك لو وضع العقوبة موضع اإلحسان واإلحسان م :وقدحوا ىف عقله، كما قال القائل

ووضع الندى موضع السيف بالعال مضر كوضع السيف ىف موضع النديوكذلك لو وضع الدواء موضع الغذاء والغذاء موضع الدواء، واالستفراغ حيث يكون الالئق به عدمه

لطعام موضع املاء، وأمثال ذلك مما واإلمساك حيث يليق االستفراغ وكذلك وضع املاء موضع الطعام واخيل باحلكمة، بل لو أقبل على احليوان البهيم يريد تعليمه ما مل خيلق له من العلوم والصنائع، فمن هبرت حكمته العقول واأللباب كيف ينبغى له أن يضع األشياء ىف غري مواضعها الالئقة هبا؟ ومن املعلوم أن

ان به ومعرفته وحمبته وطاعته والرضا به واإلنابة إليه والتوكل عليه والتزام أجل نعمة على عبده نعمة اإلميومن املعلوم أيضا أن األرواح منها اخلبيث الذى ال أخبث منه، ومنها الطيب، وبني ذلك، . عبوديته

وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكى، والقلب اخلسيس اخلبيث، وهو سبحانه خلق األضداد كما الليل والنهار والربد واحلر والداء والدواء والعلو والسفل وهو أعلم بالقلوب الزاكية واألرواح الطيبة خلق

فيها، فيكون ختصيصه هلا هبذه ] بذروها[الىت تصلح الستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو أن يبذر البذر ىف الصخور بالبذر، فليس من احلكمة ] للبذر[النعم كتخصيص األرض الطيبة القابلة

والرمال والسباخ، وفاعل ذلك غري حكيم فما الظن ببذر اإلميان والقرآن واحلكمة ونور املعرفة والبصرية .ىف احملال الىت هى أخبث احملال

أعلم حيث جيعل رساالته أصال ومرياثا فهو أعلم مبن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إىل ] عز وجل[فاهللا مانة والنصيحة وتعظيم املرسل والقيام حبقه والصرب على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه، عباده باأل

وكذلك هو سبحانه أعلم مبن يصلح من األمم لوراثة رسله والقيام خبالفتهم ومحل . ومن ال يصلح لذلك ما بلغوه عن رهبم

Page 76: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مد صلى اهللا عليه وسلم خري قلوب إن اهللا نظر ىف قلوب العباد فرأى قلب حم: قال عبد اهللا بن مسعودأهل األرض فاختصه برسالته، مث نظر ىف قلوب العباد فرأى قلوب أصحابه خري قلوب العباد فاختارهم

.لصحبتهإىن : قال. ال يا رب: أتدرى مل اخترتك لكالمى؟ قال: وىف أثر بىن إسرائيل أن اهللا تعاىل قال ملوسى

.أو حنو هذا. ضع من قلبك ىلنظرت ىف قلوب العباد فلم أر فيها أخفالرب سبحانه إذا علم من حمل أهلية لفضله وحمبته ومعرفته وتوحيده حبب إليك ذلك ووضعه فيه وكتبه ىف قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه األبواب الىت حتول بينه وبني ذلك، مث تواله

ة الوالد الشفيق الرحيم احملسن لولده الذى هو أحب شئ بلطفه وتدبريه وتيسريه وتربيته أعظم من تربيإليه، فال يزال يعامله بلطفه وخيتصه بفضله ويؤثره برمحته وميده مبعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به، فيزداد العبد به معرفة وله حمبته وإليه إنابة وعليه توكال، وال يتوىل معه غريه وال

. ه سواه، وهذا هو الذى عرف قدر النعمة وعرف املنعم وأقر بنعمته وصرفها ىف مرضاتهيعبد مع. وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر ىف هذا القلب بذر اإلميان واملعرفة] تعاىل[واقتضت حكمة الرب

نعة من وسقاه ماء العلم النافع والعمل الصاحل، وأطلع عليه من نوره مشس اهلداية، وصرف عنه اآلفات املاحصول الثمرة، فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كرمي، كما ىف الصحيح من حديث أىب موسى عن

مثل ما بعثنى اهللا من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان : ((النىب صلى اهللا عليه وسلم قالأنبتت الكأل والعشب الكثري، وكان منها طائفة أجادب أمسكت املاء منها طائفة طيبة قبلت الماء ف

فذلك فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هى قيعان ال تمسك ماء وال تنبت كأل،ذى ين اهللا ونفعه بما بعثنى اهللا به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اهللا المثل من فقه فى د

))أرسلت بهفمثل القلوب باألرض الىت هى حمل النبات والثمار ومثل الوحى الذى وصل إليها من بارئها وفاطرها

على األرض، فمن األرض أرض طيبة قابلة للماء والنبات، فلما أصاهبا املاء أنبتت ما باملاء الذى ينزلهانتفع به اآلدميون والبهائم وأقوات املكلفني وغريهم، وهذه مبنزلة القلب القابل هلدى اهللا ووحيه املستعد

ضة غري مرتفعة وال ومن األرض أرض صلبة منخف. لزكائه فيه ومثرته ومنائه، وهذا خري قلوب العاملنيرابية، قابلة حلفظ املاء واستقراره فيها، ففيها قوة احلفظ وليس فيها قوة النبات فلما حصل فيها املاء أمسكته وحفظته فورده الناس لشرهبم وشرب مواشيهم وسقوا منه زروعهم، وهذا مبنزلة القلب الذى

. منه وأعرف مبراده، وهذا ىف الدرجة الثانية حفظ الوحى وضبطه وأداه إىل من هو أفهم له منه وأفقه، وال يستقر فيها ]رماال[وهى املستوية الىت ال تنبت إما لكوهنا سبخة أو -ومن األرض أرض قيعان

Page 77: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فإذا وقع عليها املاء ذهب ضائعا مل متسكه لشرب الناس ومل تنبت به كأل ألهنا غري قابلة حلفظ املاء -املاءوالعشب وهذا حال أكثر اخللق وهم األشقياء الذين مل يقبلوا هدى اهللا ومل يرفعوا به وال لنبات الكإل

رأسا، ومن كان هبذه املثابة فليس من املسلمني، بل ال بد لكل مسلم أن يزكو الوحى ىف قلبه فينبت من من اخلري البتة فهذا العمل الصاحل والكلم الطيب ونفع نفسه وغريه حبسب قدرته، فمن مل ينبت قلبه شيئا

.فصلوات اهللا وسالمه على من اهلدى والبيان والشفاء والعصمة ىف كالمه وىف أمثاله. من أشقى األشقياءواملقصود أن اهللا سبحانه أعلم مبواقع فضله ورمحته وتوفيقه، ومن يصلح هلا ومن ال يصلح، وأن حكمته

وهو سبحانه الذى جعل احملل صاحلا . ن مينعه من يصلح لهتأىب أن يضع ذلك عند غري أهله، كما تأىب أفهال جعل احملال : ومن اعترض بقوله. وجعله أهال وقابال، فمنه اإلعداد واإلمداد، ومنه السبب واملسبب

كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد، فهو من أجهل الناس وأضلهم وأسفههم، وهو مبنزلة من ضداد، وهال جعلها كلها شيئا واحدا، فلم خلق الليل والنهار والفوق والتحت واحلر مل خلق األ: يقول

والربد والدواء والداء والشياطني واملالئكة والروائح الطيبة والكريهة واحللو واملر واحلسن والقبيح؟ وهل ساد عقله؟ وهل يسمح خاطر من له أدىن مسكة من عقل مبثل هذا السؤال الدال على محق سائله وف

ذلك إال موجب ربوبيته وإالهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟ وهل حقيقة امللك إال بإكرام األولياء وإهانة األعداء؟ وهل متام احلكمة وكمال

ا يليق بكل منها إليه؟ وهل ظهور القدرة إال خبلق املتضادات واملختلفات وترتيب آثارها عليها وإيصال مآثار أمسائه وصفاته ىف العامل إال من لوازم ربوبيته وملكه؟ فهل يكون رزاقا وغفارا وعفوا ورحيما وحليما ومل يوجد من يرزقه، وال من يغفر له ويعفو عنه وحيلم عنه ويرمحه؟ وهل انتقامه إال من لوازم

يكن له أعداء ينتقم منهم، ويرى أولياءه كمال نعمته عليهم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن ملواختصاصه إياهم دون غريهم بكرامته وثوابه؟ وهل ىف احلكمة اإلهلية تعطيل اخلري الكثري ألجل شر

كم حيبس من . جزئى يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الذى حيىي به اهللا البالد والعباد والشجر والدوابمصلحة؟ ولكن أين هذا مما حيصل به من ] عن[صاد، ويهدم من بناء، ويعوق مسافر، ومينع من ق

املصاحل؟ وهل هذه املفاسد ىف جنب مصاحله إال كتفلة ىف حبر؟ وهل تعطيله لئال حتصل به هذه املفاسد إال موجبا ألعظم املفاسد واهلالك؟ وهذه الشمس الىت سخرها اهللا ملنافع عباده وإنضاج مثارهم وأقواهتموتربية أبداهنم وأبدان احليوانات والطري، وفيها من املنافع واملصاحل ما فيها كم تؤذى مسافرا وغريه

من مورد وحترق ] تشف[حبرها، وكم جتفف رطوبة وكم تعطش حيوانا، وكم حتبس عن مصلحة، وكم ة؟ فتعطيل اخلري من زرع؟ ولكن أين يقع هذا ىف جنب ما فيها من املنافع واملصاحل الضرورية املكمل

.الكثري ألجل الشر اليسري شر كثري، وهو خالف موجب احلكمة الذى تنزه اهللا سبحانه عنه

Page 78: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فقد كان من املمكن خلق هذه األمور جمردة عن املفاسد مشتملة على املصلحة : قلت لشيخ اإلسالمالزمه حمال، ولو خلقت خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإن وجود امللزوم بدون : اخلالصة فقال

ومن األشياء ما تكون ذاته : قال. على غري هذا الوجه لكانت غري هذه، ولكان عاملا آخر غري هذاملا مل ختلق : فإذا قيل -كاحلركة مثال املستلزمة لكوهنا ال تبقى - مستلزمة لنوع من األمور ال ينفك عنه

النقلة من مكان إىل مكان والتحول من حال إىل ألن ذات احلركة تتضمن : احلركة املعينة باقية؟ قيلونفس اإلنسان هى ىف ذاهتا جاهلة عاجزة فقرية كما قال . حال، فإذا قدر ما ليس كذلك مل يكن حركة

العلم ] يأتيها[، وإمنا ]٧٨: النحل* [}واهللا أخرجكم من بطون أمهاتكم ال تعلمون شيئا{: تعاىلالغىن من اهللا بفضله ورمحته، فما حصل هلا من كمال وخري فمن اهللا، وما حصل هلا من عجز والقدرة و

وهذه أمور عدمية، وليس هلا من نفسها وجود . وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتهاوال كمال واألمور العدمية من لوازم وجودها، ولو جعلت على غري ذلك مل تكن هى هذه النفس

.نسانية بل خملوقا آخراإل ...)يتبع(

. عدم، ووجود: فحقيقة نفس اإلنسان جاهلة ظاملة فقرية حمتاجة، والشر الذى حيصل هلا نوعان@ فاألول كعدم العلم واإلميان والصرب وإرادة اخلريات وعدم العمل هبا، وهذا العدم ليس له فاعل إذ العدم

إمنا هو ىف أمر وجودى، وكذلك عدم استعدادها للخريات احملض ال يكون له فاعل، ألن تأثري الفاعلوالكماالت هو عدم حمض ليس له فاعل، فإن العدم ليس بشئ أصال، وما ليس بشيء ال يقال إنه مفعول

ما : ((لفاعل، فال يقال إنه من اهللا، إمنا حيتاج إىل الفاعل األمور الوجودية، وهلذا من قول املسلمني كلهموالعدم يعلل . فكل كائن فبمشيئته كان وما مل يكن فلعدم مشيئته)) وما مل يشأ مل يكن شاء اهللا كان،

: وبعض الناس يقول. وقد يقال علة العدم عدم العلة. بعدم السبب أو الشرط تارة، وبوجود املانع أخرىحقيق ىف والت: املمكن ال يترجح أحد طرفيه إال مبرجح، فال يوجد إال بسبب، وال يعدم إال بسبب قال

، إذا أضيف إىل عدم السبب أو عدم الشرط فمعناه ]بل[هذا أن العدم ليس له فاعل وال علة فاعلة أصال عدم لعدم : فإذا قيل. املالزمة، أى عدم العلة استلزم عدم املعلول وعدم الشرط استلزم عدم املشروط

لعدم : ملا مل يوجد كذا؟ فيقال: مستلزمة لعدمه، والنفس تطلب سبب العدم، فتقول] عليه أى عدم عليه[كذا، فيضاف عدم املعلوم إىل عدم علته، ال إضافة تأثري ولكن إضافة استلزام وتعريف، وأما التعليل باملانع فال يكون إال مع قيام السبب إذا جعل املانع مقتضيا للعدم، وأما إذا أريد قياس الداللة فوجود

.ملقتضى موجودا أو مل يكناملانع يستلزم عدم احلكم سواء كان ا

Page 79: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، أى عدم استعداد نفسها ]العدم[واملقصود أن ما عدمته النفس من كماهلا فمنها فإهنا ال تقتضى إال وقوهتا هو السبب ىف عدم هذا الكمال، فإنه كما يكون أحد الوجودين سببا لآلخر فكذلك أحد

ىل السبب املقتضى إلجياده وأما املعدوم فال العدمني يكون سببا لعدم اآلخر، واملوجود احلادث يضاف إحيتاج استمراره على العدم إىل فاعل حيدث العدم، بل يكفى ىف استمراره عدم مشيئة الفاعل املختار له، فما شاء اهللا كان وما مل يشأ مل يكن، النتفاء مشيئته، فانتقاء مشيئة كونه سبب عدمه، وهذا معىن

لعدم، وهبذا االعتبار املمكن القابل للوجود والعدم ال يترجح أحد طرفيه عدم علة الوجود علة ا: قوهلماالستلزام ال التأثري ] هاهنا[على اآلخر إال مبرجح، فمرجح عدمه عدم مرجحه، ومعىن الترجيح والسببية

.كما تقدم، فظهر استحالة إضافة هذا الشر إىل اهللا عز وجلفهو من لوازم ذلك العدم، -لعقائد الباطلة واإلرادات الفاسدةكا -وأما الشر الثاىن، وهو الشر الوجودى

فإنه مىت عدم ذلك العلم النافع والعمل الصاحل من النفس لزم أن خيلفه الشر واجلهل وموجبهما وال بد، ألن النفس ال بد هلا من أحد الضدين، فإذا مل تشتغل بالضد النافع الصاحل اشتغلت بالضد الضار الفاسد،

شر الوجودى هو من خلقه تعاىل إذ ال خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه اهللا وهذا الفال بد أن يكون له ىف خلقه حكمة ألجلها خلقه، لو مل خيلقه فاتت تلك احلكمة، وليس ىف احلكمة مة تفويت هذه احلكمة الىت هى أحب إليه سبحانه من اخلري احلاصل بعدمها، فإن ىف وجودها من احلك

والغايات الىت حيمد عليها سبحانه أضعاف ما ىف عدمها من ذلك، ووجود امللزوم بدون الزمه ممتنع، وليس ىف احلكمة تفويت هذه احلكمة العظيمة ألجل ما حيصل للنفس من الشر مع ما حصل من اخلريات

فاء أضداده، الىت مل تكن حتصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء ال يكون إال مع وجود لوازمه وانتمشروطا ] وسعادهتا[فانتفاء لوازمه يكون ممتنعا لغريه، وحينئذ فقد يكون هدى هذه النفوس الفاجرة

.بلوازم مل حتصل، أو بانتفاء أضداد مل تنتففهال حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك األضداد، فهذا هو السؤال األول، وقد بينا أن لوازم : فإن قيل

شأة وهذا العامل ال بد منها، فلو قدر عدمها مل يكن هذا العامل بل عاملا آخر ونشأة هذا اخللق وهذه النهال جترد الغيث واألهنار عما حيصل به من : أخرى وخلقا آخر، وبينا أن هذا السؤال مبنزلة أن يقال

وختريب وأذى؟ وهال جتردت الشمس عما حيصل منها من حر ومسوم وأذى؟ وهال ] وتعويق[تغريق ردت طبيعة احليوان عما حيصل له من أمل وموت وغري ذلك؟ وهال جتردت الوالدة عن مشقة احلمل جت

والطلق وأمل الوضع، هال جترد بدن اإلنسان عن قبوله لآلالم واألوجاع واختالف الطبائع املوجبة لتغري لشديد املؤذى؟ فهل فيها من الربد الشديد القاتل واحلر ا] حيدث[أحواله؟ وهال جتردت فصول العام عما

مل كان املخلوق فقريا حمتاجا والفقر : يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إال مبنزلة أن يقال

Page 80: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

واحلاجة صفة نقص، فهال جترد منها وخلعت عليه خلعة الغىن املطلق والكمال املطلق؟ فهل يكون خملوقا ال بد منها فيها، وال بد للعلو من سفل، والسفل من إذا كان غنيا غىن مطلقا؟ ومعلوم أن لوازم اخللق

مركز ولوازم العلو من السعة واإلضاءة والبهجة واخلريات وما هناك من األرواح العلوية النرية املناسبة حمللها وما يليق هبا ويناسبها من االبتهاج والسرور والفرح والقوة والتجرد من عالئق املواد العلية ال بد

والشر وما هنالك من ] الظلمة والغلط[م السفل واملركز من الضيق واحلصر ولوازم ذلك من منها، ولوازاألرواح السفلية املظلمة الشريرة وأعماهلا وآثارها ال بد منها، فهما عاملان علوى وسفلى وحمالن

وساكنيه وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعماهلما وطبائعهما، وقد خلق كال من احمللني معمورا بأهليهحكمة بالغة وقدرة قاهرة، وكل من هذه األرواح ال يليق هبا غري ما خلقت له مما يناسبها ويشاكلها قال

أى على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول ] ٨٤: اإلسراء* [}قل كل يعمل على شاكلته{: تعاىلن األرواح اخلبيثة السفلية أن تكون جماورة لألرواح ، فمن أرادت م))كل إناء بالذى فيه ينضح: ((الناس

الطيبة العلوية ىف مقام الصدق بني املأل األعلى فقد أراد ما تأباه حكمة أحكم احلاكمني، ولو أن ملكا من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم وغرهتم الذين تتناسب أقواهلم وأعماهلم

ال يصلح للملك، فما الظن مبجاورى : داءة والدناءة لقدح الناس ىف ملكه وقالواوأخالقهم ىف القبح والرامللك األعظم مالك امللوك ىف داره ومتتعهم برؤية وجهه ومساع كالمه ومرافقتهم للمأل األعلى الذين هم

فلية أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم، أفيليق بذلك الرفيق األعلى واحملل األسىن والدرجات العلى روح سفيه بل قد تزيد على ] تشاركها[أرضية قد أخلدت إىل األرض وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما

احليوان البهيم وقصرت مهتها عليه وأقبلت بكليتها عليه ال ترى نعيما وال لذة وال سرورا إال ما وافق احلمري والكالب طباعها من كل مأكل ومشرب ومنكح من أين كان وكيف اتفق، فالفرق بينها وبني

قلوب هذه ] شاكله[والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان واألكل باليد، وإال فالقلب والطبع على احليوانات وطباعها، ورمبا كانت طباع احليوانات خريا من طباع هؤالء وأسلم وأقبل للخري وهلذا جعلهم

ولو علم * ند الله الصم البكم الذين ال يعقلون إن شر الدواب ع{: اهللا سبحانه شر الدواب فقال تعاىل، فهل يليق حبكمة ]٢٣ - ٢٢: األنفال* [}الله فيهم خيرا ألسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون

وشر الدواب ىف دار واحدة يكونون العزيز احلكيم أن جيمع بني خري الربية وأزكى اخللق وبني شر الربيةما لكم * أفنجعل المسلمني كالمجرمني {: فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟ قال اهللا تعاىل

، فأنكر عليهم احلكم هبذا وأخرجه خمرج اإلنكار ال خمرج ]٣٦ -٣٥: القلم* [}كيف تحكمونال يستوي أصحاب {: ل على هذا مما حتيله الفطر وتأباه العقول السليمة، وقال تعاىلاإلخبار لينبه العقو

أم نجعل الذين آمنوا {: ، وقال تعاىل]٢٠: احلشر* [}النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفآئزون

Page 81: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قل {: ، وقال تعاىل]٢٨:ص* [}ن في األرض أم نجعل المتقني كالفجاروعملوا الصالحات كالمفسديبل الواحد من ] ٩: الزمر* [}هل يستوى الذين يعلمون والذين ال يعلمون إنما يتذكر أولوا األلباب

قبه وعينه، وال رأسه ورجاله، وال يصلح أحدمها ملا يصلح اخللق ال تستوى أعاليه وأسافله، فال يستوى ع: له اآلخر فاهللا عز وجل قد خلق اخلبيث والطيب والسهل واحلزن والضار والنافع، وهذه أجزاء األرض

.منها ما يصلح جالء للعني ومنها ما يصلح لألتون والناروكمال احلكمة تنزيلها . لق األضدادفكمال القدرة خب: وهبذا وحنوه يعرف كمال القدرة وكمال احلكمة

فإن آمن بالقدرة - منازهلا ووضع كل منها ىف موضعه والعامل من ال يلقى احلرب بني قدرة اهللا وحكمتهبل يربط القدرة باحلكمة، ويعلم -قدح ىف احلكمة وعطلها وإن آمن باحلكمة قدح ىف القدرة ونقصها

. ه ال يكون إال بقدرته ومشيئته فكذلك ال يكون إال حبكمتهمشوهلا جلميع ما خلقه اهللا وخيلقه، فكما أنوإذا كان ال سبيل للعقول البشرية إىل اإلحاطة هبذا تفصيال، فيكفيها اإلميان مبا تعلم وتشاهد منه، مث

وقد ضرب اهللا األمثال لعباده ىف كتابه وبين . تستدل على الغائب بالشاهد وتعترب ما علمت مبا مل تعلما ىف لوازم ما خلقه هلم وأنزله عليهم من الغيث الذى به حياهتم وأقواهتم وحياة األرض والدواب هلم م

وما خلقه هلم من املعادن الىت هبا صالح أبداهنم وأقواهتم وصنائعهم من الشر واخلري وبني املغمور سالت أودية بقدرها فاحتمل أنزل من السمآء مآء ف{: باإلضافة إىل اخلري احلاصل بذلك فقال تعاىل

ضرب الله الحق السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذلك ي* }فع الناس فيمكث في األرض كذلك يضرب الله األمثالوالباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ين

مبخالطته األرض إذا سال فال بد من أن حيمل السيل من ] سبب[فأخرب سبحانه أن املاء ] ١٧: الرعد[ال الغثاء والوسخ وغريه زبدا عاليا على وجه السيل، فالذى ال يعرف ما حتت الزبد يقصر نظره عليه و

يرى إال غثاء ووسخا وحنو ذلك وال يرى ما حتته من مادة احلياة، وكذلك ما يستخرج من املعادن من الذهب والفضة واحلديد والنحاس وغريها إذا أوقد عليها ىف النار ليتهيأ االنتفاع هبا خرج منها خبث

.ليس من جوهرها وال ينتفع به، وهذا ال بد منه ىف هذا وهذا جياوزه بصرهوقد ذم تعاىل من ضعفت بصريته من املنافقني، وعمى عما ىف القرآن مما به ينال كل سعادة وعلم وهدى وصالح وخري ىف الدنيا واآلخرة ملن مل جياوز بصره ومسعه وعود وعيده وبروقها وصواعقها وما أعد اهللا

واألرواح ] حياة القلوب باإلضافة إىل ما فيه من - الذى هو [ألعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه . ومن املعارف اإلهلية يبني طريق العبودية الىت هى غاية كمال العبد، وهو مقصود لتكميل ذلك ومتامه

اتمثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلم{قال تعاىل أو كصيب من السمآء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون * صم بكم عمي فهم ال يرجعون * ال يبصرون

Page 82: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

طف أبصارهم يكاد البرق يخ* أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ، فهكذا حال كل من قصر نظره ]٢٠-١٧: البقرة* [}كلما أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا

ىف بعض خملوقات الرب سبحانه على ما ال بد منه من شر جزئى جدا باإلضافة إىل اخلري الكثري، ولو مل نية إال خاصته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى هبا خريا ومصلحة، تكن ىف هذه النشأة اإلنسا

فهم كالقش والزبالة وغثاء السيل، ال يعبأ بكثرهتم -وإن كانوا أضعاف أضعاف أضعافهم -ومن عاداهمنوع مؤلفة من ال] آالف[وال يقدح ىف احلكمة اإلهلية، بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفر معه

اآلخر فإنه إذا وجد واحد يوازن الربية ويرجح عليها كان اخلري احلاصل بوجوده واحلكمة واملصلحة أضعاف الشر احلاصل من وجود أضداده، وأثبت وأنفع وأحب إىل اهللا من فواته بتفويت ذلك الشر

تفويته بتفويت فإن اخلري احلاصل هبا أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من: املقابل له، وهذا كالشمس] القلوب[الشر املقابل له هبا، وأين نفع الشمس وصالح النبات واحليوان هبا من نفع الرسل وصالح الوجود هبم؟ بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصالح األبدان والدين والدنيا واآلخرة به؟

ن شديد الدوران، أى شيء وقد ضرب للنفس اإلنسانية وما فيها من اخلري والشر مثل بدوالب أو طاحوخطفه ألقاه حتته وأفسده، وعنده قيمة الذى يديره وقد أحكم أمره لينتفع به وال يضر أحدا، فرمبا جاء

مل مل جتعله ساكنا ال : أو يؤذيه، فإذا قيل لصاحبه] أوبدنه[الغر الذى ال يعرف فيتقرب منه فيخرق ثوبه على غري هذه ] جعل[صفة الالزمة الىت كان هبا دوالبا وطاحونا، ولو هذه ال: يؤذى من اقترب منه؟ قال

وكذلك إذا أوقدنا نار األتون الىت حترق ما وقع فيها وعندها . الصفة مل حتصل به احلكمة املطلوبة منه وقاد حاذق حيشوها، فإذا غفل عنها أفسدت وإذا أراد أحد أن يقرب منها هناه وحذره، فإذا استغفله من

هال قللت حرها لئال تفسد من يقرب منها وحترقه؟ فإنه : قرب منها حىت أحرقته مل يقل لصاحب النارهذه صفتها الىت ال حيصل املقصود منها إال هبا، ولو جعلتها دون ذلك مل حترق أحجار الكلس، : يقول

والطاحون ومن النار ومل تطبخ اآلجر، ومل تنضج األطعمة الغليظة وحنو ذلك، فما حيصل من الدوالب من نفعها هو من فضل اهللا ورمحته، وما حيصل هبا من شر هو من طبيعتها الىت خلقت عليها والىت ال

فما حيصل هلا من شر فهو : تكون نارا إال هبا، فلو خرجت عن تلك الطبيعة مل تكن نارا، وكذلك النفسخري فهو من فضل اهللا ورمحته، واهللا خالقها منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها وما حيصل هلا من

وخالق كل شيء قام هبا من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغري ذلك، فأما األمور العدمية فهى باقية على ما وحملها اإلنسان إنه كان {: عليه من العدم، واإلنسان جاهل ظامل بالضرورة كما قال تعاىل] كانت[

والظلم هو النقص، كما [، فإن اهللا أخرجه من بطن أمه ال يعلم شيئا ]٧٢: األحزاب* [}ظلوما جهوال، وهى ظاملة ]أى ما نقص منه شيئا] ٣٣: الكهف* [}آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا{: قال تعاىل

Page 83: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ت أو أكثرها هبا، وتلك أخرى نفسها فهى الظاملة واملظلومة، إذ كانت منقوصة من كماهلا بعدم الكماالفعظم النقص والتعب كسبه وفقدت من لذاهتا وسرورها [فصار عدمها مستلزما لعدم تلك الكماالت

الىت ال سعادة هلا بدوهنا، فإن أحد ] ونعيمها وهبجتها وروحها حبسب ما فعلت من تلك الكماالتنه، ألن عدم الشرط يستلزم عدم املشروط، املوجودين قد يكون مشروطا باآلخر فيستحيل وجوده بدو

موصوفة بالنقص الذى هو -فإذا عدمت النفس هذا الكمال املستلزم لكمال آخر مثله أو أعلى منه وهىصارت متسلزمة للشر، وقوة شرها وضعفه حبسب قوهتا - الظلم واجلهل ولوازمها من أصل اخللقة

أىب البشر وسرى إلى أوالده كيف كان من عدم العلم وتأمل أول نقص دخل على . وضعفها ىف ذاهتاوالنسيان ] ١١٥: طه* [}ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد له عزما{: قال تعاىل. والعزم

ملا رأى ما فهو أمر عدمى، وهلذا قال آدم] هاهنا[سواء كان عدم العلم أو عدم الصرب كما فسر هبما : األعراف* [}ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين{: دخل عليه من ذلك

بالنسيان الذى أوجب فوات - مبا حصل هلا من عدم العلم والصرب - ، فإنه إذا اعترف خص نفسه]٢٣، فإنه ]٢٣: األعراف[} إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرينو{: حظه من اجلنة، مث قال

العبد من ذلك وإال ضرته آثارها وال بد، ] ونقى[سبحانه مل يغفر السيئات الوجودية فيمنع أثرها وعقاهبا ال ضره وال بد، وإن مل يرمحه الطعام املسموم إن مل يتداركه املداوى بشرب الترياق وحنوه وإ] كآثار[

.وإال خسر] باحلق عاملة به[سبحانه بإجياد ما به يصلح النفس وتصري عاملة ، واملغفرة متنع الشر، والرمحة توجب اخلري، والرب سبحانه إن مل يغفر لإلنسان فيقيه السيئات ويرمحه

بنفسه، فإن نفسه ليس عندها خري حيصل فيؤتيه احلسنات وإال هلك وال بد، إذ كان ظاملا لنفسه ظلوماهلا منها، وهى متحركة بالذات فإن مل تتحرك إىل اخلري حتركت إىل الشر فضرت صاحبها، وكوهنا

الصحيح ] ىف[متحركة بالذات من لوازم كوهنا نفسا ألن ما ليس حساسا متحركا باإلرادة فليس نفسا، ، فاحلارث الكاسب العامل، واهلمام ))ق األسماء حارث وهمامأصد((عن النىب صلى اهللا عليه وسلم

الصاحلة وإال ] لإلرادة] [اإلرادة فالنفس ال تكون إال مريدة عاملة، فإن مل توفق[الكثري اهلم واهلم مبدأ إذا مسه الشر * إن اإلنسان خلق هلوعا{: وقعت ىف اإلرادة الفاسدة والعمل الضار، وقد قال تعاىل

أن اإلنسان ] تعاىل[، فأخرب ]٢٢ -١٩: املعارج* [}إال المصلني * وإذا مسه الخير منوعا * جزوعا : وقال تعاىل. خلق على هذه الصفة، وإن من كان على غريها فألجل ما زكاه اهللا به من فضله وإحسانه

،]٢٨: النساء* [}ضعيفا وخلق اإلنسان{ .هو خلقه من ماء مهني: وقال احلسن. ال يصرب عن النساء: قال طاووس ومقاتل وغريمها

.ضعف عزمه عن قهر اهلوى: وقال الزجاج

Page 84: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، : والصواب أن ضعفه يعم هذا كله، وضعفه أعظم من هذا وأكثرهذا الضعف أسرع من السيل ىف صيب ] مع[ضعيف الصرب، واآلفات إليه ضعيف اإلرادة، ضعيف العلم

فباإلضطرار ال بد له من حافظ معني يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن ختلى عنه هذا املساعد . احلدودجل [وخلقه على هذه الصفة هو من األمور الىت حيمد عليها الرب . املعني فاهلالك أقرب إليه من نفسه

وهو موجب حكمته وعزته، فكل ما حيدث من هذه اخللقة ويلزم عنها فهو . ويثىن عليه هبا] هجاللخري وعدل وحكمة، إذ مصدر هذه اخللقة عن صفات كماله من غناه ] عز وجل[بالنسبة إىل اخلالق

وعلمه وعزته وحكمته ورمحته، وبالنسبة إىل العبد تنقسم إىل خري وشر وحسن وقبيح، كما تكون ] وزكاة[النسبة إليه طاعة ومعصية وبرا وفجورا، بل أخص من ذلك، مثل كوهنا صالة وصياما وحجا ب

موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجب أمر اهللا له ] ذلك[وسرقة وأكال وشربا، إذ خلقه وأمر به، وعلى ما وهنيه، وهللا سبحانه احلكمة البالغة والنعمة السابغة واحلمد املطلق على جتميع ما

مل خيلقه مما لو شاءه خللقه، وعلى توفيقه املوجب لطاعته وعلى خذالنه املوقع ىف معصيته، وهو سبقت رمحته غضبه وكتب على نفسه الرمحة، وأحسن كل شيء خلقه وأتقن كل ما صنع وما حيصل للنفوس

ة وتلك احلكمة إمنا حتصل على البشرية من الضرر واألذى فله ىف ذلك سبحانه أعظم حكمة مطلوبالوجه الواقع املقدر مبا خلق هلا من األسباب الىت ال تنال غاياهتا إال هبا، فوجود هذه األسباب بالنسبة إىل اخلالق احلكيم سبحانه هو من احلكمة، وهلذا يقرن سبحانه ىف كتابه بني امسه احلكيم وامسه العليم تارة

واهللا عزيز {، ]٧١: األنفال] [٢٦: النساء* [}واهللا عليم حكيم{: لهوبني امسه العزيز تارة كقو] ١٦٥، ١٥٨: النساء* [}وكان اهللا عزيزا حكيما{: ، وقوله]٣٨: املائدة] [٢٤٠: البقرة* [}حكيم

ك لتلقى القرآن من وإن{، ]٤: الفتح] [١٧٠: النساء* [}وكان اهللا عليما حكيما{، ]١٩، ٧: الفتح[ ]٦: النمل* [}لدن حكيم عليم

إذا اشتد وقوى، ومنه األرض -بفتح العني -عز يعز: فإن العزة تتضمن القوة، وهللا القوة مجيعا، يقالالصلبة الشديدة، وعز يعز بكسر العني إذا امتنع ممن يرومه وعز يعز بضم العني إذا غلب وقهر، : العزازألقوى املعاىن وهو الغلبة والقهر للغري وأضعفها وهى الفتحة -طوا أقوى احلركات وهى الضمةفأع

ألضعف هذه املعاىن وهو كون الشئ ىف نفسه صلبا، وال يلزم من ذلك أن ميتنع عمن يرومه واحلركة هر غريه ويغلبه، املتوسطة وهى الكسرة للمعىن املتوسط وهو القوى املمتنع عن غريه، وال يلزم منه أن يق

عما يريده ] املريد[وال ريب أن قهر . فأعطوا األقوى لألقوى واألضعف لألضعف واملتوسط للمتوسطمن أقوى أوصاف القادر، فإن قهره عن إرادته وجعله مريدا كان أقوى أنواع القهر، والعز ضد الذل،

هلذا يوصف به املؤمن وال يكون ذما ، و]والعزة[والذل أصله الضعف والعجز فالعز يقتضى كمال القدرة

Page 85: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقال ]. عزز[لست متكربا، ولكىن : فقال. إنك متكرب: قال رجل للحسن البصرى. له خبالف الكربمنذ [ما زلنا أعزة اإلسالم : ، وقال ابن مسعود]٨: املنافقون* [}وهللا العزة ولرسوله وللمؤمنني{: تعاىل

عمر بن الخطاب، أو : بأحد هذين الرجلين] اللهم أعز(( صلى اهللا عليه وسلم وقال النىب. أسلم عمرإن الناس بطلبون العزة ىف أبواب امللوك، وال جيدوهنا إال ىف : ، وىف بعض اآلثار))أبى جهل بن هشاممن أراد : وقال بعضهم)) وال تذلنا بمعصيتك اللهم أعزنا بطاعتك: ((وىف احلديث. طاعة اهللا عز وجل

فالعزة من . عزا بال سلطان، وكثرة بال عشرية، وغىن بال مال، فلينتقل من ذل املعصية إىل عز الطاعةالمؤمن القوى خير : ((جنس القدرة والقوة وقد ثبت ىف الصحيح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال

فالقدرة إن مل يكن معها حكمة بل كان القادر )). إلى اهللا من المؤمن الضعيف، وىف كل خري وأحبفسادا ] فعلة[يفعل ما يريده بال نظر ىف العاقبة، وال حكمة حممودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان

الغى ىف بطنه وفرجه ومن بقوته ما يريده من شهوات ] يفعله[كصاحب شهوات الغى والظلم، الذى ظلم الناس، فإن هذا وإن كان له قوة وعزة لكن ملا مل يقترن هبا حكمة كان ذلك معونة على شره

تقتضيه احلكمة ] نقترن به احلكمة وإال فالعامل الذى ال يريد ما[وكذلك العلم كماله أن . وفساده] الشر والفساد هذا إذا كان عاملا قادراوعلمه عون له على [وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سيفه غاو،

مريدا له إرادة من غري حكمة، وإن قدر أنه ال إرادة له فهذا أوال ممتنع من احلى، فإن وجود الشعور بدون حب وال بغض وال إرادة ممتنع كوجود إرادة بدون الشعور، وأما القدرة والقوة إذا قدر وجودها

وقد قال ] ال إرادة هلا[فإن القوة الطبيعية الىت هى مبدأ الفعل واحلركة بدون إرادة فهى كقوة اجلماد،وإن من الحجارة لما يتفجر منه األنهار {: شعورا يليق به واحتج بقوله تعاىل] للجماد[إن : بعض الناس

: ، وبقوله تعاىل]٧٤: البقرة* [}نها لما يهبط من خشية اللهوإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن موهذه املسألة كبرية حتتاج إىل كالم يليق هبذا ] ٧٧: الكهف* [}فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض{

] حيصل[الح وإمنا واملقصود أن العلم والقدرة اجملردين عن احلكمة ال حيصل هبما الكمال والص. املوضعيتضمن حكمته ىف خلقه وأمره ىف إرادته الدينية الكونية )) احلكيم((ذلك باحلكمة معها، وامسه سبحانه .وهو حكيم ىف كل ما خلقه وأمر بهقدرة ] تعاىل[الطائفة األوىل اجلاحدة لقدرته وحكمته فال يثبتون له : والناس ىف هذا املقام أربع طوائف

كما يقوله من ينفى كونه تعاىل فاعال خمتارا وأن صدور العامل عنه باإلجياب الذاتى ال وال حكمة، بالقدرة واالختيار وهؤالء يثبتون حكمة يسموهنا عناية إهلية، وهم من أشد الناس تناقضا، إذ ال يعقل

ناية إهلية من غري أن يرجع حكيم ال قدرة له وال اختيار، وإمنا يسمون ما ىف العامل من املصاحل واملنافع عإرادة وال حكمة وهؤالء كما أهنم مكذبون جلميع الرسل فإهنم خمالفون لصريح ] تعاىل[منها إىل الرب

Page 86: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إىل أعظم النقص، وجعلوا كل قادر مريد خمتار أكمل منه وإن ] تعاىل[العقل والفطرة، قد نسبوا الرب ر والفعل عن رب العاملني شر من شرك عباد األصنام به بكثري، كان من كان، بل سلبهم القدرة واالختيا

ثالث ثالثة وأن له صاحبة وولدا، فإن هؤالء أثبتوا له -تعاىل عن قوهلم -وشر من قول النصارى أنهة وأما أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلي. قدرة وإرادة واختيارا وحكمة، ووصفوه مع ذلك مبا ال يليق به

.وأثبتوا له أمساء ال حقائق هلا وال معىنوالطائفة الثانية أقرت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات وجحدت حكمته وما له ىف خلقه من الغايات احملمودة املطلوبة له سبحانه الىت يفعل ألجلها ويأمر ألجلها، فحافظت على القدر وجحدت احلكمة،

سباب والقوى والطبائع ىف املخلوقات، فعندهم ال يفعل لشيء وال ألجل وهؤالء هم النفاة للتعليل واألشيء، وليس ىف القرآن عندهم الم تعليل وال باء تسبب، وكل الم توهم التعليل فهى عندهم الم العاقبة

مبا نفوه من احلكمه [وكل باء تشعر بالتسبب فهى عندهم باء املصاحبة وهؤالء سلطوا نفاة القدر عليهم ، ووجدوا مقاال واسعا بالشناعة فقالوا وشنعوا، ولعمر واهللا ]والتعليل واألسباب فاستطالوا عليهم بذلك

إهنم حملقون ىف أكثر ما شنعوا عليهم به، إذ نفى احلكمة والتعليل واألسباب له لوازم ىف غاية الشناعة، .العقالء] عند عامة[والتزامها مبكابرة ظاهرة لعامة

ة الثالثة أقرت حبكمته أثبتت األسباب والعلل والغايات ىف أفعاله وأحكامه، وجحدت كمال والطائفقدرته، فنفت قدرته على شطر العامل وهو أشرف ما فيه من أفعال املالئكة واجلن واإلنس وطاعاهتم، بل

داخلة حتت ، وال يوصف بالقدرة عليها وال هى ]تعاىل[كلها ال تدخل حتت مقدوره ] هذه[عندهم مشيئته وال ملكه، وليس ىف مقدوره عندهم أن جيعل املؤمن مؤمنا واملصلى مصليا واملوفق موفقا، بل هو

وعندهم أن أفعال العباد من املالئكة واجلن واإلنس كانت بغري مشيئته . نفسه كذلك] جعل[الذى احلكمة والتعليل واألسباب فمزقوهم كل ، وهؤالء سلطوا عليهم نفاة ]قوهلم[واختياره فتعاىل اهللا عن

أو . ممزق ووجدوا طريقا وسيعا إىل الشناعة عليهم، وأبدوا تناقضهم فقالوا وشنعوا، ورموهم بكل داهيةعلى شطر اململكة له لوازم ىف غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ] تعاىل[نفى قدرة الرب

- وهو أحسن حاهلم -نفى التزامها تناقض بني، فصاروا بذلك بني التناقضظاهرة عند عامة العقالء، و .وبني التزام تلك العظائم الىت خترج عن اإلميان، كما كان نفاة احلكمة واألسباب والغايات كذلك

فهدى اهللا الطائفة الرابعة ملا اختلفوا فيه من احلق بإذنه واهللا يهدى من يشاء إىل صراط مستقيم، فآمنوابالكتاب كله، وأقروا باحلق مجيعه، ووافقوا كل واحدة من الطائفتني على ما معها من احلق، وخالفوهم

خبلق اهللا وأمره بقدرته وشرعه وأنه سبحانه احملمود على خلقه وأمره، ] فآمنوا[فيما قالوه من الباطل، فال خيرج عن مقدوره شيء من :وأنه له احلكمة البالغة والنعمة السابغة، وأنه على كل شيء قدير

Page 87: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

املوجودات أعياهنا وأفعاهلا وصفاهتا، كما ال خيرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه من العامل تعلقت به ] وأنه ال حجة ألحد عليه بل هللا احلجة البالغة[وآمنوا مع ذلك بأن له احلجة على خلقه، . قدرته ومشيئته

رضه لعذهبم وهو غري ظامل هلم، بل كان تعذيبهم منه عدال منه وحكمة وأنه لو عذب أهل مساواته وأهل أال مبحض املشيئة اجملردة عن السبب واحلكمة كما يقوله اجلربية، وال جيعلون القدر حجة ألنفسهم وال لغريهم، بل يؤمنون به وال حيتجون به ويعلمون أن اهللا سبحانه أنعم عليهم بالطاعات وأهنا من نعمته

ليهم وفضله وإحسانه، وأن املعاصى من نفوسهم الظاملة اجلاهلة، وأهنم هم جناهتا وهم الذين عاجترحوها، وال حيملوهنا على القضاء والقدر مع علمهم بشمول قضائه وقدره ملا ىف العامل من خري وشر

، وأنه لو شاء أال وطاعة وعصيان وكفر وإميان، وأن مشيئة اهللا سبحانه حميطة بذلك كإحاطة علمه بهأعز وأجل من أن يعصى قسرا، والعباد أقل من ذلك وأهون، وأنه ما ] سبحانه[يعصى ملا عصى وأنه

شاء اهللا كان وكل كائن فهو مبشيئته، وما مل يشأ مل يكن، وما مل يكن فلعدم مشيئته، فله اخللق واألمر فهذه الطائفة هم أهل البصر التام، واألوىل . ة الشاملة البالغةوله امللك واحلمد وله القدرة التامة واحلكم

عني عمياء، ومع هذا فسرى العمى من العني ] هلم[هلم العمى املطلق، والثانية والثالثة كل طائفة منهما العمياء إىل العني الصحيحة فأعماها وال يستكثر تكرار هذا الكلمات من يعلم شدة احلاجة إليها

.واهللا املستعان. لنفوس إليها، فلو تكررت فاحلاجة إليها ىف حمل الضرورةوضرورة ا

فـصـل ىف إثبات احلمد كله هللا عز وجل

وجيمع هذين األصلني العظيمني أصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع مشلهما، وبتحقيقه وإثباته على مد كله هللا رب العاملني فإنه احملمود على ما خلقه وأمر به وجهه يتم بناء هذين األصلني وهو إثبات احل

وهنى عنه، فهو احملمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإمياهنم وكفرهم، وهو احملمود على خلق األبرار

Page 88: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

والفجار واملالئكة والشياطني وعلى خلق الرسل وأعدائهم، وهو احملمود على عدله ىف أعدائه كما هو ى فضله وإنعامه على أوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة حبمده، وهلذا سبح حبمده احملمود عل

، وكان ىف ]٤٤: اإلسراء* [}وإن من شيء إال يسبح بحمده{: السموات السبع واألرض ومن فيهنمد، ملء ـ السماء وملء ربنا ولك الح: ((قول النىب صلى اهللا عليه وسلم عند االعتدال من الركوع، فله سبحانه احلمد محدا ميأل املخلوقات ))األرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد

وذاك حيتمل . والفضاء الذى بني السماوات واألرض، وميأل ما يقدر بعد ذلك مما يشاء أن ميأل حبمدهأن ميأل ما خيلقه اهللا بعد السموات واألرض، واملعىن أن احلمد ملء ما خلقته وملء ما أحدمها : أمرين

ميأله محدك، أى يقدر مملوءا حبمدك ] بعد[الثاىن أن يكون املعىن ملء ما شئت من شيء . ختلقه بعد ذلكيقتضى )) ا شئت من شيء بعدم: ((املعىن األول أقوى ألن قوله: يقال] قد[ولكن . وإن مل يكن موجودا

فتأمله لكنه إذا شاء كونه . أنه شيء يشاؤه، وما شاء كان، واملشيئة متعلقة بعينه ال مبجرد ملء احلمد لهفله احلمد مأله، فاملشيئة راجعة إىل اململوء باحلمد، فال بد أن يكون شيئا موجودا ميأله محده وأيضا فإن

بعد ذلك من ] شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه املخلوقات كما خيلقه[يقتضى أنه )) ء بعدمن شي: ((قولهوملء ما شئت من شيء مع ذلك ألن : ولو أريد تقدير خلقه لقيل. خملوقاته ومن القيامة وما بعدها

لعبد قد وا. ما شئت: ملء ما شئت أن ميأله احلمد، بل قال: وأيضا فإنه مل يقل. املقدر يكون مع احملققمحد محدا أخرب به، وإن ثناءه ووصفه بأنه ميأل ما خلقه الرب سبحانه وما يشاء بعد ذلك، وأيضا قوله

يقتضى إثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك، وعلى الوجه الثاىن قد )) وملء ما شئت من شيء بعد((كان احلمد )) ما شئت من شيء بعد ذلك(( :تتعلق املشيئة مبلء املقدر، وقد ال تتعلق وأيضا فإذا قيل

مالئا ملا هو موجود يشاؤه الرب دائما، وال ريب أن له احلمد دائما ىف األوىل واآلخرة، وأما إذا قدر ما ميأله احلمد وهو غري موجود فاملقدرات ال حد هلا، وما من شيء منها إال ميكن تقدير شيء بعده وتقدير

ملء ما ال : ((ير األعداد، ولو أريد هذا املعىن مل حيتج إىل تعليقه باملشيئة، بل قيلما ال هناية له كتقدفال يكون إال موجودا مقدرا، وإن كان ال آخر لنوع احلوادث أو ] تعاىل[فأما ما يشاؤه الرب )) يتناهى

سن احملمود على وجه احلب له بقاء ما يبقى منها فهذا كله مما يشاؤه بعد وأيضا فاحلمد هو اإلخبار مبحاوحماسن احملمود تعاىل إما قائمة بذاته وإما ظاهرة ىف خملوقاته، فأما املعدوم احملض الذى مل خيلق وال خلق

ميأل املخلوقات ما وجد منها ] الذى[قط فذاك ليس فيه حماسن وال غريها، فال حمامد فيه البتة فاحلمد هللا ليه بكماله القائم بذاته واحملاسن الظاهرة ىف خملوقاته، وأما ما ال وجود له ويوجد هو محد يتضمن الثناء ع

.فال حمامد منه وال مذام، فجعل احلمد مالئا له ملا ال حقيقة له

Page 89: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقد اختلف الناس ىف معىن كون محده ميأل السموات واألرض وما بينهما، فقالت طائفة على جهة فإن احلمد من قبيل املعاىن : السموات واألرض وما بينهما قالوا أى لو كان أجساما ملأل: التمثيل

هذا [والصواب أنه ال حيتاج إىل ] إال باألجسام[واألعراض الىت ال متأل هبا األجسام، وال متأل األجسام تألت اجلفنة املايلء واململوء، فإذا قيل امتأل اإلناء ماء وام] التكلف البارد فإن من كل شيء يكون حبسب

. امتألت الدار رجاال وامتألت املدينة خيال ورجاال فهذا نوع آخر: طعاما فهذا االمتالء نوع، وإذا قيلامتألت مسامع الناس محدا أو ذما لفالن فهذا : امتأل الكتاب سطورا فهذا نوع آخر، وإذا قيل: وإذا قيل

امتألت مسامعه من ثناء الناس عليه، وأهل النار من امتألت أهل اجلنة من : نوع آخر ىف أثر معروف: وقال عمر بن اخلطاب ىف عبد اهللا بن مسعود كنيف مليء علما، ويقال)) . مسامعه من ذم الناس لهصيت فالن قد مأل الدنيا : ويقال. مأل ابن أىب الدنيا الدنيا علما: وكان يقال. فالن علمه قد مأل الدنيا

فاق وحبه قد مأل القلوب، وبغض فالن قد مأل القلوب، وامتأل قلبه رعبا، وهذا أكثر من أن وضيق اآلتستوعب شواهده، وهو حقيقة ىف بابه وجعل امللء واالمتالء حقيقة لألجسام خاصة حتكم باطل

ى اللغة واألفهام ودعوى ال دليل عليها البتة، واألصل احلقيقة الواحدة، واالشتراك املعنوى هو الغالب عل ].هذه املسألة[وليس هذا موضع تقرير ] اللفظى[واالستعمال، فاملصري إليه أوىل من اجملاز واالشتراك

وبكل ما حيمد به احملمود [أحدمها أنه حممود على كل شيء : فهذا له معنيان)) احلمد كله هللا: ((فإذا قيلفذلك من محده تبارك وتعاىل -رسله وأنبياؤه وأتباعهم حيمد] التام وإن كان بعض خلقه حيمد أيضا كما

فهو احملمود أوال وآخرا ] وبالذت وما نالوه من احلمد فإمنا نالوه حبمده[بل هو احملمود بالقصد األول وظاهرا وباطنا، وهذا كما أنه بكل شيء عليم، وقد علم غريه من علمه ما مل يكن يعلمه بدون تعليمه،

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع األمر : ((ء املأثوروىف الدعا، وهو سبحانه له امللك وقد آتى من امللك بعض ))كله، أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله

وكما أن ملك املخلوق داخل ىف ملكه، فحمده أيضا . ، وله احلمد وقد آتى غريه من احلمد ما شاءخلقه] واألولوية[داخل ىف محده، فما من حممود حيمد على شيء مما دق أو جل إال واهللا احملمود عليه بالذات

أنت املستحق لكل محد، ليس املراد به احلمد ، فاملراد به))اللهم لك الحمد]: ((احلامد[أيضا، وإذا قال .اخلارجى فقط

أى احلمد التام الكامل فهذا خمتص باهللا عز وجل ليس لغريه فيه )) لك الحمد كله: ((املعىن الثاىن أن يقالوالتحقيق أن له احلمد باملعنيني مجيعا، فله عموم احلمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه، . شركة

هو احملمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل محد وأعظمه، كما أن له امللك التام العام فال ميلك فيثبتون له ] صلوات اهللا وسالمه عليهم[كل شيء إال هو وليس امللك التام الكامل إال له وأتباع الرسل

Page 90: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

خيرج عن خلقه وقدرته إنه خالق كل شيء وربه ومليكه، ال: كمال امللك وكمال احلمد فإهنم يقولونطاعات [والقدرية اجملوسية خيرجون من ملكه أفعال العباد، فيخرجون . ومشيئته شيء البتة فله امللك كله

سائر حركات املالئكة واجلن واإلنس عن ] األنبياء واملرسلني واملالئكة واملتقني من ملكه كما خيرجونملكه وقدرته، ويثبتون كمال احلمد أيضا، وأنه ] حتت[وأتباع الرسل جيعلون ذلك كله داخال . ملكه

احملمود على مجيع ذلك وعلى كل ما خلقه وخيلقه، ملا له فيه من احلكم والغايات احملمودة املقصودة وأما نفاة احلكمة واألسباب من مثبىت القدر فهم ىف احلقيقة ال يثبتون له محدا كما ال يثبتون له . بالفعل

احلمد من لوازم احلكمة واحلكمة إمنا تكون ىف حق من يفعل شيئا لشيء فرييد مبا يفعله احلكمة فإن : وهؤالء يقولون. احلكمة الناشئة من فعله فأما من ال يفعل شيئا لشيء البتة فال يتصور ىف حقه احلكمة فإمنا اقترنت هبا ليس ىف أفعاله وأحكامه الم التعليل، وما اقترن باملفعوالت من قوى وطبائع ومصاحل

اقترانا عاديا، ال أن هذا كان ألجل هذا، وال نشأ السبب ألجل املسبب، بل ال سبب عندهم وال مسبب البتة، إن هو إال حمض املشيئة وصرف اإلرادة الىت ترجح مثال على مثل، بل ال مرجح أصال، وليس

ركاهتا، وال ىف العني قوة امتازت هبا على الرجل يبصر عندهم ىف األجسام وطبائع وقوى تكون أسبابا حلالظهر، بل خص سبحانه أحد اجلسمني بالرؤية والعقل ] على[هبا، وال ىف القلب قوة يعقل هبا امتاز هبا

والذوق ختصيصا ملثل على مثل بال سبب أصال وال حكمة، فهؤالء مل يثبتوا له كمال احلمد، كما مل .كمال امللك، وكال القولني منكر عند السلف ومجهور األمة يثبت له أولئك

العقل نوع من العلوم الضرورية كما قال القاضيان : وهلذا كان منكرو األسباب والقوى والطبائع يقولونوقد نص أمحد على أنه غريزة، وكذلك احلارث . أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفراء وأتباعهما

مها، فأولئك ال يثبتون غريزة وال قوة وال طبيعة وال سببا، وأبطلوا مسميات هذه األمساء احملاسىب وغريإن ما ىف الشريعة من املصاحل واحلكم مل يشرع الرب سبحانه ما شرع من األحكام ألجلها : مجلة وقالوا

ء، والعلل عندهم أمارات حمضة بل اتفق اقتراهنا هبا أمرا اتفاقيا، كما قالوا نظري ذلك ىف املخلوقات سوا .جملرد االقتران االتفاقى

أحدمها ال يعرجون على املناسبات وال يثبتون العلل هبا البتة، وإمنا يعتمدون على تأثري : وهم فريقان. .العلة بنص أو إمجاع، فإن فقدوا فزعوا إىل األقيسة الشبهية

ح وقربوه بعض الشيء وأزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا والفريق الثاىن أصلحوا املذهب بعض اإلصالاألحكام بالعلل والعلل باملناسبات واملصاحل، ومل ميكنهم الكالم ىف الفقه إال بذلك، ولكم جعلوا اقتران أحكام تلك العلل واملناسبات هبا اقترانا عاديا غري مقصود ىف نفسه العلل واملناسبات أمارات ذلك

Page 91: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وهؤالء يستدلون على إثبت علم الرب تعاىل مبا ىف خملوقاته من األحكام واإلتقان واملصاحل، االقتران،وهذا تناقض بني منهم، فإن ذلك إمنا يدل إذا كان الفاعل يقصد أن يفعل الفعل على وجه خمصوص

اتفق اقترانه مبفعوالته ألجل احلكمة املطلوبة منه، وأما من مل يفعل ألجل ذلك اإلحكام واإلتقان وإمناعادة فإن ذلك الفعل ال يدل على العلم، ففى أفعال احليوانات من اإلحكام واإلتقان واحلكم ما هو

واملقصود أن . معروف ملن تأمله، ولكن ملا مل تكن تلك احلكم واملصاحل مقصودة هلا مل تدل على علمهاامتنع عندهم أن يكون اإلحكام دليال على العلم وأيضا فعلى إنه تعاىل ال يفعل حلكمة : هؤالء إذا قالوا

قوهلم ميتنع أن حيمد على ما فعله ألمر ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه مل يقصد مبا خلقه نفعهم وال خلقه لنفعهم ومصاحلهم، بل إمنا أراد جمرد وجوده ال ألجل كذا وال لنفع أحد وال لضره، فكيف

- حق من يكون فعله ذلك محد؟ فال حيمد على فعل عدل، وال على ترك ظلم، ألن الظلم يتصور ىفواملمتنع الذى ال يدخل ىف املقدور، وذلك ال ميدح أحد على تركه وكل ما أمكن وجوده فهو -عندهم

عندهم عدل فالظلم مستحيل عندهم إذ هو عبارة عن املمتنع املستحيل لذاته الذى ال يدخل حتت قدور وال يتصور فيه ترك اختيارى فال يتعلق به محد، وإخباره تعاىل عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقة امل

وما {: عندهم جمرد كونه فاعال ال أن هناك شيئا هو قسط ىف نفسه ميكن وجود ضده، وكذلك قولهال حقيقة له، كجعل اجلسم نفى عندهم ملا هو مستحيل ىف نفسه ] ٤٦: فصلت* [}ربك بظالم للعبيد

ىف مكانني ىف آن واحد، وجعله موجودا معدوما ىف آن واحد، فهذا وحنوه عندهم هو الظلم الذى تنزه ، ))يا عبادى، إنى حرمت الظلم على نفسى، وجعلته محرما بينكم، فال تظالموا: ((عنه، وكذلك قوله

مه على نفسه هو املستحيل املمتنع لذاته كاجلمع بني النقيضني وليس هناك ممكن يكون ظلما فالذى حروأيضا فإنه . ىف نفسه وقد حرمه على نفسه، ومعلوم أنه ال ميدح املمدوح بترك ما لو أراده مل يقدر عليه

جعله حمرما بني عباده وهو الظلم فالذى حرمه على نفسه هو الذى)) وجعلته محرما بينكم: ((قالوالذى أوجب هلم هذا مناقضة القدرية اجملوسية ورد أصوهلم . املقدور الذى يستحق تاركه احلمد والثناء

وهدم قواعدهم، ولكن ردوا باطال بباطل وقابلوا بدعة ببدعة وسلطوا عليهم خصومهم مبا التزموه من م سجاال مرة يغلبون ومرة يغلبون مل يستقر هلم نصرة، وإمنا الباطل فصارت الغلبة بينهم وبني خصومه

النصرة الثابتة ألهل السنة احملضة الذين مل يتحيزوا إىل فئة غري رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم، ومل يلتزموا غري ما جاء به، ومل يؤصلوا أصال ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلهم ما دل عليه

. وكالم رسوله وشهدت به الفطر والعقولكتاب اهللا فصل

ىف بيان أن محده تعاىل شامل لكل ما حيدثه

Page 92: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

واملقصود بيان مشول محده تعاىل وحكمته لكل ما حيدثه من إحسان ونعمة وامتحان وبلية، وما يقضيه فإنه من طاعة ومعصية، أنه سبحانه حممود على ذلك مشكور محد املدح ومحد الشكر، أما محد املدح

حممود على كل ما خلق إذ هو رب العاملني واحلمد هللا رب العاملني وأما محد الشكر فألن ذلك كله نعمة نعمة واالمتحان ] اقترنت بالشكر صارت[ىف حق املؤمن إذا اقترن بواجبه من اإلحسان، والنعمة إذا

ما املعصية فإذا اقترنت بواجبها من التوبة والبلية إذا اقترنا بالصرب كانا نعمه، والطاعة من أجل نعمه، وأواالستغفار واإلنابة والذل واخلضوع فقد ترتب عليها من اآلثار احملمودة والغايات املطلوبة ما هو نعمة أيضا وإن كان سببها مسخوطا مبغوضا للرب تعاىل، ولكنه حيب ما يترتب عليها من التوبة واالستغفار،

بة عبده من الرجل إذا أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فأيس وهو سبحانه أفرح بتومنها ومن احلياة فنام مث استيقظ فإذا هبا قد تعلق خطامها ىف أصل شجرة فجاء حىت أخذها، فاهللا أفرح

حب إليه سبحانه بتوبة العبد حني يتوب إليه من هذا براحلته، فهذا الفرح العظيم الذى ال يشبهه شيء أمن عدمه، وله أسباب ولوازم البد منها، وما حيصل بتقدير عدمه من الطاعات وإن كان حمبوبا له فهذا الفرح أحب إليه بكثري ووجوده بدون الزمه ممتنع، فله من احلكمة ىف تقدير أسبابه وموجباته حكمة

ما باإلضافة إىل العبد فإنه قد يكون كمال هذا باإلضافة إىل الرب جل جالله، وأ. بالغة ونعمة سابغةعبوديته وخضوعه موقوفا على أسباب ال حتصل بدوهنا، فتقدير الذنب عليه إذا اتصل به التوبة واإلنابة واخلضوع والذل واالنكسار ودوام االفتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه وإن كان من االبتالء

ورته ونفسه والرب تعاىل حممود على األمرين، فإن اتصل بالذنب اآلثار احملبوبة واالمتحان باعتبار صللرب سبحانه من والتوبة والذل واإلنابة واالنكسار فهو عني مصلحة العبد، واالعتبار بكمال النهاية ال

جملاورة بنقص البداية، وإن مل يتصل به ذلك، فهذا ال يكون إال من خبث نفسه وشره وعدم استعدادهربه بني األرواح الذكية الطاهرة ىف املأل األعلى ومعلوم وأن هذه النفس فيها من الشر واخلبث ما فيها، فال بد من خروج ذلك منها من القوة إىل الفعل ليترتب على ذلك اآلثار املناسبة هلا ومساكنة من تليق

ذه النفوس إذا كانت مهيأة لذلك فمن احلكمة مساكنته وجماورة األرواح اخلبيثة ىف احملل األسفل، فإن هأن تستخرج منها األسباب الىت توصلها إىل ما هى مهيأة له وال يليق به سواه والرب تعاىل حممود على إنعامه وإحسانه على أهل اإلحسان واألنعام القابلني له فما كل أحد قابال لنعمته تعاىل فحمده وحكمته

.انه وكنوزه ىف حمل غري قابل هلاتقتضى أن ال يودع وإحسفما احلكمة ىف خلق هذه األرواح الىت هى غري قابلة لنعمته؟ فقد تقدم من اجلواب : وال يبقى إال أن يقال

وأن خلق األضداد واملقابالت وترتيب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته . عن ذلك ما فيه كفايةوأيضا فإن هذه احلوادث نعمة ىف حق . من جانب الربوبيةوعلمه وعزته، وأن تقدير عدم ذلك هضم

Page 93: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

املؤمن، فإهنا إذا وقعت فهو مأمور أن نكرها بقلبه ويده ولسانه فقط أو بقلبه فقط، ومأمور أن جياهد أرباهبا حبسب اإلمكان، فيترتب له على اإلنكار واجلهاد من مصاحل قلبه ونفسه وبدنه ومصاحل دنياه،

يكن ينال بدون ذلك، واملقصود بالقصد األول إمتام نعمته تعاىل على أوليائه ورسله وآخرته ما ملوخاصته فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غاية احلكمة، وكان ىف متكني أهل الكفر

نكار عليهم والفسق والعصيان من ذلك إيصال إىل الكمال الذى حيصل هلم مبعاداة هؤالء وجهادهم واإلواملواالة فيه واملعاداة فيه وبذل نفوسهم وأمواهلم وقواهم له، فإن متام العبودية ال حيصل إال باحملبة الصادقة، وإمنا تكون احملبة صادقة إذا بذل فيها احملب ما ميلكه من مال ورياسة وقوة ىف مرضاة حمبوبة

درجات احملبة، ومن املعلوم أن من لوازم ذلك الىت ال والتقرب إليه، فإن بذل له روحه كان هذا أعلىمعاداة من حيبه ويؤثر مرضاته هلا [حيصل إال هبا أو خيلق ذواتا وأسبابا وأعماال وأخالقا وطبائع تقتضى

احملبة الصادقة من غريها فكل أحد حيب اإلحسان والراحة والدعة واللذة، وجيب من ] وعند ذلك تتحقليه ذلك وحيصله له، ولكن الشأن ىف أمر وراء هذا وهو حمبته سبحانه وحمبة ما حيبه مما هو أكره يوصل إ

شيء إىل النفوس وأشق شيء عليها مما ال يالئمها، فعند حصول أسباب ذلك يتبني من حيب اهللا لذاته لرياسة، فإن أعطى منها وحيب ما جيب ممن حيبه ألجل خملوقاته فقط من املأكل واملشرب واملنكح وا

رضى وإن منعها سخط وعتب على ربه ورمبا شكاه ورمبا ترك عبادته، فلوال خلق األضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه هبم مل يستخرج خالص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ومل حيصل هلم

] والعطاء له واملنع له، وال عبودية بذل األرواح فيه واحلب فيه والبغض فيه[عبودية املواالة فيه واملعاداة ىف جهاد أعدائه ونصرته وعبودية مفارقة األمر عنده أحوج ما يكون إليهم عبده ىف مرضاته ما يتحسر إليهم وهو الذى عاب نفسه ومالذ هبا بأيديهم قد جىن مبفارقتهم ومشايعتهم وأما من مواالة احلق

.باب الىت توجب ذلك مل حتصل هذه اآلثارعليهم، فلوال األضداد واألسوأيضا فلوال تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد مل حتصل له فضيلة الصرب وجهاد النفس

وأيضا فلوال ذلك . ومنعها من حظوظها وشهواهتا حمبة هللا وإيثارا ملرضاته وطلبا للزلفى لديه والقرب منهفخلق : ية إنسانية، بل كانت ملكية، فإن آهللا سبحانه خلق خلقه أطوارامل تكن هذه النشأة اإلنسان

املالئكة عقوال ال شهوات هلا وال طبيعة تتقاضى منها خالف ما يراد من مادة نورية ال تقتضى شيئا من اجلن واإلنس -اآلثار والطبائع املذمومة، وخلق احليوانات ذوات شهوات ال عقول هلا، وخلق الثقلني

. وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع املختلفة آلثار خمتلفة حبسب موادها وصورها وتركيبهاوهؤالء هم أهل االمتحان واالبتالء، وهم املعرضون للثواب والعقاب ولو شاء سبحانه جلعل خلقه على

جب الربوبية طبيعة واحدة وخلق واحد ومل يفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو حمض احلكمة ومو

Page 94: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

هذا مقتضى : ومقتضى اإلهلية، ولو كان اخللق كله طبيعة واحدة ومنطا واحدا لوجد امللحد مقاال وقال. الطبيعة، ولو كان فاعال باالختيار لتنوعت أفعاله ومفعوالته ولفعل الشيء وضده والشيء وخالفه

لو كان هلذا العامل خالقا : اال وقالوكذلك لوال شهود هذه احلوادث املشهودة لوجد امللحد أيضا مقكان أصحاب : خمتارا لوجدت فيه احلوادث على حسب إرادته واختياره، كما روى احلسن أو غريه قال

جل ربنا القدمي، مل يتغري هذا اخللق لقال الشاك ىف اهللا إنه لو كان : حممد صلى اهللا عليه وسلم يقولونو ليل إذ جاء هنار وبينا هو هنار إذ جاء ليل، بينا هو صحو إذ جاء غيم وبينا هلذا العامل خالق حلادثه بينا ه

هو غيم إذ جاء صحو، وحنو هذا من الكالم، وهلذا يستدل سبحانه ىف كتابه باحلوادث تارة وباختالفها نوع أفعاله تارة، إذ هذا وهذا يستلزم ربوبيته وقدرته واختياره ووقوع الكائنات على وفق مشيئته، فت

وهلذا سبحانه خلق النوع اإلنساىن أربعة . ومفعوالته من أعظم األدلة على ربوبيته وحكمته وعلمهأحدها ال من ذكر وال أنثى وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم، الثاىن خلقه من ذكر بال أنثى كخلق : أقسام

نثى أو يشتمل عليها بطن، الثالث خلقه من أمهم حواء من ضلع من أضالع آدم من غري أن حتمل هبا أأنثى بال ذكر كخلق املسيح عيسى ابن مرمي صلى اهللا عليه وسلم الرابع خلق سائر النوع اإلنساىن من ذكر وأنثى، وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته، وأن األمر ليس كما

فرون به من أن ذلك أمر طبيعى مل يزل هكذا وال يزال، وأنه ليس للنوع يظنه أعداؤه اجلاحدون له الكاأب وال أم وأنه ليس إال أرحام تدفع وأرض تبلغ وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد، ومل يعلم هؤالء اجلهال

على وجود الضالل أن الطبيعة قوة وصفة فقرية إىل حملها حمتاجة إىل حامل هلا، وأهنا من أدل الدالئل أمره ىف طبعها وخلقها، وأودعها األجسام وجعل فيها هذه األسرار العجيبة، فالطبيعة خملوق من خملوقاته ومملوك من مماليكه وعبيدة مسخرة ألمره تعاىل منقادة ملشيئته، ودالئل الصنعة وإمارات اخللق واحلدوث

عة، ال ختلق وال تفعل وال تتصرف ىف ذاهتا وشواهد الفقر واحلاجة شاهدة عليها بأهنا خملوقة مصنو .ونفسها، فضال عن إسناد الكائنات إليها

واملقصود أن تنويع املخلوقات واختالفها من لوازم احلكمة والربوبية وامللك، وهو أيضا من موجبات ئه وصفاته، فلكل احلمد فله احلمد على ذلك كله أكمل محد وأمته أيضا، فإن خملوقاته هى موجبات أمسا

اسم وصفة أثر ال بد من ظهوره فيه واقتضائه له، فيمتنع تعطيل آثار أمسائه وصفاته كما ميتنع تعطيل ذاته وأيضا فإن تنويع أسباب . عنها، وهذه اآلثار هلا متعلقات ولوازم ميتنع أن ال توجد كما تقدم التنبيه عليه

، فكما تنوعت أسباب احلمد تنوع احلمد بتنوعها وكثر بكثرهتا احلمد أمر مطلوب للرب تعاىل حمبوب لهومعلوم أنه سبحانه حممود على انتقامه من أهل اإلجرام واإلساءة، كما هو حممود على إكرامه ألهل العدل واإلحسان، فهو حممول على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من محده على حلمه وعفوه

Page 95: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقه ومساحمة خلقه هبا والعفو عن كثري من جنايات العبيد فنبههم باليسري من عقابه ومغفرته وترك حقوانتقامه على الكثري الذى عفا عنه، وأنه لو عاجلهم بعقوبته وأخذهم حبقه لقضى إليهم أجلهم وملا ترك

على عفوه على ظهرها من دابة، ولكنه سبقت رمحته غضبه وعفوه انتقامه ومغفرته عقابه، فله احلمد فليتدبر اللبيب هذا . وانتقامه، وعلى عدله وإحسانه، وال سبيل إىل تعطيل أسباب محده وال بعضها

املوضع حق التدبر، وليعطه حقه يطلعه على أبواب عظيمة من أسرار القدر، ويهبط به على رياض منه .واهللا املوفق اهلادى للصواب. معشبة وحدائق مونقة

سبحانه نوع األدلة الدالة عليه والىت تعرف عباده به غاية التنوع، وصرف اآليات وضرب وأيضا فإن اهللااألمثال، ليقيم عليهم حجته البالغة ويتم عليهم بذلك نعمته السابغة، وال يكون ألحد بعد ذلك حجة

ته، ولو شاء لسوى عليهم سبحانه، بل احلجة كلها له والنعم كلها له والقدرة كلها له فأقام عليهم حجفأخرب ]: ١٤٩: األنعام* [}فلله الحجة البالغة فلو شاء هلداكم أجمعني{: بينهم ىف اهلداية كما قال تعاىل

أن له احلجة البالغة، وهى الىت بلغت إىل صميم القلب وخالطت العقل واحتدت به فال ميكن العقل دفعها أخرب أنه سبحانه قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاء ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ وال جحدها، مث

مشيئته، ولكن حكمته تأىب ذلك وعدله يأىب تعذيب أحد وأخذه بال حجة، فأقام احلجة وصرف اآليات حصلت هذه وضرب األمثال ونوع األدلة، ولو كان اخللق كلهم على طريقة واحدة من اهلداية ملا

األمور وال تنوعت هذه األدلة واألمثال، وال ظهرت عزته سبحانه ىف انتقامه من أعدائه ونصر أوليائه عليهم، وال حججه الىت أقامها على صدق أنبيائه ورسله وال كان للناس آية ىف فئتني التقتا فئة تقاتل ىف

وال كان للخلق آية باقية ما بقيت الدنيا ىف شأن سبيل اهللا، وأخرى كافرة يروهنم مثليهم رأى العني،موسى وقومه وفرعون وقومه وفلق البحر هلم ودخوهلم مجيعا فيه مث إجناء موسى وقومه ومل يغرق أحد منهم وأغرق فرعون وقومه مل ينج منهم أحد، فهذا التعرف إىل عباده وهذه اآليات وهذه العزة واحلكمة

.ها البتة وال توجد بدون لوازمهاال سبيل إىل تعطيلوأيضا فإن حقيقة امللك إمنا تتم بالعطاء واملنع واإلكرام واإلهانة واإلثابة والعقوبة والغضب والرضا

قل اللهم مالك الملك {: والتولية والعزل وإعزاز من يليق به العز وإذالل من يليق به الذل، قال تعاىلى كل ملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك الخير إنك علتؤتي ال

رج الميت من تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخ* شيء قدير يسأله من فى السموات {: ، وقال تعاىل]٢٧ -٢٦: آل عمران* [}الحي وترزق من تشآء بغير حساب

، يغفر ذنبا ويفرج كربا ويكشف غما وينصر مظلوما ]٢٩: الرمحن* [}واألرض كل يوم هو فى شأنويفك عانيا ويغىن فقريا وجيرب كسريا ويشفى مريضا ويقبل عثرة ويستر عورة ويعز ذليال ويأخذ ظاملا

Page 96: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ويذل عزيزا ويعطى سائال ويذهب بدولة ويأتى بأخرى ويداول األيام بني الناس ويرفع أقواما ويضع مواقيتها فال يتقدم آخرين يسوق املقادير الىت قدرها قبل خلق السموات واألرض خبمسني ألف عام إىل

شيء منها عن وقته وال يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه وجرى به قلمه ونفذ فيه حكمه وسبق به علمه، فهو املتصرف ىف املمالك كلها وحده تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم تام

اململكة دائر بني العدل واإلحسان امللك ال ينازعه ىف ملكه منازع وال يعارضه فيه معارض، فتصرفه ىف وىف تفسري احلافظ أىب بكر أمحد بن موسى بن . واحلكمة واملصلحة والرمحة فال خيرج تصرفه عن ذلك

حدثنا إسحق بن سليمان عن معاوية بن حيىي عن يونس ابن ميسرة عن أىب : مردويه من حديث احلماىنسئل : ، فقال]٢٩: الرمحن* [}كل يوم هو فى شأن{: ىلإدريس عن أىب الدرداء أنه سئل عن قوله تعامن شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع : ((عنها رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم فقال

عن أيوب بن عبد اهللا بن آخرين ، وفيه أيضا من حديث محاد بن سلمة حدثنا الزبري أبو عبد السالمإن ربكم عز وجل ليس عنده ليل وال هنار، نور السموات : قال عبد اهللا بن مسعود: مكرز عن أبيه قال

تعرض عليه أعمالكم باألمس ثالث ساعات من : أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة. واألرض من نور وجههول من يعلم بغضبه محلة العرش، فتسبح محلة أول النهار، فيطلع منها على ما يكره فيغضب فيكون أ

العرش وسراداقات العرش واملالئكة املقربون وسائر املالئكة، وينفخ جربيل ىف القرن فال يبقى خلق هللا ىف حىت ميتليء الرمحن رمحة، ] ثالث ساعات[السموات وال ىف األرض إال مسعه إال الثقلني، ويسبحون

يصوركم في األرحام كيف يشآء ال {: ام فينظر فيها ثالث ساعاتفتلك ست ساعات مث يدعو باألرح* }يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور{، ]٦: آل عمران* [}إله إال هو العزيز الحكيم

يبسط الرزق لمن {: ثالث ساعاتمث يدعو باألرزاق فينظر فيها . ، فتلك تسع ساعات]٤٩: الشورى[فتلك اثنتا ] ١٢: الشورى] [٥٢: الزمر] [٣٦: سبأ] [٣٧: الروم] [٣٠: اإلسراء* [}يشاء ويقدرهذا شأنكم وشأن ربكم : مث قال] ٢٩: الرمحن* [}كل يوم هو فى شأن{: مث قرأ عبد اهللا. عشرة ساعةوهذا من متام تصرفه ىف ملكه سبحانه، فلو . املعجم الكبري من وجه آخروذكره الطرباىن ىف. عز وجل

.قصر تصرفه على وجه واحد ومنط واحد مل يكن تصرفا تاماواملقصود أن امللك واحلمد ىف حقه متالزمان، فكل ما مشله ملكه وقدرته مشل محده، فهو حممود ىف ملكه

روج شيء من املوجودات عن ملكه وقدرته يستحيل وله امللك والقدرة مع محده، فكما يستحيل خخروجها عن محده وحكمته، وهلذا حيمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره، لينبه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن محده، فهو حممود على كل ما خلقة وأمر به محد شكر وعبودية، ومحد ثناء ومدح،

Page 97: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أال له الخلق {: لك كله، وهلذا ذكر هذه الكلمة عقيب قولهوجيمعهما التبارك، فتبارك اهللا يشمل ذ ]٥٤: األعراف* [}واألمر، تبارك اهللا رب العالمني

فاحلمد أوسع الصفات وأعم املدائح والطرق إىل العلم به ىف غاية الكثرة، والسبيل إىل اعتباره ىف ذرات لنهى واسعة جدا، ألن مجيع أمسائه تبارك وتعاىل محد، وصفاته محد العامل وجزئياته وتفاصيل األمر وا

وأفعاله محد، وأحكامه محد، وعدله محد، وانتقامه من أعدائه محد، وفضله ىف إحسانه إىل أوليائه محد واخللق واألمر إمنا قام حبمده ووجد حبمده وظهر حبمده وكان الغاية هى محده فحمده سبب ذلك

مظهره وحامله فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء حبمده، وسريان محده ىف املوجودات وغايته وفمن الطرق الدالة على مشول معىن الحمد وانبساطه : وظهور آثاره فيه أمر مشهود باألبصار والبصائر

كل صفة كمال واسم على مجيع املعلومات معرفة أمسائه وصفاته، وإقرار العبد بأن للعامل إهلا حيا جامعا لحسن وثناء مجيل وفعل كرمي وأنه سبحانه له القدرة التامة واملشيئة النافذة والعلم احمليط والسمع الذى وسع األصوات والبصر الذى أحاط جبميع املبصرات والرمحة الىت وسعت مجيع املخلوقات وامللك األعلى

طلق من مجيع اجلهات واحلكمة البالغة املشهود آثارها الذى ال خيرج عنه ذرة من الذرات والغىن التام املىف الكائنات والعزة الغالبة جبميع الوجوه واالعتبارات والكلمات التامات النافذات الىت ال جياوزهن بر وال فاجر من مجيع الربيات، واحد ال شريك له ىف ربوبيته وال ىف إهليته، وال شبيه له ىف ذاته وال ىف

أفعاله، وليس له من يشركه ىف ذرة من ذرات ملكه، أو خيلفه ىف تدبري خلقه، أو حيجبه صفاته وال ىف عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب كما يكون بني الرعايا

يهما آلهة إال اهللا لو كان ف{: وبني امللوك، ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود وفسد العامل بأسره ]٢٢: األنبياء* [}لفسدتا

فلو كان معه آهلة أخرى كما يقول أعداؤه املبطلون لوقع من النقص ىف التدبري وفساد األمر كله ما ال ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب محد عباده له أن جيعلنا . يثبت معه حال، وال يصلح عليه وجود

ة ومل جيعلنا ربنا منقسمني بني شركاء متشاكسني، ومل جيعلنا عبيدا إلله حنتته األفكار، ال عبيدا له خاصيسمع أصواتنا وال يبصر أفعالنا وال يعلم أحوالنا وال ميلك لعابديه ضرا وال نفعا، وال موتا وال حياة وال

ليه األيدى وال تعرج املالئكة والروح نشورا، وال تكلم قط وال يتكلم وال يأمر وال ينهى، وال ترفع إإليه، وال يصعد إليه الكلم الطيب، وال يرفع إليه العمل الصاحل، وأنه ليس داخل العامل وال خارجه وال فوقه وال عن ميينه وال عن يساره وال خلفه وال أمامه وال متصال به وال منفصال عنه وال حماذيا له وال

تو على عرشه وال هو فوق عباده، وحظ العرش منه حظ احلشوش واألخلية وال تنزل مباينا، وال هو مساملالئكة من عنده بل ال ينزل من عنده شيء وال يصعد إليه شيء وال يقرب منه شيء، وال حيب وال

Page 98: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

يقبض املؤمنون بالنظر إىل وجهه الكرمي ىف دار الثواب، بل ليس له وجه يرى وال له يد ] يلتذ[حيب، وال فعل يقوم به وال حكمة تقوم به، وال كلم موسى ] له[هبا السموات وأخرى يقبض هبا األرض، وال

تكليما، وال جتلى للجبل فجعله دكا هشيما، وال جييء يوم القيامة لفصل القضاء، وال ينزل كل ليلة إىل ه إذا تاب إليه وجيوز ىف حكمته أسأل عن عبادى غريى، وال يفرح بتوبة عبد] ال[مساء الدنيا فيقول

تعذيب أنبيائه ورسله ومالئكته وأهل طاعته أمجعني من أهل السموات واألرضني، وتنعيم أعدائه من الكفار به واحملاربني واملكذبني له ولرسله، والكل بالنسبة إليه سواء وال فرق البتة إال أنه أخرب أنه ال يفعل

أنه ال يفعله، ال ألنه ىف نفسه مناف حلكمته، ومع ذلك فرضاه عني غضبه وغضبه ذلك، فامتنع للخرب بعني رضاه وحمبته كراهته وكراهته حمبته، إن هى إال إرادة حمضة ومشيئة صرفة يشاء هبا ال حلكمة وال

م على لغاية وال ألجل مصلحة، ومع ذلك يعذب عباده على ما مل يعملوه وال قدرة هلم عليه، بل يعذهبنفس فعله الذى فعله هو ونسبه إليهم، ويعذهبم إذا مل يفعلوا فعله ويلومهم عليه، جيوز ىف حكمته أن يعذب رجاال إذا مل يكونوا نساء ونساء حيث مل يكونوا رجاال وطواال حيث مل يكونوا قصارا وبالعكس

الفته هو من هذا اجلنس إذ ال قدرة هلم البتة وسودا إذا مل يكونوا بيضا وبالعكس، بل تعذيبه هلم على خمفله احلمد واملنة والثناء احلسن اجلميل إذ مل جيعلنا عبيدا ملن . على فعل ما أمروا به وال ترك ما هنوا عنه

هذا شأنه فنكون مضيعني، ليس لنا رب نقصده، وال صمد نتوجه إليه ونعبده، وال إله نعول عليه، وال من دلنا ومجع علينا ربا ضائعا ال هو داخل العامل وال : ه بل قلوبنا تنادى ىف طرق احلريةرب نرجع إلي

خارجه، وال مباين له وال حماذ له، وال متصل به وال منفصل عنه، وال نزل من عنده شيء وال يصعد إليه هبا بل يذكرها بلسانه ألحد أن يذكر صفاته واليعرفه[شيء، وال كلم أحدا وال يكلمه أحد، وال ينبغى

له أن يعاقب بالقتل أو بالضرب واحلبس من ذكرها أو أخرب عنه ] فال يتكلم هبا وبقلبه فال يعقلها وينبغىأو نسبها إليه أو عرفه هبا، بل التوحيد الصرف جحدها وتعطيله عنها ونفى قيامها به . هبا أو أثبتها له

من أثبته واستحالل دمه وماله ] وتكفري[ذلك فالواجب نفيه وجحده واتصافه وما مل تدركه عقولنا من أو تبديعه وتضليله وتفسيقه، وكلما كان النفى أبلغ كان التوحيد أمت، فليس كذا وليس كذا أبلغ ىف

.التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذاوأمسائه ] العلى[ده واإلقرار بصفاته فلله العظيم أعظم محد وأمته وأكمله على ما من به من معرفته وتوحي

احلسىن، وإقرار قلوبنا بأنه اهللا الذى ال إله إال هو عامل الغيب والشهادة رب العاملني قيوم السموات واألرضني إله األولني واآلخرين، وال يزال موصوفا بصفات اجلالل، منعوتا بنعوت الكمال، منزها عن

فهو احلى القيوم الذى لكمال حياته وقيوميته ال تأخذه سنة وال . بيه واملثالأضدادها من النقائص والتشنوم، مالك السموات واألرض الذى لكمال ملكه ال يشفع عنده أحد إال بإذنه، العامل بكل شيء الذى

Page 99: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ذنه لكمال علمه يعلم ما بني أيدى اخلالئق وما خلفهم فال تسقط ورقة إال بعلمه وال تتحرك ذرة إال بإيعلم دبيب اخلواطر ىف القلوب حيث ال يطلع عليها امللك ويعلم ما سيكون منها حيث ال يطلع عليه القلب، البصري الذى لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغرية وأعضائها وحلمها ودمها وخمها

كما ] السبع[ضني وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء ىف الليلة الظلماء، ويرى ما حتت األرالسميع الذى قد استوى ىف مسعه سر القول وجهره، وسع مسعه األصوات . يرى ما فوق السموات السبع

فال ختتلف عليه أصوات اخللق وال تشتبه عليه وال يشغله منها مسع عن مسع وال تغلطه املسائل وال يربمه صوات، لقد جاءت اجملادلة تشكو إىل رسول احلمد هللا الذى وسع مسعه األ: كثرة السائلني، قالت عائشة

قد سمع اهللا قول التى {: ليخفى على بعض كالمها، فأنزل اهللا عز وجل] وأنه[اهللا صلى اهللا عليه وسلم ، القدير ]١: اجملادلة[* }تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى اهللا واهللا يسمع تحاوركما إن اهللا سميع بصري

الذى لكمال قدرته يهدى من يشاء ويضل من يشاء وجيعل املؤمن مؤمنا والكافر كافرا والرب برا والفاجر فاجرا، وهو الذى جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون قومه أئمة يدعون

ولكمال قدرته . شيء من علمه إال مبا شاء سبحانه أن يعلمه إياهولكمال قدرته ال حييط أحد ب. إىل النارخلق السموات واألرض وما بينهما ىف ستة أيام وما مسه من لغوب وال يعجزه أحد من خلقه، وال

:يفوته، بل هو ىف قبضته أين كان، فإن فر منه فإمنا يطوى املراحل ىف يديه كما قيل إذا كان يطوى ىف يديك املراحالوكيف يفر املرء عنك بذنبه

ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إذنه إليه، ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات واألرض، ومل تسعه أرضه وال مساواته ومل حتط به خملوقاته، بل هو العاىل على

] أحبر[وال تبدل، ولو أن البحر ميده من بعده سبعة كل شيء وهو بكل شيء حميط، وال تنفد كلماتهمدادا وأشجار األرض أقالما، فكتب بذلك املداد وبتلك األقالم، لنفد املداد وفنيت األقالم، ومل تنفد

كما قاله -ولو كان كالمه خملوقا. كلماته إذ هى غري خملوقة، ويستحيل أن يفىن غري املخلوق باملخلوقلكان أحق بالفناء من هذا املداد وهذه األقالم، ألنه -قدره حق قدره، وال أثىن عليه مبا هو أهلهمن مل ي

إذا كان خملوقا فهو نوع من أنواع خملوقاته، وال حيتمل املخلوق إفناء هذا املداد وهذه األقالم وهو باق ال شيء أحب إليهم منه وال أشوق إليهم وهو سبحانه حيب رسله وعباده املؤمنني وحيبونه، بل. غري فان

من لقائه وال أقر لعيوهنم من رؤيته وال أحظى عندهم من قربه، وأنه سبحانه له احلكمة البالغة ىف خلقه وأمره وله النعمة السابغة على خلقه، وكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل، وأنه أرحم بعباده من

ة عبده من واجد راحلته الىت عليها طعامه وشرابه ىف األرض املهلكة بعد الوالدة بولدها وأنه أفرح بتوبفقدها واليأس منها، وأنه سبحانه مل يكلف عباده إال وسعهم وهو دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء

Page 100: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ويضيق عليهم، خبالف وسعهم فإنه ما يسعونه ويسهل عليهم ويفضل قدرهم عنه كما هو الواقع، وأنه ال يعاقب أحدا بغري فعله وال يعاقبه على فعل غريه، وال يعاقبه بترك ما ال يقدر على فعله وال سبحانه

حكيم كرمي جواد ما جد حمسن ودود وصبور شكور ] سبحانه[على فعل ما ال قدرة له على تركه، وأنه منه وال أحب إليه يطاع فيشكر ويعصى فيغفر، ال أحد أصرب على أذى مسعه منه، وال أحب إليه املدح

العذر منه، وال أحد أحب إليه اإلحسان منه، فهو حمسن حيب احملسنني، شكور حيب الشاكرين مجيل حيب اجلمال، طيب حيب كل طيب، نظيف حيب النظافة، عليم حيب العلماء من عباده، كرمي حيب

رار، عدل حيب أهل العدل حى الكرماء، قوى واملؤمن القوى أحب إليه من املؤمن الضعيف، بر حيب األبيعفو من عباده ويغفر هلم، صادق حيب الصادقني، ] من[ستري حيب أهل احلياء والستر عفو غفور حيب

وأهله، رحيم حيب الرمحاء، وتر حيب الوتر، وحيب أمساءه وصفات ] اجلود[رفيق حيب الرفق، جواد حيب عليه هبا وحيمده ] ويثىن[ا وحيب من يعرفها ويعقلها وحيب املتعبدين له هبا وحيب من يسأله ويدعوه هب

وميدحه هباال أحد أحب إليه المدح من اهللا من أجل ذلك أثنى : ((كما ىف الصحيح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم

فواحش ما ظهر منها وما بطن وال أحد أحب على نفسه، وال أحد أغير من اهللا من أجل ذلك حرم الال أحد : ((، وىف حديث آخر صحيح))إليه العذر من اهللا من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين

، وحملبته ألمسائه وصفاته أمر ))ا وهو يرزفقهم ويعافيهمأصبر على أذى سمعه من اهللا، يجعلون له ولدعباده مبوجبها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل واإلحسان والرب والعفو واجلود والصرب واملغفرة والرمحة والصدق والعلم والشكر واحللم واألناة والتثبت وملا كان سبحانه حيب أمساءه وصفاته كان أحب اخللقإليه من اتصف بالصفات الىت حيبها، وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات الىت يكرهها، فإمنا أبغض من اتصف بالكرب والعظمة واجلربوت ألن اتصافه هبا ظلم، إذ ال تليق به هذه الصفات وال حتسن منه، ملنافاهتا

به ومرتبته، وتعديه طوره وحده، لصفات العبيد، وخروج من اتصف هبا من ربقة العبودية ومفارقته ملنصوهذا خالف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرمحة واإلحسان والصرب والشكر فإهنا ال تناىف العبودية، بل اتصاف العبد هبا من كمال عبوديته، إذ املتصف هبا من العبيد مل يتعد طوره ومل خيرج هبا

ه لكمال أمسائه وصفاته موصوف بكل صفة كمال، منزه عن كل من دائرة العبودية واملقصود أنه سبحاناألمساء وال يثىن ] بأحسن[نقص، له كل ثناء حسن وال يصدر عنه إال كل فعل مجيل، وال يسمى إال

املعظم ذو اجلالل واإلكرام على كل ما قدره وخلقه، ] احملبوب[إال بأكمل الثناء وهو احملمود ] عليه[ .ما أمر به وشرعه ]كل[وعلى

Page 101: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومن كان له نصيب من معرفة أمسائه احلسىن واستقر آثارها ىف اخللق واألمر، رأى اخللق واألمر منتظمني حبسب معرفته هبا ما يليق بكماله وجالله أن يفعله -هبا أكمل انتظام، ورأى سريان آثارها فيهما وعلم

وحكمته، ] محده[وما ال يفعله فإنه ال يفعل خالف موجب وما ال يليق، فاستدل بأمسائه على ما يفعلهوكذلك يعلم ما يلبق به أن يأمر به ويشرعه مما ال يليق به، فيعلم أنه ال يأمر خبالف موجب محده

فإذا رأى بعض األحكام جورا وظلما أو سفها وعبثا ومفسدة أو ما ال يوجب محدا وثناء . وحكمتهه ليس من أحكامه وال دينه، وأنه بريء منه ورسوله، فإنه إمنا أمر بالعدل ال بالظلم وباملصلحة أن] فليعلم[

ال باملفسدة وباحلكمة ال بالعبث والسفه، وإمنا بعث رسوله باحلنيفية السمحة ال بالغلظة والشدة، وبعثه العاملني، ودينه كله رمحة، وهو نىب بالرمحة ال بالقسوة، فإنه أرحم الرامحني، ورسوله رمحة مهداة إىل

الرمحة وأمته األمة املرحومة وذلك كله موجب أمسائه احلسىن وصفاته العليا وأفعاله احلميدة، فال خيرب عنه .إال حبمده وال يثىن عليه إال بأحسن الثناء كما ال يسمى إال بأحسن األمساء

مره بأن محد نفسه ىف أول اخللق وآخره وعند األمر والشرع وقد نبه سبحانه على مشول محده خللقه وأباإلهلية وعلى حياته، ومحد نفسه على ] تفرده[ومحد نفسه على ربوبيته للعالمني، ومحد نفسه على

امتناع اتصافه مبا ال يليق بكماله من اختاذ الولد والشريك ومواالة أحد من خلقه حلاجته إليه، ومحد وكربيائه، ومحد نفسه ىف األوىل واآلخرة، وأخرب عن سريان محده ىف العامل العلوى نفسه على علوه

والسفلى، ونبه على هذا كله ىف كتابه ومحد نفسه عليه، فتنوع محده وأسباب محده، ومجعها تارة وفرقها أخرى ليتعرف إىل عباده ويعرفهم كيف حيمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبب إليهم بذلك

مالك يوم * الرحمن الرحيم * الحمد هللا رب العالمني {: قال تعاىل. م إذا عرفوه وأحبوه ومحدوهوحيبهالحمد هللا الذى خلق السموات واألرض وجعل الظلمات {: ، وقال تعاىل]٤ - ٢: الفاحتة* [}الدين

الحمد هللا الذى أنزل على عبده {: ، وقال تعاىل]١: األنعام* [}ن كفروا بربهم يعدلونوالنور ثم الذي، ]٢-١: الكهف* [}قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنني* الكتاب ولم يجعل له عوجا

حمد هللا الذى له ما فى السموات وما فى األرض وله الحمد فى اآلخرة وهو الحكيم ال{: وقالالحمد هللا فاطر السموات واألرض جاعل المالئكة رسال أولى {: ، وقال تعاىل]١: سبأ* [}الخبري

: ، وقال]١: فاطر* [}الث ورباع يزيد فى الخلق ما يشاء إن اهللا على كل شيء قديرأجنحة مثنى وث، ]٧٠: القصص* [}وهو اهللا ال إله إال هو له الحمد فى األولى واآلخرة وله الحكم وإليه ترجعون{

، ]٦٥: غافر* [} إله إال هو فادعوه مخلصني له الدين الحمد هللا رب العالمنيهو الحى ال{: وقالوله الحمد فى السموات واألرض وعشيا وحني * فسبحان اهللا حني تمسون وحني تصبحون {: وقال

].١٨ -١٧: الروم* [}تظهرون

Page 102: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أخرب عن محد خلقه له بعد فصله بينهم واحلكم ألهل طاعته بثوابه وكرامته واحلكم ألهل معصيته بعقابه ].٧٥: الزمر* [}وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد هللا رب العالمني{وإهانته

أن أهل النار مل يدخلوها إال حبمده، مل يدخلوها إال حبمده، كما] وأهنم[وأخرب عن محد أهل اجلنة له ، ]٤٣: األعراف* [}الحمد هللا الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لوال أن هدانا اهللا{: فقال أهل اجلنة

* }ن الحمد هللا رب العالمنيدعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سالم، وآخر دعواهم أ{وونزعنا * ويوم يناديهم فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون {: ، وقال عن أهل النار]١٠: يونس[

: القصص* [}وضل عنهم ما كانوا يفترونمن كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله ].١١: امللك* [}فاعترفوا بذنبهم فسحقا ألصحاب السعري{: ، وقال]٧٥ -٧٤

وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم وعلموا أهنم كانوا كاذبني ىف الدنيا مكذبني بآيات رهبم مشركني ن عليه، وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم وأخذهم ببعض حقه عليهم وأنه غري به جاحدين إلهليته مفتري

ظامل هلم وأهنم إمنا دخلوا النار بعدله ومحده وإمنا عوقبوا بأفعاهلم ومبا كانوا قادرين على فعله وتركه، ال التعبري عنه، وتفصيل هذه احلكمة مما ال سبيل للعقول البشرية إىل اإلحاطة به وال إىل . كما تقول اجلربية

ولكن باجلملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناء مجيل وكل محد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجالل وإكرام فهو هللا عز وجل على أكمل الوجوه وأمتها وأدومها، ومجيع ما يوصف به ويذكر به وخيرب عنه

لقه ثناء عليه بل هو كما فهو حمامد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وحبمده ال حيصى أحد من خأثىن على نفسه وفوق ما يثىن عليه خلقه، فله احلمد أوال وآخرا محدا كثريا طيبا مباركا فيه، كما ينبغى

.لكرم وجهه وعز جالله ورفيع جمده وعلو جده، وهذا والنوع الثاىن محد النعم واآلالء. فهذا تنبيه على أحد نوعى محده، وهو محد الصفات واألمساء

برها وفاجرها مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه وسعة عطاياه وكرمي أياديه ومجيل ] للخليقة] [مشهود[صنائعه وحسن معاملته لعباده وسعة رمحته هلم وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات املضطرين وكشف

ل السؤال ومن غري استحقاق بل كربات املكروبني وإغاثة امللهوفني ورمحته للعاملني وابتدائه بالنعم قب .ابتداء منه مبجرد فضله وكرمه وإحسانه ودفع احملن والباليا بعد انعقاد أسباهبا وصرفها بعد وقوعها

بأحسن األلطاف، وتبليغه من ذلك إىل ما ال تبلغه اآلمال، ] أراده[ولطفه تعاىل ىف ذلك بإيصاله إىل من م، ومدافعته عتهم أحسن الدفاع ومحايتهم عن مراتع اآلثام، وهدايته خاصته وعباده إىل سبل دار السال

وزينه ىف قلوهبم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين ] اإلميان[وحبب إليهم وكتب ىف قلوهبم اإلميان، وأيدهم بروح منه ومساهم املسلمني قبل أن خيلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه

وتبغضهم إليه باملعاصى وفقرهم إليه، ] عنهم] [غناه[يسألوه وحتبب إليهم بنعمة مع وأعطاهم قبل أن

Page 103: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومع هذا كله فاختذ هلم دارا وأعد هلم فيها من كل ما تشتيهه األنفس وتلذ األعني، ومألها من مجيع على ما ال عني رأت وال أذن مسعت وال خطر] والبهجة[اخلريات وأودعها من النعيم واحلربة والسرور

قلب بشر، مث أرسل إليهم الرسل يدعوهنم إليها، مث يسر هلم األسباب الىت توصلهم إليها وأعاهنم عليها، ورضى منهم باليسري ىف هذه املدة القصرية جدا باإلضافة إىل بقاء دار النعيم، وضمن هلم إن أحسنوا أن

دهم أن ميحو ما جنوه من السيئات مبا يثيبهم باحلسنة عشرا وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر هلم، ووعيفعلونه بعدها من احلسنات، وذكرهم بآالئه وتعرف إليهم بأمسائه، وأمرهم مبا أمرهم به رمحة منه هبم وإحسانا ال حاجة منه إليهم، وهناهم عما هناهم عنه محاية وصيانة هلم ال خبال منه عليهم وخاطبهم

لنصائح ووصاهم بأكمل الوصايا وأمرهم بأشرف اخلصال بألطف اخلطاب وأحاله ونصحهم بأحسن ا .وهناهم عن أقبح األقوال واألعمال

...)يتبع( ... ...فحقيقة نفس اإلنسان جاهلة ظاملة فقرية حمتاجة، والشر الذى): ١... تابع(@

وصرف هلم اآليات وضرب هلم األمثال ووسع هلم طرق العلم به ومعرفته وفتح هلم أبواب اهلداية رفهم األسباب الىت تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه، وخياطبهم بألطف اخلطاب ويسميهم وع

، ]٣١: النور* [}وتوبوا إلى اهللا جميعا أيها المؤمنون{، }يا أيها الذين آمنوا{: بأحسن أمسائهم كقولهوإذا سألك {، ]٣١: ابراهيم* [}قل لعبادى{، ]٥٣: الزمر[} هميا عبادى الذين أسرفوا على أنفس{

يأيها الناس اعبدوا {: ، فيخاطبهم خبطاب الوداد واحملبة والتلطف كقوله]١٨٦: البقرة* [}عبادى عنىي جعل لكم األرض فراشا والسماء بنآء وأنزل الذ* ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون

-٢١: البقرة* [}من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فال تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمونعليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء واألرض ال إله يأيها الناس اذكروا نعمة الله {، ]٢٢

يأيها الناس إن وعد الله حق فال تغرنكم الحياة الدنيا وال يغرنكم {، ]٣: فاطر* [}إال هو فأنى تؤفكون* }الذى خلقك فسواك فعدلك* يأيها اإلنسان ما غرك بربك الكرمي {، ]٥: فاطر* [}ربالله الغرو

واعتصموا * يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته وال تموتن إال وأنتم مسلمون {، ]٧ -٦: االنفطار[كم فأصبحتم بنعمته بل الله جميعا وال تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوببح

آل * [}الله لكم آياته لعلكم تهتدونإخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين يأيها الذين آمنوا ال تتخذوا بطانة من دونكم ال يألونكم خباال ودوا ما عنتم {، ]١٠٣ - ١٠٢: عمران

آل * [}أكبر قد بينا لكم االيات إن كنتم تعقلون قد بدت البغضآء من أفواههم وما تخفي صدورهموا يأيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة وقد كفر{] ١١٨: عمران

Page 104: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

لرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي بما جآءكم من الحق يخرجون اء له منكم فقد ضل سوآوابتغآء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم ومن يفع

يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن {، ]١:املمتحنة* [}السبيلين ظلموا منكم خآصة واعلموا واتقوا فتنة ال تصيبن الذ* الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون

واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في األرض تخافون أن يتخطفكم الناس * أن الله شديد العقاب يأيها الناس {، ]٢٦ - ٢٤: األنفال* [}كرونفآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تش

وإن يسلبهم ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له * }ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز* المطلوب الذباب شيئا ال يستنقذوه منه ضعف الطالب و

وإذا قلنا للمآلئكة اسجدوا الدم فسجدوا إال إبليس كان من الجن ففسق عن أمر {، ]٧٤ -٧٣: احلج[فتحت هذا ] ٥٠: الكهف* [}وليآء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمني بدالربه أفتتخذونه وذريته أ

وباعدته من قرىب إذ مل يسجد ألبيكم آدم، مث أنتم يا ] مسائى[إىن عاديت إبليس وطردته من : اخلطاب .بنيه توالونه وذريته من دوىن وهم أعداء لكم

اخلطاب وشدة لصوقه بالقلوب والتباسه باألرواح وأكثر القرآن جاء على هذا فليتأمل اللبيب مواقع هذا عباده أنه ال يرضى ] سبحانه[النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة، وأعلم

.هلم إال أكرم الوسائل وأفضل املنازل وأجل العلوم واملعارف: الزمر* [}الله غني عنكم وال يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم إن تكفروا فإن{: قال تعاىل

* }اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم اإلسالم دينا{]: تعاىل[، وقال ]٧يريد الله {: ، وقال]١٨٥: البقرة* [}يد اهللا بكم اليسر وال يريد بكم العسرير{: ، وقال]٣: املائدة[

والله يريد أن يتوب عليكم * ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم يريد الله أن يخفف عنكم وخلق اإلنسان * د الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميال عظيما ويري

].٢٨-٢٦: النساء* [}ضعيفاويتنصل سبحانه إىل عباده من مواضع الظنة والتهمة الىت نسبها إليه من يعرفه حق معرفته وال قدره حق

ن تكليف عباده ما ال يقدرون عليه وال طاقة هلم بفعله البتة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، م: قدرهوخلق السموات واألرض وما بينهما ال حلكمة وال لغاية، وأنه مل خيلق خلقه حلاجة منه إليهم، وال

ما أريد منهم من * ال ليعبدون وما خلقت الجن واإلنس إ{: ليتكثر هبم من قلة وال ليتعزز هبم كما قال، فأخرب أنه مل خيلق اجلن واإلنس حلاجة منه إليهم، ]٥٧ -٥٦: الذاريات* [}رزق وما أريد أن يطعمون

إن أحسنتم {: وال لريبح عليهم، لكن خلقهم جودا وإحسانا ليعبدوه فريحبوا هم عليه كل األرباح كقوله

Page 105: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، وملا ]٤٤: الروم* [}ومن عمل صالحا فألنفسهم يمهدون{، ]٧: اإلسراء* [}حسنتم ألنفسكمأأمرهم بالوضوء وبالغسل من اجلنابة الذى حيط عنهم أوزارهم ويدخلون به عليه ويرفع به درجاهتم، قال

من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم ما يريد اهللا ليجعل عليكم {: تعاىللن ينال اهللا لحومها وال دماؤها ولكن يناله {: ، وقال ىف األضاحى واهلدايا]٦: املائدة* [}تشكرون

وال {: رهم بالصدقة وهنيهم عن إخراج الرديء من املال، وقال عقيب أم]٣٧: احلج* [}التقوى منكم: البقرة* [}حميدتيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إال أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني

٢٦٧.[ مستحق احملامد كلها، فإنفاكم ال يسد ] يدمح[إىن غىن عما تنفقون أن ينالىن منه شيء، : يقول سبحانه

إمنا نفعه ] وإنفاقكم[منه حاجة وال يوجب له محدا، بل هو الغىن بنفسه احلميد بنفسه وأمسائه وصفاته على من مل يباشر قلبه حالوة هذا اخلطاب وجاللته ولطف موقعه، ] املتعني[ومن . لكم وعائدته عليكم

هلا أن يعاجل قلبه بالتقوى، وأن يستفرغ منه املواد الفاسدة الىت حالت وجذبه للقلوب واألرواح وخمالطته بينه وبني حظه من ذلك، ويتعرض إىل األسباب الىت يناله هبا، من صدق الرغبة واللجإ إىل اهللا أن حيىي

متع قلبه ويزكيه وجيعل فيه اإلميان واحلكمة، فالقلب امليت ال يذوق طعم اإلميان وال جيد حالوته وال يتباحلياة الطيبة ال ىف الدنيا وال ىف اآلخرة ومن أراد مطالعة أصول النعم فليسم سرح الذكر ىف رياض القرآن، وليتأمل ما عدد اهللا فيه من نعمه وتعرف هبا إىل عباده من أول القرآن إىل آخره حني خلق أهل

شهوات واإلرادات واهلوى لتعظم النار وابتالهم بإبليس وحزبه وتسليط أعدائهم عليهم وامتحاهنم بالعلى أوليائه وعباده أمت نعمة وأكملها ىف كل ما خلقه من ] أعداء اهللا[النعمة عليهم مبخالفتها وحماربتها،

حمبوب ومكروه، ونعمة وحمنة وىف كل ما أحدثه ىف األرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه ألوليائه، وىف كل .به أقالم الدنيا وأوراقها وال قوى العباد، وإمنا هو التنبيه واإلشارةما قضاه وقدره، وتفصيل ذلك ال تفى

ومن استقرئ األمساء احلسىن وجدها مدائح وثناء تقصر بالغات الواصفني عن بلوغ كنهها، وتعجز األوهام عن اإلحاطة بالواحد منها ومع ذلك فاهللا سبحانه حمامد ومدائح وأنواع من الثناء مل تتحرك هبا

.طر وال هجست ىف الضمائر وال الحت ملتوسم وال سنحت ىف فكراخلواأسألك بكل اسم هو لك سميت : ((ففى دعاء أعرف اخللق بربه تعاىل وأعلمهم بأمسائه وصفاته وحمامده

ستأثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل به نفسك أو أنزلته فى كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو ا )).القرآن ربيع قلبى ونور صدرى وجالء حزنى وذهاب همى وغمى

فيفتح قلبى من : ((وىف الصحيح عنه صلى اهللا عليه وسلم ىف حديث الشفاعة ملا يسجد بني يدى ربه قالأعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من : [، وكان يقول ىف سجوده))بشيء ال أحسنه اآلن محامده

Page 106: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، فال حيصى أحد من ))أعوذ بك منك، ال أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك] ((عقوبتكيعلمه ملك مقرب وال نىب مرسل، ونسبة ما يعلم خلقه ثناء عليه البتة، وله أمساء وأوصاف ومحد وثناء ال .العباد من ذلك إىل ما ال يعلمونه كنقرة عصفور ىف حبر

فكيف تصنعون مبا يشاهد من أنواع االبتالء واالمتحان واآلالم لألطفال واحليوانات ومن هو : فإن قيلالدالة على ذلك من املنتقم خارج عن التكليف ومن ال ثواب وال عقاب عليه؟ وما تقولون ىف األمساء

قد تقدم من الكالم ىف ذلك ما يكفى بعضه لذى الفطرة السليمة : والقابض واخلافض وحنوها؟ قيلوالعقل املستقيم وأما من فسدت فطرته وانتكس قلبه وضعفت بصرية عقله فلو ضرب له من األمثال ما

دم إيضاحا وبيانا إذ بسط هذا املقام أوىل من ضرب فإنه ال يزيده إال عمى وحتريا وحنن نزيد ما تققد علمت أن مجيع أمساء الرب سبحانه حسىن وصفاته كمال وأفعاله حكمة ومصلحة، : اختصاره فنقول

ال ىف ذاته . وله كل ثناء وكل محد ومدحه وكل خري فمنه وله وبيده، والشر ليس إليه بوجه من الوجوه ىف أمسائه، وإن كان ىف مفعوالته فهو خري بإضافته إليه وشر بإضافته إىل وال ىف صفاته وال ىف أفعاله وال

فتمسك هبذا األصل وال تفارقه ىف كل دقيق وجليل، وحكمه على كل ما يرد . من صدر عنه ووقع به .عليك، وحاكم إليه واجعله آخرتك الىت ترجع إليها وتعتمد عليها

خيتص به من يشاء، وذلك موجب ربوبيته وإهليته ومحده واعلم أن هللا خصائص ىف خلقه ورمحة وفضال وحكمته، فإياك مث إياك أن تصغى إىل وسوسة شياطني اإلنس واجلن والنفس اجلاهلة الظاملة إنه هال سوى بني عباده ىف تلك اخلصائص وقسمها بينهم على السواء، فإن هذا عني اجلهل والسفه من املعترض

ولكن اعلم أن األمر قسمة بني فضله وعدله، . م أن حكمته تأىب ذلك ومتنع منهبه، وقد بينا فيما تقدفيختص برمحته من يشاء ويقصد بعذابه من يشاء وهو احملمود على هذا، فالطيبون من خلقه خمصوصون بفضله ورمحته، واخلبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من احلكمة واالبتالء واالمتحان، وكل

تعمل فيما هو له مهيأ وله خملوق، وكل ذلك خري ونفع ورمحة للمؤمنني فإنه تعاىل خلقهم للخريات مسفهم هلا عاملني، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إال به وال استحقوه إال مبا سبق هلم من مشيئته

بشيء من كيده أو وقسمته، فكذلك ال تضرهم األدواء وال السموم، بل مىت وسوس هلم العدو واغتاهلم مسهم بشيء من طيفة تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخواهنم ميدوهنم ىف الغى مث ال يقصرون وإذا واقعوا ىف معصية صغرية أو كبرية عاد ذلك عليهم رمحة وانقلب ىف حقهم دواء وبدل حسنة بالتوبة النصوح

بيده وعصمتهم إليه حيث نقض واحلسنات املاحية، ألنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله وبأن قلوهبم عزماهتم وقد عزموا أن ال يعصوه، وأراهم عزته ىف قضائه، وبره وإحسانه ىف عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم واجلهل، وأشدهم حاجتهم إليه وافتقارهم وذهلم، وأنه إن مل يعف

Page 107: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إهنم ملا أعطوا من أنفسهم العزم أن ال يعصون وعقدوا عنهم ويغفر هلم فليس هلم سبيل إىل النجاة أبدا، فعليه قلوهبم مث عصوه مبشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم اقتداره ومجيل ستره إياهم وكرمي حلمه عنهم وسعة مغفرته هلم برد عفوه وحنانه وعطفه ورأفته، وأنه حليم ذو أناة ال يعجل ورحيم سبقت رمحته

إليه بالتوبة وجدوه غفورا رحيما، حليما كرميا، يغفر هلم السيئات ويقيلهم غضبه، وأهنم مىت رجعوا .العثرات ويودهم بعد التوبة وحيبهم

فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاء وتوسلوا إليه بذل العبيد وعزا الربوبية فتعرف سبحانه إليهم حبسن إجابته توبة واإلنابة وأقبلوا بقلوهبم إليه بعد إعراضها ومجيل عطفه وحسن امتنانه ىف أن أهلمهم دعاءه ويسرهم لل

عنه، ومل متنعه معاصيهم وجناياهتم من عطفه عليهم وبره هلم وإحسانه إليهم فتاب عليهم قبل أن يتوبوا فعرفهم : إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرف إليهم تعرفا آخر

وسعة مغفرته وكرمي عفوه ومجيل صفحه وبره وامتنانه وكرمه وشرعه، ومبادرته رمحته وحسن عائدتهقبوهلم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور واإليضاع ىف طرق معاصيه، وأشهدهم مع ذلك محده العظيم وبره العميم، وكرمه ىف أن خلى بينهم وبني املعصية فنالوها بنعمته وإعانته، مث مل خيل بينهم وبني ما توجبه من اإلهالك والفساد الذى ال يرجى معه صالح، بل تداركهم بالدواء الشاىف فاستخرج منهم داء لو استمر معهم ألفضى إىل اهلالك، مث تداركهم بروح الرجاء فقذفه ىف قلوهبم وأخرب

من عصاه فقط ألورثهم أنه عند ظنوهنم به، ولو أشهدهم عظم اجلناية وقبح املعصية وغضبه ومقته علىذلك املرض القاتل أو الداء العضال من اليأس من روحه والقنوط من رمحته، وكان ذلك عني هالكهم، ولكن رمحهم قبل البالء وىف حشو البالء وبعد البالء وجعل تلك اآلثار الىت توجبها معصيته من احملن

ل الزلفى والكرامة عنده، فأشهدهم باجلناية عزة والبالء والشدائد رمحة هلم وسببا إىل علو درجاهتم ونيالربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إىل منازل قربه ونيل كرامته، فهم على كل حال يرحبون عليه يتقلبون ىف كرمه وإحسانه، وكل قضاء يقضيه للمؤمن فهو خري به يسوقه إىل كرامته وثوابه، وكذلك

م، فإذا استرجعها أيضا منهم وسلبهم إياها انقلبت من عطايا اآلخرة ما عطاياه الدنيوية نعم منه عليه :قيل

إن اهللا ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا اآلخرة، والرب سبحانه قد جتلى نه لقلوب املؤمنني العارفني وظهر هلا بقدرته وجالله وكربيائه ومضى مشيئته وعظيم سلطانه وعلو شأ

وكرمه وبره وإحسانه وسعة مغفرته ورمحته وما ألقاه ىف قلوهبم من اإلميان بأمسائه وصفاته إىل حيث احتملته القوى البشرية ووراءه مما ال حتتمله قواهم وال خيطر ببال وال يدخل ىف خلد مما ال نسبة ملا عرفوه

.إليه

Page 108: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الكفر والشرك والتقلب ىف غضبه وسخطه فاعلم أن الذين كان قسمهم أنواع املعاصى والفجور، وفنون وقلوهبم وأرواحهم شاهدة عليهم باملعاصى والكفر مقرة بأن له احلجة عليهم وأن حقه قبلهم، وال يذكر أحد منهم النار إال وهو شاهد بذلك مقر به معترف اعتراف طائع ال مكره مضطهد، فهذه شهادهتم

يشهدون فيهم بشهادة أخرى ال يشهد هبا أعداؤه، ولو على أنفسهم وشهادة أوليائه عليهم واملؤمنون شهدوا هبا وباؤا هبا لكانت رمحته أقرب إليهم من عقوبته، فيشهدون أهنم عبيده وملكه وأنه أوجدهم ليظهر هبم جمده وينفذ فيهم حكمه وميضى فيهم عدله، وحيق عليهم كلمته ويصدق فيهم وعيده ويبني

رهم ومساكنهم الىت هى حمل عدله وحكمته، وشهد أولياؤه عظيم ملكه فيهم سابق علمه، ويعمر هبم دياوعز سلطانه وصدق رسله وكمال حكمته ومتام نعمته عليهم وقدر ما اختصهم به ومن أى شيء محاهم وصاهنم، وأى شيء صرف عنهم، وأنه مل يكن هلم إليه وسيلة قبل وجوده يتوسلون هبا إليه أن ال جيعلهم

وأن جيعلهم من أصحاب اليميىن، وشهدوا له سبحانه بأن ما كان منه إليهم وفيهم من أصحاب الشمال .مما يقتضيه إمتام كلماته الصدق والعدل قوله وحتقق مقتضى أمسائه فهو حمض حقه

وكل ذلك منه حسن مجيل له عليه أمت محد وأكمله وأفضله، وهو حكم عدل وقضاء فصل، وأنه احملمود ه منه ظلم وال جور وال عبث، بل ذلك عني احلكمة وحمض احلمد وكمال على ذلك كله فال يلحق

أظهره ىف حقه وعز أبداه وملك أعلنه ومراد له أنفذه كما فعل بالبدن وضروب األنعام أمت هبا مناسك أوليائه وقرابني عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إىل األنعام هالكا وإتالفا، فأعداؤه الكفار املشركون به

:احدون أو ىل أن تكون دماؤهم قرابني أوليائه وضحايا اجملاهدين ىف سبيله، كما قال حسان بن ثابتاجل يرونه قرباهنــم بدماء من علقوا من الكفار -يتطهرون

وكذلك ملا ضحى خالد بن عبد اهللا القسرى بشيخ املعطلة الفرعونية جعد بن درهم، فإن خطبهم ىف يوم أيها الناس ضحوا تقبل اهللا ضحاياكم، فإىن مضح باجلعد بن درهم، إنه : الأضحى، فلما أكمل خطبته ق

زعم أن اهللا مل يكلم موسى تكليما، ومل يتخذ إبراهيم خليال، تعاىل عما يقول اجلعد علوا كبريا، مث نزل ه، وذكر ذلك البخارى ىف كتاب خلق األفعال، فهذا شهود أوليائه من شأن أعدائ. فذحبه، فكان ضحيته

ولكن أعداؤه ىف غفلة عن هذا ال يشهدونه وال يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به ألدركهم حنانه ورمحته، ولكن ملا حجبوا عن معرفته وحمبته وتوحيده وإثبات أمسائه احلسىن وصفاته العليا ووصفه مبا يليق

وأبعدوا عنه بأقصى البعد به وتنزيهه عما ال يليق به صاروا أسوأ حاال من األنعام وضربوا باحلجاب،وأخرجوا من نوره إىل الظلمات، وغيبت قلوهبم ىف اجلهل به وبكماله وجالله وعظمته ىف غابات، ليتم

.عليهم أمده، وينفذ فيهم حكمه، واهللا عليم حكيم، واهللا أعلم فصل

Page 109: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ىف أن اهللا خلق دارين وخص كل دار بأهل@(موصوف بالرضا والغضب والعطاء واملنع واخلفض والرفع واهللا سبحانه مع كونه خالق كل شيء فهو

والرمحة واالنتقام، فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارا لطالىب رضاه العاملني بطاعته املؤثرين ألمره القائمني مبحابة وهى اجلنة، وجعل فيها كل شيء مرضى ومألها من كل حمبوب ومرغوب ومشتهى

.ها، وجعلها حمل كل طيب من الذوات والصفات واألقوالولذيذ، وجعل اخلري حبذافريه فيوخلق دارا أخرى لطالىب أسباب غضبه وسخطه، املؤثرين ألغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملني بأنواع خمالفته، القائمني مبا يكره من األعمال واألقوال، الواصفني له مبا ال يليق به، اجلاحدين ملا أخربت

كماله ونعوت جالله ملا أخربت به رسله من صفات كماله ونعوت جالله، وهى به رسله من صفات جهنم، وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤمل، وجعل الشر حبذافريه فيها،

.وجعلها حمل كل خبيث من الذوات والصفات واألقوال واألعمالهى كامليناء هلاتني الدارين، ومنها يتزود املسافرون وخلق دارا ثالثة. فهاتان الداران مها دارا القرار

إليهما، وهى دار الدنيا، مث أخرج إليها من أمثار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أرباهبما وما يستدل به وجه شهادة تستأنس به النفوس -وإن كان غيبا -عليهما، حىت كأهنما رأى عني، ليصري لإلميان بالدارين

ج سبحانه إىل هذه الدار من آثار رمحته من الثمار والفواكه والطيبات واملالبس الفاخرة وتسدل به، فأخروالصور اجلميلة وسائر مالذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار الىت جعل ذلك كله فيها

:يلعلى وجه الكمال، فإذا رآه املؤمنون ذكرهم مبا هناك من اخلري والسرور والعيش الرخى كما ق فإذا رآك املسلمون تيقنوا حور اجلنان لدى النعيم اخلالد

اللهم ال عيش إال عيش اآلخرة وأحدثت هلم رؤيته عزمات ومهما وجدا وتشمريا، : فشمروا إليها وقالوا: ألن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر جبنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه وال سبيل له إليه قال

.ك اجلنة، وإمنا هى عشية أو ضحاهاموعدفوجود تلك املشتهيات وامللذوذات ىف هذه الدار رمحة من اهللا يسوق هبا عباده املؤمنني إىل تلك الدار الىت هى أكمل منها، وزاد هلم من هذه الدار إليها، فهى زاد وعربة ودليل، وأثر من آثار رمحته الىت

تها إىل ما أمامه، ويثري ساكن عزماته إىل تلك، فنفسه ذواقة تواقة، أودعها تلك الدار، فاملؤمن يهتز برؤي .إذا ذاقت شيئا منها تاقت إىل ما هو أكمل منه حىت تتوق إىل النعيم املقيم ىف جوار الرب الكرمي

وأخرج سبحانه إىل هذه الدار أيضا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات واآلالم واحملن واملكروهات من ن والصفات ما يستدل جبنسه على ما ىف دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفسني الشتاء األعيا

Page 110: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

والصيف اللذين أذن اهللا سبحانه حبكمته جلهنم أن تتنفس هبما، فاقتضى ذانك النفسان آثارا ظهرت ىف .هذه الدار كانت دليال عليها وعربة

* }نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين{: قوله ىف نار الدنياوقد أشار تعاىل إىل هذا املعىن ونبه عليه بأقوى الرجل إذا : ، تذكرة تذكر هبا اآلخرة ومنفعة للنازلني بالقواء وهم املسافرون، يقال]٧٣: الواقعة[

للمسافرين نزل بالقى والقوى وهى األرض اخلالية، وخص املقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامةعلى أهنم كلهم مسافرون وأهنم ىف هذه الدار على -واهللا أعلم مبراده من كالمه -واملقيمني تنبيها لعباده

واملقصود أنه سبحانه أشهد . جناح سفر ليسوا هم مقيمني وال مستوطنني وأهنم عابرو سبيل وأبناء سفروأخرج إىل هذه الدار من آثار رمحته وعقوبته ما ما أعد ألوليائه وأعدائه ىف دار القرار، ] الدار[ىف هذه

هو عربة وداللة على ما هناك من خري وشر، وجعل هذه العقوبات واآلالم واحملن والباليا سياطا يسوق هبا عباده املؤمنني، فإذا رأوها حذروا كل احلذر واستدلوا مبا رأوه منها وشاهدوه على ما ىف تلك الدار

ت، وكان وجودها ىف هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحاهنم باليسري منها رمحة من املكروهات والعقوباوملا كانت هذه الدار ممزوجا خريها بشرها وأذاها براحتها . منه هبم وإحسانا إليهم وتذكرة وتنبيها

ونعيمها بعذاهبا اقتضت حكمة أحكم احلاكمني أن خلص خريها من شرها وخصه بدار أخرى هى دار ت احملضة ودار السرر احملضة، فكتب على هذه الدار حكم االمتزاج واالختالط وخلط فيها بني اخلريا

.الفريقني، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة هبرت العقول وعزة قاهرةها إال على فقام هبذا االختالط سوق العبودية كما حيبه ويرضاه، ومل تكن تقوم عبوديته الىت حيبها ويرضا

هذا الوجه، بل العبد الواحد مجع فيه بني أسباب اخلري والشر، وسلط بعضه على بعض ليستخرج منه ما فلما حصلت احلكمة املطلوبة من هذا االمتزاج واالختالط . حيبه من العبودية الىت ال حتصل إال بذلك

ار ما يناسبها، وأسكن فيها من أعقبه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين وحملني، وجعل لكل دفهؤالء : يناسبها، وخلق املؤمنني املتقني املخلصني لرمحته، وأعداءه الكافرين لنقمته، واملخلصني لألمرين

.وقسم آخر ال يستحقون ثوابا وال عقابا. أهل الرمحة وهؤالء أهل النقمة، وهؤالء أهل النقمة والرمحةخلمسة حكمه الالئق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد ورتب على كل قسم من هذه األقسام ا

كمال قدرته وحكمته وأنه خيلق ما يشاء، وخيتار من خلقه من يصلح لالختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، وجيمع بينهما ىف احملل املقتضى لذلك، وال يظلم أحدا وال يبخسه شيئا من حقه وال يعاقبه بغري جنايته،

من استخراج صربهم : ع ما ىف ضمن هذا االبتالء واالمتحان من احلكم الراجعة إىل العبيد أنفسهمهذا موشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كماالهتم الكامنة ىف نفسهم من القوة إىل الفعل، ودفع األسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء مبقابلة ومصادمته بضده، لتظهر عليه آثار القهر ومسات

Page 111: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

لضعف والعجز ويتيقن العبد أن القهار ال يكون إال واحدا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر افامللك والقدرة والقوة والعزة كلها هللا الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له : والوحدة متالزمان

ا وتذهب هبا، فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورهت: ضد ومناف ومشاركوخلق املاء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلط عليها املاء يكسرها ويطفئها، وخلق احلديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق احلجارة وسلط عليها احلديد يكسرها ويفتتها، وخلق

ط عليهم املالئكة يشردوهنم كل مشرد آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلويطردوهنم كل مطرد، وخلق احلر والربد والشتاء والصيف وسلط كال منها على اآلخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كال منهما باآلخر، وكذلك احليوان على اختالف ضروبه من حيوان الرب

فطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من متام والبحر لكل منه مضاد ومغالب، فاستبان للعقول والملكه إجياد العامل على هذا الوجه وربط بعضه على بعض وإحواج بعضه إىل بعض وقهر بعضه ببعض وابتالء بعضه ببعض وامتزاج خريه بشره، وجعل شره خلريه الفداء، وهلذا يدفع إىل كل مؤمن يوم القيامة

النار، وهكذا املؤمن ىف الدنيا يسلط عليه من االبتالء واالمتحان هذا فداؤك من: كافر فيقال لهواملصائب ما يكون فداءه من عذاب اهللا، وقد تكون تلك األسباب فداء له من شرور أكثر منها ىف هذا

.العامل أيضا، فليعط اللبيب هذا املوضع حقه من التدبر يتبني له حكمة اللطيف اخلبري فصل

باده على الفطرةيف أن اهللا خلق عوقد تقرر أن اهللا سبحانه كامل الصفات له األمساء احلسىن، وال يكون عن الكامل ىف ذاته وصفاته إال الفعل احملكم، وهو سبحانه خلق عباده على الفطرة، وكل مولود فإمنا يولد على الفطرة الىت فطر اخلالئق

الفطرة، ويعدلون هبم عنها، ولو تركوهم ملا عليها، ولكن اآلباء والكافلني للمولودين خيرجوهنم من اختاروا عليها غريها، ولكن أخرجوهم عن سنن احلنيفية وأفسدوا فطرهم وقلوهبم، وهكذا باألضداد واألغيار خيرج بعض املخلوقات عن سنن اإلتقان واحلكمة، ولوال تلك األضداد واألغيار لكانت ىف

:مرتبتها كامللود ىف فطرته ولذلك أمثلة أن املاء خلقه اهللا طاهرا مطهرا ، فلو ترك على حالته الىت خلق اهللا عليها ومل خيالطه ما يزيل :املثال األول

طهارته مل يكن طاهرا ، ولكن مبخاطة أضداده من األجناس واألقذار تغريت اوصافه وخرج عن الخلقة الطفل وكافليه الذين يهودانه الىت خلق عليها ، فكانت تلك الجناسات والقاذورات مبنزلة أيوى

وينصرونه وميجسونه ويشركونه ، وكما أن املاء إذا فسد مبخالطته األجناس والقاذورات مل يصلح .للطهارة ، فكذلك القلوب إذا فسدت فطرها باألغيار مل تصلح حلظرية القدس

Page 112: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الغذاء واملنافع اليت يصلح الشراب املعتصر من العنب ، فإنه طيب يصلح للدواء وإلصالح : املثال الثاين هلا ، فلو خلي على حاله مل يكن إال طاهرا طيبا ولكن أفسد بتهيئته للسكر واختاذه مسكرا ، فخرج

فلو انقلب خال أو . بذلك عن خلقته اليت خلق عليها من الطهارة والطيب ، فصار أخبث شيء وأجنسه .زال بزواهلا واهللا أعلم

طيبة النافعة إذا خالطت باطن احليوان واستقرت هنالك خرجت عن حالتها اليت األغذية ال: املثال الثالث خلقت عليها واكتسبت هبذه املخالطة واجملاورة خبثا وفسادا مل يكن فيها لسلوكها يف غري طرقها اليت هبا

ا بسبب وملا أنزل اهللا املاء طاهرا نافعا فمازج األرض سالت به أوديتها أوجد جل جالله بينهم. كماهلا هذه املخالطة واملمازجة أنواع الثمار والفواكه والزروع والنخيل والزيتون وسائر األغذية واألقوات

: وأوجد مع ذلك املر والشوك واحلنظل وغري ذلك ، واللقاح واحد ، ولكن األم خمتلفة ، قال تعاىل رع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بمآء واحد وفي األرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وز{

، مث إنه سبحانه ]٤: الرعد* [}ونفضل بعضها على بعض في االكل إن في ذلك اليات لقوم يعقلوناجملاورة عن طبيعته إىل طبيعة يصرف ما أخرجه من هذا املاء وبقلبه وحييل بعضه إىل بعضه باملخالطة و

أخرى ، وهذا كما خلق كل دابة من ماء مث خالف بني صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما يصلح هلا وكذلك . ، وأمشى بعضا على بطنه وبعضا على رجلني وبعضا على أربع ، حكمة بالغة وقدرة باهرة

ب أحوال العامل كما يشاء ويسلك بذلك مسلك سبحانه يقلب الليل والنهار ويقلب ما يوجد فيهما ويقل* }أال له الخلق واألمر تبارك الله رب العالمني{: احلكمة البالغة اليت هبا يتم مراده ويظهر ملكه

].٥٤: األعراف[محده وهذا القرآن اجمليد عمدته ومقصوده اإلخبار عن صفات الرب سبحانه وأمسائه وأفعاله وأنواع

والثناء عليه واإلنباء عن عظمته وعزته وحكمته ، وأنواع صنعه والتقدم إىل عباده بأمره وهنيه على ألسنة رسله ، وتصديقه يفهم مبا أقامه من الشواهد والدالالت على صدقهم وبراهني ذلك ودالئله وتبيني مراده

وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به من ذلك كله ، وكان من متام ذلك اإلخبار عن الكافرين واملكذبنيرساالت رهبم ووصف كفرهم وعنادهم وكيف كذبوا على اهللا وكذبوا رسله وردوا أمره ومصاحله ، فكان يف اجتالب ذلك من العلوم واملعارف والبيان وضوح شواهد احلق وقيام أدلته وتنوعها ، وكان

لثناء عليه ، وإن أمساءه احلسىن وصفاته العليا هي موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعاىل وتنزيهه من ا .موضع احلمد ، ومن متام محده تسبيحه وتنزيهه عما وصفه به أعداؤه واجلاهلون به مما ال يليق به

وكان يف تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم واملعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع احلمد ما يف معرفة ما يضاده وخيالفه ، وهلذا كان تسبيحه تعاىل من متام محده ، بيان حماسن الشيء وكماله عند

Page 113: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومحده من متام تسبيحه ، وهلذا كان التسبيح والتحميد قربتني ، وكان ما نسبه إليه أعداؤه ، واملعطلون من علوه على خلقه وإنزاله كالمه الذي تكلم به على رسله وغري ذلك مما نزه عنه -لصفات كمالهبه نفسه ن وكان يف ذلك ظهور محده يف خلقه وتنوع أسبابه وكثرة شواهده وسعة طرق نفسه وسبح

الثناء عليه به وتقرير عظمته ومعرفته يف قلوب عباده ، فلوال معرفة االسباب اليت يسبح وينزه ويتعاىل ما ال يليق به فلما رأوا يف خلقه من قد نسبه إىل. عنها ، وخلق من يضفيها إليه ويصفه هبا ، ملا ينزهونه

وجحد من كماله ما هو أوىل به سبحوه ، وحينئذ تسبيح جمل له معظم له منزه عن أمر قد نسبه إليه على النفي -وهي شهادة أن ال إله إال اهللا -أعداؤه واملعطلون لصفاته ونظري هذا اشتمال كلمة اإلسالم

قرير اإلثبات وحتقيق معىن اإلهلية وجتريد واإلثبات ، فكان يف اإلتيان بالنفي يف صدر هذه الكلمة من تالتوحيد الذي قصد بنفي اإلهلية عن كل ما ادعيت فيه سوى اإلله احلق تبارك وتعاىل ، فتجريد هذا التوحيد من العقد واللسان يتصور إثبات اإلهلية لغري اهللا كما قاله أعداؤه املشركون ونفيه وإبطاله من

وكماله وتقريره وظهور أعالمه ووضوح شواهده وصدق براهينه القلب واللسان من متام التوحيدونظري ذلك أيضا أن تكذيب أعداء الرسل وردهم ما جاؤوهم به كان من األسباب املوجبة ظهور براهني صدق الرسل ودفع ما احتج به أعداؤهم عليهم من الشبه الداحضة ودحض حججهم الباطلة وتقرير

فإن الباطل كلما ظهر فساده وبطالنه أسفر وجه احلق واستنارت معامله طرق الرسالة وإيضاح أدلتها،ووضحت سبله وتقررت براهينه، فكسر الباطل ودحض حججه وإقامة الدليل على بطالنه من أدلة احلق

.وبراهينهفتأمل كيف اقتضى احلق وجود الباطل، وكيف مت ظهور احلق بوجود الباطل، وكيف كان كفر أعدا

وتكذيبهم هلم ودفعهم ما جاؤوا به وهو من متام صدق الرسل وثبوت رساالت اهللا وقيام الرسل هبمحججه على العباد، ولنضرب لذلك مثاال يتبني به، وهو ملك له عبد قد توحد ىف العامل بالشجاعة

هو خبالف ما يظن به فإنه مل : هو كذلك ومن قائل: والبسالة والناس بني مصدق ومكذب، فمن قائلفسمع به . ابل الشجعان وال واجه األقران، ولو بارز األقران وقابل الشجاعة لظهر أمره وانكشف حالهيق

شجعان العامل وأبطاهلم فقصدوه من كل صوب وأتوه من كل قطر، فأراد امللك أن يظهر لرعيته ما هو فهل . أنكم بهدونكم وإياه وش: عليه من الشجاعة فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته وقال

تسليط امللك ألولئك على عبده ومملوكه إال إلعالء شأنه وإظهار شجاعته ىف العامل وختويف أعدائه به، وقضاء امللك أوطاره به، كما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك،

وخزيهم وأهنم ليسوا فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم ممن يصلح ملهمات امللك وحوائجه فإذا عدل هبم عن مهماته وواليته وعدل هبا عنهم كان ذلك مقتضى

Page 114: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

حكمة امللك وحسن تصرفه ىف ملكه وأنه لو استعملهم ىف تلك املهمات لتشوش أمر اململكة وحصل .اخللل والفساد واهللا أعلم بالشاكرين

ضادة للحق وإظهارها ىف مقابلة احلق من أبني داللته وشواهده، فكان ىف واملقصود أن خلق األسباب املتلك احلكمة، وهى أحب إىل اهللا من تفويتها بتقدير تفويت هذه ] لفاتت[خلقها من احلكمة ما لو فاتت

.واهللا أعلم. األسباب فصل

.ت عنها هذه الطرقىف بيان ما للناس ىف دخول الشر ىف القضاء اإلهلي من الطرق واألصول الىت تفرعوللناس طرق ىف دخول الشر ىف القضاء اإلهلى فنذكرها ونذكر أصوهلم الىت تفرعت عليها هذه الطرق

أحدمها قول أهل اإلسالم وأتباع املرسلني كلهم إن اهللا سبحانه فعال ملا : للناس قوالن: فنقول. قبل ذلكا مل يشأ مل يكن، وهو الذى يعرب عنه متأخرو يريد يفعل باختياره وقدرته ومشيئته، فما شاء كان وم

)).فاعال باالختيار: ((املتكلمني بكونهصدر العلم عنه تعاىل صدورا ذاتيا كصدور النور عن الشمس : وللفريق الثاىن قول من نفى ذلك، وقال

ه موجبات ومصدر)). اإلجياب الذاتى((واحلرارة عن النار والتربيد عن املاء، ويسمى املتكلمون هذا الذات، وهذا قول الفالسفة املشائني وهو الذى يذكره ابن اخلطيب وغريه عن الفالسفة، وال حيكى عنهم غريه، وإمنا هو قول املشائني، وقربه متأخرهم وفاضلهم ابن سينا إىل اإلسالم بعض التقريب، مع

.مباينته ملا جاءت به الرسل، وملا دل عليه صريح العقل والفطرةلفريقان متفقون على أن مصدر الكائنات بأسرها خري حمض من مجيع الوجوه وكمال صرف، ووجود وا

وال جرم اختلفت طرقهم ىف كيفية دخول الشر ىف . الشر ىف العامل مشهود، واخلري ال يصدر عنه إال خري :القضاء اإلهلى وتنوعت إىل أربعة طرق

األسباب، فإهنم سدوا على أنفسهم هذا الباب وأثبتوا مشيئة طريق نفاة التعليل واحلكمة و: الطريق األولحمضة ال غاية هلا وال سبب وال حكمة تفعل ألجلها، وال يتوقف فعل املختار هبا على مصلحة وال حكمة، وال غاية هلا تفعل، بل كل مقدور حيسن منه فعله، وال حقيقة عندهم للقبيح لوال املستحيل لذاته

وهؤالء نفوا مسمى الرمحة واحلكمة وإن أقروا بلفظ ال حقيقة له، وكان . ة عليهالذى ال يوصف بالقدرأرحم الرامحني : شيخهم اجلهم بن صفوان يقف بأصحابه على اجملذومني وهم يتقلبون ىف بالئهم فقول

يفعل مثل هذا، يعىن أنه ليس ىف احلقيقة رمحة، وإمنا هو حمض مشيته وصرف إرادة جمردة عن احلكمة .الرمحةو

Page 115: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ال يفعل شيئا إال حلكمة : وهم الذين أثبتوا له حكمة وغاية، وقالوا: وهؤالء قابلوا أصحاب الطريق الثاىنوغاية مطلوبة، ولكن حجروا عليه سبحانه ىف ذلك، وشرعوا له شريعة وضعوها بعقوهلم وظنوا أن ما

ه له من احلكمة والرمحة من جنس حيسن من خلقه حيسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، فجعلوا ما أثبتو)) مشبه الصفات((كما أن من شبهة خبلقه ىف صفاته فهو )) مشبهة األفعال((ما هو للخلق، وهلذا كانوا إنه تعاىل لو خص بعض عبيده : وقالوا. هؤالء ىف أفعاله، وإخواهنم ىف صفاته: فاقتسموا التشبيه نصفني

لو شاء من عباده : وقالوا. ومل يعطها آلخر لكان ظلما للذى منعهعن بعض بإعطائه توفيقا وقدرة وإرادة أفعال املعاصى لكان ينزه عنه كما ىف املشاهد ولو شاء منهم الكفر والفسوق والعصيان مث عذهبم عليه لكان ظلما ىف املشاهد أيضا، فإن السيد إذا أراد من عبده شيء ففعل ما أراد سيده، فإنه إذا عذبه عده الناس ظاملا له، وجعلوا العدل ىف حقه تعاىل من جنس العدل ىف حق عباده، والظلم الذى تنزه عنه كالظلم الذى يتنزهون عنه، وجعلوا ما حيسن منه من جنس ما حيسن منهم وما يقبح منه من جنس ما

لو ختم : وقالوا. لو أراد الشر لكان شريرا كما ىف املشاهد، فإن مريد الشر شرير: وقالوا. يقبح منهمعلى قلوب أعدائه وأمساعهم وحال بينهم وبني قلوهبم وأضلهم عن اإلميان وجعل على أبصارهم غشاوة وجعل من بني أيديهم سدا ومن خلفهم سدا مث عذهبم لكان ظاملا هلم، ألن أحدنا لو فعل ذلك بعبده مث

عال، فعدهلم تشبيه وتوحيدهم تعطيل، فجمعوا بني فهؤالء املشبهة حقا ىف األف. عذبه لكان ظاملا له .التشبيه والتعطيل

وما تولد منها، )) شرور هى أفعال العباد: ((أحدمها: وهؤالء قسموا الشر الواقع ىف العامل إىل قسمنيفهذه ال تدخل عندهم ىف القضاء اإلهلى تنزيها للرب عن نسبتها إليه، وال تدخل عندهم حتت قدرته وال

.ته وال تكوينهمشيئكالسموم واألمراض وأنواع اآلالم، وكإبليس وجنوده )) الشرور الىت ال تتعلق بأفعال العباد: ((والثاىن

وغري ذلك من شرور املخلوقات كإيالم األأطفال وذبح احليوان، فهذا النوع هو الذى كدر على القدرية . يه من اللطف واملصلحة العاجلة واآلجلةذلك كله حسن ملا ف: أصوهلم وشوش عليهم قواعدهم وقالوا

أما اآلالم واألمراض فمفعولة لغرض صحيح وهو ما ضمن الرب سبحانه ملن أصابه هبا من العوض : قالواوذلك جيرى جمرى استئجار أجري ىف فعل شاق فإنه بفرض االستئجار أخرج االستئجار عن : الواىف قالوا

فإن قيل إذا كان اهللا قادرا على التفضل بالعوض : قالوا. فكان حسنا كونه عبثا باألجرة عن كونه ظلما،وبأضعافه بدون توسط األمل فأى حاجة إىل توسطه؟ وأيضا فإذا حسن األمل ألجل العوض فهل حيسن منا

بغري إذنه لعوض يصل إليه؟ فاجلواب أن اهللا سبحانه ال يمرض وال يؤلم إال من ] غريه[أن يؤمل أحدنا م من حاله أنه لو أطلعه على األعواض الىت تصل إليه لرضى باألمل ولرغب فيه لوفور األعواض يعل

Page 116: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وليس كذلك إيالم أحدنا لغريه : وعظمها، وليس كذلك ىف شاهد استئجار األجري من غري اختياره، قالواألن العوض يصل إليه ألجل التعويض، فإن من قطع يد غريه أو رجله لعوضه عنها مل حيسن ذلك منه،

وهو مقطوع اليد والرجل، وليس من العقالء من خيتار ملك الدنيا مع ذلك، واهللا يوصل األعواض ىف : اآلخرة إىل األحياء وهم أكمل شيء خلقا وأمته أعضاء، فلذلك افترق الشاهد والغائب ىف هذا، قالوا

ه عيب، فإن فرض فيه مصلحة ورضى فإن فرضتموه ىف ضرب وجلد مع سالمة األعضاء قبح ألنوسر األمر أن بالعوض : قالوا. املضروب بذلك وعظمت األعواض عنه فهو حسن ىف العقل ال حمالة

خيرج األمل عن كونه ظلما ألنه نفع موقوف على مضرة األمل، وباعتبار كونه لطفا ىف الدين خيرج عن .كونه عبثا

مل للنفع، فإنه حيسن ىف املشاهد إيالم أنفسنا وإتعاهبا ىف طلب العلوم وقد رأينا ىف املشاهد حسن األ: قالواوهذا الوجه هو الذى حسن ألجله : واألرباح الىت ال نصل إليها إال على جنس من التعب واملشقة، قالوا

الم، إيالم األطفال والبهائم فإنه إيالم لنفع، فإن أبدان األطفال ال تستقيم إال على األسباب اجلالبة لآلوأما األمل املستحق : وكذلك نفوسهم إمنا تكمل بذلك، وإيالم احليوان لنفع اآلدمى به غري قبيح، قالوا

للعقوبة فإنه حسن ىف املشاهد ولكنه غري متحقق ىف الغائب بالنسبة إىل األطفال والبهائم لعدم تكليفها، وجيب : قالوا. من العوض ىف اآلخرةولكن ال بد ىف إيالمها من مصلحة ترجع إليها وهى ما حيصل هلم

وبقاؤها بعد اإلعادة : إعادهتا الستيفاء ذلك احلق الذى هلا وهو العوض على اآلالم الىت حصلت هلا قالوايدوم عوضهم، وقال آخرون : واختلفوا ىف البهائم فقال بعضهم. موقوف ونعيم األطفال واجملانني دائم

.بانقطاعه فإهنم يصريون ترابافإن مل يكن للبهائم عوض جيب ألجله أن تعاد مل جتب إعادهتا عقال وحتسن إعادهتا، وما حيسن قد : واقال

يفعله اهللا وقد ال يفعله وهل جتوز اآلالم للتعويض اجملرد؟ فيه قوالن هلم مبنيان على أصل اختلفوا فيه وهو امتناعه، كما ميتنع التفضل مبثل أنه هل حيسن منه سبحانه التفضل مبثل العوض ابتدا؟ فصار بعضهم إىل

الثواب ابتدا عندهم وهم جممعون على امتناعه لئال يسوى بني العامل وغريه وصار من ينتمى إىل التحصيل منهم إىل أن التفضل مبقدار األعواض ممكن غري ممتنع، فمن قال بامتناع التفضل مبقدار العوض

قدار العوض الصيمرى جوز وقوع اآلالم للتعويض اجملرد، ممكن غري ممتنع، فمن قال بامتناع التفضل مبإمنا حتسن لوجهني ال : ومن جوز التفضل بأمثال األعواض مل حتسن عنده اآلالم مبجرد التعويض، بل قالوا

اعتبار غري املؤمل بتلك اآلالم، وكوهنا ألطافا ىف زجر : أحدمها التزام التعويض، والثاىن: بد من اقتراهنماوذهب عباد الصيمرى منهم إىل أن اآلالم حتسن جملرد االعتبار من . من غوايته إذا شاهدها ىف غريه غاو

Page 117: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

واآلالم الىت يفعلها سبحانه إما أن تكون : غري تعويض ملن أصابته، ورد عليه مجاهري القدرية ذلك، قالوا .اجحةمستحقة كعقوبات الدنيا وعذاب اآلخرة، وإما للتعويض، وإما للمصلحة الر

وما يفعله ىف اآلخرة منها فكله لالستحقاق، وما يفعله ىف الدنيا فللعوض واملصلحة، وقد يفعله : قالوا .عقوبة، وأما ما شرعه من أسباب األمل فعقوبات حمضة

إمنا حيسن منه سبحانه اإليالم ألنه املنعم بالصحة واحلياة، وألنه ىف حكم من : وأما مشايخ القوم فقالوالك املنفعة ملن ال ميلكها فله قطعها إذا شاء وألنه قادر على التعويض عامل بقدره، وليس كذلك أعار ت

.فإذا استرجع عارية الصحة واحلياة خلفها األمل وال بد: قالوا. الواحد من اخللقوأطالوا الكالم ىف اآلالم وأسباهبا، وما حيسن منها وما يقبح، وعلى أى وجه يقع؟ وحصروا أنفسهم

ية احلصر، فاستطالت عليهم اجلربية باألسئلة واملضايقات وأجلأوهم إىل مضايق تضايق عنها أن توجلها غا. اإلبر وأضحكوا العقالء منهم بإبداء تنماقضهم، وألزموهم إلزامات ال بد من التزامها أو ترك املذهب

هم صغريا، وبلغ اآلخر وسأل أبو احلسن األشعرى أبا على اجلبائى عن ثالثة إخوة ألب وأم مات أحدفاختار اإلسالم، وبلغ اآلخر فاختار الكفر، فاجتمعوا عند رب العاملني، فرفع درجة البالغ املسلم فقال

إنك ال تستحق، إن أخاك بلغ فعمل : يا رب، ارفع درجىت حىت أبلغ منزلة أخى، فقال: أخوه الصغريكانت : ، فقال))ييتىن حىت أبلغ فأعمال عملهيا رب، فهال أح: أعماال استحق هبا تلك الدرجة، فقال

تلك ملصلحة تقتضى اخترامك قبل البلوغ، ألىن علمت أنك لو بلغت الخترت الكفر، فكانت املصلحة يا رب، مل مل متتىن صغريا؟ فما جواب هذا : فصاح الثالث بني أطباق النار وقال: قال. ىف قبضك صغرا

وإذا علم سبحانه من بعض العبيد أنه ال خيتار اإلسالم وأنه ال : الواق. أيها الشيخ؟ فلم يرد إليه جواباوأى مصلحة إلبليس وذريته : يكون إال كافرا مفسدا ىف األرض، فأى مصلحة هلذا العبد ىف إجياده؟ قالوا

كيف يعرضهم ألمر قد يعلم أهنم ال يفعلونه : عرضهم للثواب، قيل لكم: الكفار ىف إجيادهم؟ فإن قلتميقع منهم البتة؟ ومن هنا أنكر غالهتم العلم القدمي، وكفرهم السلف على ذلك، ومن أقر به منهم وال

.فإقراره به مبطل ملذهبه وأصله ىف وجوب مراعاة الصالح واألصلحوأما : قالوا. ناظروا القدرية بالعلم، فإن جحدوه كفروا، وإن أقروا به خصموا: وهذا معىن قول السلف

وهذا : على اآلالم فالرب سبحانه قادر على إيصال تلك املنافع بدون توسط اآلالم، قالوا حدث العوضخبالف املستأجر فإن له منفعة وحاجة ىف توسط تعب األجري واستيفاء منفعته، فأما من تعاىل عن االنتفاع

الم على وجه العقوبات وأما وقوع اآل: قالوا. خبلقه وال حيتاج إىل أحد منهم البتة فال يعقل ىف حقه ذلكفذلك إمنا حيسن ىف الشاهد حلصول التشفى من اجلناة وإطفاء نار الغيظ والغضب باالتتقام منهم، وذلك

وأما اإليالم : قالوا. حلاجة املعاقب إىل العقاب وانتفاعه به، وقياس الغائب على الشاهد ىف ذلك ممتنع

Page 118: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فيكون ذلك أدعى له إىل اإلذعان واالنقياد، فال ريب أن الصىب لالعتبار بأن يعترب الغري باألمل الواقع بغريهإذا شاهد املعلم يضرب غريه على لعبه وتفريطه كان ذلك مصلحة واعتبارا له، ولعله أن ينتفع بضرب ذلك الغري أكثر من انتفاع املضروب، أو حيب ال ينتفع املضروب، ولكن إمنا حيسن ذلك إذا كان

وكذلك متكينه تعاىل عباده أن يؤمل : ب، فأين استحقاق األطفال والبهائم؟ قالوااملضروب مستحقا للضرأى مصلحة ملن مكن من ذلك -مع قدرته على منع املؤمل املضر - بعضهم بعضا ويضر بعضهم بعضا

: لواوأقدر عليه، وهل كانت مصلحته إال تعجيزه وأن حيال بينه وبني القدرة على األداء وصون العباد؟ قافهذه الشريعة الىت وضعتموها لرب العباد، وأوجبتم عليه ما أوجبتم، وحرمتم عليه ما حرمتم وجحدمت عليه ىف تصرفه ىف ملكه بغري ما أصلتم وفرعتم بعقولكم وآرائكم، تشبيها له ومتثيال خبلقه فيما حيسن

مل تطردوها، بل أنتم متناقضون فيها منهم ويقبح، مع أهنا شريعة باطلة ما أنزل اهللا هبا من سلطان فإنكم غاية التناقض، خارجون فيها عما يوجبه كل عقل صحيح وفطرة سليمة، فال للتشبيه والتمثيل طردمت، وال بالتعويض قلتم، وال على حقيقة احلكمة واحلمد وقفتم، بل أثبتم له نوع حكمة ال تقوم به وال ترجع

هبا ىف متام ملكه، كما أثبت له إخوانكم من اجلربية قدرة جمردة إليه بل هى قائمة باخللق فقط، وقد حتم عن حكمة ومحد وغاية يفعل ألجلها، بل جعلوا محده وحكمته اقتران أفعاله مبا اقترنت به من املصاحل

.عادة ووقوعها مطابقة ملشيئته وعلمه فقط، فقدحوا بذلك ىف متام محدهإله إال اهللا وحده ال شريك له له امللك وله احلمد وهو وقام حزب اهللا وحب رسوله وأنصار احلق بال

على كل شيء قدير حق القيام وراعوا هذه الكلمة حق رعايتها علما ومعرفة وبصرية، ومل يلقوا احلرب بني محده وملكه بل أثبتوا له امللك التام الذى ال خيرج عنه شيء من املوجودات أعياهنا وأفعاهلا، واحلمد

إن له ىف كل ما خلقه وشرعه حكمة بالغة ونعمة : وسع كل معلوم ومشل كل مقدور، وقالواالتام الذى سابغة ألجلها خلق وأمر، ويستحق أن يثىن عليه وحيمد ألجلها، كما يثىن عليه وحيمد ألمسائه احلسىن

لكمال وأمساؤه ولصفاته العليا، فهو احملمود على ذلك كله أمت محد وأكمله، ملا اشتملت عليه صفاته من امن احلسن وأفعاله من احلكم والغايات واملقتضية حلمده املطابقة حلكمته املوافقة حملابه، فإنه سبحانه كامل الذات كامل األمساء والصفات ال يصدر عنه إال كل فعل كرمي مطابق للحكمة موجب للحمد

ربية والدهرية وحال بينهم وبينه يترتب عليه من حمابه ما فعل ألجله، وهذا أمر ذهب عن طائفىت اجلأصول فاسدة أصلوها وقواعد باطلة أسسوها، من تعطيل بعض صفات كماله كم عطل الفريقان حقيقة

عند اجلربية مشيئته وإرادته، وحمبة العباد له إرادهتم ملا خيلقه من النعيم ىف دار الثوب، فاحملبة عندهم : حمبته .إمنا تعلقت مبخلوقاته ال بذاته

Page 119: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وأصل الفريقان أنه . أمره وهنيه، وحمبة العباد له حمبتهم لثوابه املنفصل: حقيقة حمبته وكراهته عند القدريةو. ال يفعل لغاية وال حلكمة أصال: ال تقوم بذاته حكمة وال غاية يفعل ألجلها مث اختلفوا فقالت اجلربية

ترجع إليه وال تقوم به وال يعود إليه فعل لغاية وحكمة ال : وتكايست القدرية بعض التكايس فقالت .منها وصف

وأصل الفريقان أيضا أنه ال يقوم بذاته فعل البتة، بل فعله عني مفعوله، فعطلوا أفعاله القائمة به وجعلوها كما عطل غالة اجلهمية صفاته . نفس املخلوقات املشاهدة الىت ال تقوم به، فلم يقم به عندهم فعل البتة

أتباع ابن سينا ذاته فلم يثبتوا له ذاتا )) السينائية((ا له صفة تقوم به وإن تناقضوا، وكما عطلت فلم يثبتوزائدة على وجود جمرد ال يقارن ماهية وال حقيقة، وأصلت اجلربية أنه تعاىل ال ينزه عن فعل مقدور

فعله فبالسمع وإال فالعقل يكون قبيحا بالنسبة إليه، بل كل مقدور ممكن فهو جائز عليه، وإن علم عدميقضى جبوازه عليه فال ينزه عن ممكن مقدور إال ما دل عليه بالسمع فيكون تنزيهه عنه ال لقبحه ىف نفسه بل ألن وقوعه يتضمن اخللق ىف خربه وخرب رسوله ووقع األمر على خالف علمه ومشيئته، فهذا حقيقة

.التنزيه عند القوممن عباده حيسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، مع تناقضهم ىف ذلك غاية وأصلت القدرية أن ما حيسن

فاقتضت هذه األصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعا ولوازم كثرية، منها خمالف لصريح العقل . التناقضولسليم الفطرة كما هو خمالف ملا أخربت به الرسل عن اهللا، فجعل أرباب هذه القواعد واألصول

م وأصوهلم حمكمة، وما جاء به الرسول متشاهبا، مث أصلوا أصال ىف رد هذا املتشابه إلى احملكم قواعدهإما خيرجها : الواجب فيما خالف هذه القواطع العقلية بزعمهم من الظواهر الشرعية أحد أمرين: وقالوا

أللغاز املعقدة ووحشى اللغات على ما يعلم العقالء أن املتكلم مل يرده بكالمه من اجملازات البعيدة واواملعاىن املهجورة الىت ال يعرف أحد من العرب عرب عنها هبذه العبارة وال حتتملها لغة القوم البتة، وإمنا

حنمل اللفظ عليها، فأنشؤوا حمامل من تلقاء أنفسهم وحكموا على اهللا : هى حمامل أنشئوها هم مث قالوا .منكرا وقالوا زوراأو رسله بإرادهتا بكالمه، فأنشؤا

فإذا ضاق عليهم اجملال وغلبتهم النصوص وهبرهتم شواهد احلقيقة من اطرادها وعدم فهم العقالء سواها وجميئها على طريقة واحدة وتنوع األلفاظ الدالة على احلقيقة واحتفافها بقرائن من السياق والتأكيد وغري

الواجب ردها وأن ال يشتغل هبا، وإن : ا دلت عليه، قالواذلك مما يقطع كل سامع بأن املراد حقيقتها ومالواجب تفويضها وإن نكل علمها إىل اهللا من غري أن حيصل لنا هبا هدى أو : أحسنوا العبارة والظن قالوا

علم أو معرفة باهللا وأمسائه وصفاته، أو ننتفع هبا ىف باب واحد من أبواب اإلميان باهللا وما يوصف به وما

Page 120: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ه، بل جنرى ألفاظها على ألسنتنا وال نعتقد حقيقتها ملخالفتها للقواطع العقلية، فسموا أصوهلم ينزه عن :الىت هى كبيت العنكبوت، وكما قال فيها القائل شعرا -الفاسدة وشبههم الباطلة

شبه هتافت كالزجاج ختاهلا حقا وكل كاسر مكسورناقضتها لصريح املعقول وصحيح املنقول، فسموا قواطع عقلية، مع اختالفهم فيها وتناقضهم فيها وم

إزالة حلرمته من القلوب ومنعا للتعلق به والتمسك حبقيقته ىف باب )) ظواهر مسعية: ((كالم اهللا ورسولهفيظن اجلاهل حبقيقته أنه )) قواطع عقلية((اإلميان واملعرفة باهللا وأمسائه وصفاته، فعربوا عن كالمهم بأنه

الف صريح املعقول، وخرج عن حد العقالء، وخالف القاطع، وعربوا عن كالم اهللا إذا خالفه فقد خفال جناح على من صرفه عن ظاهره وكذب حبقيقته واعتقد بطالن احلقيقة بل )) ظواهر((ورسوله بأنه

س ما هذا عندهم هو الواجب، وقد أشهد اهللا سبحانه عباده الذين أوتوا العلم واإلميان أن األمر بعكقالوه، وأن كالمه وكالم رسوله هو الشفاء والعصمة والنور اهلادى والعلم املطابق لعلومه، وأنه هو املشتمل على القواطع العقلية السمعية والرباهني اليقينية، وأن كالم هؤالء املتهوكني احليارى املتضمن

فاسدة واخلياالت الباطلة، وأنه خالف ما أخربه به عن نفسه وأخرب به عن رسوله هو الشبهات الكالسراب الذى حيسبه الظمآن ماء حىت إذا جاءه مل جيده شيئا، ووجد اهللا عنده فوفاه حسابه واهللا سريع

ويرى الذين أوتوا {]: تعاىل[احلساب، وهؤالء هم أهل العلم حقا الذين شهد اهللا سبحانه هلم به فقال ، ومن سواه من ]٦: سبأ* [}ل إليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميدالعلم الذى أنز* }فى أصحاب السعري] كنا[وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما {: قال اهللا فيهم] الذى[الصم والبكم

من يعلم أمنا أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى، إنما يتذكر أولوا أف{: ، وقال تعاىل]١٠: امللك[، وكان ما شهدوه من ذلك بالعقل والفطرة ال مبجرد اخلرب، بل جاء إخبار ]١٩: الرعد* [}األلبابوعقوهلم املستقيمة فتضافر على إمياهنم به وإخبار رسوله مطابقا ملا ىف فطرهم السليمة ] تعاىل[الرب

الشريعة املنزلة والفطرة املكملة والعقل الصريح فكانوا هم العقالء حقا وعقوهلم هى املعيار، فمن خالفها بيان موافقة ((فقد خالف صريح املعقول والقواطع العقلية، ومن أراد معرفة هذا فليقرأ كتاب شيخنا وهو

فإنه كتاب مل يطرق العامل له نظري ىف بابه، فإنه هدم فيه قواعد أهل )) لصحيحالعقل الصريح للنقل االباطل من أسها فخرت عليهم سقوفه من فوقهم، وشيد فيه قواعد أهل السنة واحلديث وأحكمها ورفع

ابا ال من العقل والنقل والفطرة واالعتبار فجاء كت] أعالمها وقررها مبجامع الطرق الىت تقرر هبا احلق[أفضل اجلزاء، ] نفسه من أهل العلم عنه فجزاه اهللا عز وجل عن أهل العلم واإلميان[يستغىن من نصح

].كذلك[وجزى العلم واإلميان عنه

Page 121: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

عدنا إىل إمتام الكالم ىف كيفية دخول الشر ىف القضاء اإلهلى، وبيان طرق الناس ىف ذلك، واختالفهم ىف إن : وهم أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد البصرى)) البكرية((قالت و. إيالم األطفال والبهائم

البهائم واألطفال ال تأمل البتة، والذى محلهم على هذا موجب التعليل واحلكمة، ومل يرتضوا ما قالت ذهب اجلربية من نفى ذلك وال ما قالت املعتزلة من حديث األعواض وما فرعوه عليه ومل ميكنهم القول مب

القائلني بأن األرواح الفاجرة الظاملة تودع ىف احليوانات الىت تناسبها فيناهلا من أمل الضرب )) التناسخية((من إسناد الشر واخلري إىل إهلني مستقلني كل منهما يذهب )) اجملوس((والعذاب حبسبها، وال مبذاهب

مثابة معاقبة، وأن ىف كل أمة منها رسول إن البهائم مكلفة مأمورة منهية : خبلقه، وال بقول من يقولونىب منها، وهذه اآلالم والعقوبات الدنيوية جزاء على خمالفتها لرسوهلا ونبيها، فلم جيدوا بدا من التزام ما

.ذهبوا إليه من إنكار وقوع اآلالم هبا ووصوهلا إليها. لم خبالف ما ذهبوا إليه ضرورىوقد رد عليهم الناس بأهنم كابروا احلس وجحدوا الضرورة، وأن الع

ال سبيل إىل نسبة هؤالء إىل جحد الضرورة مع كثرهتم، ولكنهم رمبا رأوا أن : وقال من أنصف القومالطفل والبهيمة ال تدرك اآلالم حسبما يدركها العقالء، فإن العاقل إذا أدرك تأمل جوارحه وأحس به تأمل

واشتدت فكرته ىف ذلك وىف األسباب اجلالبة له واألسباب قلبه وطال حزنه وكثر هم روحه وغمهاالدافعة له، وهذه اآلالم زائدة على جمرد أمل الطبيعة، وال ريب أن البهائم واألطفال ال حتصل هلا تلك اآلالم كما حيصل للعاقل املميز، فإن أراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنه ال شعور هلا باآلالم

هنا ال حتس هبا فمكابرة ظاهرة، فإن الواحد منا يعلم باضطرار أنه كان يتأمل ىف طفولته مبس النار البتة وأ .له وبالضرب وغري ذلك

كل ما يتأمل به الطفل والبهيمة ليس من قبل اهللا، وال فعل اهللا فيه األمل ملا ثبت من حكمته : وقالت طائفةليست من خلق اهللا وال كانت مبشيئته، لكن هذا أشد فسادا من وهذا يشبه قوهلم ىف أفعال احليوان أهنا

ذلك، فإن هذه اآلالم حوادث ال تتعلق باختيار من قامت به وال بإرادته فال بد هلا من حمدث، إذ وجود فإن أراد هؤالء نفى فعلها . حادث حمال واهللا خالقها بأسباهبا املفضية إليها، فخالق السبب خالق للمسبب

اهللا مباشرة من غري توسط بسبب أصال فهذا قد يكون حقا، وإن أرادوا أهنا غري منسوبة إىل قدرته عنوذهبت طائفة إىل أن ىف كل نوع من أنواع احليوانات أنبياء ورسال، وأهنا مستحقة . ومشيئته البتة فباطل

وبات على معاصيها وخمالفتها واحتجوا بقوله للثواب والعقاب، وأن ما ينزل هبا من اآلالم فجزاء هلا وعق: ، وقال تعاىل]٣٨: األنعام* [}وما من دابة فى األرض وال طائر يطري بجناحيه إال أمم أمثالكم{: تعاىل

].٢٤: فاطر* [}وإن من أمه إال خال فيها نذير{

Page 122: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن اهللا خلق خلقه كلهم مجلة واحدة بصفة واحدة مث أمرهم وهناهم، فمن : وقالت طائفة من التناسخيةعصى منهم نسخ روحه ىف جسد هبيمة تبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم واإلبل والبقر والرباغيث والقمل، فما سلط على هذه البهائم من اآلالم فهو لألرواح اآلدمية الىت أودعت هذه األجساد فمن كان

م زانيا أو زانية كويفء بأن جعل ىف بدن حيوان ما ميكنه اجلماع كالبغال، ومن كان منهم عفيفا عن منهومن كان منهم جبارا عنيدا . الزنا مع ظلمه وغشمه كويفء بأن جعل ىف بدن تيس أو عصفور أو ديكردون، فمن عصى منهم بعد رده كويفء بأن جعل ىف بدن قملة أو قرادة وحنومها، إىل أن يقتص منهم مث ي

.كرر أيضا عليه ذلك التناسخ هكذا أبدا حىت يطيع طاعة ال معصية بعدها أبدا فينتقل إىل اجلنة من وقتهوقد ذهب إىل هذا املذهب من املنتسبني إىل اإلسالم رجل يقال له أمحد بن حائط طرد أصول القدرية

وذهب اجملوس إىل أن هذه اآلالم والشرور من اإلله . هبا عليه وحرمواوشريعتهم الىت شرعوها هللا فأوجبوا الشرير املظلم فال تضاف إىل اإلله اخلري العادل وال تدخل حتت قدرته، وهلذا كان أشبه أهل البدع هبم

ر كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها، وليس لذلك فاعل خمتا: وقالت الزنادقة والدهرية. القدرية النفاةمدبر مبشيئته وقدرته، وال بد ىف النار من إحراق ونفع وىف املاء من إغراق ونفع، وليس وراء ذلك شيء،

.فهذه مذاهب أهل األرض ىف هذا املقاموملا انتهى أبو عيسى الوراق إىل حيث انتهت إليه أرباب املقاالت فطاش عقله ومل يتسع حلكمة إيالم

وممن . تابا مساه النوح على البهائم، فأقام عليها املآمت وناح، وباح بالزندقة الصراحاحليوان وذحبه صنف ككان على هذا املذهب أعمى البصر والبصرية كلب معرة النعمان املكىن بأىب العالء املعرى، فإنه امتنع من

ذلك طريقة مركبة من أكل احليوان زعم لظلمه باإليالم والذبح، وأما ابن خطيب الرى فإنه سلك ىفطريقة املتكلمني وطريقة الفالسفة املشائني وهذهبا ونقحها واعترف ىف آخرها بأنه ال سبيل إىل اخلالص

الىت أوردها على نفسه إال بالتزام أنه تعاىل موجب بالذات ال فاعل بالقصد واالختيار، ] املطالبات[من البات إال بإنكار قدرة اهللا ومشيئته وفعله االختيارى، وذلك فأقر على نفسه بالعجز عن أجوبة تلك املط

وقال ىف . جحد لربوبيته، فزعم أنه ال ميكنه تقرير حكمته إال جبحد ربوبيته، وحنن نذكر كالمه بألفاظه )):مباحثه املشرقية((

:مي مقدمتنيالفصل السادس ىف كيفية دخول الشر ىف القضاء اإلهلى، وقبل اخلوض فيه ال بد من تقدفإن كانت . إهنا شر إما أن تكون أمورا عدمية، أو أمورا وجودية: األمور الىت يقال هلا - املقدمة األوىل

ألهنا إما أن تكون عدما ألمور ضرورية للشيء ىف وجوده مثل عدم : أمورا عدمية فهى على أقسام ثالثةمن الضرورة كالعمى أو أن تكون كذلك كعدم العلم احلياة، وإما أن تكون عدما ألمور نافعة قريبة

.وأما األمور الوجودية الىت يقال هلا شرور فهى كاحلرارة املفرقة التصال العضو. بالفلسفة واهلندسة

Page 123: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

واعلم أن الشر بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه، مثل عدم احلياة وعدم البصر، فإن املوت ليس هلما ] فإذا[ال أهنما عدم احلياة وعدم البصر، ومها من حيث مها كذلك شر، والعمى ال حقيقة هلما إ

فظاهر أن -مثل عدم العلم بالفلسفة -وأما عدم الفضائل املستغىن عنها. اعتبار آخر حبسبه يكونان شرينضمن ذلك ليس بشر، وأما األمور الوجودية فإهنا ليست شرورا بالذات بل بالعرض، من حيث أهنا تت

عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنا ال جند شيئا من األفعال الىت يقال هلا شر إال وهو كمال بالنسبة إىل الفاعل، وأما شريته فبالقياس إىل شيء آخر، فالظلم مثال يصدر عن قوة ظالمة للغلبة وهى

لقياس إليها خري، ألهنا إن ضعفت عنه فهو القوة الغضبية والغلبة هى كماهلا وفائدة خلقتها، فهذا الفعل بابالقياس إليها شر وإمنا كان شرا للمظلوم لفوات املال وغريه عنه، والنفس الناطقة كماهلا االستيالء على

وكذلك النار إذا . هذه القوة فعند قهر الغضبية يفوت النفس ذلك االستيالء وال جرم كان شرا هلا .بسببها] سالمته[ولكنها شر بالنسبة إىل من زالت ]كماهلا[أحرقت فإن اإلحراق

وكذلك القتل وهو استعمال اآللة القطاعة ىف قطع رقبة إنسان، فإن كون اإلنسان قويا على استعمال اآللة ليس شرا له بل خريا، وكذلك كون اآللة قطاعة هو خري هلا، وكذلك كون الرقبة قابلة لالنقطاع

ل شر من حيث أنه متضمن لزوال احلياة، فثبت مبا ذكرنا أن األمور كل ذلك خريات، ولكن القت .واهللا أعلم. الوجودية ليست شرور بالذات بل بالعرض

أن األشياء إما أن تكون مادية، أو ال تكون، فإن مل تكن مادية مل يكن فيها ما بالقوة فال : املقدمة الثانيةإما أن يكون ىف [معرض الشر، وعروض الشر هلا يكون فيها شر أصال، وإن كانت مادية كانت ىف

إنسانا أو فرسا يعرض هلا من ] يتكون[أما األول فهو أن تكون املادة الىت ] ابتداء تكوهنا أو بعد تكوهنااألسباب ما جيعلها رديئة املزاج رديئة الشكل واخللقة، فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس ألن

ملنفعل له مل يقبل، وأما الثاىن وهو أن يعرض الشر للشيء وطروء طاريء عليه بعد الفاعل حرم بل ألن اتكونه فذلك الطاريء إما شيء مينع املكمل من اإلكمال مثل تراكم السحب وإظالل اجلبال الشاهقات

بب ، وإما شيء يفسد مثل الربد الذى يصل إىل النبات بس]النبات[إذ صار مانعا من تأثري الشمس ىف .ذلك استعداده للنشوء والنمو. قد بينا أن الشر باحلقيقة إما عدم ضروريات الشيء، وإما عدم منافعه: وإذا عرفت ذلك فنقول

إما أن يكون خريا من كل الوجوه، وشرا من كل الوجوه أو خريا من وجه وشرا ] املوجود ]: [ فنقول[ما أن يكون خريه غالبا على شره، أو يكون شره غالبا على فإنه إ: وهذا على تقدير أقسام. من وجه

.خريه، أو متساويا خريه وشره، فهذه أقسام مخسة

Page 124: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فهو اهللا تبارك -الذى يكون كذلك لذاته] أما[ -أما الذى يكون خريا من كل الوجوه وهو موجوداألمور ما فاهتا شيء من لغريه فهو العقول واألفالك، ألن هذه ] خريه[وتعاىل، وأما الذى يكون

فهو غري موجود ألن ] املتساوي[أما الذى كله شر أو الغالب فيه أو ] كماالهتا[ضروريات ذاهتا وال من ذلك ] وإذا عنينا بالشر[كالمنا ىف الشيء مبعىن عدم الضروريات واملنافع، ال مبعىن عدم الكمال الزائد،

مراض وإن كثرت إال أن الصحة أكثر منها، فاحلرق فال شك أن ذلك مغلوب واخلري غالب ألن األ .والغرق واخلسف، وإن كانت قد تكثر إال أن السالمة أكثر منها

األول أنه إن مل يوجد فال : فأما الذى يكون خريه غالبا على شره فاألوىل فيه أن يكون موجودا لوجهنيلب، فإذا ىف عدمه يكون الشر أغلب من اخلري، بد وأن يفوت اخلري الغالب، وفوت اخلري الغالب شر غا

ىف وجودها منافع : وىف وجوده يكون اخلري أغلب من الشر، ويكون وجود هذا القسم أوىل، مثاله النارمبفاسدها كانت مصاحلها ] كثرية وأيضا مفاسد كثرية مثل إحراق احليوانات، ولكننا إذا قابلنا منافعها[

و مل توجد لفاتت تلك املصاحل، وكانت مفاسد عدمها أكثر من مصاحلها أكثر بكثري من مفاسدها، ول .فال جرم وجب إجيادها وخلقها

ليس إال األمور الىت حتت كرة القمر فال شك، أهنا -وهو الذى يكون خريه ممزوجا بالشر -الثاىناملوجبة هلا، وهى معلوالت العلل العالية، فلو مل يوجد هذا القسم لكان يلزم من عدمها عدم عللها

.خريات حمضة، فيلزم من عدمها عدم اخلريات احملضة وذلك شر حمض، فإذا ال بد من وجود هذا القسمألنه لو جعلها كذلك لكان هذا : فلم مل خيلق اخلالق هذه األشياء عرية عن كل الشرور؟ فنقول: فإن قيل

.هو القسم األول، وذلك مما قد فرغ منهالذى يكون خريه غالبا على شره، وقد بينا أن األوىل هبذا القسم أن : قسم آخر وهووبقى ىف العقل إن مجيع هذه اخلريات والشرور إمنا : وهذا اجلواب ال يعجبىن ألن لقائل أن يقول: قال. يكون موجودا

بل اهللا تعاىل اختار توجد باختيار اهللا وإرادته، مثال االحتراق احلاصل عقيب النار ليس موجبا من النار، خلقه عقيب مماسة النار، وإذا كان حصول االحتراق عقيب مماسة النار باختيار اهللا وإرادته فكان ميكنه أن خيتار خلق اإلحراق عندما يكون خريا وال خيتار خلقه عندما يكون شرا، وال خالص عن هذه

لقصد واالختيار، ويرجع حاصل الكالم ىف هذه املسألة املطالبة إال ببيان كونه سبحانه فاعال بالذات ال با .إىل مسألة القدم واحلدوث

باملوجب بالذات أو مذهب [لـما مل يكن عند الرازى إال مذهب الفالسفة املشائني، والقائلني : قلتب والعلل بوجوب رعاية الصالح أو اإلصالح، أو مذهب اجلربية نفاة األسبا] القدرية باملعتزلة القائلني

واحلكم، وكان احلق عنده مترددا بني هذه املذاهب الثالثة، فتارة يرجح مذهب املتكلمني، وتارة مذهب

Page 125: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

املشائني، وتارة يلقى احلرب بني الطائفتني ويقف ىف النظارة، وتارة يتردد بني الطائفتني، وانتهى إىل هذا وهى غري مرضية عنده، وإن كان ىف كتبه -ربيةاملضيق ورأى أنه ال خالص له منه إال بالتزام طريق اجل

أو طريق املعتزلة القائلني برعاية الصالح وهى متناقضة -الكالمية يعتمد عليها ويرجع ىف مباحثه إليهاغري مطردة، مل جيد بدا من حتيزه إىل أعداء امللة القائلني بأن اهللا تعاىل ال قدرة له وال مشيئة وال اختيار

.قوم بهوال فعل يومعلوم أن هذه املذاهب بأسرها باطلة ومتناقضة وإن كان بعضها أبطل من بعض، وإمنا أجلأه إىل التزام القول بإنكار الفاعل املختار ىف هذا املقام تسليمه هلم األصول الفاسدة والقواعد الباطلة الىت قادت إىل

ما مع كل طائفة من احلق إىل حق الطائفة التزام بعض أنواع الباطل ولو أعطى الدليل حقه، وضمبه جبميع طرق احلق، ] جاءوا[األخرى، وحتيز إىل ما جاءت به الرسل على علم وبصرية، وهو تقرير ملا

لتخلص من تلك املطالبات مع إقراره بأن رب العاملني فعال ملا يريد يفعل مبشيئته وقدرته وحكمته، وأن عليه من اإلحراق، واملاء عما خلق ] مة البالغة وأن تقدير جتريد النار عما خلقتواحلك[له املشيئة النافذة

عليه، والرياح والنفوس البشرية عما هيئت له وخلقت عليه، مناف للحكمة املطلوبة احملبوبة للرب وأن تلك سبحانه، وأن هذا تقرير لعامل آخر وتعطيل األسباب الىت نصبها اهللا سبحانه مقتضيات ملسبباهتا،

األسباب مظهر حكمته ومحده وموضع تصرفه خللقه وأمره، فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق واألمر، وهو أشد منافاة للحكمة وإبطاال هلا، واقتضاء هذه األسباب ملسبابتها كاقتضاء الغايات ألسباهبا، فتعطيلها

.وهبا قوامه قدح ىف احلكمة وتفويت ملصلحة العامل الىت عليها نظامه] عنها[ولكن الرب سبحانه قد خيرق العادة ويعطلها عن مقتضياهتا أحيانا إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك املسببات، كما عطل النار الىت ألقى فيها إبراهيم وجعلها عليه بردا وسالما عن

ن إغراق موسى وقومه وعما خلق عليه اإلحراق ملا ىف ذلك من املصاحل العظيمة، وكذلك تعطيل املاء عمن اإلسالة والتقاء أجزائه بعضها ببعض هو ملا فيه من املصاحل العظيمة واآليات الباهرة واحلكمة التامة الىت ظهرت ىف الوجود وترتب عليها من مصاحل الدنيا واآلخرة ما ترتب، فهكذا سبحانه سائر أفعاله، مع

األسباب وأن األسباب خلقه وملكه وأنه ميلك تعطيلها عن مقتضياهتا أنه أشهد عباده بذلك أنه مسببكذلك مل يكن من ذاهتا وأنفسها، بل هو الذى جعلها كذلك وأودع فيها من ] جعلها[وآثارها، وأن

القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، أنه إن شاء أن يسلبها إياها سلبها ال كما يقول أعداؤه من ئعيني وزنادقة األطباء أنه ليس ىف اإلمكان جتريد هذه األسباب عن آثارها وموجباهتا الفالسفة والطبا

ال تعطيل ىف الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة حتت قهر قاهر وتسخري مسخر : ويقولوناته وما يصرفها كيف يشاء، بل هى املتصرفة املدبرة، وال كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار خملوق

Page 126: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أودعها من القوى والطبائع والغرائز وباألسباب الىت ربط هبا خلقه وأمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد األمر إىل مشيئة حمضة جمردة عن احلكمة والغاية وعن ارتباط العامل بعضه ببعض ارتباط

.األسباب مبسبباهتا والقوى مبحاهلال املختار الفعال ملا يريد بقدرته ومشيئته فوق كل حمذور، فإن القائل مث احملذور الالزم من إنكار الفاع

بذلك جيعل هذه الشرور بأسرها الزمة له لزوم الطفل حلامله واحلرارة للنار وال ميكنه دفعها وال ختليص ضافة ال ومشيئته واختياره مث ألزموه إياه وأضافوه إليه إ[احلرارة منها، فهم فروا من إضافة الشر إىل خلقه وعلمه بتفاصيل أحوال عباده، وىف ذلك تعطيل ربوبيته ] ميكن إزالتها مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه

.للعاملني، ففروا من حمذور بالتزام عدة حماذير، واستجاروا من الرمضاء بالنارز واجلهة، مث وهذا كما نزهه اجلهمية عن استوائه على عرشه وعلوه على خملوقاته، فإنه فرار من التحي

جعلوه سبحانه ىف كل مكان خمالطا للقاذورات واألماكن املكروهات وكل مكان يأنف العاقل من .جماورته، ففروا من ختصيصه بالعلو فعمموا به كل مكان

: وملا علمت الفرعونية بطالن هذا املذهب فروا إىل شر منه فأخلوا داخل العامل وخارجه منه البتة وقالواالعرش رب يعبد، وال إله يصلى له ويسجد، وال ترفع إليه األيدى، وال يصعد إليه الكلم ليس فوق

الطيب والعمل الصاحل، وال عرج مبحمد صلى اهللا عليه وسلم إليه بل عرج به إىل عدم صرف، وال فرق ل سافلني، فإذا مل يكن بالنسبة إليه بني العرش وبني أسفل السافلني، ومن املعلوم أنه ليس موجودا ىف أسف

.موجودا فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجودهبل هو هذا : احللولية وإخواهنم من االحتادية أشباه النصارى ما ىف ذلك من اإلحالة قالوا] رأت[فلما

ء ماء، فيها على اختالف صورها وأنواعها حبسنها فهو ىف املا] الظاهر[الوجود السارى ىف املوجودات وىف اخلمر مخر، وىف النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته، فنزهوه عن استوائه على عرشه وجعلوه وجود كل موجود خسيس أو شريف، صغري أو كبري طيب أو غريه، تعاىل اهللا عما يقول أعداؤه علوا

ملتجددة به، مث جعلوا مجيع كبريا، وكذلك القائلون بقدم العامل نزهوه عن قيام اإلرادات واألفعال ا] خللق العامل وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته[احلوادث الزمة له ال ينفك عنها، ونزهوه عن إرادته

.وجعلوه الزما لذاته كاملضطر إىل صدوره عنهوكذلك املعتزلة اجلهمية نزهوه عن صفات كماله لئال يقعوا ىف تشبيه، مث شبهوه خبلقه ىف أفعاله،

حكموا عليه حبسن ما حيسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيه ىف سلب صفات كماله باجلمادات وفقد شبهه باألحجار -لئال يشبهه - والناقصات، وأن من فر من إثبات السمع والبصر والكالم واحلياة له

.الىت ال تسمع وال تبصر وال تتكلم

Page 127: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

عمه فقد شبهه بأصحاب اخلرس، واآلفات املمتنع منهم ومن عطله عن صفة الكالم ملا يلزم من تشبيه بزالكالم، ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إىل مساء الدنيا، ودنوه عشية عرفة من أهل املوقف، وجميئه يوم

للقضاء بني عباده فرارا من تشبيهه باألجسام فقد شبهه باجلماد الذى ال يتصرف وال يفعل وال ] القيامة[ال ينزل، ومن نزهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إىل الفعل حذرا من تشبيهه جييء وال يأتى و

ال يقصدون بأفعاهلم غاية حممودة وال غرضا ] الذين[بالفاعلني لذلك فقد شبهه بأهل السفه والعبث منهم مطلوبا حمبوبا، ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرفه فيهم باهلداية واإلضالل وختصيص من شاء

] أطباق[بفضله أو منعه ملن شاء حذرا من الظلم بزعمه فقد وصفه بأقبح الظلم واجلور حيث خيلد ىف النريان من استنفد عمره كله ىف طاعته إذا فعل قبل املوت كبرية واحدة فإهنا حتبط مجيع تلك الطاعات

: غري ذلك من أصوهلم الفاسدةوجتعلها هباء منثورا، وخيلد ىف جهنم مع الكفار ما مل يتب منها، إىل* }ستقيمفهدى اهللا الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، واهللا يهدى من يشاء إلى صراط م{ ].٢١٣: البقرة[

))قاعدة((يابسة قاسية غري لينة إما أن تكون طبيعته: كمال العبد وصالحه يتخلف عنه من إحدى جهتني@

منقادة وال قابلة ملا به كماهلا وفالحها، وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القياد، لكنها غري ثابتة على ذلك، بل سريعة االنتقال عنه كثرية التقلب، فمىت رزق العبد انقيادا للحق وثباتا عليه فليبشر، فقد بشر

.بكل خري وذلك فضل اهللا يؤتيه من يشاء ))قاعدة((

إذا ابتلى اهللا عبده بشيء من أنواع الباليا واحملن فإن رده ذلك االبتالء واحملن إىل ربه ومجعه عليه وطرحه والشدة بتراء ال دوام هلا وإن طالت، فتقلع عنه حني تقلع وقد . ببابه فهو عالمة سعادته وإرادة اخلري به

بعد أن كان شاردا عنه، وإقباله عليه بعد أن كان عوض منها أجل عوض وأفضله، وهو رجوعه إىل اهللا .نائبا عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضا، وللوقوف على أبواب غريه متعرضا

وكانت البلية ىف حق هذا عني النعمة، وإن ساءته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فرمبا كان مكروه وعسى أن تكرهوا {: وقوله تعاىل ىف ذلك هو الشفاء والعصمةالنفوس إىل حمبوهبا سببا ما مثله سبب

: البقرة* [}شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، واهللا يعلم وأنتم ال تعلموناخللق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه ، وإن مل يرده ذلك البالء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إىل]٢١٦

والتذلل بني يديه والتوبة والرجوع إليه فهو عالمة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البالء رده إىل حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته القدرة بأنواع األشر والبطر واإلعراض

Page 128: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أعرض عن ذكره والتضرع إليه ىف الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة عن شكر املنعم عليه بالسراء كما .وباهللا التوفيق. ونقص ىف حقه، وبلية األول تطهري له ورمحة وتكميل

))قاعدة((

ىف مشاهد الناس ىف املعاصى والذنوبسباهبا حبسب شهودهم أل -الناس ىف البلوى الىت جترى عليهم أحكامها بإرادهتم وشهواهتم متفاوتون

:ومجاع ذلك مثانية مشاهد. أعظم تفاوت -وغايتهاوهو شهود احليوانات، إذ ال تشهد إال . شهود السبب املوصل إليها، والغاية املطلوبة منها فقط: أحدها

وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبني احليوان البهيم ىف ذلك . طريق وطرها، وبرد النفس بعد تناوهلا .حليلة ىف الوصول إليها، ورمبا زاد غريه من احليوانات عليه مع تناوهلا ولذاهتافرق إال بدقيق اورمبا . القدرى وجريانه عليه، وال جيوز شهوده ذلك] احلكم[من يشهد مع ذلك جمرد : املشهد الثاىن

فيشهد رأى أن احلقيقة هو توفية هذا املشهد حقه، وال يتم له ذلك إال بالفناء عن شهود فعله هو مجلة،الفاعل فيه غريه واحملرك سواه، فال ينسب إىل نفسه فعال وال يرى هلا إساءة، ويزعم أن هذا هو التحقيق

أنا : والتوحيد ورمبا زاد على ذلك أنه يشهد نفسه مطيعا من وجه وإن كان عاصيا من وجه آخر فيقولن يرى األمر تلبيسا وضبطا للرعاع عن اخلبط مطيع لإلرادة واملشيئة وإن كنت عاصيا لألمر، فإن كان مم

:واحلرمان مع حكم الطبيعة احليوانية فقد رأى نفسه مطيعا ال عاصيا، كما قال قائلهم ىف هذا املعىن أصبحت منفعال ملا خيتاره مىن ففعلى كله طاعات

عينه هو املشهد الذى وهذا املشهد ب. وأصحاب املشهد األول أقرب إىل السالمة من هؤالء وخري منهم: الزخرف* [}لو شاء الرمحن ما عبدناهم{: يشهده املشركون عباد األصنام ووقفوا عنده كما قالوا

،]١٤٨: األنعام* [}لو شاء اهللا ما أشركنا وال آباؤنا وال حرمنا من شيء{: ، وقالوا]٢٠* }وا مما رزقكم اهللا قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء اهللا أطعمهوإذا قيل لهم أنفق{: ، فهذا مشهد من أشرك باهللا ورد أمره، وهو مشهد إبليس الذى انتهى إليه إذ يقول لربه]٤٧: يس[ .، واهللا أعلم]٣٩: احلجر* [}فى األرض وألغوينهم أجمعنيرب بما أغويتنى ألزينن لهم {

مشهد الفعل الكسىب القائم بالعبد فقط وال يشهد إال صدوره عنه وقيامه به، وال يشهد : املشهد الثالث مع ذلك مشيئة الرب له، وال جريان حكمه القدرى به، وال عزة الرب ىف قضائه ونفوذ أمره، بل قد فىن

إما لعدم اتساع قلبه : بشهود معصيته بذنبه وقبح ما اجترمه عن شهود املشيئة النافذة والقدر السابق

Page 129: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مع أنه مؤمن بقضاء الرب وقدره، وأن العبد -فقد امتأل من شهود ذنبه وجرمه وفعله - لشهود األمريننكاره القضاء والقدر مجلة أقل قدرا من أن حيدث ىف نفسه ما مل يسبق به مشيئة بارئه وخالقه، وإما إل

أن يقدر على العبد شيئا مث يلومه عليه، فأما األول وإن كان مشهده صحيحا ] تعاىل[وتنزيهه للرب موجبا له أن ال يزال الئما لنفسه مزريا عليها ناسبا للذنب والعيب إليها معترفا بأنه يستحق العقوبة

العادل فيه وأنه هو الظامل لنفسه، وهذا كله حق ال ريب فيه، والنكال، وأن اهللا سبحانه إن عاقبه فهولكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غري معان عليها، بل هو معها كاملقهور املخذول، فإنه مل يشهد

ىف قضائه ونفوذ أمره الكوىن ومشيئته وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه ال معصوم إال ] تعايل[عزة الرب وظ إال من حفظه، وأنه هو حمل جلريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها ىف سلسلة من عصمه وال حمف

.إرادته وشهوتهوأن تلك السلسلة طرفها بيد غريه فهو القادر على سوقه فيها إىل ما فيه صالحه وفالحه وإىل ما فيه

عطى التوحيد هالكه وشقاؤه، فهو لغيبته عن هذا املشهد وغلبة شهود املعصية والكسب على قلبه ال يحقه وال االستعاذة بربه واالستغاثة به وااللتجاء إليه واالفتقار والتضرع واالبتهال حقه، حبيث يشهد سر

من عقوبتك، وأعوذ بك ] بعفوك[وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ : ((قوله صلى اهللا عليه وسلم )).منك

قه ومشيئته، ولو شاء مل يكن، فإنه سبحانه رب كل شيء وخالق كل شيء، واملستعاذ منه واقع خبلفالفرار منه إليه واالستعاذة منه به وال ملجأ منه إال إليه وال مهرب منه إال إليه ال إله إال هو العزيز

.احلكيمفمخذول حمجوب عن شهود التوحيد مصدود عن شهود احلكمة اإلهلية، موكول - منكر القضاء والقدر

لرب ىف قضائه وكمال مشيئته ونفوذ حكمه وعن شهود عجزه ممنوع عن شهود عزة ا] فهو[إىل نفسه هو وفقره وأنه ال توفيق له إال باهللا، وأنه إن مل يعنه اهللا فهو خمذول وإن مل يوفقه وخيلق له عزمية الرشد وفعله فهو عنه ممنوع، فحجابه عن اهللا غليظ، فإنه ال حجاب أغلظ من الدعوى، وال طريق إىل اهللا

.الفتقار إليهأقرب من دوام امشهد التوحيد واألمر، فيشهد انفراد الرب باخللق، ونفوذ مشيئته وتعلق املوجودات : املشهد الرابع

بأسرها به وجريان حكمه على اخلليقة وانتهاءها إىل ما سبق هلا ىف علمه وجرى به قلمه، ويشهد ذلك له ارتباط املسببات بأسباهبا الىت جعلت أمره وهنيه وثوابه وعقابه، وارتباط اجلزاء باألعمال واقتضاءها

وانفراده باخللق ونفوذ مشيئته ] تعاىل[أسبابا مقتضية هلا شرعا وقدرا وحكمة، فشهوده توحيد الرب وجريان قضائه وقدره يفتح له باب االستعاذة ودوام االلتجاء إليه واالفتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة

Page 130: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ا عاجزا مسكينا ال ميلك لنفسه ضرا وال نفعا وال موتا وال حياة وال نشورا العبودية ويطرحه بالباب فقريوشهوده أمره تعاىل وهنيه وثوابه وعقابه يوجب له احلمد والتشمري وبذل الوسع والقيام باألمر والرجوع

ة والعلم على نفسه باللوم واالعتراف بالتقصري، فيكون سريه بني شهود العزة واحلكمة والقدرة الكامل .السابق واملنة العظيمة، وبني شهود التقصري واإلساءة منه وتطلب عيوب نفسه وأعماهلا

فهذا هو العبد املوفق املعان امللطوف به املصنوع له الذى أقيم مقام العبودية وضمن له التوفيق، وهذا هو بنا ظلمنا أنفسنا وإن لم ر{: مشهد الرسل صلوات اهللا وسالمه عليهم فهو مشهد أبيهم آدم إذ يقول

رب {: ، ومشهد أول الرسل نوح إذ يقول]٢٣: األعراف* [}تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين] ٤٧: هود* [}من الخاسرين إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم، وإال تغفر لى وترحمنى أكن

الذى خلقنى {: ومشهد إمام احلنفاء وشيخ األنبياء إبراهيم صلوات اهللا وسالمه عليهم أمجعني إذ يقول* حيني والذى يميتنى ثم ي* وإذا مرضت فهو يشفني * والذى هو يطعمنى ويسقني * فهو يهدين

رب اجعل هذا {:، وقال ىف دعائه]٨٢ -٧٨: الشعراء* [}والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين ].٣٥: إبراهيم* [}البلد آمنا واجنبنى وبنى أن نعبد األصنام

وبني الشرك وعبادة األصنام هو اهللا ال رب غريه، فعلم صلى اهللا عليه وسلم أن الذى حيول بني العبدأتهلكنا بما فعل {: وهذا هو مشهد موسى إذ يقول ىف خطابه لربه. فسأله أن جينبه وبنيه عبادة األصنام

لينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت السفهاء منا إن هى إال فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء، أنت و، أى إن ذلك إال امتحانك واختبارك، كما يقال فتنت الذهب إذا ]١٥٥: األعراف* [}خير الغافرين

إن الذين فتنوا المؤمنني{: امتحنته واختربته، وليس من الفتنة الىت هى الفعل املسيء كما ىف قوله تعاىل] ١٩٣: البقرة* [}وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة{: وكما ىف قوله تعاىل] ١٠: الربوج* [}والمؤمنات

بأن يضيف إليه هذه الفتنة وإمنا هى كالفتنة ىف ] تعاىل[فإن تلك فتنة املخلوق، فإن موسى أعلم باهللا ناك واختربناك وصرفناك ىف األحوال الىت قصها اهللا ، أى ابتلي]٤٠: طه* [}وفتناك فتونا{: قوله

.علينا من لدن والدته إلى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابه] سبحانه[واملقصود أن موسى شهد توحيد الرب وانفراده باخللق واحلكم وفعل السفهاء ومباشرهتم الشرك،

رب إنى ظلمت نفسى {: ، ومن هذا قوله]وجانيه[فتضرع إليه بعزته وسلطانه وأضاف الذنب إىل فاعله فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم ، وهذا مشهد ذى النون إذ {: ، قال تعاىل]١٦:القصص* [}فاغفر لى

د ربه ونزهه عن كل ، فوح]٨٧: األنبياء* [}ال إله إال أنت سبحانك إنى كنت من الظالمني{: يقولاللهم أنت ربى : ((عيب وأضاف الظلم إىل نفسه وهذا مشهد صاحب سيد االستغفار إذ يقول ىف دعائه

Page 131: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ما صنعت ال إله إال أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر )) .بوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى، إنه ال يغفر الذنوب إال أنتأ

فأقر بتوحيد الربوبية املتضمن النفراده سبحانه باخللق وعموم املشيئة ونفوذها، وتوحيد اإلهلية املتضمن لعبودية املتضمن لالفتقار من مجيع الوجوه إليه سبحانه، مث حملبته وعبادته وحده ال شريك له واالعتراف با

، فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه، وهو عهده الذى عهد إىل ))وأنا على عهدك ووعدك: ((قالعباده، وتصديق وعده وهو جزاؤه وثوابه فتضمن التزام األمر والتصديق باملوعود وهو اإلميان

ملا علم أن العبد ال يوىف هذا املقام حقه الذى يصلح له تعاىل علق ذلك باستطاعته واالحتساب، مث .أى ألتزم ذلك حبسب استطاعىت وقدرتى)) ما استطعت: ((وقدرته الىت ال يتعداها فقالأعوذ (( -:فقال -ومها مشهد القدرة والقوة، ومشهد التقصري من نفسه -مث شهد املشهدين املذكورين

، فهذه الكلمة تضمنت املشهدين معا، مث أضاف النعم كلها إىل وليها وأهلها ))شر ما صنعت بك من، فأنت احملمود ))أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى: ((واملبتديء هبا، والذنب إىل نفسه وعمله، فقال

.النعم كلها واملشكور الذى له الثناء كله واإلحسان كله ومنهفلك احلمد كله ولك الثناء كله ولك الفضل كله، وأنا املذنب املسيء املعترف بذنبه املقر خبطئه كما قال

.العارف يسري بني مشاهدة املنة من اهللا، ومطالعة عيب النفس والعمل: بعض العارفنيعيب النفس والعمل يوجب فشهود املنة يوجب له احملبة لربه سبحانه ومحده والثناء عليه ومطالعة

استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه سبحانه، مث ملا قام هذا بقلب الداعى وتوسل إليه هبذه )).فاغفر لى فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت: ((الوسائل قال

فصلوسلسلة اهلوى أحدمها من يشهد تسليط عدوه عليه وفساده إياه: مث أصحاب هذا املشهد فيه قسمان

وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أسري معه حبيث يسوقه إىل ضرب عنقه وهو مع ذلك ملتفت إىل ربه وناصره ووليه، عامل بأن جناته ىف يديه وناصيته بني يديه وأنه لو شاء طرده عنه وخلصه من يديه، فكلما

التضرع إليه والتذلل بني يديه، وكلما أراد قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر االلتفات إىل وليه وناصره واغترابه وبعده عن بابه تذكر عطفه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأفته ورمحته فاجنذبت دواعى قلبه هاربة إليه بتراميه على بابه منطرحة على فنائه، كعبد قد شدت يداه إىل عنقه وقدم لتضرب

إىل سيده أمامه وتذكر عطفه ورأفته به ووجد فرجة فوثب إليه منها وثبة عنقه وقد استسلم للقتل، فنظر أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيىت بني يديك، وال خالص ىل : طرح نفسه بني يديه ومد له عنقه وقال

.من هذا العدو إال بك وإىن مغلوب فانتصر

Page 132: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ال يناله الوصف، وفوقه مشهد أجل منه فهذا مشهد عظيم املنفعة جليل الفائدة حتته من أسرار العبودية ما وأعظم وأخص جتفو عنه العبارة، وإن اإلشارة إليه بعض اإلشارة، وتقريبه إىل الفهم بضرب مثل تعرب منه إليه وذلك مثل عبد أخذه سيده بيده وقدمه ليضرب عنقه بيده، فهو قد أحكم ربطه وشد عينيه وقد

ه ال غريه، وقد علم مع ذلك بره به ولطفه ورمحته ورأفته وجوده أيقن العبد أنه ىف قبضته وأنه هو قاتلوكرمه، فهو يناشده بأوصافه ويدخل عليه به، قد ذهب عن ومهه وشهوده كل نسب، فانقطع تعلقه بشيء سواه، فهو معرض عن عدوه الذى كان سبب غضب سيده عليه، قد حما شهوده من قلبه، فهو

.بضته ناظر إىل ما يصنعه، منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمهمقصور النظر إىل سيده وكونه ىف قومثل األول مثل عبد أمسكه عدوه وهو خينقه للموت وذلك العبد يشهد دنو عدوه له، ويستغيث بسيده وسيده يغيثه ويرمحه، ولكن ما حيصل للثاىن ىف مشهده ذلك من األمور العجيبة فوق ما حيصل لألول،

اخنق خنقك، : قد أخذه حمبوبه فهو خينقه خنقة وهو ال يشهد إال خنقه له، فهو يقولوهو مبنزلة من .فأنت تعلم أن قلىب حيبك

وىف هذا املثل إشارة وكفاية، ومن غلظ حجابه وكتفت طباعه ال ينفعه التصريح فضال عن ضرب .فهذه ستة مشاهد. واهللا املستعان وعليه التكالن، وال قوة إال باهللا. األمثال

مشهد احلكمة، وهو أن يشهد حكمة اهللا ىف ختليته بينه وبني الذنب وإقداره عليه وهتيئتة : املشهد السابعأسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه حلكم عظيمة ال يعلم جمموعها إال

:اهللابة وفرحه هبا قضى على عبده بالذنب، مث إذا كان أنه حيب التوابني ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتو: أحدها

.ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة .تعريف العبد عزة اهللا سبحانه ىف قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه: الثاىنتعريفه حاجته إىل حفظه وصيانته، وأنه إن مل حيفظه ويصنه فهو هالك وال بد، والشياطني قد : الثالث

.ليه متزقه كل ممزقمدت أيديها إاستجالبه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه واالبتهال : الرابع

.بني يديهإرادته من عبده تكميل مقام الذل واالنكسار، فإنه مىت شهد صالحه واستقامته مشخ بأنفه وظن : اخلامس .عنده نفسه وذل وتيقن ومتىن أنه وأنه فإذا ابتاله بالذنب تصاغرت.. أنه وأنهتعريفه حبقيقة نفسه وأهنا اخلطائة اجلاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خري فمن اهللا : السادس

.من به عليه ال من نفسه

Page 133: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه ىف ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب وهلتكه بني عباده : السابع

.لم يصف له معهم عيشف .تعريفه أنه ال طريق إىل النجاة إال بعفوه ومغفرته: الثامن .تعريفه كرمه ىف قبول توبته ومعرفته له على ظلمه وإساءته: التاسعإقامة احلجة على عبده، فإن له عليه احلجة البالغة، فإن عذبته فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسري : العاشر .منه

أن يعامل عباده ىف إساءهتم إليه وزالهتم معه مبا جيب أن يعامله اهللا به، فإن اجلزاء من :احلادى عشر .جنس العمل، فيعمل ىف ذنوب اخللق معه ما حيب أن يصنعه اهللا بذنوبه

أن يقيم معاذير اخلالئق وتتسع رمحته هلم، مع إقامة أمره اهللا فيهم، فيقيم أمر فيهم رمحة هلم، : الثاىن عشر .وة وفظاظة عليهمال قس

.أن خيلع صولة الطاعة واإلحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورمحة: الثالث عشرلو لم تذنبوا لخفت : ((أن يعريه من رداء العجب بعمله كما قال النىب صلى اهللا عليه وسلم: الرابع عشر

.ل، أو كما قا))عليكم ما هو أشد منه، العجبأن يعريه من لباس اإلدالل الذى يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذى ال يليق بالعبد : اخلامس عشر

.سواه .أن يستخرج من قلبه عبوديته باخلوف واخلشية وتوابعهما من البكاء واإلشفاق والندم: السادس عشرمن ترىب ىف العافية ال يعرف أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله ىف توفيقه وعصمته، فإن : السابع عشر

.ما يقاسيه املبتلى وال يعرف مقدار العافيةأن يستخرج منه حمبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن اهللا حيبه ويوجب له هبذه : الثامن عشر

التوبة مزيد حمبة وشكر ورضا ال حيصل بدون التوبة وإن كان حيصل توبة بغريها من الطاعات أثر آخر، .لكن هذا األثر اخلاص ال حيصل إال بالتوبة

أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة اهللا لعلمه بأن الواصل إليه منها كثري : التاسع عشرعلى مسيء مثله، فاستقل الكثري من عمله لعلمه بأن الذى يصلح له أن يغسل به جناسته وذنوبه أضعاف

مستقل لعلمه كائنا ما كان، ولو مل يكن ىف فوائد الذنب وحكمه إال هذا أضعاف ما يفعله، فهو دائما .وحده لكان كافيا

Page 134: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أنه يوجب له التيقظ واحلذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، ومباذا : العشرون .حيذر منه، كالطبيب الذى ذاق املرض والدواء

دعوى، ويفتح له طريق الفاقة فإنه ال حجاب أغلظ من أنه يرفع عنه حجاب ال: الثاىن والعشرون .الدعوى، وال طريق أقرب من العبودية، فإن دوام الفقر إىل اهللا مع التخليط خري من الصفاء مع العجب

أن تكون ىف القلب أمراض مزمنة ال يشعر هبا، فيطلب دواءها فيمن عليه اللطيف : الثالث والعشرونب ظاهر فيجد أمل مرضه فيحتمى ويشرب الدواء النافع فتزول تلك األمراض اخلبري، ويقضى عليه بذن

:الىت مل يكن يشعر هبا، ومن مل يشعر هبذه اللطيفة فغلظ حجابه كما قيل لعل عتبك حممود عواقبه ورمبا صحت األجسام بالعلل

و فرحه وسروره إذا أن يذيقه أمل احلجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته أ: الرابع والعشرونمبنزلة - بعد أن صدر منه ما صدر -أقبل بقلبه إليه ومجعه عليه وأقامه ىف طاعته، فيكون التذاذه ىف ذلك

.التذاذ الظمآن باملاء العذب الزالل، والشديد اخلوف باألمن، واحملب الطويل اهلجر بوصل حمبوبه .يا بؤس من أعرض عن معرفة ربه وحمبتهوإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، ف

امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وواليته أم ال، فإنه إذا وقع الذنب، سلب : اخلامس والعشرونفإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إىل لذة تلك املعاملة . حالوة الطاعة والقرب، ووقع ىف الوحشة

ها إىل ما عودها من بره ولطفه، وإن ركنت عنها واستمر فحنت وأنت وتضرعت واستعانت برهبا لريدإعراضها ومل حتن إىل تعهدها األول ومألفها ومل حتس بضرورهتا وفاقتها الشديدة إىل مراجعة قرهبا من

.رهبا علم أهنا ال تصلح هللا، وقد جاء هذا بعينه ىف أثر إهلى ال أحفظه

ت تركيب الشهوة والغضب ىف اإلنسان أو بعضها، ولو مل أن احلكمة اإلهلية اقتض: السادس والعشرونخيلق فيه هذه الدواعى مل يكن إنسانا بل ملكا، فالذنب من موجبات البشرية، كما أن النسيان من

وال يتم ، ))كل بنى آدم خطاء، وخير اخلطائني التوابون: ((موجباهتا، كما قال النىب صلى اهللا عليه وسلم .واهللا أعلم. االبتالء واالختبار إال بذلك

أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فال يزال نصب عينيه، فإن اهللا إذا أراد بعبد : السابع والعشرونخريا سلب رؤية أعماله احلسنة من قلبه واإلخبار هبا من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فال يزال نصب عينيه

.نة، فإن ما تقبل من األعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكرهحىت يدخل اجل: إن العبد ليعمل اخلطيئة فيدخل هبا اجلنة، ويعمل احلسنة فيدخل هبا النار، قالوا: وقال بعض السلف

يعمل اخلطيئة فال تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إىل اهللا وبادر إىل : كيف؟ قال

Page 135: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكربه، ويعمل احلسنة فال تزال نصب عينيه يراها ومين هبا حموها وان .ويعتد هبا ويتكرب هبا حىت يدخل النار

أن شهود ذنبه وخطيئته يوجب له أن ال يرى له على أحد فضال وال له على أحد : الثامن والعشرونال يظن أنه خري من مسلم يؤمن باهللا واليوم فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة وخطأها وذنوهبا . حقا

اآلخر، وإذا شهد ذلك من نفسه مل ير هلا على الناس حقوقا من اإلكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام هبا، فإهنا عنده أخس قدرا وأقل قيمة من أن يكون هلا على عباد اهللا حقوق جيب مراعاهتا، أو

لزموه ألجله، فريى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه هلا عليهم فضل يستحق أن يوبذل له ما ال يستحقه فاستراح ىف نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه، وأين هذا ممن ال يزال عاتبا على اخللق شاكيا ترك قيامهم حبقه ساخطا عليهم وهم

.أسخط؟ فسبحان ذى احلكمة الباهرة الىت هبرت عقول العاملني عليهأنه يوجب له اإلمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه ىف شغل بعيبه ونفسه، : التاسع والعشرون

وطوىب ملن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل ملن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فاألول عالمة .لشقاوةالسعادة، والثاىن عالمة ا

رب : أنه يوجب له اإلحسان إىل الناس واالستغفار إلخوانه اخلاطئني من املؤمنني فيصري هجرياه: الثالثوناغفر ىل ولوالدى وللمسلمني واملسلمات واملؤمنني واملؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه اخلاطئني يصابون

فكما حيب أن يستغفر له أخوه املسلم حيب أن مبثل ما أصيب به، وحيتاجون إىل مثل ما هو حمتاج إليه،أتجعل فيها {:إن اهللا ملا عتب على املالئكة ىف قوهلم: يستغفر هو ألخيه املسلم، وقد قال بعض السلف

، وامتحن هاروت وماروت جعلت املالئكة بعد ذلك ]٣٠: البقرة* [}من يفسد فيها ويسفك الدماء .آدم ويدعون اهللا هلمتستغفر لبىن

أنه يوجب له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته ملن أساء إليه، فإنه إذا شهد نفسه مع وبه : احلادى والثالثونمع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إىل ربه وعدم استغنائه عنه طرفة - سبحانه مسيئا خاطئا مذنبا

اخللق ويعاملوه مبحض اإلحسان وهو مل يعامل ربه فكيف يطمع أن يستقيم له -عني وهذا حاله مع ربهبتلك املعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته ىف كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك،

.وهذا يوجب أن يغفر هلم ويساحمهم ويعفو عنهم ويغضى عن االستقصاء ىف طلب حقه قبلهم قاعدة

: الزمر* [}وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له{: ابة واألمر هبا كقوله تعاىلكثريا ما يتكرر ىف القرآن ذكر اإلن، ]٨٨: هود* [}وما توفيقى إال باهللا عليه توكلت وإليه أنيب{: ، وقوله حكاية عن شعيب أنه قال]٥٤

Page 136: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن اهللا يضل من يشاء ويهدى إليه {: ، وقوله]٨: ورة قس* [}تبصرة وذكرى لكل عبد منيب{: وقوله، واإلنابة ]٢٤: سورة ص* [}وخر راكعا وأناب{: ، وقوله عن نبيه داود]٢٧: الرعد* [}من أناب

يب حمب ملن الرجوع إىل اهللا وانصراف دواعى القلب وجواذبه إليه، وهى تتضمن احملبة واخلشية، فإن املنوالناس ىف إنابتهم على درجات متفاوتة فمنهم املنيب إىل اهللا بالرجوع . أناب إليه خاضع له خاشع ذليل

إليه من املخالفات واملعاصى، وهذه اإلنابة مصدرها مطالعة الوعيد، واحلامل عليها العلم واخلشية ربات، فهو ساع فيها جبهده وقد حبب إليه واحلذر، ومنهم املنيب إليه بالدخول ىف أنواع العبادات والق

فعل الطاعات وأنواع القربات، وهذه اإلنابة مصدرها الرجاء ومطالعة الوعد والثواب وحمبة الكرامة من اهللا وهؤالء أبسط نفوسا من أهل القسم األول وأشرح صدورا وجانب الرجاء ومطالعة الرمحة واملنة

الفريقني منيب باألمرين مجيعا، ولكن خوف هؤالء اندرج ىف رجائهم أغلب عليهم، وإال فكل واحد من فأنابوا بالعبادات، ورجاء األولني اندرج حتت خوفهم فكانت إنابتهم بترك املخالفات ومنهم املنيب إىل

.اهللا بالتضرع والدعاء واالفتقار إليه والرغبة وسؤال احلاجات كلها منهل واملنة والغىن والكرم والقدرة، فأنزلوا به حوائجهم وعلقوا به آماهلم، ومصدر هذه اإلنابة شهود الفض

فإنابتهم إليه من هذه اجلهة مع قيامهم باألمر والنهى، ولكن إنابتهم اخلاصة إمنا هى من هذه اجلهة، وأما قط إنابة اضطرار ال األعمال فلم يرزقوا فيها اإلنابة اخلاصة وأملهم املنيب إليه عند الشدائد والضراء ف

* }وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إال إياه{: إنابة اختيار كحال الذين قال اهللا ىف حقهم، ]٦٥: العنكبوت* [}فإذا ركبوا فى الفلك دعوا اهللا مخلصني له الدين{: ، وقوله تعاىل]٦٧: اإلسراء[

وهؤالء كلهم قد تكون نفس أرواحهم ملتفتة عن اهللا سبحانه معرضة عنه إىل مألوف طبيعى نفساىن قد حال بينها وبني إنابتها بذاهتا إىل معبودها وإهلها احلق، فهى ملتفتة إىل غريه وهلا إليه إنابة ما حبسب إمياهنا

به ومعرفتها لهلتها إليه لشدة احملبة اخلالصة الغنية هلم عما سوى حمبوهبم ومعبودهم فأعلى أنواع اإلنابة إنابة الروح جبم

وحني أنابت إليه أرواحهم مل خيتلف منهم شيء عن اإلنابة، فإن األعضاء كلها رعيتها وملكها تبع للروح فلما أنابت الروح بذاهتا إليه إنابة حمب صادق احملبة ليس فيه عرق وال مفصل إال وفيه حب

.فأناب القلب أيضا باحملبة والتضرع والذل واالنكسار: حملبوبه أنابت مجيع القوى واجلوارح ساكنوأناب العقل بانفعاله ألوامر احملبوب ونواهيه، وتسليمه هلا، وحتكيمه إياها دون غريها، فلم يبق فيه

لنفسانية واألخالق الذميمة منازعة شبهة معترضة دوهنا، وأنابت النفس باالنقياد واالخنالع عن العوائد اواإلرادات الفاسدة، وانقادت للألمر خاضعة له وداعية فيه مؤثرة إياه على غريه، فلم يبق فيها منازعة

Page 137: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

شهوة تعترضها دون األمر، وخرجت عن تدبريها واختيارها تفويضا إىل موالها ورضى بقضائه وتسليما .حلكمه .الصفات املذمومة ىف النفسإن تدبري العبد لنفسه هو آخر : وقد قيل

وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها . وأناب اجلسد باألعمال والقيام هبا فرضها وسننها على أكمل الوجوهاخلاصة فلم يبق من هذا العبد املنيب عرق وال مفصل إال وله إنابة ورجوع إىل احلبيب احلق الذى كل

ىف مباديها فإهنا عذاب ىف عواقبها، فإنابة العبد حمبة سوى حمبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عذبة ولو ساعة من عمره هذه اإلنابة اخلالصة أنفع له وأعظم مثرة من إنابة سنني كثرية من غريه، فأين إنابة

هذا من إنابة من قبله؟فهى وذلك فضل اهللا يؤتيه من يشاء، بل هذه روحه منيبة أبدا، وإن توارى عنه شهود إنابتها باشتغال

.كامنة فيها كمون النار ىف الزنادوأما أصحاب اإلنابات املتقدمة فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر واالبتهال فلنفسه وروحه وقلبه . وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ببعضه ساعة مث يترك ذلك مقبال على دواعى نفسه وطبعه

.وال إله سواهواهللا املوفق املعني، ال رب غريه قاعدة

:ىف ذكر طريق يوصل إىل االستقامة ىف األحوال واألقوال واألعمال، وهى شيئان ...)يتبع(

حراسة اخلواطر وحفظها، واحلذر من إمهاهلا واالسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من : أحدمها@ ن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه قبلها جييء، ألهنا هى بذر الشيطان، والنفس ىف أرض القلب، فإذا متك

مرة بعد أخرى حىت تصري إرادات، مث يسقيها حىت تكون عزائم، مث ال يزال هبا حىت تثمر األعمال وال ريب أن دفع اخلواطر أيسر من دفع اإلرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزا أو كالعاجز عن دفعها

ا مل يدفعها وهى خاطر ضعيف، كمن هتاون بشرارة من نار بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو املفرط إذ فما الطريق إىل حفظ اخلواطر؟: وقعت ىف حطب يابس، فلما متكنت منه عجز عن إطفائها، فإن قلت

:أسباب عدة: قلت .العلم اجلازم باطالع الرب تعاىل ونظره إىل قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك: أحدها .حياؤك منه: الثاىن .اللك له أن يرى مثل تلك اخلواطر ىف بيته الذى خلقه ملعرفته وحمبتهإج: الثالث .خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك اخلواطر: الرابع

Page 138: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

.إيثارك له أن تساكن قلبك غري حمبته: اخلامسخشيتك أن تتولد تلك اخلواطر يستعر شرارها فتأكل ما ىف القلب من اإلميان وحمبة اهللا فتذهب : السادس .ة وأنت ال تشعربه مجلأن تعلم أن تلك اخلواطر مبنزلة احلب الذى يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو : السابع

.حبة ىف فخ منصوب لصيدك وأنت ال تشعرأن تعلم أن تلك اخلواطر الرديئة ال جتتمع هى وخواطر اإلميان ودواعى احملبة واإلنابة أصال، بل : الثامن

ن كل وجه، وما اجتمعا ىف قلب إال وغلب أحدمها صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه فما هى ضدها مالظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر اإلميان واملعرفة واحملبة فأخرجتها واستوطنت

.مكاهنا، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بأمل ذلك وأحس مبصابهمن حبور اخليال ال ساحل له، فإذا دخل القلب ىف غمراته غرق فيه أن يعلم أن تلك اخلواطر حبر: التاسع

وتاه ىف ظلماته فيطلب اخلالص منه فال جيد إليه سبيال، فقلب متلكه اخلواطر بعيد من الفالح معذب .مشغول مبا ال يفيد

واخلزى، وإذا أن تلك اخلواطر هى وادى احلمقى وأماىن اجلاهلني، فال تثمر لصاحبها إال الندامة: العاشرغلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطاهنا وأفسدت عليه رعيته وألقته ىف األسر الطويل كما أن هذا معلوم ىف اخلواطر النفسانية فهكذا اخلواطر اإلميانية الرمحانية هى أصل اخلري كله، فإن أرض

ابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب، وسقيت مرة القلب إذا بذر فيها خواطر اإلميان واخلشية واحملبة واإلنبعد مرة، وتعاهدها صاحبها حبفظها ومراعاهتا والقيام عليها، أمثرت له كل فعل مجيل، ومألت قلبه من اخلريات، واستعملت جوارحه ىف الطاعات، واستقر هبا امللك ىف سلطانه واستقامت له رعيته، وهلذا ملا

ك عملت على حفظ اخلواطر، وكان ذلك هو سريها وجل عملها وهذا حتققت طائفة من السالكني ذلأن ال جيعل جمرد حفظها هو : أن ال يترك به واجبا، وال سنة، الثاىن: أحدمها: نافع لصاحبه بشرطني

املقصود بل ال يتم ذلك إال بأن جيعل موضعها خواطر اإلميان واحملبة واإلنابة والتوكل واخلشية فيفرغ قلبه لك اخلواطر ويعمره بأضدادها، وإال فمىت عمل على تفريغه منها معا كان خاسرا، فال بد من من ت

.التفطن هلذاومن هنا غلط أقوام من أرباب السلوك وعملوا على إلقاء اخلواطر وإزالتها مجلة فبذر فيها الشيطان أنواع

ون، وإمنا هى خياالت وفتوحات شيطانية، الشبه واخلياالت فظنوها حتقيقا وفتحا رمحانيا، وهم فيها غالط .واهللا املستعان. وامليزان هو الكتاب الناطق والفطرة السليمة والعقل املؤيد بنور النبوة

الفصل الثاين

Page 139: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

صدق التأهب للقاء اهللا من أنفع ما للعبد وأبلغه ىف حصول استقامته، فإن من استعد للقاء اهللا انقطع قلبه ومطالبها، ومحدت من نفسه نريان الشهوات وأخبت قلبه إىل ربه تعاىل وعكفت مهته عن الدنيا وما فيها

على اهللا وعلى حمبته وإيثار مرضاته، واستحدثت مهة أخرى وعلوما أخر وولد والدة أخرى تكون نسبة والدة حقيقية قلبه فيها إىل الدار اآلخرة كنسبة جسمه إىل هذه الدار بعد أن كان ىف بطن أمه فيولد قلبه

كما ولد جسمه حقيقة، وكما كان بطن أمه حجابا جلسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار اآلخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزا إىل الدار اآلخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزا

إسرائيل، إنكم لن تلجوا ملكوت يا بىن: ((إىل هذه الدار، وهذا معىن ما يذكر عن املسيح أنه قالفضال عن -، وملا كان أكثر الناس مل يولدوا هذه الوالدة الثانية وال تصوروها))السماء حىت تولدوا مرتني

كيف يولد الرجل الكبري أم كيف يولد القلب، مل يكن هلم إليها مهة وال : فيقول القائل - أن يصدقوا هبايء من ال يعرفه وال يصدقه؟ ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب عزمية، إذ كيف يعزم على الش

صدق بذلك وعلم أنه مل يولد قلبه بعد واملقصود أن صدق التأهب للقاء اهللا هو مفتاح مجيع األعمال ابة الصاحلة واألحوال اإلميانية ومقامات السالكني إىل اهللا ومنازل السائرين إليه،من اليقظة والتوبة واإلن

واحملبة والرجاء واخلشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب واجلوارح، فمفتاح ذلك كله صدق .التأهب واالستعداد للقاء اهللا، واملفتاح بيد الفتاح العليم ال إله غريه وال رب سواه

قاعدة شريفةدا الوصول إليه، وهذا هو فالعلية من عرف الطريق إىل ربه وسلكها قاص. علية وسفلة: الناس قسمان

والسفلة من مل يعرف الطريق إىل ربه ومل يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذى قال اهللا تعاىل . الكرمي على ربه ].١٨: احلج* [}ومن يهن اهللا فما له من مكرم{: فيه

ى نصبه موصال ملن سلكه إليه، والطريق إىل اهللا ىف احلقيقة واحد ال تعدد فيه، وهو صراطه املستقيم الذ، فوحد سبيله ]١٥٣: األنعام* [}وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه وال تتبعوا السبل{: قال اهللا تعاىل

ألنه ىف نفسه واحد ال تعدد فيه، ومجع السبل املخالفة ألهنا كثرية متعددة، كما ثبت أن النىب صلى اهللا هذا سبل، : هذا سبيل اهللا، مث خط خطوطا عن ميينه وعن يساره مث قال: ((ط خطا مث قالعليه وسلم خ

وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه وال تتبعوا السبل {: على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، مث قرأاهللا ولى الذين آمنوا يخرجهم من {: قوله تعاىل ومن هذا])) ١٥٣:األنعام* [}فتفرق بكم عن سبيله

: البقرة* [}الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات .الشيطان ، فوجد النور الذى هو سبيله ومجيع الظلمات الىت هى سبيل]٢٥٧

Page 140: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الحمد هللا الذى خلق السموات {: ومن فهم هذا فهم السر ىف إفراد النور ومجع الظلمات ىف قوله تعاىلمع أن فيه سرا ألطف من هذا يعرفه من يعرف منبع ] ١:األنعام* [}واألرض وجعل الظلمات والنور

أصله كله واحد، وأما الظلمات فهى متعددة بتعدد احلجب النور ومن أين فاض وعماذا حصل وأناملقتضية هلا، وهى كثرية جدا، لكل حجاب ظلمة خاصة، وال ترجع الظلمات إىل النور اهلادى جل جالله أصال ال وصفا وال ذاتا وال امسا وال فعال، وإمنا ترجع إىل مفعوالته سبحانه، فهو جاعل الظلمات

عددة متكثرة، خبالف النور فإنه يرجع إىل امسه وصفته جل جالله، تعاىل أن يكون كمثله ومفعوالهتا مت .شيء وهو نور السموات واألرض

ليس عند ربكم ليل وال هنار، نور السموات واألرض من نور وجهه ذكره الدارمى : قال ابن مسعود .نور، أنى أراه،: اليا رسول اهللا هل رأيت ربك؟ ق: وىف صحيح مسلم عن أىب ذر قلت. عنه

وأما الباطل . واملقصود أن الطريق إىل اهللا تعاىل واحد، فإنه احلق املبني واحلق واحد، مرجعه إىل واحدوالضالل فال ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إىل الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه

.متعددةلطريق إىل اهللا متعددة متنوعة جعلها اهللا كذلك لتنوع وأما ما يقع ىف كالم بعض العلماء أن ا

وكشف .االستعدادات واختالفها، رمحة منه وفضال، فهو صحيح ال يناىف ما ذكرناه من وحدة الطريقذلك وإيضاحه أن الطريق وهى واحدة جامعة لكل ما يرضى اهللا، وما يرضيه متعدد متنوع فجميع ما

ة متنوعة حبسب األزمان واألماكن واألشخاص واألحوال، وكلها يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددطرق مرضاته، فهذه الىت جعلها اهللا سبحانه لرمحته، وحكمته كثرية متنوعة جدا الختالف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعا واحدا مع اختالف األذهان والعقول وقوة االستعدادات وضعفها مل

واحد بعد واحد، ولكن ملا اختلفت االستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امريء إىل ربه يسلكها إال .طريقا يقتضيها استعداده وقوته وقبوله

ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختالفها مع رجوعها كلها إىل دين واحد بل تنوع الشريعة الواحدة مع ، فأوالد العالت أن ))بياء أوالد عالت دينهم واحداألن: ((وحدة املعبود ودينه، ومنه احلديث املشهور

يكون األب واحدا واألمهات متعددة، فشبه دين األنبياء باألب الواحد وشرائعهم باألمهات املتعددة، .فإهنا وإن تعددت فمرجعها كلها إىل أب واحد

اهللا طريق العلم والتعليم، قد وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذى يعد سلوكه إىلوفر عليه زمانه مبتغيا به وجه اهللا فال يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حىت يصل من تلك

Page 141: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الطريق إىل اهللا ويفتح له فيها الفتح اخلاص أو ميوت ىف طريق طلبه فريجى له الوصول إىل مطلبه بعد .مماته

* }ن بيته مهاجرا إلى اهللا ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على اهللاومن يخرج م{: قال تعاىل ].١٠٠: النساء[

وقد حكى عن مجاعة كثرية ممن أدركه األجل وهو حريص طالب للقرآن أنه رؤى بعد موته وأخربه أنه ومن الناس من يكون سيد . عبد ميوت على ما عاش عليهىف تكميل مطلوبه وأنه يتعلم ىف الربزخ، فإن ال

عمله الذكر وقد جعله زاده ملعاده ورأس ماله ملآله، فمىت فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غنب وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصالة، فمىت قصر ىف ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غري

.ظلم عليه وقته وضاق صدرهمشغول هبا أو مستعد هلا أومن الناس من يكون طريقه اإلحسان والنفع املتعدى، كقضاء احلاجات وتفريج الكربات وإغاثة

ومن الناس من يكون طريقه . اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له ىف هذا وسلك منه طريقا إىل ربهمن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو مىت و. تالوة القرآن وهى الغالب على أوقاته وهى أعظم أورداه

.أفطر تغري عليه قلبه وساءت حالهومنهم يكون طريقه األمر باملعروف والنهى عن املنكر قد فتح اهللا له فيه ونفذ منه إىل ربه، ومنهم من

م ومنهم من يكون طريقه قطع العالئق وجتريد اهلمة ودوا. يكون طريقه الذى نفذ فيه احلج واالعتمار .املراقبة ومراعاة اخلواطر وحفظ األوقات أن تذهب ضائعة

ومنهم من جامع املنفذ السالك إىل اهللا ىف كل واد الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسري معها حيث سارت قد ضرب من كل فريق بسهم، فأين

إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته ىف صف اجملاهدين، أو : ناككانت العبودية وجدته هصالة وجدته ىف القانتني، أو ذكر وجدته ىف الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته ىف زمرة احملسنني، أو

ت ومراقبة وحمبه وإنابة إىل اهللا وجدته ىف زمرة احملبني املنيبني، يدين بدين العبودية أنى استقلأريد أن أنفذ : ما تريد من األعمال؟ لقال: ركائبها،ويتوجه إليها حيث استقرت مضارهبا، لو قيل له

أوامر رىب حيث كانت وأين كانت جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت مجعيتني أو فرقتني أو فرقتىن، والقلب والبدن والسر قد ليس ىل مراد إال تنفيذها والقيام بأدائها مراقبا له فيها عاكفا عليه بالروح

إن اهللا اشترى من المؤمنني أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة {: سلمت إليه املبيع منتظرا منه تسليم الثمن ، فهذا هو العبد السالك إىل ربه النافذ إليه حقيقة]١١١: التوبة* [}

Page 142: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

لبه ويعلق به تعلق احملب التام احملبه مبحبوبه فيسلو به عن مجيع املطالب ومعىن النفوذ إليه أن يتصل به قفإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف . سواه، فال يبقى ىف قلبه إال حمبة اهللا وأمره وطلب التقريب إليه

حسن وأبلغ عليه ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقلبه إليه وتواله ىف مجيع أموره ىف معاشه ودينه وتوىل تربيته أمما يرىب الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه القيوم املقيم لكل شيء من املخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته مبن أحبه وتواله وآثره على ما سواه، ورضى به من الناس حبيبا وربا، ووكيال

ه له من حيث يعلم ومن حيث ال يعلم وناصرا ومعينا وهاديا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعلذاب قلبه حباله وشوقا إليه ويقع شكرا له، ولكن حجب القلوب باألسباب، فصدت عن كمال

.نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليمال فأى قلب يذوق حالوة معرفة اهللا وحمبته مث يركن إىل غريه ويسكن إىل ما سواه؟ هذا ما ال يكون

شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلة إىل اهللا مث تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته أبدا، ومن ذاق ولذاته وقع ىف آثار املعاطب وأودع قلبه سجون املضايق وعذب ىف حياته عذابا مل يعذبه أحد من العاملني، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كمد وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره

تت عليه مشله، وأحضرت نفسه الغموم واألحزان، فال لذة اجلاهلني وال راحة العارفني، يستغيث فال وشيغاث ويشتكى فال يشكى، فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آالمه، وأحزانه وحسراته مقبلة،

ظفر بقرهبم، وأبدلوه مكان فقد أبدل بأنسه وحشه وبعزه ذال وبغناه فقرا وجبمعيته تشتيتا، وأبعدوه فلم ياألنس إحياشا، ذلك بأنه عرف طريقه إىل اهللا مث تركها وناكبا عنها مكبا على وجهه، فأبصر مث عمى وعرف مث أنكر وأقبل مث أدبر ودعى فما أجاب وفتح له فوىل ظهره الباب، قد ترك طريق مواله وأقبل

راحاته وشئونه فهو مقيد القلب عن انطالقه ىف فسيح بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ بالتوحيد وميادين األنس ورياض احملبة وموائد القرب، قد احنط بسبب إعراضه عن إهله احلق إىل أسفل

إذ - السافلني، وحصل ىف عداد اهلالكني فنار احلجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنهمراده، فهو قرب ميشى على وجه األرض فروحه ىف وحشة من جسمه حائل بينه وبني - أعرض عن ربه

وقلبه ىف مالل من حياته، يتمىن املوت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حىت إذا جاءه املوت على تلك احلال والعياذ باهللا فال تسأل عما حيل به من العذاب األليم بسب وقوع احلجاب بينه وبني مواله احلق وإحداقه

.لبعد عن قربه واإلعراض عنه وقد حيل بينه وبني سعادته وأمنيتهبنار افلو توهم العبد املسكني هذه احلال وصورهتا له نفسه وأرته إياها على حقيقتها لتقطع واهللا قلبه ومل يلتذ بطعام وال شراب، وخلرج إىل الصعدات جيأر إىل اهللا ويستغيث به ويستعتبه ىف زمن االستعتاب، هذا مع

ه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية الىت كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذاهتا أحوج ما كان أن

Page 143: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

حتى إذا أخذت {: إليها، وحيل بينه وبينها أقدر ما كان عليه، وتلك سنة اهللا ىف خلقه كما قال تعاىلادرون عليها أتاها أمرنا ليال أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن األرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم ق

، وهذا هو غب إعراضه وإيثار ]٢٤: يونس* [}لم تغن باألمس، كذلك نفصل اآليات لقوم يتفكرونخسر األمرين مجيعا، فيكون معذبا ىف الدنيا شهوته على مرضاة ربه، فيعوق القدر عليه أسباب مراده في

بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما مل يقسم له، وإن قسم له منه شيء فحشوه اخلوف واحلزن والنكد واألمل، فهم ال ينقطع وحسرة ال تنقضى وحرص ال ينفد وذل ال ينتهى وطمع ال يقلع، هذا ىف

.هذه الدارقد حيل بينه وبني ما يشتهى، وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه : ف ذلكوأما ىف الربزخ فأضعاف أضعا

وأما ىف دار اجلزاء فسجن أمثاله من املبعودين . وكرامته ونيل ثوابه، وأحضر مجيع غمومه وأحزانه .املطرودين

ه فواغوثاه مث واغوثاه بغياث املستغيثني بأرحم الرامحني، فمن أعرض عن اهللا بالكلية أعرض اهللا عنبالكلية، ومن أعرض اهللا عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس ىف أحواله وأعماله وقارنه سوء احلال وفساده ىف دينه ومآله، فإن الرب تعاىل إذا أعرض عن جهة دارت هبا النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت

ا للبالء، فاحملروم أنوارها وظهرت عليها وحشة اإلعراض وصارت مأوى للشياطني وهدفا للشرور ومصب .كل احملروم من عرف طريقا إليه مث أعرض عنها أو وجد بارقة من حبه مث سلبها مل ينفذ إىل ربه منه

خصوصا إذا مال بتلك اإلرادة إىل شيء من اللذات، وانصرف جبملته إىل حتصيل األغراض والشهوات ا من األوج األعلى إىل احلضيض األدىن، قد مضت عاكفا على ذلك ىف ليله وهناره وغدوه ورواحه، هابط

عليه برهة من أوقاته وكان مهه اهللا وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه، على ذلك يصبح وميسى ويظل ويضحى وكان اهللا ىف تلك احلال وليه ألنه وىل من تواله وحبيب من أحبه ووااله فأصبح

سر العدو مقيما وىف بئر املعصية ساقطا وىف أودية احلرية والتفرقة هائما، ىف سجن اهلوى ثاويا وىف أمعرضا عن املطالب العالية إىل األغراض اخلسيسة الفانية، كان قلبه حيوم حول العرش فأصبح حمبوسا ىف

:أسفل احلش فأصبح كالبازى املنتف ريشـه ذيرى حسـرات كلما طار طـائر

رياض منعما على كل ما يهوى من الصيد قـادروقد كان دهرا ىف ال إىل أن أصابته من الدهر نكبـة إذا هو مقصوص اجلناحني حاسـر

Page 144: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه وحمبته مث أعرض عنها واستبدل بغريها منها، يا عجبا له بأى شيء تعرض سوى أحنيته سكنا، وجعل قلبه وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إىل أحنيته وما تعرض وكيف اختذ

.ملن عاداه مواله من أجله وطناأم كيف طاوعه قلبه على االصطبار ووافقه على مساكنة األغيار، فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه املقيم، ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب األليم، ويا مسخطا من حياته وراحته وفوزه ىف رضاه وطالبا

من سعادته ىف إرضاء سواه، إمنا هى لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاهتا وتبقى تبعاهتا، فرح رضى ساعة ال شهر وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم أوله لذة وآخره هالك، فالعامل عليها والساعى ىف

تنفع الندامة حتصيلها كدودة القز يسد على نفسه املذاهب مبا نسج عليها من املعاطب، فيندم حني الويستقيل حني ال تقبل االستقالة فطوىب ملن أقبل على اهللا بكليته وعكف عليه بإرادته وحمبته، فإن اهللا يقبل عليه بتوليه وحمبته وعطفه ورمحته، وإن اهللا سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاهتا

اجلالل وآثار اجلمال، وتوجه إليه أهل املأل األعلى وتنورت ظلماهتا وظهرت عليه آثار إقباله من هبجة: باحملبة واملواالة ألهنم تبع ملوالهم، فإذا أحب عبدا أحبوه وإذا واىل واليا والوه، إذا أحب اهللا العبد نادى

إن اهللا حيب فالنا فأحبوه، فيحبه أهل : يا جربائيل إىن أحب فالنا فأحبه، فينادى جربائيل ىف السماءالسماء مث حيبه أهل األرض، فيوضع له القبول بينهم، وجيعل اهللا قلوب أوليائه تفد إليه بالود واحملبة والرمحة، وناهيك مبن يتوجه إليه مالك امللك ذو اجلالل واإلكرام مبحبته ويقبل عليه بأنواع كرامته،

تيه من يشاء واهللا ذو الفضل ويلحظ املأل األعلى وأهل األرض بالتبجيل والتكرمي، وذلك فضل اهللا يؤ .العظيم قاعدة

السائر إىل اهللا تعاىل والدار اآلخرة، بل كل سائر إىل مقصد، ال يتم سريه وال يصل إىل مقصوده إال قوة علمية، وقوة عملية، فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائرا : بقوتني

فقوته العلمية . ومواضع العطب وطرق املهالك املنحرفة عن الطريق املوصلفيها، وجيتنب أسباب اهلالك كنور عظيم بيده ميشى به ىف ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع املاشى ىف م الظلمة ىف مثله من الوهاد واملتالف ويعثر به من األحجار والشوك وغريه، ويبصر بذلك النور أيضا أعال

.أعالم الطريق، ومعطبها: الطريق وأدلتها املنصوبة عليها فال يضل عنها، فيكشف له النور عن األمرينوكذلك . وبالقوة العملية يسري حقيقة، بل السري هو حقيقة القوة العملية، فإن السري هو عمل املسافر

ق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السائر إىل ربه إذا أبصر الطريق وأعالمها وأبصر املعاثر والوهاد والطرالسعادة والفالح، وبقى عليه الشطر اآلخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافرا ىف الطريق

Page 145: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قاطعا منازهلا منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع األخرى واستشعر القرب من املنزل السري ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب فهانت عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كالل

يا نفس أبشرى فقد : التالقى وبرد العيش عند الوصول، فيحدث هلا ذلك نشاطا وفرحا ومهة، فهو يقولقرب املنزل ودنا التالقى فال تنقطعى ىف الطريق دون الوصل فيحال بينك وبني منازل األحبة، فإن صربت

جذلة، وتلقتك األحبة بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وواصلت السري وصلت محيدة مسرورة وبني ذلك إال صرب ساعة، فإن الدنيا كلها لساعة من ساعات اآلخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فاهللا اهللا ال تنقطعى ىف املفازة، فهو واهللا اهلالك والعطب لو كنت تعلمني فإن استصعبت عليه

من أحباهبا، وما لديهم من اإلكرام واإلنعام، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من فليذكرها ما أمامها اإلهانة والعذاب وأنواع البالء، فإن رجعت فإىل أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإىل أحباهبا مصريها،

.وإن وقفت ىف طريقها أدركها أعداؤها، فإهنم وراءها ىف الطلبوليجعل حديث األحبة وشأهنم حاديها . قسام الثالثة فلتختر أيها شاءتوال بد هلا من قسم من هذه األ

وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشراهبا ودواءها وال يوحشه انفراده ىف طريق سفره وال يغتر بكثرة املنقطعني فأمل انقطاعه وبعاده واصل إليه دوهنم،

ن القرب والكرامة خمتص به دوهنم فما معىن االشتغال هبم واالنقطاع معهم؟ وليعلم أن هذه وحظه مالوحشة ال تدوم بل هى من عوارض الطريق فسوف تبدو له اخليام، وسوف خيرج إليه امللتقون يهنئونه

بما غفر لى * يعلمون يا ليت قومى {: بالسالمة والوصول إليهم، فيا قرة عينه إذ ذاك ويا فرحته إذ يقول، وال يستوحش مما جيده من كثافة الطبع وذوب النفس ]٢٧ -٢٦: يس* [}ربى وجعلنى من المكرمني

وبطء سريها، فكلما أدمن على السري وواظب عليه غدوا ورواحا وسحرا قرب من الدار وتلطفت تلك فظهرت عليه مهة املسافرين وسيماهم، فتبدلت وحشته أنسا الكثافة وذابت تلك اخلبائث واألدران،

.وكثافته لطافة ودرنه طهارة فصل

ىف تقسيم الناس من حيث القوة العلمية والعمليةفمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازهلا وأعالمها وعوارضها ومعاثرها،

ويكون ضعيفا ىف القوة العملية يبصر احلقائق وال يعمل مبوجبها، وتكون هذه القوة أغلب القوتني عليه،ويرى املتالف واملخاوف واملعاطب وال يتوقاها، فهو فقيه ما مل حيضر العمل فإذا حضر العمل شارك اجلهال ىف التخلف وفارقهم ىف العلم وهذا هو الغال على أكثر النفوس املشتغلة بالعلم، واملعصوم من

.وال قوة إال باهللاعصمة اهللا

Page 146: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومن الناس من تكون له القوة العملية اإلرادية وتكون أغلب القوتني عليه وتقتضى هذه القوة السري والسلوك والزهد ىف الدنيا والرغبة ىف اآلخرة واجلد والتشمري ىف العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود

واملقامات كما كان األول ضعيف العقل عند الشبهات ىف العقائد واالحنرافات ىف األعمال واألقوال ورود الشهوات، فداء هذا من جهله وداء األول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكني على غري طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم

اذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه أعمى عن مطلوبه ال يدرى من يعبد وال مبوأصحابه من لبس معني أو كشف رأس أو حلق حلية وحنوها، وتارة يعبده باألوضاع الىت وضعها بعض

.املتحذلقني وليس له أصل ىف الدين، وتارة يعبده مبا حتبه نفسه وهتواه كائنا ما كانال رب العباد، فهؤالء كلهم عمى عن رهبم وعن شريعته ودينه ال وهنا طرق ومتاهات ال حيصيها إ

يعرفون شريعته ودينه الذى بعث به رسله وأنزل به كتبه وال يقبل من أحد دينا سواه، كما أهنم ال يعرفون صفات رهبم الىت تعرف هبا إىل عباده على ألسنة رسله ودعاهم إىل معرفته وحمبته من طريقها، فال

.لرب وال عبادة لهمعرفة له باومن كانت له هاتان القوتان استقام له سريه إىل اهللا تعاىل ورجى له النفوذ وقوى على رد القواطع واملوانع حبول اهللا وقوته، فإن القواطع كثرية شأهنا شديد ال خيلص من حبائلها إال الواحد بعد الواحد،

كني، ولو شاء اهللا ألزاهلا وذهب هبا، ولكن اهللا ولوال القواطع واآلفات لكانت الطريق معمورة بالسال .يفعل ما يريد، والوقت كما قيل سيف فإن قطعته وإال قطعك

فإذا كان السري ضعيفا واهلمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفا، والقواطع اخلارجة والداخلة كثرية شديدة ال أن يتداركه اهللا برمحة منه من حيث ال فإنه جهد البالء ودرك الشقاء وسوء القضاء ومشاتة األعداء إ

.واهللا وىل التوفيق. حيتسب فيأخذ بيده وخيلصه من أيدى القواطع

قاعدة نافعةالعبد من حني استقرت قدمه ىف هذا الدار فهو مسافر فيها إىل ربه، ومدة سفره هى عمره الذى كتب له

: اىل، مث قد جعلت األيام واللياىل مراحل لسفرهفالعمر هو مدة سفر اإلنسان ىف هذه الدار إىل ربه تعفالكيس الفطن . فكل يوم وليلة مرحلة من املراحل، فال يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حىت ينتهى السفر

هو الذى جيعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها ساملا غامنا، فإذا قطعها جعل األخرى نصب عينيه، فيقسو قلبه وميتد أمله وحيضر بالتسويف والوعد والتأخري واملطل، بل يعد عمره وال يطول عليه األمد

تلك املرحلة الواحدة فيجتهد ىف قطعها خبري ما حبضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه

Page 147: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كذلك فال العمل وطوعت له نفسه االنقياد إىل التزود، فإذا استقبل املرحلة األخرى من عمره استقبلهايزال هذا دأبه حىت يطوى مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج مبا أعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صبح اآلخرة وانقشع ظالم الدنيا، فحينئذ حيمد سراه وينجل عنه كراه، فما أحسن ما يستقبل يومه وقد

.الح صباحه واستبان فالحهقسم قطعوها مسافرين فيها إىل دار الشقاء، فكلما قطعوا مرحلة : مث الناس ىف قطع هذه املراحل قسمان

منها قربوا من تلك الدار وبعدوا عن رهبم وعن دار كرامته فقطعوا تلك املراحل مبساخط الرب ومعاداة رسله وأوليائه ودينه والسعى ىف إطفاء نوره وإبطال دعوته وإقامة دعوة غريها، فهؤالء جعلت أيامهم

فيها بالشياطني املوكلة هبم ] مصحبون[هبا، فهم ] واستعملوا[ون فيها إىل الدار الىت خلقوا هلا يسافر* }ألم تر أنا أرسلنا الشياطني على الكافرين تؤزهم أزا{: يسوقوهنم إىل منازهلم سوقا كما قال تعاىل

.الكفر إزعاجا وتسوقهم سوقا، أى تزعجهم، إىل املعاصى و]٨٣: مرمي[ظامل لنفسه، : وهم ثالثة أقسام. قطعوا تلك املراحل سائرين فيها إىل اهللا وإىل دار السالم: القسم الثاىن

.ومقتصد، وسابق باخلريات بإذن اهللاره، وهؤالء كلهم مستعدون للسري موقنون بالرجع إىل اهللا، ولكن متفاوتون ىف التزود وتعبئة الزاد واختيا

.وىف نفس السري وسرعته وبطئهفالظامل لنفسه مقصر ىف الزاد غري آخذ منه ما يبلغه املنزل ال ىف قدره وال ىف صفته، بل مفرط ىف زاده الذى ينبغى له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأذى به ىف طريقه، وجيد غب أذاه إذا وصل املنزل

.حبسب ما تزود من ذلك املؤذى الضارواملقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ومل يشد مع ذلك أمحال التجارة الراحبة، ومل يتزود ما يضره،

والسابق باخلريات مهه ىف حتصيل . فهو سامل غامن لكن فاتته املتاجر الراحبة وأنواع املكاسب الفاخرةنا أن يدخر شيئا مما بيده وال األرباح وشد أمحال التجارات لعلمه مبقدار الربح احلاصل، فريى خسرا

يتجر به، فيجد رحبه يوم يغتبط التجار بأرباح جتاراهتم، فهو كرجل قد علم أن أمامه بلدة يكسب الدرهم فيها عشرة إىل سبعمائة وأكثر، وعنده حاصل وله خربة بطريق ذلك البلد وخربة بالتجارة، فهو

جتارة إىل ذلك البلد لفعل، فهكذا حال السابق باخلريات لو أمكنه بيع ثيابه وكل ما ميلك حىت يهيء به .بإذن ربه يرى خسرانا بينا أن مير عليه وقت ىف غري متجر

:فنذكر بعون اهللا وفضله نبذة من متاجر األقسام الثالثة ليعلم العبد من أى التجار هوقد سبقت حظوظه وشهواته إىل قلبه فأما الظامل لنفسه فإنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها، و

فحركت جوارحه طالبة هلا ساعية فيها، فإذا زامحها حقوق ربه فتارة وتارة فمرة يأخذ بالرخصة ومرة

Page 148: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فهذا حال الظامل لنفسه مع حفظ . بالعزمية، ومرة يقدم على الذنب وترك احلق هتاونا ووعدا بالتوبةآلخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح التوحيد واإلميان باهللا ورسوله واليوم ا

واخلسران وهو لألغلب منهما، فإذا ورد القيامة ميز رحبه من خسرانه وحصل رحبه وحده وخسرانه .وحده، وكان احلكم للراجح منهما، وحكم اهللا من وراء ذلك ال يعدم عباده منه فضله وعدله

املرحلة ومل يزيدوا عليها ومل ينقصوا منها، فال حصلوا على أرباح وأما املقتصدون فأدوا وظيفة تلكفإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصالة . التجار وال خبسوا احلق الذى عليهم

التامة ىف وقتها بأركاهنا وواجباهتا وشرائطها، مث ينصرف منها إىل مباحاته ومعيشته وتصرفاته الىت أذن اهللاله فيها مشتغال هبا قائما بأعياهنا مؤديا واجب الرب عاىل فيها، غري متفرغ لنوافل العبادات وأوراد األذكار والتوجه، فإذا حضرت الفريضة األخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إىل حاله األول

ضجعه حىت ينشق الفجر فيقوم إىل فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاء الليل فكذلك إىل حني النوم يأخذ مغذائه وظيفته فإذا جاء الصوم الواجب ويقوم حبقه، وكذلك الزكاة الواجبة واحلج الواجب، وكذلك

.املعاملة مع اخللق يقوم فيها بالقسط، ال يظلمهم وال يترك حقه هلم فصل

ثة هم أهل اليمني، وهم وهؤالء األصناف الثال. أبرار ومقربون: وأما السابقون باخلريات فهم نوعانوأما الظامل لنفسه فليس من أصحاب اليمني عند اإلطالق وإن كان مآله . املقتصدون واألبرار واملقربون

إىل أصحاب اليمني كما أنه ال يسمى مؤمنا عند اإلطالق وإن كان مصريه ومآله مصري املؤمنني بعد أخذ .احلق منه

] ٣٣: فاطر* [}ات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهبجن{: وقد اختلف ىف قوله تعاىلالظامل لنفسه، واملقتصد، والسابق باخلريات، أو خيتص : هل ذلك راجع إىل األصناف الثالثة. اآلية

ن األصناف الثالثة فذهبت طائفة إىل أ: بالقسمني األخريين ومها املقتصد والسابق دون الظامل، على قولنيكلهم ىف اجلنة، وهذا يروى عن ابن مسعود وابن عباس وأىب سعيد اخلدرى وعائشة أم املؤمنني، قال أبو

أنبأنا الصلت بن : أما الذى مسعت منذ ستون سنة فكلهم ناج، قال أبو داود الطيالسى: إسحق السبيعىفمنهم ظالم لنفسه ومنهم {: عن قول اهللا تعاىل سألت عائشة: حدثنا عقبة بن صبهان اهلنائى قال: دينار

يا بىن، كل هؤالء ىف اجلنة، فأما السابق : ، فقالت ىل]٣٢: فاطر* [}مقتصد ومنهم سابق بالخيراتتبع أثره باخلريات فمن مضى على عهد رسول اهللا يشهد له رسول اهللا باخلرية والرزق، وأما املقتصد فمن

.فجعلت نفسها معنا: قال. من أصحابه حىت حلق به، وأما الظامل لنفسه فمثلى ومثلك

Page 149: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ثلث يدخلون اجلنة بغري حساب، وثلث يوم القيامة : هذه األمة يوم القيامة أثالث: وقال ابن مسعودؤالء؟ وهو أعلم ما ه: حياسبون حسابا يسريا مث يدخلون اجلنة، وثلث جييئون بذنوب عظام، فيقول اهللا

: أدخلوهم ىف سعة رمحىت، وقال كعب: فيقول اهللا. هم مذنبون إال أهنم مل يشركوا: هبم، فتقول املالئكةالسابقون من رجحت حسناهتم، : حتاذت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعماهلم وقال احلسن

هذه الفرقة بأنه سبحانه مسى واملقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظامل من خفت موازينه واحتجت، وأخرب أنه اصطفاهم من مجلة العباد، وحمال أن يكون الكافر واملشرك من املصطفني، ))مصطفني((الكل

ألن االصطفاء هو االختيار، وهو االفتعال من صفوة الشيء وهو خياره، فعلم أن هؤالء األصناف صطفى عليهم، مث مقتصدهم مصطفى على فسابقهم م: الثالثة صفوة اخللق وبعضهم خري من بعض

.ظاملهم، مث ظاملهم مصطفى على الكافر واملشركفمنها ما رواه سليمان الشاذكوىن حدثنا حصني بن هبز : واحتجت أيضا بآثار روهتا تؤيد ما ذهب إليه

كلهم : ة قالعن أىب ليلى عن أخيه عن أبيه عن أسامة بن زيد عن النىب صلى اهللا عليه وسلم ىف هذه اآليحدثنا أمحد بن محاد بن رعية، حدثنا حيىي بن بكري، حدثنا ابن هليعة : ومنها ما رواه الطرباىن. ىف اجلنة

فمنهم {: قرأ النىب هذه اآلية: عن أمحد بن حازم املعافرى عن صاحل موىل التوأمة عن أىب الدرداء قالأما السابق فيدخل : ، فقال]٣٢: فاطر* [}نهم سابق بالخيرات بإذن اهللاظالم لنفسه ومنهم مقتصد وم

اجلنة بغري حساب، وأما املقتصد فيحاسب حسابا يسريا، وأما الظامل فيجلس ىف طول احملبس مث يتجاوز ] عن احلسن عن احلسن بن على الواسطى عن أىب سعيد اخلزاعى[اهللا عنه، ومنها ما رواه زكريا الساجى

قدمت املدينة فدخلت مسجدها فجلست إىل : بن سامل عن سعد بن ظريف عن أىب هاشم الطائى قال: أال أحدثك حبديث مسعته من رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم؟ يقول: سارية، فجاء حذيفة فقال

فمنهم ظالم {: ه تعاىلثالثة أصناف، وذلك ىف قول - أو كما قال - يبعث اهللا تبارك وتعاىل هذه األمة((، فالسابق باخلريات يدخل اجلنة بال ]٣٢: فاطر* [}لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات

.حساب واملقتصد حياسب حسابا يسريا، والظامل لنفسه يدخل اجلنة برمحة اهللاحدثنا أىب، حدثنا جرير عن األعمش عن رجل : بن راهويةومنها ما رواه الطرباىن عن حممد بن إسحاق

فمنهم ظالم {: مسعت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم يقول ىف قوله تعاىل: مساه عن أىب الدرداء قالالسابق باخلريات واملقتصد يدخالن اجلنة بغري حساب، والظامل لنفسه حياسب : ((قال... لنفسه اآلية )).ريا مث يدخل اجلنةحسابا يس

مسعت رسول اهللا : ومنها ما رواه ابن هليعة عن أىب جعفر عن يونس بن عبد الرمحن عن أىب الدرداء قال :صلى اهللا عليه وسلم يقول هذه اآلية

Page 150: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فأما : ، قال]٣٢ :فاطر* [}سابق بالخيرات- إىل قوله - ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا{السابقون فيدخلون اجلنة بغري حساب، وأما املقتصد فيحاسب حسابا يسريا، وأما الظاملون فيحاسبون

الحمد هللا الذى أذهب عنا الحرن إن ربنا لغفور {: فيصيبهم عناء وكرب مث يدخلون اجلنة مث يقولونحدثنا سفيان، حدثنا طعمة بن عمرو اجلعفرى عن رجل : رواه احلميدى منها ما] ٣٤: فاطر* [}شكورأال أحدثك حبديث أخصك به مل أحدث به أحدا؟ قال رسول اهللا صلى اهللا : قال أبو الدرداء لرجل: قال

: نات عدن قالبإذن اهللا ج} فمنهم ظامل لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق باخليرات{: عليه وسلم )).دخلوا اجلنة مجيعا((

. واحتجت أيضا باآليات واألحاديث الىت تشهد بنجاة املوحدين من أهل الكبائر ودخوهلم اجلنةظلم ىف : واحتجت أيضا بأن ظلم النفس إمنا يراد به ظلمها بالذنوب واملعاصى، فإن الظلم ثالثة أنواع

يثارها هلا على طاعة رهبا وظلم ىف حق اخللق بالعدوان عليهم ومنعهم حق النفس باتباعها شهواهتا وإحقوقهم، وظلم ىف حق الرب بالشرك به، فظلم النفس إمنا هو باملعاصى وقد تواترت النصوص بأن

.العصاة من املوحدين مآهلم إىل اجلنةسه، فإن الظامل لنفسه ال بل الوعد باجلنات إمنا هو للمقتصد والسابق دون الظامل لنف: وقالت طائفة

. يدخل حتت الوعد املطلق والظامل لنفسه هنا هو الكافر، واملقتصد املؤمن العاصى والسابق املؤمن التقىوهذا يروى عن عكرمة واحلسن وقتادة، وهو اختيار مجاعة من املفسرين منهم صاحب الكشاف ومنذر

آلية متناولة جلميع أقسام اخللق شقيهم وسعيدهم، وهذه ا: ابن سعيد ىف تفسريه والرماىن وغريهم، قالواوأصحاب * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وكنتم أزواجا ثالثة {]: قوله تعايل[وهى نظري آية

فأصحاب امليمنة هم : ، قالوا]١٠ -٧: الواقعة* [}والسابقون السابقون* المشأمة ما أصحاب املشأمة .الظاملون ألنفسهم، والسابقون السابقون هم السابقون باخلريات] هم[املقتصدون وأصحاب املشأمة

اهللا من خلقه ظاملا لنفسه، بل املصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم والظاملون ] يصطفى[ومل : قالوااسم املصطفني وتناوهلم فعل األصطفاء؟ [يوقع عليهم ألنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف

والن الظامل لنفسه : فأيضا صفوة اهللا هم أحباؤه واهللا ال حيب الظاملني فال يكونون مصطفني قالوا: قالواإمنا اصطفى من عباده ] تعايل[ممن أورث الكتاب، فهو بتركه العمل مبا فيه قد ظلم نفسه واهللا ] وإن كان

وألن : ابه ليعمل مبا فيه فأما من نبذه وراء ظهوره فليس من املصطفني من عباده قالوامن أورثة كتاالصطفاء افتعال من صفوة الشيء وهو خالصته ولبه، وأصله اصتفى فأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد ال الصاد كاالصطباح واالصطالم وحنوه، والظامل لنفسه ليس صفوة العباد وال خالصتهم وال لبهم ف

قل الحمد هللا وسالم على عباده {: وألن اهللا سلم على املصطفني من عباده فقال: يكون مصطفى، قالوا

Page 151: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، وهذا يقتضى سالمتهم من كل شر وكل عذاب، والظامل لنفسه غري ]٥٩: النمل* [}الذين اصطفىطريقة القرآن أن الوعد املطلق بالثواب وأيضا ف: سامل من هذا وال هذا فكيف يكون من املصطفني؟ قالوا

: مرمي* [}تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا{: إمنا يكون للمتقني ال للظاملني كقوله تعاىل: الفرقان* [}ملتقونأذلك خير أم جنة الخلد التى وعد ا{: فأين الظامل لنفسه هنا؟ وقوله تعاىل] ٦٣* }وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات واألرض أعدت للمتقني{: ، وقوله تعاىل]١٥

ال * وكأسا دهاقا * وكواعب أترابا * حدائق وأعنابا * إن للمتقني مفازا{: ، وقوله]١٣٢: آل عمران[مملوء من ] والقرآن[، ]٣٦ -٣١: النبأ* [}جزاء من ربك عطاء حسابا* يسمعون فيها لغوا وال كذابا

ىف القرآن ] فيه موضع واحد بإطالق الوعد بالثواب للظامل لنفسه أصال وأيضا فلم جييء[هذا، ومل جييء إن المجرمني فى عذاب جهنم {: فسه إال ىف معرض الوعيد ال الوعد، كقوله تعاىلذكر الظامل لن

-٧٤: الزخرف* [}وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمني* ال يفتر عنهم وهم فيه مبلسون * خالدون * }عد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزقفقالوا ربنا با{: ، وقوله]٧٦

وقوله ال ينال ] [١١٨: النحل* [}وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون{: ، وقوله]٩٩: سبأ[وأيضا فالظامل : قالوا] شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمونأن اهللا ال يظلم الناس : عهدى الظاملني وقوله

لنفسه هو الذى خفت موازينه ورجحت سيئاته، والقرآن كله يدل على خسارته وأنه غري ناج كقوله ذين خسروا أنفسهم ومن خفت موازينه فأولئك ال* فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون { : تعاىل

: القارعة* [}وأما من خفت موازينه فأمه هاوية{: وقوله] ٩-٨: األعراف[} بما كانوا بآياتنا يظلمونوأيضا فقوله : ، فكيف يذكر وعده جبناته وكرامته للظاملني أنفسهم اخلفيفة موازينهم؟ قالوا]٩ - ٨

ذلك هو الفضل الكبري وهو بدل نكرة {: مرفوع ألنه بدل من قوله] يدخلوهنا* [}جنات عدن{: تعاىلجميء النكرة [، وحسن وقوعه ]١٦ -١٥: العلق* [}ناصية كاذبة* لنسفعا بالناصية {: من معرفة كقوله

خمتص )) الفضل الكبري] ((م أن املبدل منه هوموصوفة لتخصيصها بالوصف وقرهبا من املعرفة ومعلوبالسابقني باخلريات، واملعىن أن سبقهم باخلريات بإذنه ذلك هو الفضل الكبري وهو جنات عدن

.يدخلوهنا، وجعل السبق باخلريات نفس اجلنات ألنه سببها وموجبهاات السابقني ال جنات وأيضا فإنه وصف حليتهم فيها بأهنا أساور من ذهب ولؤلؤ، وهذه جن: قالوا

: املقتصدين، فإن جنات الفردوس أربع كما ثبت ىف الصحيح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قالجنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بني ((

)).هه ىف جنة عدنالقوم وبني أن ينظروا إىل رهبم إال رداء الكربياء على وج

Page 152: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومعلوم أن اجلنتني الذهبيتني أعلى وأفضل من الفضيتني فإذا كانت اجلنتان الذهبيتان للظاملني ألنفسهم، وأيضا فإن : فمن يسكن اجلنتني الفضتني؟ فعلم أن هذه اجلنات املذكورة ال تتناول الظاملني ألنفسهم قالوا

قون باخلريات فوجب اختصاصهم بالدخول إىل اجلنات أقرب املذكورات إىل ضمري الداخلني هم الساببذكر ثواهبم والسكوت عن اآلخرين ما هو -بعد ذكر األقسام - وىف اختصاصهم: قالوا. املذكورات

واحملسنني ومن رجحت [معلوم من طريقة القرآن إذ يصرح بذكر ثواب األبرار واملتقني واملخلصني لظاملني ألنفسهم ومن خفت موازينهم، ويسكت عن القسم والفجار وا] حسناهتم ويذكر عقاب الكفار

وإن الفجار لفى * إن األبرار لفى نعيم{:الذى فيه شائبتان وله مادتان هذه طريقة القرآن كقوله تعاىلن الجحيم هى المأوى فإ* وآثر الحياة الدنيا * فأما من طغى {: ، وقوله]١٤ -١٣: االنفطار*[}جحيم

، ]٤١ -٣٧النازعات * [}فإن الجنة هى المأوى* وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * وىف السكوت عن شأن صاحب الشائبتني حتذير عظيم وختويف له بأن أمره : وهذا كثري ىف القرآن قالوا

ىل اهللا وليس عله ضمان وال له عنده وعد، وليحذر كل احلذر وليبادر بالتوبة، النصوح الىت تلحقه مرجأ إ .فاملضمون هلم النجاة والفالح

@ : وأيضا فمن احملال أن يقع على أحد من املصطفني اسم الظلم مطلقا، على الكافر، كما قال تعاىل: قالوا

قوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم ال بيع فيه وال خلة وال شفاعة والكافرون يا أيها الذين آمنوا أنف{: الشورى* [}والظالمون ما لهم من ولى وال نصري{]: تعاىل[، وقال ]٢٥٤:البقرة* [}هم الظالمون

.يكون من املؤمنني] وال[والظامل ال وىل له ] ٢٥٧: البقرة* [}ين آمنوااهللا ولى الذ{: مع قوله] ٨وأيضا فمن تدبر اآليات وتأمل سياقها وجدها قد استوعبت مجيع أقسام اخللق، ودلت على : قالوا

مقتصد، : احملسن إىل قسمني] قسم[مث . ظامل، وحمسن: مراتبهم ىف اجلزاء، فذكر سبحانه أن الناس نوعانوالذين كفروا لهم نار جهنم ال {: ابق، مث ذكر جزاء احملسن، فلما فرغ منه ذكر جزاء الظامل فقالوس

، وقال ]٣٦: فاطر* [}يقضى عليهم فيموتوا وال يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور: األنبياء* [}هم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمنيومن يقل من{]: تعاىل[

وأيضا فهذه طريقة القرآن ىف ذكر أصناف اخللق الثالثة كما : ، فذكر أنواع العباد وجزاءهم قالوا]٢٩، فأما سورة الواقعة فذكرهم ىف أوهلا وىف ذكرهم اهللا تعاىل ىف سورة الواقعة واملطففني وسورة اإلنسان

وأصحاب المشأمة * فأصحاب امليمنة ما أصحاب امليمنة * وكنتم أزواجا ثالثة {: آخرها فقال ىف أوهلا *}فى جنات النعيم* ون أولئك املقرب* والسابقون السابقون * ما أصحاب المشأمة

Page 153: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

.، فأصحاب املشأمة هم الظاملون]١٢ -٧: الواقعة[فأما {: أبرار وهم أصحاب امليمنة، وسابقون وهم املقربون، وىف آخرها: وأما أصحاب اليمني فقسمان

فسالم لك من * إن كان من أصحاب اليمنيوأما * فروح وريحان وجنة نعيم * إن كان من المقربني : الواقعة* [}وتصلية جحيم* فنزل من حميم* وأما إن كان من املكذبني الضالني * أصحاب اليمني

لقيامة الصغرى ىف الربزخ ، فذكر حاهلم ىف القيامة الكربى ىف أول السورة، مث ذكر حاهلم ىف ا]٩٤ -٨٨وأنتم * فلوال إذا بلغت الحلقوم {: ىف آخر السورة، وهلذا قدم قبله ذكر املوت ومفارقة الروح فقال

ترجعوهنا إن *فلوال إن كنتم غير مدينني * ونحن أقرب إليه منكم ولكن ال تبصرون * حينئذ تنظرون .إىل آخرها] ٨٨: الواقعة* [}فأما إن كان من المقربني{: ثم قال] ٨٧ -٨٣: الواقعة[} كنتم صادقني

* خافضة رافعة* ليس لوقعتها كاذبة * إذا وقعت الواقعة {: وأما ىف أوهلا فذكر أقسام اخللق عقب قوله - ١: الواقعة* [}وكنتم أزواجا ثالثة* فكانت هباء منبثا * وبست الجبال بسا * إذا رجت األرض رجا

]٤: اإلنسان* [}إنا أعتدنا للكافرين سالسل وأغالال وسعريا{]: تعاىل[، وأما سورة اإلنسان فقال ]٧: اإلنسان* [}إن األبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا{: فهؤالء الظاملون أصحاب املشأمة قال

* }عينا يشرب بها عباد اهللا يفجرونها تفجريا{: ، فهؤالء املقتصدون أصحاب اليمني، مث قال]٥السابقون، وهلذا خصهم باإلضافة إليه وأخرب أهنم يشربون بتلك العني ، فهؤالء املقربون ]٦:اإلنسان[

ومزاجه من تسنيم {: صرفا حمضا وأهنا متزج لألبرار مزجا كما قال ىف سورة املطففني ىف شراب األبرار)) منها: ((ن، ومل يقلاملقربو)) هبا((يشرب : وقال] ٢٨- ٢٧:املطففني* [}عينا يشرب بها المقربون*

معىن يروى، فعدى بالباء، )) يشرب((إشعارا بأن شرهبم بالعني نفسها خالصة ال هبا وبغريها فضمن يضمن يشرب الفعل معىن فعل ] ولكن[وهذا ألطف مأخذا وأحسن معىن من أن جيعل الباء مبعىن من، طريقة سيبويه وأئمة أصحابه، وقال ىف آخر، فيتعدى تعديته، وهذه طريقة احلذاق من النحاة وهى

، ألن شرب املقربني ملا كان أكمل ]٥: اإلنسان* [}يشربون من كأس كان مزاجها كافورا{: األبرار .استعري له الباء الدالة على شرب الرى بالعني خالصة وداللة القرآن ألطف وأبلغ من أن حييط هبا البشر

كتاب * وما أدراك ما سجني * كال إن كتاب الفجار لفى سجني {: ورة املطففنيوقال تعاىل ىف سثم يقال هذا * ثم إنهم لصالوا اجلحيم * كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون {: إىل قوله} مرقوم

:مث قال] فهؤالء الظاملون أصحاب الشمال[، ]١٧ - ٧: املطففني* [}ه تكذبونالذى كنتم ب، فهؤالء األبرار ]١٩ -١٨: املطففني* [}وما أدراك ما عليون] * عليني[كال إن كتاب األبرار لفى {

ال يغيبون عنه، اعتناء -هدهمأى يكتب حبضرهتم ومش -املقتصدون، وأخرب أن املقربني يشهدون كتاهبم .به وإظهارا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه

Page 154: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مث ذكر سبحانه نعيم األبرار وجمالستهم ونظرهم إىل رهبم وظهور نضرة النعيم ىف وجوههم، مث ذكر : املطففني* [}متنافسونختامه مسك وفى ذلك فليتنافس ال* يسقون من رحيق مختوم{: شراهبم فقال

، ]٢٨ - ٢٧: املطففني* [}عينا يشرب بها المقربون* ومزاجه من تسنيم {: ، مث قال]٢٦ -٢٥أعلى أشربه اجلنة، فأخرب سبحانه أن مزاج شراب األبرار من التسنيم، وأن املقربني يشربون منه ] التسنيم[

:بال مزاج، وهلذا قال، كما قال تعاىل ىف سورة اإلنسان سواء، قال ابن عباس ]٢٨: املطففني[} ينا يشرب بها املقربونع{

.يشرب هبا املقربون صرفا، وميزج ألصحاب اليمني مزجا: وغريهوهذا ألن اجلزاء وفاق العمل، فكما خلصت أعمال املقربني كلها هللا خلص شراهبم، وكما مزج األبرار

.عات باملباحات مزج هلم شراهبم، فمن أخلص أخلص شرابه ومن مزج مزج شرابهالطا يا الهيا ىف غمرة اجلهل واهلوي صريعا على فرش الردى يتقلـب

وانـتـبه فهذا شراب القوم حقا يركــب] مث[ما -هداك اهللا - تأمل وتركيبه ىف هذه الدار إن تفــتت فليس له بعد املنية مطلــــب

جبا من معرض عن حياتــه وعن حظه العاىل ويلهو ويلعـبفيا ع ولو علم احملروم أى بضاعــــة أضاع ألمسى قلبه يتلهـــب فإن كان ال يدرى فتلك مصيبــة وإن كان يدرى فاملصيبة أصعب

بلي سوف يدرى حني ينكشف الغطا ويصبح مسلوبا ينوح وينــدب علم وأمرك أعجـبويعجـب ممن باع شـيئا بدون ما يساوى بال

]سيذهــب[ألنك قد بعت احلياة وطيبهـــا بلذة حلم عن قليل فهال عكست األمر إن كنت حازما ولكن أضعت احلزم واحلكم يغلب تصد وتنأى عن حـبيبك دائمــا فأين عن األحباب وحيك تذهـب ستعلم يوم احلشر أى جتــــارة أضـعت إذا تلك املوازين تنصب

الظامل لنفسه وهو من : هكذا هذه اآليات اليت يف سورة املالئكة ذكر فيها األقسام الثالثة ف: قالوا .أصحاب الشمال ، وذكر املقتصد وهو من أصحاب اليمني ، وذكر السابقني وهم املقربون

وليس يف اآلية ما يدل على اختصاص الكتاب بالقرآن واملصطفني هبذه األمة ، بل الكتاب اسم : قالوا جنس للكتب اليت أنزهلا على رسله ، فإنه أورثها املصطفني من عباده من كل أمة ، واألنبياء هم الذين أورثوه أوال مث أورثوه املصطفني من عباده من كل أمة ، واألنبياء هم الذين أورثوه أوال مث أورثوه

هدى * بين إسرائيل الكتاب ولقد آتينا موسى اهلدى وأورثنا {: املصطفني من أممهم بعدهم ، قال تعاىل

Page 155: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، فأخرب أنه إمنا يكون هدى وذكرى ملن له لب عقل به ] ٥٤:٥٣غافر *[}وذكرى ألويل األلباب .الكتاب وعمل مبا فيه ، والعامل مبا فيه هو الذي أورثه اهللا علمه

، ] ١٤: الشورى* [}وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب{: وتأمل قوله تعاىل كيف حذف الفاعل هنا وبىن الفعل للمفعول ملا كان يف معرض الذم هلم ونفي العلم عنهم ، وملا كان يف

:، ونظري هذه اآلية * }وأورثنا بين إسرائيل الكتاب{: سياق ذكر نعمه وآالئه ومنته عليهم قال فخلف من {: عاىل ، ومن ذلك قوله ت] ٣٢: فاطر* [ }مث أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا{

بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا األدىن ويقولون سيغفر لنا وإن يأهتم عرض مثله ، وأنه ملا كان الكالم يف سياق ذمهم على إتباعهم شهواهتم وإيثارهم ] ١٩٦: االعراف* [ }يأخذوه

، بل نسبه إىل احملل فقال العرض الفاين على حظهم من اآلخرة ومتاديهم يف ذلك مل ينسب التوريث إليه أنه * }أتيناهم الكتاب{: أورثناهم الكتاب وقد ذكرت نظري هذا قوله : أورثوا الكتاب ومل يقل :

.الكلية " التحفة املكية " للمدح ، وأورثوا الكتاب إما يف سياق الذم ، وإما منقسم يف كتاب فمنهم {: وقوله تعاىل : وال وآخرا قالوا واملقصود أن الذين أورثهم الكتاب هم املصطفون من عباده أ

مث * }من عبادنا{: ال يرجع إىل املصطفني ، بل إما أن يكون الكالم قد مت عند قوله * }ظامل لنفسه .استأنف مجلة أخرى وذكر فيها أقسام العباد وأن منهم ظامل ومنهم مقتصد ومنهم سابق

نه أورث كتابه من اصطفاه من عباده ، وبني يف بني يف إحدامها أ: ويكون الكالم مجلتني مستقلتني األخرى أن من عباده ظاملا ومقتصدا وسابقا ، وإما أن يكون املعىن تقسيم املرسل إليهم بالنسبة إىل قبول الكتاب وأن منهم من مل يقبله وهو الظامل لنفسه ، ومنهم من قبله مقتصدا فيه ، ومنهم من قبله سابقا

والذي يدل على هذا الوجه أنه سبحانه ذكر إرساله يف كل أمة نذيرا ممن : قالوا باخلريات بإذن اهللا ، ، مث ذكر أن رسلهم جاءهتم ]٢٤: فاطر* [}وإن من أمة إال خال فيها نذير{: تقدم هذه األمة فقال

الكتاب ، : بالبينات وبالزبر وبالكتاب املبني ، اآليات الدالة على صدقهم وصحة رساالهتم ، والزبر من باب عطف اخلاص على العام لتميزه عن : واحدها زبور مبعىن مزبور أي مكتوب ، الكتاب املنري

املسمى العام بفضله وشرفه امتاز هبا واختص هبا عن غريه ، وهو كعطف جربيل وميكائيل على املالئكة ومن نوح وإبراهيم وإذ أخذنا من النبيني ميثاقهم ومنك {: ، وكعطف أوىل العزم على النبيني من قوله

.التوراة واإلجنيل : والكتاب املنري هاهنا ] ٧: األحراب* [}وموسى وعيسى ابن مرمي: فاطر* [}مث أخذت الذين كفروا فكيف كان نكري{: مث ذكر إهالك املكذبني لكتابه ورسله فقال

لذين يتلون كتاب اهللا إن ا{ : فقال : ، مث ذكر التالني لكتابه وهم املتبعون له العاملون بشرائعه ]٢٦

Page 156: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من * وأقاموا الصالة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعالنية يرجون جتارة لن تبور ].٣٠-٢٩: فاطر* [}فضله إنه غفور شكور

والذي أوحينا {: مث ذكر الكتاب الذي خص به خامت أنبيائه ورسله حممد صلى اهللا عليه وسلم فقال ].٣١: فاطر* [}هو احلق مصدقا ملا بني يديه إن اهللا بعباده خلبري بصريإليك من الكتاب

مث ذكر سبحانه من أورثهم الكتاب بعد أولئك وأنه اصطفاهم لتوريث كتابه إذ رده املكذبون لو يقبلوا .توريثه فهذا إن االصطفاء افتعال من الصفوة وهي اخليار وهي إمنا تكون يف السعداء ،: وأما قولكم : قالوا

.بعينه حجة لنا يف أن الظامل لنفسه ليس ممن اصطفاه اهللا من عباده وقد تقدم تقريره وأما اآلثار اليت رويتموها عن النيب صلى اهللا عليه وسلم يف ذلك فكلها ضعيفة األسانيد ومنقطعة : قالوا

حدثنا " : تفسريه " ال تثبت ، كيف وهي معارضة بآثار مثلها أو أقوى منها ، قال ابن مردويه يف احلسن بن عبد اهللا ، حدثنا صاحل بن أمحد ، حدثنا أمحد بن حممد بن املعلي اآلدمي ، حدثنا حفص بن عمار ، حدثنا مبارك ابن فضالة عن عبيد اهللا بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النيب صلى اهللا عليه

وأما النصوص الدالة : الكافر ، قالوا : ، قال]٣٢: فاطر* [}فمنهم ظامل لنفسه{: وسلم يف قوله تعاىل على أن أهل التوحيد يدخلون اجلنة فصحيحة ال ننازعكم فيها ، غري أهنا مطلقة ، ولكن هلا شروط وموانع ، كما أن النصوص الدالة على عذاب أهل الكبائر صحيحة متواترة ، وهلا شروط وموانع يتوقف

: قالوا . وقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها حلوق الوعيد عليها ، فكذلك نصوص الوعد يتوأما قولكم إن ظلم النفس إمنا يراد به ظلمها بالذنوب واملعاصي دون الكفر فليس بصحيح ، فقد ذكر يف القرآن ما يدل على أن ظلم النفس يكون بالكفر والشرك ، ولو مل يكن يف هذا إال قول موسى لقومه

:، وقوله عز وجل ]٥٤: البقرة* [}سكم باختاذكم العجليا قوم إنكم ظلمتم أنف{: .ونظائره كثرية ] ١٩: سبأ* [}وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث مزقناهم كل ممزق{

لو تدبرمت القرآن حق تدبره وأعطيتم اآليات حقها من الفهم وراعيتم وجوه : قالت الطائفة األوىل عنا وأنالداللة وسياق الكالم ، لعلمتم أن الصواب م

هذا التقسيم الذي دلت ) هذه األقسام الثالثة من األقسام اليت خلقت للجنة وهم درجات عند اهللا وأن ( عليه أخص من التقسيم املذكور يف سورة الواقعة واإلنسان واملطففني ، فإن ذلك تقسيم للناس إىل شقي

عن ذكر العاصي الظامل لنفسه ، وأما وسعيد ، وتقسيم السعداء إىل أبرار ومقربني ، وتلك القسمة خاليةهذه اآليات ففيها تقسيم األمة إىل حمسن ومسيئ ، فاملسيئ هو الظامل لنفسه ، واحملسن نوعنان مقتصد وسابق باخلريات ، فإن الوجود شامل هلذا القسم ، بل هو أغلب أقسام األمة فكيف خيلو القرآن عن

Page 157: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ألمة ذكر اخلارجني عنهم وهم الذين كفروا فعمت اآلية أقسام ذكره وبيان حكمه ، مث ملا استوىف أقسام ااخللق كلهم ، وعلى ما ذهبتم إليه تكون اآلية قد أمهلت ذكر القسم األغلب األكثر وكررت ذكر حكم

.الكافر أوال وآخرا ا مث أورثن{: وال ريب أن ما ذكرناه أوىل لبيان هذا القسم وعموم الفائدة ، وأيضا فإن قوله تعاىل

صريح يف أن الذين أورثهم الكتاب هم املصطفون من ]٣٢: فاطر* [}الكتاب الذين اصطفينا من عبادناإما أن يرجع إىل الذين اصطفاهم ، وإما ] ٣٢: فاطر* [}فمنهم ظامل لنفسه{: عباده ، وقوله عز وجل

ومنهم مقتصد {: أحدمها أن قوله تعاىل: أن يرجع إىل العباد ، ورجوعه إىل الذين اصطفاهم لوجهني ، إمنا يرجع إىل املصطفني ال إىل العباد ألن سياق اآلية واإلتيان بالفاء ]٣٢: فاطر* [}ومنهم سابق

والتقسيم املذكور كله يدل على أن املراد بيان أقسام الوارثني للكتاب ال بيان أقسام العبد ، إذ لو أراد الثاين . ريه ، وكأن وجه الكالم الذي يدل عليه ظاهره ذلك ألتى بلفظ يزيل الوهم وال يلتبس به املراد بغ

أعطيت مايل البالغني من أوالدي فمنهم تاجر ومنهم خازن ومنهم مبذر ومسرف ، : أنك إذا قلت : هل يفهم من هذا أحد قط أن هذا التقسيم جلملة أوالده ، بل ال يفهم منه إال أن أوالده كانوا يف

خذ هذا : هلذا أيت فيها بالفاء الدالة على تفصيل ما أمجله أوال كما إذا قلت أخذهم املال أقساما ثالثة ، وكذا ، ونظائره متعددة ، وال وجه لإلتيان بالفاء هاهنا إال تفصيل ) فالنا ( املال فأعط فالنا كذا وأعط

ن املذكور أوال ، ال تفصيل املسكوت عنه واآلية قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم م .أورثه الكتاب ، فالتفصيل للمذكور ليس إال ، فتأمله فإنه واضح

وأما قولكم إن اهللا ال يصطفي من عباده ظاملا لنفسه ألن االصطفاء هو االختيار من الشئ صفوته : قالوا وخياره إىل آخر ما ذكرمت فجوابه أن كون العبد املصطفى هللا ووليا هللا وحمبوبا هللا وحنو ذلك من األمساءالدالة على شرف منزلة العبد وتقريب اهللا له ال ينايف ظلم العبد نفسه أحيانا بالذنوب واملعاصي بل أبلغ

: من ذلك أن صديقيته ال تنايف ظلمه لنفسه ، وهلذا قال صديق األمة وخيارها للنيب صلى اهللا عليه وسلم ظلما كثريا وال يغفر الذنوب إال قل اللهم إين ظلمت نفسي: ((علمين دعاء أدعو به يف صاليت ، فقال

)) .أنت ، فاغفر يل مغفرة من عندك وارمحين ، إنك أنت الغفور الرحيم* وسارعوا إىل مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات واألرض أعدت للمتقني {: وقد قال تعاىل

والذين إذا * احملسنني الذين ينفقون يف السراء والضراء والكاظمني الغيظ والعافني عن الناس واهللا حيب ].١٣٥-١٣٣: آل عمران* [}فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اهللا فاستغفروا لذنوهبم

فأخرب سبحانه عن صفات املتقني وأهنم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة لكن ال يصرون على ذلك ، ءون عند رهبم ذلك جزاء هلم ما يشا* والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم املتقون {: وقال تعاىل

Page 158: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

: الزمر* [}ليكفر اهللا عنهم أسوأ الذي عملوا وجيزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون* احملسنني فهؤالء الصديقون املتقون قد أخرب سبحانه أن هلم أعماال سيئة يكفرها ، وال ريب أهنا ظلم ] ٣٥-٣٣

: القصص* [ }إنه هو الغفور الرحيم رب إين ظلمت نفسي فاغفر يل فغفر له{: للنفس وقال موسى * [ }ربنا ظلمنا أنفسنا وإن مل تغفر لنا وترمحنا لنكونن من اخلاسرين{: ، وقال آدم عليه السالم ] ١٦

* [ }ال إله إال أنت سبحانك إين كنت من الظاملني{: ، وقال يونس عليه السالم ]٢٣: األعرافإال من ظلم مث بدل حسنا بعد سوء فإين * ي املرسلون إين ال خياف لد{: ، وقال تعاىل ]٨٧: األنبياء

] .١١: النمل* [ }غفور رحيموإذا كان ظلم النفس ال ينايف الصديقية والوالية ، وال خيرج العبد عن كونه من املتقني ، بل جيتمع فيه

عن كونه من األمران يكون وليا هللا صديقا متقيا وهو مسيئ ظامل لنفسه ، علم أن ظلمه لنفسه ال خيرجه الذين اصطفاهم اهللا من عباده وأورثهم كتابه ، إذ هو مصطفى من جهة كونه من ورثة الكتاب علما وعمال ، ظامل لنفسه من جهة تفريطه يف بعض ما أمر به وتعديه بعض ما هني عنه ، كما يكون الرجل

ر كان يكثر شرب اخلمر واهللا وليا هللا حمبوبا له من جهة ومبغوضا له من جهة أخرى ، وهذا عبد اهللا محايبغضه من هذه اجلهة ، وحيب اهللا ورسوله وحيبه اهللا ويواليه من هذه اجلهة ، وهلذا هنى النيب صلى اهللا

إنه حيب اهللا ورسوله ونكتة املسألة أن االصطفاء والوالية والصديقية وكون : عليه وسلم عن لعنه وقال كلها مراتب تقبل التجزيء واالنقسام والكمال والنقصان كما الرجل من األبرار ومن املتقني وحنو ذلك

هو ثابت باتفاق املسلمني يف أصل اإلميان ، وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفى من وجه ظاملا لنفسه .من وجه آخر

نوع ال يبقى معه شيء من اإلميان والوالية والصديقية واالصطفاء وهو ظلمها : وظلم النفس نوعان والكفر ، ونوع يبقى معه حظه من اإلميان واالصطفاء والوالية وهو ظلمها باملعاصي ، وهو بالشرك

.درجات متفاوتة يف القدر والوصف : إن قوله تعاىل : وأما قولكم : قالوا . فهذا التفصيل يكشف قناع املسألة ويزيل أشكاهلا حبمد اهللا

] ٢٢: الشورى] [٣٢: فاطر* [}ضل الكبريذلك هو الف{: مرفوع ألنه بدل من قوله * }جنات عدن{ .وهو خمتص بالسابقني ، وذكر حليتهم فيها من أساور من ذهب يدل على ذلك إخل

أحدمها أن هذا بعينه وارد عليكم ، فإن املقتصد من أهل اجلنات ، ومعلوم أن : فجوابه من وجهني عن املقتصد فهو اجلواب بعينه عن جنات السابقني باخلريات أعلى وأفضل من جناته ، فما كان جوابكم

الظامل لنفسه ، فإن التفاوت حاصل بني جنات األصناف الثالثة ، وخيتص كل صنف مبا يليق هبم .ويقتضيه مقامهم وعملهم

Page 159: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أنه سبحانه ذكر جزاء السابقني باخلريات هنا مشوقا لعباده إليه منبها هلم على مقداره : اجلواب الثاين اء الظاملني ألنفسهم واملقتصدين ليحذر الظاملون وجيد املقتصدون ، وذكر يف وشرفه ، وسكت عن جز

سورة اإلنسان جزاء األبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء املقربني السابقني ليدل على أن ار يشربون إن األبر{: هذا إذا كان جزاء األبرار املقتصدين فما الظن جبزاء املقربني السابقني فقال تعاىل

:إىل قوله * }من كأس كان مزاجها كافوراعاليهم ثياب { : إىل قوله * }قواريرا من فضة* ويطاف عليه بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا {

، ]٢١-٥: اإلنسان* [ }سندس خضر وإستربق وحلوا أساور من فضة وسقاهم رهبم شرابا طهورالفضة يف جزاء األبرار ، وذكر يف سورة املالئكة األساور فذكر هنا األساور من الفضة واألكواب من ا

من الذهب يف جزاء السابقني باخلريات ، فعلم جزاء املقتصدين من سورة اإلنسان ، وعلم جزاء السابقني من سورة املالئكة ، فانتظمت السورتان جزاء املقربني على أمت الوجوه ، واهللا أعلم بأسرار كالمه

.وحكمه .إن الضمري خيتص به أقرب مذكور إليه : ذا هو اجلواب عن قولكم وه: قالوا .وأما قولكم إن الظامل لنفسه إمنا هو الكافر فقد تقدم جوابه وذكر ما يبطله : قالوا إن هذا اآليات نظري آيات الواقعة وسورة اإلنسان وسورة املطففني يف تقسيم الناس : وأما قولكم : قالوا

.أصحاب الشمال ، وأصحاب اليمني ، واملقربون : إىل ثالثة أقسام فال ريب أن هذه اآلية وافية باألقسام الثالثة مع مزيد تقسيم آخر وهو تقسيم أصحاب اليمني إىل ظامل

.لنفسه ومقتصد فهي مشتملة على تلك األقسام وزيادة ء أهل اجلنة ضعيفة ال تقوم هبا إن اآلثار الدالة على أن األصناف الثالثة هم السعدا: وأما قولكم : قالوا

إهنا قد بلغت يف الكثرة إىل حد يشد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ، وحنن نسوق : حجة فجوابه منها آثارا غري ما ذكرناه يعلم به كثرهتا وتعدد طرقها ، فروى ابن مردويه يف تفسريه من حديث سفيان

اللهم ارحم غربيت وآنس وحشيت : جد فقال عن األعمش عن رجل عن أيب ثابت أن رجال دخل املسإن كنت صادقا ألنا أسعد بذلك منك ، مسعت رسول اهللا : فقال أبو الدرداء . وسق يل جليسا صاحلا

مث أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظامل لنفسه {: صلى اهللا عليه وسلم قرأ هذه اآلية أما السابق باخلريات فيدخله اجلنة بغري : ، مقال ]٣٢: فاطر* [}ومنهم مقتصد ومنهم سابق باخلريات

حساب ، وأما املقتصد فيحاسب حسابا يسريا وأما الظامل لنفسه فيحبس يف املقام حىت يدخله اهلم احلمد هللا الذي أذهب عنا احلزن إن ربنا لغفور {: واحلزن مث يدخل اجلنة مث قرأ هذه اآلية

] .٣٤: فاطر*[}شكور

Page 160: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

:ا فيما تقدم حديث أيب ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن أسامة بن زيد يف قوله تعاىل وقد ذكرن)) كلهم من هذه األمة((رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم : قال : قال * }فنهم ظامل لنفسه ومنهم مقتصد

. لنهدي وروى ابن مردويه أيضا من حديث الفضل بن عمرية القيسي عن ميمون بن سياه عن أيب عثمان ا

سابقنا : ((مسعت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم يقول : مسعت عمر بن اخلطاب يقول على املنرب : قال فمنهم ظامل لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم { : ، وقرأ عمر )) سابق ومقتصدنا ناج ، وظاملنا مغفور له

* .}سابق باخلرياتمسعت رجال من ثقيف حيدث عن : ن العرياز قال وروى أيضا من حديث أيب داود عن شعبة عن الوليد ب

مث أورثنا الكتاب الذين { : رجل من كنانة عن أيب سعيد أن النيب صلى اهللا عليه وسلم قال يف هذه اآلية : قال شعبة )) . كلهم مبنزلة واحدة: ((، أو قال )) كلهم يف اجلنة((، قال * }اصطفينا من عبادنا

فهذا حديث . دخلوا اجلنة كلهم مبنزلة واحدة : هيم عن شعبة به وقالوا أحدمها ، ورواه دواد بن إبراورواه حيىي بن سعيد عن . صحيح إىل شعبة وإذا كان شعبة يف حديث مل يطرح ، بل شد يديك به

حدثنا أيب عن أبيه عن ابن : الوليد بن العيزار فذكره مبثله ، وروى حممد بن سعد عن أبيه عن عمه جعل اهللا أهل : اآلية ، قال * }مث أروثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا{ : وجل عباس يف قوله عز

وأصحاب اليمني ما { * }وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال{ : اإلميان على ثالث منازل كقوله .فهم على هذا املثال * }والسابقون السابقون أولئك املقربون{ ، * }أصحاب اليمني

اس أن اهللا قسم أصحاب اليمني إىل ثالث منازل كما قسم اخللق يف الواقعة إىل ثالث يريد ابن عب: قلت منازل ، فإن أصحاب الشمال املذكورين يف الواقعة هم الكفار املنكرون للبعث ، فكيف تكون هذه

مال منزلة من منازل أهل اإلميان؟ وجيوز أن يريد أن الظاملني ألنفسهم املستحقني للعذاب هم من أهل الشوروي من حديث معاوية بن صاحل عن علي بن أيب . ، ولكن إمياهنم جيعلهم آخرا من أهل اليمني

كل ) سبحانه(هم أمة حممد صلى اهللا عليه وسلم ورثهم اهللا : عن ابن عباس يف هذه اآلية فقال ) طلحة( .جلنة بغري حساب كتاب أنزله ، فظاملهم يغفر له ، ومقتصدهم حياسب حسابا يسريا ، وسابقهم يدخل ا

وروي من حديث عثمان بن أيب شيبة حدثنا احلسن بن عبد الرمحن بن أيب ليلى ، حدثنا عمران بن حممد أو عن رجل عن -بن أيب ليلى ، حدثنا أيب عن احلكم ، عن عبد الرمحن بن أيب ليلى عن الرباء بن عازب

فمنهم ظامل لنفسه ومنهم مقتصد { : قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم : قال - الرباء بن عازب )) .كلهم ناج وهي هذه األمة: ((، قال * }ومنهم سابق باخلريات بإذن اهللا

Page 161: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قال رسول اهللا : ورواه الفريايب حدثنا سفيان عن أيب ليلى عن احلكم عن رجل حدثه عن الرباء قال كل ((اآلية ، قال * }نا من عبادنامث أورثنا الكتاب الذين اصطفي{ : صلى اهللا عليه وسلم يف هذه اآلية

)) .ناجحدثنا أبو فضالة عن األزهري عبد اهللا اخلزاز ، حدثنا من مسع عثمان بن عفان : وقال آدم بن أي إياس

أال إن سابقنا أهل جهادنا ، أال وإن مقتصدنا أهل حضرنا أال وإن ظاملنا أهل بدونا ، وقد تقدم : يقول فهذه اآلثار يشد بعضها بعضا ، وأهنا قد تعددت طرقها : قالوا . ذيفة حديث عائشة وأيب الدرداء وح

.واختلفت خمارجها وسياق اآلية يشهد هلا بالصحة فال يعدل عنها أما األشقياء فقطعوا : واملقصود الكالم على مراحل العاملني وكيفية قطعهم إياها ، فلنرجع إليه فنقول

تزودين غضب الرب سبحانه ومعاداة كتبه ورسله ما بعثوا به ، تلك املراحل سائرين إىل دار الشقاء مومعاداة أوليائه والصد عن سبيله ، وحماربة من يدعو إىل دينه ، ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس ، وإقامة دعوة غري دعوة اهللا اليت بعث هبا رسله لتكون الدعوة له واحدة ، فقطع هؤالء األشقياء مراحل

يف ضد ما حيبه اهللا ويرضاه ، وأما السائرون إليه فظاملهم قطع مراحل عمره يف غفالته وإيثار أعمارهمشهواته ولذاته على مراضي الرب سبحانه وأوامره مع إميانه باهللا وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،لكن نفسه

لرجوع إىل اهللا ، مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه ، يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على ا .فهذا حال املسلم

وأما من زين له سوء عمله فرآه حسنا وهو غري معترف وال مقر وال عازم على الرجوع إىل اهللا اإلنابة إليه أصال ، فهذا ال يكاد إسالمه أن يكون صحيحا أبدا وال يكون هذا إال منسلخ القلب من اإلميان ،

.ونعوذ باهللا من اخلذالن ار املقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم باالهتمام بإقامة أمر اهللا وعقد القلب على ترك خمالفته وأما األبر

ومعاصيه فهممهم مصروفة إىل القيام باألعمال الصاحلة واجتناب األعمال القبيحة ، فأول ما يستيقظ رض وقته اشتغل أحدهم من منامه يسبق إىل قلبه القيام إىل الوضوء والصالة كما أمر اهللا ، فإذا أدى ف

بالتالة واألذكار إىل حني تطلع الشمس فريكع الضحى ، مث ذهب إىل ما أقامه اهللا فيه من األسباب ، فإذا حضر فرض الظهر بادر إىل التطهر والسعي إىل الصف األول من املسجد فأدى فريضته كما كما أمر

وع واملراقبة واحلضور بني يدي الرب مكمال هلا بشرائطها وأركاهنا وسننها وحقائقها الباطنة من اخلشفينصرف من الصالة وقد أثرت يف قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه ، وجيد مثرهتا يف قلبه من اإلنابة إىل دار اخللود والتجايف عن دار الغرور وقلة التكالب واحلرص على الدنيا

حشاء واملنكر ، وحببت إليه لقاء اهللا ونفرته من كل قاطع يقطعه عن وعاجلها ، قد هنته صالته عن الف

Page 162: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اهللا ، فهو مغموم مهموم كأنه يف سجن حىت حتضر الصالة ، فإذا حضرت قام إىل نعيمه وسروره وقرة .عينه وحياة قلبه ، فهو ال تطيب له احلياة إال بالصالة

بشيء ما أمكنهم ، فيقصدون من الوضوء هذا وهم يف ذلك كله مراعون حلفظ السنن ال خيلون منهاأكمله ، ومن الوقت أوله ، ومن الصفوف أوهلا عن ميني اإلمام أو خلف ظهره ، ويأتون بعد الفريضة

.باألذكار املشروعة كاالستغفار ثالثا )) .اللهم أنت السالم ومنك السالم تباركت يا ذا اجلالل واإلكرام: ((وقول وحده ال شريك له له امللك وله احلمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم ال مانع ال إله إال اهللا: ((وقول

ال إله إال اهللا ، وال نعبد إال إياه ، ((، )) ملا أعطيت ، وال معطي ملا منعت ، وال ينفع ذا اجلد منك اجلد )) .لكافرونله النعمة وله الفضل وله الثناء احلسن ، ال إله إال اهللا خملصني له الدين ولو كره ا

مث يسبحون وحيمدون ويكربون تسعها وتسعني ، وخيتمون املائة بال إله إال اهللا وحده ال شريك له ، له .امللك وله احلمد ، وهو على كل شيء قدير

ومن أراد املزيد قرأ آية الكرسي واملعوذتني عقيب كل صالة ، فإن فيها أحاديث رواها النسائي وغريه ، فإذا كان قبل غروب الشمس توافروا . على أحسن الوجوه هذا دأهبم يف كل فريضة مث يركعون السنة

على أذكار املساء الواردة يف السنة نظري أذكار الصباح الواردة يف أول النهار ال خيلون هبا بأبدا ، فإذا ذوا جاء الليل كانوا فيه على منازهلم من مواهب الرب سبحانه اليت قسمها بني عباده ، فإذا أخ

مضاجعهم أتوا بأذكار النوم والواردة يف السنة ، وهي كثرية تبلغ حنوا من أربعني ، فيأتون منها مبا علموه وما يقدرون عليه من قراءة سورة اإلخالص واملعوذتني ثالثا مث ميسحون هبا رؤوسهم ووجوههم

ثا وثالثني وحيمدون ثالثا وأجسادهم ثالثا ، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ، ويسبحون ثالاللهم إين أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي : ((وثالثني ويكربون أربعا وثالثني ، مث يقول أحدهم

إليك ، وفوضت أمري إليك ، وأجلأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، ال ملجأ وال منجا منك إال بامسك ريب وضعت : ((إن شاء قال ، و)) إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت

)) جنيب وبك أرفعه ، فإن أمسكت نفسي فاغفر هلا ، وإن أرسلتها فاحفظها مبا حتفظ به عبادك الصاحلنياللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، ريب ورب كل شيء فالق احلب : ((، وإن شاء قال

ك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، أنت األول والنوى ، منزل التوراة واإلجنيل والفرقان ، أعوذ بفليس قبلك شيء ، وأنت اآلخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن

)) .فليس دونك شيء ، اقض عين الدين واغنين من الفقر

Page 163: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مه عبادة وزيادة له يف وباجلملة فال يزال يذكر اهللا على فراشه حىت يغلبه النوم وهو يذكر اهللا ، فهذا مناقربة من اهللا ، فإذا استيقظ عاد إىل عادته األوىل ، ومع هذا فهو قائم حبقوق العباد من عيادة املرضى وتشييع اجلنائز وإجابة الدعوة واملعاونة هلم باجلاه والبدن والنفس واملال وزيارهتم وتفقدهم ، وقائم

بودية كيف نقله فيها األمر ، فإذا وقع منه تفريط يف حق حبقوق أهله وعياله ، فهو متنقل يف منازل العمن حقوق اهللا بادر إىل اإلعتذار والتوبة واالستغفار ، وحموه ومداواته بعمل صاحل يزيل أثره فهذا وظيفته

.دائما فنستغفر اهللا الذين ال إله غال هو أوال من وصف حاهلم وعدم التصاف به ، بل : وأما السابقون املقربون

ولكن حمبة القوم حتمل على تعرف منزلتهم والعلم هبا ، وإن كانت النفوس متخلفة . ما مشمنا له رائحة منقطعة عن اللحاق هبم ،

:ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة ) :فوائد معرفة حال السابقني املقربني (

.أن ال يزال املتخلف املسكني مزريا على نفسه ذاما هلا : منها أنه ال يزال منكسر القلب بني يدي ربه تعاىل ذليال له حقريا يشهد منازل السابقني وهو يف زمرة : ومنها

.املنقطعني ، ويشهد بضائع التجار وهو يف رفقة احملرومني .أنه عساه أن تنهض مهته يوما إىل التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد : ومنها لرغبة واللجأ إىل من بيده اخلري كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه ألعماهلم أنه لعله أن يصدق يف ا: ومنها

.فيصادف ساعة إجابة ال يسأل اهللا عز وجل فيها شيئا إال أعطاه أن هذا العلم هو من أشرف علوم العبادة ، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو ال يناسب : ومنها

الدنيئة املهينة ، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم وتشتاق إليه إال النفوس الشريفة ، وال يناسب النفوس يا نفس ، فقد حصل لك شطر السعادة : وحتبه وتأنس بأقله فليبشر باخلري فقد أهل له ، فليقل لنفسه

فاحرصي على الشطر اآلخر ، فإن السعادة يف العلم هبذا الشأن والعمل به ، فقد قطعت نصف املسافة .يا فتفوزين فوزا عظيما فهال تقطعني باق

...)يتبع(أن العلم بكل حال خري من اجلهل ، فإذا كان اثنان أحدمها عامل هبذا الشأن غري موصوف به : ومنها @

وال قائم به ، وآخر جاهل به غري متصف به فهو خلو من األمرين ، فال ريب أن العامل به خري من .ما فينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه وينزل يف مرتبته اجلاهل ، وإن كان العامل املتصف به خريا منه

Page 164: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أنه إذا كان العلم هبذا الشأن مهه ومطلوبه فال بد أن ينال منه حبسب استعداده ولو حلظة لو : ومنها .بارقة ، ولو أنه حيدث نفسه بالنهضة إليه

، واهللا ال يضيع مثقال ذرة أنه لعله جيري منه على لسانه ما ينتفع به غريه بقصده أو بغري قصده : ومنها .فعسى أن يرحم بذلك العامل

إنه ال ينفع : وباجلملة ففوائد العلم هبذا الشأن ال تنحصر فال ينبغي أن تصغي إىل من يثبطك عنه وتقول بل احذره واستعن باهللا وال تعجز ولكن ال تغتر ، وفرق بني العلم واحلال ، وإياك أن تظن أن مبجرد علم

قد صرت من أهله ، هيهات ما أظهر الفرق بني العلم بوجوه الغىن وهو فقري وبني الغين هذا الشأن .بالفعل ، وبني العامل بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبني الصحيح بالفعل

فامسع اآلن وصف القوم وأحضر ذهنك لشأهنم العجيب وخطرهم اجلليل ، فإن وجدت من نفسك :امحد اهللا وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح حركة ومهة إىل التشبه هبم ف

إذا أعجبتك خصـال امريء فكنه تكن مثل ما يعجبـك فليس على اجلود واملكر مـا ت إذا جئتها حاجب حيجبك

فنبأ القوم عجيب ، وأمرهم خفي إال على من له مشاركة مع القوم ، فإنه يطلع من حاهلم على ما يريه .إياه القدر املشترك

أهنم قوم قد امتألت قلوهبم من معرفة اهللا ، وغمرت مبحبته وخشيته وإجالله ومراقبته ، : ة أمرهم وجلم .فسرت احملبة يف أجزائهم فلم يبق فيها عرق وال مفصل إال وقد دخله احلب

وقد فنوا حببه عن حب من سواه، وبذكره . قد أنساهم حبه ذكر غريه ، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه من سواه وخبوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه واإلنابة إليه والسكون إليه عن ذكر

فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت . والتذلل واالنكسار بني يديه عن تعلق ذلك منهم بغريهله ىف أمسائه أنفاسه إىل إهله ومواله واجتمع مهه عليه متذكرا صفاته العلى وأمساءه احلسىن مشاهدا

وصفاته، قد جتلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه مبعرفته وحمبته، فبات جسمه ىف فراشه يتجاىف عن مضجعه، وقلبه قد أوى إىل مواله وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بني يديه خاضعا خاشعا ذليال منكسرا من

.كل جهة من جهاته .فع رأسه منها إىل يوم اللقاءفيا هلا سجدة ما أشرفها من سجدة، ال ير

أى واهللا، بسجدة ال يرفع رأسه منها إىل يوم : أيسجد القلب بني يدى ربه؟ قال: وقيل لبعض العارفني .القيامة

Page 165: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فشتان بني قلب يبيت عنه ربه قد قطع ىف سفره إليه بيداء األكوان وخرق حجب الطبيعة، ومل يقف عند لى ربه ىف داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جالله وعلو شأنه وهباء رسم، وال سكن إىل علم حىت دخل ع

كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتعرض عليه حوائجهم ، فيشاهد امللك احلق قيوما بنفسه ]كما أمر[وأعماهلم، فيأمر فيها مبا يشاء، فينزل األمر من عنده نافدا

يسأله من فى السموات واألرض {: لكل ما سواه غنيا عن كل من سواه وكل من سواه فقري إليهمقيما ، يغفر ذنبا ويفرج كربا ويفك عانيا وينصر ضعيفا وجيرب كسريا ]٢٩:الرمحن* [}كل يوم هو فى شأن

عم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ويعز ويغىن فقريا ومييت وحيىي ويسعد ويشقى ويضل ويهدى وين .أقواما ويذل آخرين ويرفع أقواما ويضع آخرين

ميني اهللا : ((ويشهده كما أخرب عنه أعلم اخللق به وأصدقهم ىف خربه حيث يقول ىف احلديث الصحيحيغض ما ىف ميينه، مألى ال يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق اخللق فإنه مل

، فيشاهده كذلك يقسم األرزاق وجيزل العطايا ومين بفضله على ))وبيده األخرى امليزان خيفض ويرفعمن يشاء من عباده بيمينه، وباليد األخرى امليزان خيفض به من يشاء ويرفع به من يشاء عدال منه

بأمر السموات واألرض ومن فيهن، ليس له وحكمة ال إله إال هو العزيز احلكيم، فيشهده وحده القيوم بواب فيستأذن وال حاجب فيدخل عليه، وال وزير فيؤتى وال ظهري فيستعان به وال وىل من دونه فيشفع

أحاط سبحانه هبا ] بل قد[به إليه، وال نائب عنه فيعرفه حوائج عباده، وال معني له فيعاونه على قضائها، تزيده كثرة احلاجات إال جودا وكرما، وال يشغله منها شأن عن شأن، علما ووسعها قدرة ورمحة، فال

.وال تغلطه كثرة املسائل، وال يتربم بإحلاح امللحنيلو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا ىف صعيد واحد مث سألوه فأعطى كال منهم مسألته

.البحر إذا غمس فيه ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إال كما ينقص املخيطولو أن أوهلم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك ىف ملكه

إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول {: كالم وعذابه كالم] من[شيئا ذلك بأنه الغىن اجلواد املاجد، فعطاؤه ].٨٢:يس* [}له كن فيكون

إن اهللا ال ينام وال ينبغى له أن ينام، : ((ده كما أخرب عنه أيضا الصادق املصدوق حيث يقولويشهور الليل، حجابه النيخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل

)).لو كشفه ألحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه

Page 166: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وباجلملة فيشهده ىف كالمه فقد جتلى سبحانه وتعاىل لعباده ىف كالمه وتراءى هلم فيه وتعرف إليهم فيه، إال إله إال هو ] ١٠: إبراهيم* [}واألرض أفى اهللا شك فاطر السموات{: فبعدا وتبا للجاحدين والظاملني

.الرمحن الرحيم: فإذا صارت صفات ربه وأمساؤه مشهدا لقلبه أنسته ذكر غريه وشغلته عن حب من سواه، وحديث

دواعى قلبه إىل حبه تعاىل بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه، فحينئذ يكون الرب سبحانه مسعه فبه يسمع وبه يبصر، . ى يبصر به ويده الىت يبطش هبا، ورجله الىت ميشى هباالذى يسمع به، وبصره الذ

.وبه يبطش، وبه ميشىومن غلظ حجابه وكثف طبعه وصلب : ((كما أخرب عن نفسه على لسان رسوله صلى اهللا عليه وسلم

، أو يفهم منه عوده فهو عن فهم هذا مبعزل، بل لعله أن يفهم منه ما ال يليق به تعاىل من حلول أو احتادوقد ]. ٤٠: النور* [}ومن لم يجعل اهللا له نورا فما له من نور{: غري املراد منه فيحرف معناه، ولفظه

)).التحفة املكية((ذكرت معىن احلديث والرد على من حرفه وغلط فيه ىف كتاب على أى عرشا ملعرفة حمبوبه وحمبته وعظمته عرشا للمثل األ - الذى هذا شأنه -وباجلملة فيبقى قلب العبد

وجالله وكربيائه، وناهيك بقلب هذا شأنه فياله من قلب من ربه ما أدناه ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغريه، فهؤالء قلوهبم قد قطعت األكوان وسجدت حتت العرش وأبداهنم

إذا نام العبد املؤمن عرج بروحه حىت تسجد حتت العرش، فإن كان : اءىف فرشهم كما قال أبو الدردطاهرا أذن هلا ىف السجود، وإن كان جنبا مل يؤذن هلا بالسجود وهذا واهللا أعلم هو السر الذى ألجله

، وهو إما واجب على أحد القولني، أو ))أمر النىب صلى اهللا عليه وسلم اجلنب إذا أراد النوم أن يتوضأ(( .مؤكد االستحباب على القول اآلخر، فإن الوضوء خيفف حدث اجلنابة وجيعله طاهرا من بعض الوجوه

إهنم إذا : وهلذا روى اإلمام أمحد وسعيد بن منصور وغريمها عن أصحاب رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلمام أمحد وغريه، مع كان أحدهم جنبا مث أراد أن جيلس ىف املسجد توضأ مث جلس فيه، وهذا مذهب اإلم

على أن وضؤه رفع حكم اجلنابة املطلقة الكاملة الىت متنع اجلنب من ]فدل[أن املساجد ال حتل جلنب، .اجللوس ىف بيت اهللا ومتنع الروح من السجود بني يدى اهللا سبحانه

خرين فتأمل هذه املسألة وفقهها واعرف مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم، فهل ترى أحدا من املتأوصل إىل مبلغ هذا الفقه الذى خص اهللا به خيار عباده وهم أصحاب نبيه، وذلك فضل اهللا يؤتيه من

.يشاء واهللا ذو الفضل العظيمعاكفا ] له[فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إىل اهللا هبمه وحبه وأشواقه مشتاقا إليه طالبا له حمتاجا

غاب عن حمبوبه الذى ال غىن له عنه وال بد له منه، وضرورته إليه أعظم عليه، فحاله كحال احملب الذى

Page 167: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

من ضرورته إىل النفس والطعام والشراب، فإذا نام غاب عنه فإذا استيقظ عاد إىل احلنني إليه، وإىل املقلق فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأوهلا عند استيقاظه كما قال بعض احملبني ] واحلب[الشوق الشديد

:بوبهحمل وآخر شيء أنت ىف كل هجعة وأول شيء أنت عند هبويب

فقد أفصح هذا احملب عن حقيقة احملبة وشروطها، فإذا كان هذا ىف حمبة خملوق ملخلوق فما الظن ىف حمبة .احملبوب األعلى، فأف لقلب ال يصلح هلذا وال يصدق به، لقد صرف عنه خري الدنيا واآلخرة

فصلإىل قلبه هذا الشأن فأول ما جيرى على لسانه ذكر حمبوبه والتوجه إليه ] وقد بدر[فإذا استيقظ أحدهم

واستعطافه والتملق بني يديه واالستعانة به أن ال خيلى بينه وبني نفسه وأن ال يكله إليها فيكله إىل ضعة موتا وال حياة وال وعجز وذنب وخطيئة بل يكأله كالءة الوليد الذى ال ميلك لنفسه ضرا وال نفعا وال

نشورا، فأول ما يبدأ به احلمد هللا الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، متدبرا ملعناها من ذكر نعمة اهللا عليه بأن أحياه بعد نومه الذى هو أخو املوت وأعاده إىل حاله سويا سليما حمفوظا مما ال يعلمه وال خيطر

والىت هو غرض وهدف لسهامها كلها تقصده باهلالك أو األذى والىت من ] كاتاملهل[بباله من املؤذيات شياطني اإلنس واجلن، فإهنا تلتقى بروحه إذا نام فتقصد إهالكه وأذاه، فلوال أن اهللا ] أرواح[بعضها

اره الروح ىف تلك الغيبة من أنواع األذى واملخاوف واملك] وكم تتلقى[هذا . سبحانه يدفع عنه ملا سلموالتفزيعات وحماربة األعداء والتشويش والتخبيط بسبب مالبستها لتلك األرواح، فمن الناس من يشعر

إذا استيقظ من الوحشة واخلوف والفزع والوجع ] بذلك لرقة روحه ولطافتها وجيد اثار ذلك فيها[ثف وأقسى من أن الروحى الذى رمبا غلب حىت سرى إىل البدن، ومن الناس من تكون روحه أغلظ وأك

.تشعر بذلك، فهى مثخنة باجلراح مزمنة باألمراض ولكن لنومها ال حتس بذلكهذا، وكم من مريد إلهالك جسمه من اهلوام وغريها، وقد حفظه منه فهى ىف أحجارها حمبوسة عنه لو و خليت وطبعها ألهلكته، فمن ذا الذى كأله وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه ومسعه وبصره، فل

جاءه البالء من أى مكان جاء مل يشعر به، وهلذا ذكر سبحانه عباده هذه النعمة وعدها عليهم من مجلة ].٤٢: األنبياء* [}من يكألكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون{: نعمه فقال

كان محده أبلغ وأكمل من محد الغافل عن ذلك، مث تفكر ىف )) الحمد هللا(( :فإذا تصور العبد ذلك فقالأن الذى أعاده بعد هذه اإلماتة حيا سليما قادرا على أن يعيده بعد موتته الكربى حيا كما كان، وهلذا

ال شريك له الملك وله الحمد وهو على ال إله إال اهللا وحده: ((، مث يقول))وإليه النشور: ((يقول بعدهامث يدعو )) باهللاكل شيء قدير، والحمد هللا وسبحان اهللا وال إله إال اهللا واهللا أكبر وال حول وال قوة إال

Page 168: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

صالة حمب ] له[يصلى ما كتب اهللا ويتضرع، مث يقوم إىل الوضوء بقلب حاضر مستصحب ملا فيه، مث ناصح حملبوبه متذلل منكسر بني يديه، ال صالة مدل هبا عليه يرى من أعظم نعم حمبوبه عليه أن أقامه وأنام غريه، واستزاره وطرد غريه، وأهله وحرم غريه، فهو يزداد بذلك حمبة إىل حمبته، ويرى أن قرة عينه

ذته وسروره ىف تلك الصالة، فهو يتمىن طول ليله ويهتم بطلوع الفجر وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ول :كما يتمىن احملب الفائز بوصول حمبوبه ذلك، فهو كما قيل يود أن ظالم الليل دام له وزيد فيه سواد القلب والبصر

ظها من فهو يتملق فيها مواله متلق احملب حملبوبه، العزيز الرحيم، ويناجيه بكالمه معطيا لكل آية حالعبودية، فتجذب قلبه وروحه إليه آيات احملبة والوداد، واآليات الىت فيها األمساء والصفات، واآليات الىت تعرف هبا إىل عباده بآالئه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم، وتطيب له السري آيات الرجاء والرمحة وسعة

، وتقلقه آيات اخلوف والعدل ]عليه[له السري ويهونه الرب واملغفرة، فتكون له مبنزلة احلادى الذى يطيب واالنتقام وإحالل غضبه باملعرضني عنه العادلني به غريه املائلني إىل سواه، فيجمعه عليه ومينعه أن يشرد

.قلبه عنه .فتأمل هذه الثالثة وتفقه فيها، واهللا املستعان، وال حول وال قوة إال باهللا

سبحانه وقد جتلى ىف كالمه ويعطى كل آية حظها من عبودية قلبه اخلاصة وباجلملة فيشاهد املتكلمالزائدة على نفس فهمها ومعرفة املراد منها، مث شأن آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان قبل يلعب، كما

:قيل وكنت أرى أن قد تناهى ىب اهلوى إىل غاية ما بعدها ىل مذهب

تيقنت أىن إمنا كنت ألعـبفلما تالقينا وعاينت حسنـــها فوا أسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضى الزمان وينفد العمر والقلب حمجوب ما شم هلذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال املفاليس،

.ة وأسفافكانت حياته عجزا وموته كمدا ومعاده حسراحلمد وإليك املستشكى، وأنت املستعان وبك املستغاث، وعليك التكالن، وال حول وال ] ولك[اللهم

.قوة إال بك فصل

هيبة له وإجالال، واستغفره استغفار من قد ] تعاىل[فإذا صلى ما كتب اهللا جلس مطرقا بني يدى ربه .تيقن أنه هالك إن مل يغفر له ويرمحه

Page 169: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ى من االستغفار وطرا وكان عليه بعد ليل اضطجع على شقه األمين جمما نفسه مرحيا هلا مقويا فإذا قضعلى أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطا جبده ومهته كأنه مل يزل طول ليلته مل يعمل شيئا، فهو يريد أن

ها وبني الفريضة، فإن لذلك الوقت يستدرك ما فاته ىف صالة الفجر، فيصلى السـنة ويبتهل إىل اهللا بينفلهذا الذكر ىف هذا )) يا حى، يا قيوم، ال إله إال أنت: ((شأنا يعرفه من عرفه، ويكثر فيه من قول

املوطن تأثري عجيب، مث ينهض إىل صالة الصبح قاصدا الصف األول عن ميني اإلمام أو خلف قفاه، فإن مهما أمكن فإن للقرب من اإلمام تأثريا ىف سر الصالة، وهلذا القرب تأثري ىف فاته ذلك قصد القرب منه

* }وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا { : صالة الفجر خاصة يعرفه من عرف قوله تعاىل ].٧٨: اإلسراء[

ليل ومالئكة النهار، فيتفق نزول هؤالء البدل يشهده مالئكة ال: يشهد اهللا عز وجل ومالئكته، وقيل: قيلعند صعود أولئك فيجتمعون ىف صالة الفجر، وذلك ألهنا هى أول ديوان النهار وآخر ديوان الليل

.فيشهده مالئكة الليل والنهارقال رسول اهللا : واحتج هلذا القول مبا ىف الصحيح من حديث الزهرى عن أىب سلمة عن أىب هريرة قال

، وجيتمع ))فضل صالة الجميع على صالة الواحد خمس وعشرون درجة: (( عليه وسلمصلى اهللاوقرآن الفجر إن { : واقرؤوا إن شئتم: مالئكة الليل ومالئكة النهار ىف صالة الفجر لقول أىب هريرة

.رواه البخارى ىف الصحيح] ٨٧: اإلسراء* [}قرآن الفجر كان مشهوداوهذا ال يناىف قولنا، وهو أن يكون اهللا سبحانه ومالئكة الليل والنهار : قال أصحاب القول األول

يشهدون قرآن الفجر، وليس املراد الشهادة العامة، فإن اهللا على كل شيء شهيد، بل املراد شهادة خاصة .له إىل مساء الدنيا ىف الشطر األخري من الليلونزو] تعاىل[وهى شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب

كعب القرظى عن فضالة ابن عبيد ] عن حممد بن[حدثىن زيادة بن حممد : وقد روى الليث بن سعدإن اهللا عز وجل ينزل فى ثالث : ((األنصارى عن أىب الدرداء عن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم قال

بت، ثم ن من الليل، فيفتح الذكر فى الساعة األولى الذى لم يره غيره فيمحو اهللا ما يشأ ويثساعات يبقيلب بشر وهى ينزل فى الساعة الثانية إلى جنة عدن وهى داره التى لم ترها عين ولم تخطر على ق

طوىب ملن : مسكنه ال يسكنها معه من بىن آدم غري ثالث وهم النبيون والصديقون والشهداء، مث يقولقومى بعزتى، مث يطلع : دخلك، مث ينزل ىف الساعة الثالثة إىل مساء الدنيا بروحه ومالئكته فتنفض فيقول

داع يدعوىن ] من[أال )) من سائل يسألىن فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له؟ أال: إىل عباده فيقول .فأجيبه؟ حىت تكون صالة الفجر

Page 170: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، يشهده ]٧٨: اإلسراء* [}وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا { : ولذلك يقول اهللا عز وجل )).اهللا عز وجل ومالئكته مالئكة الليل والنهار

سبحانه لقرآن الفجر ] اهللا[زول يدوم إىل صالة الفجر، وعلى هذا فيكون شهود ففى هذا احلديث أن الن، وهذا ال ]الصلوات[مع شهود مالئكة الليل والنهار له، وهذه خاصة بصالة الصبح ليست لغريها من

يناىف دوام النزول ىف سائر األحاديث إىل طلوع الفجر وال سيما وهو معلق ىف بعضها على انفجار .هو اتساع ضوئهالصبح، و، وذلك هو وقت قراءة الفجر، ))حتى يسطع الفجر: ((لفظ] ىف[، ))حتى يضيء الفجر: ((وىف لفظ

وهذا دليل على استحباب تقدميها مع مواظبة النىب صلى اهللا عليه وسلم وخلفائه الراشدين على تقدميها م يقرأ فيها بالستني إىل املائة ويطيل ركوعها وسجودها ىف أول وقتها، فكان النىب صلى اهللا عليه وسل

وينصرف منها والنساء ال يعرفن من الغلس، وهذا ال يكون إال مع شدة التقدمي ىف أول الوقت لتقع القراءة ىف وقت النزول فيحصل الشهود املخصوص، مع أنه قد جاء ىف بعض األحاديث مصرحا به دوام

كل ليلة إىل مساء ] تعاىل[نزول الرب ((الصبح، رواه الدارقطىن ىف كتاب ذلك إىل االنصراف من صالة: من حديث حممد بن عمرو عن أىب سلمة عن أىب هريرة أن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم قال)) الدنيا

ىن من ذا الذى يدعو: ينزل اهللا عز وجل إىل مساء الدنيا لنصف الليل اآلخر أو الثلث اآلخر يقول((فأستجيب له؟ من ذا الذى يسألىن فأعطيه؟ من ذا الذى يستغفرىن فأغفر له؟ حىت يطلع الفجر أو

منهم سليمان بن بالل وإمساعيل بن جعفر : رواه عن حممد مجاعة)) ينصرف القاريء من صالة الصبحبن والدراوردى وحفص بن غياث ويزيد بن هارون وعبد الوهاب بن عطاء وحممد بن جعفر والنضر

، فإن كانت هذه اللفظة حمفوظة عن النىب ))أو ينصرف القاريء من صالة الفجر: ((مشيل كلهم قالصلى اهللا عليه وسلم فهى صرحية ىف املعىن كاشفة للمراد، وإن مل تكن حمفوظة وكانت من شك الراوى

.هل قال هذا أو هذا، فقد قدمنا أنه ال منافاة بني اللفظنيد عن حممد بن زياد يدل على دوام النزول إىل وقت صالة الفجر، وأن تعليقه وأن حديث الليث بن سع

بالطلوع لكونه أول الوقت الذى يكون فيه الصعود، كما رواه يونس بن أىب إسحق عن أبيه عن األغر إذا كان إن اهللا عز وجل يمهل حتى : ((شهدت على النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال: أىب مسلم قال

هل من سائل فأعطيه؟ هل من : ثلث الليل هبط إلى هذه السماء ثم أمر بأبواب السماء ففتحت ثم قالن مضطر أكشف عنه؟ فال يزال داع فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له هل من مستغيث أغيثه؟ هل م

فزاد فيه : قال الدارقطىن)). ذلك مكانه حتى يطلع الفجر فى كل ليلة من الدنيا، ثم يصعد إلى السماء؟

Page 171: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ها ىف أول واملقصود ذكر القرب من اإلمام ىف صالة الفجر وتقدمي. يونس بن أىب إسحق زيادة حسنة .واهللا أعلم. وقتها فصل

فإذا فرغ من صالة الصبح أقبل بكليته على ذكر اهللا والتوجه إليه باألذكار الىت شرعت أول النهار فيجعلها وردا له ال خيل هبا أبدا، مث يزيد عليها ما شاء من األذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حىت تطلع

ركعىت الضحى وزاد ما شاء، وإن شاء قام من غري ركوع مث يذهب الشمس، فإذا طلعت فإن شاء ركع متضرعا إىل ربه سائال له أن يكون ضامنا عليه متصرفا ىف مرضاته بقية يومه، فال ينقلب إال ىف شيء يظهر له فيه مرضاة ربه، وإن كان من األفعال العادية الطبيعية قلبه عبادة بالنية وقصد االستعانة به على

.ضاة الربمرىف ] ويستخرج منه منفدأ ومسلكا يسلك به فينقلب[وباجلملة فيقف عند أول الداعى إىل فعله، فيفتش

حقه عبادة وقربة، وشتان كم بني هذا وبني من إذا عرض له أمر من أوامر الرب ال بد له من فعله وفتش له ومنفذا ملقصده، فسبحان من فيه على مراد لنفسه وغرض لطبعه، ففعلة ألجل ذلك وجعل األمر طريقا

.فاوت بني النفوس إىل هذا احلد والغاية، فهذا عباداته عادات، واألول عاداته عباداتفإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مكمال له ناصحا فيه ملعبوده كنصح احملب الصادق احملبة حملبوبه الذى قد

دا، بل يبذل مقدوره كله ىف حتسينه وتزيينه وإصالحه طلب منه أن يعمل له شيئا ما، فهو ال يبقى جمهو .وإكماله ليقع موقعا من حمبوبه فينال به رضاه عنه وقربه منه

أفال يستحى العبد من ربه ومواله ومعبوده أن ال يكون ىف عمله هكذا، وهو يرى احملبني ىف أشغال كمله، بل هو جيد من نفسه ذلك مع على أحسن وجه وأ] ىف إيقاعها[حمبوبيهم من اخللق كيف جيتهدون

من حيبه من اخللق، فال أقل من أن يكون مع ربه هبذه املنزلة، ومن أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من اهللا أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل حملبوب له من الناس لبذل فيه

.نصحه ومل يدع من حسنه شيئا إال فعلهملة فهذا حال هذا العبد مع ربه ىف مجيع أعماله، فهو يعلم أنه ال يوىف هذا املقام حقه، فهو أبدا وباجل

إذا سلم من الصالة استغفر اهللا ثالثا، ] يستغفر اهللا عقيب كل عمل وكان النىب صلى اهللا عليه وسلم[ .]١٨: الذاريات* [}وباألسحار هم يستغفرون { : وقال تعاىلثم أفيضوا من حيث { : وقال تعاىل. مدوا الصالة إىل السحر، مث جلسوا يستغفرون رهبم: قال احلسن

، فأمر سبحانه باالستغفار بعد الوقوف ]١٩٩: البقرة* [}أفاض الناس واستغفروا اهللا إن اهللا غفور رحيماللهم اجعلنى من التوابني واجعلنى من : ((ول بعد وضوئهبعرفة واملزدلفة، وشرع للمتوضيء أن يق

Page 172: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فصاحب . ، فهذه توبة بعد الوضوء، وتوبة بعد احلج، وتوبة بعد الصالة وتوبة بعد قيام الليل))املتطهرينوكلما كثرت طاعاته هذا املقام مضطر إىل التوبة واالستغفار كما تبني، فهو ال يزال مستغفرا تائبا،

.كثرت توبته واستغفاره فصل

ىف الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه ] عز وجل[ومجاع األمر ىف ذلك إمنا هو بتكميل عبودية اهللا وجسمه كلها ىف حمبوبات اهللا، وكمال عبودية العبد موافقته لربه ىف حمبته ما أحبه، وبذل اجلهد ىف فعله

هه وبذل اجلهد ىف تركه، وهذا إمنا يكون للنفس املطمئنة، ال لألمارة وال وموافقته ىف كراهة ما كر .للوامة

فهذا كمال من جهة اإلرادة والعمل، وأما من جهة العلم واملعرفة فأن تكون بصريته منفتحة ىف معرفة ه وسلم ال األمساء والصفات واألفعال، له شهود خاص فيها مطابق ملا جاء به الرسول صلى اهللا علي

ذلك قائما بأحكام العبودية ] مع[حبسب خمالفته له ىف ذلك يقع االحنراف ويكون ] فإنه[خمالف له، اخلاصة الىت تقتضيها كل صفة خبصوصها، وهذا سلوك األكياس الذين هم خالصة العامل، والسالكون

سالكني ىف غفلة عنه، على هذا الدرب أفراد من العامل، طريق سهل قريب موصل، طريق آمن أكثر الولكن يستدعى رسوخا ىف العلم ومعرفة تامة به وإقداما على رد الباطل املخالف له ولو قاله من قاله، وليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمني عندهم، مث إلحسان ظنهم هبم قد وقفوا عند

.وأى حجابفصارت حجابا هلم ] إىل غريها[أقواهلم ومل يتجاوزوها فمن فتح اهللا عليه بصرية قلبه وإميانه حىت خرقها وجاوزها إىل مقتضى الوحى والفطرة والعقل، فقد أوتىخريا كثريا وال خياف عليه إال من ضعف مهته، فإذا انضاف إىل ذلك الفتح مهة عالية فذاك السابق

تلقى أحواله ووارداته عن تان ما بني من يحقا، واحد الناس بزمانه، ال يلحق شأوه وال يشق غباره فشاألمساء والصفات وبني من يتلقاها عن األوضاع االصطالحية والرسوم أو عن جمرد ذوقه ووجده، إذا استحسن شيئا قال هذا هو احلق، فالسري إىل اهللا من طريق األمساء والصفات شأنه عجب، وفتحه عجب

تعب وال مكدود وال مشتت عن وطنه وال صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غريوليس ]. ٨٨:النمل* [}وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب{: مشرد عن سكنه

العجب من سائر ىف ليله وهناره وهو ىف الثرى مل يربح من مكانه، وإمنا العجب من ساكن ال يرى عليه راحل واملفاوز، فسائر قد ركبته نفسه فهو حاملها سائر هبا ملبوك يعاقبها وتعاقبه أثر السفر وقد قطع امل

وجيرها وهترب منه وخيطو هبا خطوة إىل أمامه فتجذبه خطوتني إىل ورائه، فهو معها ىف جهد وهى معه كذلك، وسائر قد ركب نفسه وملك عناهنا فهو يسوقها كيف شاء وأين شاء ال تلتوى عليه وال

Page 173: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

جذب وال هترب منه، بل هى معه كاألسري الضعيف ىف يد مالكه وآسره وكالدابة الريضة املنقادة ىف يد تنسائسها وراكبها، فهى منقادة معه حيث قادها، فإذا رام التقدم مجزت به وأسرعت، فإذا أرسلها سارت

، ليس كالذى نزل عنها به وجرت ىف احللبة إىل الغاية وال يردها شيء فتسري به وهو ساكن على ظهرهافهو جيرها بلجامها ويشحطها وال تنشحط، فشتان ما بني املسافرين فتأمل هذا املثل فإنه مطابق حلال

.السائرين املذكورين، واهللا خيتص برمحته من يشاء فصل

ره، بل تعاىل واختيا] رهبم[ومن شأن القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبري واالختيار الذى خيالف تدبري قد سلموا إليه سبحانه التدبري كله، فال يزاحم تدبريهم تدبريه وال اختيارهم اختياره، لتيقنهم أنه امللك

أمر العامل كله، وتيقنهم مع ذلك أنه احلكيم ىف أفعاله ] لتدبري[القاهر القابض على نواصى اخللق املتوىل ، فلم يدخلوا أنفسهم معه ىف تدبريه مللكه وتصريفه الذى ال خترج أفعاله عن احلكمة واملصلحة والرمحة

أجل وأعظم ىف قلوهبم من ] تعاىل[أمور عباده بلو كان كذا وكذا، وال بعسى ولعل وال بليت، بل رهبم أن يعترضوا عليه أو يتسخطوا تدبريه أو يتمنوا سواه، وهم أعلم به وأعرف بأمسائه وصفاته من أن

و يظنوا به اإلخالل مبقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظر بعني قلبه إىل باريء األشياء يتهموه ىف تدبريه أوفاطرها، ناظر إىل إتقان صنعه، مشاهد حلكمته فيه وإن مل خيرج ذلك على مكاييل عقول البشر

.وعوائدهم ومألوفاهتم .ليته مل يقضه: لو قرض جسمى باملقاريض أحب إىل من أن أقول لشيء قضاه اهللا: قال بعض السلف

قلت : ما هو؟ قال: وكان قد اجتهد ىف العبادة قيل له. أذنبت ذنبا أبكى عليه منذ ثالثني سنة: وقال آخروبعض العارفني جيعل عيب املخلوقات وتنقيصها مبنزلة العيب لصانعها . ليته مل يكن: مرة لشيء كان

شيء ىف خلقه وأتقن كل شيء وهو أحكم وخالقها، ألهنا صنعه وأثر حكمته، وهو سبحانه أحسن كلاحلاكمني وأحسن اخلالقني، له ىف كل شيء حكمة بالغة وىف كل مصنوع صنع متقن، والرجل إذا عاب

الرب سبحانه بال إذنه سرى ذلك إىل ] رجل آخر وذمها سرى ذلك إىل صانعها فمن عاب صنعة[صنعة نت الصنعة جمبولة مل تصنع نفسها وال صنع هلا الصانع، ألنه كذلك صنعها عن حكمته أظهرها، إذ كا

.ىف خلقهاال يعيب إال ما عابه اهللا وال يذم إال ما ذمه، وإذا سبق إىل قلبه ولسانه عيب ما مل يعبه اهللا ] والعارف[

وذم ما مل يذمه اهللا تاب إىل اهللا منه كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه فإنه يستحى من اهللا أن يكون ىف يعيب آالت تلك الدار وما فيها، فهو يرى نفسه مبنزلة رجل دخل إىل دار ملك من امللوك داره وهو

لو كان كذا بدل : ورأى ما فيها من اآلالت والبناء والترتيب، فأقبل يعيب منها بعضها ويذمه ويقول

Page 174: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

يعطى فجعل كذا لكان خريا، ولو كان هذا ىف مكان هذا لكان أوىل وشاهد امللك يوىل ويعزل وحيرم وولو أغىن .. لو وىل هذا مكان فالن كان خريا، ولو عزل هذا املتوىل لكان أوىل، ولو عوىف هذا: يقولفكيف يكون مقت امللك هلذا املعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحب له فقدم .. هذا

ما عاب : ((؟ قالت عائشةإليه طعاما فجعل يعيب صفته ويذمه، أكان ذلك يهون على صاحب الطعام )).رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم طعاما قط، إن اشتهى شيئا أكله وإال تركه

واملقصود أن من شأن القوم ترك االهتمام بالتدبري واالختيار، بل مههم كله ىف إقامة حقه عليهم، وأما .الفعال ملا يريدالتدبري العام واخلاص فقد سلموه لوىل األمر كله ومالكه

كيف -ىف عجزها وضعفها وجهلها - من ذا الذى ينازع اهللا ىف تدبريه؟ فانظر إىل نفسك: ولعلك تقولللمنازعة منازعة جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب، فسبحان من أذله ] عرضة[هى

القدرة، جبار اإلرادة، عبد كيف هو عاجز : بعجزه وضعفه وجهله، وأراه العرب ىف نفسه لو كان ذا بصرمربوب، مدبر مملوك ليس له من األمر شيء، وهو مع ذلك ينازع اهللا ربوبيته وحكمته وتدبريه، ال يرضى مبا رضى اهللا به، وال يسكن عند جمارى أقداره، بل هو عبد ضعيف مسكني يتعاطى الربوبية، فقري

ويرى نفسه عارفا حمسنا، فما أجهله بنفسه مسكني ىف جمموع حاالته، ويرى نفسه غنيا، جاهل ظاملإضاعته حلظه، ولو أحضر رشده لرأى ناصيته ونواصى اخلالئق بيد اهللا ] وأشده[وبربه، وما أتركه حلقه

وقلوهبم بيده سبحانه وىف قبضته يقلبها كيف يشاء، يزيغ ] شاء[سبحانه وتعاىل حيفظها ويرفعها كيف اء، ولكان هذا غالبا على شهود قلبه فيغيب به عن مشيئاته وإرادته واختياره، منها من يشاء ويقيم من يش

ولعرف أن التدبري والركون إىل حول العبد وقوته من اجلهل بنفسه وبربه، فينفى العلم باهللا الجهل عن بذلك قلبه، فتمحى منه اإلرادات واملشيئات والتدبريات، ويفوضها إىل مالك القلوب والنواصى، فصري

، ألن ذلك الوقت بيد ]نفسه فيه[عبدا لربه تقلبه يد القدرة، ويصري ابن وقته ال ينتظر وقتا آخر يدبر .موقته، فريى نفسه مبنزلة امليت ىف قربه ينتظر ما يفعل به، مستسلم هللا منقطع املشيئة واالختيار

جاء األمر جاءت اإلرادة واالختيار هذا ما جيرى على أحدهم من فعل اهللا وحكمه وقضائه الكوىن، فإذا واستفراغ الفكر وبذل اجلهد، فهو قوى حى فعال يشاهد عبودية مواله ىف أمره، فهو ] السعى واجلد[

متحرك فيها بظاهره وباطنه قد أخرج مقدوره من القوة إىل الفعل، وهو مع ذلك مستعني بربه قائم حبوله ، فهو ناظر ]٥: الفاحتة* [}إياك نعبد وإياك نستعني{ : عىنوقوته مالحظ لضعفه وعجزه قد حتقق مب

بقلبه إىل مواله الذى حركه، مستعني به ىف أن يوفقه ملا حيبه ويرضاه، عينه ىف كل حلظة شاخصة إىل م بغري حقه املتوجه عليه لربه ليؤديه ىف وقته على أكمل أحواله، فإذا وردت عليهم أقداره الىت تصيبه

:اختيارهم قابلوها مبقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثالثة

Page 175: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الرضا عنه فيها واملزيد من حبه والشوق إليه، وهذا نشأ من مشاهدهتم للطفه فيها وبره وإحسانه : إحداهانه، العاجل واآلجل، ومن مشاهدهتم حكمته فيها ونصبها سببا ملصاحلهم، وشوقهم هبا إىل حبه ورضوا

.وهلم من ذلك مشاهد أخر ال تسعها العبارة وهى فتح من اهللا على العبد ال يبلغه علمه وال عملهشكره عليها كشكره على النعم وهذا فوق الرضا عنه هبا ومنه ينتقل إىل هذه املرتبة، فهذه : املرتبة الثانية

.مرتبتان ألهل هذا الشأنالىت إذا نزل منها نزل إىل نقصان اإلميان وفواته من التسخط للمقتصدين وهى مرتبة الصرب : والثالثة

.والتشكى، واستبطاء الفرج، واليأس من الروح واجلزع الذى ال يفيد إال فوات األجر وتضاعف املصيبةفالصرب أول منازل اإلميان ودرجاته وأوسطها وآخرها، فإن صاحب الرضا والشكر ال يعدم الصرب ىف

ال تصور وال حتقق هلما دونه، وهكذا كل مقام مع ] و[معه وبه يتحقق الرضا والشكر، مرتبته، بل الصربالذى فوقه، كالتوكل مع الرضا، وكاخلوف والرجاء مع احلب، فإن املقام ال ينعدم بالترقى إىل اآلخر ولو

ىف املقام عدم خللفه ضده، وذلك رجوع إىل نقص الطبيعة وصفات النفس املذمومة، وإمنا يندرج حكمه ىف مقام احملبة والرضا، وليس هذا كمنازل ] املتوكل[الذى أعلى منه فيصري احلكم له كما يندرج مقام

سري األبدان الذى إذا قطع منها منزال خلفه وراء ظهره واستقبل املنزل اآلخر معرضا عن األول بارحتاله، ربح فيه، مث باع الثاىن وربح فقد ربح هبما معا، بل هذا كمنزلة التاجر الذى كلما باع شيئا من ماله و

وهكذا أبدا يكون رحبه ىف كل صفقة متضاعفا بانضمامه إىل ما قبله، فالربح األول اندرج ىف الثاىن ومل .يعدم

فتأمل هذا املوضع واعطه حقه يزل عنك ما يعرض من الغلط ىف علل املقامات وتعلم أن دعوى املدعى أن أعلى املقامات مقرون بأدناها : لعوام ودعوى أهنا معلولة غلط من وجهني، أحدمهاأهنا من منازل ا

مصاحب له كما تقدم، متضمن له تضمن الكل جلزئه، أو مستلزم له استلزام امللزوم لالزمه ال ينفك عنه .أبدا، ولكن الندراجه فيه وانطواء حكمه حتته يصري املشهد واحلكم للعاىل

منازل العوام وتعرض هلا العلل حبسب متعلقاهتا ] تكون ىف[أن تلك املقامات واملنازل إمنا : ىنالوجه الثاوغاياهتا، فإن كان متعلقها وغاياهتا بريئا من شوائب العلل وهو أجل متعلق وأعظمه فال علة فيها حبال،

من جهة ] ا خبطه فهى معلولةحينئذ وإن كان متعلقا خطأ للعبد أو أمرا موشب[وهى من منازل اخلواص تعلقها حبظه ولنذكر لذلك أمثلة

: اإلرادة، فإن اهللا جعلها من منازل صفوة عباده، وأمر رسوله أن يصرب نفسه مع أهلها فقال: املثال األول: وقال تعاىل] ٢٨: الكهف* [} واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه{ ، وقال حكاية عن أوليائه ]٢٠-١٩الليل * [}وما ألحد عنده من نعمة تجزى إال ابتغاء وجه اهللا {

Page 176: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، وهى الم التعليل الداخلة على الغايات املرادة، وهى ]٩: اإلنسان* [}إنما نطعمكم لوجه اهللا { : قوهلماإلرادة حلية العوام، وهى جتريد القصد، وجزم النية، واجلد ىف الطلب، : رية ىف القرآن، فقالت طائفةكث

.تفرق، ورجوع إىل النفس] نقص و: [وذلك غريه ىف طريق اخلواصفإن إرادة العبد عني حظه وهو رأس الدعوى، وإمنا اجلمع والوجود فيما يراد بالعبد ال فيما يريد، كقوله

، فيكون مراده ما يراد به واختياره ما اختري ]١٠٧:يونس* [}وإن يردك بخير فال راد لفضله { :تعاىل :له، إذ ال إرادة للعبد مع سيده وال نظر، كما قال

أريد وصاله ويريد هجرى فأترك ما أريد ملا يريد@ .ال أريد، ألىن أنا املراد وأنت املريد قيل ىل ما تريد؟ قلت أريد أن]: يزيد[ومن هذا قول أىب

ىف كالمهم العامة اجلهال، وإمنا مرادهم هبذه اللفظة عموم السالكني، )) العوام((فيقال ليس املراد من وإذا عرف هذا فالكالم على ما ذكر ىف . الفناء وعني اجلمع] إىل[دون أهل اخلصوص الواصلني منازل

:اإلرادة من وجهإلرادة هى مركب العبودية، وأساس بنائها الذى ال تقوم إال عليه، فال عبودية ملن ال إرادة أن ا: أحدها

إهنا : له، بل أكمل اخللق أكملهم عبودية وحمبة وأصحهم حاال وأقومهم معرفة وأمتهم إرادة، فكيف يقال .حلية العوام أو من منازل العوام

حملبة من منازل العوام، وتكون معلولة أيضا ألهنا إرادة تامة أنه يلزم من هذا أن تكون ا: الوجه الثاىنللمحبوب ووجود احملبة بال إرادة كوجود اإلنسانية من غري حيوانية وكوجود مقام اإلحسان بدون

.، فإذا كانت اإلرادة معلولة وهى من منازل العوام لزم أن تكون احملبة كذلك]واإلسالم[اإلميان هذا هو : ال علة فيها هى جترد احملب عن اإلرادة وفناؤه بإرادة حمبوبه عن إرادته، قيلاحملبة الىت: فإن قيل

.حقيقة اإلرادة أن يبقى مراده مراد حمبوبه، فلو مل يكن مريدا ملراد حمبوبه مل يكن موافقا له ىف اإلرادةملعلول من ذلك ما تعلق حبظ املريد واحملبة هى موافقة احملبوب ىف إرادته فعاد األمر إىل ما أشرنا إليه أن ا

دون حمبوبه، فإذا صارت إرادته موافقة إلرادة حمبوبه مل تكن تلك اإلرادة من منازل العوام وال معلولة، بل هذه أشرف منازل اخلواص وغاية مطالبهم، وليس وراءها إال التجرد عن كل إرادة والفناء بشهوده

إليه السالكون إىل منازل الفناء وجيعلونه غاية الغايات، وهذا عند عن إرادة ما يريد، وهذا هو الذى يشريأهل الكمال نقص وتغيري ىف وجه احملبة وهضم جلانب العبودية وفناء حبظ احملب من مشاهدته مجال حمبوبه وفنائه فيه عن حق احملبوب ومراده، فهو الوقوف مع نفس احلظ واهلروب عن حق احملبوب

ما تريدان؟ فقال : إال كمثل رجلني ادعيا حمبة ملك فحضرا بني يديه فقال ومراده، وهل مثل هذا .أريد أن ال أريد شيئا بل أفىن عن إرادتى وأكون أنا املراد وأنت تريد ىب ما تشاء: أحدمها

Page 177: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

: كأريد أن أنفق أنفاسى وذراتى ىف حمابك ومرضاتك منفذا ألوامرك مشمرا ىف طاعت] بل: [وقال اآلخر .أتوجه حيث توجهني وأفعل ما تأمرىن، هذا الذى أريده

: وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا، فإىن سأبعثكما ىف أشغاىل ومهماتى، فأما أحدمها فقال: فقال لآلخرال أريد إال مشاهدتك والنظر إليك : ال حظ ىل سوى اتباع مرضاتك والقيام حبقوقك، وقال اآلخر

نان ىف نظره سواء، وهل تستوى منزلتهما عنده؟ ولو أنعموا النظر لعلموا أن والفناء فيك، فهل يكوالواقف معه، وأن اآلخر وإن مل ينسلخ من احلظ ولكن حظه مراد ] احلظ[صاحب الفناء هو طالب

.احملبوب منه ال مراده هو من احملبوب، وبني األمرين من الفرق كما بني األرض والسماءصاحب احلظ الذى يريده من حمبوبه على من صار حظه مراد حمبوبه منه، بل الفناء فالعجب ممن يفضل

سواه وحببه عن حب ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه ] ما[الكامل أن يفىن بإرادته عن إرادة وخبشيته عن خشية ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، ليس أن تفىن حبظك منه عن مراده

.وهذا موضع يشتبه علما وحاال وذوقا إال على من فتح اهللا عليه بفرقان بني هذا وهذا. منكفإرادته ] املراد[أن اإلرادة إمنا تكون ناقصة حبسب نقصان املراد، فإذا كان مرادها أشرف : الوجه الثالث

ا كذلك، فال خترج أشرف اإلرادات، مث إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل وأنفعها وأكملها فإرادهتإرادته عن إرادة أشرف الغايات وإرادة أقرب الوسائل إليه وأنفعها، فأى علة ىف هذه اإلرادة وأى شيء

فوقها للخواص؟أن تكون له مثرة : أن يوجب ضررا، والثاىن: أن نقصان الشيء يكون من وجهني، أحدمها: الوجه الرابع

: مها منتف عن اإلرادة، فكيف تكون ناقصة معلولة؟ فإن قيلنافعة، لكن يشغل عما هو أكمل منه، وكالهذا منشأ : ملا كان الوقوف معها رجوعا إىل النفس وتفرقا ووقوفا مع حظ املريد كانت ناقصة، قيل

.الغلط، فإن أردمت بالتفرق شهود املريد ))تفرق] اإلرادة[إن : ((قوله: وهو أن يقال: وجوابه بالوجه اخلامس

إن هذا التفرق نقص؟ وهل هذا إال عني : ولعبوديته وملعبوده وحملبته وحملبوبه فلم قلتم] ملرادته[ إلرادتهالكمال، وهل تتم العبودية إال هبذا؟ فإن من شهد عبوديته وغاب هبا عن معبوده كان حمبوبا، ومن شهد

ضعيف الشهود، وهل الكمال املعبود وغاب به عن شهود عبوديته وقيامه مبا أمره به كان ناقص العبودية حقه ومراده وحمبوبه من عبده، فهل يكون شهود العبد ] عني[إال شهود املعبود مع شهود عبادته، فإهنا

حلق حمبوبه ومراده منه وأنه قائم به ممتثل له نقصا، ويكون غيبته عن ذلك وإعرضه عنه وفناؤه عن احب هذا احلال واملقام أن يكون معذورا بضيق قلبه شهوده كماال، وهل هذا إال قلب للحقائق؟ فغاية ص

Page 178: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أن ] فأما[عن شهود هذا، وهذا إما لضعف احملل أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه، .يكون هذا هو الكمال املطلوب واآلخر نقص فكال

وهو ناظر مع ذلك - ]هلا[وأين مقام من يشهد عبوديته ومنة اهللا عليه فيها وتوفيقه هلا وجعله حمال وآلة من مقام من ال يتسع هلذا وهذا؟ وتأمل -إىل معبوده بقلبه، شاهدا له، فانيا عن شهود غريه ىف عبوديته

كيف كان ىف عبادته جامعا بني ] صلى اهللا عليه وسلم[حال أكمل اخللق وأفضلهم وأشدهم حبا هللا ني فضال عن شهود عبادته، فكان يراعى أحواهلم وهو الشهودين، حىت كان ال يغيب عن أحوال املأموم

صلى اهللا عليه ] ىف ذلك[منهاجه وطريقته ] عن[ىف ذلك املقام بني يدى ربه سبحانه، فالكلمة من أمته .وسلم، فالواجب التمييز بني املراتب وإعطاء كل ذى حق حقه، فقد جعل اهللا لكل شيء قدرا

ىف شعاب احلظوظ وأودية اهلوى، فهذه اإلرادة ال تستلزم شيئا من وإن أردمت بالتفرق شتات القلبذلك، بل هى مجعية القلب على احملبوب وعلى حمابه ومراداته، ومثل هذا التفرق هو عني البقاء وحمض

.العبودية ونفس الكمال، وما عداه فمحض حظ العبد ال حق حمبوبهكالم فيه إمجال )) إىل النفس، وإن إرادة العبد عني حظهإن اإلرادة رجوع : ((أن قوله: الوجه السادس؟ أتريدون أهنا رجوع عن إرادة ))إن اإلرادة رجوع إىل النفس: ((ما تريدون بقولكم: وتفصيل، فيقال

الرب وإرادة حمابه إىل إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أهنا رجوع إىل إرادة النفس لرهبا وملرضاته؟ .ول علم أن هذه اإلرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه اإلرادة الىت نتكلم فيهافإن أردمت األ

.وإن أردمت املعىن الثاىن فهو عني الكمال، وإمنا النقصان خالفهنعم وهى أكرب حظ له وأجله : قلنا)) إن هذه اإلرادة عني حظ العبد: ((أن قولكم: الوجه السابع

ن أن يكون اهللا وحده إهله ومعبوده وحمبوبه ومراده؟ فهذا هو احلظ وأعظمه، وهل للعبد حظ أشرف م، وهل فوق هذا ))حقه] ىف[إن اشتغال العبد هبذا احلظ نقص : ((األوفر والسعادة العظمى، ولكن مل قلتم

لو كان فوقه شيء أكمل منه لكان اشتغال العبد به وطلبه إياه اشتغاال حبظه: كمال فيطلبه العبد؟ مث يقالوتركه هذا احلظ أيضا : ىف تركه حظوظه كلها، قيل لكم: أيضا، فيكون ناقصا، فأين الكمال؟ فإن قلتم

يبقى معطال فارغا خاو من اإلرادة أصال، بل ال بد له من إرادة ومراد، وكل ] ال[هو من حظوظه، فإنه ن وقوفا عن حظه، فياهللا العجب به وبإرادته كا] شيء إشتغل[رجوع إىل احلظ، فأى ] عندكم[إرادة

مىت يكون عبدا حمضا خالصا لربه؟أن احلى ال ينفك عن اإلرادة ما دام شاعرا بنفسه، وإمنا ينفك عنها إذا غاب : يوضح هذا الوجه الثامن

عنه شعوره بعارض من العوارض، فاإلرادة من لوازم احلياة فدعوى أن الكمال ىف التجرد عنها دعوى

Page 179: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مستحيلة طبعا وحسا، بل الكمال ىف التجرد عن اإلرادة الىت تزحم مراد احملبوب، ال عن اإلرادة باطلة .الىت توافق مرادههذا على نوعني، : فيقال)) إخل... اجلمع والوجود فيما يراد بالعبد ال فيما يريد: ((قوله: الوجه التاسع

بغري اختياره كالفقر والغىن والصحة واملرض واحلياة ما يراد بالعبد من املقدور الذى جيرى عليه : أحدمهاواملوت وغري ذلك، فهذا، ال ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إرادته، ووقوفه مع ما يراد به ال يكون

: أنا أحب املوت للقاء اهللا، وقال اآلخر: له إرادة تزاحم إرادة اهللا منه، كحال الثالثة الذين قال أحدهمغلطتما، ولكن أنا أحب من ذلك ما حيب، فإن كان حيب : قاء لطاعته وعبادته، فقال الثالثأحب الب

.إماتىت أحببت املوت، وإن كان حيب حياتى أحببت احلياة، فأنا أحب ما حيبه من احلياة واملوتألوامر والقربات، وأصح حاال فيما يراد بالعبد والنوع الثاىن ما يراد من العبد من ا] منهما[فهذا أكمل

] الكمل[فهذا ليس الكمال إال ىف إرادته، وإن فرقته فهو جمموع ىف تفرقته متفرق ىف مجعيته، وهذا حال وال يكون فعل -فهو جمموع عليه متفرق فيه - متفرق اإلرادة ىف األمر، جمتمع على األمر: من الناس

إحدامها إرادة واحدة للمراد : يتها أن تكون هنا إرادتاناملرادات املختلفة بإرادة واحدة بالعني، وإمنا غاإرادات متفرقة حلقه وحمابه وما أمر به فهى، وإن تعددت وتكثرت فمرجعها إىل مراد : احملبوب، والثانية

.كلية وكل فعل منها له إرادة جزئية حمضة] واحدة[واحد بإرادة : فإذا قال. تناقض بين، فإنه قد أراد عدم اإلرادة)) يدأريد أن ال أر: ((أن قول أىب يزيد: الوجه العاشر

أريد ما يريد ال ما أريد، : فقد أردت، وأحسن من هذا أن يكون اجلواب: يقال له)) أريد أن ال أريد((واهللا . إرادة سلب اإلرادة، وإرادة موافقة احملبوب ىف مراده: وإذا كان ال بد من إرادة ففرق بني اإلرادتني

.أعلموهذا هو عني كمال . أنه فسر اإلرادة بتجريد القصد وجزم النية، واجلد ىف الطلب: الوجه احلادى عشر

وهو متضمن للصدق واإلخالص والقيام بالعبودية، فأى نقص ىف جتريد القصد وهو ختليصه من ] العبد[د ىف طلبه وطلب مرضاته وجزم النية وهو كل شائبة نفسانية أو طبيعية وجتريده ملراد احملبوب وحده، واجل

أن ال يعتريها وقفة وال تأخري، وهذا األمر هو غاية منازل الصديقني، وصديقية العبد حبسب رسوخه ىف هذا املقام، وكلما ازداد قربه وعال مقامه قوى عزمه وجترد صدقه، فالصادق ال هناية لطلبه وال فتور

* }واعبد ربك حتى يأتيك اليقني { : قال تعاىل. ونيته لقصده، بل قصده أمت وطلبه أكملاإلسالم، فجاء صلى اهللا عليه وسلم إذ جاءه وإرادته ] أهل[، واليقني هنا املوت باتفاق ]٩٩:احلجر[

قص ىف وقصده ونيته ىف الذروة العليا وهناية كماهلا ومتامها، فأين العلة ىف هذه اإلرادة؟ ولكن العلة والناإلرادة الىت يكون مصدرها النفس واهلوى، وغايتها نيل حظ املريد من حمبوبه، وإن كان احملبوب يريد

Page 180: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ذلك لكن غريه أحب إليه منه، وهو أن يكون مراده حمض حق حمبوبه وحصول مرضاته، فانيا عن حظه بة الىت ال علة فيها وال هو من حمبوبه، بل قد صار حظه منه نفس حقه ومراده، فهذه هى اإلرادة واحمل

.نقص .نسأل اهللا تعاىل أن مين علينا وحييينا ولو بنفس منها، كما من بتعليمها ومعرفتها إنه جواد كرمي

فصحة اإلرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك االختيار : ((أنه قال بعد هذا: الوجه الثاىن عشر: كامليت بني يدى الغاسل يقلبه كيف يشاء فأين هذا من قوله والسكون إىل جمارى األقدار، فيكون

، وهل يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إال مع متام اإلرادة؟ ))وذلك ىف طريق اخلواص نقص وتفرق((أحدمها إرادة مصدرها طلب احلظ، والثاىن اختياره فيما : وإمنا الذى يفرض له النقص من اإلرادة نوعان

.بغري اختياره يفعل بهفعن هاتني اإلرادتني ينبغى الفناء، وفيهما يكون النقص، فالكمال ترك االختيار فيهما، والسكون إىل مراد احملبوب وحقه ىف األوىل، وإىل جمارى أقداره وحكمه ىف الثانية، فيكون ىف األوىل حيا فعاال منازعا

.بني يدى الغاسل يقلبه كيف يشاء لقواطعه عن مراد حمبوبه، وىف الثانية كامليتواهللا املوفق . وهبذا التفصيل ينكشف سر هذه املسألة، وحيصل التمييز بني حمض العبودية وحظ النفس

.للصواب فـصـلهو للعوام أيضا، ألنه حبس النفس عن امللذوذات، ]: ((رمحه اهللا[قال أبو العباس . الزهد: املثال الثاىن

الشهوات، وخمالفة دواعى اهلوى، وترك ما ال يغىن من األشياء وهذا نقص ىف وإمساكها عن فضول طريق اخلاصة، ألنه تعظيم للدنيا واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلق الباطن هبا

جنسك وبقائك ] وشهود[واملباالة بالدنيا عني الرجوع إىل ذاتك، وتضييع الوقت ىف منازعة نفسك هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير { : ترى إىل من أعطاه اهللا الدنيا حبذافريها، كيف قالمعك، أال .، وذلك حيث عاىف باطنه من شهودها، وظاهره من التعلق هبا]٣٩: سورة ص* [}حساب

توىل هو حسم هذه فالزهد صرف الرغبة إليه وتعلق اهلمة به واالشتغال به عن كل شيء يشغل عنه، ليأيها الشيخ، بأى شيء تدفع : إن بعض املريدين سأل بعض املشايخ فقال: كما قيل. األسباب عنك

إىن ال أعرف إبليس فأحتاج إىل دفعه، حنن قوم صرفنا مهمنا : إبليس إذا قصدك بالوسوسة؟ فقال الشيخ :وكما قال. إىل اهللا فكفانا ما دونه

ناحـه فعيىن ترى دهرى وليس يراينتسترت عن دهرى بظل ج فلو تسأل األيام ما امسى ما درت وأين مكاىن ما عرفن مكـاين

Page 181: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

:الكالم على هذا من وجوه: فيقالأن جعل الزهد للعوام ملا ذكره إمنا يتم إذا كان الزهد ملزوما ملنازعة النفس وجماذبتها لدواعى : إحداها

ه مشغوال بتلك الدواعى واجلواذب ونفسه تطالبه هبا وزهده يأمره الشهوة واهلوى، وحينئذ فيكون قلبوال ريب أن فوق هذا مقاما أعلى منه، وهو طمأنينة نفسه وسكوهنا إىل حمبوهبا واجنذاب . باجتناهبا

.دواعيها إىل حمابه ومرضاته، وهذا للخواص من املؤمننيبد منها ىف حكم الطبيعة لتحقق االبتالء واالمتحان، ولكن هذه املنازعة غري الزمة للزهد، وإن كان ال

.وليتحقق ترك العبد حظه وهواه لربه إيثارا له على هواه ونفسهأنه لو كانت هذه املنازعة وحبس النفس عن امللذوذات من لوازم الزهد مل يكن فيها نقص وال : الثاىن

وع والعطش واألمل والتعب، فحبس النفس عن علة، فإهنا من لوازم الطبيعة وأحكام اجلبلة، وهى كاجل .إجابة دواعيها إيثارا هللا ومرضاته عليها ال يكون نقصا وال مستلزما لنقص

من له داعية وشهوة : هنا ىف هذه املسألة، وهى أيهما أفضل] وأهل الطريق[وقد اختلف أرباب السلوك خوفا، أو من ال داعية له تنازعه بل نفسه خالية من و] منه[وهو حيبسهما هللا وال يطيعهما حبا له وحياء

تلك الدواعى والشهوة، وقد اطمأنت إىل رهبا واشتغلت به عن غريه، وامتألت حببه وإرادته، فليس فيها هذا يدل على قوة تعلقه وشدة حمبته، فهو : موضع إلرادة غريه وال حبه؟ فرجحت طائفة األول وقالت

ة ويقهرها بسلطان حمبته وإرادته وخوفه من اهللا، وهذا يدل على متكنه من يعاصى دواعى الطبع والشهو .نفسه ومتكن حاله مع اهللا وغلبة داعى احلق عنده على داعى الطبع والنفس

وأيضا فله مزيد ىف حاله وإميانه هبذا اإليثار والترك مع حضور داعى الفعل عنده، ومزيد جماهدة : قالوا .ه، كما يكون له مزيد جماهدة عدوه الظاهرعدوه الباطن ونفسه وهوا

والذوق والوجد يشهد ملزيده من احلب واألنس والسرور والفرح بربه عند إيثاره على دواعى : قالوااهلوى والنفس، واملطمئن الذى ليس فيه هذا الداعى ليس له مزيد من هذه اجلهة، وإن كان مزيده من

.هذا مبزيده من اإليثار واجملاهدةجهة أخرى فهى مشتركة بينهما، وخيتص .معاىف منها] وذاك[وأيضا فهذا مبتلى هبذه الدواعى واإلرادات، : قالوا

وقد جرت سنة اهللا ىف املؤمنني من عباده أن يبتليهم على حسب إمياهنم، فمن ازداد إميانه زيد ىف بالئه ى املرء على حسب دينه، فإن كان ىف دينه صالبة يبتل: ((كما ثبت عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال

)).شدد عليه البالء، وإن كان ىف دينه رقة خفف عنه البالءاإلميان الذى يثبت عند نوازل البالء، فإن املؤمن يبتلى على قدر ما حيمله إميانه من : واملراد بالدين هنا

.لطبع من أشد البالء، فإنه ال يصرب عليه الصديقونفالبالء مبخالفة دواعى النفس وا: قالوا. وارد البالء

Page 182: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وأما البالء الذى جيرى على العبد بغري اختياره كاملرض واجلوع والعطش وحنوها، فالصرب عليه ال يتوقف على اإلميان، بل يصرب عليه الرب والفاجر ال سيما إذا علم أنه ال معول له إال الصرب، فإنه إن مل يصرب

.صرب اضطرارا اختيارامبا فعل به إخوته من األذى واإللقاء ىف ] صلى اهللا عليه وسلم[وهلذا كان بني ابتالء يوسف الصديق

وهو شاب عزب غريب مبنزلة ] له[اجلب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبني أبيه، وابتالئه مبراودة املرأة ال يعرفه إال من عرف مراتب البالء، فإن الشباب داع إىل ذلك، فرق عظيم] له[العبد هلا وهى الداعية

إىل الشهوة والشاب قد يستحى من أهله ومعارفه من قضاء وطره، فإذا صار ىف دار الغربة زال ذلك االستحياء واالحتشام، وإذا كان عزبا كان أشد لشهوته، وإذا كانت املرأة هى الطالبة كان أشد وإذا

ظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى ىف الشهوة، فإن كان ذلك ىف دارها وحتت كانت مجيلة كان أعحكمها حبيث ال خياف الفضيحة وال الشهرة كان أبلغ، فإن استوثقت بتغليق األبواب واالحتفاظ من

كان ] له[الداخل كان أقوى أيضا للطلب، فإن كان الرجل مملوكها وهى كاحلاكمة عليه اآلمرة الناهية االبتالء ] فهذا[غ ىف الداعى، فإذا كانت املرأة شديدة العشق واحملبة للرجل قد امتأل قلبها من حبه، أبل

.الذى صرب معه مثل الكرمي ابن الكرمي ابن الكرمي ابن الكرمي صلوات اهللا عليهم أمجعنيذبح ولده، إذ كالمها وال ريب أن هذا االبتالء أعظم من االبتالء األول، بل هو من جنس ابتالء اخلليل ب

، وهذا خبالف البلوى الىت أصابت ]الطبع[ابتالء مبخالفة الطبع ودواعى النفس والشهوة ومفارقة حكم ].صلوات اهللا وسالمه عليهم أمجعني[والىت أصابت أيوب . ذا النوناملالئكة عبادهتم وأيضا فإن هذه هى النكتة الىت من أجلها كان صاحل البشر أفضل من املالئكة ألن: قالوا

والشهوات البشرية، فهى صادرة عن غري معارضة وال مانع وال ] النفوس[دواعى ] و[بريئة عن شوائب هى كالنفس للحى، وأما عبادات البشر فمع منازعات النفوس وقمع الشهوات وخمالفة ] و[عائق،

الئكة هلذا املعىن ولغريه، فمن دواعى الطبع، فكانت أكمل، وهلذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على اململ خيلق له تلك الدواعى والشهوات فهو مبنزلة املالئكة، ومن خلقت له وأعانه اهللا على دفعها وقهرها

.وعصياهنا كان أكمل وأفضل .وأيضا فإن حقيقة احملبة إيثار احملبوب ومرضاته على ما سواه: قالوا .نفسه وطبعه إىل غري احملبوبوكيف يصح اإليثار ممن ال تنازعه : قالواوليس العجب من قلب خال عن الشهوات واإلرادات قد ماتت دواعى طبعه وشهوته إذا عكف : قالوا

به ] مبا ابتلى[وإمنا العجب من قلب قد ابتلى ] عليه[على حمبوبه ومعبوده واطمأن إليه واجتمعت مهته، وغلبتها وضعفه وكثرة اجليوش الىت تغري على قلبه من اهلوى والشهوة ودواعى الطبيعة مع قوة سلطاهنا

Page 183: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كل وقت إذا آثر ربه ومرضاته على هواه وشهوته ودواعى طبعه، فهو هارب إىل ربه من بني تلك اجليوش، وعاكف عليه ىف تلك الزعازع واألهوية الىت تغشى على األمساع واألبصار واألفئدة يتحمل

.الراسيات منها ألجل حمبوبه ما ال تتحمله اجلبالوأيضا فنهى النفس عن اهلوى عبودية خاصة هلا تأثري خاص، وإمنا حيصل إذا كان مث ما ينهى عنه : قالوا .النفسوأيضا فاهلوى عدو اإلنسان، فإذا قهر عدوه وصار حتت قبضته وسلطانه كان أقوى وأكمل ممن ال : قالوا

.عدو له يقهره عليه وسلم ىف قهره قرينه حىت انقاد وأسلم له فلم يكن يأمره إال وهلذا كان حال النىب صلى اهللا: قالوا

.خبري أكمل من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفر منه وكان إذا سلك فجا سلك غري فجهكيف ال يقف الشيطان لعمر بل يفر منه، ومع هذا قد : وهبذا خرج اجلواب عن السؤال املشهور وهو

اهللا عليه وسلم وتعرض له وهو ىف الصالة وأراد أن يقطع عليه الصالة؟ ومعلوم أن تفلت على النىب صلى .حال الرسول أكمل وأقوى

أن شيطان عمر كان يفر منه فال يقدر أحدمها على قهر صاحبه، وأما الشيطان : واجلواب ما ذكرناهألسري، وأين من يهرب منه الذى تعرض للنىب صلى اهللا عليه وسلم فقد أخذه وأسره وجعله ىف قبضته كا

عدوه فال يظفر به إىل من يظفر بعدوه فيجعله ىف أسره وحتت يده وقبضته، فهذا وحنوه مما احتج به .أرباب هذا القول

: بأن قالوا -وهم الذين رجحوا من ال منازعة ىف طباعه وال هوى له يغالبه - واحتج أرباب القول الثاىنإىل رهبا العاكفة على حبه الىت ال منازعة فيها أصال وال داعية تدعوها إىل كيف تستوى النفس املطمئنة

وأيضا ففى الزمن الذى يشتغل : اإلعراض عنه، والنفس املشغولة مبحاربة هواها ودواعيها وجواذهبا؟ قالوات هذا بنفسه وحماربة هواه وطبعه يكون صاحب النفس املطمئنة قد قطع مراحل من سريه وفاز بقرب فا

.صاحب احملاربة واملنازعةوهذا كما لو كان رجالن مسافرين ىف طريق فطلع على أحدمها قاطع اشتغل بدفعه عن نفسه : قالوا

وحماربته ليتمكن من سريه، واآلخر سائر مل يعرض له قاطع، بل هو على جادة سريه، فإن هذا يقطع من وأيضا فإن للقلب قوة يسري هبا، فإذا : قالوا. من قربه املسافة أكثر مما يقطع األول ويقرب إىل الغاية أكثر

صرف تلك القوة ىف دفع العوارض والدواعى القاطعة له عن السري اشتغل قلبه بدفعها عن السري ىف زمن وألن املقصود بالقصد األول إمنا هو السري إىل اهللا، واالشتغال بدفع العوارض مقصود : قالوا. املدافعة

وأيضا فالعوارض املانعة : ال باملقصود لنفسه أوىل وأفضل من االشتغال بالوسيلة، قالوالغريه فاالشتغ

Page 184: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

للقلب من سريه هى من باب املرض، واجتماع القلب على اهللا وطمأنينته به وسكونه إليه بال منازع وال ول يعرض له مرض وهو مشغ[جاذب وال معارض هو صحته وحياته ونعيمه، فكيف يكون القلب الذى

ال داء به وال علة؟] بدوائه أفضل من القلب الصحيحوأيضا، فهذه الدواعى وامليول واإلرادات الىت ىف القلب تقتضى جذبه وتعويقه عن وجه سريه، وما : قالوا

فيه من داعى احملبة واإلميان يقتضى جذبه عن طريقها فتتعارض اجلواذب، فإن مل توقفه عوقته وال بد، وأيضا فالذى يسري العبد بإذن ربه إمنا هو مهته، واهلمة : ال معوق من السري مع املعوق؟ قالوافأين السري ب

إذا علت وارتفعت مل تلحقها القواطع واآلفات، كالطائر إذا عال وارتفع ىف اجلو فات الرماة ومل يلحقه يكن عاليا، فكذلك اهلمة العالية قد احلصا وال البنادق وال السهام، وإمنا تدرك هذه األشياء للطائر إذا مل

فاتت اجلوارح والكواسر، وإمنا تلحق اآلفات والدواعى واإلرادات اهلمة النازلة، فأما إذا علت فال .تلحقها اآلفات

وأيضا فاحلس والوجود شاهد بأن قلب احملب مىت خال من غري احملبوب واجتمعت شئونه كلها : قالوافيه التفات إىل غريه كان أكمل حمبة من القلب امللتفت إىل الرقباء املهتم مبحاربتهم على حمبوبه ومل يبق

.ومدافعتهم واهلرب منهم والتوارى عنهمفكم بني حمب جيتاز على الرقباء فيطرقون من هيبته وخشيته وال يرفع أحد منهم رأسه إليه، وبني : قالوا

نابري أو كالكالب فاشتغل بدفعهم وحراهبم أو جد ىف اهلرب حمب إذا اجتاز بالرقباء هاشوا عليه كالز منهم، فكيف يسوى هذا هبذا، أم كيف يفضل عليه مع هذا التباين؟

وأيضا فاحملبة اخلالصة الصادقة حقيقتها أهنا نار حترق من القلب ما سوى مراد احملبوب، وإذا احترق : قالواالقلب شيء من سوى مراده مل تكن احملبة تامة وال صادقة، ما سوى مراده عدم وذهب أثره، فإذا بقى ىف

بل هى حمبة مشوبة بغريها، فاحملب الصادق ليس ىف قلبه سوى مراد حمبوبه حىت ينازعه ويدافعه، واآلخر .ىف قلبه بقية لغري احملبوب فهو جاهد على إخراجها وإعدامها

در استعدادها وقبوهلا، فإذا صادفت القلب فارغا وأيضا فالواردات اإلهلية ترد على القلوب على ق: قالواخاليا من العوارض واملنازعات ودواعى الطبع واهلوى مألته على قدر فراغه، وإذا امتأل منها مل يبق ألضدادها وأعدائها فيه مسلك، وإذا صادفت فيه موضعا مشغوال بغريهم من األغيار مل يساكن ذلك

:من تلك الثلمة، كما قال القائلاملوضع فيدخل الضد والعدو ال كان من لسواك فيه بقية جيد الســــبيل هبا إليه العذل

:وقال ومهما بقى للصحو فيه بقية جيد حنوك الالحى سبيال إىل العذل

Page 185: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وأيضا فدواعى الطبع وإرادات النفس وشهواهتا مصدرها إما جهل وإما ضعف، فإهنا ال تصدر إال : قالوابآثارها وموجباهتا، أو يكون عاملا بذلك، لكن فيه ضعف وعجز مينعه عن حموها من قلبه من جهل العبد

بالكلية، وما كان سببه جهال أو عجزا ال يكون كماال وال مستلزما لكمال، وأما القلب اخلاىل منها ومن اعى ال تسري العبد، وأيضا فهذه اإلرادات والدو: قالوا. االشتغال بدفعها فقلب شريف قوى علوى رفيع

بل إما أن تنسكه إن أجاهبا، وإما أن تعوقه وتوقفه إن اشتغل مبدافعتها، وأما إرادات القلب السليم منها والنفس املطمئنة برهبا، فكل إرادة منها تسري به مراحل على مهلة، فهو يسري رويدا وقد سبق السعادة

:كما قيل وجتيء ىف األولمن ىل مبثل سريك املذلل متشى رويدا

وأيضا فإن هذه الدواعى واإلرادات إمنا حتمد عاقبتها إذا ردت صاحبها إىل حال السليم منها : قالوا فيكون كماله ىف تشبهه به وسريه معه، فكيف يكون أكمل ممن كماله إمنا هو ىف تشبهه به؟

.أمارة، ولوامة، ومطمئنة: وأيضا فالنفوس ثالثة: قالوارة هى املطيعة لدواعى طباعها وشهواهتا، فمبادئ كوهنا أمارة هى تلك الدواعى واإلرادات والنفس األما

وأما النفس املطمئنة . فمبدأ صفة الذم فيها تلك الدواعى. فتستحكم فتصري عزمات، مث توجب األفعالهلا مزية فهى الىت عدمت هذه املباديء فعدمت غاياهتا، فكيف تكون مباديء النفس األمارة مما يوجب

.على النفس املطمئنة؟ فهذا وحنوه مما احتجت به هذه الطائفة أيضا لقوهلاواحلق إن كال الطائفتني على صواب من القول، لكن كل فرقة حلظت غري ملحظ الفرقة األخرى،

ه وما ترتب فكأهنما مل يتواردا على حمل واحد، بل الفرقة األوىل نظرت إىل هناية سري اجملاهد لنفسه وإرادتله عليها من األحوال واملقامات فأوجب هلا شهود هنايته رجحانه فحكمت بترجيحه واستحلت بتفضيله، والفرقة الثانية نظرت إىل بدايته ىف شأنه ذلك وهناية النفس املطمئنة فأوجب هلا شهود األمرين

من الطائفتني فقد أدلت حبجج ال احلكم بترجيح القلب اخلاىل من تلك الدواعى وجماهدهتا، وكل واحدة .متانع، وأتت ببينات ال ترد وال تدافع

.وفصل اخلطاب ىف هذه املسألة يظهر مبسألة يرتضع معها من لباهنا وخيرج من مشكاهتاوهى أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع اهللا مث نزل عنه إىل ذنب ارتكبه مث تاب من ذنبه هل يعود إىل

؟ أو ال يعود، بل إن رجع رجع إىل أنزل من مقامه وأنقص من رتبته؟ أو يعود خريا مما كان؟ مثل ما كانيعود بالتوبة إىل مثل حاله األوىل فإن التائب من الذنب كمن ال ذنب له، وإذا حمى أثر : فقالت طائفة

ن التوبة هى الرجوع وأل: قالوا. الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأنه مل يكن، فيعود إىل مثل حالهإىل اهللا بعد اإلباق منه، فإن املعصية إباق العبد من ربه، فإذا تاب إىل اهللا فقد رجع إليه وإذا كان مسمى

Page 186: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

التوبة هو الرجوع، فلو مل يعد إىل حالته األوىل مع اهللا مل تكن توبته تامة، والكالم إمنا هو ىف التوبة .النصوحأثر الذنب ىف احلال باإلقالع عنه وىف املستقبل بالعزم على أن ال يعود وألن التوبة كما ترفع: قالوا

فكذلك ترفع أثره ىف املاضى مجلة، ومن أثره ىف املاضى احنطاط منزلته عند اهللا ونقصانه عنده، فالبد من .ارتفاع هذا األثر بالتوبة، وإذا ارتفع هبا عاد إىل مثل حاله

مرتبته منحطا عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها مل تكن التوبة قد حمت وألنه لو بقى نازال من : قالواأثر الذنب وال أفادت ىف املاضى شيئا، وإن عاد إىل دون منزلته ومل يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إمنا كان

لىت وصل إليها، بالتوبة فلو ضعف تأثري التوبة عن إعادته إىل منزلته األوىل لضعف عن تبليغه تلك املنزلة ا .وإن مل تكن التوبة ضعيفة التأثري عن تبليغه تلك املنزلة مل تكن ضعيفة التأثري عن إعادته إىل املنزلة األوىل

اجلزاء باألعمال ربط األسباب مبسبباهتا، فاجلزاء من جنس العمل، ] فاهللا سبحانه ربط[وأيضا ربط : قالواا تاما رجع اهللا عليه مبنزلته وحاله، بل ما رجع العبد إىل اهللا حىت فكما رجع التائب إىل اهللا بقلبه رجوع

توبة منه إذنا : بقلبه إليه أوال فرجع اهللا إليه وتاب عليه ثانيا، فتوبة العبد حمفوفة بتوبتني من اهللا] اهللا[رجع ن اهللا، وهذا يدل على فتوبة العبد بني توبتني م. ومتكينا فتاب هبا العبد، وتاب اهللا عليه قبوال ورضى: إنه ال يعيده مع هذا اللطف والرب إىل حاله؟ قالوا: عنايته سبحانه وبره ولطفه بعبده التائب، فكيف يقال

وأعظمها عناء عنهم، وهم إليها أحوج من : وأيضا فإن التوبة من أجل الطاعات وأوجبها على املؤمننيفإنه حيب التوابني، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه ] هسبحان[كل شئ، وهى من أحب الطاعات إىل اهللا

أعظم فرح وأكمله، وإذا كانت هبذه املثابة فاآلتى هبا آت مبا هو أفضل القربات وأجل الطاعات، فإذا مزيد تقدم وعلو درجة، فإن مل تكن ] له[كان قد حصل له باملعصية احنطاط ونزول مرتبة فبالتوبة حيصل

.على فإهنا ال تكون أنزلدرجته بعد التوبة أأرجح من األثر [وأيضا فإنا إذا قابلنا بني جناية املعصية والتقرب بالتوبة وجدنا احلاصل من التوبة : قالوا

العدل وهلذا كان من جانب [النصوح الكاملة، وجانب ] احلاصل من املعصية والكالم إمنا هو ىف التوبةجانب الفضل آحاد بعشرات إىل سبعمائة إىل أضعاف الفضل أرجح من ] العدل آحاد بآحاد وجانب

كثرية، وهذا يدل على رجحان جانب الفضل وغلبته، وكذلك مصدرمها من الغضب والرمحة فإن رمحة .الرب تغلب غضبه

وأيضا فالذنب مبنزلة املرض، والتوبة مبنزلة العافية، والعبد إذا مرض مث عوىف وتكاملت عافيته : قالواما كانت، بل رمبا رجعت أقوى وأكمل مما كانت عليه، ألنه رمبا كان معه ىف حال رجعت صحته إىل

Page 187: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

العافية آالم وأسقام كامنة، فإذا اعتل ظهرت تلك األسقام مث زالت بالعافية مجلة فتعود قوته خريا مما :كانت وأكمل، وىف مثل هذا قال الشاعر

لعل عتبك حممود عواقبه ورمبا صحت األجسام بالعلل

أنه يعود خريا بالتوبة مما كان قبل التوبة واحتجوا لقوهلم أيضا : وهذا الوجه هو أحد ما احتج به من قالبأن التوبة تثمر للعبد حمبة من اهللا خاصة ال حتصل بدون التوبة، بل التوبة شرط ىف حصوهلا، وإن حصل

تنال بغريها، فإن اهللا حيب التوابني، ومن له حمبة أخرى بغريها من الطاعات فاحملبة احلاصلة له بالتوبة ال حمبته هلم فرحه بتوبة أحدهم أعظم فرح وأكمله، فإذا أمثرت له التوبة هذه احملبة ورجع هبا إىل طاعاته الىت كان عليها أوال انضم أثرها إىل أثر تلك الطاعات فقوى األثران فحصل له املزيد من القرب والوسيلة

نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه ال يعود الود الذى وهذا خبالف ما يظنه من يا : كان له منه قبل اجلناية، واحتجوا ىف ذلك بأثر إسرائيلى مكذوب أن اهللا قال لداود عليه السالم

.داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فال يعودالنصوح أعظم مما كان، فإنه سبحانه حيب التوابني، ولو مل التوبة] بعد[وهذا كذب قطعا، فإن الود يعود

وأكمله ] فرح[يعد الود ملا حصلت له حمبته، وأيضا فإنه يفرح بتوبة التائب، وحمال أن يفرح هبا أعظم .وهو ال حيبه

* }فور الودود وهو الغ* إنه هو يبديء ويعيد { : وتأمل سر اقتران هذين االمسني ىف قوله تعاىلال يعود الود واحملبة منه لعبده أبدا، ما هو : جتد فيه من الرد واإلنكار على من قال] ١٤ - ١٣: الربوج[

من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وىف ذلك ما يهيج القلب السليم ويأخذ مبجامعه وجيعله عاكفا على الصادق على حمبوبه الذى ال غىن له عنه، وال عكوف احملب -الذى ال إله إال هو وال رب له سواه -ربه

.بد له منه وال تندفع ضرورته بغريه أبداواحتجوا أيضا بأن العبد قد يكون بعد التوبة خريا منه قبل اخلطيئة ألن الذنب حيدث له من اخلوف

ألسف واخلشية واالنكسار والتذلل هللا والتضرع بني يديه والبكاء على خطيئته والندم عليها واما هو من أفضل أحوال العبد وأنفعها له ىف دنياه وآخرته، ومل تكن هذه األمور لتحصل ] واإلشفاق[

بدون أسباهبا إذ حصول امللزوم بدون الزمة حمال، واهللا حيب من عبده كسرته وتضرعه وذله بني يديه ضى عليه بالذنب فترتبت واستعطافه وسؤاله أن يعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن جرمه وخطيئته، فإذا ق .عليه هذه اآلثار احملبوبة له كان ذلك القضاء خريا له، وليس ذلك إال للمؤمن

:وهلذا قال بعض السلف

Page 188: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

.لو مل تكن التوبة أحب األشياء إليه ملا أصاب بالذنب أكرم اخللق عليه@ت تدخل على دخول امللوك يا داود، كن: إن ىف بعض اآلثار يقول اهللا تعاىل لداود عليه السالم: وقيل

.على امللوك، واليوم تدخل على دخول العبيد على امللوكوهلذا قال : كان داود بعد التوبة خريا منه قبل اخلطيئة، قالوا: وقد قال غري واحد من السلف: قالوا

، فزاده على املغفرة ]٢٥: ة صسور* [}فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب { : سبحانهالزلفى وهى درجة القرب منه وقد قال فيها سلف األمة وأئمتها ما ال حتتمله عقول اجلهمية : أمرين

حسن املآب وهو حسن املنقلب وطيب : والثاىن. وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسري السلفأعطيها داود بعد املغفرة علم صحة ما قلنا، وأن العبد ومن تأمل زيادة القرب الىت: قالوا. املأوى عند اهللا

.بعد التوبة يعود خريا مما كانوأيضا فإن للعبودية لوازم وأحكاما وأسرارا وكماالت ال حتصل إال هبا ومن مجلتها تكميل مقام : قالوا

ى حقيقة العبودية الذل للعزيز الرحيم، فإن اهللا سبحانه حيب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه ه .طريق معبد أى مذلل بوطء األقدام: واشتقاقها يدل على ذلك، فإن العرب تقول

ذل اجلاىن بني يدى املنعم عليه : ذل اململوك ملالكه، الثالث: أكملها ذل احملب حملبوبه، الثاىن: والذل أنواعه بني يدى القادر عليها الىت هى ىف ذل العاجز عن مجيع مصاحله وحاجات: احملسن إليه املالك له، الرابع

.يده وبأمرهما يضره ] عنه[ذل له ىف أن يدفع : والثاىن. ذل له ىف أن جيلب له ما ينفعه: أحدمها: وحتت هذا قسمان

.ويدخل ىف هذا ذل املصائب كالفقر واملرض وأنواع البالء واحملن. على الدواموشهدها كما ينبغى وعرف ما يراد به منه وقام بني فهذه مخسة أنواع من الذل إذا وفاها العبد حقها

يدى ربه مستصحبا هلا شاهدا لذله من كل وجه ولعزة ربه وعظمته وجالله كان قليل أعماله قائما مقام .الكثري من أعمال غريه

وهذه أسرار ال تدرك مبجرد الكالم، فمن ال نصيب له منها فال يضره أن خيلى املطى وحاديها،: قالوا .ويعطى القوس باريها

فللكثافة أقوام هلا خلقوا وللمحبة أكباد وأجفانهللا أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم : ((وأيضا فقد ثبت عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال: قالوا

وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها : ، قالوا))راحلته] ضل[مادة حياته من الطعام والشراب، وهى مركبه الذى يقطع به مسافة سفره، فلو عدمه النقطع ىف طريقه

مث إنه عدمها ىف أرض دوية ال أنيس هبا وال معني وال من يأوى . فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه

Page 189: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ياة بفقدها وجلس ينتظر املوت، إذا له ويرمحه وحيمله مث إهنا مهلكة ال ماء هبا وال طعام، فلما أيس من احلهو براحلته قد أشرفت عليه ودنت منه، فأى فرحة تعدل فرحة هذا؟ ولو كان ىف الوجود فرح أعظم من هذا ملثل به النىب صلى اهللا عليه وسلم، ومع هذا ففرح اهللا بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا

مه من يشاء، فإن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه براحلته وحتت هذا سر عظيم خيتص اهللا بفهوطباعه فعليك بوادى اخلفا وهو وادى احملرفني للكلم عن مواضعه، الواضعني له على غري املراد منه، فهو واد قد سلكه خلق وتفرقوا ىف شعابه وطرقه ومتاهاته ومل تستقر هلم فيه قدم وال جلؤوا منه إىل ركن

.ليل وحاطم السيلوثيق، بل هم كحاطب المع قدرته على التعبري عن ذلك املعىن بأحسن عبارة وأوجزها، فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع لإلشكال املزيل لإلمجال، ويوقع األمة ىف أودية التأويالت شعاب االحتماالت والتجويزات،

.سبحانك هذا هبتان عظيمله حق قدره من نسب كالمه سبحانه أو كالم رسوله إىل مثل وهل قدر الرسول حق قدره أو مرس

ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته حييل عليه أن يكون مراده من كالمه ما حيمله عليه احملرفون للكلم عن مواضعه املتأولون له غري تأويله، وأن يكون كالمه من جنس األلغاز

.ب العاملنيواحلمد هللا ر. واألحاجىفهل من مسلك غري هذا الوادى الذى ذممته فنسلك فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ : فإن قلت

الطريق واضحة املنار بينة األعالم مضيئة للسالكني وأوهلا أن حتذف خصائص [نعم، حبمد اهللا : قلتبالء الناس، فمن حلها فما فإن هذه العقدة هى أصل ] املخلوقني عن إضافتها إىل صفات رب العاملني

وهل نفى أحد ما نفى من صفات الرب ونعوت . بعدها أيسر منها، ومن هلك هبا فما بعدها أشد منهاجالله إال لسبق نظره الضعيف إليها واحتجاجه هبا عن أصل الصفة وجتردها عن خصائص احملدث، فإن

الالزم ىف احملل احملدث أنه الزم لتلك الصفة يلزمها لوازم باختالف حملها فيظن القاصر إذا رأى ذلكالصفة مطلقا فهو يفر من إثباهتا للخالق سبحانه، حيث مل يتجرد ىف ظنه عن ذلك الالزم، وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح واحملبة والرضى والغضب والكراهة واملقت والبغض، وردها كلها إىل اإلرادة،

ص املخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضبا فإنه فهم فرحا مستلزما خلصائورمحة مقرونة خبصائص املخلوقني ] وكرهة[هو غليان دم القلب طلبا لالنتقام، وكذلك فهم حمبة ورضى

ذلك هو السابق إىل فهمه، وهو املشهود ىف علمه الذى مل تصل معرفته إىل سواه ومل حيط علمه ] فإن[ .بغريه

Page 190: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

هو السابق إىل فهمه مل جيد بدا من نفيه عن اخلالق، والصفة مل تتجرد ىف عقله عن هذا ] ذلك[كان وملا .الالزم فلم جيد بدا من نفيها

مسلك التناقض البني، وهو إثبات كثري من الصفات، وال : أحدمها: مث ألصحاب هذه الطريق مسلكانكالعلم والقدرة واإلرادة والسمع - ائص املخلوقيلتفت فيها إىل هذا اخليال، بل يثبتها جمردة عن خص

الذى فر منه فكيف مل ] احملذور[فإن كان إثبات تلك الصفات الىت نفاها يستلزم -والبصر وغريهايتسلزم إثبات ما أثبته وإن كان إثبات ما أثبته ال يستلزم حمذورا فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟ وهل ىف

التناقض أعجب من هذا؟ألعظم الباطل وأحمل ] مسلك النفى العام والتعطيل احملض هربا من التناقض والتزاما: [سلك الثاىنوامل

احملال، فإذا احلق احملض ىف اإلثبات احملض الذى أثبته اهللا لنفسه ىف كالمه وعلى لسان رسوله من غري ظنهم أن ما يلزم الصفة ىف احملل تشبيه وال متثيل ومن غري حتريف وال تبديل ومنشأ غلط احملرفني إمنا هو

املعني يلزمها لذاهتا، فينفون ذلك الالزم عن اهللا، فيضطرون ىف نفيه إىل نفى الصفة، وال ريب أن األمور نفيه، كما يلزم العلم والسمع -بل ال جيوز - أمر يلزم الصفة لذاهتا من حيث هى، فهذا ال جيب: ثالثة

صر فال جيوز نفى هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ ال حتقق هلا والبصر من تعلقها مبعلوم ومسموع ومبتستلزم العلم لذاهتا فال جيوز نفى الزمها عنها، وكذلك السمع والبصر ] مثال[بدوهنا، وكذلك اإلرادة

والعلم يستلزم احلياة فال جيوز نفى لوازمها، وكذلك كون املرئى مرئيا حقيقة له لوازم ال ينفك عنها وال إىل نفى تلك اللوازم إال بنفى الرؤية، وكذلك الفعل االختيارى له لوازم ال بد فيه منها، فمن نفى سبيل

.لوازمه نفى الفعل االختيارى وال بدومن هنا كان أهل الكالم أكثر الناس تناقضا واضطرابا فإهنم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه، ويثبتون

.م وأدلتهم، ويقع السالك خلفهم ىف احلرية والشكالشيء وينفون الزمه، فتتناقض أقواهلوهلذا يكون هناية أمر أكثرهم الشك واحلرية، حاشى من هو ىف خفارة بالدته منهم، أو من قد خرق تلك اخلياالت وقطع تلك الشبهات وحكم الفطرة والشرعة والعقل املؤيد بنور الوحى عليها فنقدها نقد

الصحيح منها إما أن يكون قد تولت النصوص بيانه، وإما أن يكون ، وعلم أن ]زغلها[الصيارف فنفى البصري مبا جاء به الرسول -فيها غنية عنه مبا هو خري منه وأقرب طريقا وأسهل تناوال، وال يستفيد املؤمن

من املتكلمني سوى مناقضة بعضهم بعضا ومعارضته وإبداء بعضهم عوار بعض وحماربة -العارف به .، فيتوىل بعضهم حماربة بعض ويسلم ما جاء به الرسولبعضهم بعضا

فإذا رأى املؤمن العامل الناصح هللا ولرسوله أحدهم قد تعدى إىل ما جاء به الرسول يناقضه ويعارضه وأما . فليعلم أهنم ال طريق هلم إىل ذلك أبدا، وال يقع ردهم إال على آراء أمثاهلم وأشباههم] ويضاده[

Page 191: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

سول فمحفوظ حمروس مصون من تطرق املعارضة واملناقضة إليه فإن وجدت شيئا من جاء به الر] ما[ذلك ىف كالمهم فبدار بدار إىل إبداء فضائحهم وكشف تلبيسهم وحماهلم وتناقضهم وتبيني كذهبم على العقل والوحى، فإهنم ال يردون شيئا مما جاء به الرسول إال بزخرف من القول يغتر به ضعيف العقل

اإلميان، فاكشفه وال هتن، جتده كسراب بقيعة حيسبه الظمآن ماء حىت إذا جاءه مل جيده شيئا ووجد اهللا وعنده فوفاه حسابه واهللا سريع احلساب، ولوال أن كل مسائل القوم وشبههم الىت خالفوا فيها النصوص

رين إىل اهللا على طريق الرسول صلى هبذه املثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقر به عيون أهل اإلميان السائاهللا عليه وسلم وأصحابه، وإن وفق اهللا سبحانه جردنا لذلك كتابا مفردا، وقد كفانا شيخ اإلسالم ابن

هذا املقصد ىف عامة كتبه، ال سيما كتابه الذى ومسه ببيان موافقة ] قدس اهللا روحه ونور ضرحيه[تيمية أسرارهم وهتك أستارهم، ] فيه[فيه مشلهم كل ممزق، وكشف العقل الصريح للنقل الصحيح، فمزق

.فجزاه اهللا عن اإلسالم وأهله من أفضل اجلزاءواعلم أنه ال ترد شبهة صحيحة قط على ما جاء به الرسول، بل الشبهة الىت يوردها أهل البدع والضالل

دت عليه ليس من أقوال الرسول بل إما أن يكون القول الذى أور: على أهل السـنة ال ختلو من قسمنيتكون نسبته إليه غلطا، وهذا ال يكون متفقا عليه بني أهل السنة أبدا، بل يكون قد قاله بعضهم وغلط

وإما أن يكون القول الذى أوردت عليه . [فيه، فإن العصمة إمنا هى جملموع األمة ال لطائفة معينة منها ].ة عليه وحينئذ فالبد هلا من أحد أمرينقوال صحيحا لكن ال ترد تلك الشبه

فإن كانت الزمة ملا جاء هبا الرسول فهى حق ال شبهة، إذ . وإما أن تكون الزمة، وإما أال تكون الزمةالزم احلق حق، وال ينبغى الفرار منها كما يفعل الضعفاء من املنتسبني إىل السنة، بل كل ما لزم من احلق

ائنا ما كان، وهل تسلط أهل البدع والضالل على املنتسبني للسنة إال هبذه فهو حق يتعني القول به كالطريق، ألزموهم بلوازم تلزم احلق فلم يلتزموها ودفعوها وأثبتوا ملزوماهتا، فتسلطوا عليهم مبا أنكروه ال

تكن الزمة هلم مبا أثبتوه فلو أثبتوا لوازم احلق ومل يفروا منها مل جيد أعداؤهم إليهم سبيال، وإن ملفإلزامهم إياها باطل، وعلى النقدين فال طريق هلم إىل رد أقواهلم، وحينئذ فلهم جوابان مركب جممل،

.ومفرد مفصلهذه اللوازم الىت تلزمونا هبا إما أن تكون الزمة ىف نفس األمر، وإما أن ال تكون : أما األول فيقولون هلم

ثبت أن ما جاء به الرسول صلى اهللا عليه وسلم فهو احلق الزمة، فإن كانت الزمة فهى حق إذ قد الصريح، والزم احلق حق، وإن مل تكن الزمة فهى مندفعة وال جيوز إلزامها، وأما اجلواب املفصل

بل ينظرون إىل ألفاظ ذلك اإللزام ] وال يقبلونه مطلقا[فيفردون كل إلزام جبواب، وال يردونه مطلقا

Page 192: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ونفى ] أو[ا موافقا ملا جاء به الرسول صلى اهللا عليه وسلم يتضمن إثبات ما أثبته ومعانيه، فإن كان لفظه .ما نفاه فال يكون املعىن إال حقا، فيقبلون ذلك اإللزام

وإن كان خمالفا ملا جاء به الرسول صلى اهللا عليه وسلم متضمنا لنفى ما أثبته أو إثبات ما نفاه كان باطال .نه بالردلفظا ومعىن فيقابلو

وإن كان لفظا جممال حمتمال حلق وباطل مل يقبلوه مطلقا، ومل يردوه مطلقا حىت يستفسروا قائله ماذا أراد به، فإن أراد معىن صحيحا مطابقا ملا جاء به الرسول صلى اهللا عليه وسلم قبلوه ومل يطلقوا اللفظ احملتمل

.قوا نفى اللفظ احملتمل أيضاإطالقا، وإن أراد معىن باطال ردوه ومل يطلوبسط هذه الكلمات يستدعى أسفارا ال سفرا واحدا، . فهذه قاعدهتم الىت هبا يعتصمون وعليها يعولون

.ومن ال ضياء له ال ينتفع هبا وال بغريها فلنقتصر عليها، ولنعد إىل املقصود فنقول وباهللا التوفيقعبده إذا تاب إليه هو من ملزومات حمبته ولوازمها، أعىن فرح الرب سبحانه هذا الفرح العظيم بتوبة

كونه حمبا لعباده املؤمنني، حمبوبا هلم، وإمنا خلق خلقه لعبادته املتضمنة لكمال حمبته واخلضوع له، وهلذا خلق اجلنة والنار، وهلذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهذا هو احلق الذى خلق به السماوات واألرض

، ]٨٥: احلجر* [}وما خلقنا السموات واألرض وما بينهما إال بالحق{: لكتاب، قال تعاىلوأنزل به اإن ربكم اهللا الذى خلق السموات واألرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر { : وقال تعاىل

هو الذى جعل {: إىل قوله} ا من شفيع إال من بعد إذنه ذلكم اهللا ربكم فاعبدوه أفال تذكروناألمر م* } بالحقإال الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنني والحساب ما خلق اهللا ذلك

: آل عمران* [}نزل عليك الكتاب بالحق* اهللا ال إله إال هو الحى القيوم * آلم {: ، وقوله]٣: يونس[٣ - ١.[

فهذا أمره وتنزيله مصدره احلق واألول خلقه وتكوينه مصدره احلق أيضا، فباحلق كان اخللق واألمر وعنه ، فأخرب سبحانه ]٥٦: الذاريات* [}وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون{: مر، وقالصدر اخللق واأل

] أو[أن الغاية املطلوبة من خلقه هى عبادته الىت أصلها كمال حمبته، وهو سبحانه كما أنه حيب أن يعبد، .حيب أن حيمد ويثىن عليه ويذكر بأوصافه العلى وأمسائه احلسىن

ال أحد أحب إليه املدح من اهللا، ومن أجل : ((قال النىب صلى اهللا عليه وسلم ىف احلديث الصحيحكما )).ذلك أثىن على نفسه

إن ربك : ((يا رسول اهللا، إىن محدت رىب مبحامد فقال: وىف املسند من حديث األسود بن سريع أنه قالمد نفسه، ويقدس نفسه، وحيب من ، فهو حيب نفسه ومن أجل ذلك يثىن على نفسه، وحي))حيب احلمد

Page 193: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

بل كلما كانت حمبة عبده له أقوى كانت حمبة اهللا له أكمل وأمت، فال أحد أحب . حيبه وحيمده ويثىن عليه .إليه ممن حيبه وحيمده ويثىن عليه

ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض األشياء إليه ألنه ينقص هذه احملبة، وجيعلها بينه وبني من أشرك به أن يشرك به ألن الشرك يتضمن نقصان هذه احملبة والتسوية فيها بينه وبني ] سبحانه[ال يغفر اهللا وهلذا

هبا مرتبته ] وتنحط[هبا من عينه ] ينقص[غريه، وال ريب أن هذا من أعظم ذنوب احملب عند حمبوبه الىت .ىف احملبة عنده إذا كان من املخلوقني، فكيف حيتمل رب العاملني أن يشرك بينه وبني غريه

واملخلوق ال حيتمل ذلك وال يرضى به، وال يغفر هذا الذنب حملبه أبدا وعساه أن يتجاوز حملبه عن غريه .من اهلفوات والزالت ىف حقه، ومىت علم بأنه حيب غريه كما حيبه مل يغفر له هذا الذنب ومل يقربه إليه

بني إهله ومعبوده وبني غريه ىف هذه العبودية هذا مقتضى الطبيعة والفطرة، أفال يستحى العبد أن يسوى ومن الناس من يتخذ من دون اهللا أندادا يحبونهم كحب اهللا، والذين آمنوا أشد { : واحملبة، قال تعاىل

هللا فقد اختذه دون اهللا كما حيب ا] من[، فأخرب سبحانه أن من أحب شيئا ]١٦٥: البقرة* [}حبا هللا إذ نسويكم برب العالمني * تاهللا إن كنا لفى ضالل مبني { : ندا، وهذا معىن قول املشركني ملعبوديهم

، فهذه تسوية ىف احملبة والتألية، ال ىف الذات واألفعال والصفات واملقصود أنه ]٩٨ -٩٧: الشعراء* [}ة وحيب من حيبه وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه ألجل سبحانه حيب نفسه أعظم حمب

ذلك، وأعد الثواب والعقاب ألجل ذلك، وهذا هو حمض احلق الذى به قامت السموات واألرض، وكان اخللق واألمر، فإذا قام به العبد فقد قام باألمر الذى خلق له فرضى عنه صانعه وبارئه وأحبه إذ

دف عن ذلك وأعرض عنه وأبق عن مالكه وسيده أبغضه ومقته، ألنه خرج كان حيب ويرضى، فإذا صعما خلق له وصار إىل ضد احلال الىت هو هلا، فاستوجب منه غضبه بدال من رضاه وعقوبته بدال من رمحته، فكأنه استدعى من رمحته أن يعامله من نفسه خبالف ما حيب، فإنه سبحانه عفو حيب العفو،

فإذا أبق منه العبد وخامر عليه ذاهبا إىل . ان، جواد حيب اجلود سبقت رمحته غضبهحمسن حيب اإلحسعدوه فقد استدعى منه أن جيعل غضبه غالبا على رمحته وعقوبته على إحسانه، وهو سبحانه حيب من

وء وهو مبنزلة عبد الس. نفسه اإلحسان والرب واإلنعام، فقد استدعى من ربه فعل ما غريه أحب إليه منهالذى حيمل أستاذه من املخلوقني احملسن إليه، الذى طبيعته اإلحسان والكرم، على خالف مقتضى طبيعته وسجيته، فأستاذه حيب لطبعه اإلحسان، وهو بإساءته ولؤمه يكلفه ضد طباعه وحيمله على خالف

صار إىل احلال الىت إليه وأقبل عليه وأعرض عن عدوه فقد[سجيته، فإذا راجع هذا العبد ما حيب سيده وإنعامه عليه وإحسانه إليه، فيفرح به وال بد أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل ] تقتضى حمبة سيده له

.غاية الكمال والغىن واجملد] عليه[

Page 194: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فليتدبر اللبيب وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته جيد ىف طيه من املعارف اإلهلية ما ال تتسع له إال ة هلذا الشأن املخلوقة له، وهذا فرح حمسن بر لطيف جواد غىن محيد، ال فرح حمتاج إىل القلوب املهيأ

.متكمل به مستقيل له من غريه، فهو عني الكمال، الزم للكمال، ملزوم له] ما يفرح به[حصول {: وألطف من هذا الوجه أن اهللا سبحانه خلق عباده املؤمنني وخلق كل شيء ألجلهم، كما قال تعاىل

* }اطنة ألم تروا أن اهللا سخر لكم ما فى السموات وما فى األرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وب ].٠٢:لقمان[

رزقناهم ولقد كرمنا بنى آدم ومحلناهم فى البر والبحر و{ : وكرمهم وفضلهم على كثري ممن خلق فقال: لصاحليهم وصفوهتم] وقال[، ]٧٠: اإلسراء* [}من الطيبات وفضلناهم على كثري ممن خلقنا تفضيال

وقال ]. ٣٣: آل عمران* [}إن اهللا اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمني { .، واختذ منهم اخلليلني، واخللة أعلى درجات احملبة]٤١: طه* [}واصطنعتك لنفسى { : ملوسى ]تعاىل[

ابن آدم خلقتك لنفسى، وخلقت كل شيء لك فبحقى عليك : ((يقول تعاىل: وقد جاء ىف بعض اآلثار )).ال تشتغل مبا خلقته لك عما خلقتك له

قتك لنفسى فال تلعب، وتكفلت برزقك فال تتعب، ابن آدم ابن آدم، خل: ((وىف أثر آخر يقول تعاىلاطلبىن جتدىن فإن وجدتىن وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل

)).شيءفاهللا سبحانه خلق عباده له، وهلذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد مل يعقده مع خلق غريهم فيما أخرب

.عليه وسلم، ليسلموا إليه النفوس الىت خلقها لهبه على لسان رسوله صلى اهللا وقدر السلعة يعرف جباللة قدر . وهذا الشراء دليل على أهنا حمبوبة له مصطفاة عنده، مرضية لديه

مشتريها ومبقدار مثنها، هذا إذا جهل قدرها ىف نفسها، فإذا عرف قدر السلعة وعرف مشتريها، وعرف فالسلعة أنت، واهللا املشترى والثمن جنته والنظر إىل . مرتبتها ىف الوجودالثمن املبذول فيها علم شأهنا و

.وجهه ومساع كالمه ىف دار األمن والسالموإذا كان قد اختار العبد . ال يصطفى لنفسه إال أعز األشياء وأشرفها وأعظمها قيمة] سبحانه[واهللا

ره وقربه، وجعل مالئكته خدمه يسعون ىف مصاحله لنفسه، وارتضاه ملعرفته وحمبته، وبىن له دارا ىف جواىف يقظته ومنامه وحياته وموته، مث إن العبد أبق عن سيده ومالكه، معرضا عن رضاه، مث مل يكفه ذلك حىت خامر عليه وصاحل عدوه ووااله من دونه وصار من جنده مؤثرا ملرضاته على مرضاة وليه ومالكه،

من عدوه وأبغض -ا منه إهله ومالكه وجعل مثنها جنته والنظر إىل وجههالىت اشتراه -فقد باع نفسه .خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه ولعنته برمحته وحمبته

Page 195: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا {: فأى مقت خلى هذا املخدوع عن نفسه مل يتعرض له من ربه؟ قال تعاىلمن الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم آلدم فسجدوا إال إبليس كان

].٥٠: الكهف* [}عدو، بئس للظالمني بدال فتأمل ما حتت هذه املعاتبة وما ىف طى هذا اخلطاب من سوء هذا العبد وما تعرض له من املقت واخلزى

واهلوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إىل العود إىل وليه ومواله احلق الذى هو أوىل به، فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو مبثابة من أسر له العدو حمبوبا له، واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم

بة بابه فخرج احملب من بيته فوجد حمبوبه ذلك احملبوب وجاء إىل حمبه اختيارا وطوعا حىت توسد عت .متوسدا عتبة بابه واضعا خده وذقنه عليها، فكيف يكون فرحه ربه؟ وهللا املثل األعلى

ويكفى ىف هذا املثل الذى ضربه رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ملن فتح اهللا عني قلبه فأبصر ما ىف طيه مبالغة وال ختييل، بل كالم معصوم ىف منطقة وعلمه وقصده وما ىف ضمنه، وعلم أنه ليس كالم جماز وال

.ىف موضعها ومنزلتها ومقرها ال يتعدى هبا عنه وال يقصر هبا] منه[وعمله، كل كلمة والذى يزيد هذا املعىن تقريرا أن حمبة الرب لعبده سبقت حمبة العبد له سبحانه، فإن لوال حمبة اهللا له ملا

أهلمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك احملبة حمبة أعظم منها ] ا أحبهفلم[جعل حمبته ىف قلبه، فإنه من تقرب إليه شربا تقرب إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا، ومن أتاه مشيا أتاه

.هرولةعرض هذا احملبوب ملساخط حبيبه ت] فإذا. [وهذا دليل على أن حمبة اهللا لعبده الذى حيبه فوق حمبة العبد له

فهو مبنزلة احملبوب الذى فر من حمبه وآثر غريه عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه وختلى عن غريه، فكيف ال يفرح به حمبه أعظم فرح وأكمله، والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل، فلو مل خيرب الصادق

ن ىف الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت للشريعة املصدوق مبا أخرب به من هذا األمر العظيم لكااملنور، فذلك الذى ال غاية له بعده، وذلك فضل اهللا يؤتيه ] الفطرة املكملة إىل العقل الصحيح[املنزلة إىل

.من يشاء واهللا ذو الفضل العظيم فصل

التوبة النصوح، والسرور واللذة ومىت أراد العبد شاهد هذا من نفسه فلينظر إىل الفرحة الىت جيدها بعد .الىت حتصل له، واجلزاء من جنس العمل

وهاهنا دقيقة قل من يتفطن هلا إال فقيه ىف هذا . فلما تاب إىل اهللا ففرح اهللا بتوبته أعقبه فرحا عظيماو وهى أن كل تائب ال بد له ىف أول توبته من عصرة وضغطة ىف قلبه من هم أو غم أو ضيق أ. الشأن

Page 196: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

حزن، ولو مل يكن إال تأمله بفراق حمبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره، فأكثر اخللق رجعوا ].احملنة[من التوبة ونكسوا على رؤوسهم ألجل هذه

والعارف املوفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة احلاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، منها أن هذه العصرة : انت الفرحة واللذة أكمل وأمت، ولذلك أسباب عديدةفكلما كانت أقوى وأشد ك

..والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميتا واستعداده ضعيفا مل حيصل له ذلكأن وأيضا فإن الشيطان لص اإلميان، واللص إمنا يقصد املكان املعمور، وأما املكان اخلراب الذى ال يرجو

يظفر منه بشيء فال يقصده فإذا قويت املعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن ىف قلبه من اخلري ما .يشتد حرص الشيطان على نزعه منه

وأيضا فإن قوة املعارض واملضاد تدل على قوة معارضة وضده، ومثل هذا إما أن يكون رأسا ىف اخلري أو القوية إن كانت خرية رأست ىف اخلري، وإن كانت شريرة رأست ىف رأسا ىف الشر، فإن النفوس األبية

.الشروأيضا فإن حبسب موافقته هلذا العارض وصربه عليه يثمر له ذلك من اليقني والثبات والعزم ما يوجب

وأيضا فإنه كلما عظم املطلوب كثرت العوارض واملوانع دونه، هذه سنة اهللا . زيادة انشراحه وطمأنينته .لقىف اخل

فانظر إىل اجلنة وعظمها وإىل املوانع والقواطع الىت حالت دوهنا حىت أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها، وانظر إىل حمبة اهللا واالنقطاع إليه واإلنابة إليه والتبتل إليه وحده واألنس به واختاذه

؟ وانظر إىل القواطع واملوانع احلائلة وحسيبا هل يكتسب العبد شيئا أشرف منه] وكافيا[وليا ووكيال دونه، حىت قد تعلق كل قوم مبا تعلقوا به دونه، والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه،

.والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقه ومجعيته وحظه من ربه، واملطلوب منهم وراء ذلك كلهكان من أجل األمور وأعظمها نصبت عليه املعارضات واحملن، واملقصود أن هذا األمر احلاصل بالتوبة ملا

آمل {: ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة وحيصل االبتالء ويتميز من يصلح ممن ال يصلح، قال تعاىلذين من قبلهم فليعلمن اهللا الذين ولقد فتنا ال* أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ال يفتنون *

، ]٢: امللك* [}ليبلوكم أيكم أحسن عمال{: ، وقال]٣ -١: العنكبوت* [}صدقوا وليعلمن الكاذبنييصرب هلا ولكن إذا صرب على هذه العصرة قليال أفضت به إىل رياض األنس وجنات االنشراح، وإن مل

.واهللا املوفق ال إله غريه وال رب سواه. انقلب على وجهه

Page 197: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

دليل على -مع أنه مل يأت نظريه ىف غريها من الطاعات - واملقصود أن هذا الفرح من اهللا بتوبة عبدهعظم قدر التوبة وفضلها عند اهللا، وأن التعبد له هبا من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها

.مما كان قبلها، فهذا بعض ما احتج به هلذا القول يعود أكملال يعود إىل مثل ما كان، بل ال بد أن ينقص حاله، فاحتجوا بأن اجلناية توجب : وأما الطائفة الىت قالت

.الوحشة وزوال احملبة ونقص العبودية بال ريبا ال ميكن جحده ومكابرته، فليس العبد املوفر أوقاته على طاعة سيده كالعبد املفرط ىف حقوقه، وهذا مم

فإذا تاب إىل ربه ورجع إليه أثرت توبته برك مؤاخذته بالذنب والعفو عنه، وأما مقام القرب واحملبة .فهيهات أن يعود

وألن هذا ىف زمن اشتغاله باملعصية قد فاته فيه السري إىل اهللا، فلو كان واقفا ىف موضعه لفاته التقدم : قالواحيتاج إىل سري [املعصية كان سريه إىل وراء وراء؟ فإذا تاب واستقبل سريه، فإنه فكيف وهو ىف زمن

وحنن ال ننكر أنه قد يأتى بطاعات : قالوا. تأخر منه] جديد وقطع مسافة حىت يصل إىل الوضع الذى، وهذا مما ]وإمنا انكرنا أن يكون مبجرد التوبة النصوح يعود إىل منزلته وحالته[وأعمال تبلغه إىل منزلته

ال يكون فإنه بالتوبة قد وجه وجهه إىل الطريق، فال يصل إىل مكانه الذى رجع منه إال بسري مستأنف يوصله إليه، وحنن ال ننكر أن العبد بعد التوبة يعمل أعماال عظيمة مل يكن ليعملها قبل الذنب توجب له

.التقدمأو إىل أرفع منها لكان مبنزلة املداوم على الطاعة أو وأيضا، فلو رجع إىل حاله الىت كان عليها : قالوا

أحسن حاال منه، فكيف يكون هذا، وأين مسري صاحب الطاعة ىف زمن اشتغال هذا باملعصية؟ وكيف يلتقى رجالن أحدمها سائر حنو املشرق واآلخر حنو املغرب، فإذا رجع أحدمها إىل طريق اآلخر واآلخر

.سابقه ما مل يعرض له فتور أو توان؟ هذا مما ال ميكن جحده ودفعه جمد على سريه، فإنه ال يزالوأيضا فمرض القلب بالذنوب على مثل مرض اجلسم باألسقام، والتوبة مبنزلة شرب الدواء، : قالوا

.واملريض إذا شرب الدواء وصح فإنه ال تعود إليه قوته قبل املرض، وإن عادت فبعد حنيزمن معاجلة التوبة ملبوك ىف نفسه، مشغول مبداوهتا ومعاجلتها، وىف زمن الذنب وأيضا فهذا ىف : قالوا

مشغول بشهواهتا، والسامل من ذلك مشغول بربه قد قرب منه ىف سريه فكيف يلحقه هذا؟ فهذا وحنوه .مما احتجت به هذه الطائفة لقوهلا

األقوال الثالثة حكاية جمردة، وجرت هذه املسألة حبضرة شيخ اإلسالم ابن تيمية، فسمعته حيكى هذه الصواب أن من التائبني من يعود إىل مثل حاله، ومنهم : فإما سألته وإما سئل عن الصواب منها، فقال

فإن كان بعد التوبة خريا مما . ، ومنهم من يعود إىل أنقص مما كان]مما كانت[من يعود إىل أكمل منها،

Page 198: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ا وأعظم ذال وخشية وإنابة عاد إىل أرفع مما كان، وإن كان كان قبل اخلطيئة وأشد حذرا وأعظم تشمريقبل اخلطيئة أكمل ىف هذه األمور ومل يعد بعد التوبة إليها عاد إىل أنقص مما كان عليه، وإن كان بعد

].رضى اهللا عنه[هذا معىن كالمه . التوبة مثل ما كان قبل اخلطيئة رجع إىل مثل منزلتهاملوضع أخص املواضع ببياهنا، وهى أن التائب إذا تاب إىل اهللا توبة نصوحا، وهاهنا مسألة هذا : قلت

فهل متحى تلك السيئات ويذهب ال له وال عليه، أو إذا حميت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما ليس جيعل مكان السيئة احلسنة، : اختلف الناس فيه من املفسرين وغريهم قدميا وحديثا، فقال الزجاج

.كن جيعل مكان السيئة التوبة، واحلسنة مع التوبةلجيعل أعماهلم بدل معاصيهم األوىل طاعة، فيكون ذلك سببا لرمحة اهللا إياهم، قاله ابن : قال ابن عطية

وقد ورد حديث ىف : عباس وابن جبري وابن زيد واحلسن، ورد على من قال هو ىف يوم القيامة، قاليقتضى أن اهللا سبحانه يوم القيامة جيعل ملن يريد املغفرة له من املوحدين كتاب مسلم من طريق أىب ذر

قال ابن . بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذى والطربى، وهذا تأويل سعيد بن املسيب ىف هذه اآلية .وهو معىن كرم العفو، هذا آخر كالمه: عطيةوروى معىن هذا القول عن : ال املهدوىق. سيأتى إن شاء اهللا ذكر احلديث بلفظه والكالم عليه: قلت

: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: وقال الثعلىب. سلمان الفارسى وسعيد بن جبري وغريمهايبدهلم اهللا بقبيح أعماهلم ىف الشرك حماسن األعمال ىف ] ٧٠: الفرقان* [}يبدل اهللا سيئاتهم حسنات{

يعىن : وقال آخرون. شرك إميانا وبقتل املؤمنني قتل املشركني، وبالزنا عفة وإحصانااإلسالم، فيبدهلم بال .يبدل اهللا سيئاهتم الىت عملوها ىف حال إسالمهم حسنات يوم القيامة

هو تبديل : إنه ىف الدنيا قال: وأصل القولني أن هذا التبديل هل هو ىف الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قالوالذين نصروا هذا . واإلرادات الفاسدة بأضدادها، وهى حسنات، وهذا تبديل حقيقة األعمال القبيحة

القول احتجوا بأن السيئة ال تنقلب حسنة، بل غايتها أن متحى وتكفر ويذهب أثرها فأما أن تنقلب .حسنة فال، فإهنا مل تكن طاعة، وإمنا كانت بغيضة مكروهة للرب فكيف تنقلب حمبوبة مرضية

ربنا فاغفر {: وأيضا فالذى دل عليه القرآن إمنا هو تكفري السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله تعاىل: قالوا: الشورى* [}ويعفو عن السيئات{: ، وقوله تعاىل]١٩٣: آل عمران* [}لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا

.، والقرآن مملوء من ذلك]٥٣: الزمر* [}اهللا يغفر الذنوب جميعا إن{: وقوله تعاىل] ١٥: املائدة] [٣٠كيف مسعت رسول اهللا : قال رجل البن عمر: وىف الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن حمرز قال

يدىن املؤمن يوم القيامة من ربه حىت يضع : ((مسعته يقول: صلى اهللا عليه وسلم يقول ىف النجوى؟ قالفإىن قد سترهتا عليك ىف : رب أعرف، قال: هل تعرف؟ فيقول: نفه، فيقرره بذنوبه، فيقولعليه ك

Page 199: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار واملنافقون فينادى هبم على رؤوس ناية هبذا ، فهذا احلديث املتفق عليه الذى تضمن الع))هؤالء الذين كذبوا على اهللا عز وجل: األشهاد

وأعطيتك بكل سيئة منها : العبد إمنا فيه ستر ذنوبه عليه ىف الدنيا ومغفرهتا له يوم القيامة، ومل يقل له .حسنة

ليكفر اهللا عنهم {: فدل على أن غاية السيئات مغفرهتا وجتاوز اهللا عنها، وقد قال اهللا ىف حق الصادقني، فهؤالء خيار اخللق، ]٣٥: الزمر* [}يهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملونأسوأ الذى عملوا ويجز

إمنا هو [وقد أخرب أنه يكفر عنهم سيئات أعماهلم، وجيزيهم بأحسن ما يعملون، وأحسن ما عملوا فإن [ما السيئات إمنا يكون على احلسنات وحدها، وأ] احلسنات ال السيئات فدل على أن اجلزاء باحلسىن

وأيضا فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات ىف حق التائب لكان : تلغى ويبطل أثرها، قالوا] فحسبها أنأحسن حاال من الذى مل يرتكب منها شيئا وأكثر حسنات منه، ألنه إذا أساء شاركه ىف حسناته الىت

ليه، وكيف يكون صاحب السيئات فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات مث انقلبت له حسنات ترجح ع أرجح ممن ال سيئته له؟

وأيضا فكما أن العبد إذا فعل حسنات، مث أتى مبا حيبطها فإهنا ال تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل : قالوايبطل أثرها ويكون ال له وال عليه وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها، فهكذا من فعل سيئات مث تاب

مل [وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، : فإن قلتم. تنقلب حسناتمنها، فإهنا ال .ىف هذا، وليس هذا معىن احلسنة فإن احلسنة تقتضى ثوابا وجوديا] ننازعكم

حقيقة : هو تبديل السيئة باحلسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: واحتجت الطائفة األخرى الىت قالت .احلسنة مكان السيئةالتبديل إثبات

وهذا إمنا يكون ىف السيئة احملققة وهى الىت قد فعلت ووقعت، فإذا بدلت حسنة كان معناه أهنا حميت ، فأضاف السيئات ]٧٠: الفرقان* [}سيئاتهم حسنات{: وهلذا قال تعاىل: وأثبت مكاهنا حسنة قالوا

من غري صنعهم وكسبهم، ] ألهنا[ومل يضفها إليهم إليهم لكوهنم باشروها واكتسبوها، ونكر احلسنات .بل هى جمرد فضل اهللا وكرمه

وأيضا فالتبديل ىف اآلية إمنا هو فعل اهللا ال فعلهم، فإنه أخرب أنه هو يبدل سيئاهتم حسنات، ولو : قالواال إمنا كان املراد ما ذكرمت ألضاف التبديل إليهم فإهنم هم الذين يبدلون سيئاهتم حسنات، واألعم

: البقرة* [}فبدل الذين ظلموا قوال غير الذى قيل لهم{: تضاف إىل فاعلها وكاسبها كما قال اهللا تعاىلوبدلناهم بجنتيهم {: وأما ما كان من غري الفاعل فإنه جيعله من تبديله هو كما قال اهللا تعاىل] ٥٩

، فلما أخرب سبحانه أنه هو الذى يبدل سيئاهتم حسنات دل على أنه شيء فعله هو ]١٦ :سبأ* [}جنتين

Page 200: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

سبحانه بسيئاهتم، ال أهنم فعلوه من تلقاء أنفسهم، وإن كان سببه منهم، وهو التوبة واإلميان والعمل .الصاحلن أىب ذر رضى ويدل عليه ما رواه مسلم ىف صحيحه من حديث األعمش عن املعرور ابن سويد ع: قالوا

إىن ألعلم آخر أهل الجنة دخوال اجلنة، وآخر أهل : ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: اهللا عنه قالاعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، : رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: النار خروجا منها

ذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ عملت يوم كذا وكذا ك: فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقالفإن لك مكان : نعم، ال يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فيقول

، فلقد رأيت رسول اهللا صلى اهللا عليه ]))هاهنا[رب قد عملت أشياء ال أراها : كل سيئة حسنة، فيقول .وسلم ضحك حىت بدت نواجذه

قال رسول اهللا : حدثنا وكيع، حدثنا األعمش عن املعرور بن سويد عن أىب ذر قال: ام أمحدوقال اإلمفتعرض عليه، : اعرضوا عليه صغار ذنوبه، قال: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: ((صلى اهللا عليه وسلم

: بار، فيقالعملت يوم كذا وكذا وكذا؟ وهو مقر ال ينكر وهو مشفق من الك: وخيبأ عنه كبارها، فيقال، فلقد رأيت رسول اهللا صلى ))إن ىل ذنوبا ما أراها: فيقول: اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، قال .اهللا عليه وسلم ضحك حىت بدت نواجذه

وأيضا فروى أبو حفص املستملى عن حممد بن عبد العزيز بن أىب رزمة، حدثنا الفضل بن موسى : قالواليتمنني أقوام : ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: بيه عن أىب هريرة قالالقطيعى عن أىب العنبس عن أ

)).الذين بدل سيئاهتم حسنات: ((من هم؟ قال: ، قيل))أهنم أكثروا من السيئاتوهؤالء هم األبدال ىف احلقيقة، فإهنم إمنا مسوا أبداال ألهنم بدلوا أعماهلم السيئة باألعمال احلسنة، : قالوا

وأيضا فاجلزاء من جنس العمل، فكما بدلوهم أعماهلم : سيئاهتم الىت عملوها حسنات، قالوافبدل اهللا .السيئة باحلسنة بدهلا اهللا من صحف احلفظة حسنات جزاء وفاقا

كيف ميكنكم االحتجاج حبديث أىب ذر على صحة قولكم وهو صريح ىف أن هذا : قالت الطائفة األوىلحسنات قد عذب عليها ىف النار حىت كان آخر أهلها خروجا منها؟ فهذا قد الذى قد بدلت سيئاته

عوقب على سيئاته فزال أثرها بالعقوبة، فبدل مكان كل سيئة منها حسنة، وهذا حكم غري ما حنن فيه، فإن الكالم ىف التائب من السيئات، ال فيمن مات مصرا عليها غري تائب، فأين أحدمها من اآلخر؟

.ث اإلمام أمحد فهو احلديث بعينه إسنادا ومتنا، إال أنه خمتصروأما حدي ...)يتبع(

Page 201: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

يثبت مثله، ومن أبو العنبس، ومن أبوه حىت يقبل منهما تفردمها مبثل ] فال[وأما حديث أىب هريرة @ هذا األمر اجلليل؟ وكيف يصح مثل هذا احلديث عن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم مع شدة حرصه

لتنفري من السيئات وتقبيح أهلها وذمهم وعيبهم واإلخبار بأهنا تنقص احلسنات وتضادها؟ فكيف على ا؟، مث كيف يتمىن املرء إكثاره ))ليتمنني أقوام أهنم أكثروا منها: ((يصح عنه صلى اهللا عليه وسلم أنه يقول

ليتمنني : ((وىف الترمذى مرفوعامنها، مع سوء عاقبتها، وسوء مغبتها؟ وإمنا يتمىن اإلكثار من الطاعات؟ )).أقوام يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض باملقاريض، ملا يرون من ثواب أهل البالء

فهذا فيه متىن البالء يوم القيامة ألجل مزيد ثواب أهله، وهو متىن احلسنات، وأما متىن احلسنات فهذا ال أنه أكثر من السيئات؟ هذا مال ال يكون أبدا، وإمنا ريب فيه، وأما متىن السيئات فكيف يتمىن العبد

.يتمىن املسيء أن لو مل يكن أساء، وأما متنيه أنه ازداد من إساءته فكالإن احلسنة : وكذلك نقول. وأما ما ذكرمت من أن التبديل هو إثبات احلسنة مكان السيئة فحق: قالوا

وأما احتجاجكم بإضافة السيئات : قالوا. سنة حللت حملهااملفعولة صارت ىف مكان السيئة الىت لوال احل .إليهم وذلك يقتضى أن تكون هى السيئات الواقعة

وتنكري احلسنات وهو يقتضى أن تكون حسنات من فضل اهللا، فهو حق بال ريب ولكن من أين يبقى أن ديل مضاف إىل اهللا ال إليهم إن التب: وأما قولكم: يكون فضل اهللا هبا مقارنا لكسبهم إياها بفضله؟ قالوا

من الصحف ال أهنم هم الذين بدلوا األعمال بأضدادها، ] سبحانه[وذلك يقتضى أنه هو الذى بدهلا فهذا ال دليل لكم فيه، فإن اهللا خالق أفعال العباد، فهو املبدل للسيئات حسنات خلقا وتكوينا، وهم

.املبدلون هلا فعال وكسباكم بأن اجلزاء من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعماهلم حبسناهتم بدهلا اهللا وأما احتجاج: قالوا

كذلك ىف صحف األعمال، فهذا حق وبه نقول، وأنه بدلت السيئات الىت كانت مهيأة ومعدة أن حتل .ىف الصحف حبسنات حلت موضعها

كم بينهما، فقد أدىل كل منهما وإليك أيها املنصف احل. فهذا منتهى أقدام الطائفتني، وحمط نظر الفريقنيحبجته، فأقام بينته، واحلق ال يعدومها وال يتجاوزمها، فأرشد اهللا من أعان على هدى فنال به درجة الداعني إىل اهللا القائمني ببيان حججه ودينه، أو عذر طالبا منفردا ىف طريق مطلبه قد انقطع رجاؤه من

.ى بينه وبني سريه وأن ال يقطع عليه طريقهرفيق ىف الطريق، فغاية أمنيته أن خيلفمن رفع له مثل هذا العلم ومل يشمر إليه فقد رضى بالدون، وحصل على صفقة املغبون، ومن مشر إليه ورام أن ال يعارضه معارض، وال يتصدى له ممانع فقد مىن نفسه احملال، وإن صرب على ألوائها وشدهتا

.وما توفيقى إال باهللا عليه توكلت وإليه أنيب.. زيلفهو واهللا الفوز املبني واحلظ اجل

Page 202: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ال ريب أن الذنب نفسه ال ينقلب حسنة، واحلسنة إمنا : فالصواب إن شاء اهللا ىف هذه املسألة أن يقالهى أمر وجودى يقتضى ثوابا، وهلذا كان تارك املنهيات إمنا يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة

.حلبس أمر وجودى وهو متعلق الثواباملنهى، وذلك الكف واوأما من مل خيطر بباله الذنب أصال ومل حيدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه، ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب لكان مثابا على ترك ذنوب العامل الىت ال ختطر بباله، وذلك أضعاف حسناته مبا ال

روك ال ينحصر وال ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ هذا مما حيصى، فإن الترك مستصحب معه، واملت .ال يتوهم

وإذا كانت احلسنة ال بد أن تكون أمرا وجوديا فالتائب من الذنوب الىت عملها قد قارن كل ذنب منها وهذه حسنات بال ريب، وقد حمت التوبة أثر . ندما عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته

.فه هذا الندم والعزم، وهو حسنة قد بدلت تلك السيئة حسنةالذنب وخلفإذا كانت كل سيئة من . جيعل مكان السيئة التوبة، واحلسنة مع التوبة: وهذا معىن قول بعض املفسرين

سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكاهنا، فهذا معىن التبديل، ال أن السيئة نفسها تنقلب .حسنة

يعطيهم بالندم على كل سيئة أساؤوها حسنة، وعلى هذا فقد زال : ملفسرين ىف هذه اآليةوقال بعض احبمد اهللا اإلشكال، واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتني ما خرجت عن موجب العلم

.واحلجةريق فهو يدل بط -وإن كان التبديل فيه ىف حق املصر الذى عذب على سيئاته -وأما حديث أىب ذر

األوىل على حصول التبديل للتائب املقلع النادم على سيئاته، فإن الذنوب الىت عذب عليها املصر ملا زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن مل تكن، فأعطاه اهللا مكان كل سيئة منها حسنة، ألن ما حصل له يوم القيامة

حسنات، فإن الندم مل يكن ىف وقت زوال أثرها وتبديلها] القتضى[من الندم املفرط عليها مع العقوبة .ينفعه، فلما عوقب عليها وزال أثرها بدهلا اهللا له حسنات

فزوال أثرها بالتوبة النصوح أعظم من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زواهلا بالعقوبة حسنات فألن

التبديل أقوى من تأثري العقوبة وتأثري التوبة ىف هذا احملو و. تبدل بعد زواهلا بالتوبة حسنات أوىل وأحرى .ألن التوبة فعل اختيارى أتى به العبد طوعا وحمبة هللا وفرقا منه

Page 203: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وأما العقوبة فالتكفري هبا من جنس التكفري باملصائب الىت تصيبه بغري اختياره بل بفعل اهللا، وال ريب أن وب أعظم من تأثري املصائب الىت تناله بغري تأثري األفعال االختيارية الىت حيبها اهللا ويرضاها ىف حمو الذن

.اختيارهما ذكره أبو العباس بن الصائف ىف علل املقامات، فقد ] الكالم على[ولنرجع اآلن إىل املقصود وهو

والكالم عليه وذكرنا كالمه ىف مقام الزهد وقوله أنه من مقامات [ذكرنا كالمه ىف علة مقام اإلرادة، .كالم على ذلك من وجوه هذا آخر الوجه الثاىن منهاوذكرنا أن ال] العامة

إىل آخر الفصل، إن أراد )) الزهد تعظيم للدنيا، واحتباس عن االنتفاع هبا: ((قوله: الوجه الثالث أن يقالبه أن زهده دليل على تعظيم الدنيا وأن هلا ىف قلبه من بالقدر واملنزلة ما يكره ألجله نفسه على تركها،

وإن كان من عوارض غلبات - ذلك، فإن الزهد ال يدل على هذا التعظيم، وال يستلزمه أو مستلزم لوقلة [ بل زهده فيها دليل على خروج عظمها من قلبه -الطبع الىت تذم مساكنتها واحنجاب القلب هبا

أحد مباالته هبا وترك االهتبال بشأهنا، فكيف يكون هذا نقصا بوجه؟ بل النقص ىف الزهد يكون من] :وجوهفإن حقيقة . أن يزهد فيما ينفعه منها، ويكون قوة له على سريه ومعونة له على سفره، فهذا نقص: أوهلا

.فهذا الفرق بني األمرين. الزهد هى أن تزهد فيما ال ينفعك، والورع أن تتجنب ما قد يضركا وبأهلها، وتعب قلبه بشغله هبا، أن يكون زهده مشوبا إما بنوع عجز أو ماللة وسآمة وتأذية هب: الثاىن

قلة وفائها، : ما الذى أوجب زهدك ىف الدنيا؟ قال: وحنو هذا من املزهدات فيها، كما قيل لبعضهمتلك العوارض مل يزهد فيها ] من[فهذا زهد ناقص، فلو صفت للزاهد . وكثرة جفائها، وخسة شركائها

، ورغبته ىف اهللا وقربه، فهذا ال نقص ىف زهده وال خبالف من كان زهده فيها المتالء قلبه من اآلخرة .علة من جهة كونه زهدا

أن يشهد زهده ويلحظه وال يفىن عنه مبا زهد ألجله فهذا نقص أيضا فالزهد كله أن تزهد ىف : الثالثرؤية زهدك وتغيب عنه برؤية الفضل ومطالعة املنة، وأن ال تقف عنده فتنقطع، بل أعرض عنه جادا ىف سريك غري ملتفت إليه مستصغرا حلاله بالنسبة إىل مطلوبك، مع أن هذه العلة مطردة ىف مجيع املقامات على ما فيها كما سننبه عليه إن شاء اهللا، فإن ربط هذا الشأن بالنصوص النبوية والعقل الصريح والفطرة

] فيهم[ليد أهله، فما أكثر غلطهم الكاملة من أهم األمور فال حيسن بالناصح لنفسه أن يقنع فيه مبجرد تق .وحتكيمهم جمرد الذوق، وجعل حكم ذلك الذوق كليا عاما، فهذا وحنوه من مثارات الغلط

:أن الزهد على أربعة أقسام: الوجه الرابع

Page 204: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فرض على كل مسلم وهو الزهد ىف احلرام، وهذا مىت أخل به انعقد سبب العقاب، فال بد من : أحدها . ينعقد سبب آخر يضادهوجود مسببه ما مل

وهو الزهد ىف املكروه . زهد مستحب، وهو على درجات ىف االستحباب حبسب املزهود فيه: الثاىن .وفضول املباحات والتفنن ىف الشهوات املباحة

:زهد الداخلني ىف هذا الشأن، وهم املشمرون ىف السري إىل اهللا وهو نوعان: الثالثختليها من اليد وال إخراجها وقعوده صفرا منها، وإمنا املراد ] املراد[ة، وليس الزهد ىف الدنيا مجل: أحدمها

فليس الزهد أن . إخراجها من قلبه بالكلية، فال يلتفت إليها، وال يدعها تساكن قلبه، وإن كانت ىف يده .تترك الدنيا من يدك وهى ىف قلبك وإمنا الزهد أن تتركها من قلبك وهى ىف يدك

لفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذى يضرب بزهده املثل مع أن خزائن األموال حتت وهذا كحال اخليده، بل كحال سيد ولد آدم صلى اهللا عليه وسلم حني فتح اهللا عليه من الدنيا ما فتح، وال يزيده ذلك

.إال زهدا فيهابتحرمي احلالل وال إضاعة [دنيا ليس الزهد ىف ال: ((ومن هذا األثر املشهور، وقد روى مرفوعا وموقوفا

أن تكون مبا ىف يد اهللا أوثق منك مبا ىف يدك، وأن تكون ىف ثواب املصيبة إذا ] املال ولكن الزهد ىف الدنيا )).أصبت هبا أرغب منك فيها لو أهنا بقيت لك

:والذى يصحح هذا الزهد ثالثة أشياءاعلموا أنما الحياة الدنيا {: كما قال اهللا تعاىل فيهاعلم العبد أهنا ظل زائل وخيال زائر وأهنا : أحدها

نباته ثم يهيج لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى األموال واألوالد كمثل غيث أعجب الكفارإنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه {: ، وقال اهللا تعاىل]٢٠: احلديد* [}طامافتراه مصفرا ثم يكون ح

فها وازينت من السماء فاختلط به نبات األرض مما يأكل الناس واألنعام حتى إذا أخذت األرض زخرس كذلك ها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليال أو نهارا فجعلنها حصيدا كأن لم تغن باألموظن أهل

ماء واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ك{: ، وقال تعاىل]٢٤: يونس* [}نفصل اآليات لقوم يتفكرونل شيء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات األرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان اهللا على ك

وهنى عن االغترار هبا، وأخربنا عن سوء )) متاع الغرور: ((، ومساها سبحانه]٤٥: الكهف* [}مقتدرا .وحذرنا مثل مصارعهم، وذم من رضى هبا واطمأن إليها] هبا[عاقبة املغترين

)).ماىل وللدنيا إمنا أن كراكب قال ىف ظل شجرة مث راح وتركها: ((وقال النىب صلى اهللا عليه وسلم

Page 205: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أن اهللا جعل طعام ابن آدم وما خيرج منه مثال للدنيا : وىف املسند عنه صلى اهللا عليه وسلم حديث معناهوملحه فلينظر إىل ماذا يصري، فما اغتر هبا وال سكن إليها إال ذو مهة دنية وعقل حقري، فإنه وإن فوحه .وقدر خسيس

علمه أن وراءها دارا أعظم منها قدرا وأجل خطرا وهى دار البقاء، وأن نسبتها إليها كما قال : الثاىن، ))م إصبعه ىف اليم فلينظر مب يرجعما الدنيا ىف اآلخرة إال كما جيعل أحدك: ((النىب صلى اهللا عليه وسلم

عوضه مائة ألف دينار مثال، فألقاه ] ولك[اطرحه : فالزاهد فيها مبنزلة رجل ىف يده درهم زغل قيل له .فيما هو أعظم منها زهد فيها] رغبته[من يده رجاء ذلك العوض، فالزهد فيها لكمال

منها، وأن حرصه عليها ال جيلب له ما مل يقض له معرفته أن زهده فيها ال مينعه شيئا كتب له : الثالثمنها، فمىت تيقن ذلك وصار له به علم يقني هان عليه الزهد فيها، فإنه مىت تيقن ذلك وثلج له صدره

فهذه . وعلم أن مضمونه منها سيأتيه بقى حرصه وتعبه وكده ضائعا، والعاقل ال يرضى لنفسه بذلك .واهللا املوفق ملن يشاء. الزهد فيها، وتثبت قدمه ىف مقامه األمور الثالثة تسهل على العبد

الزهد ىف نفسك، وهو أصعب األقسام وأشقها، وأكثر الزاهدين إمنا وصلوا إليه ومل يلجوه، : النوع الثاىنذة فإن الزاهد يسهل عليه الزهد ىف احلرام لسوء مغبته وقبح مثرته، ومحاية لدينه وصيانة إلميانه، وإيثارا لل

والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، ومحية من أن يستأثر لعدوه، ويسهل عليه .الزهد ىف املكروهات وفضول املباحات علمه مبا يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم املقيم

وأما الزهد ىف . التام واملطلب األعلى ويسهل عليه زهده ىف الدنيا معرفته مبا وراءها وما يطلبه من العوض :النفس فهو ذحبها بغري سكني، وهو نوعان

عندك من القدر شيء، فال تغضب هلا وال ترضى هلا ] هلا[وسيلة وبداية، وهو أن متيتها فال يبقى : أحدمهاتنتصر هلا أو وال تنتصر هلا وال تنتقم هلا، قد سبلت عرضها ليوم فقرها وفاقتها، فهى أهون عليك من أن

تنتقم هلا أو جتيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب هلا إذا ذمت، بل هى عندك أخس مما قيل فيها، أو ترفهها عما فيه حظك وفالحك، وإن كان صعبا عليها، وهذا وإن كان ذحبا هلا وأماتة عن

.ا البتةطباعها وأخالقها فهو عني حياهتا وصحتها، وال حياة هلا بدون هذوهذه العقبة هى آخر عقبة يشرف منها على منازل املقربني، وينحدر منها إىل وادى البقاء ويشرب من عني احلياة، وخيلص روحه من سجون احملن والبالء وأسر الشهوات، وتتعلق برهبا ومعبودها وموالها

] ومصريها إىل وليها[ن عدوها، احلق، فيا قرة عينها ويا نعيمها وسرورها بقربه، ويا هبجتها باخلالص م .وهذا الزهد هو أول نقدة من مهر احلب، فيا مفلس تأخر. موالها ومالك أمرها ومتوىل مصاحلها

Page 206: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

بل يزهد فيها . غاية وكمال، وهو أن يبذهلا للمحبوب مجلة، حبيث ال يستبقى منها شيئا: والنوع الثاىنبوبه به، فهل جيد من قلبه رغبة ىف إمساك ذلك زهد احملب ىف قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة حم

القدر وحبسه عن حمبوبه؟ فهكذا زهد احملب الصادق ىف نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه، فهو يبذهلا له .دائما بتعرض منه لقبوهلا

ومجيع مراتب الزهد املتقدمة مباد ووسائل هلذه املرتبة، ولكن ال يصح إال بتلك املراتب، فمن رام .متمن كمن رام الصعود إىل أعلى املنارة بال سلم] فتمعن[وصول إىل هذه املرتبة بدون ما قبلها ال

إمنا حرموا الوصول بتضييع األصول، فمن ضيع األصول حرم الوصول، وإذا عرف : قال بعض السلف ىف الزهد؟ هذا فكيف يدعى أن الزهد من منازل العوام وأنه نقص ىف طريق اخلاصة؟ وهل الكمال إال

.واهللا املوفق للصواب. وما النقص إال ىف نقصانه فصل

هو للعوام أيضا، ألنه وكل أمرك إىل موالك والتجاؤك إىل علمه : ((التوكل، قال أبو العباس: املثال الرابعومعرفته لتدبري أمرك وكفاك مهك، وهذا ىف طريق اخلواص عمى عن الكفاية به ورجوع إىل األسباب،

من ] رفضته[رفضت األسباب ووقفت مع التوكل فصار بدال عن تلك األسباب، فإنك معلق مبا ألنك وحقيقة التوكل عند القوم التوكل ىف ختليص القلب من علة التوكل وهو أن . حيث معتقدك االنفصال

ىف العقول مل يترك أمرا مهمال بل فرغ من األشياء وقدرها، وإن اختلف منها شيء ] تعاىل[يعلم أن اهللا أو تشوش ىف احملسوس أو اضطراب ىف املعهود فهو املدبر له، وشأنه سوق املقادير إىل املواقيت، واملتوكل من أراح نفسه من كل النظر ىف مطالعة السبب سكونا إىل ما سبق من القسمة مع استواء احلالني عنده

بتوكله عرضا كان توكله مدخوال وقصده وهو أن يعلم أن الطلب ال جيمع والتوكل ال مينع، ومىت طالع ] تعاىل[معلوال، فإذا خلص من رق هذه األسباب ومل يالحظ ىف توكله سوى خالص حق اهللا كفاه اهللا

)).كل مهممث ذكر حكاية عن موسى صلى اهللا عليه وسلم أنه ىف رعايته نام عن غنمه، فاستيقظ فوجد الذئب

يا موسى، كن ىل كما أريد، أكن : من ذلك، فأوحى اهللا إليه واضعا عصاه على عاتقه يرعاها فعجب .لك كما تريد

:الكالم على هذا من وجوه: فيقالإن جعله التوكل من منازل العوام باطل كما تقدم، بل اخلاصة أحوج إليه من العامة، وتوكل : أحدها

ىف الطريق إىل هنايته، والتوكل مصاحب للصادق من أول قدم يضعه . اخلواص أعظم من توكل العوامفالتوكل مركب السائر الذى ال يتأتى له السري إال به، ومىت . وكلما ازداد قربه وقوى سريه ازداد توكله

Page 207: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وعلى اهللا فتوكلوا إن كنتم {: نزل عنه انقطع لوقته، وهو من لوازم اإلميان ومقتضياته، قال اهللا تعاىل، فجعل التوكل شرطا ىف اإلميان، فدل على انتفاء اإلميان عند انتفاء التوكل، ]٢٣: املائدة* [}مؤمنني

: يونس* [}وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم باهللا فعليه توكلوا إن كنتم مسلمني{: وىف اآلية األخرى: آل عمران* [}على اهللا فليتوكل المؤمنون و{ : فجعل دليل صحة اإلسالم التوكل، وقال تعاىل] ٨٤

، فذكر اسم ]١٣: التغابن] [١٠: اجملادلة] [١١: إبراهيم] [٥١: التوبة] [١١: املائدة] [١٦٠، ١٢٢اإلميان هاهنا دون سائر أمسائهم دليل على استدعاء اإلميان للتوكل، وإن قوة التوكل وضعفه حبسب قوة

وكلما قوى إميان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف اإلميان ضعف التوكل، وإذا كان اإلميان وضعفه، التوكل ضعيفا، فهو دليل على ضعف اإلميان وال بد، واهللا تعاىل جيمع بني التوكل والعبادة وبني التوكل

.واإلميان، وبني التوكل واإلسالم، وبني التوكل والتقوى، وبني التوكل واهلدايةىف سورة أم القرآن : بينهما ىف سبعة مواضع من كتابه، أحدها] سبحانه[وكل والعبادة، فقد مجع فأما التوما {: قوله حكاية عن شعيب أنه قال: ، والثاىن]٥:الفاحتة* [}إياك نعبد وإياك نستعني{]: تعاىل[فقال

قوله حكاية عن أوليائه وعبادة املؤمنني : ، الثالث]٨٨: هود* [}أنيب توفيقى إال باهللا عليه توكلت وإليهقوله تعاىل لنبيه حممد : ، الرابع]٤: املمتحنة* [}ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصري{: أهنم قالوا

رب المشرق والمغرب ال إله إال هو فاتخذه * ل إليه تبتيال واذكر اسم ربك وتبت{: صلى اهللا عليه وسلموهللا غيب السموات واألرض وإليه يرجع األمر كله فاعبده {: قوله: ، اخلامس]٩- ٨:املزمل* [}وكيال

فأقيموا الصالة وآتوا {: قوله: ، السادس]١٢٣: هود* [}افل عما تعملونوتوكل عليه وما ربك بغقل هو {: قوله: ، السابع]٧٨: احلج* [}الزكاة واعتصموا باهللا هو موالكم فنعم المولى ونعم النصري

].٣٠: الرعد* [}لت وإليه متابربى ال إله إال هو عليه توكالتوكل وهو الوسيلة واإلنابة وهى الغاية، فإن العبد ال بد له من : فهذه السبعة مواضع مجعت األصلني

غاية مطلوبة، ووسيلة موصلة إىل تلك الغاية فأشرف غاياته الىت ال غاية له أجل منها عبادة ربه، واإلنابة ال وسيلة له غريها البتة التوكل على اهللا واالستعانة به، وال سبيل له إىل هذه وأعظم وسائله الىت . إليه

الغاية إال هبذه الوسيلة، فهذه أشرف الغايات، وتلك أشرف الوسائل، وأما اجلمع بني اإلميان والتوكل، وعلى اهللا {: ، ونظريه قوله]٢٩: كاملل* [}قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا{: ففى مثل قوله تعاىل

: آل عمران* [}وعلى اهللا فليتوكل المؤمنون{: ، وقوله تعاىل]٢٣: املائدة* [}فتوكلوا إن كنتم مؤمنني ].١٣: التغابن] [١٠: اجملادلة] [١١: إبراهيم] [٥١: التوبة] [١١: املائدة] [١٦٠، ١٢٢

وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم باهللا فعليه توكلوا {: التوكل واإلسالم ففى قوله تعاىلوأما اجلمع بني ].٨٤: يونس* [}إن كنتم مسلمني

Page 208: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

} ين واملنافقنييأيها النبى اتق اهللا وال تطع الكافر{: وأما اجلمع بني التقوى والتوكل، ففى مثل قوله تعاىلومن يتق اهللا { : ، وقوله]٣ - ١: األحزاب* [}وتوكل على اهللا وكفى باهللا وكيال{: إىل قوله تعاىل

].٣ - ٢: الطالق* [}ويرزقه من حيث ال يحتسب ومن يتوكل على اهللا فهو حسبه* يجعل له مخرجا وما لنآ أال {: لقومهم] صلوات اهللا وسالمه عليهم[وأما اجلمع بني التوكل واهلداية ففى مثل قول الرسل

فتوكل {: ، وقال اهللا تعاىل لنبيه صلى اهللا عليه وسلم]١٢:إبراهيم* [}نتوكل على اهللا وقد هدانا سبلنابالتوكل عليه، وعقب هذا األمر مبا هو ] رسوله[، فأمر ]٧٩: النمل* [}حق المبنيعلى اهللا إنك على ال

إنك على احلق املبني فإن كون : ((موجب للتوكل مصحح له مستدع لثبوته وحتققه، وهو قوله تعاىلشديد، فإن اهللا العبد على احلق يقتضى حتقيق مقام التوكل على اهللا، واالكتفاء به، واإليواء إىل ركنه ال

أن ال يتوكل عليه؟ ] خملصا للحق)) [هو احلق، وهو وىل احلق وناصره ومؤيده، وكاىف من قام به،وما لنآ أال نتوكل على اهللا وقد هدانا {: وكيف خياف وهو على احلق؟ كما قالت الرسل لقومهم

أن ذلك ال يكون ] وأقروا[هداهم، ] وهو[ل على اهللا ، فعجبوا من تركهم التوك]١٢: إبراهيم* [}سبلنا .أبدا

بأن اهللا وىل احلق ] وليقينه[لعلمه باحلق - فصادف احلق: وهذا دليل على أن اهلداية والتوكل متالزمان. علم القلب وعمله: فإن التوكل جيمع أصلني. مضطر إىل توكله على اهللا ال جيد بدا من توكله -وناصره: وأما عمله. قينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه مبا وكله إليه، وأن غريه ال يقوم مقامه ىف ذلكفي: أما علمه

. فسكونه إىل وكيله، وطمأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمره إليه، وأن غريه ال يقوم مقامه ىف ذلكا جماعه، وإن فبهذين األصلني يتحقق التوكل، ومه. ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه

التوكل عمل القلب، ولكن ال بد فيه : كان التوكل دخل ىف عمل القلب من عمله، كما قال اإلمام أمحد .من العلم، وهو إما شرط فيه، وإما جزء من ماهيته

واملقصود أن القلب مىت كان على احلق كان أعظم لطمأنينته ووثوقه بأن اهللا وليه وناصره وسكونه إليه، ن ال يتوكل على ربه؟ وإذا كان على الباطل علما وعمال أو أحدمها مل يكن مطمئنا واثقا بربه فما له أ

ال يتوىل الباطل وال ينصره، وال ينسب إليه ] سبحانه[فإنه ال ضمان له عليه، وال عهد له عنده، فإن اهللا ق، ودينه احلق ووعده حق، ، وقوله احل]احلق[بوجه، فهو منقطع النسب إليه بالكلية، فإنه سبحانه هو

.حق] كله[ولقاؤه حق، وفعله كذلك، فلما كان ] سبحانه[ليس ىف أفعاله شيء باطل، بل أفعاله سبحانه بريئة من الباطل، كما أقواله

ومن مل يكن له تعلق باهللا . البتة كان صاحبه كذلك] عليه[، بل هو مقطوع ]سبحانه[الباطل ال يتعلق به .عا عن ربه مل يكن اهللا وليه وال ناصره وال وكيلهالعظيم، وكان منقط

Page 209: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فتدبر هذا السر العظيم ىف اقتران التوكل والكفاية باحلق واهلدى وارتباط أحدمها باآلخر، لو مل يكن ىف واهللا . هذه الرسالة إال هذه الفائدة السرية لكانت حقيقة أن تودع ىف خزانة القلب، لشدة احلاجة إليها

التكالن املستعان وعليهفظهر أن التوكل أصل جلميع مقامات اإلميان واإلحسان، وجلميع أعمال اإلسالم، وأن منزلته منها منزلة اجلسد من الرأس، فكما ال يقوم الرأس إال على البدن، فكذلك ال يقوم اإلميان ومقاماته وأعماله إال على

.واهللا أعلم. ساق التوكلإىل .. إنه ىف طريق اخلواص عمى عن الكفاية، ورجوع إىل األسباب: ((لأن قوله ىف التوك: الوجه الثاىنوالتوكل من أقوى . مضمونه أن التوكل ال يتم إال برفض األسباب، واإلعراض عنها مجلة)) آخر كالمه

األسباب وأعظمها ىف حصول املطلوب فكأنه قد رفض سببا وتعلق بسبب، وقد ناقض ىف أمره، وهلذا ، وكأنك تعلقت مبا رفضته فهذه هى النكتة الىت ألجلها صار ))ال عن تلك األسبابفصار بد: ((قال

التوكل عنده من منازل العوام، وهذه هى غري مسألة اجلمع بني التوكل والسبب، بل هذه مسألة تعليل ليس كذلك، بل هو نظر إىل نفس الكفاية )) إنه عمى عن الكفاية: ((قولك: فيقال. نفس التوكل

.ظة هلاومالحوال ريب أن الكفاية من اهللا ال تنال إال بأسباهبا من عبوديته، وسببها املقتضى هلا هو التوكل، كما قال

، أى كافية، فجعل التوكل سببا للكفاية ]٣: الطالق* [}ومن يتوكل على اهللا فهو حسبه{: اهللا تعاىل؟ ))إن التوكل عمى عن الكفاية: ((سبباهتا، فكيف يقالفربط الكفاية بالتوكل كربط سائر األسباب مب

وهل التوكل إال حمض العبودية الىت جزاؤها الكفاية، وهى ال حتصل بدونه؟ بل العلة ههنا شهود حصوهلا بفعلك وتوكلك، غري ناظر إىل مسبب األسباب الذى أجرى عليك هذا السبب ليوصلك به إىل الكفاية،

هو املنعم بالسبب واملسبب مجيعا، ولكن ال يوجب نظر العبد إىل املسبب املنعم فأول األمر وآخره منه، ف .بالسبب قطع نظره عن السبب والقيام به، بل الواجب القيام باألمرين معا

إن أراد به أنه رجوع إىل سبب ينقص العبودية )) إنه رجوع إىل األسباب: ((أن قوله: الوجه الثالثوظاهر أن األمر ليس كذلك، وإن أراد به أنه رجوع إىل سبب نصبه اهللا ويضعف التوكل فليس كذلك،

مقتضيا للكفاية منه، ورتب عليه جزاء ال حيصل بدونه فهذا حق، ولكن القيام هبذا السبب حمض وهو كجعل اإلسالم واإلميان واإلحسان أسبابا مقتضية للفالح والسعادة، بل . الكمال، ونفس العبودية

عمال القلوب واجلوارح أسبابا مقتضية ملا رتب عليها من اجلزاء، وهل الكمال إال القيام كجعل سائر أهبذه األسباب؟ فاألسباب الىت تكون مباشرهتا نقصا هى األسباب الىت تضعف التوكل، وأما أن يكون

التوكل نفسه ناقصا لكون التحقق به حتققا بالسبب فقلب للحقائق،

Page 210: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن أراد به رفض األسباب مجلة، )) ألنك رفضت األسباب ووقفت مع التوكل: ((ولهأن ق: الوجه الرابعفهذا كما أنه ممتنع عقال وحسا فهو حمرم شرعا ودينا، فإن رفض األسباب بالكلية انسالخ من العقل

ذا حق قيام ناظر إىل سببها، فه] هبا[والدين، وإن أراد به رفض الوقوف معها والوثوق هبا، وأنه يقوم ولكن النقص ال يكون ىف السبب وال ىف القيام به، وإمنا يكون ىف اإلعراض عن املسبب تعاىل كما تقدم، فمنع األسباب أن تكون أسبابا قدح ىف العقل والشرع، وإثباهتا والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها

مسببها وتعلق القيام به مجع بني األمر قدح ىف التوحيد والتوكل، والقيام هبا وتنزيلها منازهلا والنظر إىل .والتوحيد، وبني الشرع والقدر، وهو الكمال، واهللا أعلم

هذا حق، فإن التوكل من أعظم )) فصار التوكل بدال عن تلك األسباب: ((قوله: الوجه اخلامسرك، فهو بدل األسباب، ولكنه بدل عنها، كما تكون الطاعة بدال عن املعصية، والتوحيد بدال عن الش

واجب مأمور به مطلوب من العبد واملذموم أن جيعل العبد األسباب بدال عن التوكل، ال أن جيعل .التوكل بدال عن األسباب

ليس كذلك، فإن )) فكأنك تعلقت مبا رفضته من حيث معتقدك االنفصال: ((قوله: الوجه السادس، فهذا هو الذى رفضه، وأما الذى تعلق به فهو التوكل املرفوض هو التعلق بغري اهللا وااللتفات إىل سواهإنه : فقد رفض املخلوق وتعلق باخلالق، فكيف يقال. على اهللا واللجأ إليه والتفويض إليه واالستعانة به

تعلق مبا رفضه؟يشري به إىل أن التوكل نوع تفرقة وانفصال )) من حيث معتقدك االنفصال: ((أن قوله: الوجه السابع

يشهد فيه مع اهللا غريه، وهذا مناف للفناء ىف التوحيد، وأن ال يشهد مع اهللا غريه أصال، وهذا قطب رحى السري الذى يشري إليه القوم، والعلم الذى يشمرون إليه، وألجله جيعلون كل ما دونه من املقامات

فنقول وباهللا . امهم وغاية مرماهممعلوال، وال بد من فصل القول فيه بعون اهللا وتأييده، فإنه هناية إقد :التوفيق

فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود : الفناء الذى يشار إليه على ألسنة السالكني ثالثة أقسام .السوى، وفناء عن عبادة السوى وإرادته، وليس هنا قسم رابع

ل ىف نفسه، مستلزم جحد الصانع فهو فناء القائلني بوحدة الوجود، فهو فناء باط: فأما القسم األولوهذا هو الذى يشري إليه علماء . ، وإنكار ربوبيته وخلقه وشرعه، وهو غاية اإلحلاد والزندقة]سبحانه[

، وغاية أحدهم فيه أن ال يشهد ربا وعبدا، وخالقا وخملوقا، وآمرا ))التحقيق((االحتادية، ويسمونه .كله واحد، فيكون السالك عندهم ىف بدايته يشهد طاعة ومعصية ومأمورا، وطاعة ومعصية، بل األمر

Page 211: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

هذا الفرق بكشف عندهم إىل أن يشهد األفعال كلها طاعة هللا ال معصية فيها، وهو ] عن[مث يرتفع وهذا ناقص عندهم أيضا، إذ هو متضمن . شهود احلكم والقدر، فيشهده طاعة ملوافقتها احلكم واملشيئة

دهم عن هذا الشهود إىل أن ال يشهد ال طاعة وال معصية، إذ الطاعة واملعصية إمنا للفرق، مث يرتفع عن .تكون من غري لغري، وما مث غري

فإذا حتقق بشهود ذلك وفىن فيه فقد فىن عن وجود السوى، فهذا هو غاية التحقيق عندهم ومن مل يصل :ومن أشعارهم ىف هذا قول قائلهم. إليه فهو حمجوب لكون، بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائقوما أنت غري ا

:وقول آخر ما األمر إال نسق واحـــــد ما فيه من مـدح وال ذم وإمنا العادة قد خصصــــت والطبع والشارع باحلكم

:وقول اآلخر وما املوج إال البحر ال شيء غريه وإن فرقته كثرة املتـعدد

يشري إليه املتأخرون من أرباب السلوك، وهو الفناء عن شهود والقسم الثاىن من أقسام الفناء هو الذى . السوى، مع تفريقهم بني الرب والعبد وبني الطاعة واملعصية وجعلهم وجود اخلالق غري وجود املخلوق

أحدمها أنه الغاية املطلوبة من السلوك، وما دونه بالنسبة إليه : مث هم خمتلفون ىف هذا الفناء على قولنيأنه من لوازم الطريق ال بد منه : والقول الثاىن. معلولة] واملنازل[هنا جيعلون املقامات ناقص، ومن

. للسالك، ولكن البقاء أكمل منه وهؤالء جيعلونه ناقصا ولكن ال بد منه، وهذه طريقة كثري من املتقدمنين معبوده، وال مبعبوده إن الكمال شهود العبودية مع شهود املعبود، فال يغيب بعبادته ع: وهؤالء يقولون

حىت ميلكه من مجيع -عن عبادته ولكن لقوة الوارد وضعف احملل وغلبة استيالء الوارد على القلبوالتحقيق أن هذا الفناء ليس بغاية، وال هو من لوازم الطريق، بل هو عارض من . يقع الفناء -جهاته

:ر ثالثةعوارض الطريق يعرض لبعض السالكني دون مجيعهم وسببه أموقصده وإرادته والعمل عليه، فإنه إذا علم أنه الغاية املطلوبة مشر سائرا إليه عامال عليه، فإذا : أحدها

فهؤالء إمنا حيصل هلم الفناء ألن سريهم كان على . أشرف عليه وقف معه ونزل بواديه وطلب مساكنتهيل مراد اهللا منهم وهو القيام بعبوديته طلب حظهم ومرادهم من اهللا وهو الفناء مل يكن سريهم على حتص

.والسائر على طلب حتصيل مراد اهللا منه ال يكاد الفناء حيل بساحته وال يعتريه. والتحقق هبا .قوة الوارد حبيث يغمره ويستوىل عليه، فال يبقى فيه متسع لغريه أصال: السبب الثاىن .ضعف احملل عن احتمال ما يرد عليه: السبب الثالث

Page 212: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وملا رأى الصادق ىف طريقه السالك إىل ربه أن أكثر أصحاب . ن هذه األسباب الثالثة يعرض الفناءفمالفرق حمجوبون عن هذا املقام مشتتون ىف أودية الفرق وشهدوا نقصهم ورأوا ما هم فيه من الفناء أكمل

.ذلك، وأنه الغاية املطلوبة، فمن هنا جعلوه غاية] وراء[ظنوا أنه ال كمال وهو الفناء عن عبادة السوى وإرادته وحمبته ] وأجل هو القسم الثالث[ولكن أكمل من ذلك وأعلى

فيفىن بعبادة ربه وحمبته وخشيته ورجائه وخشيته ورجائه [وخشيته ورجائه والتوكل عليه والسكون إليه فهذا . د الغري ومعاينتهمع شهو] ورجائه والتوكل عليه إليه عن عبادة غريه وعن حمبته رجائه والتوكل عليه

أكمل من فنائه عن عبودية الغري وحمبته مع عدم شهوده له وغيبته عنه، فإذا شهد الغري ىف مرتبته أوجب شهوده له زيادة ىف حمبة معبوده، وتعظيما له وهروبا إليه وظنا به، فإن نظر احملب إىل مباديء حمبوبه

:قال القائل ومضاده يوجب زيادة حبه له، وىف هذا املعىن وإذا نظرت إىل أمريى زادىن حبا له نظرى إىل األمراء

...)يتبع(اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، : ((وكان النىب صلى اهللا عليه وسلم يقول ىف دعائه@

، ))اللهم لك سجدت، وبك آمنت: ((وىف سجوده)). وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت )).اللهم لك ركعت، وبك آمنت: ((عهوكذلك ىف ركو

فهذا دعاء من قد مجع بني شهود عبوديته وشهود معبوده، ومل يغب بأحدمها عن اآلخر، وهل هذا إال أن يشهد ما يأتى به من العبودية موجها هلا إىل املعبود احلق، حمضرا هلا بني يديه، متقربا : كمال العبودية

وإن كان -بالكلية حبيث تبقى احلركات كأهنا طبيعية غري واقعة باإلرادة فهذا فأما الغيبة عنها. هبا إليهفحال اجلامع بني شهود العبودية واملعبود أكمل -أكمل من حال الغائب بشهود عبوديته عن معبوده

.وإذا عرفت هذه القاعدة ظهر أن تعليله التوكل مبا ذكر تعليل باطل. منهماتوكل عليه ىف حتصيل حظ العبد من الرزق والعافية : أحدمها: على اهللا نوعانأن التوكل : الوجه الثامن

.توكل عليه ىف حتصيل مرضاته: وغريمها، والثاىنفأما النوع األول فغايته املطلوبة وإن مل تكن عبادة ألهنا حمض حظ العبد، فالتوكل على اهللا ىف حصوله

.عبادة، فهو منشأ ملصلحة دينه ودنياه. فال علة فيه بوجه فإنه استعانة باهللا على ما يرضيه. وع الثاىن فغايته عبادة، وهو ىف نفسه عبادةوأما الن

والعلة إمنا هى ىف ضعف هذا . فصاحبه متحقق بإياك نعبد وإياك نستعني، فتركه ترك لشطر اإلميان .التوكل

Page 213: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ل مراد الرب سبحانه فهب أن التوكل ىف حصول احلظ معلول فيلزم من هذا أن يكون التوكل ىف حصو .ومرضاته معلوال: ، فيقال))وحقيقة التوكل عند القوم التوكل ىف ختليص القلوب من علة التوكل: ((قوله: الوجه التاسع

إذا كان هذا التوكل عندك ليس مبعلول، وال هو عمى عن الكفاية، وال رجوع إىل األسباب بعد رفضها، .بطل تعليل التوكل مبا عللته به

، فلزم بطالن كونه معلوال ]علة[انت هذه العلة بعينها موجودة ىف هذا التوكل بطل أن يكون وإن كإما أن يكون متعلقة حظا من : على التقديرين، وظهر أن العلة ىف التوكل ال خترج عن أحد شيئني

حظوظك، وإما وقوفك معه وركونك إليه فقط، فإذا خلص التوكل من هذا وهذا فال علة تلحقه وال .نقيضة تدركهأن علة التوكل عنده هى ترك التوكل كما فسره فكيف يتوكل ىف ترك التوكل؟ وهل هذا : الوجه العاشر

إال مجع بني متضادين؟وهو أن يعلم أن اهللا سبحانه وتعاىل مل يترك أمرا مهمال، بل فرغ من : ((قوله: الوجه احلادى عشر

العقول أو تشوش ىف احملسوس أو اضطرب ىف املعهود فهو األشياء وقدرها، وإن اختلف منها شيء ىفاملتوكل من أراح نفسه من كد النظر ىف مطالعة السبب، . املدبر له، وشأنه سوق املقادير إىل املواقيت

.إىل آخر كالمه)) سكونا إىل ما سبق من القسمة مع استواء احلالني عندهأسباهبا املفضية إليها، فكما أن املسببات من قدره الذى هو سبحانه فرغ من األشياء وقدرها ب: فيقال

ال يناىف القيام بتلك األسباب، ] فتقريره املقادير بأسباهبا. أيضا من قدره الذى فرع منه[فرغ منه فأسباهبا .بل يتوقف حصوهلا عليها

هبا، هل ترد من أرأيت أدوية نتداوى هبا، ورقى نسترقى: وقد سئل النىب صلى اهللا عليه وسلم فقيل له: أعلم أهل اجلنة والنار؟ قال: ، وسئل صلى اهللا عليه وسلم))هى من قدر اهللا: ((قدر اهللا شيئا؟ فقال

، فأمرهم باألعمال، وأخربهم أن اهللا ))اعملوا فكل ميسر ملا خلق له: ((ففيم العمل؟ قال: ، قالوا))نعم((خلق له من الثواب والعقاب، فال بد من إثبات السبب يسر كل عبد ملا خلق له فجعل عمله سببا لنيل ما

.واملسبب مجيعااملتوكل من أراح نفسه من كد النظر ىف مطالعة السبب سكونا إىل ما سبق : ((قوله: الوجه الثاىن عشر

، فهذا الكالم إن أخذ على إطالقه فهو باطل قطعا، فإن السكون ))من القسمة، مع استواء احلالني عنده ما سبق من القسمة وترك السبب ىف أعمال الرب عني العجز وتعطيل األمر والشرع، وال جيوز شرعا إىل

وأما السكون إىل ما سبق من القسمة ىف أسباب املعيشة فهو حق، ولكن . وال عقال التسوية بني احلالني

Page 214: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فالكمال . ن بعدهمالكمال أن يكون ساكنا إىل ما سبق مع قيامه، وهذه حال الكملة من الصحابة وممع قيامه، هو تنزيل األسباب منازهلا علما وعمال ال اإلعراض عنها وحموها، وال االنتهاء إليها والوقوف

.عندهامع استواء احلالني عنده، وهو أن يعلم أن الطلب ال جيمع، والتوكل ال : ((قوله: الوجه الثالث عشر

وهذا ليس مبأمور وال . اشرة السبب وتركه نظرا إىل ما سبقيشري به إىل استواء احلالني ىف مب)) مينع معذور، فإنه ال تستوى احلالتان شرعا وال قدرا، وكيف يستوى ما مل يسوه اهللا شرعا وال قدرا؟

الطلب ال جيمع، التوكل ال مينع فقد بني أن التوكل ال يناىف الطلب، بل : ((قوله: الوجه الرابع عشركماله مقارنته للطلب ومصاحبته للسبب، وأما توكل جمرد عن الطلب والسبب فعجز حقيقة التوكل و

وأما . فتوكل احلراث إمنا هو بعد شق األرض وبذرها، وحينئذ يصح منه التوكل ىف طلوع الزرع. وأماىن .توكله من غري حرث وال بذر فعجز وبطالة

فإذا خلص . وكله مدخوال وقصده معلوالومىت طالع بتوكله عرضا كان ت: ((قوله: الوجه اخلامس عشرالتوكل : ، فيقال))من رق هذه األسباب ومل يالحظ ىف توكله سوى خالص حق اهللا كفاه كل مهم

إما ىف حصول حظ العبد ورزقه ونصره وعافيته، وإما ىف حصول مراد ربه منه، : يكون ىف أحد شيئنيولكن توكله ىف األول ال يكون . حبسب املتوكل فيهوكالمها عبادة مأمور هبا، والثاىن أكمل من األول

وهذا إمنا . معلوال من حيث هو توكل، وإمنا تكون علته أن صرف توكله إىل غريه أوىل بالتوكل منه .يكون نقصا إذا أضعف توكله ىف األمر ومراد اهللا منه

.اهللا أعلمو. وأما إن مل يضعفه بل أعطى كل مقام حقه من التوكل فهذا حمص العبودية فصل

وهو من منازل العوام أيضا، ألن الصرب حبس النفس على : ((قال أبو العباس. الصرب: املثال اخلامسوهذا ىف . مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص ىف حتمله، وانتظار الفرج عند عاقبته

تمان الشكوى ىف حتمل األذى طريق اخلاصة جتلد ومناوأة وجرأة ومنازعة، فإن حاصله يرجع إىل ك .وحتقيقه اخلروج عن الشكوى بالتلذذ بالبلوى واالستبشار باختيار املوىل. بالبلوىالتصرب، وهو حتمل مشقة، وجترع غصة، : إنه على ثالث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فاألول: وقيل

الصرب، وهو نوع سهولة : والثاىن .وهذا هو التصرب هللا وهو صرب العوام. والثبات على ما جيرى من احلكمختفف عن املبتلى بعض الثقل، وتسهل عليه صعوبة املراد، وهو الصرب هللا، وهو نوع سهولة، وهو صرب

االصطبار وهو التلذذ بالبلوى واالستبشار باختيار املوىل، وهذا هو الصرب على اهللا، : والثالث. املريدين :ن وجوهوالكالم على هذا م)). وهو صرب العارفني

Page 215: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن {: قال تعاىل. نصف صرب، ونصف شكر: أن يقال الصرب نصف الدين، فإن اإلميان نصفان: أحدهاوالذى نفسى بيده، : ((، وقال النىب صلى اهللا عليه وسلم]١٩:سبأ* [}فى ذلك آليات لكل صبار شكور

سراء شكر فكان خريا له، إن أصابته ضراء صرب إن أصابته : ال يقضى اهللا للمؤمن قضاء إال كان خريا له :فمنازل اإلميان كلها بني الصرب والشكر، والذى يوضح هذا)). فكان خريا له، وليس ذلك إال للمؤمن

وهو أن العبد ال خيلو قط من أن يكون ىف نعمة أو بلية، فإن كان ىف نعمة ففرضها الشكر : الوجه الثاىنقيدها وثباهتا والكفيل مبزيدها، وأما الصرب فعن مباشرة األسباب الىت تسلبها، أما الشكر فهو . والصرب

ومن هنا يعلم سر مسألة . وعلى القيام باألسباب الىت حتفظها فهو أحوج إىل الصرب فيها من حاجة املبتلىلغىن أكمل الغىن الشاكر والفقري الصابر، وأن كال منهما حمتاج إىل الشكر والصرب، وأنه قد يكون صرب ا

كما قد يكون شر الفقري أكمل، فأفضلهما أعظمهما شكرا وصربا، فإن فضل أحدمها ىف . من صرب الفقري .ذلك فضل صاحبه

فمىت ذهب الشكر ذهب . فالشكر مستلزم للصرب ال يتم إال به، والصرب مستلزم للشكر ال يتم إال بهأما الصرب : فرضها الصرب والشكر أيضاالصرب، ومىت ذهب الصرب ذهب الشكر، وإن كان ىف بلية ف

عبودية ىف البالء كما له عليه [فظاهر، وأما الشكر فللقيام حبق اهللا عليه ىف تلك البلية، فإن هللا على العبد فعلم أنه ال انفكاك له عن الصرب، ما دام سائرا . أن يقوم بعبوديته ىف هذا وهذا] عبودية ىف النعماء وعليه

.إىل اهللاإما صرب عن املعصية فال يرتكبها وإما صرب على الطاعة حىت يؤديها : أن الصرب ثالثة أقسام: الثالثالوجه

وإما صرب على البلية فال يشكو ربه فيها وإن كان العبد ال بد له من واحد من هذه الثالثة فالصرب الزم له .أبدا ال خروج له البتة

كتابه ىف حنو تسعني موضعا، فمرة أمر به، ومرة أثىن على أن اهللا سبحانه ذكر الصرب ىف: الوجه الرابعأهله، ومرة أمر نبيه صلى اهللا عليه وسلم أن يبشر به أهله، ومرة جعله شرطا ىف حصول النصر والكفاية

إنا {: ومرة أخرب أنه مع أهله، وأثىن به على صفوته من العاملني وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيه أيوبفاصبر {: خلامت أنبيائه ورسله] تعاىل[، وقال ]٤٤: سورة ص* [}اه صابرا، نعم العبد إنه أوابوجدن

: النمل* [}واصبر وما صبرك إال باهللا{: ، وقال]٣٥: األحقاف* [}كما صبر أولوا العزم من الرسلأإنك ألنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى، قد {: قال له إخوته، وقال يوسف الصديق، وقد ]١٢٧

، وهذا يدل على أن ]٩٠:يوسف* [}من اهللا علينآ إنه من يتق ويصبر فإن اهللا ال يضيع أجر المحسنني وأوالهم به أشدهم قياما وحتققا به، وأن اخلاصة الصرب من أجل مقامات اإلميان، وأن أخص الناس باهللا

.أحوج إليه من العامة

Page 216: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أن الصرب سبب ىف حصول كل كمال، فأكمل اخللق أصربهم، ومل يتخلف عن أحد : الوجه اخلامسكماله املمكن إال من ضعف صربه، فإن كمال العبد بالعزمية والثبات، فمن مل يكن له عزمية فهو ناقص،

.عزمية ولكن ال ثبات له عليها فهو ناقصومن كانت له فإذا انضم الثبات إىل العزمية أمثر كل مقام شريف وحال كامل، وهلذا ىف دعاء النىب صلى اهللا عليه وسلم

اللهم إىن أسألك الثبات ىف األمر والعزمية على : ((الذى رواه اإلمام أمحد وابن حبان ىف صحيحهوالعزمية ال تقوم إال على ساق الصرب، فلو علم العبد الكنز الذى حتت ، ومعلوم أن شجرة الثبات))الرشد

.ملا ختلف عنه)) الصرب((هذه األحرف الثالثة أعىن اسم ، وقال عمر بن اخلطاب ))ما أعطى أحد عطاء خريا وأوسع من الصرب: ((قال النىب صلى اهللا عليه وسلم

:وىف مثل هذا قال القائل. أدركناه بالصرب: حني غشى عليه] رضى اهللا عنه[ نزه فؤادك عن سوانا والقنا فجنابنا حـــل لكل منزه والصرب طلسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلسم فاز بكنزه .فالصرب طلسم على كنز السعادة، من حله ظفر بالكنز

الغصص الصرب حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة : ((قوله: الوجه السادس

وأما الصرب . هذا أحد أقسام الصرب، وهو الصرب على البالء: ، فيقال))ىف حتمله، وانتظار الفرج عند عاقبتههبا ويأتى هبا حمبة ورضى، ] يتجلى[على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد ال يعرض فيه، بل واصبر نفسك {: ام هبا، قال اهللا تعاىلومع هذا فالصرب واقع عليها، فإنه حبس النفس على مداومتها والقي

، وأما الصرب عن املعصية فقد يعرض فيه ذلك ]٢٨: الكهف* [}مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى .أو بعضه، وقد ال يعرض فيه، لتمكن الصابر من قهر داعيها وغلبته

إنه ىف طريق اخلاصة جتلد : ((ا يعرض ىف الصرب على البلية فقولهوإذا كان ما ذكر من األمور األربعة إمن واملنازعة؟] واجلرأة[ليس كذلك، وإمنا فيه التجلد، فأين املناوأة )) ومناوأة وجرأة ومنازعة

إن وجود التأمل والتجلد : وأما لوازم الطبيعة من وجود أمل البلوى فال تنقلب وال تعدم فال يصح أن يقالالنفس عن التسخط واللسان عن الشكوى جرأة ومنازعة، بل هو حمض العبودية واالستكانة عليه وحبس

وامتثال األمر، وهو من عبودية اهللا املفروضة على عبده ىف البالء، فالقيام هبا عني كمال العبد ولوازم م أسباهبا وعللها فقد الطبيعة ال بد منها، ومن رام أن ال جيد الربد واحلر واجلوع والعطش واألمل عند متا

.رام املمتنع

Page 217: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وهل يكون األجر إال على وجود تلك اآلالم واملشاق والصرب عليها؟ وقد ثبت عن النىب صلى اهللا عليه إنك لتوعك وعكا : ، وقيل له ىف مرضه))أشد الناس بالء األنبياء مث األمثل فاألمثل: ((وسلم أنه قال ].صلى اهللا عليه وسلم[يعىن ىف وعكة )) منكمأجل إن ىل أجر رجلني: ((شديدا، قال

، وهذا ))وارأساه: ((وال ريب أن ذلك الوعك مؤمل له صلى اهللا عليه وسلم، وأيضا ىف مرض موته قال)) اللهم أعنى على سكرات املوت: ((إمنا هو من وجود أمل الصداع، وكان يقول ىف غمرات املوت

، وهذا كله لتكميل أجره وزيادة رفعة ]ه باملاء من كرب املوتويدخل يده ىف القدح وميسح وجه[ .درجاته صلى اهللا عليه وسلم

وهل كان ذلك إال حمض العبودية وعني الكمال؟ وهل اجلرأة واملناوأة واملنازعة إال ىف ترك الصرب، وىف التسخط والشكوى؟

ل األذى بالبلوى، واالستبشار فإن حامله يرجع إىل كتمان الشكوى ىف حتام: ((قوله: الوجه السابعالذى ميكن اخلروج عنه هو الشكوى، وأما أن خيرج عن ذوق البلوى فال جيده : ، فيقال))باختيار املوىل

أو يتلذذ هبا، فهذا غري ممكن، وال هو ىف الطبيعة، وإمنا املمكن أن يشاهد العبد ىف تضاعيف البالء لطف مؤنة محله، وتشتغل النفس باستخراج ] فيخفف عنه[ محله عنه صنع اهللا به وحسن اختياره له وبره به ىف

لطائف صنع اهللا به وبره وحسن اختياره عن شهود محله فيحصل له لذة مبا شهده من ذلك، وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهى أن يشهد أن هذا مراد حمبوبه، وإنه مبرأى منه ومسمع، وأنه هديته إىل عبده،

ه لريفل له ىف أذيال التذلل واملسكنة والتضرع لعزته وجالله، فيعلم العبد أن حقيقة وخلعته الىت خلعها علياحملبة هى موافقة احملبوب ىف حمابه فيحب ما حيبه حمبوبه، فيحب العبد تلك احلال من حيث موافقته

ه الدواء حملبوبه وإن كرهها من حيث الطبع البشرى، فإن هذه الكراهة ال تناىف حمبته هلا كما يكره طبعالكريه وهو حيبه من وجه آخر، وهذا ال ينكر ىف احملبة املتعلقة باملخلوق مع ضعفها وضعف أسباهبا، كما

:قال القائل ىف ذلك أهوى هواه وبعدى عنه يعجبه فالبعد قد صار ىل ىف حبه أربا

:وقال اآلخر أريد وصاله ويريد هجـرى فـأترك ما أريد ملا يـريـد

:وقال اآلخر هنتىن فأهتت نفسى جاهدا ما من يهون عليك ممن أكرموأ

فإذا شهد مراد حمبوبه أحبه، وإن . وإنه لتبلغ احملبة بالعبد إىل حيث يفىن مبراد حمبوبه عن مراده هو منهفهذا ال ينكر وال يناىف التأمل مبراد احملبوب املناىف للمحب وصربه عليه، بل جيتمع ىف . كان كريها إليه

Page 218: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

األمران، وتقوى هذه احملبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى وإفضائها إىل غاية النعيم واللذة، حقه فكلما قوى علمه بذلك وقويت حمبته ملن ذكره بابتالئه ازداد تلذذه هبا مع الكراهية الطبيعية الىت هى من

جيرى ذكره على بال حمبوبه أن حمبوبه لوازم اخللقة وال سيما إذا علم احملب الذى أحب األشياء إليه أن :قد ذكره بنوع من االمتحان، فإنه يفرح بذكره له وإن ساءه ما ذكره به كما قال القائل

لئن ساءىن أن نلتىن مبساءة لقد سرىن أىن خطرت ببالكاوهو - هإىل قول -وهو على ثالث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فاألول التصرب: ((قوله: الوجه الثامن. ال ريب أن التصرب مؤذن بتكلف وحتمل على كره، ولكن هذا ال بد منه ىف الصرب: ، فيقال))صرب العوام

وهو سببه الذى ينال به، فالتصرب من العبد، والصرب مثرته الىت يفرعها اهللا إذا تعاطاه وتكلفه، كما قال التصرب من الصرب منزلة التعلم والتفهم من ، فمنزلة ))ومن يتصرب يصربه هللا: ((النىب صلى اهللا عليه وسلم

.العمل والفهم، فال بد منه ىف حصول الصربوالثاىن الصرب، وهو نوع سهولة خيفف عن املبتلى بعض الثقل، ويسهل عليه : ((قوله: الوجه التاسع

إمنا حيمد إذا ، فقد تقدم أن الصرب مثرة التصرب وكالمها ))صعوبة املراد وهو الصرب للله، وهو صرب املريدينوإمنا يكون إذا كان باهللا فما مل يكن به ال يكون، وما مل يكن له ال ينفع وال يثمر، فكالمها ال . كان اهللا

واصبر وما صبرك إال {: قال تعاىل ىف الصرب به. حيصل للمريد السالك مقصوده إال أن يكون باهللا وهللا ].٤٨: الطور* [}واصبر لحكم ربك{: له ، وقال ىف الصرب]١٢٧: النحل* [}باهللا

] كتاب[الصرب له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحب : الصربين أعلى وأفضل] اهللا[واختلف الناس أى وهو صرب املريد [وأضعف الصرب الصرب هللا وهو صرب العامة، وفوقه الصرب باهللا، )): منازل السائرين((

هو صرب العابد الذى ]ه هذا القول السالك ووجه هذا القول إن الصرب هللاوفوقهما الصرب على اهللا ووجتصرب نفسه ألمر اهللا طالبا ملرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل صابر عن احملرمات، وأما الصرب به فهو

.وهو صرب املريد] عز وجل[تربؤ من احلول والقوة، وإضافة ذلك إىل اهللا والصواب أن الصرب هللا أكمل . السالك على ما جييء به متعلق أقداره وأحكامه وأما الصرب على اهللا فصرب

من الصرب به، فإن الصرب له متعلق بإهليته وحمبته، والصرب به متعلق بربوبيته ومشيئته، وما هو له أكمل مما وبينهما من الغاية وما به هو الوسيلة، فالصرب به وسيلة والصرب له غاية، ] هو[هو به، فإن ما هو له

.التفاوت ما بني الغايات والوسائل،وهاتان الكلمتان ]٥: الفاحتة* [}إياك نعبد وإياك نستعني{: وأيضا فإن الصرب له متعلق بقوله تعاىل

إياك ((منقسمتان بني العبد وبني اهللا، كما ثبت عن النىب صلى اهللا عليه وسلم فيما يروى عن ربه وهى الىت للعبد، وما هللا أكمل مما للعبد فما تعلق مبا هو له أفضل مما )) إياك نستعني((هى الىت هللا، و)) نعبد

Page 219: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

تعلق مبا هو للعبد، وأيضا فالصرب له مصدره احملبة، والصرب به مصدره االستعانة واحملبة أكمل من ية والكونية، فهو يرجع إىل الصرب فهو الصرب على أحكامه الدين] سبحانه[وأما الصرب على اهللا . االستعانة

.على أوامره والصرب على ابتالئه، فليس ىف احلقيقة قسما ثالثا، واهللا أعلمفقد تبني أن الصرب جبميع أقسامه أصل مقامات اإلميان، وهو أصل لكمال العبد الذى ال كمال له بدونه،

صرب املعرضني احملجوبني، فالصرب عن فإنه ] سبحانه[وال يذم منه إال قسم واحد وهو الصرب عن اهللا احملبوب أقبح شيء وأسوؤه، وهو الذى يسقط احملب من عني حمبوبه، فإن احملب كلما كان أكمل حمبة

.كان صربه عن حمبوبه متعذراوهذا هو الصرب . الثالث االصطبار، وهو التلذذ بالبلوى واالستبشار باختيار املوىل: ((قوله: الوجه العاشر

االصطبار افتعال من الصرب كاالكتساب واالختاذ، وهو مشعر : فيقال)). اهللا وهو صرب العارفنيعلى : فإن هذا البناء مؤذن باالختاذ واالكتساب، قال تعاىل: بزيادة املعىن على الصرب، كأنه صار سجية وملكة

ن االكتساب أبلغ من الكسب، ، فاالصطبار أبلغ من الصرب كما أ] ٢٧: القمر[} فارتقبهم واصطبر{لها ما كسبت وعليها ما {: وهلذا كان ىف العمل الذى يكون على صاحبه، والكسب فيما له، قال تعاىل

تنبيها على أن الثواب حيصل هلا بأدىن سعى وكسب، وأن العقاب إمنا هو ] ٢٨٦: البقرة* [}اكتسبت .باكتساهبا وتصرفها وما تعانيه

ذا علم هذا فالتلذذ بالبلوى واالستبشار باختيار اهللا سبحانه ال خيص االصطبار، بل يكون مع الصرب وإواهللا . ولكن ملا كان االصطبار أبلغ من الصرب وأقوى كان هبذا التلذذ واالستبشار أوىل]. التصرب[ومع أعلم

Page 220: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قـاعـدة :الصرب عن املعصية ينشأ من أسباب عديدة

علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءهتا، وأن اهللا إمنا حرمها وهنى عنها صيانة ومحاية عن الدنايا : أحدهاوهذا السبب حيمل العاقل على تركها ولو مل . عما يضره] والده[والرذائل، كما حيمى الوالد الشفيق

.يعلق عليها وعيد بالعذاب -بد مىت علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه مبرأى منه ومسمعاحلياء من اهللا سبحانه، فإن الع: السبب الثاىن

.استحى من ربه أن يتعرض ملساخطه -حييا] حيا[وكان مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم وال بد، فما أذنب عبد ذنبا : السبب الثالث

ع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر مل إال زالت عنه نعمة من اهللا حبسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجإن اهللا ال يغير ما {: ترجع إليه، وال تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حىت تسلب النعم كلها، قال اهللا تعاىل

، وأعظم النعم اإلميان، وذنب الزنا والسرقة وشرب اخلمر ]١١: الرعد* [}بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .تهاب النهبة يزيلها ويسلبهاوان

. أذنبت ذنبا فحرمت فهم القرآن: وقال آخر. أذنبت ذنبا فحرمت قيام الليل سنة: وقال بعض السلف :وىف مثل هذا قيل

إذا كنت ىف نعمة فارعها فإن املعاصى تزيل النعممن زوال نعمته وحتويل وباجلملة فإن املعاصى نار النعم تأكلها كما تأكل النار احلطب، عياذا باهللا

.عافيتهوهذا إمنا يثبت بتصديقه ىف وعده ووعيده واإلميان به وبكتابه . خوف اهللا وخشية عقابه: السبب الرابع

إنما يخشى اهللا من {: قال اهللا تعاىل. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقني ويضعف بضعفهما. وبرسوله .كفى خبشية اهللا علما وباالغترار باهللا جهال: ، وقال بعض السلف]٢٨:فاطر* [}عباده العلماء

فإن احملب ملن . وهى أقوى األسباب ىف الصرب عن خمالفته ومعاصيه] سبحانه[حمبة اهللا : السبب اخلامسحيب مطيع، وكلما قوى سلطان احملبة ىف القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك املخالفة أقوى، وإمنا تصدر

واملخالفة من ضعف احملبة وسلطاهنا وفرق بني من حيمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه املعصيةنعم العبد صهيب، لو مل خيف اهللا : ((وعقوبته، وبني من حيمله على ذلك حبه لسيده، وىف هذا قال عمر

.من معصيتهيعىن أنه لو مل خيف من اهللا لكان ىف قلبه من حمبة اهللا وإجالله ما مينعه )) مل يعصهفاحملب الصادق عليه رقيب من حمبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعالمة صدق احملبة شهود هذا الرقيب

.ودوامه

Page 221: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وههنا لطيفة جيب التنبه هلا، وهى أن احملبة اجملردة ال توجب هذا األثر ما مل تقترن بإجالل احملبوب والطاعة، وإال فاحملبة اخلالية عنهما إمنا توجب وتعظيمه، فإذا قارهنا باإلجالل والتعظيم أوجبت هذا احلياء

] فيه[نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق، وهلذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فريى وسبب ذلك جتردها عن اإلجالل والتعظيم، فما عمر . نوع حمبة هللا، ولكن ال حتمله على ترك معاصيه

إجالل اهللا وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب اهللا لعبده أو أفضلها، وذلك القلب شيء كاحملبة املقترنة ب .فضل اهللا يؤتيه من يشاء

شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها ومحيتها أن ختتار األسباب الىت حتطها وتضع : السبب السادس .قدرها، وختفض منزلتها وحتقرها، وتسوى بينها وبني السفلة

من سواد الوجه، : م بسوء عاقبة املعصية، وقبح أثرها والضرر الناشيء منهاقوة العل: السبب السابعوضعفه عن . وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وأمله، واحنصاره، وشدة قلقه واضطرابه، ومتزق مشله

ى مقاومة عدوه، وتعريه من زينته واحلرية ىف أمره وختلى وليه وناصره عنه، وتوىل عدوه املبني له، وتوارالعلم الذى كان مستعدا له عنه، ونسيان ما كان حاصال له أو ضعفه وال بد، ومرضه الذى إذا استحكم به فهو املوت وال بد، فإن الذنوب متيت القلوب، ومنها ذله بعد عزة، ومنها أن يصري أسريا ىف يد أعدائه

يبقى له نفوذ ىف رعيته وال ىف اخلارج بعد أن كان ملكا متصرفا خيافه أعداؤه، ومنها أن يضع تأثريه فالفال رعيته تطيعه إذا أمرها، وال ينفذ ىف غريهم، ومنها زوال أمنه وتبدله به خمافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال األنس واالستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة، ومنها زوال الرضى

ل الطمأنينة باهللا والسكون إليه واإليواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه، واستبداله بالسخط، ومنها زواومنها وقوعه ىف بئر احلسرات، فال يزال ىف حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إىل نظريها إن مل

إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر ] غريها[يقض منها وطرا، أو إىل .ليه، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنهع

فياهلا نارا قد عذب هبا القلب ىف هذه الدار قبل نار اهللا املوقدة الىت تطلع على األفئدة، ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنيا مبا معه من رأس مال اإلميان وهو يتجر به ويربح األرباح الكثرية، فإذا سلب رأس

] وإال[صبح فقريا معدما، فإما أن يسعى بتحصيل رأس مال آخر بالتوبة النصوح واجلد والتشمري ماله أفقد فاته ربح كثري مبا أضاعه من رأس ماله، ومنها نقصان رزقه، فإن العبد حيرم الرزق بالذنب يصيبه،

مهانة وحقارة، ومنها ومنها ضعف بدنه، ومنها زوال املهابة واحلالوة الىت لبسها بالطاعة فتبدل هباحصول البغضة والنفرة منه ىف قلوب الناس، ومنها ضياع أعز األشياء عليه وأنفسها وأعالها، وهو الوقت الذى ال عوض منه، وال يعود إليه أبدا، ومنها طمع عدوه فيه وظفره به، فإنه إذا رآه منقادا

Page 222: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

به وجعله من حزبه حىت يصري هو وليه دن مواله مستجيبا ملا يأمره اشتد طمعه فيه وحدث نفسه بالظفراحلق، ومنها الطبع والرين على قلبه، فإن العبد إذا أذنب نكت ىف قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل : قلبه، وإن أذنب ذنبا آخر نكت فيه نكتة أخرى وال تزال حىت تعلو قلبه، فذلك هو الران، قال اهللا تعاىل

، ومنها أنه حيرم حالوة الطاعة، فإذا ]١٤: املطففني* [}لى قلوبهم ما كانوا يكسبونكال بل ران ع{فعلها مل جيد أثرها ىف قلبه من احلالوة والقوة ومزيد اإلميان والعقل والرغبة ىف اآلخرة، فإن الطاعة تثمر

بساحة القيامة، فإن القلب ال يزال ومنها أن متنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله. هذه الثمرات وال بدمشتتا مضيعا حىت يرحل من الدنيا وينزل ىف اآلخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على مجع أطرافه وقضاء جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده، وما مل يترحل إىل اآلخرة

.ت والكسل والبطالة الزمة له ال حمالةوحيضرها فالتعب والعناء والتشتومنها إعراض اهللا ومالئكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة اهللا واشتغل مبعاصيه أعرض اهللا عنه فأعرضت عنه مالئكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على اهللا أقبل اهللا عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه،

ر، مث يقوى أحدمها باآلخر فيستدعيان ثالثا، مث جتتمع الثالثة فتستدعى ومنها أن الذنب يستدعى ذنبا آخ .رابعا، وهلم جرا حىت تغمره ذنوبه وحتيط به خطيئته

إن من ثواب احلسنة احلسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومنها علمه : قال بعض السلفنسها، فإنه ال جيمع اهللا لعبده بني لذة احملرمات بفوات ما هو أحب إليه وخري له منها من جنسها وغري ج

.ىف الدنيا ولذة ما ىف اآلخرةويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم {: كما قال تعاىل

.طيباته ىف الدنيا، بل ال بد أن يترك بعض طيباته لآلخرة، فاملؤمن ال يذهب ]٢٠: األحقاف* [}بهاوأما الكافر فإنه ال يؤمن باآلخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته ىف الدنيا، ومنها علمه بأن أعماله هى زاده ووسيلته إىل دار إقامته، فإن تزود من معصية اهللا أوصله ذلك الزاد إىل دار العصاة

تزود من طاعته وصل إىل دار أهل طاعته وواليته، ومنها علمه بأن عمله هو وليه ىف قربه واجلناة، وإنوأنيسه فيه وشفيعه عند ربه واملخاصم واحملاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه، ومنها علمه

ن صعوده مع بأن أعمال الرب تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إىل اهللا به، فبحسب قوة تعلقه هبا يكوصعودها، وأعمال الفجور هتوى به وجتذبه إىل اهلاوية وجتره إىل أسفل سافلني، وحبسب قوة تعلقه هبا

إليه يصعد الكلم الطيب والعمل {: به، قال اهللا تعاىل] تستقر[يكون هبوطه معها ونزوله إىل حيث إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ال تفتح لهم أبواب { :، وقال تعاىل]١٠: فاطر* [}الصالح يرفعه

Page 223: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، فلما مل تفتح أبواب السماء ألعماهلم بل أغلقت عنها، مل تفتح ألرواحهم ]٤٠: األعراف* [}السمآء .عند املفارقة بل أغلقت عنها

واب السماء مفتوحة ألعماهلم حىت وصلت إىل اهللا سبحانه، وأهل اإلميان والعمل الصاحل ملا كانت أبفتحت ألرواحهم حىت وصلت إليه تعاىل وقامت بني يديه، فرمحها وأمر بكتابة امسها ىف عليني، ومنها خروجه من حصن اهللا الذى ال ضيعة على من دخله، فيخرج مبعصيته منه إىل حيث يصري هنبا للصوص

.وقطاع الطريقإىل خربة موحشة هى مأوى اللصوص وقطاع ] آفة[ن خرج من حصن حصني ال تدركه فيه فما الظن مب

الطريق فهل يتركون معه شيئا من متاعه؟ىف كل شيء من أمر دنياه وآخرته فإن الطاعة جتلب للعبد [ومنها أنه باملعصية قد تعرض حملق بركته

].بركات كل شيء واملعصية متحق منه كل بركةثار املعصية القبيحة أكثر من أن حييط هبا العبد علما، وآثار الطاعة احلسنة أكثر من أن حييط وباجلملة فآ

هبا علما فخري الدنيا واآلخرة حبذافريه ىف طاعة اهللا، وشر الدنيا واآلخرة حبذافريه ىف معصيته، وىف بعض ذاى الذى عصاىن فسعد من ذا الذى أطاعىن فشقى بطاعىت؟ ومن : اآلثار يقول اهللا سبحانه وتعاىل

مبعصيىت؟قصر األمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على اخلروج : السبب الثامن

فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على . منها، أو كراكب قال ىف ظل شجرة مث سار وتركهال خبري ما حبضرته، فليس للعبد أنفع من قصر ترك ما يثقله محله ويضره وال ينفعه، حريص على االنتقا

.األمل وال أضر من التسويف وطول األملجمانبة الفضول ىف مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعى إىل : السبب التاسع

ومن . إىل احلراماملعاصى إمنا تنشأ من هذه الفضالت، فإهنا تطلب هلا مصرفا فيضيق عليها املباح فتتعداه أعظم األشياء ضررا على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس ال تقعد فارغة، بل إن مل يشغلها مبا ينفعها

.شغلته مبا يضره وال بدثبات شجرة اإلميان ىف القلب، فصرب العبد عن املعاصى : وهو اجلامع هلذه األسباب كلها: السبب العاشر

لما كان إميانه أقوى كان صربه أمت وإذا ضعف اإلميان ضعف الصرب، فإن من إمنا هو حبسب قوة إميانه، فكباشر قلبه اإلميان بقيام اهللا عليه ورؤيته له، وحترميه ملا حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله وباشر قلبه

.اإلميان بالثواب والعقاب واجلنة والنار، وامتنع من أن ال يعمل مبوجب هذا العلم

Page 224: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ه يقوى على ترك املخالفات واملعاصى بدون اإلميان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى ومن ظن أنسراج اإلميان ىف القلب، وأضاءت جهاته كلها به، وأشرق نوره ىف أرجائه، سرى ذلك النور إىل

كارهة األعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت اإلجابة لداعى اإلميان، وانقادت له طائعة مذللة غري متثاقلة والفهو كل . بل تفرح بدعوته حني يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه احملسن إليه إىل حمل كرامته

.واهللا خيتص برمحته من يشاء، واهللا ذو الفضل العظيم. وقت يترقب داعيه، ويتأهب ملوافاته@ فصل

اعة من العواقب احلميدة والصرب على الطاعة ينشأ من معرفة هذه األسباب ومن معرفة ما جتلبه الطاإلميان واحملبة، فكلما قوى داعى اإلميان واحملبة ىف القلب كانت : واآلثار اجلميلة، ومن أقوى أسباهبا

.استجابته للطاعة حبسبهوههنا مسألة تكلم فيها الناس، وهى أى الصربين أفضل صرب العبد عن املعصية، أم صربه على الطاعة؟

أعمال : الصرب عن املعصية من وظائف الصديقني، كما قال بعض السلف: لتفطائفة رجحت األول وقاوألن داعى املعصية أشد من : قالوا. الرب يفعلها الرب والفاجر، وال يقوى على ترك املعاصى إال صديق

أمر وجودى تشتهيه النفس وتلتذ به، والداعى إىل ] داع أمر[دواعى ترك الطاعة، فإن داعى املعصية إىل .ك الطاعة الكسل والبطالة واملهانة، وال ريب أن داعى املعصية أقوىتر

وألن العصيان قد اجتمع عليه داعى النفس واهلوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناء الرجل وطلب : قالواالتشبه واحملاكاة وميل الطبع، وكل واحد من هذه الدواعى جيذب العبد إىل املعصية ويطلب أثره، فكيف

جتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأى صرب أقوى من صرب عن إجابتها؟ ولوال أن اهللا يصربه ملا تأتى إذا ا .منه الصرب

وهذا القول كما ترى حجته ىف غاية الظهور، ورجحت طائفة الصرب على الطاعة بناء منها على أن فعل وال ريب أن فعل .املأمور أفضل من ترك املنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة

املأمورات إمنا يتم بالصرب عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصرب عليها أفضل، وفصل النزاع ىف ذلك الكبرية أفضل من الصرب عن ] العظيمة[فالصرب على الطاعة : أن هذا خيتلف باختالف الطاعة واملعصية

من الصرب على الطاعة الصغرية، وصرب العبد املعصية الصغرية الدنية، والصرب عن املعصية الكبرية أفضل على اجلهاد مثال أفضل وأعظم من صربه عن كثري من الصغائر، وصربه عن كبائر اإلمث والفواحش أعظم

]الضحى[من صربه على صالة .واهللا أعلم. وصوم يوم تطوعا وحنوه، فهذا فصل النزاع ىف املسألة

Page 225: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فصل

:ب عديدةوالصرب على البالء ينشأ من أسبا .شهود جزائها وثواهبا: أحدها .شهود تكفريها للسيئات وحموها هلا: الثاىنشهود القدر السابق اجلارى هبا، وأهنا مقدرة ىف أم الكتاب قبل أن خيلق فال بد منها، فجزعه ال : الثالث

.يزيده إال بالءخالف بني األمة، أو الصرب والرضا شهوده حق اهللا عليه ىف تلك البلوى، وواجبه فيها الصرب بال: الرابع

على أحد القولني، فهو مأمور بأداء حق اهللا وعبوديته عليه ىف تلك البلوى، فال بد له منه وإال تضاعفت .عليه

* }ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم{: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال اهللا تعاىل: اخلامس، فهذا عام ىف كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب باالستغفار الذى هو ]٣٠: ورىالش[

ما نزل بالء إال بذنب، وال رفع بالء إال : قال على بن أىب طالب. أعظم األسباب ىف دفع تلك املصيبة .بتوبة

تضى رضاه مبا رضى له به أن يعلم أن اهللا قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية تق: السادسسيده ومواله، فإن مل يوف قدر املقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إىل مقام الصرب عليها، فإن نزل عنه نزل

.إىل مقام الظلم وتعدى احلقأن يعلم أن هذه املصيبة هى دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم مبصلحته الرحيم به، فليصرب على : السابع

.تقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطالجترعه، وال يأن يعلم أن ىف عقىب هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال األمل ما مل حتصل بدونه، فإذا : الثامن

وعسى أن {: تعاىل] اهللا[قال . طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إىل عاقبته وحسن تأثريه: البقرة* [}ئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، واهللا يعلم وأنتم ال تعلمونتكرهوا شي

٢١٦.[ وىف مثل هذا ] ١٩: النساء* [}فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل اهللا فيه خيرا كثريا{: وقال اهللا تعاىل

:القائل لعل عتبك حممود عواقبه ورمبا صحت األجسام بالعلل

Page 226: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أن يعلم أن املصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإمنا جاءت لتمتحن صربه وتبتليه، فيتبني حينئذ هل : التاسعيصلح الستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم ال؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع اإلكرام

وجعل أولياءه وحزبه خدما له وعونا له، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه وألبسه مالبس الفضلطرد وصفع قفاه وأقصى وتضاعفت عليه املصيبة، وهو ال يشعر ىف احلال بتضاعفها وزيادهتا، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن املصيبة ىف حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن املصيبة ىف حقه صارت نعما

.ةعديدواملصيبة ال بد أن تقلع . وما بني هاتني املنزلتني املتباينتني إال صرب ساعة، وتشجيع القلب ىف تلك الساعة

عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات واخلريات، وعن اآلخر باحلرمان واخلذالن، ألن .ضل العظيمذلك تقدير العزيز العليم، وفضل اهللا يؤتيه من يشاء واهللا ذو الف

أن يعلم أن اهللا يرىب عبده على السراء والضراء، والنعمة والبالء، فيستخرج منه عبوديته ىف مجيع : العاشرفإن العبد على احلقيقة من قام بعبودية اهللا على اختالف األحوال، وأما عبد السراء والعافية . األحوال

أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذى يعبد اهللا على حرف فإن أصابه خري اطمأن به وإنفال ريب أن اإلميان الذى يثبت على حمل االبتالء والعافية هو اإلميان النافع وقت . الذين اختارهم لعبوديته

احلاجة، وأما إميان العافية فال يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل املؤمنني، وإمنا يصحبه إميان يثبت على .ةالبالء والعافي

، وإما أن خيرج فيه ]غضا[فإما أن خيرج تربا أمحر، وإما أن خيرج زغال : إميانه] حمل[فاالبتالء كري العبد مادتان ذهبية وحناسية، فال يزال به البالء حىت خيرج املادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبا خالصا فلو

مة اهللا عليه ىف العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، علم العبد أن نعمة اهللا عليه ىف البالء ليست بدون نعاللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكيف ال يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه وحناسه وصريه تربا خالصا يصلح جملاورته والنظر إليه ىف داره؟ فهذه األسباب وحنوها تثمر الصرب على

.لشكرالبالء، فإن قويت أمثرت الرضا وا .فنسأل اهللا أن يسترنا بعافيته، وال يفضحنا بابتالئه مبنه وكرمه

فصل

وهو من منازل العوام، وهو اخنالع عن السرور، ومالزمة : ((احلزن، قال أبو العباس: املثال السادسء ىف رق وإمنا كان من منازل العوام ألن فيه نسيان املنة، والبقا. الكآبة لتأسف عن فائت أو توجع ملمتنع

Page 227: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الطبع، وهو ىف مسالك اخلواص حجاب، ألن معرفة اهللا جال نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل .فبذلك فليفرحوا. غمةفعما قليل أفرغ الدار . يا داود ىب فافرح، وبذكرى فتلذذ، ومبعرفىت فافتخر: أوحى اهللا إىل داود: وقيل

)).من الفاسقني، وأنزل نقمىت على الظاملنيوهلذا مل يأمر اهللا . أن احلزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات اإلميان وال من منازل السائريناعلم

: به ىف موضع قط وال أثىن عليه، وال رتب عليه جزاء وال ثوابا، بل هنى عنه ىف غري موضع كقوله تعاىلوال تحزن {: ، وقال تعاىل]١٣٩: آل عمران* [}ؤمننيوال تهنوا وال تحزنوا وأنتم األعلون إن كنتم م{

فال تأس على القوم {: ، وقال تعاىل]١٢٧: النحل* [}عليهم وال تك فى ضيق مما يمكرون، فاحلزن هو ]٤٠: التوبة* [}إذ يقول لصاحبه ال تحزن إن اهللا معنا{: ، وقال]٢٦: املائدة* [}الفاسقني

الحمد هللا الذى أذهب عنا {: بلية من الباليا الىت نسأل اهللا دفعها وكشفها، وهلذا يقول أهل اجلنة .، فحمده على أن أذهب عنهم تلك البلية وجناهم منها]٣٤: فاطر* [}الحزن

اللهم إىن أعوذ بك من اهلم : (( دعائهوىف الصحيح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه كان يقول ىف )).واحلزن، والعجز والكسل، واجلنب والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجالفاهلم واحلزن قرينان، ومها األمل : فاستعاذ صلى اهللا عليه وسلم من مثانية أشياء كل شيئني منها قرينان

فاألمل الوارد . على ما يستقبل فهو اهلم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو احلزن، وإن كانوالعجز والكسل . إن كان مصدره فوت املاضى أثر احلزن، وإن كان مصدره خوف اآلتى أثر اهلم

قرينان، فإن ختلف مصلحة العبد وبعدها عنه إن كان من عدم القدرة فهو عجز، وإن كان من عدم يفرح القلب ويشرح الصدر وجيلب النعم ويدفع اإلرادة فهو كسل واجلنب والبخل قرينان، فإن اإلحسان

النقم، وتركه يوجب الضيم والضيق ومينع وصول النعم إليه، فاجلنب ترك اإلحسان بالبدن، والبخل ترك قرينان، فإن القهر والغلبة احلاصلة للعبد إما منه وإما من ] وضلع الدين وغلبة الرجال[اإلحسان باملال،

.ق وإما بباطل من غريهإما حب: غريه، وإن شئت قلتوذلك ألن احلزن يضعف القلب . واملقصود أن النىب صلى اهللا عليه وسلم جعل احلزن مما يستعاذ منه

إنما النجوى {: ويوهن العزم، ويضر اإلرادة، وال شيء أحب إىل الشيطان من حزن املؤمن، قال تعاىل، فاحلزن مرض من أمراض القلب مينعه من هنوضه ]١٠: اجملادلة* [}من الشيطان ليحزن الذين آمنوا

وسريه وتشمريه، والثواب عليه ثواب املصائب الىت يبتلى العبد هبا بغري اختياره، كاملرض واألمل وحنومها، وأما أن يكون عبادة مأمورا بتحصيلها وطلبها فال، ففرق بني ما يثاب عليه العبد من املأمورات، وما

.. ولكن حيمد ىف احلزن سببه ومصدره والزمه ال ذاته، فإن املؤمن إما أن حيزن. ب عليه من البلياتيثا

Page 228: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

على تفريطه وتقصريه خدمة ربه وعبوديته، وأما أن حيزن على تورطه ىف خمالفته ومعصيه وضياع أيامه .وأوقاته

ذا األمل فحزن عليه، ولو كان وهذا يدل على صحة اإلميان ىف قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه مبثل هقلبه ميتا مل حيس بذلك ومل حيزن ومل يتأمل، فما جلرح مبيت إيالم، وكلما كان قلبه أشد حياة كان

.شعوره هبذا األمل أقوى، ولكن احلزن ال جيدى عليه، فإنه يضعفه كما تقدمانقطع عن رفقته ىف السفر، بل الذى ينفعه أن يستقبل السري وجيد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظري من فكلما فتر وحزن حدث . فجلس ىف الطريق حزينا كئيبا يشهد انقطاعه وحيدث نفسه باللحاق بالقوم

فهكذا السالك . نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صربت أن تلحق هبم، ويزول عنها وحشة االنقطاعه على قطع الوقت بالتفرقة املضعفة للقلب إىل منازل األبرار، وديار املقربني وأخص من هذا احلزن حزن

عن متام سريه وجده ىف سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البالء على السالك، وال سيما ىف ابتداء أمره، ، وهذا حزن على نقص حاله مع اهللا وتفرقة قلبه وكيف صار ]األعمال[فاألول حزن على التفريط ىف

.معبودهظرفا لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغري وأخص من هذا احلزن حزنه على جزء من أجزاء قلبه كيف هو خال من حمبة اهللا؟ وعلى جزء من أجزاء بدنه كيف هو منصرف ىف غري حماب اهللا؟ فهذا حزن اخلاصة، ويدخل ىف هذا حزهنم على كل معارض

.يشغلهم عما هم بصدده من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارجال يدعها متلكه وتقعده، بل جيعل ] من[حلزن ال بد منها ىف الطريق ولكن الكيس فهذه املراتب من ا

عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن املكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغرية اشتغلت بفكرها فيه وىف حصوله عن الفكرة ىف األسباب الىت يدفعها به فأورثها احلزن، وإن كانت نفسا كبريةشريفة مل تفكر فيه، بل تصرف فكرها إىل ما ينفعها فإن علمت منه خمرجا فكرت ىف طريق ذلك املخرج

وكان ذلك عوضا هلا من احلزن، فعلى . وأسبابه وإن علمت أنه ال خمرج منه، فكرت ىف عبودية اهللا فيه .كل حال ال فائدة هلا ىف احلزن أصال واهللا أعلم

معرفة اهللا جال نورها كل :]: ((رمحه اهللا[وقوله . اخلاصة من احلزن ىف شيءليست : وقال بعض العارفنيكالم ىف غاية احلسن، فإن من عرف اهللا أحبه وال بد، ومن أحبه )) ظلمة، وكشف سرورها كل غمةعن قلبه اهلموم والغموم واألحزان، وعمر قلبه بالسرور ] وانكشفت[انقشعت عنه سحائب الظلمات،

] تعاىل[ت إليه وفود التهاىن والبشائر من كل جانب، فإنه ال حزن مع اهللا أبدا، وهلذا قال واألفراح وأقبل، ]٤٠: التوبة* [}ال تحزن إن اهللا معنا{: حكاية عن نبيه صلى اهللا عليه وسلم أنه قال لصاحبه أىب بكر

احلزن كل احلزن ملن فاته اهللا، فمن فدل أنه ال حزن مع اهللا، وأن من كان اهللا معه فما له وللحزن؟ وإمنا

Page 229: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قل بفضل اهللا وبرحمته {: حصل اهللا له فعلى أى شيء حيزن؟ ومن فاته اهللا فبأى شيء يفرح؟ قال تعاىل .، فالفرح بفضله ورمحته تبع للفرح به سبحانه]٥٨: يونس* [}فبذلك فليفرحوا

. من حبيب أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك: أحد مبا يفرح بهفاملؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل يفرح املؤمن بربه أعظم من هذا كله، وال ينال القلب حقيقة احلياة حىت جيد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها ىف قلبه ومضرهتا ىف وجهه، فيصري له حال من حال أهل اجلنة حيث لقاهم اهللا نضرة

.وسروراهذا فليعمل العاملون، وىف ذلك فليتنافس املتنافسون، فهذا هو العلم الذى مشر إليه أولو اهلمم فلمثل

.والعزائم، واستبق إليه أصحاب اخلصائص واملكارم بعد أبواال] فماذا[تلك املكارم ال قعبان من لنب شيبا مباء

فصل

ن طمأنينة األمن والتيقظ لنداء الوعيد، واحلذر هو االخنالع ع: ((قال أبو العباس. اخلوف: واملثال السابعوهو من منازل العوام أيضا، وليس ىف منازل اخلواص خوف، ألنه ال أمان للغافل، . من سطوة العقاب

ترى الظالمني مشفقني مما {: إمنا يعبد مواله على وحشة من نظره، ونفرة من األنس به عند ذكره ].٢٢: الشورى* [}واقع بهمكسبوا وهو

وأما اخلواص أهل االختصاص، فإهنم جعلوا الوعيد منه وعدا، والعذاب فيه عذبا ألهنم شاهدوا املبتلى ىف :قال قائلهم. البالء، واملعذب ىف العذاب، فاستعذبوا ما وجدوا ىف جنب ما شاهدوا ىف ذلك

سقمى ىف احلب عاقـبىت ووجودى ىف اهلوى عدمي عذاب ترتضون بــه ىف فمى أحلى من النـعمو

ألن املشاهد توجب . ومن كان مستغرقا ىف املشاهدة حل ىف بساط األنس، فال يبقى للخوف بساحته أمل )).األنس، واخلوف يوجب القبض

مث ذكر حكاية املضروب الذى ضرب مائة سوط فلم يتأمل ألجل نظر حمبوبه إليه، مث ضرب سوطا فصاح : الشورى* [}والكافرون لهم عذاب شديد{: وقد قيل ىف قوله تعاىل: ((قال. رى عنه حمبوبهملا توا، دليل خطابه أن املؤمنني هلم عذاب ولكن ليس بشديد، وإمنا كان عذاب الكافرين شديدا ألهنم ال ]٢٦

من املعطى صعب يشاهدون املعذب هلم، والعذاب على شهود املعذب عذب، والثواب على الغفلة ))فاخلوف إذا من منازل العوام

:والكالم على ما ذكره من وجوه

Page 230: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

: أن اخلوف أحد أركان اإلميان واإلحسان الثالثة الىت عليها مدار مقامات السالكني مجيعها وهى: أحدها اخلوف، والرجاء، واحملبة وقد ذكره سبحانه

أولئك الذين * ن دونه فال يملكون كشف الضر عنكم وال حتويال قل ادعوا الذين زعمتم م{ : ىف قوله، ]٥٧ -٥٦: اإلسراء* [}يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه

ويرجون : (مث يقول. غاء الوسيلة إليه هو التقرب إليه حببه وفعل ما حيبهفجمع بني املقامات الثالثة، فإن ابت، فذكر احلب واخلوف والرجاء، واملعىن أن الذين تدعوهنم من دون اهللا من )رحمته ويخافون عذابه

نكم عبيده، فلماذا املالئكة واألنبياء والصاحلني يتقربون إىل رهبم وخيافونه ويرجونه، فهم عبيده كما أفال تخافوهم وخافون إن {: تعبدوهنم من دونه وأنتم وهم عبيد له؟ وقد أمر سبحانه باخلوف منه ىف قوله

، فجعل اخلوف منه شرطا ىف حتقق اإلميان، وإن كان الشرط داخال ]١٧٥: آل عمران* [}كنتم مؤمننيط ىف املعىن، واخلوف شرط ىف حصوله وحتققه، وذلك ألن اإلميان ىف الصيغة على اإلميان فهو املشرو

سبب اخلوف احلاصل عليه، وحصول املسبب شرط ىف حتقق السبب كما أن حصول السبب موجب حلصول مسببه، فانتفاء اإلميان عند انتفاء اخلوف انتفاء للمشروط عند انتفاء شرطه، وانتفاء اخلوف عند

.فتدبره. اء للمعلول عند انتفاء علتهانتفاء اإلميان انتفواجلزاء حمذوف مدلول عليه باألول عند سيبويه وأصحابه، أو هو . إن كنتم مؤمنني فخافوىن: واملعىن

.املتقدم نفسه، وهو جزاء وإن تقدم كما هو مذهب الكوفينيوكل منهما مستلزم وعلى التقديرين فأداة الشرط قد دخلت على السبب املقتضى للخوف وهو اإلميان،

.لآلخر لكن االستلزام خمتلف، وكل منهما منتف عند انتفاء اآلخر، لكن جهة االنتفاء خمتلفة كما تقدمفال تخشوا الناس {: وقال تعاىل. أن اخلوف من لوازم اإلميان وموجباته فال خيتلف عنه: واملقصود ].٤٤: املائدة* [}واخشون

: على أقرب عباده إليه باخلوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثىن عليهم ومدحهموقد أثىن سبحانه الرجاء والرغبة، : ، فالرغب]٩٠: األنبياء* [}إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا{

يخافون ربهم من فوقهم {: ذابهاخلوف واخلشية، وقال عن مالئكته الذين قد أمنهم من ع: والرهب ].٥٠: النحل* [}ويفعلون ما يؤمرون

، وىف لفظ ))إىن أعلمكم باهللا وأشدكم له خشية: ((وىف الصحيح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قالره أزيز كأزيز ، وكان صلى اهللا عليه وسلم يصلى ولصد))إىن أخوفكم هللا وأعلمكم مبا أتقى: ((آخر

، فكلما كان ]٢٨: فاطر* [}إنما يخشى اهللا من عباده العلماء{: املرجل من البكاء، وقد قال تعاىل .العبد باهللا أعلم كان له أخوف

Page 231: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ونقصان اخلوف من اهللا إمنا هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف . وكفى خبشية اهللا علما: قال ابن مسعودأخشاهم هللا، ومن عرف اهللا اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له، وكلما ازداد معرفة ازداد حياء الناس

وخوفا وحبا، فاخلوف من أجل منازل الطريق، وخوف اخلاصة أعظم من خوف العامة، وهم إليه امة فإن كان مائال فإن العبد إما أن يكون مستقيما أو مائال عن االستق. أحوج، وهو هبم أليق، وهلم ألزم

عن االستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، وال يصح اإلميان إال هبذا اخلوف :وهو ينشأ من ثالثة أمور

.معرفته باجلناية وقبحها: أحدها .تصديق الوعيد وأن اهللا رتب على املعصية عقوبتها: والثاىنفبهذه األمور الثالثة يتم له . ينها إذا ارتكب الذنبأنه ال يعلم لعله مينع من التوبة وحيال بينه وب: والثالث

اخلوف، وحبسب قوهتا وضعفها تكون قوة اخلوف وضعفه، فإن احلامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه بقبحه، وإما عدم علمه بسوء عاقبته، وإما أن جيتمع له األمران لكن حيمله عليه اتكاله على التوبة،

اإلميان، فإذا علم قبح الذنب وعلم سوء مغبته وخاف أن ال يفتح له باب وهو الغالب من ذنوب أهل .هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. التوبة بل مينعها وحيال بينه وبينها اشتد خوفه

وباجلملة فمن استقر ىف قلبه ذكر الدار اآلخرة وجزائها، وذكر املعصية والتوعد عليها، وعدم الوثوق وأما إن كان مستقيما . لتوبة النصوح هاج ىف قلبه من اخلوف ما ال ميلكه وال يفارقه حىت ينجوبإتيانه با

مع اهللا فخوفه يكون مع جريان األنفاس، لعلمه بأن اهللا مقلب القلوب، وما من قلب إال وهو بني أزاغه، كما ثبت عن إصبعني من أصابع الرمحن عز وجل، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه

، وقال بعض ))ال ومقلب القلوب، ال ومقلب القلوب: ((النىب صلى اهللا عليه وسلم، وكانت أكثر ميينه .القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا: السلف

ىف ويكفى . مثل القلب ىف سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فالة تقلبها الرياح ظهرا لبطن: وقال بعضهم، فأى قرار ملن هذه حاله؟ ]٢٤: األنفال* [}واعلموا أن اهللا يحول بين المرء وقلبه{: هذا قوله تعاىل

فاخلوف . ومن أحق باخلوف منه؟ بل خوفه الزم له ىف كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أخرى عليهء غري العلم به، فاخلوف األول مثرة العلم بالوعد حشو قلبه، لكن توارى عنه بغلبة غريه، فوجود الشي

والوعيد، وهذا اخلوف مثرة العلم بقدرة اهللا وعزته وجالله، وأنه الفعال ملا يريد وأنه احملرك للقلب .املصرف له املقلب له كيف يشاء ال إله إال هو

] للله[ن اخلاصة أشد خوفا قد تبني فساده، وأ)) وليس ىف منازل اخلواص خوف: ((قوله: الوجه الثاىن .من العامة

Page 232: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ترى {: العاقل يعبد ربه على وحشة من نظره ونفرة من األنس به عند ذكره: قوله: الوجه الثالث، فهذا إمنا هو وحشة ونفار، وهو غري اخلوف، فإن الوحشة إما ]٢٢: الشورى* [}الظالمني مشفقني

فإنه يوجب هروبا إىل اهللا ومجعية عليه وسكونا إليه، فهى خمافة تنشأ من عدم اخلوف، وأما اخلوف مقرونة حبالوة وطمأنينة وسكينة وحمبة، خبالف خوف املسيء اهلارب من اهللا فإنه خوف مقرون بوحشة ونفرة فخوف اهلارب إليه سبحانه حمشو باحلالوة والسكينة واألنس ال وحشة معه، وإمنا جيد الوحشة من

.نفسهنظر إىل نفسه وجنايته فيوجب له وحشة، ونظر إىل ربه وقدرته عليه وعزه وجالله فيوجب : نظران فله

.له خوفا مقرونا بأنس وحالوة وطمأنينة: الشورى* [}ترى الظالمني مشفقني مما كسبوا وهو واقع بهم{: إن استشهاده بقوله: الوجه الرابع

.دا صحيحا، فإن هذا وصف حلاهلم ىف اآلخرة عند معاينة العذاب أو عند املوت، ليس استشها]٢٢فهذا إشفاق مقرون باالستيحاش، ألنه قد علم أنه صائر إليه كمن قدم إىل العقوبة ورأى أسباهبا، فهو

.فليست اآلية من اخلوف املأمور به ىف شيء. مشفق منها إذا رآها لعلمه بأنه صائر إليهاوهلذا يزول اخلوف . أن اخلوف يتعلق باألفعال، وأما احلب فإنه يتعلق بالذات والصفات: اخلامس الوجه

.ىف الجنة، وأما احلب فيزداد: ، قال البخارى ىف صحيحه))الودود((وملا كان احلب يتعلق بالذات كان من أمسائه سبحانه

ال خيرج عن كون سببه جناية العبد، وإن و] سبحانه[، وأما اخلوف فإن متعلقه أفعال الرب ))احلبيب((ال يرجون عبد إال ربه، وال ]: رضى اهللا عنه[وهلذا قال على بن أىب طالب . كانت جنايته من قدر اهللا

.خيافن عبد إال ذنبهوالفرق . فمتعلق اخلوف ذنب العبد وعاقبته، وهى مفعوالت للرب، فليس اخلوف عائدا إىل نفس الذات

.ب أن احلب سببه الكمال، وذاته تعاىل هلا الكمال املطلق، وهو متعلق احلب التامبينه وبني احلوهبذا يعلم بطالن قول من . وأما اخلوف فسببه توقع املكروه، وهذا إمنا يكون ىف األفعال واملفعوالت

. تيهزعم أنه سبحانه يخاف ال لعلة وال لسبب، بل كما خياف السيل الذى ال يدرى العبد من أين يأ .وهذا بناء من هؤالء على نفى حمبته سبحانه وحكمته

وأنه ليس إال حمض املشيئة واإلرادة الىت ترجح مثال على مثل بال مرجح، وال يراعى فيها حكمة وال وهوالء عندهم اخلوف يتعلق بنفس الذات من غري نظر إىل فعل العبد وأنه سبب املخافة، إذ . مصلحة

وعند هؤالء . كمة، بل إرادة حمضة يفعل هبا ما يشاء من تنعيم وتعذيبليس عندهم سبب وال ح

Page 233: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وهذا من قلة . تأثري ىف اخلوف] ألفعاهلم[وليس . فاخلوف الزم للعبد ىف كل حال، أحسن أم أساء .نصيبهم من املعرفة باهللا وكماله وحكمته

د إال ربه، وال خيافن إال ذنبه؟ فجعل ال يرجون عب] رضى اهللا عنه[وأين هذا من قول أمري املؤمنني على وأما اخلوف فمتعلق . الرجاء متعلقا بالرب سبحانه وتعاىل، ألن رمحته من لوازم ذاته، وهى سبقت غضبه

.بالذنب، فهو سبب املخافة، حىت لو قدر عدم الذنب بالكلية مل تكن خمافةلىت هى أسباب املخافة، وشدة خوف معصومون من الذنوب ا] وهم[فما وجه خوف املالئكة : فإن قيل

النىب صلى اهللا عليه وسلم مع علمه بأن اهللا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنه أقرب اخللق إىل :عن هذا أربعة أجوبة: اهللا؟ قيل

وكلما كان العبد أقرب إىل اهللا . إن هذا اخلوف على حسب القرب من اهللا واملنزلة عنده: اجلواب األولن خوفه منه أشد، ألنه يطالب مبا ال يطالب به غريه، وجيب عليه من رعاية تلك املنزلة وحقوقها ما ال كا

.جيب على غريهبني يدى أحد امللوك املشاهد له أشد خوفا منه من البعيد عنه، حبسب ] املاثل[ونظري هذا ىف املشاهد أن

اخلدمة وأدائها مبا ال يطالب به ] حقوقه[ب من قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وحبقوقه، وأنه يطال .غريه، فهو أحق باخلوف من البعيد

، ))إىن أعلمكم باهللا وأشدكم له خشية: ((ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله صلى اهللا عليه وسلم وفهم قوله صلى اهللا عليه وسلم ىف احلديث الذى رواه أبو داود وغريه من حديث زيد بن ثابت عن النىب

إن اهللا تعاىل لو عذب أهل مسواته وأهل أرضه لعذهبم وهو غري ظامل هلم : ((صلى اهللا عليه وسلم أنه قال )).ولو رمحهم كانت رمحته هلم خريا من أعماهلمكما يظنه كثري من الناس، - واملتصرف ىف ملكه غري ظامل -وليس املراد به لو عذهبم لتصرف ىف ملكه

وبيان عظم حق اهللا على عباده وأنه لو عذهبم لعذهبم [حلديث إمنا سيق للمدح فإن هذا يتضمن مدحا، وا: وهلذا قال بعده. بغري استحقاق، فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف أضعاف ما أتوا] حبقه عليهم ومل يكن

لغ ليست مثنا ألعماهلم وال تب[يعىن أن رمحته هلم )) ولو رمحهم كانت رمحته خريا هلم من أعماهلم((ليست على قدر أعماهلم، إذ أعماهلم ال تستقل باقتضاء الرمحة، وحقوق ] أعماهلم رمحته فرمحته هلم

عبوديته وشكره الىت يستحقها عليهم مل يقوموا هبا، فلو عذهبم واحلالة هذه لكان تعذيبا حلقه، وهو غري فتبقى نعمه الكثرية ال مقابل هلا من وال سيما فإن أعماهلم ال توازى القليل من نعمه عليهم، . ظامل هلم فيه

.شكرهم، فإذا عذهبم على ترك شكرهم وأداء حقه الذى ينبغى له سبحانه عذهبم ومل يكن ظاملا هلم

Page 234: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فكيف . مقدورهم من شكره وعبوديته مل يكن ما عداه مما ينبغى له مقدورا هلم] فعلوا[فهم إذا : فإن قيل :هنياجلواب من وج: حيسن العذاب عليه؟ قيل

وأيضا ففى نفس . أن املقدور للعبد ال يأتى به كله، بل ال بد من فتور وإعراض وغفلة وتوان: أحدمهاقيامه بالعبودية ال يوفيها حقها الواجب هلا من كمال املراقبة واإلجالل والتعظيم والنصيحة التامة هللا فيها،

، فالتقصري الزم ىف حال الترك وىف حال حبيث يبذل مقدوره كله ىف حتسينها وتكميلها ظاهرا وباطنااللهم إىن ظلمت نفسى ظلما : قل: ((الفعل، وهلذا سأل الصديق النىب، دعاء يدعو به ىف صالته، فقال له

، فأخرب ))كثريا وال يغفر الذنوب إال أنت، فاغفر ىل مغفرة من عندك وارمحىن إنك أنت الغفور الرحيمن املقتضية ثبوت اخلرب وحتققه، مث أكده باملصدر الناىف للتجوز واالستعارة، عن ظلمه لنفسه مؤكدا له بأ

، أى ال يناهلا عملى وال ))فاغفر ىل مغفرة من عندك: ((مث وصفه بالكثرة املقتضية لتعدده وتكثره، مث قال: لمث قا. سعىي بل عملى يقصر عنها، وإمنا هى من فضلك وإحسانك، ال بكسىب وال باستغفارى وتوبىت

أى ليس معوىل إال على جمرد رمحتك، فإن رمحىت وإال فاهلالك الزم ىل فليتدبر اللبيب هذا )) وارمحىن((إنه لو عذبتىن لعدلت ىف ومل يتظلمىن، وإىن ال أجنو إال : الدعاء وما فيه من املعارف والعبودية، وىف ضمنه

وال أنت : قالوا)) أحدا منكم عمله لن ينجى: ((ومن هذا قوله صلى اهللا عليه وسلم. برمحتك ومغفرتك، فإذا كان عمل العبد ال يستقل ))وال أنا إال أن يتغمدىن اهللا برمحة منه وفضل: ((يا رسول اهللا؟ قال

بالنجاة، فلو مل ينجه اهللا فلم يكن قد خبسه شيئا من حقه وال ظلمه، فإنه ليس معه ما يقتضى جناته، عمه، فهل يكون ظاملا له لو عذبه؟ وهل تكون رمحته له جزاء لعمله، وعمله ليس وافيا بشكر القليل من ن

ويكون العمل مثنا هلا مع تقصريه فيه وعدم توفيته ما ينبغى له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من ىف احلياء واملراقبة، واحملبة واخلشوع وحضور القلب بني يدى اهللا ىف العمل له؟ ومن علم هذا علم السر

كان رسول اهللا صلى اهللا : ((كون أعمال الطاعات ختتم باالستغفار، ففى صحيح مسلم عن ثوبان قالاللهم أنت السالم ومنك السالم تباركت يا ذا : وقال. عليه وسلم إذا سلم من صالته استغفر ثالثا

* }وباألسحار هم يستغفرون* عون كانوا قليال من الليل ما يهج{: ، قال تعاىل))اجلالل واإلكراممدوا الصالة إىل السحر، : قال احلسن. ، فأخرب عن استغفارهم عقيب صالة الليل]١٨ -١٧: الذاريات[

.فلما كان السحر جلسوا يستغفرون اهللايث أفاض الناس ثم أفيضوا من ح{: وأمر اهللا تعاىل عباده باالستغفار عقيب اإلفاضة ىف احلج فقال

، وشرع رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم للمتوضيء ]١٩٩: البقرة* [}واستغفروا اهللا إن اهللا غفور رحيمله، أشهد أن ال إله إال اهللا وأشهد أن محمدا عبده ورسو: ((أن خيتم وضوءه بالتوحيد واالستغفار فيقول

Page 235: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، فهذا وحنوه مما يبني حقيقة األمر، وأن كل أحد ))اللهم اجعلنى من التوابني واجعلنى من المتطهرين .حمتاج إىل مغفرة اهللا ورمحته، وأنه ال سبيل إىل النجاة بدون مغفرته ورمحته أصال

له من الطاعة ظاهرا وباطنا، فالذى ينبغى لربه أنه لو فرض أن العبد يأتى مبقدوره ك: اجلواب الثاىنوالذى . فإذا عجز العبد عنه مل يستحق ما يترتب عليه من اجلزاء. فوق ذلك وأضعاف أضعافه] سبحانه[

من عبده كان ذلك تعذيبا ] سبحانه[فإذا حرم جزاء العمل الذى ينبغى للرب . أتى به ال يقابل أقل النعم .ا له ىف هذا احلرمانله، ومل يكن الرب ظامل

فإذا أعطاه الثواب كان . ولو كان عاجزا عن أسبابه فإنه مل مينعه حقا يستحقه عليه فيكون ظاملا مبنعهجمرد صدقة منه وفضل تصدق هبا عليه ال يناهلا عمله، بل هى خري من عمله وأفضل وأكثر، ليست

.واهللا أعلم. معوضة عليهإن العبد إذا علم أن اهللا سبحانه وتعاىل هو مقلب القلوب، وأنه حيول : ولاجلواب الثالث عن السؤال األ

شأن، يفعل ما يشاء وحيكم ما يريد وأنه يهدى من ] هو ىف[كل يوم ] سبحانه[بني املرء وقلبه وأنه تعاىل ينه وبينه يشاء ويضل من يشاء، ويرفع من يشاء وخيفض من يشاء، فما يؤمنه أن يقلب اهللا قلبه وحيول ب

آل * [}ربنا ال تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا{: ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثىن اهللا على عباده املؤمنني بقوهلم .، فلوال خوف اإلزاغة ملا سألوه أن ال يزيغ قلوهبم]٨: عمران

...)يتبع(لوب، صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم مصرف الق: ((وكان من دعاء النىب صلى اهللا عليه وسلم@

أعوذ : ((، وىف الترمذى عنه صلى اهللا عليه وسلم أنه كان يدعو))ومثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك )).بعزتك أن تضلىن أنت احلى الذى ال متوت

عقوبتك وأعوذ بك اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من : ((وكان من دعائه )).منك

وكأن . فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين .ىف استعاذته منه مجعا ملا فصله ىف اجلملتني قبله

مال التوحيد وأن فإن االستعاذة به منه ترجع إىل معىن الكالم قبلها، مع تضمنها فائدة شريفة وهى كفإذا . ويهرب منه إمنا هو فعل اهللا ومشيئته وقدره، فهو وحده املنفرد باحلكم] العائد[الذى يستعيذ به

فصار . فهو الذى يريد به ما يسوؤه، وهو الذى يريد دفعه عنه. أراد بعبده سوءا مل يعذه منه إال هو: األنعام* [}سسك اهللا بضر فال كاشف له إال هووإن مي{: سبحانه مستعاذا به منه باعتبار اإلرادتني

، فهو الذى ميس بالضر، وهو الذى يكشفه، ال إله إال هو فاملهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأ ]١٧

Page 236: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فهو الذى حيركه ويقلبه، ويصرفه.منه إليه، كما أن االستعاذة منه، فإنه ال رب غريه وال مدبر للعبد سواه .كيف يشاء

أن اهللا سبحانه وتعاىل هو الذى خيلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذى جيعل : اجلواب الرابعاإلميان واهلدى ىف القلب وجيعل التوبة واإلنابة واإلقبال واحملبة والتفويض وأضدادها والعبد ىف كل حلظة

.ا ىف طاعتهمفتقر إىل هداية جيعلها اهللا ىف قلبه وحركات حيركها هباللهم آت : ((وهذا إىل اهللا سبحانه وتعاىل فهو خلقه وقدره، وكان من دعاء النىب صلى اهللا عليه وسلم

: وعلم حصني بن املنذر أن يقول)) نفسى تقواها، وزكها أنت خري من زكاها، أنت وليها وموالهاعليه وسلم متضمنة لطلب توفيق ربه ، وعامة أدعيته صلى اهللا ))اللهم أهلمىن رشدى وقىن شر نفسى((

وتزكيته له واستعماله ىف حمابه، فمن هداه وصالحه وأسباب جناته بيد غريه، وهو املالك له وهلا، من أمره شيء، من أحق باخلوف منه؟ وهب أنه قد خلق له ىف احلال ] له[املتصرف فيه مبا يشاء ليس

وتعاىل خيلقها له ىف املستقبل ويلهمه رشده أبدا؟ فعلم أن اهلداية، فهل هو على يقني وعلم أن اهللا سبحانهخوف املقربني عند رهبم أعظم من خوف غريهم واهللا املستعان، ومن هاهنا كان خوف السابقني من

.أنتم ختافون الذنب، وأنا أخاف الكفر: فوات اإلميان كما قال بعض السلفمساىن لك رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم؟ يعىن نشدتك اهللا هل: وكان عمر بن اخلطاب يقول حلذيفة

رواه البخارى يعىن ال أفتح على هذا الباب ىف سؤال )) ال، وال أزكى بعدك أحدا: ىف املنافقني فيقول .الناس ىل، وليس مراده أنه مل خيلص من النفاق غريك

العذاب فيه عذبا، ألهنم شاهدوا وأما اخلواص فإهنم جعلوا الوعيد منه وعدا، و: ((قوله]: الوجه اخلامس[ .إىل آخر كالمه)) املبتلى واملعذب فاستعذبوا ما وجدوا ىف جنب ما شاهدوا

فمن ذا الذى جعل . هذا الكالم وحنوه من رعونات النفس، ومن الشطحات الىت جيب إنكارها: فيقالده وعذابه ىف احلقيقة؟ وأى عذاب ؟ وهل هذا إال إنكار لوعي]عذبا[وعيد اهللا وعدا، وعقابه ثوابا وعذابه

فيومئذ ال {: وقال] ٢: احلج* [}ولكن عذاب اهللا شديد{: أشد من عذابه نعوذ باهللا منه؟ قال تعاىل، وهذا أظهر ىف كل ملة من أن حيتاج ]٢٦ -٢٥: الفجر* [}وال يوثق وثاقه أحد* يعذب عذابه أحد

.ستدالل عليهإىل اال :وإمنا ينسب هذا املذهب إىل املالحدة من القائلني بوحدة الوجود كما قال قائلهم

ومل يبق إال صادق الوعد وحده فما لوعيد احلق عني تعايــن وإن دخلوا دار الشقــاء فإهنم على لذة فيهـا نعيم مبايــن يسمى عذابا من عذوبة طـعمه وذاك له كالقشر والقشر صائن

Page 237: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

نعيم جنان اخللد واألمر واحـد وبينهما عند التجلى تبايــنفهذا القائل خط على تلك النقطة الىت نقطها أبو العباس ولعل الكالمني من مشكاة واحدة، وهذا مباين

.للمعلوم باالضطرار من دين الرسل وما أخربت به عن اهللا وأخرب به على لسان رسله همتم من كالمه، وإمنا مراده أنه سبحانه إذا ابتلى عبده ىف الدنيا فهو ليس مراده ما ذكرمت وف: فإن قيل

.لكمال حمبته له يتلذذ بتلك البلوى ويعدها نعمة، وليس مراده عذاب اآلخرةينفى ما ذكرمت من التأويل، فإن ابتالء الدنيا غري )) أهنم جعلوا الوعيد منه وعدا: ((قيل قوله عن اخلواص

نه ىف مقام اخلوف ونفيه عن اخلاصة حمتجا عليه بأهنم يرون العذاب عذبا والوعيد وعدا، وأيضا فإ. الوعيد .فما هلم وللخوف؟ هذا مقصوده من سياق كالمه واحتجاجه عليه هبذا اهلذيان الذى يسخر منه العقالء

ذذ بالبلوى أحيانا، بل حنن ال ننكر أن العبد إذا متكن حب اهللا ىف قلبه حىت ملك مجيع أجزائه فإنه قد يتلوليس ذلك دائما وال أكثريا، ولكنه يعرض عند هيجان احلب وغلبة الشوق، فيقهر شهود األمل، مث

ولكن أين هذا من جعل الوعيد وعدا، والعذاب عذبا؟ وإن أحسن الظن . يراجع طبيعته فيذوق األملنفسه أن حمبوبه إذا توعده كان ذلك بصاحب هذا الكالم ظن به أنه ورد عليه وارد من احلب خييل ىف

منه وعدا وإن عذبه كان عذابه عنده عذبا ملوافقته مراد حمبوبه، وهذا خيال فاسد وتقدير ىف النفس، وإال .فاحلقيقة اخلارجية تكذب هذا اخليال الباطل

قتضى تعجيز وحكمة اهللا ت. بل لو صب عليه أدىن شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافيةهذه النفوس اجلاهلة الرعناء احلمقاء بأدىن شيء يكون من األمل والوجع، حىت يتبني هلا دعاويها الكاذبة،

.وشطحها الباطلوهذا سيد احملبني وسيد ولد آدم استعاذته باهللا من عذابه وبالئه وسؤاله عافيته ومعافاته، معلومة ىف أدعيته

ىف ذلك، وهى أكثر وأشهر من أن تذكر ههنا، وإن ما ىف سيد احملبني أسوة وتضرعه إىل ربه وابتهاله إليهواملعاىف . وقدوة، ولكن قد ابتلى كثري من أهل اإلرادة بالشطح، كما ابتلى كثري من أهل الكالم بالشك

.فنسأل اهللا عافيته ومعافاته. من عافاه اهللا من هذا وهذاإمنا كان شديدا ألهنم ال يشاهدون املعذب هلم، واملؤمنون إن عذاب الكافرين: ((قوله] الوجه السادس[

وليس كذلك، فإن عذاب الكافرين شديد ىف نفسه لغلظ جرمهم )) يشاهدونه فلم يكن عذاهبم شديداوأما املؤمنون الذين يعذبون بذنوهبم فعذاهبم أضعف من عذاب . وهو الكفر، وهو دائم ال انقطاع له

.الذنوب وهى دون الكفر، وهو منقطع الكافرين، ألن عذاهبم علىواآلية مل يرد هبا إثبات عذاب املؤمنني دون عذاب الكافرين، وإمنا سيقت لبيان عذاب الكافرين حسب

.واهللا أعلم. مفهومها نفى العذاب عن املؤمنني، ال إثبات عذاب غري شديد

Page 238: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ا ىف غاية اخلوف، واخلوف يزول وللخواص اهليبة، وهى أقصى درجة يشار إليه: ((قوله] الوجه السابع[باألمن وينتهى به خوف الشخص على نفسه من العقاب، فإذا أمن العقاب زال اخلوف، واهليبة ال تزول

.أبدا ألهنا مستحقة للرب بوصف التعظيم واإلجالل، وذلك الوصف مستحق على الدوامشاهد أحيان املشاهدة وتعصم العائن وهذه املعارضة واهليبة تعارض املكاشف أوقات املناجاة، وتصدم امل

:بصدمة العزة، ومنه قال قائلهم أشتاقه، فإذا بدا أطرقت من إجالله

ال خيفة، بل هيبة وصيانة جلمالــه وأصد عنه جتلدا وأروم طيف خياله

هم و -فيقال من العجائب أن املعىن الذى أمر اهللا به ىف كتابه وأثىن به على خاصة عباده وأقرهبم إليهيجعل ناقصا من منازل العوام، ويعمد إىل معىن مل يذكره اهللا وال رسوله، وال - أنبياؤه ورسله ومالئكته

.فيجعل هو الكمال، وهو للخواص من العباد. علق به على املدح والثناء ىف موضع واحدمن لوازم ] ن اهليبةواألمر هبا ووصف خاصته هبا؟ وحنن ال ننكرر أ[فأين ىف القرآن والسنة ذكر اهليبة

اإلميان وموجباته، ولكن املنكر أن يكون الوصف الذى وصف به أنبياءه ومالئكته ناقصا والوصف الذى مل يذكره هو الكامل التام، وهذا املعىن املعرب عنه باهليبة حق، ولكن مل جتيء العبارة عنه ىف القرآن

إن من إجالل اهللا : ((، كقول النىب صلى اهللا عليه وسلموالسـنة بلفظ اهليبة، وإمنا جاءت بلفظ اإلجالل، فاإلجالل هو ))إجالل ذى الشيبه املسلم وحامل القرآن غري الغاىل فيه واجلاىف عنه، واإلمام العادل

.يوضح هذا. التعظيم وكذلك اهليبةإن : ((اهللا عليه وسلم وهو أن اهليبة واإلجالل جيوز تعلقهما باملخلوق، ما قال النىب صلى]: الوجه الثامن[

.احلديث...)) ذى الشيبة املسلم] اهللا إجالل[من إجالل : هبته وكان مهيبا، وأما اخلشية واملخافة فال تصلح إال هللا وحده، قال تعاىل: وقال ابن عباس عن عمر

آل [} إن كنتم مؤمنني فال تخافوهم وخافون{: ، وقال]٤٤: املائدة* [}فال تخشوا الناس واخشون{إنما يعمر مساجد اهللا من آمن باهللا واليوم اآلخر وأقام الصالة وآتى الزكاة {: ، وقال] ١٧٥: عمران

].١٨: التوبة* [}ولم يخش إال اهللا فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدينكالذل واحملبة واإلنابة والتوكل والرجاء وغريها من ] وحده[فاخلوف عبودية القلب فال تصلح إال هللا

ومن يطع اهللا {: جيعل املهابة املشتركة أفضل منه وأعلى؟ وتأمل قوله تعاىل] فكيف[عبودية القلب، ، كيف جعل الطاعة هللا ولرسوله، ]٥٢: النور* [}نورسوله ويخش اهللا ويتقه فأولئك هم الفآئزو

Page 239: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، كيف ]٩: الفتح* [}لتؤمنوا باهللا ورسوله وتعزروه وتوقروه{: واخلشية والتقوى له وحده، وقال تعاىل .جعل التوقري والتعزيز للرسول وحده، والتوقري هو التعظيم الصادر عن اهليبة واإلجالل

.، فعلم أن اخلوف من أجل مقامات اخلواص وأهنم إليه أحوج وبه أقوم من غريهمهذه حقيقتههذا حق، فإن : ، فيقال))إخل...اخلوف يزول باألمن، واهليبة ال تزول أبدا: ((قوله]: الوجه التاسع[

اخلوف إمنا يكون قبل دخول اجلنة، فإذا دخلوها زال عنهم اخلوف الذى كان يصحبهم ىف الدنيا وىف .عرصات القيامة، وبدلوا به أمنا، ألهنم قد أمنوا العذاب فزايلهم اخلوف منه

ولكن ال يدل هذا على أنه كان مقاما ناقصا ىف الدنيا، كما أن اجلهاد من أشرف املقامات، وقد زال مر وكذلك اإلميان بالغيب أجل املقامات على اإلطالق، وقد زال ىف اآلخرة وصار األ. عنهم ىف اآلخرة

وكذلك الصالة واحلج واألمر باملعروف والنهى عن املنكر وبذل النفس هللا، وهى من أشرف . شهادة .األعمال، وكلها تزول ىف اجلنة

.وهذا ال يدل على نقصاهنا فإن اجلنة ليست دار سعى وعمل، إمنا هى دار نعيم وثوابباألفعال ال بالذات كما تقدم، وقد أمنهم ما أن اخلوف إمنا زال ىف اجلنة ألن تعلقه إمنا هو : الوجه العاشر

ولكن كان . فقد أمنوا أن ال يفعلوا ما خيافون منه وأن يفعل هبم رهبم ما خييفهم. كانوا خيافون منهاخلوف ىف الدنيا أنفع هلم فبه وصلوا إىل األمن التام، فإن اهللا سبحانه وتعاىل ال جيمع على عبده خمافتني

وناهيك . ه ىف الدنيا أمنه يوم القيامة ومن أمنه ىف الدنيا ومل خيفه أخافه ىف اآلخرة، فمن خاف]وال أمنني[ .شرفا وفضال مبقام مثرته األمن الدائم املطلق

أن اإلجالل واملهابة والتعظيم إمنا مل تزل ألهنا متعلقة بنفس الذات، وهى موجودة ]: احلادى عشر[الوجه .منا زال ألنه وسيلة إىل توفية العبودية والقيام باألمروأما اخلوف فإنه إ. ىف دار النعيم

وإذا . والوسيلة تزول عند حصول الغاية، ولكن زوال الوسيلة عند حصول الغاية ال يدل على أهنا ناقصة .كانت تلك الغاية ال كمال للعبد بدوهنا فالوسيلة إليها كذلك

عارض املكاشف أوقات املناجاة، وتصون املشاهد وهذه املعارضة واهليبة ت: ((قوله]: الثاىن عشر[الوجه ال ريب أن احلب واألنس اجملرد عن التعظيم : فيقال. أحيان املشاهدة، وتعصم املعاىن بصدمة العزة

واإلجالل يبسط النفس، وحيملها على بعض الدعاوى والرعونات واألماىن الباطلة وإساءة األدب واجلناية .على حق احملبةبة مهابة احملبوب وإجالله وتعظيمه وشهود عز جالله وعظيم سلطانه، انكسرت نفسه له فإذا قارن احمل

وذلت لعظمته واستكانت لعزته وتصاغرت جلالله وصفت من رعونات النفس ومحاقاهتا ودعاويها أظلهم ىف أين املتحابون جبالىل؟ اليوم: يقول اهللا عز وجل: ((الباطلة وأمانيها الكاذبة، وهلذا ىف احلديث

Page 240: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وتعظيمه ] سبحانه[، فهو حب جبالله ))أين املتحابون جبالىل: ((، فقال))ظلى يوم ال ظل إال ظلى .ومهابته ليس حبا جملرد مجاله، فإنه سبحانه اجلليل اجلميل

. واحلب الناشيء عن شهود هذين الوصفني هو احلب النافع املوجب لكوهنم ىف ظل عرشه يوم القيامةوحده يوجب خوفا وخشية وانكسارا، وشهود اجلمال وحده يوجب حبا بانبساط فشهود اجلالل .وشهود الوصفني معا يوجب حبا مقرونا بتعظيم وإجالل ومهابة. وإدالل ورعونة

واهللا أعلم، وإنشاده هذه األبيات الثالثة ىف هذا املقام ىف غاية القبح، فإن هذا . وهذا هو غاية كمال العبدويعرض عنه إظهارا للتجلد أمام رقيبه، وذلك ] أخر أنه يصد عن حمبوتبه[خوفه من حمبوبه احملب ينفى

قبيح ىف حكم احملبة، فإن التذلل للمحبوب ومتلقه واستعطافه واالنكسار له أوىل باحملب من جتلده وتعززه :كما قيل

اخضع وذل ملن حتب فليس ىف شرع اهلوى أنف يشال ويعقدفهذا حمب لنفسه، وقد . طيف خياله، فهو طالب حلظه من حمبوبه ال ملراد حمبوبه منه مث أخرب أنه يروم

جعل طيف حمبوبه وسيلة إىل حصول مراده فأحبه حب الوسائل، خبالف من قد أحب حمبوبه لذات اإلرادة احملبوب ففىن عن مراده هو منه مبراد حمبوبه فصار مراده مراد حمبوبه، فحصل االحتاد ىف املراد ال ىف

وال ىف املريد، هذا إن كان صبده عنه جتلدا عليه، وإن كان جتلدا على الرقيب خوفا منه، فهو ضعيف احملبة، ألن فيه بقية ليست مع حمبوبه بل مع رقيبه، فهال مأل احلب قلبه فلم يبق فيه بقية يالحظ هبا

:الرقيب والعاذل؟ كما قيل يل هبا إليه العذلال كان من لسواك فيه بقية جيد السب

.واهللا أعلم] ىف هذا املقام[وباجلملة فهذه األبيات ناقصة املعىن ال يصلح االستشهاد هبا

فصلواملقصود الكالم على علل املقامات وبيان ما فيها من خطإ وصواب ؛ وملا كان أبو العباس بن العريف

رنا كالمه فيه وما له وما عليه، مث ذكر بعد ذك)) حماسن اجملالس((قد تعرض لذلك ىف كتابه ] رمحه اهللا[هذا فصال ىف احملبة وفصال ىف الشوق، فنذكر كالمه ىف ذلك وما يفتح اهللا به تتميما للفائدة ورجاء للمنفعة، وأن مين اهللا العزيز الوهاب بفضله ورمحته ويرقى عبده من العلم إىل احلال، ومن الوصف إىل

.إنه قريب جميب. االتصافوأما احملبة فقد أشار أهل التحقيق ىف العبارة عنها، وكل نطق حبسب ]: ((رمحه اهللا[قال أبو العباس

)).ذوقه، وانفسخ مبقدار شوقه

Page 241: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

] فيه[الشيء إذا كان ىف األمور الوجدانية الذوقية الىت إمنا تعلم بآثارها وعالماهتا، وكان مما يقع : قلتزم وآثار وعالمات متعددة، اختلفت العبارات عنه حبسب التفاوت بالشدة والضعف، وكان له لوا

.اختالف هذه األشياءوهى ىف . ترى باألبصار، فيشترك الواصفون هلا ىف الصفة - حبقيقة معانيها - وهذا شأن احملبة، فإهنا ليست كما بني العالقة الىت هى تعلق القلب باحملبوب، واخللة الىت هى أعلى. نفسها متفاوتة أعظم تفاوت

.مراتب احلب، وبينهما درجات متفاوتة تفاوتا ال ينحصرعالماهتا فعرب حبسب ما ] آثارها أو بعض[وهلا آثار توجبها وعالمات تدل عليها، فكل أدرك بعض

وكذلك اسم املصيبة والبلية . ليس امسها كمسماها، وال لفظها مبني ملعناها: أدركه وهى وراء ذلك كلهأمساؤها عليها نوع داللة ال تكشف حقيقتها،وال تعلم حقيقتها إال بذوقها والشدة واألمل إمنا تدل

فاحلدود والرسوم الىت قيلت ىف احملبة . وفرق بني الذوق والوجود وبني التصور والعلم. ووجودها .صحيحة غري وافية حبقيقتها بل هى إشارات وعالمات وتنبيهات

فصـلوجود تعظيم ىف القلب مينع االنقياد لغري - ىل التفصيلعلى اإلمجال قبل أن ننتهى إ -وهى: ((قال

هذا التعظيم املانع من االنقياد لغري احملبوب هو أثر من آثار احملبة وموجب من : فيقال])). احملبوب[فإن احملبة إذا كانت صادقة أوجبت للمحب تعظيما حملبوبه مينعه من انقياده . موجباهتا، ال أنه نفس احملبة

.إىل غريهوليس جمرد التعظيم هو املانع له من االنقياد إىل غريه بل التعظيم املقارن للحب هو الذى مينع من االنقياد

وكذلك إذا . املعظم] احملبوب فإن التعظيم إذا كان جمرد عن احلب مل مينع انقياد القلب إىل غري[إىل غري وامتأل ] ري حمبوبه فإذا اقترن احلب بالتعظيممل مينع احملب أن ينقاد إىل غ[كان احلب خاليا عن التعظيم

.القلب هبما امتنع انقياده إىل غري احملبوب :واحملبة املشتركة ثالثة أنواع

.حمبة طبيعية مشتركة، كمحبة اجلائع للطعام والظمآن للماء وغري ذلك، وهذه ال تستلزم التعظيم: أحدها .لولده الطفل وحنوها، وهذه أيضا ال تستلزم التعظيمحمبة رمحة وإشفاق كمحبة الوالد : والنوع الثاىن - ىف صناعة أو علم أو مرافقة أو جتارة أو سفر - حمبة أنس وإلف، وهى حمبة املشتركني: والنوع الثالث

.بعضهم بعضا وكمحبة اإلخوة بعضهم بعضاال يكون شركا ىف فهذه األنواع الثالثة هى احملبة الىت تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم

.حمبة اهللا سبحانه

Page 242: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

العسل، وكان أحب الشراب إليه احللو ] و[كان رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم حيب احللواء ((وهلذا البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان حيب نساءه، وكانت عائشة رضى اهللا عنها أحبهن إليه،

].ضى اهللا عنهر[وكان حيب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق وأما احملبة اخلاصة الىت ال تصلح إال هللا وحده ومىت أحب العبد هبا غريه كان شركا ال يغفره اهللا، فهى

.حمبة العبودية املستلزمة للذل واخلضوع والتعظيم، وكمال الطاعة وإيثاره على غريهن بني آهلتهم وبني اهللا فيها كما قال فهذه احملبة ال جيوز تعلقها بغري اهللا أصال، وهى الىت سوى املشركو

* }ومن الناس من يتخذ من دون اهللا أندادا يحبونهم كحب اهللا والذين آمنوا أشد حبا هللا{: تعاىل. دادهم ىف احلبوسووا بني اهللا وبني أن. ، وأصح القولني أن املعىن حيبوهنم كما حيبون اهللا]١٦٥: البقرة[

فإن الذين آمنوا وأخلصوا ] ١٦٥: البقرة[} والذين آمنوا أشد حبا هللا{: مث نفى ذلك عن املؤمنني فقال .حبهم هللا مل يشركوا به معه غريه، وأما املشركون فلم خيلصوا هللا

الم العبد املؤمن الذى إذا واملقصود من اخللق واألمر إمنا هو هذه احملبة وهى أول دعوة الرسل، وآخر كهبا، فهو أول ما يدخل به ىف ] تعاىل[مات عليه دخل اجلنة اعترافه وإقراره هبذه احملبة وإفراد الرب

اإلسالم، وآخر ما خيرج به من الدنيا إىل اهللا ؛ ومجيع األعمال كاألدوات واآلالت هلا، ومجيع املقامات حتصينها من الشوائب والعلل ؛ فهى قطب رحى السعادة، وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها و

.وروح اإلميان وساق شجرة اإلسالم، وألجلها أنزل اهللا الكتاب واحلديدفالكتاب هاد إليها ودال عليها ومفصل هلا، واحلديد ملن خرج عنها وأشرك فيها مع اهللا غريه، وألجلها

ا هللا وحده فأخلصهم هلا، والنار دار من أشرك فيها خلقت اجلنة النار، فاجلنة دار أهلها الذين أخلصوهتاهللا إن {: مع اهللا غريه وسوى بينه وبني اهللا فيها، كما أخرب تعاىل عن أهلها أهنم يقولون ىف النار آلهلتهم

تكن منهم ، وهذه التسوية مل]٩٨-٩٧:الشعراء* [}إذ نسويكم برب العالمني* كنا لفى ضالل مبني ىف األفعال والصفات حبيث اعتقدوا أهنا مساوية هللا سبحانه ىف أفعاله وصفاته، وإمنا كانت تسوية منهم

هو ] املسألة[مع إقرارهم بالفرق بني اهللا وبينها، فتصحيح هذه ] فقط[بني اهللا وبينها ىف احملبة والعبودية ه وأحب سعادهتا وجناهتا أن يتيقظ هلذه املسألة تصحيح شهادة أن ال إله إال اهللا، فحقيق ملن نصح نفس

.علما وعمال وحاال وتكون أهم األشياء عنده، وأجل علومه وأعماله* فوربك لنسألنهم أجمعني {: فإن الشأن كله فيها واملدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها، قال تعاىل

، ))ال إله إال اهللا: ((هو عن قول: ، قال غري واحد من السلف]٩٣ -٩٢: جراحل* [}عما كانوا يعملون .وهذا حق

Page 243: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فإن السؤال كله عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباهتا ولوازمها، فال يسأل أحد قط إال عنها وعن ماذا كنتم: كلمتان يسأل عنهما األولون واآلخرون: واجباهتا ولوازمها وحقوقها، قال أبو العالية

تعبدون؟ وماذا أجبتم املرسلني؟ فالسؤال عماذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها، والسؤال عماذا هل سلكوها وأجابوا الرسل ملا دعوهم إليها، : أجابوا املرسلني سؤال عن الوسيلة والطريق املؤدية إليها

.فعاد األمر كله إليهار، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على اجلمر وال يؤخذ وأمر هذا شأنه حقيق بأن تنعقد عليه اخلناص

. بأطراف األنامل، وال يطلب على فضله، بل جيعل هو املطلب األعظم وما سواه إمنا يطلب على الفضلة .واهللا املوفق ال إله غريه وال رب سواه

فصلقبله، فإن إيثار احملبوب على وهذا احلد أيضا من جنس ما )) احملبة إيثار احملبوب على غريه: وقيل: ((قال

غريه موجب احملبة ومقتضاها، فإذا استقرت احملبة ىف القلب استدعت من احملب إيثار حمبوبه على غريه، وهذا اإليثار عالمة ثبوهتا وصحتها، فإذا آثر غري احملبوب عليه مل يكن حمبا له، وإن زعم أنه حمب فإمنا هو

أى حظا آخر هو أحب إليه من حظه الذى يريده من حمبوبه آثر ذلك حمب لنفسه وحلظه ممن حيبه، فإذا ر .احلظ احملبوب إليه

فهذا موضع يغلط فيه الناس كثريا إذ أكثرهم إمنا هو حيب حلظه ومراده، فإذا علم أنه عند غريه أحب :ذلك الغري حب الوسائل ال حبا له لذاته، ويظهر هذا عند حالتني

.له آخر عند غريه فيؤثر ذلك احلظ ويترك حمبوبه أنه يرى حظا: إحدامها: أنه إذا نال ذلك احلظ من حمبوبه فترت حمبته وسكن قلبه وترحل قاطن احملبة من قلبه، كما قيل: الثانية

.فهذه حمبة مشوبة بالعلل. من ودك ألمر ولى عند انقضائهوأن الذى يوجب هذه احملبة . لذاته وصفاته بل احملبة اخلالصة أن حيب احملبوب لكماله، وأنه أهل أن حيب

فهذه . فناء العبد عن إرادته ملراد حمبوبه، فيكون عامال على مراد حمبوبه منه ال على مراده هو من حمبوبهتستلزم إيثار احملبوب على غريه وال بد [هى احملبة اخلالصة من درن العلل وشوائب النفس، وهى الىت

:تتزايد، وىف مثل هذا قيل] بة أقوى كان هذا اإليثار أمتوكلما كان سلطان هذه احمل تعصى اإلله وأنت تزعم حبه هذا لعمرك ىف القياس شنيع لو كان حبك صادقا ألطعته إن احملب ملن حيب مطيــع

إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حب : وهاهنا دقيقة ينبغى التفطن هلا، وهى أن إيثار احملبوب نوعان .وإرادة

Page 244: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

.يؤثر حمبوبه على غريه طلبا حلظه منه، فهو يبذل ما يؤثره ليعاوضه خبري منه: ألولفايؤثره إجابة لداعى حمبته، فإن احملبة الصادقة تدعوه دائما إىل إيثار حمبوبه، فإيثاره هو أجل : والثاىن

نفس اللطيفة الورعة حظوظه، فحظه ىف نفس اإليثار ال ىف العوض املطلوب باإليثار، وهذا ال تفهمه إال ال .املشرقة، وأما النفس الكثيفة فال خرب عندها من هذا، وما هو بعشها فتلدرج

@ فصل

أن ] قيل[والدين كله واملعاملة ىف اإليثار، فإنه تقدمي وختصيص ملن تؤثره مبا تؤثره به على نفسك، حىت .بذله سخاء وكرمامن شرطه االحتياج من جهة املؤثر، إذ لو مل يكن حمتاجا إليه لكان

وهذا إمنا يصح ىف إيثار املخلوق، واهللا سبحانه يؤثر عبده على غريه من غري احتياج منه سبحانه فإنه اللهم زدنا وال تنقصنا، وأعطنا وال حترمنا وأكرمنا وال هتنا، وآثرنا : ((الغىن احلميد، وىف الدعاء املرفوع )).وال تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا

والفرق بني اإليثار واألثرة أن اإليثار ختصيص الغري مبا . من آثره اهللا على غريه آثره اهللا على غريه: وقيلبايعنا رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم : ((تريده لنفسك واألثرة اختصاصك به على الغري، وىف احلديث

)).على السمع والطاعة ىف عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة عليناوإن تعلق باخللق فكماله أن تؤثرهم . فإذا عرف هذا، فاإليثار إما أن يتعلق باخللق، وإما أن يتعلق باخلالق

على نفسك مبا ال يضيع عليك وقتا، وال يفسد عليك حاال، وال يهضم لك دينا وال يسد عليك طريقا، .وال مينع لك واردا

عليهم أوىل، فإن الرجل من ال يؤثر بنصيبه من اهللا فإن كان ىف إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك .أحدا كائنا من كان

: فإن اإليثار احملمود الذى أثىن اهللا على فاعله. وهذا ىف غاية الصعوبة على السالك، واألول أسهل منهى أنفسهم ولو ويؤثرون عل{: قال اهللا تعاىل. اإليثار بالدنيا ال بالوقت والدين وما يعود بصالح القلب

].٩: احلشر* [}كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحونفأخرب أن إيثارهم إمنا هو بالشيء الذى إذا وقى الرجل الشح به كان من املفلحني، وهذا إمنا هو فضول

.الدنيا ال األوقات املصروفة ىف الطاعاتمفلسا، ] عيانا[فالح كل الفالح ىف الشح هبا فمن مل يكن شحيحا بوقته تركه الناس على األرض فإن ال

.فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله

Page 245: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر باملسابقة ىف أعمال الرب والتنافس فيها واملبادرة إليها، وهذا ضد اإليثار : آل عمران* [}وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات واألرض{ :قال اهللا تعاىل. هبا

وفى ذلك {: ، وقال تعاىل]٤٨: املائدة] [١٤٨: البقرة* [}فاستبقوا الخيرات{: ، وقال تعاىل]١٣٣لو يعلم الناس ما ىف النداء : ((وقال النىب صلى اهللا عليه وسلم، ]٢٦: املطففني* [}فليتنافس المتنافسون

والقرعة إمنا تكون عند التزاحم والتنافس ال عند اإليثار فلم جيعل الشارع )). والصف األول لكانت قرعةال يستحب اإليثار : الطاعات والقربات حمال لإليثار، بل حمال للتنافس واملسابقة، وهلذا قال الفقهاء

أن اإليثار إمنا يكون بالشيء الذى يضيق عن االشتراك فيه، فال يسع -واهللا أعلم - لقربات والسر فيهبااملؤثر واملؤثر، بل ال يسع إال أحدمها، وأما أعمال الرب والطاعات فال ضيق على العباد فيها، فلو اشترك

ووسعتهم كلهم، وإن قدر التزاحم األلوف املؤلفة ىف الطاعة الواحدة مل يكن عليهم فيها ضيق وال تزاحم حبيث إذا فعله واحد فات على غريه، فإن ىف العزم -ىف عمل واحد أو مكان ال ميكن أن يفعله اجلميع

والنية اجلازمة على فعله من الثواب ما لفاعله كما ثبت عن النىب صلى اهللا عليه وسلم ىف غري حديث، .مه ونيته لفعلهفإذا قدر فوت مباشرته له فال يفوت عليه عز

إما مساو له، وإما أزيد، وإما : وأيضا فإنه إذا فات عليه كان ىف غريه من الطاعات والقربات عوض منهفمىت أتى بالعوض وعلم اهللا من نيته وعزميته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت أعطاه اهللا ثوابه . دونه

.من يشاء واهللا ذو الفضل العظيم] فضال اهللا يؤتيهوذلك . به عنه فجمع له األمرين[ وثواب ما تعوض وأيضا فإن املقصود رغبة العبد ىف التقرب إىل اهللا، وابتغاء الوسيلة إليه واملنافسة ىف حمابه، واإليثار هبذا التقرب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم املنافسة فيه، وهذا خبالف ما حيتاج إليه العبد من طعامه

عبده ] سبحانه[ولباسه إذا كان أخوه حمتاجا إليه، فإذا اختص به أحدمها فات اآلخر، فندب اهللا وشرابه إذا وجد من نفسه قوة وصربا على اإليثار به ما مل جيزم عليه دينا، أو جيلب له مفسدة، أو يقطع عليه

لق، فمفسدة إيثار هذا طريقا عزم على سلوكه إىل ربه، أو شوش عليه قلبه، حبيث جيعله متعلقا باخلأرجح من مصلحته، فإذا ترجحت مصلحة اإليثار، حبيث تتضمن إنقاذ نفسه من هلكة أو عطب أو شدة

تعني عليه اإليثار، فإن كان به نظريها مل يتعني عليه اإليثار، ولكن لو - وليس للمؤثر نظريها - ضرورةاة غريه على حياته وضرورتة على ضرورته فعله لكان غاية الكرم والسخاء واإلحسان، فإنه من آثر حي

.فقد استوىل على أمد الكرم والسخاء وجاوز أقصاه وضرب فيه بأوفر احلظفما الذى يسهل على النفس هذا : فإن قيل. وىف هذا املوضع مسائل فقهية ليس هذا موضع ذكرها :ريسهله أمو: اإليثار، فإن النفس جمبولة على األثرة ال على اإليثار؟ قيل

Page 246: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

رغبة العبد ىف مكارم األخالق ومعاليها، فإن من أفضل أخالق الرجل وأشرفها وأعالها اإليثار، : أحدهاوقد جبل اهللا القلوب على تعظيم صاحبه وحمبته، كما جبلها على بغض املستأثر ومقته، ال تبديل خللق

وخلق . وية، وهو خلق العدلوخلق القسمة والتس. خلق اإليثار، وهو خلق الفضل: واألخالق ثالثة. اهللافصاحب اإليثار حمبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل ال سبيل . االستئثار واالستبداد وهو خلق الظلم

للنفوس إىل أذاه والتسلط عليه ولكنها ال تنقاد إليه انقيادها ملن يؤثرها، وصاحب االستئثار النفوس إىل أزال املمالك وقلعها إال االستئثار؟ فإن النفوس ال وهل . أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل ىف حدوره

وهلذا أمر رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم أصحابه بالسمع والطاعة لوالة األمر وإن . صرب هلا عليه ].والكره[استأثروا عليهم، ملا ىف طاعة املستأثر من املشقة

.النفرة من أخالق اللئام، ومقت الشح وكراهته له: الثاىنتعظيم احلقوق الىت جعلها اهللا سبحانه وتعاىل للمسلمني بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق : الثالث

رعايتها، وخياف من تضييعها، ويعلم أنه إن مل يبذل فوق العدل مل ميكنه الوقوف مع حده، فإن ذلك تضييع احلق من] خلوفه[عسر جدا، بل ال بد من جماوزته إىل الفضل أو التقصري عنه إىل الظلم، فهو

والدخول ىف الظلم خيتار اإليثار مبا ال ينقصه وال يضره ويكتسب به مجيل الذكر ىف الدنيا وجزيل األجر . ىف اآلخرة، مع ما جيلبه له اإليثار من الربكة وفيضان اخلري عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله

واملوفق من وفقة اهللا سبحانه وتعاىل. ملومن جرب هذا عرفه، ومن مل جيربه فليستقر أحوال العا فصل

رضى غريه، وإيثار حبه على حب ] رضاه على[واإليثار املتعلق باخلالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار اخلضوع واالستكانة والضراعة ] و[غريه، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غريه ورجائه، وإيثار الذل له

ذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك وك. والتملق على بذل ذلك لغريهبغريه، فاألول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو حمبوب له، وهذا آثر اهللا على غريه ونفسه من أعظم

.فآثر اهللا عليها فترك حمبوهبا حملبوب اهللا. األغيارترك ما : كانت النفس تكرهه وهترب منه، الثاىن فعل ما حيب اهللا إذا: وعالمة هذا اإليثار شيئان، أحدمها

يكرهه إذا كانت النفس حتبه وهتواه، فبهذين األمرين يصح مقام اإليثار، ومؤنة هذا اإليثار شديدة لغلبة األغيار وقوة داعى العادة والطبع، فاحملنة فيه عظيمة واملؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة، وال يتم فالح

إال به، وأنه ليسري على من يسره اهللا عليه، فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب العبد وسعادته املرتقى، وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه املنحة، وحيمل فيه خطرا يسريا مللك عظيم وفوز كبري، فإن مثرة

Page 247: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ال يرقى هذا ىف العاجل واآلجل ليست تشبه مثرة شيء من األعمال، ويسري منه يرقى العبد ويسريه ما .غريه إليه ىف املدد املتطاولة، وذلك فضل اهللا يؤتيه من يشاء، وال تتحقق احملبة إال هبذا اإليثار

أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست جبافية وال قاسية، بل : أحدها: والذى يسهله على العبد أمور

قوة : الثالث. يا، فإن هذا مثرة اإلميان ونتيجتهأن يكون إميانه راسخا ويقينه قو: الثاىن. تنقاد معه بسهولة .صربه وثباته

والنقص والتخلف ىف النفس عن . فبهذه األمور الثالثة األمور ينهض إىل هذا املقام ويسهل عليه دركهأن تكون جامدة غري سريعة اإلدراك، بل بطيئة وال تكاد ترى حقيقة الشيء إال : هذا يكون من أمرين

رأهتا اقترنت به األوهام والشكوك والشبهات واالحتماالت، فال يتخلص له رؤيتها بعد عسر، وإن وعياهنا، الثاىن أن تكون القرحية وقادة دراكة، لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت احلق والرشد ضعفت عن إيثاره، فصاحبها يسوقها سوق العليل املريض، كلما ساقه خطوة وقف خطوة، أو كسوق الطفل

ري الذى تعلقت نفسه بشهواته ومألوفاته، فهو يسوقه إىل رشده وهو ملتفت إىل هلوه ولعبه ال الصغإذا زجرها انزجرت وإذا قادها : فإذا رزق العبد قرحية وقادة، وطبيعة منقادة. ينساق معه إال كرها

د السعادة من كل مع ذلك بعلم نافع وإميان راسخ، أقبلت إليه وفو] وأيد[انقادت بسهولة وسرعة ولني، .جانب

وملا كانت هذه القرائح والطبائع ثابتة للصحابة رضى اهللا عنهم، وكملها اهللا هلم بنور اإلسالم وقوة اليقني ومباشرة اإلميان لقلوهبم، كانوا أفضل العاملني بعد األنبياء واملرسلني وكان من بعدهم لو أنفق مثل

.جبل أحد ما بلغ مد أحدهم وال نصيفهويترقى ] ويتأخر[تصور هذا املوضع حق تصوره علم من أين يلزمه النقص والتأخر، ومن أين يتقدم ومن

.واهللا أعلم. ىف درجات السعادة وباهللا التوفيق فصل

]عود ملعرفة حدود احملبة[ :احملبة موافقة احملبوب فيما ساء وسر، ونفع وضر، كما قيل: وقيل: ((قال

))را ما من يهون عليك ممن أكرموأهنتىن فأهنت نفسى صاغجنس ما قبله، فإن موافقة احملبوب من موجبات احملبة ومثراهتا، وليست ] من[وهذا احلد أيضا : فيقال

قل {: نفس احملبة، بل احملبة تستدعى املوافقة، وكلما كانت احملبة أقوى كانت املوافقة أمت، قال اهللا تعاىلقال قوم على عهد النىب : ، قال احلسن]٣١: آل عمران* [}اتبعونى يحببكم اهللاإن كنتم تحبون اهللا ف

Page 248: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قل إن كنتم تحبون اهللا فاتبعونى {: إنا حنب ربنا، فأنزل اهللا تعاىل هذه اآلية: صلى اهللا عليه وسلمقل إن كنتم {: ة اهللا فأنزل اهللا آية احملبةادعى قوم حمب: ، وقال اجلنيد]٣١: آل عمران* [}يحببكم اهللا

، يعىن أن متابعة الرسول هى موافقة حبيبكم، ]٣١: آل عمران* [}تحبون اهللا فاتبعونى يحببكم اهللا ].فمتابعته موافقة هللا ىف فعل ما حيب وترك ما يكره] [وهى قوله[املبلغ عنه ما حيبه وما يكرهه ] فإنه[

من أحب طاعة اهللا أحبه اهللا وحببه إىل خلقه وإمنا كانت موافقة احملبوب دليال : مالك ىف هذه اآليةوقال على حمبته ألن من أحب حبيبا فال بد أن حيب ما حيبه ويبغض ما يبغضه، وإال مل يكن حمبا له حمبة

حبه حمبوبه أم كرهه وحمبوبه أ[له، بل يكون حمبا ملراده ] حمبا[صادقة، بل ختلف ذلك عنه وإال مل يكن فهذه احملبة املدخولة الفاسدة، . فلو حصل له حظه من غريه ترحل عوضه] عنده وسيلة إىل ذلك املراد

.وإذا كانت احملبة الصحيحة تستدعى حب ما حيبه احملبوب وبغض ما يبغضه فال بد أن يوافقه فيهوهى أن موافقة احملبوب ىف مراده ليس املعىن هبا ولكن هاهنا مسألة يغلط فيها كثري من املدعني للمحبة،

مراده اخللقى الكوىن، فإن كل الكون مراده، وكل ما يفعله اخلالئق فهو موجب مشيئته وإرادته الكونية، فلو كانت موافقته ىف هذا املراد هى حمبته مل يكن له عدو أصال، وكانت الشياطني والكفار واملشركون

.القمر أولياءه وأحبابه، تعاىل اهللا عن ذلك علوا كبرياعباد األوثان والشمس وقال اهللا . وإمنا يظن ذلك من يظنه من أعدائه اجلاحدين حملبته ودينه، الذين يسوون بني أوليائه وأعدائه

* }عل المتقني كالفجارأم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى األرض أم نج{: تعاىلأم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا {: ، وقال اهللا تعاىل]٢٨: ص[

أفنجعل {: عاىل، وقال اهللا ت]٢١: اجلاثية* [}الصالحات سواء محياهم ومماتهم، ساء ما يحكمونفأنكر سبحانه على من سوى بني ] [٣٦ -٣٥: القلم* [}املسلمني كالمجرمني ما لكم كيف تحكمون

.، وبني املطيعني واملفسدين مع أن الكل حتت املراد الكوىن واملشيئة العامة]املسلمني واجملرمنيقال ىل بعض شيوخ هؤالء احملبة نار حترق من : يقول] روحه قدس اهللا[ومسعت شيخ اإلسالم ابن تيمية

فإذا كان : فقلت له: ، قال))القلب ما سوى مراد احملبوب، والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منهاحملبوب قد أبغض بعض ما ىف الكون، فأبغض قوما ومقتهم ولعنهم وعاداهم فأحببتهم أنت وواليتهم،

ويبلغ اجلهل والكفر . فكأمنا ألقم حجرا: افقا له، أو خمالفا له معاديا له؟ قالتكون مواليا للمحبوب موببعض هؤالء إىل حد حبيث إذا فعل حمظورا يزعم أنه مطيع هللا سبحانه وتعاىل، ويقول أنا مطيع إلرادته،

:وينشد ىف ذلك أصبحت منفعال ملا خيتاره مىن ففعلى كله طاعات

Page 249: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وإن عصى األمر، لكنه أطاع اإلرادة، يعىن أن فعله طاعة هللا من حيث موافقة إبليس: ويقول أحدهمإرادته، وهذا انسالخ من ربقة العقل والدين، وخروج عن الشرائع كلها، فإن طاعة اهللا إمنا هى موافقة له األمر الديىن الذى حيبه اهللا ويرضاه، وأما دخوله حتت القدر الكوىن الذى يبغضه ويسخطه ويكفر فاع

وال ريب أن املسرفني على أنفسهم املنهمكني ىف . ويعاقبه، فهى املعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينهالذنوب واملعاصى املعترفني بأهنم عصاة مذنبون أقرب إىل اهللا من هؤالء العارفني املنسلخني عن دين

:بنا على دينهاألنبياء كلهم، والذين ال عقل هلم وال دين فنسأل اهللا أن يثبت قلو :أما البيت الذى استشهد به فهو من أبيات ألىب الشيص من قصيدة يقول فيها

وقف اهلوى ىب حيث أنت فليس ىل متأخر عنه وال متقـدم وأهنتىن فأهنت نفسى جاهدا ما من يهون عليك ممن يـكرم

أشبهت أعدائى فصرت أحبهم إذ كان حظى منك حظى منهم يــذة حبا لذكرك فليلمـــىن اللومأجد املالمة ىف هواك لذ

وقد ناقض فيها ىف دعواه مناقضة بينه، فإنه أخرب أن هواه قد صار وقفا عليها ال يزول وال يتحول بتقدم وال تأخر، مث أخرب أنه قد بلغ به حبها وهواها إىل أن صار مرادها من نفسه غري مراده هو، فلما أرادت

سعى هو ىف إهانة نفسه جبهده موافقة هلا ىف إرادهتا، فصارت إهانته لنفسه إهانته بالصد واهلجران والبعدمرادة حمبوبة له من حيث هى مرادة حمبوبة هلا، وزعم أنه لو أكرم نفسه لكان خمالفا حملبوبته مكرما ملن

.أهانتهأنه مل حيصل ووجه هذا التشبيه . مث نقض هذا الغرض من حيث شبهها بأعدائه الذين هم أبغض شيء إليه

من إهانتهم له [منها من حظه ومراده على شيء، بل الذى حيصل له منها مثل ما حيصل له من أعدائه ، فأين هذا من املوافقة التامة هلا ىف ]هبم[واحدا، فصارت شبيهة ] وأذاه فصار حظه منها ومن أعدائه

حظا مرادا وأن ذلك احلظ الذى يريده مل مرادها، حبيث يهني نفسه حملبتها ىف إهانته؟ مث أخرب أن له منها .حيصل له، وإمنا حصل له منه نظري ما حيصل له من أعدائه

مث إنه أخرب عن [باحلظ، وشكاية للحبيب بتفويته عليه ] حمبه معلول[وهذه شكاية ىف احلقيقة وإخبار عن بعضه له وبعضه ألعدائه ىف حبه هلا، فصار حبه منقسما] جناية أخرى وهى أنه شرك بينها وبني أعدائه

لشبههم إياها، مث إن ىف الشعر جناية أخرى عليها وهو أنه شبهها مبن جبلت القلوب على بغضه وهو العدو، والالئق تشبيه احلبيب مبا هو أحب األشياء إىل النفس كالسمع والبصر واحلياة والروح والعافية،

.ا هو معروف بينهم وهو جادة كالهمكما هو عادة الشعراء والناس ىف نظمهم ونثرهم كم

Page 250: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مث أخرب مبحبته ألعدائه لشبههم هبا، فتضمن كالمه معاداة من حيبه وحمبة من يعاديه، فإهنا إذا أشبهت أعداءه لزم أن حيصل هلا نصيب من معاداته وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن حيصل هلم نصيب من حمبته كما

بها، وهو مفهوم من كالمه، مث أخرب أنه يلتذ مبالمة اللوام ىف صرح به ىف جانبهم وترك التصريح ىف جانهواها ملا يتضمن من ذكراها، وهذا يدل على قوة حمبتها ومساع ذكرها، وهذا غرض صحيح مع أنه مدخول أيضا، فإن حمبوبته قد تكره ذلك ملا يتضمن من فضيحتها به وجعلها مضغة للماضغني، فيكون

.موافقتها ىف حماهبا] لدعواه[ذه حمبة فاسدة معلولة ناقضة حمبا لنفس ما تكرهه، وه فصلاحملبة القيام بني يديه وأنت قاعد، ومفارقة املضجع وأنت راقد، والسكوت وأنت ناطق، : وقيل: ((قال

)).ومفارقة املألوف والوطن وأنت مستوطنوهو صحيح، فإن احملبة . كامهاوهذا أيضا أثر من آثار احملبة وموجب من موجباهتا وحكم من أح: فيقال

توجب سفر القلب حنو احملبوب دائما، واحملبة وطنه وتوجب مثوله وقيامه بني يدى حمبوبه وهو قاعد، كما . وجتافيه عن مضجعه ومفارقته إياه وهو فيه راقد، وفراغه حملبوبه كله وهو مشغول ىف الظاهر بغريه

:قال بعضهم لت وعندكم عقليوأدمي حنو حمدثى لريى أن قد عق

نعم سجدة ال يرفع رأسه منها إىل يوم : أيسجد القلب بني يدى اهللا؟ فقال: وقال بعض املريدين لشيخه .فهذه سجدة متصلة بقيامه وقعوده وذهابه وجميئه وحركته وسكونه. القيامة

اجتمع وكذلك يكون جسده ىف مضجعه وقلبه قد قطع املراحل مسافرا إىل حبيبه، فإذا أخذ مضجعه تتجافى جنوبهم عن {: كما قال اهللا تعاىل ىف حق احملبني. عليه حبه وشوقه، فيهزه املضجع إىل مسكنه

، فلما جتافت جنوهبم عن املضاجع جافت ]١٦: السجدة* [}المضاجع يدعون ربهم خوفا وطعما :القائلوقال . اجلنوب عنها واستخدمتها وأمرهتا فأطاعتها

هنارى هنار الناس، حىت إذا بدا ىل الليل هزتىن إليك املضاجعوحيكى أن بعض الصاحلني اجتاز مبسجد، فرأى الشيطان واقفا ببابه ال يستطيع دخوله فنظر فإذا فيه

كال، إمنا مينعىن ذلك األسد : أمينعك هذا املصلى من دخوله؟ فقال: فقال له.رجل نائم وآخر قائم يصلى .بض، ولوال مكانه لدخلتالرا

وباجلملة فقلب احملب دائما ىف سفر ال ينقضى حنو حمبوبه، كلما قطع مرحلة له ومنزلة تبدت له أخرى ، فهو مسافر بني أهله، وظاعن وهو ىف داره، وغريب وهو بني ))إذا قطعت علما بدا علم: ((كما قيل

توجب له ] مبحبوبه[فقوة تعلق احملب . د أحدإخوانه وعشريته، ويرى كل أحد عنده وال يرى نفسه عن

Page 251: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أن ال يستقر قلبه دون الوصول إليه، وكلما هدأت حركاته وقلت شواغله اجتمعت عليه شئون قلبه، بل .قوى سريه إىل حمبوبه

:وحمك هذا احلال يظهر ىف مواطن أربعةفإنه ال ينام . ما حيبهعند أخذ مضجعه وتفرغ حواسه وجوارحه الشواغل، واجتماع قلبه على : أحدها

.إال على ذكر من حيبه وشغل قلبه بهإذا استيقظ وردت إليه ] فإنه. [عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إىل قلبه ذكر حمبوبه: املوطن الثاىن

ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، . روحه رد معها إليه ذكر حمبوبه الذى كان قد غاب عنه ىف النوم .ه الروح أسرع من الطرف رد إليه ذكر حمبوبه متصال هبا، مصاحبا هلافلما ردت إلي

فإذا وردت عليه الشواغل والقواطع وردت على . فورد عليه قبل كل وارد، وهجم عليه قبل كل طارقحمل ممتليء مبحبة ما حيبه فوردت على ساحته من ظاهرها، فإذا قضى وطره منها قضاه مبصاحبته ملا ىف

.بقلبه من احلفسمع مبحبوه : فإنه قد لزمه مالزمة الغرمي لغرميه ولذلك يسمى غراما، وهو احلب الالزم الذى ال يفارق

حمل مسعه الذى يسمع به وبصره الذى ] حمبوبه ىف وجوده ىف[وأبصر به وبطش به ومشى به، فصار وهو غري متحد به، بل هو هذا مثل حمبوبه ىف وجوده. يبصر به ويده الىت يبطش هبا، ورجله الىت ميشى هبا

.قائم بذاته مباين لهوهذا املعىن مفهوم بني الناس ال ينكره منهم إال غليظ احلجاب، أو قليل العلم، ضعيف العقل، جيد حمبوبه قد استوىل على قلبه وذكره، فيظن أنه هو نفس ذاته اخلارجة قد احتدت به أو حلت فيه، فينشأ من قسوة

اب، ومن قله علم الثاىن ومعرفته وضعف متييزه ضالل احللول واالحتاد وضالل األول وكثافته غلظ حجمن بني فرث هذا ودم هذا لنب الفطرة األوىل خالصا سائغا ] للبصري[اإلنكار والتعطيل واحلرمان، وخيرج

.للشاربني] و[إميان الرجل عند دخوله ىف الصالة، فإهنا حمك األحوال وميزان اإلميان، هبا يوزن: املوطن الثالث

يتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من اهللا ونصيبه منه، فإهنا حمل املناجاة والقربة وال واسطة فيها بني العبد كان حمبا فإنه ال شيء آثر ] إن[وبني ربه، فال شيء أقر لعني احملب وال ألذ لقلبه وال أنعم لعيشه منها

، ]بقلبه على حمبوبه[ومناجاته له ومثوله بني يديه، وقد أقبل عند احملب وال أطيب له من خلوته مبحبوبه وكان قبل ذلك معذبا مبقاساة األغيار ومواصلة اخللق واالشتغال هبم فإذا قام إىل الصالة هرب من سوى اهللا إليه وآوى عنده واطمأن بذكره وقرت عينه باملثول بني يديه ومناجاته، فال شيء أهم إليه من

ىف سجن وضيق وغم حىت حتضر الصالة فيجد قلبه قد انفسخ وانشرح واستراح، كما قال الصالة، كأنه

Page 252: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أرحنا منها، كما يقول املبطلون : ، ومل يقل))يا بالل، أرحنا بالصالة: ((النىب صلى اهللا عليه وسلم لبالل .الغافلون

فيزول مهه وغمه، ليس مبستكمل اإلميان من مل يزل ىف هم وغم حىت حتضر الصالة : وقال بعض السلففالصالة قرة عيون احملبني وسرور أرواحهم، ولذة قلوهبم، وهبجة نفوسهم، حيملون هم . أو كما قال

الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما حيمل الفارغ البطال مهها حىت يقضيها بسرعة، فلهم فيها شأن وللنفارين وللنقارين شأن يشكون إىل [هبم، كما يشكوا الغافل شأن، يشكون إىل اهللا سوء صنيعهم هبا إذا ائتموااملعرض تطويل إمامه، فسبحان من فاضل بني النفوس ] اهللا سوء صنيعهم هبا إذا ائتموا هبم كما يشكوا

وباجلملة فمن كان قرة عينه ىف الصالة فال شيء أحب إليه وال أنعم . وفاوت بينها هذا التفاوت العظيمو قطع عمره هبا غري مشتغل بغريها، وإمنا يسلى نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عنده منها، ويود أن ل

عن قرب فهو دائما يثوب إليها وال يقضى منها وطرا، فال يزن العبد إميانه وحمبته هللا مبثل ميزان الصالة، .فإهنا امليزان العادل، الذى وزنه غري عائل

، فإن القلب ىف هذا املوطن ال يذكر إال أحب األشياء إليه، وال عند الشدائد واألهوال: املوطن الرابعوهلذا كانوا يفتخرون بذكرهم من حيبوهنم عند احلرب واللقاء، وهو . يهرب إال إىل حمبوبه األعظم عنده

:كثري ىف أشعارهم كما قال ذكرتك واخلطى خيطر بيننا وقد هنلت مىن املثقفة السمر

:وقال غريه رماح كأهنا أشطان بئر ىف لبان األدهـمولقد ذكرتك وال

، ))إن عبدى كل عبدى الذى يذكرىن وهو مالق قرنه: ((يقول تبارك وتعاىل: وقد جاء ىف بعض اآلثارأن عند مصائب الشدائد واألهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب -واهللا أعلم -والسر ىف هذا

إال لقربه من حمبوبه، فهو إمنا حيب حياته لتنعمه مبحبوبه، األشياء إليه، وهى حياته الىت مل يكن يؤثرها .فإذا خاف فوهتا بدر إىل قلبه ذكر احملبوب الذى يفوت بفوات حياته

كثريا ما يعرض للعبد عند موته هلجه مبا حيبه وكثرة ذكره له، ورمبا خرجت روحه -واهللا أعلم - وهلذاأنه جعل يقول عند ] رمحه اهللا[عن زفر )) احملتضرين((وذكر ابن أىب الدنيا ىف كتاب . وهو يلهج به

هلا ثالثة أمخاس الصداق، هلا ربع الصداق، هلا كذا ومات، المتالء قلبه من حمبة الفقه والعلم، : موتهوأيضا فإنه عند املوت تنقطع شواغله وتبطل حواسه فيظهر ما ىف القلب ويقوى سلطانه، فيبدو ما فيه من

شاه مات، ومسع من آخر بيت : وكثريا ما مسع من بعض احملتضرين عند املوت. عغري حاجب وال مدافوكان -شعر مل يزل يغىن به حىت مات وكان مغنيا، وأخربىن رجل عن قرابة له أنه حضره عند املوت

Page 253: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

هذه قطعة جيدة هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوى : فجعل يقول: قال -تاجرا يبيع القماش .حىت ماتكذا وكذا

واحلكاية ىف هذا كثرية جدا، فمن كان مشغوال باهللا وبذكره وحمبته ىف حال حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إىل اهللا، ومن كان مشغوال بغريه ىف حال حياته وصحته فيعسر عليه اشتغاله

ا كان جديرا بالعاقل أن يلزم قلبه باهللا وحضوره معه عند املوت ما مل تدركه عناية من ربه، وألجل هذفنسأل اهللا أن يعيننا . ولسانه ذكر اهللا حيثما كان ألجل تلك اللحظة الىت إن فاتت شقى شقاوة األبد

.على ذكره وشكره وحسن عبادته فصل

د ال وهذا احل. احملبة ميل القلب إىل حمبوبه: وقد قيل ىف احملبة حدود كثرية غري ما ذكره أبو العباس، فقيلوأيضا فإن امليل ال يدل على حقيقة . فإن احملبة أعرف عند القلب من امليل. يعطى تصور حقيقة احملبة

.احملبةفإهنا أخص من جمرد ميل القلب، إذ قد مييل قلب العبد إىل الشيء وال يكون حمبا له ملعرفته مبضرته له،

وهذا حد . بة علم احملب جبمال احملبوب وحماسنهاحمل: وقيل. فإن مسى هذا امليل حمبة فهو اختالف عبارةاحملبة تعلق : وقيل. قاصر، فإن العلم جبماله وحماسنه هو السبب الداعى إىل حمبته، فعرب عن احملبة بسببها

اشتغال القلب : وقيل. سكون القلب إليه: وقيل. انصباب القلب إىل احملبوب: وقيل. القلب باحملبوباحملبة بذل اجملهود ىف معرفة حمبوبك، وبذل اجملهود ىف : وقيل. غ قلبه لغريهباحملبوب، حبيث ال يتفر

، ]املوافقة[شجرة تنبت ىف القلب تسقى مباء : هيجان القلب عند ذكر احملبوب، وقيل: وقيل. مرضاته. احملبة حفظ احلدود، فليس بصادق من ادعى حمبة اهللا ومل حيفظ حدوده: وقيل. وإيثار رضى احملبوب

فطام واجلوارح عن إستعماهلا ىف غري مرضاة : وقيل[احملبة إرادة ال تنقص باجلفاء وال تزيد بالرب : وقيلاحملبة أن ال يزال عليك رقيب من احملبوب ال : احملبة هى السخاء بالنفس للمحبوب وقيل: وقيل] احملبوب

:وأنشد ىف ذلك. ميكنك من االنصراف عنه أبدا ـربا إليك، ويأىب العذل إال جتنباأبت غلبات الشوق إال تقـ

وما كان صدى عنك صد مالمة وال ذلك اإلعراض إال تقربا وما كان ذاك العذل إال نصيحة وال ذلك اإلغضاء إال هتيبـا على رقيب منك حل مبهجـىت إذا رمت تسهيال على تصعبا

Page 254: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

بة صدق اجملاهدة ىف أوامر اهللا، احمل: احملبة سقوط كل حمبة من القلب سوى حمبة حبيبك، وقيل: وقيلوال ميل من [احملبة أن ال يفتر من ذكره، : وقيل. وجتريد املتابعة لسنة رسول اهللا؟ صلى اهللا عليه وسلم

.وال يأنس بغريه] حقهاحملبة أن مييتك : وقيل. احملبة استقالل الكثري من نفسك واستكثار القليل من حبيبك: وقال أبو يزيد. احملبة أن هتب كلك ملن أحببت، فال يبقى لك منك شيء: وقال أبو عبد اهللا القرشى. بهحبيبك وحتيا

.احملبة نسيان حظك من حمبوبك وفقرك بكلك إليه: أن متحو من قلبك ما سوى احملبوب، وقيل: وقيلحملبوب احملبة ميلك إىل ا: وقال احلارث بن أسد. احملبة جمانبة السلو على كل حال: وقال النصر أباذى

بكليتك، مث إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، مث موافقتك له سرا وجهرا، مث علمك بتقصريك ىف .حبهاحملبة : وقيل. احملبة إقامتك بالباب على الدوام: وقيل. احملبة سكر ال يصحو إال مبشاهدة احملبوب: وقيلوب، والباء اخلروج عن البدن وصرفه ىف فاحلاء اخلروج عن الروح، وبذهلا للمحب. حاء، وباء: حرفان

.طاعة احملبوبتريد الدعوى؟ : قال. ال: تريد اإلشارة؟ قلت: سألت اجلنيد عن احملبة فقال: وقال أبو عمر الزجاجى

أن حتب ما حيب اهللا ىف عباده، وتكره ما يكرهه اهللا : عني احملبة، فقال: فإيش تريد؟ قلت: قال. ال: قلتحملبة معية القلب والروح مع احملبوب معية ال تفارقه، فإن املرء مع من أحب، وقد قيل ا: وقيل. ىف عباده

ىف احملبة حدود أكثر من هذا وكل هذا تعن، وال توصف احملبة وال حتد حبد أوضح من احملبة، وال أقرب .إىل الفهم من لفظها

الستعجام على الفهم، فإذا زال وأما ذكر احلدود والتعريفات فإمنا يكون عند حصول اإلشكال وا@

إن كل : اإلشكال وعدم االستعجام، فال حاجة إىل ذكر احلدود والتعريفات، كما قال بعض العارفني .واحملبة ألطف وأرق من كل ما يعرب به عنها. لفظ يعرب به عن الشيء فال بد أن يكون ألطف وأرق منه

فصل .يعرب هبا عن حقيقتها ليس للمحبة صيغة: وقال قوم: ((قال أبو العباس

فإن الغرية من أوصاف احملبة، والغرية تأىب إال التستر واالختفاء، وكل من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق، وإمنا حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئا لغاب عن

ا تظهر عليه بشمائله وحنوله وال يفهم حقيقتها فإن احملبة ال تظهر على احملب بلفظه وإمن. الشرح والوصف :من احملب سوى احملبوب، ملوضع اقتداح األسرار من القلوب، كما قيل

Page 255: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

تشري فأدرى ما تقول بطرفها وأطرق طرىف عند ذاك فتعلـم ))تكلم منا ىف الوجوه عيوننـا فنحن سكوت واهلوى يتكلم

ولكن . ا إذا كانت من املعاىن املعروفة للخاص والعامكل معىن فله صيغة تعرب به عنه، وال سيم: قلتالعبارة قد تكون كاشفة للمعىن مطابقة له، كلفظ الدراهم واخلبز واملاء واللنب وحنوها، وهى أكرب

.األلفاظوقد يكون املعىن فوق ما يشري إليه اللفظ ويعرب عنه، وهو أجل من أن يدل لفظه على كمال ماهيته وهذا

.سبحانه وأمساء كتابه كأمساء الربوكذلك اسم احلب فإنه ال يكشف امسه مسماه، بل مسماه فوق لفظه، وكذلك اسم الشوق والعشق

.وقد يكون املعىن دون اللفظ بكثري، واللفظ أجل منه وأعظم. واملوت والبالء وحنوهاس معناه على قدر وهذا كلفظ اجلوهر الفرد الذى هو عبارة عن أقل شيء وأصغره وأدقه وأحقره، فلي

املراد به أن لفظها ال يفهم )) ليس للمحبة صيغة يعرب هبا عن حقيقتها: ((لفظه، وإذا عرف هذا فقوهلم .حقيقة معناها ومعناها فوق ما يفهم من لفظها

هذا كالم ىف حكم احملبة ومقتضاها، )) الغرية من أوصاف احملبة، وهى تأىب إال التستر واالختفاء: ((وقولهىف حقيقتها ومعناها، واحملبون متباينون ىف هذا احلكم، فمنهم من جيعل الغرية من لوازم احملبة وعالمة ال

ثبوهتا ومتكنها وجيعل نداء املرء عليها وبسط لسانه باإلخبار هبا دليال على أنه دعى فيها، وأن ما معه منها :وهذه طريقة املالميني، كما قيل .رائحتها ال حقيقتها، وحقيقتها تأىب إال التستر والكتمان

ال تنكرى جحدى هواك، فإمنا ذاك اجلحود عليه ستر مسبلوهذه الطائفة رأت أن كمال احملبة بكتماهنا ألسباب . احملبة كتمان اإلرادة، وإظهار املوافقة: وهلذا قيل :عديدة: اء القلب كلها، كما قيلأن احلب كلما كان مكتوما كان أشد وأعظم سريانا وسكونا ىف أجز: أحدها

.احلب أقتله أكتمه فإذا أفشاه احملب وأظهره وباح به ونادى عليه ضعف أثره وصار عرضة للزوالأن احلب كنز من الكنوز، بل هو أعظم الكنوز املودعة ىف سر العبد وقلبه، فال طريق للصوص : الثاىن

صوص على موضع كنزه، وعرضه لسلبه منه، إليه، فإذا باح به ونادى عليه فقد دل قطاع الطريق واللفإذا غارت عليه أغارت على . فإن النفوس غيارة مغرية، تغار على احملبوب أن يشاركها ىف حبه أحد

.القلوب الىت فيها حبه فانتزعته منهوهذه اآلفة قد ابتلى هبا كثري من السالكني الذين هم ىف احلقيقة قطاع الطريق على السالكني إىل اهللا، وسولت هلم أنفسهم أن هذه غرية منهم على حمبوهبم أن جيب مثل هذه النفوس املتلوثة بالدنيا، وغرهتم

Page 256: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وحيولون بني تلك النفوس وبني حمبته فغاروا وأغاروا وهنبوا [أنفسهم ومنتهم أهنم يغارون على اهللا عداوة هللا ىف احلقيقة ومعاونة ] واستلبوا وهذه الطريقة عند احملبني املخلصني أولياء اهللا الداعني إىل اهللا

.للشيطان، وقعود على طريق اهللا املستقيم الذى خلق عباده ألجله وأمرهم بهفاحلذر من هؤالء القطاع اللصوص محل أهل احملبة على املبالغة ىف كتماهنا، وإظهار التخلى منها بأسباب

.يالمون عليها ظاهرا وقلوهبم مغمورة باحملبة مأهولة هباهو حسد محلهم على أن [ا الذى ظنوه غرية هو من تلبيس الشيطان وخدعه هلم ومكره هبم، وإمنا وهذ

، وإمنا غرية احملبني هللا أن يغار أحدهم حملارم اهللا إذا انتهكت، فيغار هللا ال ]يردوه وصالوا به ومسوه غريةمن يغار وغرية اهللا أن يأتى العبد ما إن اهللا يغار، وإن املؤ: ((على اهللا، كما قال النىب صلى اهللا عليه وسلم

، وإذا كان ]وأما[، فغرية احملب هى املوافقة لغرية حمبوبه، وهى أن يغار مما يغار منه احملبوب ))حرم عليهاحملبوب ممن حيبه وهذا يغار ممن حيبه اهللا فهو ىف احلقيقة ساع ىف خالف مراد حمبوبه، وىف إعدام ما حيبه

الغرية احملبوبة هللا؟ وإمنا هذه غرية من أخيه املسلم كيف خصه اهللا بعطائه وألبسه حمبوبه، فأين هذا منوسنفرد إن شاء اهللا للغرية . ثوب نعمائه، فهى غرية منه ال غرية على اهللا، فإن اهللا ال يغار عليه بل يغار له

.فصال نذكر فيه أقسامها وحقيقتهاب باحملبوب وعدم تفرغه للشرح والوصف، فلو صدقت حمبته أن احملبة التامة تستدعى شغل القل: الثالث

الستغرق فيها عن شرح حاله ووصفه، فهذه طريقة هوالء، ومنهم من جيعل هتتكه وبوحه هبا وإعالمه هلا من متامها وقوهتا، ومن عالمات قهرها له وأهنا غلبت على سره حىت مل يطق صربه كتماهنا، كما قال

.فهذا حال النووى وأضرابه. تار، وكشف األسراراحملبة هتك األس: النووىوعند هؤالء التكتم ضعف ىف احملبة وجور فيها، وحقيقتها أن ختليها ومقتضاها من ظهور آثارها على

أثرت دمعه مل يرسلها وإن أثرت تنفسا مل يكظمه [اجلوارح والبدن، فإن أثرت حركة مل يسكنها وإن .هأثرت بذال وإيثارا مل ميسك] وإن

وكمال احملبة عندهم أن تنادى عليه أعضاؤه وألفاظه وأحلاظه وحركاته وسكناته باحلب نداء ال ميلك .إنكاره

سكرت من كثرة ما شربت من كأس حمبته، : وقال على بن عبيد وكتب حيىي بن معاذ إىل أىب يزيدارج وهو يقول هل غريك شرب حبور السموات واألرض ما روى بعد، ولسانه خ: فكتب إليه أبو يزيد

وكان األستاذ أبو على الدقاق . فلم ير هذان العارفان التكتم هبا وإخفاءها وجحدها ومها مها. من مزيد :ينشد كثريا

ىل سكرتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي

Page 257: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

لقد أجلتىن : عبد اهللا رأيت ىف املنام كأنك متوت إىل سنة، فقال: وجاء رجل إىل عبد اهللا بن املنازل فقال ]:الثقفى[إىل أجل بعيد أعيش إىل سنة، لقد كان ىل أنس ببيت مسعته من أىب على

يا من شكى شوقه من طول فرقته اصرب لعلك تلقى من حتب غدا .احملب إذا سكت هلك، والعارف إن مل يسكت هلك: وقال الشبلىاجلبال الراسيات وقلبه على الود ال يلوى وال أن هذا هو حال املتمكن ىف حبه، الذى تزول: والتحقيق

.يتغريواألول حال املريد املبتديء الذى قد علقت نار احملبة ىف قلبه، ومل يتمكن اشتعاهلا، فهو خياف عليها عواصف الرياح أن تطفئها، فهو خيبئها ويكتمها ويسترها من الرياح جهده، فإذا اشتغلت ومتكن وقودها

.كثرة الرياح إال وقودا واشتعاالىف القلب مل تزدها واملقصود أن من بسط لسانه بالعبارة عنها . فهذا خيتلف باختالف الناس وتفاوهتم ىف قوة احملبة وضعفها

والكشف عن سرها وأحكامها لن يؤمن أن يكون من أهل العلم باحملبة ال من املتصفني هبا حاال، فكم وكثري من . حاال، فعلم احملبة شيء ووجودها ىف القلب شيءبني العلم بالشيء واالتصاف به ذوقا و

احملبني الذين امتألت قلوهبم حمبة لو سئل عن حدها وأحكامها وحقيقتها مل يطق أن يعرب عنها، وال يتهيأ .له أن يصفها ويصف أحكامها، وأكثر املتكلمني فيها إمنا تكلموا فيها بلسان العلم ال بلسان احلال

أعظم الناس حجابا عن اهللا أكثرهم إليه إشارة، فإنه إمنا :لم هو معىن قول بعض املشايخوهذا واهللا أعالقلب عليه، كالفقري الذى دأبه وصف األغنياء وأمواهلم، ووصف ] عكوف[حظه منه اإلشارة إليه ال

.الدنيا وممالكها، وهو خلو من ذلكغري من كثرة الكالم ىف هذه املسألة [ا، علم] منه[وال ريب أن وجود احلب ىف القلب وترك الكالم

، وخري من الرجلني من امتأل قلبه منها حاال وذوقا، وفاضت على لسانه إرشادا ]وخلو القلب منها .واهللا املسئول من فضله وكرمه. فهذا حال الكملة من الناس. وتعليما ونصيحة لألمة

هذا حق، فإن داللة احلال )) ظهر عليه بشمائله وحنولهاحملبة ال تظهر على احملب بلفظه، وإمنا ت: ((قوله. على احملبة أعظم من داللة القال عليها، بل الداللة عليها ىف احلقيقة هو شاهد احلال ال صريح املقال

إىن أحبك، وال شاهد عليه من حاله، وبني من هو ساكت ال يتكلم : ففرق بني من يقول لك بلسانه .ها ناطقة حببه لكوأنت ترى شواهد أحواله كل

فإذا ] وكذا[هذه خري لك من سبعمائة قصة وكذا : دفع السرى إليه رقعة، وقال: قال اجلنيد: قال جعفر :فيها

وملا ادعيت احلب قالت كذبتــىن فما ىل أرى األعضاء منك كواسيا

Page 258: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فما احلب حىت يلصق القلب باحلشا وتذبل حىت ال جتيـــب املناديا ى لك اهلوى سوى مقلة تبكى هبا وتناجيـــايبق] ال[وتبخل حىت

.الذى ال يكذب هو شاهد احلال، وأما شاهد املقال فصادق وكاذب] احملبه[وباجلملة فشاهد يعىن أن حقيقة )) وال يفهم حقيقتها من احملب سوى احملبوب، ملوضع اقتداح األسرار من القلوب: ((قوله

وذلك لشدة االتصال الذى بينه وبني حمبوبه ىف الباطن، . هاحملبة وسرها ال يفهمه من احملب إال حمبوبالغري وإن علم أنه حمب بظهور أثر احملبة عليه وقيام شاهدها لكن ال ] وأما[فروحه أقرب شيء إليه،

يدرك تلك اللطيفة واحلقيقة الىت يدركها احملبوب من حمبه، ملوضع اتصال سره، وقرب ما بني الروحني، ت احملبة من الطرفني فهناك العجب واملناجاة واملالطفة واإلشارة والعتاب والشكوى، وال سيما إذا كان

].فعجيب شأهنما[ومها ساكنان ال يدرى جليسهما بشأهنما فصل ىف حمبة العوام

املنة وتثبت باتباع السنة، وتنمو على اإلجابة للغاية، ] مطالعة[وأما حمبة العوام فهى حمبة تنبت من : ((قال)). طريق العوام عمدة اإلميان] ىف[حمبة تقطع الوسواس، وتلذذ اخلدمة، وتسلى عن املصائب، وهى وهى وكل درجة خاصة بالنسبة إىل ما . ال ريب أن احملبة درجات متفاوتة، بعضها أكمل من بعض: فيقال

يزا بالنسبة بفصل حتتها، عامة بالنسبة إىل ما فوقها، فليس انقسامها إىل خاص وعام انقساما حقيقيا متم :مييز أحد النوعني عن اآلخر، وإمنا تنقسم باعتبار الباعث عليها وسببها، وتنقسم بذلك إىل قسمني

حمبة تنشأ من اإلحسان، ومطالعة اآلالء والنعم، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، : أحدمهافإن إحسانه على عبده ىف كل نفس وبغض من أساء إليه، وال أحد أعظم إحسانا من اهللا سبحانه،

وحلظة، وهو يتقلب ىف إحسانه ىف مجيع أحواله، وال سبيل له إىل ضبط أجناس هذا اإلحسان فضال عن أنواعه أو عن أفراده، ويكفى أن من بعض أنواعه نعمة النفس الىت ال تكاد ختطر ببال العبد، وله عليه ىف

، فإنه يتنفس ىف اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس، كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمةوكل نفس نعمة منه سبحانه، فإذا كان أدىن نعمة عليه ىف كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة فما الظن

، هذا إىل ]١٨: النحل] [٣٤: إبراهيم* [}وإن تعدوا نعمة اهللا ال تحصوها{: مبا فوق ذلك وأعظم منهعنه من املضرات وأنواع األذى الىت تقصده، ولعلها توازن النعم ىف الكثرة، والعبد ال شعور به ما يصرف

قل من يكلؤكم بالليل والنهار {: بأكثرها أصال، واهللا سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال تعاىلمن يكلؤكم وحيفظكم منه إذا أراد بكم سوءا ويكون ، وسواء كان املعىن]٤٢:األنبياء* [}من الرحمن

البدلية أى من يكلؤكم بدل الرمحن )) من((يكلؤكم مضمنا معىن جيريكم وينجيكم من بأسه، أو كانت ولو نشآء {: هذه قوله)) من((أى هو الذى يكلؤكم وحده ال كايلء لكم غريه، ونظري ] سبحانه[

Page 259: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، على أحد القولني، أى عوضكم وبدلكم، ]٦٠: الزخرف* [}ة فى األرض يخلفونلجعلنا منكم مالئك :واستشدوا على ذلك بقول الشاعر

جارية مل تأكل املرققا ومل تذق من البقول الفستقا

أى مل تأكل الفستق بدل البقول، وعلى كال القولني فهو سبحانه منعم عليهم بكالءهتم وحفظهم هذا مع غناه التام عنهم وفقرهم التام . مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، ال حافظ هلم غريهوحراستهم

أنا اجلواد، ومن أعظم مىن جودا وكرما؟ أبيت أكأل : ((إليه من كل وجه، وىف بعض اآلثار يقول تعاىل )).عبادى ىف مضاجعهم وهم يبارزونىن بالعظائم

هذه روايا األرض يسوقها اهللا إىل : ((يه وسلم ملا رأى السحاب قالوىف الترمذى أن النىب صلى اهللا عل )).قوم ال يذكرونه، وال يعبدونه

ال أحد أصرب على أذى مسعه من اهللا، إهنم ليجعلون : ((وىف الصحيحني عنه صلى اهللا عليه وسلم أنه قال )).له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم

، خريى إليك نازل، وشرك إىل صاعد، كم أحتبب إليك بالنعم، ابن آدم: يقول اهللا: ((وىف بعض اآلثاروأنا غىن عنك، وكم تتبغض إىل باملعاصى، وأنت فقري إىل، وإال يزال امللك الكرمي يعرج إىل منك بعمل

))قبيحخلق هلم ما ىف السموات ] سبحانه[ولو مل يكن من حتببه إىل عباده وإحسانه إليهم وبره هبم إال أنه

ما ىف الدنيا واآلخرة، مث أهلهم وكرمهم، وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وشرع هلم واألرض وشرائعه، وأذن هلم ىف مناجاته كل وقت أرادوا وكتب هلم بكل حسنة يعملوهنا عشرة أمثاهلا إىل سبعمائة

حسنة، وإذا ضعف إىل أضعاف كثرية، وكتب هلم بالسيئة واحدة، فإن تابوا منها حماها وأثبت مكاهنا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء مث استغفره غفر له، لو لقيه بقراب، األرض خطايا مث لقيه بالتوحيد ال يشرك به شيئا ألتاه بقراهبا، مغفرة وشرع هلم التوبة اهلادمة للذنوب فوفقهم لفعلها مث قبلها منهم وشرع

سيئاهتم به، وكذلك ما شرعه هلم من الطاعات هلم احلج الذى يهدم ما قبله فوفقهم لفعله وكفر عنهموالقربات وهو الذى أمرهم هبا وخلقها هلم وأعطاهم إياها ورتب عليها جزاءها، فمنه السبب ومنه

.اجلزاء، ومنه التوفيق ومنه العطاء أوال وآخرا: أوال وآخرا] كلهليس منهم شيئا إمنا الفضل كله والنعمة كلها واإلحسان [وهم حمل إحسانه كله منه

تقرب هبذا إىل أقبله منك، فالعبد له واملال له والثواب منه، فهو املعطى أوال : وقال] ماله[أعطى عبده وآخرا فكيف ال حيب من هذا شأنه؟ وكيف ال يستحى العبد أن يصرف شيئا من حمبته إىل غريه؟ ومن

Page 260: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

م واجلود واإلحسان منه؟ فسبحانه وحبمده ال إله إال هو أوىل باحلمد والثناء واحملبة منه؟ ومن أوىل بالكرالعزيز احلكيم ويفرح سبحانه وتعاىل بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه ذنوبه، ويوجب له حمبته بالتوبة، وهو الذى أهلمه إياها ووفقه هلا وأعانه عليها، ومأل سبحانه وتعاىل مساواته من

تعملهم ىف االستغفار ألهل األرض واستعمل محلة العرش منهم ىف الدعاء لعباده املؤمنني مالئكته، واس .واالستغفار لذنوهبم ووقايتهم عذاب اجلحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته

فانظر إىل هذه العناية وهذا اإلحسان وهذا التحنن والعطف والتحبب إىل العباد واللطف التام هبم، ومع ذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وتعرف إليهم بأمسائه وصفاته وآالئه، ينزل كل ه

ليلة إىل مساء الدنيا يسأل عنهم ويستعرض حوائجهم بنفسه ويدعوهم إىل سؤاله، فيدعو مسيئهم إىل له قضاءها كل ليلة، التوبة ومريضهم إىل أن يسأله أن يشفيه وفقريهم إىل أن يسأله غناه وذا حاجتهم يسأ

إن الذين فتنوا المؤمنني {: قال تعاىل. ويدعوهم إىل التوبة وقد حاربوه وعذبوا أولياءه وأحرقوهم بالنار ].١٠: الربوج* [}والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق

. انظروا إىل كرمه كيف عذبوا أولياءه وحرقوهم بالنار، مث هو يدعوهم إىل التوبة: لفوقال بعض السفهذا الباب يدخل منه كل أحد إىل حمبته سبحانه وتعاىل، فإن نعمته على عباده مشهودة هلم، يتقلبون

.فيها على عدد األنفاس واللحظات، فهذه ))كم به من نعمه، وأحبوىن حبب اهللاأحبوا اهللا ملا يغذو: ((وقد روى ىف بعض األحاديث مرفوعا

فيها ازدادت ] بفكره[ورؤية النعم واآلالء، وكلما سافر القلب ] واإلحسان[حمبة تنشأ من مطالعة املنن حمبته وتأكدت، وال هناية هلا فيقف سفر القلب عندها، بل كلما ازداد فيها نظرا ازداد فيها اعتبارا وعجزا

، فيستدل مبا عرفه على ما مل يعرفه، واهللا سبحانه وتعاىل دعا عباده إليه من هذا عن ضبط القليل منهاالباب، حىت إدا دخلوا منه دعوا من الباب اآلخر وهو باب األمساء والصفات الذى إمنا يدخل منه إليه

أحد خواص عباده وأوليائه، وهو باب احملبني حقا الذى ال يدخل منه غريهم، وال يشبع من معرفته ].وظمأ[منهم، بل كلما بدا له منه علم ازداد شوقا وحمبة

فإذا انضم داعى اإلحسان واإلنعام إىل داعى الكمال واجلمال مل يتخلف عن حمبة من هذا شأنه إال أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصا وأبعدها من كل خري، فإن اهللا فطر القلوب على حمبة احملسن الكامل ىف

القه، وإذا كانت هذه فطرة اهللا الىت فطر عليها قلوب عباده، فمن املعلوم أنه ال أحد أعظم أوصافه وأخإحسانا منه سبحانه وتعاىل وال شيء أكمل منه وال أمجل، فكل كمال ومجال ىف املخلوق من آثار صنعه

قه ثناء عليه سبحانه وتعاىل، وهو الذى ال جيد كماله، وال يوصف جالله ومجاله، وال حيصى أحد من خل .جبميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثىن على نفسه

Page 261: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وإذا كان الكمال حمبوبا لذاته ونفسه وجب أن يكون اهللا هو احملبوب لذاته وصفاته، إذ ال شيء أكمل من تستدعى حمبه خاصة فإن امسائه كلها حسىن وهى مشتقة[منه، وكل اسم من أمسائه وصفة من صفاته

].فهو احملبوب احملمود لذاته وصفاته وأفعاله وأمسائه[، وأفعاله دالة عليها ]صفاتهفهو احملبوب احملمود على كل ما فعل وعلى كل أمر، إذ ليس ىف أفعاله عبث وال ىف أوامره سفه، بل

ب أفعاله كلها ال خترج عن احلكمة واملصلحة والعدل والفضل والرمحة، وكل واحد من ذلك يستوجفإنه إن أعطى فبفضله : احلمد والثناء واحملبة عليه، وكالمه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل

:ورمحته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته ما للعباد عليه حق واجب كال وال سعى لديه ضائـع إن عذبوا فبعدله، أو نعموا فبفضله، وهو الكرمي الواسع

فصلذا املقام حق تصوره فضال عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له صلى اهللا وال يتصور نشر ه، ولو شهد بقلبه صفة واحدة ))ال أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك: ((عليه وسلم يقول

هنم من أوصاف كماله الستدعت منه احملبة التامة عليها، وهل مع احملبني حمبة إال من آثار صفات كماله فإمل يروه ىف هذه الدار، وإمنا وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا مبا علموه على ما غاب، فلو شاهدوه ورأوا جالله ومجاله وكماله سبحانه وتعاىل لكان هلم ىف حبه شأن آخر، وإمنا تفاوتت

فأعرفهم باهللا أشدهم حبا له، . م بهمنازهلم ومراتبهم ىف حمبته على حسب تفاوت مراتبهم ىف معرفته والعلواخلليالن من بينهم أعظمهم حبا، وأعرف األمة به ] من غريه[وهلذا كانت رسله أعظم الناس حبا له

أشدهم له حبا، وهلذا كان املنكرون حلبه من أجهل اخللق به، فإهنم منكرون حلقيقة إهليته وخللة اخلليلني هللا الىت فطر اهللا عباده عليها، ولو رجعوا إىل قلوهبم لوجدوا حبه فيها، ولفطرة ا] صلى اهللا عليه وسلم[

يكذب فطرهم، وإمنا بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة وإعادة ما فسد منها ] وحبثهم[ووجدوا معتقدهم خلقت إىل احلالة األوىل الىت فطرت عليها، وإمنا دعوا إىل القيام حبقوقها ومراعاهتا لئال تفسد وتنتقل عما

.لهوهل األوامر والنواهى إال خدم وتوابع ومكمالت ومصلحات هلذه الفطرة؟ وهل خلق اهللا سبحانه

:وتعاىل خلقه إال لعبادته الىت هى غاية حمبته والذل له؟ وهل هييء اإلنسان إال هلا؟ كما قيل قد هيئوك ألمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع اهلمل

Page 262: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

حق غري باطلة إال حمبته سبحانه؟ فإن كل حمبة متعلقة بغريه فباطلة زائلة ببطالن وهل ىف الوجود حمبةوكل ما . متعلقها، وأما حمبته سبحانه فهو احلق الذى ال يزول وال يبطل، كما ال يزول متعلقها وال يفىن

.سوى اهللا باطل، وحمبة الباطل باطلمنها، ويعترف بوجود احملبة الباطلة املتالشية؟ وهل فسبحان اهللا كيف ينكر احملبة احلق الىت ال حمبة أحق

تعلقت احملبة بوجود حمدث إال الكمال ىف وجوده بالنسبة إىل غريه؟ وهل ذلك الكمال إال من آثار صنع فكل من أحب شيئا لكمال ما يدعوه إىل حمبته فهو )) اهللا الذى أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كله إال له

ولكن إذا كانت النفوس صغارا كانت . اهللا، وأنه أوىل بكمال احلب من كل شيء دليل وعربة على حمبة .حمبوباهتا على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإهنا تبذل حبها ألجل األشياء وأشرفها

واملقصود أن العبد إذا اعترب كل كمال ىف الوجود وجده من آثار كماله سبحانه، فهو دال على كمال كما أن كل علم ىف الوجود فمن آثار علمه، وكل قدرة فمن آثار قدرته، ونسبة الكماالت مبدعه،

املوجودة ىف العامل العلوى والسفلى إىل كماله كنسبة علوم اخللق وقدرهم وقواهم وحياهتم إىل علمه ، فيجب ]جل جالله[سبحانه وقدرته وقوته وحياته، فإذن ال نسبة أصال بني كماالت العامل وكمال اهللا

أن ال يكون بني حمبته وحمبة غريه من املوجودات له، بل يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء مبا ، فاملؤمنون أشد حبا ]١٦٥: البقرة* [}والذين آمنوا أشد حبا هللا{: ال نسبة بينهما، وهلذا قال تعاىل

.هذا مقتضى عقد اإلميان الذى ال يتم إال به. من كل حمب لكل حمبوب] تعاىل[لرهبم ومعبودهم وليست هذه املسألة من املسائل الىت للعبد عنها غىن أو منها بد، كدقائق العلم واملسائل الىت خيتص هبا بعض الناس دون بعض، بل هذه مسألة تفرض على العبد، وهى أصل عقد اإلميان الذى ال يدخل فيه

جناة له من عذاب اهللا إال هبا، فليشتغل هبا العبد أو ليعرض عنها، ومن الداخل إال هبا وال فالح للعبد والمل يتحقق هبا علما وحاال وعمال مل يتحقق بشهادة أن ال إله إال اهللا، فإهنا سرها وحقيقتها ومعناها، وإن

.أىب ذلك اجلاحدون وقصر عن علمه اجلاهلونلوب حببها وختضع له وتذل له وختافه وترجوه وتنيب إليه ىف فإن اإلله هو احملبوب املعبود الذى تؤهله الق

شدائدها وتدعوه ىف مهماهتا وتتوكل عليه ىف مصاحلها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إىل حبه وليس أصدق الكالم، وكان أهلها أهل اهللا وحزبه، واملنكرون ] ال إله إال اهللا[ذلك إال اهللا وحده، وهلذا كانت

.وأهل غضبه ونقمته هلا أعداؤه،فهذه املسألة قطب رحى الدين الذى عليه مداره، وإذا صحت صح هبا كل مسألة وحال وذوق، وإذا مل

.يصححها العبد فالفساد الزم له ىف علومه وأعماله، وأحواله وأقواله، وال حول وال قوة إال باهللا

Page 263: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

يعىن أن هلذه احملبة )) بت من مطالعة املنةوأما حمبة العوام فهى حمبة تن: ((فلنرجع إىل شرح كالمه فقولهاإلحسان ورؤية فضل اهللا ومنته على عبده، وثبوهتا باتباع أوامره الىت ] فمنشأها. [منشأ وثبوتا ومنوا

شرعها على لسان رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم، ومنوها وزيادهتا يكون بإجابة العبد لدواعى فقره فقره وفاقته إىل ربه أجاب هذا الداعى وهو فقري بالذات فال يزال فقره وفاقته إىل ربه، فكلما دعاه

يدعوه إليه، فإن دامت استجابته له بدوام الداعى مل تزل احملبة تنمو وتتزايد، فكلما أخطر الرب ىف قلبه انت هذه خواطر الفقر والفاقة بادر قلبه باإلجابة واالنكسار بني يديه ذال وفاقة وحبا وخضوعا، وإمنا ك

حمبة العوام عنده ألن منشأها من األفعال، ال من الصفات واجلمال، ولو قطع اإلحسان عن هذه القلوب لتغريت وذهبت حمبتها أو ضعفت، فإن باعثها إمنا هو اإلحسان، ومن ودك ألمر وىل عند انقضائه، فهو

.برؤية اإلحسان مشغول، وبتواىل النعم عليه حممولتقطع الوسواس، وتلذذ اخلدمة، وتسلى على املصائب، وهى ىف طريق العوام عمدة وهى حمبة: ((قوله

والوسواس إمنا ينشأ . إمنا كانت هذه احملبة قاطعة للوسواس إلحضار احملب قلبه بني يدى حمبوبه)). لإلميانر بني يدى من الغيبة والبعد، وأما احلاضر املشاهد فماله وللوسواس؟ فاملوسوس جياهد نفسه وقلبه ليحض

معبوده، واحملب مل يغب قلبه عن حمبوبه فيجاهده على إحضاره، فالوسواس واحملبة متنافيان، ومن وجه حمبة حبيبه فال تتوارد على قلبه ] احملب قد انقطعت عن قلبه وساوس األطماع المتأل قلبه من[آخر أن

.جواذب األطماع واألماىن الشتغاله مبا هو فيهوهذا عبد قد جىن من . س واألماىن إمنا تنشأ من حاجته وفاقته إىل ما تعلق طمعه بهوأيضا فإن الوسوا

اإلحسان، وأعطى من النعم ما سد حاجته وأغىن فاقته، فلم يبق له طمع وال وسواس، بل بقى حبه مل للمنعم عليه وشكره له وذكره إياه ىف حمل وساوسه وخواطره ملطالعة نعم اهللا عليه، وشهوده منها ما

.يشهد غريههو صحيح، فإن احملب يتلذذ خبدمة حمبوبه وتصرفه ىف طاعته، وكلما كانت )) وتلذذ اخلدمة: ((وقوله

احملبة أقوى كانت لذة الطاعة واخلدمة أكمل، فليزن العبد إميانه وحمبته هللا هبذا امليزان، ولينظر هل هو ؟ فهذا ]واللوامة[ا يأتى هبا على السآمة وامللل ، أو متكره هل]خبدمته كاملد واحملب خبدمة حمبوبه[ملتذ

.إميان العبد وحمبته هللا] حمل[أىن خارج ] عرفت[إىن أدخل الصالة فأمحل هم خروجى منها ويضيق صدرى إذا : قال بعض السلف

، ومن كانت قرة عينه ىف شيء ))جعلت قرة عيىن ىف الصالة((منها، وهلذا قال النىب صلى اهللا عليه وسلم .نه يود أن ال يفارقه وال خيرج منه فإن قرة عني العبد نعيمه وطيب حياته بهفإ

Page 264: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إىن ألفرح بالليل حني يقبل، ملا يلتذ به عيشى وتقر به عيىن من مناجاة من أحب، : وقال بعض السلفألذ وخلوتى خبدمته والتذلل بني يديه، وأغتم للفجر إذا طلع، ملا اشتغل به بالنهار عن ذلك، فال شيء ((

.للمحب من خدمة حمبوبه وطاعتهوهذه اللذة والتنعم باخلدمة إمنا . تعذبت بالصالة عشرين سنة، مث تنعمت هبا عشرين سنة: وقال بعضهم

.والتعب أوال، فإذا صرب عليه وصدق ىف صربه أفضى به إىل هذه اللذة] على النكرة[حتصل باملصابرة ى، فما زلت أسوقها حىت انساقت إليه وهى تضحك، وال سقت نفسى إىل اهللا وهى تبك: قال أبو زيد

يزال السالك عرضة لآلفات والفتور واالنتكاس حىت يصل إىل هذه احلالة، فحينئذ يصري نعيمه ىف سريه ولذته ىف اجتهاده وعذابه ىف فتوره ووقوفه، فترى أشد األشياء عليه ضياع شيء من وقته ووقوفه عن

.باحلب املزعج سريه، وال سبيل إىل هذا إالعن كل مصيبة يصاب هبا دونه، ] مبحبوبه[صحيح، فإن احملب يتسلى )) عن املصائب] تسلى: (([وقوله

فإذا سلم له حمبوبه مل يبال ملا فاته فال جيزع على ما ناله، فإنه يرى ىف حمبوبه عوضا عن كل شيء، وال .ا أبقت عليه حمبوبهيرى ىف شيء غريه عوضا منه أصال، فكل مصيبة عنده هينة إذ

وهلذا ملا خرجت تلك املرأة األنصارية يوم أحد تنظر ما فعل برسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم مرت بأبيها : ما فعل رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم؟ فقيل هلا: وأخيها مقتولني، فلم تقف عندمها، وجاوزهتما تقول

.إذا سلمت هلك من هلك ما أباىل: ها هو ذا حى، فلما نظرت إليه قالتولو مل يكن ىف احملبة من الفوائد إال هذه الفائدة وحدها لكفى هبا شرفا، فإن املصائب الزمة للعبد ال حميد له عنها، وال ميكن دفعها مبثل احملبة وهكذا مصائب املوت وما بعدها إمنا تسهل وهتون باحملبة، وكذلك

لنار وال يدفعها إال حمبة اهللا وحده ومتابعة رسوله صلى اهللا عليه مصائب القيامة، وأعظم املصائب مصيبة ا .وسلم

ذهب احملبون هللا بشرف الدنيا واآلخرة، فإن : فاحملبة أصل كل خري ىف الدنيا واآلخرة كما قال مسنون .فهم مع اهللا تعاىل)) املرء مع من أحب: ((النىب صلى اهللا عليه وسلم قال

كالم قاصر، فإهنا عمود اإلميان وعمدته وساقه الذى ال )) وام عمدة اإلميانوهى ىف طريق الع: ((وقوله .يقوم إال عليه، فال إميان بدوهنا البتة

مراده هذه احملبة اخلاصة الىت تنشأ من رؤية النعم هى عمدة إميان العوام، وأما اخلواص فعمدة ] أن[وإمنا .واهللا أعلم. اء والصفاتإمياهنم حمبة تنشأ من معرفة الكمال ومطالعة األمس

تقطع العبارة، وتدقق اإلشارة، وال تنتهى : وأما حمبة اخلواص فهى حمبة خاطفة: ((قال أبو العباس .))بالنعوت، وال تعرف إال باحلرية والسكوت

Page 265: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

:وقال بعضهم يقول وقد ألبست وجدا وحرية وقد ضمنا بعد التفرق حمضر

راها، فأين التذكر؟ألست الذى كنا حنــدث أنه ولوع بذك أفنيت ذكـره فلم يبــق إال زفرة وحتسر: فرد عليها الوجد

...)يتبع(إحدامها هذه املرتبة الىت أشار : مرتبتان من احملبة خمتلف ىف أيتهما أكمل من األخرى] ها هنا: [فيقال@

والدرجة الثالثة حمبة ((: فقال: إليها املصنف، وهى الدرجة الثالثة الىت ذكرها شيخ اإلسالم ىف منازلهخاطفة تقطع العبارة، وتدقق اإلشارة، وال تنتهى بالنعوت وهذه احملبة قطب هذا الشأن، وما دوهنا جمال

)).تنادى عليها األلسن، وادعتها اخلليقة، وأوجبتها العقولمن مطالعة الصفات، واملرتبة الثانية عند صاحب املنازل ومن تبعه دون هذه املرتبة، وهى احملبة الىت تنشأ

والدرجة الثانية حمبة تبعث على إيثار احلق على غريه، ويلهج اللسان بذكره، ويعلق : ((فقال ىف منزله، وإمنا ))القلب بشهوده، وهى حمبة تظهر من مطالعة الصفات والنظر ىف اآليات واالرتياض باملقامات

لى أصوهلم، فإن الفناء هو غاية السالك الىت ال غاية له جعل هؤالء هذه احملبة أنقص من احملبة الثالثة بناء عوراءها، فهذه احملبة ملا أفنت احملب واستغرقت روحه، حبيث غيبته عن شهوده وفىن فيها احملب وامنحت رسومه بالكلية ومل يبق هناك إال حمبوبه وحده، فكأنه هو احملب لنفسه بنفسه، إذ فىن من مل يكن وبقى

.من مل يزلقاطعة للعبارة، مدققة ((ملا ضاق نطاق النطق هبم عن التعبري عنها عدلوا إىل التعبري عنها بكوهنا و

يعىن تدق عنها اإلشارة، وألن اإلشارة تتناول حمبا وحمبوبا، وىف هذه احملبة قد فىن احملب فانقطع )) لإلشارة .تعلق اإلشارة به إذ اإلشارة ال تتعلق مبعدوم

ندهم هو الفناء ىف احلب حبيث ال يشاهد له رمسا وال حمبة وال سببا، وهلذا كانت وسر هذا املقام عبالبقاء وشهود األسباب، خبالف الثالثة، وهلذا ] مصحوبان[الدرجتان اللتان قبله عنه معلولتني، ألهنما

.يعىن أن النعت ال يصل إليها وال يدركها)) وال تنتهى بالنعوت: ((قالالىت تتضمن الفناء أكمل مما ] الثالثة[اعدته ىف كل باب من أبواب كتابه، جيعل الدرجة وهذا بناء على ق

قبلها والصواب أن الدرجة الثانية أكمل من هذه وأمت، وهى درجة الكملة من احملبني، وهلذا كان إمامهم صلى اهللا عليه وسلم ىف الذروة العليا من احملبة، وهو مراع جلر يان األمور وسيدهم وأعظمهم حبا

وجلريان األمة، مثل مساعه بكاء الصىب ىف الصالة فيخففها ألجله، ومثل التفاتة ىف صالته إىل الشعب .الذى بعث منه العني يتعرف له أمر العدو، وهذا هو ىف أعلى درجة احملبة

Page 266: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اب ربه وأوامره، وهلذا رأى ما رأى ىف ليلة اإلسراء وهو ثابت اجلأش حاضر القلب مل يفن عن تلقى خطصلوات اهللا [ومراجعته ىف أمر الصالة مرارا وال ريب أن هذا احلال أكمل من حال موسى الكليم

فإن موسى خر صعقا وهو ىف مقامه ىف األرض ملا جتلى ربه للجبل، والنىب صلى اهللا ] وسالمه عليهماغ بصره وما طغى، وال عليه وسلم قطع تلك املسافات وخرق تلك احلجب ورأى ما رأى وما زا

].صلوات اهللا وسالمه عليه[فؤاده وال صعق ] اضطرب[وال ريب أن الوراثة احملمدية أكمل من الوراثة املوسوية وتأمل شأن النسوة الالتى رأين يوسف كيف

، به، وأفناهن عن أنفسهن حىت قطعن أيديهن وامرأة العزيز أكمل ]قلوهبن[حسنه وتعلقت ] أدهشهن[نهن له وأشد ومل يعرض هلا ذلك، مع أن حبها أقوى وأمت، ألن حبها كان مع البقاء وحبهن كان حبا م

مع الفناء، فالنسوة غيبهن حسنه وحبه عن أنفسهن، فبلغن من تقطيع أيديهن ما بلغن، امرأة العزيز مل قوياء من احملبني، عن نفسها، بل كانت حاضرة القلب متمكنة ىف حبها، فحاهلا حال األ]يغيبها حبها له[

.وحال النسوة حال أصحاب الفناءومما يدل على أن حال البقاء ىف احلب أكمل من حال الفناء أن الفناء إمنا يعرض لضعف النفس عن وارد احملبة، فتمتليء به وتضعف عن محله فيفنيها ويغيبها عن متييزها وشهودها فيورثها احلرية والسكوت، وأما

دل على ثبات النفس ومتكنها، وأهنا محلت من احلب ما مل يطق محله صاحب الفناء، حال البقاء فيفتصرفت ىف حبها ومل يتصرف فيها، والكمال من إذا ورد عليه احلال تصرف هو فيه وال يدع حاله

.يتصرف فيهوأوامره، وأيضا فإن البقاء متضمن لشهود كمال احملبوب، ولشهود ذل عبوديته وحمبته، ولشهود مراضيه

والتمييز بني ما حيبه ويكرهه، والتمييز بني احملبوب إليه واألحب، والعزم على إيثار األحب إليه، فكيف الفاىن عن شهوة هذا يتعيب احلب له أكمل وأقوى؟ وأى عبودية للمحبوب ىف فناء احملب ىف [يكون ].حمبته؟

التمييز وشهود عزة حمبوبه وذله وهو ىف حبه وهل العبودية كل العبودية إال ىف البقاء والصحو وكمالواستكانته فيه، واجتماع إرادته كلها ىف تنفيذ مراد حمبوبه؟ فهذا وأمثاله مما يدل على أن الدرجة الثانية

.الىت أشار إليها أكمل من الثالثة وأمت وهكذا ىف مجيع أبواب الكتاب واهللا أعلممن قطع هذه املفاوز حاال وذوقا، وأما الكالم فيها بلسان وكأىن بك تقول ال يقبل ىف هذا إال كالم

.اجملرد فغري مقبول، واحملبون أصحاب احلال والذوق ىف احملبة هلم شأن وراء األدلة واحلجج] العلم[

Page 267: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فاعلم أوال أن كل حال وذوق ووجد وشهود ال يشرق عليه نور العلم املؤيد بالدليل فهو من عبث و قدر أن املتكلم إمنا تكلم بلسان العلم اجملرد فال ريب أن ما كشفه العلم الصحيح النفس وحظوظها، فل

.املؤيد باحلجة أنفع من حال خيالف العلم والعلم خيالفهوليس من اإلنصاف رد العلم الصحيح مبجرد الذوق واحلال، وهذا أصل الضاللة، ومنه دخل الداخل

. مواجيدهم على العلم، فكانت فتنة ىف األرض وفساد كبريعلى كثري من السالكني ىف حتكيم أذواقهم ووكم قد ضل وأضل حمكم احلال على العلم، بل الواجب حتكيم العلم على احلال ورد احلال إليه، فما زكاه شاهد العلم فهو املقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو املردود، وهذه وصية أرباب االستقامة من

يوصون بذلك وخيربون أن كل ذوق ووجد ال يقوم عليه شاهدان اثنان ] نهرضى اهللا ع[مشايخ الطريق ليس من شرط قبول العلم بالشيء من العامل به أن يكون ذائقا له، : من العلم فهو باطل، ويقال ثانيا

أفتراك ال تقبل معرفة اآلالم واألوجاع وأدويتها إال ممن قد مرض هبا وتداوى هبا؟ أفيقول هذا عاقل؟ أتريد بالذوق أن يكون القائل قد بلغ الغاية القصوى ىف هذه املرتبة فال يقبل إال ممن هذا : ل ثالثاويقا

؟ فإن أردت األول لزمك أن ال يقبل ]احلملة[شأنه، أو تريد أنه ال بد أن يكون له أذواق أهله من حيث ين لك نفيه عن صاحب أحد من أحد، إذ ما من ذوق إال وفوقه أكمل منه، وإن أردت الثاىن فمن أ

العلم؟ ولكن إلعراضك عن العلم وأهله صرت تظن أن أهل العلم هلم العلم والكالم والوصف، .وللمعرضني عنه الذوق واحلال واالتصاف، والظن خيطيء تارة ويصيب، واهللا أعلم

فصلوإمنا عني احلقيقة فعند القوم كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته،: ((قال أبو العباس

عندهم أن يكون قائما بإقامته له، حمبا مبحبته له، ناظرا بنظره، ال من غر أن يبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بنظر أو تنعت بنعت أو توصف بوصف أو تنسب إىل وقت، صم بكم عمى

)).لدينا حمضرونليه كثري من املتأخرين، وجيعلونه غاية الغايات وهناية النهايات هذا هو مقام الفناء الذى يشري إ: فيقال

وهلذا كانت احملبة عندهم آخر منازل الطريق، وأول أودية الفناء، . وكل ما دونه فمرقاة إليه وعيلة عليها والعقبة الىت ينحدر منها على منازل احملو، وهى آخر منزل يلقى فيه مقدمة العامة ساقة اخلاصة، وما دوهن

.إعراض اإلعراضفجعلوا احملبة منزال من املنازل ليست غاية، وجعلوها أول األودية الىت يسلك فيها أصحاب الفناء، فهى

.أول أوديتهم والعقبة الىت ينحدرون منها إىل منازل الفناء واحملو

Page 268: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مقدمون عليهم فليست هى الغاية عندهم، وأصحاهبا عندهم مقدمة العامة، وساقة أصحاب الفناء عندهم سابقون هلم، فإهنم ساقة اخلاصة وهؤالء مقدمة العامة، فهذا كله بناء على أن الفناء هو الغاية الىت ال غاية

رمحه [وقد تبني ما ىف ذلك، وما هو الصواب حبمد اهللا، فقوله . للعبد وراءها وال كمال له يطلبه فوقهاالعبودية الىت ] منه[إذا كان إمنا : يقال له)) ز العبد وفاقتهكل ما هو من العبد فهو علة تليق بعج]: ((اهللا

، وفضله، فأى علة هنا سوى وقوفه ]ملنه[حيبها اهللا كسبا ومباشرة فهو قائم هبا شاهد ملقيمه فيها مطالع مع شهودها منه، وغيبته عن شهود إقامة اهللا وحتريكه إياه، وتوفيقه له؟ فالعلة هى هبذا الشهود وهذه

ة املنفاية لكمال االفتقار والفاقة إىل اهللا، وأما شهود فقره وفاقته وجمموع حاالته وحركاته وسكناته الغيب .مستعينا به أن يقيمه ىف عبودية خالصة له، فال علة هناك] وبارئه[إىل وليه

يشهد إقامة إن أردت أنه: إىل آخر كالمه، يقال)) وإمنا عني احلقيقة أن يكون قائما بإقامته له: ((قولهاهللا له حىت قام وحمبته له حىت أحبه ونظره إىل عبده حىت أقبل عبده عليه ناظرا إليه بقلبه فهذا حق، فإن ما من اهللا سبق ما من العبد، فهو الذى أحب عبده أوال فأحبه العبد، وأقام العبد ىف طاعته فقام بإقامته،

].عبده[فتاب إليه ونظر إليه فأقبل العبد عليه، وتاب عليه أوال وإن أردت أنه ال يشهد فعله البتة بل يفىن عنه مجلة ويشهد أن اهللا وحده هو الذاكر لنفسه املوحد لنفسه

-ىف شهوده، وإن مل تفن وتعدم ىف اخلارج] حرما[احملب لنفسه، وأن هذه األسباب والرسوم تصري عدما جمردة ال ] ى ال كمال فوقه وال غاية وراءه دعوىأن هذا هو الكمال الذ[فدعوى - وهذا هو مراد القوم

يستدل عليها مدعيها بأكثر من الذوق والوجد، وقد تقدم أن هذا ليس بغاية، وإمنا غايته أن يكون من .عوارض الطريق، وأن شهود األشياء ىف مراتبها ومنازهلا الىت أنزهلا سبحانه إياها أكمل وأمت

صفات الكفار، فإن اهللا ذمهم بأهنم صم بكم عمى، فهذه صفات ويكفى ىف بعض هذا االحتجاج عليه بنقص وذم ال صفات كمال ومدحة، وهل الكمال إال ىف حضور السمع والبصر والعقل وكمال التمييز وتنزيل اخللق واألمر منازهلما والتفريق بني ما فرق اهللا بينه؟ فاألمر كله فرقان ومتييز وتبيني، فكلما كان

.واحلمد هللا رب العاملني. فوقانه أمت كان حاله أكمل وسريه أصح وطريقه أقوم وأقربمتييز العبد و فصل

وأما الشوق فهو هبوب القلب إىل غائب، وإعواز الصرب عن فقده، وارتياح السر إىل : قال أبو العباس. غائبوهو من مقامات العوام، وأما اخلواص فهو عندهم خملة عظيمة ألن الشوق إمنا يكون إىل. طلبه

وهلذا . ومذهب هذه الطائفة إمنا قام على املشاهدة والطريق عندهم أن يكون العبد غائبا واحلق ظاهرا .املعىن مل ينطق بالشوق كتاب وال سنة صحيحة

Page 269: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

* }وهو معكم أينما كنتم{: غائب، وهو يطلع إىل إدراك] إىل[الشوق خمرب عن بعد ومشري ] ألن[ :وقيل ،]٤: احلديد[

وال معىن لشكوى الشوق يوما إىل من ال يزول عن العيـاناحملبة أعلى من الشوق هذا قول ابن عطاء : اختلف الناس ىف الشوق واحملبة أيهما أعلى؟ فقالت طائفة

. فهى أصله وهو فرعها: وغريه، واحتجوا بأن الشوق غايته أن يكون أثرا من آثار احملبة، ومتولدا عنهاالشوق : وقالت طائفة منهم سرى السقطى وغريه. احملبة توجب آثارا كثرية فمن آثارها الشوقو: قالواالشوق أجل مقامات العارف، إذا حتقق ىف الشوق هلا عن كل : مسعت السرى يقول: قال اجلنيد. أعلى

لثاىن ىف األول ىف حقيقة الشوق، وا: وإمنا يظهر سر املسألة بذكر فصلني. شيء يشغله عمن يشتاق إليه .الفرق بينه وبني احملبة

:ويتبع ذلك مخس مسائل هل جيوز إطالقه على اهللا كما يطلق عليه أنه حيب عباده أم ال؟: إحداها يشتاق إىل اهللا كما يقال حيبه؟: هل جيوز إطالقه على العبد فيقال: الثانيةشوق القريب الداىن، أم : علىأنه هل يقوى بالوصول والقرب، أم يضعف هبما؟ فأى الشوقني أ: الثالثة

شوق البعيد الطالب؟ ما الفرق بينه وبني االشتياق، فهل مها مبعىن واحد أم بينهما فرق؟: الرابعة .ىف بيان مراتبه وأقسامها ومنازل أهله فيه: اخلامسة

:ىف حقيقة الشوق -الفصل األول هو هليب ينشأ بني : وقيل. وحيصل لههو سفر القلب ىف طلب حمبوبه، حبيث ال يقر قراره حىت يظفر به

الشوق هبوب القلب إىل حمبوب : وقيل. أثناء احلشا، سببه الفرقة، فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب .غائب

القلوب حنو ] تروح[الشوق ] وقيل: الشوق ارتياح القلوب وحمبه اللقاء بالقرب[وقال ابن خفيف فهذه احلدود وحنوها مشتركة ىف أن . ار اللقاء بعد البعادالشوق انتظ: ويقال. احملبوب من غري منازع

.الشوق إمنا يكون مع الغيبة من احملبوب وأما مع حضوره ولقائه فال شوقوهذه حجة من جعل احملبة أعلى منه، فإن احملبة ال تزول باللقاء، وهبذا يتبني الكالم ىف الفصل الثاىن وهو

.الفرق بينه وبني احملبة :الفرق بينهما -ىن الفصل الثا

Page 270: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

حملبىت له اشتقت إليه وأحببته : فإن احلامل على الشوق هو احملبة، وهلذا يقال. فرق ما بني الشيء وأثره .لشوقى إليه أحببته، وال اشتقت إىل لقائه فأحببته: فاشتقت إىل لقائه، وال يقال

ا محد احملبوب والرضى عنه فاحملبة بذر ىف القلب، والشوق بعض مثرات ذلك البذر، وكذلك من مثراهتوشكره وخوفه ورجاؤه والتنعيم بذكره والسكون إليه واألنس به والوحشية بغريه، وكل هذه من أحكام

فإن القلب إذا : ومثراهتا، وهو حياهتا، فمنزلة الشوق من احملبة منزلة اهلرب من البغضاء والكراهة... احملبةذا أحبه جد ىف اهلرب إليه وطلبه، فهو حركة القلب ىف الظفر أبغض الشيء وكرهه جد ىف اهلرب منه، وإ

.مبحبوبه ولشدة ارتباط الشوق باحملبة يقع كل واحد منهما موقع صاحبه ويفهم منه ويعرب عنه فصل

هل جيوز إطالقه على اهللا؟ فهذا مما مل يرد به القرآن وال السـنة بصريح : فإحداها] اخلمس[وأما املسائل .وسبب ذلك أن الشوق إمنا يكون لغائب: وغريه)) منازل السائرين((صاحب قال. لفظه

.. ومذهب هذه الطائفة إمنا قام على املشاهدة، وهلذا السبب عندهم مل جييء ىف حق اهللا وال ىف حق العبدطال شوق األبرار إىل لقائى، : ((وجوزت طائفة إطالقه كما يطلق عليه سبحانه، ورووا ىف أثر أنه يقول

وهذا الذى تقتضيه احلقيقة، وإن مل يرد به لفظ صريح، فاملعىن حق، فإن : قالوا)). وأنا إىل لقائهم أشوق .كل حمب فهو مشتاق إىل لقاء حمبوبه

وأما قولكم إن الشوق إمنا يكون إىل الغائب وهو سبحانه ال يغيب عن عبده وال يغيب العبد عنه، : قالواوالقرب فأمر آخر، فالشوق يقع باالعتبار الثاىن وهو قرب احلبيب ولقاؤه فهذا حضور العلم، وأما اللقاء

.والدنو منه، وهذا له أجل مضروب ال ينال قبلههذا : ، قال أبو عثمان احلريى]٥: العنكبوت* [}من كان يرجو لقاء اهللا فإن أجل اهللا آلت{: قال تعاىل

أن اشتياقكم إىل غالب، وأنا أجلت للقائكم أجال، وعن قريب يكون إىن أعلم : تعزية للمشتاقني، معناهمتوقف على السمع، ومل يرد به، فال ] اللفظ[إطالقه : والصواب أن يقال. وصولكم إىل من تشتاقون إليه

.وهذا كلفظ العشق أيضا، فإنه ملا مل يرد به مسع فإنه ميتنع إطالقه عليه سبحانه. ينبغى إطالقهأطلقه سبحانه على نفسه وأخرب به عنها أمت من هذا وأجل شأنا هو لفظ احملبة، فإنه سبحانه واللفظ الذى

يوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعالها، فيوصف من اإلرادة بأكملها وهو احلكمة ، ]١٦: الربوج] [١٠٧: هود* [}فعال لما يريد { : وحصول كل ما يريد بإرادته كما قال تعاىل

، وبإرادة ]١٨٥: البقرة* [}يريد اهللا بكم اليسر وال يريد بكم العسر{: وبإرادة اليسر ال العسر كما قالواهللا يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن {: اإلحسان وإمتام النعمة على عباده كقوله

.وإرادة امليل ملبتغى الشهوات] له[التوبة ] فإرادة[، ]٢٧: النساء* [}ميلوا ميال عظيمات

Page 271: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كم ما يريد اهللا ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعل{: وقوله تعاىل، وكذلك الكالم يصف نفسه منه بأعلى أنواعه كالصدق والعدل واحلق، ]٦: دةاملائ* [}تشكرون

.نفسه منه بأكمله وهو العدل واحلكمة واملصلحة والنعمة] يصنف[وكذلك الفعل يحب {، ]٥٤: املائدة* [}يحبهم ويحبونه{: وهكذا احملبة وصف نفسه منها بأعالها وأشرفها فقال

: آل عمران] [١٩٥: البقرة* [}يحب المحسنني{، ]٢٢٢: البقرة* [}ويحب المتطهرين التوابني ].١٤٦: آل عمران* [}يحب الصابرين{، و]٩٣: املائدة] [١٣: املائدة] [١٤٨: آل عمران] [١٣٤

ها، فإن مسمى احملبة أشرف ومل يصف نفسه بغريها من العالقة وامليل والصبابة والعشق والغرام وحنوال تنفك عن لوازم ومعان ] املسميات[وهذه . ، فجاء ىف حقه إطالقه دوهنا]املسميات[وأكمل من هذه

تنزه تعاىل عن االتصاف هبا، وهكذا مجيع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معىن ولفظا مما مل .يطلقه

والكرمي اجلواد أكمل من السخى، واخلالق الباريء املصور فالعليم اخلبري أكمل من الفقيه والعارف، أكمل من الصانع الفاعل، وهلذا مل جتيء هذه ىف أمسائه احلسىن، والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق

فعليك مبراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من األمساء والصفات والوقوف معها، وعدم ] واملشفق[ه ما مل يكن مطابقا ملعىن أمسائه وصفاته، وحينئذ فيطلق املعىن ملطابقته له إطالق ما مل يطلقه على نفس

به، وغريه فإنه ال جيوز إطالقه إال مقيدا، ] ميدح[دون اللفظ وال سيما إذا كان جممال أو منقسما إىل ما لقه على نفسه وهذا كلفظ الفاعل والصانع، فإنه ال يطلق عليه ىف أمسائه احلسىن إال إطالقا مقيدا أط

: ، وقوله]٢٧: إبراهيم* [}ويفعل اهللا ما يشآء{، ]١٦: الربوج* [}فعال لما يريد{: كقوله تعاىل، فإن اسم الفاعل والصانع منقسم املعىن إىل ما ميدح ]٨٨: النمل* [}صنع اهللا الذى أتقن كل شيء{

.عليه ويذممل جييء ىف األمساء احلسىن املريد كما جاء فيها السميع البصري، وال املتكلم وال -علمواهللا أ - وهلذا املعىن

.اآلمر الناهى النقسام مسمى هذه األمساء بل وصف نفسه بكماالهتا وأشرف أنواعهاومن هنا يعلم غلط بعض املتأخرين وزلقة الفاحش ىف اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخرب به عن نفسه

طلقا فأدخله ىف أمسائه احلسىن، فاشتق له اسم املاكر، واخلادع، والفاتن، واملضل، والكاتب، وحنوها امسا م: ، ومن قوله]١٤٢: النساء* [}وهو خادعهم{: ، ومن قوله]٣٠: األنفال* [}ويمكر اهللا{: من قوله

، ]٨: فاطر] [٩٣: النحل] [٢٧: الرعد* [}اءيضل من يش{: ، ومن قوله]١٣١: طه* [}لنفتنهم فيه{ :، وهذا خطأ من وجوه]٢١: اجملادلة* [}كتب اهللا ألغلبن{: وقوله تعاىل

.أنه سبحانه مل يطلق على نفسه هذه السماء، فإطالقها عليه ال جيوز: أحدها

Page 272: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إليه مسمى االسم عند أنه سبحانه أخرب عن نفسه بأفعال خمتصة مقيدة، فال جيوز أن ينسب : الثاىن .اإلطالقأن مسمى هذه األمساء منقسم إىل ما ميدح عليه املسمى به، وإىل ما يذم، فيحسن ىف موضع، : الثالث

.ويقبح ىف موضع، فيمتنع إطالقه عليه سبحانه من غري تفصيلأمساء الرب جيوز أن يسمى هبا فإن [أن هذه ليست من األمساء احلسىن الىت يسمى هبا سبحانه : الرابع

، وهى الىت حيب ]١٨٠: األعراف* [}وهللا األسماء الحسنى{: ، كما قال تعاىل]تعاىل كلها حسىن .سحبانه أن يثىن عليه وحيمد هبا دون غريها

أن هذا القائل لو سمى هبذه األمساء، وقيل له هذه مدحتك وثناء عليك، فأنت املاكر الفاتن : اخلامسلالعن الفاعل الصانع وحنوها ملا كان يرضى بإطالق هذه األمساء عليه ويعدها مدحة، املخادع املضل ا

.وهللا املثل األعلى سبحانه وتعاىل عما يقول اجلاهلون به علوا كبرياأن هذا القائل يلزمه أن جيعل من أمسائه الالعن واجلائى واآلتى والذاهب والتارك واملقاتل : السادس

واملدمر وأضعاف أضعاف ذلك، فيشتق له امسا من كل فعل أخرب ] واملذموم[نازل والصادق واملنزل والبه عن نفسه، وإال تناقض تناقضا بينا، وال أحد من العقالء طرد ذلك، فعلم بطالن قوله واحلمد هللا رب

.العاملني

فصلقائه؟ فهذا غري ممتنع، فقد روى هل يطلق على العبد أنه يشتاق إىل اهللا وإىل ل: وأما املسألة الثانية وهى

: اإلمام أمحد ىف مسنده والنسائى وغريمها من حديث محاد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه قالوما على من ذلك ولقد : خففت يا أبا اليقظان، فقال: صلى بنا عمار بن ياسر صالة فأوجز فيها، فقلت

عليه وسلم، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن دعوت اهللا بدعوات مسعتها من رسول اهللا صلى اهللااللهم بعلمك الغيب وقدرتك على اخللق أحيىن ما علمت احلياة خريا ىل وتوفىن إذا : ((الدعوات فقال

علمت الوفاة خريا ىل، اللهم إىن أسألك خشيتك ىف الغيب والشهادة، وأسألك كلمة احلق ىف الغضب الفقر والغىن، وأسألك نعيما ال ينفد وقرة عني ال تنقطع وأسألك الرضا بعد والرضا، وأسألك القصد ىف

القضاء وبرد العيش بعد املوت وأسألك لذة النظر ىف وجهك والشوق إىل لقائك، ىف غري ضراء مضرة )).وال فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة اإلميان واجعلنا هداة مهتدين

ه الكرمي، وشوق أحبابه إىل لقائه، فإن حقيقة الشوق إليه هو الشوق فهذا فيه إثبات لذة النظر إىل وجه: ، صلى اهللا عليه وسلم]قوله[مسعت األستاذ أبا على يقول ىف : إىل لقائه، قال أبو القاسم القشريى

Page 273: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كان الشوق مائة جزء فتسعة وتسعون له، وجزء متفرق ىف الناس : قال)) أسألك الشوق إىل لقائك((ومسعته يقول ىف قول : قال. ن ذلك اجلزء له أيضا، فغار أن تكون شظية من الشوق ىف لغريهفأراد أن يكو

، ]الرضا[معناه شوقا إليك، فستره بلفظ : ، قال]٨٤: طه* [}وعجلت إليك رب لترضى{: موسى .وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه وال ميتنعون منه

إن كان هذا ألجل اجلنة فقد أحبتها لك، وإن : ى بصره، فأوحى اهللا إليهإن شعيبا بكى حىت عم: وقيلمن اشتاق إىل اهللا : ال بل شوقا إليك، وقال بعض العارفني: فقال. كان ألجل النار فقد أجرتك منها

.اشتاق إليه كل شيءالنور ما بني فإذا حترك اشتياقهم أضاء ] عز وجل[منورة بنور اهللا ] املشتاقني[قلوب : وقال بعضهم

هؤالء املشتاقون إلى، أشهدكم أىن إليهم أشوق، : السماء واألرض، فيعرضهم اهللا على املالئكة فيقولوإذا كان الشوق هو سفر القلب ىف طلب حمبوبه ونزوعه إليه فهو من أشرف مقامات العبيد وأجلها

دائما ] فاحملب[الشوق ] تستلذم[بة وأعالها، ومن أنكر شوق العبد إىل ربه فقد أنكر حمبته له، ألن احمل .ال يهدأ قلبه وال يقر قراره إال بالوصول إليه]: حبيبه[مشتاق إىل لقاء

] هذه[إن الشوق عند اخلواص علة عظيمة، ألن الشوق إمنا يكون إىل غائب، ومذهب :((قوله] وأما[ن،ومشاهدة عيان، وبينهما من مشاهدة عرفا: املشاهدة نوعان:فيقال)) الطائفة إمنا قام على املشاهدة

التفاوت ما بني اليقني والعيان، وال ريب أن مشاهدة العرفان متفاوتة حبسب تفاوت الناس باملعرفة ورسوخهم فيها، وليس للمعرفة هناية تنتهى إليها حبيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب، بل

ا وراءه، وكلما ازداد معرفة ازداد شوقا، فشوق كلما وصل منها إىل معلم ومنزلة اشتد شوقه إىل مالعارف أعظم الشوق فال يزال ىف مزيد من الشوق ما دام ىف مزيد من املعرفة، فكيف يكون الشوق

.عنده علة عظيمة؟ هذا من احملال البنيمع الشوق هذا. بل من عرف اهللا اشتاق إليه، وإذا كانت املعرفة ال هناية هلا فشوق العارف ال هناية له

الناشيء عن طلب اللقاء والرؤية واملعرفة العيانية، فإذا كان القلب حاضرا عند ربه وهو غري غائب عنه مل .يوجب له هذا أن ال يكون مشتاقا إىل لقائه ورؤيته، بل هذا يكون أمت لشوقه وأعظم

ل تقدير، وإن الشوق كالم باطل على ك)) وإن الشوق علة عظيمة ىف طريق اخلواص: ((فظهر أن قولهباحلقيقة إمنا هو شوق اخلواص العارفني باهللا، والعبد إذا كان له مع اهللا حال أو مقام وكشف له عما هو أفضل منه وأجل اشتاق إليه بالضرورة، ومل يكن شوقه علة له ونقصا ىف حاله بل زيادة وكماال، ويكون

.ترك الشوق هو العلة

Page 274: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ة تنتهى إليها فيبطل الشوق بنهايتها، بل ال يزال العارف ىف مزيد من معرفته وقد تقدم أن ال غاية للمعرف .وشوقه واهللا املستعان

فصلالشوق يزول باللقاء، ألنه : هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى؟ فقالت طائفة: وهى] الثالثة[وأما املسألة

عىن للشوق إىل شيء حاصل، طلب، فإذا حصل املطلوب زال الطلب، ألن حتصيل احلاصل حمال، وال مليس كذلك بل الشوق : وإمنا يكون الشوق إىل شيء مراد احلصول حمبوب اإلدراك، وقالت طائفة أخرى

:يزيد بالوصول واللقاء ويتضاعف بالدنو، وهلذا قال القائل وأعظم ما يكون الشوق يوما إذ دنت الديار من الديار

شوق احملبوبني واحتجت هذه الطائفة بأن الشوق من آثار شوق أهل القرب أمت من: وهلذا قال بعضهم .أن احلب ال يزول باللقاء فهكذا الشوق الذى ال يفارقه] وكما[احلب ولوازمه،

وهلذا ال يزول الرضى واحلمد واإلجالل واملهابة الىت هى من آثار احملبة باللقاء، فهكذا الشوق : قالوا .يتضاعف وال يزوال، والقوالن حق

ل اخلطاب ىف املسألة أن احملب إذا اشتاق إىل لقاء حمبوبه فإذا حصل له اللقاء زال ذلك الشوق الذى وفصقربه واخلظوة عنده، وأما إذا قدر أنه ] مزيد[كان متعلقا بلقائه وخلفه شوق آخر أعظم منه وأبلغ إىل ما

شوق كلما احتجب عنه، فهذا ال لقيه مث احتجب عنه ازداد شوقه إىل لقاء آخر وال يزال حيصل له ال :وإذا زال عنه الطرف عاوده الشوق كما قيل. ينقطع شوقه أبدا، فهو إذا رآه بل شوقه برؤيته

ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته حىت يعود إليه الطرف مشتاقا :وإمنا الشأن ىف دوام الشوق حال الوصول واللقاء، فاعلم أن الشوق نوعان

وشوق ىف حال اللقاء، وهو تعلق الروح باحملبوب تعلقا ال ينقطع . فهذا يزول باللقاء شوق إىل اللقاء،وقد أفصح بعد احملبني . ، فال تزال الروح مشتاقة إىل مزيد هذا التعلق وقوته اشتياقا ال يهدأ]أبدال[

:للمخلوق عن هذا املعىن بقوله ]اىنتد[أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها وهل بعد العناق

وألثم فاها كى تزول صبابىت فيشتد ما ألقى من اهليمانفالشوق ىف حال الوصل والقرب إىل مزيد النعيم واللذة ال ينقطع والشوق ىف حال السري إىل اللقاء

:ونستغفر اهللا من الكالم فيما لسنا بأهل له. ينقطع فاخلــوف أوىل باملسي إذا تــأله واحلــــزن

...)يتبع(

Page 275: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

النقــاء من الدرن] بـ[ب حيمـل بالتقـي و واحلـ@ لكـن إذا ما مل حيــب ـكم املسـيء إذن فمـن وإذا ختــون فعلنـــا فعـــل احملبــة مؤمتن أحيــب شـيء غريكم وحياتكــم كــال ولن

أحيب مـن تأتى حمبـــ ـته بأنـــواع احملــن والسعـد فيهــا ذابـح والقــلب فيهـا ممتحـن

ن الــذى ىف حبـه نيــل السـعادة واملنـندو وحمـل بـدر كماهلــا سعد السعود هو الوطــن والقـلب حني حيـل ىف تلــك املنازل والدمــن

ميسـى ويصبح من رضـا ه ومـن منـاه ىف وطــن أحيـــبهم قلـب وخيـ شى أن يضـــام؟ فال إذن

فصلمسعت النصر : ق واالشتياق، فقال أبو عبد الرمحن السلمىالفرق بني الشو: وأما املسألة الرابعة وهى

ومن دخل ىف حال االشتياق هام فيه . للخلق كلهم مقام الشوق، وليس هلم مقام االشتياق: أباذى يقول .وهذا يدل على أن االشتياق عنده غري الشوق. حىت ال يرى له أثر وال قرار

، كما أن التشوق مصدر تشوق تشوقا، والشوق ىف وال ريب أن االشتياق مصدر اشتاق يشتاق اشتياقااألصل اسم مصدر شاقه يشوقه شوقا مثل شاقه شوقا إذا دعاه إىل االشتياق، فاالشتياق مطاوع شاقة

عند ] منه[يقال شاقىن فاشتقت إليه، مث صار الشوق اسم مصدر االشتياق وغلب عليه حىت ال يفهم وق واملشوق هو الصب املشتاق، والشائق هو الذى قام به وادعى اإلطالق إال االشتياق القائم باملش

.الشوق: أحدها: فهذه ستة ألفاظ. ألفاظ الشوق واالشتياق والتشوق والشائق واملشوق والشيق] فهاهنا[

: اللفظ الثاىن. الشوق، وهو ىف األصل مصدر الفعل املتعدى شاقه يشوقه، مث صار اسم مصدر االشتياق. صدر اشتاق اشتياقا، والفرق بينه وبني الشوق هو الفرق بني املصدر واسم املصدراالشتياق، وهو م

وهذا . جترع وتعلم وتفهم: التشوق وهو مصدر تشوق إذا اشتاق مرة بعد مرة كما يقال: اللفظ الثالثالشائق، وهو الداعى للمشوق إىل : اللفظ الرابع. البناء مشعر بالتكلف وتناول الشيء على مهلة

الشيق، : اللفظ السادس. املشوق، وهو املشتاق الذى قد حصل له الشوق: واللفظ اخلامس. شتياقاال .وهو فعل مبنزلة هني ولني، وهو املشتاق

Page 276: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إنه األصل وهو : فهذه فروق ما بني هذه األلفاظ، وأما كون االشتياق أبلغ من الشوق فهذا قد يقال فيهوأما املشوق ففرع عليه ألنه اسم مصدر وأقل . در الفاعلأكثر حروفا من الشوق، وهو يدل على املص

.واهللا أعلم]. بينهما[حروفا وهو إمنا يدل على املصدر اجملرد، فهذه ثالثة فروق فصل

هو على )): ((منازل السائرين((وأما املسألة اخلامسة وهى ىف مراتب الشوق ومنازله، فقال صاحب .بد إىل اجلنة ليأمن اخلائف ويفرح احلزين ويظفر اآلملشوق العا: الدرجة األوىل: ثالث درجاتزرعه احلب الذى ينبت على حافات املنن تعلق قلبه بصفاته ] عز وجل[شوق إىل اهللا : والدرجة الثانية

وهذا شوق تغشاه املبار، وختاجله . املقدسة واشتاق إىل معانيه لطائف كرمه وآيات بره وعالمة فضلهنار أضرمها صفو احملبة فنغصت العيش وسلبت السلو، ومل : والدرجة الثالثة. صطباراملسار ويقارنه اال

)).ينهنهها مقر دون اللقاءشوق إليه : والثالثة. شوق إىل لقائه ورؤيته: والثانية. الدرجة األوىل هى شوق إىل فضل اهللا وثوابه: قلت

.ال لعلة وال لسبب وال مالحظة فيه غري ذاتهقد فنيت فيه احلظوظ : حظه من لقائه ورؤيته، والثالث: شتاق من إفضاله وإنعامه، والثاىنحظ امل: فاألول

.واضمحلت فيه األقسامهذه ثالث فوائد ذكرها ىف هذا )) ليأمن اخلائف ويفرح احلزين ويظفر اآلمل: ((وقوله ىف الدرجة األوىل

قاصد ملا كانت حاصلة بدخول اجلنة فهذه امل]. باألمل[أمن اخلائف، وفرح احلزين، والظفر : الشوق .كانت مصورة للنفس أشد الشوق هلا حصول هذه املطالب وهى الفوز والفرح

فهذان مها املشوقان إىل . الظفر بكل حمبوب: النجاة من كل مكروه، والثاىن: أحدمها: ومجاع ذلك أمران .اجلنة

.قد تقدم أن الشوق مثرة احلب)) شوق إىل اهللا سبحانه وتعاىل زرعه احلب: ((وقوله ىف الثانيةوأياديه وأنعامه املتواترة، ] تعايل[أى أنشأه الفكر ىف منن اهللا )) الذى ينبت على حافات املنن: ((وقوله

وفيه إشارة إىل أن هذا احلب الذى هو نابت على احلافات واجلوانب بعده حب أكمل منه وهو احلب ذلك ليس من نبات احلافات، ولكن من احلب األول الناشيء من شهود كمال األمساء والصفات، و

)).تعلق قلبه بصفاته املقدسة: ((يدخل ىف هذا كما تقدم، وهلذا قاليشري به إىل ما يكرم اهللا به عبده من )) اشتاق إىل معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعالمة فضله: ((وقوله

الحظ بعنايته، وأنه قد استخدمه وكتبه ىف ديوان أنواع كراماته الىت يستدل هبا على أنه مقبول عند ربه م .أوليائه وخواصه

Page 277: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أهل فطاب ] أنه[وال ريب أن العبد مىت شاهد تلك العالمات واآليات قوى قلبه وفرح بفضل ربه وعلم له السري ودام اشتياقه وزالت عنه العلل، وما مل ينعم عليه بشيء من ذلك مل يزل كئيبا حزينا خائفا أن

.ن ال يصلح لذلك اجلناب ومل يصل لتلك املنزلةيكون ممهى مجع مربة وهى الرب، أى أن هذا الشوق مشحون بالرب مغشى به، )) وهذا شوق تغشاه املبار: ((وقوله

إىل من هو ] تقربا[وهو إما بر القلب وهو كثرة خريه، فهذا القلب أكثر القلوب خريا، فيفعل الرب واع الرب، وهذه من فوائد احملبة أن قلب صاحبها ينبع منه عيون اخلري وتتفجر مشتاق إليه، فهو جييش بأن

.منه ينابيع الرب، يريد به بأن مبار اهللا ونعمه تغشاه على الدوامالسرور ىف غضو أشواقه، فإهنا أشواق ال وحشة معها وال أمل، بل ] أى خمالطة)) [وختاجله املسار: ((وقوله

.هى حمشوة باملسراتأى صاحبه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه شوقه إليه، وإمنا )) ويقارنه االصطبار: ((هوقول

:يضعف الصرب لضعف احملبة واحملب من أصرب اخللق كما قيل نفس احملب على اآلالم صابرة لعل مسقمها يوما يداويها

ا الشوق يتوقد من خالص احملبة الىت يعىن أن هذ)) إهنا نار أضرمها صفو احملبة: ((وقوله ىف الدرجة الثالثةأى كدرته ونغصت املشتاق فيه ألنه )) العيش] نغصت(([ال تشوهبا علة، فهو أشد أنواع الشوق، وهلذا

.ال يصل إىل حمبوبه ما دام فيه، فهو يترقب مفارقتهكون من احلب يعىن أن صاحبه مل يبق له مطمع ىف سلوه أبدا، وهذا أعظم ما ي)) وسلبت السلو: ((وقوله

من األمور املمتنعة كرجوع أيام ] ييأس[طمعه منه كما ] وينقطع[والشوق، أن احملب أيس من السلو .الشباب عليه وعوده طفال وحنو ذلك

أى أن هذه النار ال يربدها وال يفتر حرها مقصود وال مطلب وال )) ومل ينهنهها مقر دون اللقاء: ((وقوله .ه، فليس ال سبيل إىل تربيدها وتسكينها إال بلقاء حمبوبهمراد دون لقاء حمبوب

Page 278: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فـصـلفهذه كلها علل أنف اخلواص منها وأسباب انفطموا عنها، فلم يبق هلم مع احلق : ((قال أبو العباس

.إرادة، وال ىف عطائه تشوق إىل استزادةقل أى شيء أكبر شهادة قل اهللا {: قاطع عنه فهو منتهى زادهم وغاية رغبتهم فيعتقدون أن ما دونه

، وإمنا زهدهم مجع اهلمة عن تعريفات الكون ألن احلق عافاهم بنور الكشف ]١٩: األنعام* [}شهيد* }لمصطفني األخياروإنهم عندنا لمن ا* إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار {: عن التعلق باألحوال

].٤٧ -٤٦: سورة ص[يشري بذلك إىل احملو ومقام الفناء الذى هو غاية الغايات عنده، وقد تقدم الكالم عليه وأن مقام : قلت

وينبغى أن يعرف أن مراعاة مقام الفناء الذى جعلوه غاية آل . الصحو والبقاء أفضل منه وأمت عبوديةترك القيام باألعمال مجلة ورأوا أهنا علل قاطعة عنه، واشتد نكري الشيوخ واألئمة بكثري من طالبيه إىل

.إن الذى يزىن ويسرق خري من هؤالء] رمحه اهللا[عليهم حىت قال شيخ الطائفة اجلنيد وهو احلكم القدرى ورأوا أنه هناية التوحيد، فآل هبم : نوع جردوا الفناء ىف شهود احلكم: وهم نوعان

العارف ال يعرف معروفا وال ينكر منكرا الستبصاره : اقهم فيه إىل اطراح األسباب حىت قال قائلهماستغر .بشر اهللا ىف القدر

أصحاب جتريد الفناء واإلرادة فجردوا الفناء واإلرادة جتريدا آل هبم إىل ترك األسباب : والنوع الثاىنعليكم : لعلم والدين، وهلذا قال هلم شيخ القوم اجلنيدمجلة، والطائفتان منحرفتان ضالتان خارجتان عن ا

فرق بالطبع واهلوى، وهو الفرق الذى شهدوه وفروا منه إىل معىن : يعىن أن الفرق فرقان. بالفرق الثاىن .اجلمع

Page 279: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

صلوات اهللا [ولكن بعد اجلمع فرق ثان وهو الفرق باألمر واحملبة، ال بالشهوة والطبع، وهو دين الرسل فإن دينهم مبناه على الفرق األمرى الشرعى بني حمبوب الرب ومأموره وبني مسخوطه ] معليهم وسل

ومنهيه، فمن مل يشهد هذا الفرق ومل يكن من أهله مل يكن من أتباع الرسل، فإن الكمال شهود اجلمع قدمه وبني ما ىف هذا الفرق فيشهد انفراد اهللا وحده باخللق واألمر، ويشهد الفرق بني ما حيبه فيؤثره وي .يبغضه فيتركه ويتجنبه فيصري له هذا الفرق ىف حمل فرقه الطبعى احلسى بني ما يالئمه وينافره

ومن املعلوم أن صاحب اجلمع ال بد أن يفرق بطبعه وحسه، وإن ادعى عدم التفريق طبعا فإنه كاذب به رسله أدىل به من الفرق الطبعى مفتر، إذا كان ال بد من الفرق فالفرق الشرعى اإلمياىن الذى بعث اهللا

.احليواىن الذى شاركه فيه سائر البهائموأبطل من هذا اجلمع اجلمع ىف الوجود، وهو أن يرى الوجود كله واحدا ال فرق فيه أصال، وإمنا التفريق

لوق بل بالعادة والوهم فقط ما يقوله زنادقة القائلني بوحدة الوجود الذين ال يفرقون بني اخلالق واملخ .جيعلون وجود أحدمها وجود اآلخر بل ليس عندهم فرق بني أحدمها واآلخر إذ ما مث غري

فهدى اهللا الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق {: فهذا مجع ىف الوجود ومجع أولئك مجع ىف الشهودرق ففرقوا بني ما فرق اهللا بينه بإذنه ومجعوا فكانوا أصحاب اجلمع ىف الف] [٢١٣: البقرة* [}بإذنه

، فكانوا أصحاب مجع ىف فرق ]األشياء كلها ىف خلقه وأمره ومجعوا إراداهتم وحمبتهم وشهودهم فيه .فهؤالء خواص اخللق، فنسأل اهللا العظيم من فضله وكرمه أن جيعلنا منهم. وفرق ىف مجع

ل صارت إرادهتم تابعة إلرادته، فحصل االحتاد ىف املراد فهؤالء هم الذين مل يبق هلم مع احلق إرادة، بفقط ال ىف اإلرادة وال ىف املريد، فأصحاب الوحدة ظنوا االحتاد ىف املريد وأصحاب احللول تومهوا االحتاد

، فعلموا أن املراد ]٢١٣ :البقرة* [}فهدى اهللا الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه{: ىف اإلرادة .واحد فاالحتاد وقع ىف املراد فقط، ال ىف اإلرادة وال ىف املريد

إمنا يكون ما دونه قاطعا عنه إذا وقف العبد معه وتعلقت )) فيعتقدون أن ما دونه قاطع عنه((وقوله مل يكن قاطعا وال إرادته به وانصرف طلبه إليه، وأما إذا جعله وسيلة إىل اهللا وطريقا يصل هبا إليه

قل أى شيء أكبر شهادة قل اهللا شهيد بينى {: حجابا، بل يكون حاجبا موصال إليه، وقوله تعاىل، املراد باآلية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته، فإن املشركني قالوا ]١٩: األنعام* [}وبينكم

آيات شهادته له ] تعاىل[من يشهد لك على ما تقول؟ فأنزل اهللا : يه وسلملرسول اهللا صلى اهللا علقل كفى باهللا شهيدا بينى وبينكم ومن {: ، فقال تعاىل]له[وشهادة مالئكته وشهادة علماء أهل الكتاب

شهادته مقبولة ألهنا شهادة ، أى ومن عنده علم الكتاب يشهد ىل و]٤٣: الرعد* [}عنده علم الكتابلكن اهللا يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه، والمالئكة يشهدون، وكفى باهللا {: بعلم، قال اهللا تعاىل

Page 280: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

* }بينى وبينكمقل أى شيء أكبر شهادة، قل اهللا شهيد {، وقال تعاىل ]١٦٦: النساء* [}شهيدا، فأخرب سبحانه ىف هذه املواضع بشهادته لرسوله وكفى بشهادته إثباتا لصدقه وكفى به ]١٩: األنعام[

.شهيداهى ما أقام على صدقه من الدالالت واآليات املستلزمة : لرسوله؟ قيل] سبحانه[وما شهادته : فإن قيل

صدقه أعظم من داللة كل بينة وشاهد على حق، فشهادته لصدقه بعد العلم هبا ضرورة، فداللتها على .سبحانه لرسوله أصدق شهادة وأعظمها وأدهلا على ثبوت املشهود به، فهذا وجه

أنه صدقه بقوله وأقام األدلة القاطعة على صدقه فيما خيرب به عنه، فإذا أخرب عنه أنه شهد له : ووجه آخرالشهادة له به قطعا، فهذا معىن اآلية وكان أجنبيا عما قوال لزم ضرورة صدقه ىف ذلك اخلرب وصحت

.به املصنف] استشهد[* }وعلمتم ما لم تعلموا أنتم وال آباؤكم، قل اهللا، ثم ذرهم{: ونظري هذا استشهادهم بقوله تعاىل

أفضل من الذكر )) اهللا، اهللا((وهو حىت رتب على ذلك بعضهم أن الذكر باالسم املفرد ] ٩١: األنعام[، وهذا فاسد مبىن على ))سبحان اهللا، واحلمد هللا، وال إله إال اهللا، واهللا أكرب: ((باجلملة املركبة كقوله

فإن الذكر باالسم املفرد غري مشروع أصال، وال مفيد شيئا، وال هو كالم أصال، وال يدل على . فاسد .ميان، وال ثواب وال يدخل به الذاكر ىف عقد اإلسالم مجلةمدح وال تعظيم، وال يتعلق به إ

من أول عمره إىل آخره مل يصر بذلك مسلما فضال عن أن يكون من مجلة )) اهللا، اهللا: ((فلو قال الكافرباالسم املضمر أفضل من الذكر ] أو يكون أفضل األذكار وبالغ بعضهم ىف ذلك حىت قال الذكر[الذكر

، وكل هذا من أنواع ))اهللا، اهللا: ((بقوهلم] هو، هو أفضل من الذكر[يذكر بقوله باالسم الظاهر،[اهلوس واخلياالت الباطلة املفضية بأهلها إىل أنواع من الضالالت، فهذا فساد هذا البناء اهلائر، وأما فساد

اهللا اهللا، وهذا : السم، فقل، أى قل هذا ا]١٩: األنعام* [}قل اهللا{: املبىن عليه فإهنم ظنوا أن قوله تعاىلقل من أنزل الكتاب الذى جاء به {: من عدم فهم القوم لكتاب اهللا، فإن اسم اهللا هنا جواب لقوله

قل{: ، إىل أن قال]٩١: األنعام* [}موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثريامن خلق : فإن السؤال معاد ىف اجلواب فيتضمنه فيحذف اختصارا كما يقول: اهللا أنزله: ، أى قل} اهللا

أى اهللا خلقهما، فيحذف الفعل لداللة السؤال عليه، فهذا معىن اآلية . اهللا: السموات واألرض؟ فيقال .الذى ال حتتمل غريه

ألن احلق عافاهم بنور الكشف عن التعلق عن تعريفات الكون] اهلمة[وإمنا زهدهم مجع : ((قولهالكشف الذى أوجب هلم هذا اجلمع وقطع هذا التعلق هو الكشف اإلمياىن القرآىن : فيقال)) باألحوال

Page 281: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فهو ىف احلقيقة الكشف النافع اجلاذب لصاحبه إىل سلوك منازل األبرار والوصول إىل مقامات القرب، .نفس وعلى األعمال، فناهيك به من كشفوال سيما إذا قارنه الكشف عن عيوب ال

والكرامة املرتبة عليه هى لزوم االستقامة ودوام العبودية، فهذا أفضل كشف يعطاه العبد، وهذه أفضل .رزقنا اهللا من فضله وبره. كرامة يكرم هبا الوىل

فهذه اآلية خيرب فيها ] ٦٤: ص[ *}إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار{: وأما استشهاده بقوله تعاىلأحدمها أن املعىن نزعنا من : سبحانه عما أخلص له أنبياؤه ورسله من اختصاصهم باآلخرة، وفيها قوالن

إنا أخلصناهم بأفضل ما ىف الدار اآلخرة : والقول الثاىن. قلوهبم حب الدنيا وذكرها وإيثارها والعمل هبا .واختصصناهم به عن العاملني

من احتياهلا ىف إصالح ] مههم[وكلهم رضاهم بتدبري احلق، وختلصهم من تدبريهم، وفراغ وت: قوله: شئوهنا، بوقوفهم على فراغ املدبر منها، ومرها على علمه مبصاحلهم فيها، ونفوسهم مطمئنة بذلك

.اآلية] ٢٧: الفجر* [}يأيتها النفس املطمئنة{يان أنه من مقامات العارفني، وأنه ال انفكاك للمؤمن منه، وذكر العلة وقد تقدم الكالم على التوكل وب

الرضا بالتدبري مثرة التوكل وموجبه ال أنه نفس )) وتوكلهم رضاهم بتدبري احلق: ((وقوله. فيه ما هى .التوكل قبل وقوعه، والرضا به بعد وقوعه: التوكل واملقدور، يكشفه أمران

وكل الرضا ألنه ملا كان مثرته وموجبه استدل له عليه استدالال باألثر حقيقة الت: ومن هنا قال بعضهموغريمها عن النىب : على املؤثر وباملعلول على العلة، وهلذا قال ىف احلديث الذى رواه اإلمام أمحد والنسائى

ما اللهم إىن أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على اخللق أحيىن: ((صلى اهللا عليه وسلم أنه قال ىف دعائهكانت احلياة خريا ىل، وتوفىن إذا كانت الوفاة خريا ىل، اللهم وأسألك خشيتك ىف الغيب والشهادة، وأسألك كلمة احلق ىف الغضب والرضا، وأسألك القصد ىف الفقر والغىن، وأسألك نعيما ال ينفد،

وقد . احلديث)) املوت وأسألك قرة عني ال تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد )).وأسألك الرضا بعد القضاء: ((تقدم، فقال

هذا مقام كثريا ما يشري إليه السالكون، )) وختلصهم من تدبريهم: ((وأما التوكل فإمنا يكون قبله، وقولهر العبد دائر بني مأمو: وهو ترك التدبري، وينبغى أن ال يؤخذ على إطالقه بل ال بد فيه من التفصيل فيقال

وقد جيرى عليه بال إرادة منها وال كسب فوظيفته ىف املأمور كمال التدبري واجلد . يفعله، وحمظور يتركهبل يدبر فعله ناظرا . بكل ما ميكنه، فترك التدبري هنا تعطيل لألمر] تنفيذه[والتشمري، وأن يدبر احليلة ىف

فال يكون هنا قدريا جموسيا ناظرا إىل فعله جاحدا إىل تدبري احلق له، وأن تدبريه إمنا يتم بتدبري اهللا له،

Page 282: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

لتدبري اهللا وتقديره ومعونته، وال قدريا جمربا وال واقفا مع القدر جاحدا لفعله وتدبريه وجملى أمر اهللا .وهنيه

فإن فعله االختيارى هو حمل األمر والنهى، فمن جحد فعل نفسه فقد عطل األمر والنهى وجحد حملهما، فته ىف احملظور الفناء عن إرادته وفعله، فإن عارضته أسباب الفعل، فالواجب عليه اجلد ىف اهلرب ووظي

.والتشمري ىف الكف والبعد، وهذا تدبري للنهىوأما القدر الذى يصيبه بغري إرادته، فهذا الذى حيسن فيه إسقاط التدبري مجلة، وصربه ورضاه مبا قسم له

.من حمبوب ومكروهالتفصل ينبغى أن يوضع إسقاط التدبري، ومجاع ذلك أنك تسقط التدبري ىف حظك وتكون فعلى هذا

قائما بالتدبري ىف حق ربك، وهكذا ينبغى أن تفرغ اهلمة من إجالتها ىف إصالح شأنك، فإن إصالح ب شأنك حبصول حظوظك حيصل فيه فراغ اهلمة وترك التدبري، وأما إصالح شأنك بأداء حق اهللا فالواج

.شغل اهلمة وإجالتها ىف القيام بهفال ريب أن اهللا سبحانه )) بوقوفهم على الفراغ املدبر منها، ومرها على علمه مبصاحلهم فيها: ((وقوله

وتعاىل قضى القضية وفرغ من تدبري أمور اخلالئق، ولكن قدرها بأسباهبا املفضية إليها، فال يكون وقوف من أقضيته ىف خلقه وتدبريه مانعا له من قيامه باألسباب الىت جعلها طرقا العبد على فراغه سبحانه وتعاىل

وكذلك يباشر العبد األسباب الىت هبا حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس . حلصول ما قضاه منها .واملسكن، وال يكون وقوفه مع فراغ املدبر منها مانعا له من تعاطيها

لبقاء النوع من النكاح والتسرى، وال يكون وقوفه مع فراغ اهللا من وكذلك يباشر األسباب املوجبة وهكذا مجيع مصاحل الدنيا واآلخرة وإن كانت مفروغا منها قضاء وقدرا، فهى ] من ذلك[خلقه مانعا له

.منوطة بأسباهبا الىت يتوقف حصوهلا عليها شرا وخلقا، فالنفس ]٢٨-٢٧: الفجر* [}ارجعى إلى ربك * س المطمئنة يأيتها النف{: وأما استدالله بقوله تعاىل

املطمئنة هى الىت اطمأنت إىل رهبا وسكنت إىل حبه واطمأنت بذكره وأيقنت بوعده ورضيت بقضائه، وهى ضد النفس األمارة بالسوء، فلم تكن طمأنينتها مبجرد إسقاط تدبريها، بل القيام حبقه والطمأنينة

.به وبذكرهحب فصلوصربهم صوهنم قلوهبم عن خاطر السوء أن اهللا قضى قضاء عاريا عن املرافقة خارجا عن اخلرية، : قال

، قد تقدم الكالم ىف الصرب وأقسامه ]١٧: األنفال* [}وليبلى المؤمنني منه بالء حسنا{: قال اهللا تعاىل .وبيان مرتبته من اإلميان

Page 283: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

غري مطابق ملعناه، وهو تفسري بعيد جدا، فإن الصرب من أعمال القلوب، ] هاهنا[ذكره ىف تفسريه وما وهو حبس النفس وكفها عن السخط، وأما صون القلب عن اعتقاد ما ال يليق باهللا فال يقال له صرب بل

إىل غري ذلك من هذا من لوازم اإلميان، وهو كاعتقاد أنه سبحانه وتعاىل حكيم رحيم عليم مسيع بصري .صفات كماله

الصرب صون القلب عن اعتقاد أضدادها، هذا بعيد جدا وتكلف زائد لتفسري الصرب، وهل فهم : فال يقال، وقوله ]٢٠٠: آل عمران* [}يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا{: أحد قط هذا املعىن من قوله تعاىل

: النمل* [}واصبر وما صبرك إال باهللا{: وقوله تعاىل] ٤٨: الطور* [}ربكواصبر لحكم {: تعاىلواصبروا إن {:] وقوله تعاىل] [٣٩: ، وسورة ق١٣٠: طه* [}فاصبر على ما يقولون{: ، وقوله]١٢٧

.، وسائر نصوص الصرب]٤٦:األنفال* [}اهللا مع الصابرينجعل الصرب الذى هو نصف اإلميان من منازل العوام، وتفسريه هبذا التفسري، نعم جيب على ومن العجب

كل مسلم أن ينزه اهللا سبحانه وتعاىل عن أن يقضى قضاء يناىف حكمته وعدله وفضله وبره وإحسانه، بل ازع ىف هذا كل أقضيته ال خترج عن احلكمة والرمحة والعدل واملصلحة، وإن كان كثري من املتكلمني ين

الذى ينزه اهللا عنه من األقضية هو املستحيل املمتنع، وأما املمكن فال يقبح منه شيء، : األصل ويقولصون القلب عن خواطر السوء املتعلقة مبا يقضيه اهللا عندهم إال صوهنا عن خواطر ] معىن[وهؤالء ال

.املمتنعات واملستحيالت فقطوأما . لصرب، بل هذا باب من أبواب املعرفة والعلم، ولكل مقام مقالوباجلملة هذا مقام آخر غري مقام ا

، فالبالء احلسن هنا هو النعمة ]١٧: األنفال* [}وليبلى المومنني منه بالء حسنا{: استشهاده بقوله تعاىلكروه، بل من أباله بالء بالظفر والغنيمة والنصر على األعداء، وليس من االبتالء الذى هو االمتحان بامل

: أبالك اهللا وال ابتالك، فأباله باخلري، وابتاله باملكاره غالبا كما ىف احلديث: حسنا إذا أنعم عليه، يقال )).إىن مبتليك ومبتل لك((

فصل، وقد تقدم ]٦ :العاديات* [}إن اإلنسان لربه لكنود{: وحزهنم يأسهم عن أنفسهم األمارة بالسوء: قال

فليس )) يأسهم عن أنفسهم األمارة بالسوء((أيضا الكالم على ما ذكره ىف احلزن، وأما تفسريه إياه أنه بالبني، فإن احلزن هو األسف على فوت حمبوب أو حصول مكروه، وإن تعلق ذلك باملاضى كان حزنا

.وإن تعلق باملستقبل كان خوفا ومهافليس حبزن، وميكن أن يكون مراده أن حزهنم ينشأ عن النفس )) س األمارة بالسوءاليأس عن النف((وأما

املطمئنة ال حتزن وإمنا حتزن األمارة لفوات حمبوهبا، وليس ] النفس[ال عن املطمئنة، فإن ))األمارة بالسوء

Page 284: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قت وإيثارها غري هذا كما قال، فإن النفس املطمئنة حتزن على تقصريها ىف أداء احلق وعلى تضييعها الواهللا عليه ىف األحيان، وهذا احلزن ال بد منه، إذ التقصري والتضييع الزم، وأما استشهاده على ذلك بقوله

، فوجهه أن الكنود هو الكفور، وهو الذى يذكر ]٦:العاديات* [}إن اإلنسان لربه لكنود{: تعاىلشأ عن هذين، وال ريب أن احلزن الناشيء عن الكنود املصائب، وينسى النعم، وال ريب أن احلزن ين

حزن ناشيء عن النفس األمارة بالسوء، وأما احلزن على تقصريه وتضييع وقته فليس من هذا، وقد تقدم .ذلك وذكر أقسام احلزن ومتعلقاته واهللا أعلم

فصلهبا، وهيبة اجلالل وخوفهم هيبة اجلالل ال خوف العذاب، فإن خوفهم مناضلة عن النفس وضن : قال

يخافون {: ، وقال ىف حق العوام]٥٠: النمل* [}يخافون ربهم من فوقهم{: تعظيم احلق ونسيان النفس، وقد تقدم أيضا الكالم على ما ذكره ىف احلديث ]٣٧: النور* [}يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار

.وعلتهتقدم بيان بطالنه، وأن اهللا سبحانه أثىن على خاصة أوليائه )) يبة اجلالل ال خوف العذابه: ((وقوله هو

يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب {: من املالئكة واألنبياء وغريهم ممن عبدهم املشركون بأهنمإن خوف العذاب نقص ومناضلة : يقال] فكيف[، ]٥٧: ءاإلسرا* [}ويرجون رحمته ويخافون عذابه

.عن النفس؟ هذا من الترهات، والزعومات، ودعاوى األنفسفسبحان اهللا، هل يقال ملن خاف اهللا وخاف عقوبته إنه مناضل )) إن اخلوف مناضلة عن النفس: ((وقوله

ة من أعظم أنواع العبودية، فإن ربه؟ ولو كان مناضلة فهو مناضلة العدو واهلوى والشهوة، وهذه املناضلمن خاف شيئا ناضل عنه فهو مناضلة عن العذاب وأسبابه، وما مث إال مناضلة وإلقاء باليد إىل التهلكة،

.ولوال هذه املناضلة حلصل االستسالم للعقوبةقصا، بل املناضلة عن حمبوبات الرب وأوامره، وليس الضن بالنفس عن عذاب اهللا ن: واملناضلة احملذورة

الكمال والفوز والنعيم ىف ضن العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب اهللا، ومن مل يضن بنفسه فليس فيه خري البتة، والضن بالنفس إمنا يذم إذا ضن هبا عن بذهلا ىف حمبوب الرب وأوامره، وأما إذا ضن هبا عن

وهيبة اجلالل : ((ة والضن؟ قولهعذابه فهل يكون هذا علة؟ وهل العلة كلها إال ىف عدم هذه املناضل .قد تقدم الكالم ىف اهليبة والتعظيم وأهنما غري اخلوف واخلشية)) تعظيم احلق ونسيان النفس

وال تستلزم هذه اهليبة أيضا نسبان النفس، وال يكون شعور العبد بنفسه ىف هذا املقام نقصا وال علة كما يخافون ربهم {: أقوى وأكمل من الفناء، وأما قوله تعاىل تقدم، بل هو أكمل الستلزامه البقاء الذى هو

: ، فهو حجة عليه كما تقدم وال يصح تفسري اخلوف هنا باهليبة لوجهني]٥٠:النمل* [}من فوقهم

Page 285: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أحدمها أنه خروج عن حقيقة اللفظ ووضعه األصلى بال موجب، الثاىن أن هذا وصف للمالئكة وقد يعلم ما بين أيديهم وما {: ه وخشيته فاخلوف ىف هذه اآلية واخلشية ىف قوله تعاىلوصفهم سبحانه خبوف

فوصفهم باخلشية ] ٢٨: األنبياء* [}خلفهم وال يشفعون إال لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقونغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون يبت{: ووصفهم خبوف العذاب ىف قوله تعاىل. واإلشفاق

، وهم خواص خلقه، فإياك ورعونات النفس ومحاقاهتا ]٥٧: اإلسراء* [}رحمته ويخافون عذابهإن اهللا لو عذب : ((وجهاالهتا، وال تكن ممن ال يقدر اهللا حق قدره، وقد قال النىب صلى اهللا عليه وسلم

، فإذا علم املقرب العارف أن اهللا لو عذبه مل يظلمه، فمن ))أهل مساواته وأرضه لعذهبم وهو غري ظامل هلم: النور* [}يخافون يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار{: وقال ىف حق العوام: أحق باخلوف منه؟ قوله

:فة خواص عباده وعارفيهم، وهم الذين قال فيهمهذا من الشطحات القبيحة الباطلة، فإن هذا ص] ٣٧تتقلب فيه رجال ال تلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر الله وإقام الصالة وإيتآء الزكاة يخافون يوما @{

ا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشآء بغير ليجزيهم الله أحسن ما عملو* القلوب واألبصار ]٣٨-٣٧:النور* [}حساب

فهوالء هم خواص اخللق ، وهم أصحاب رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ومن تبعهم بغحسان ، أفال قائل ال يشحى من جعل هذا الوصف للعوام؟ ال ريب أن هذا مصدره إما جهل مفرط ، وإما تقليد ل

.يدرى الزم قولهولوال أن هذه الكلمات وحنوها . هذا إن أحسن الظن بقائله وإن كان مصدره غري ذلك فأدهى وأمر .واهللا املستعان. مهاو ومعاطب يف الطريق لكان اإلعراض عنها إىل ما هو أهم منها أوىل

فصل كالم آخر ىف مقام الرجاء

ألم تر إلى ربك كيف مد {م فيه غرقى ، وبه سكرى ، ورجاؤهم ظمؤهم إىل الشراب الذي ه: قال ]٤٥:الفرقان* [}الظل

هذا أيضا من ذلك النمط ، ورجاء األنبياء والرسل فمن دوهنم إمنا هو طمعهم ىف رمحته ومغفرته وانظر ذي أطمع أن يغفر لي وال{: إىل دعوى هؤالء وإىل قوم إمام احلنفاء خليل الرمحن صلى اهللا عليه وسلم

، كيف علق رجاءه وطمعه مبغفرة اهللا له ، وقال تعاىل عن خاصة ]٨٢:الشعراء* [}خطيئتي يوم الدين ]٥٧:اإلسراء* [}يرجون رحمته ويخافون عذابه{: خلقه وأعلمهم به اهنم

، فما هلذه اآلية ]٤٥:الفرقان* [}لى ربك كيف مد الظلألم تر إ{ومن العجب استدالله بقوله تعاىل وما للرجاء ، وال سيما ما ذكره املصنف ىف تفسريه رجاء القوم واالستشهاد هبذا من جنس األلغاز ومعىن

Page 286: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

التنبيه على هذه الداللة الباهرة على قدرة الرب سبحانه وعجائب خملوقاته الدالة عليه ، واملعىن : اآليةانظر كيف بسط ربك الظل ، والظل ما قبل الزوال ، والفئ بعده ، فمده سبحانه وبسطه عند طلوع الشمس فإنه يكون مديدا أطول ما يكون وجعل الشمس دليال عليه فإهنا هى الىت تظهره وتبينه مث كلما

هى إىل غايته، فإذا ، حىت ينت]يسريا[ارتفعت الشمس شيئا انقبض من الظل جزء، فال يزال ينقص يسريا .أخذت الشمس ىف اجلانب الغرىب انبسط بعد انقباضه شيئا فشيئا، حىت يصري كهيئته عند طلوعها

وهلذا كان الزوال يعرف بانتهاء الظل ىف قصره، فإذا أخذ ىف الزيادة بعد تناهى قصره فقد حتقق الزوال، يتحرك بالزيادة والنقصان، فالظل أحد األدلة على ولو شاء اهللا جلعله ساكنا دائما على حالة واحدة فال

اخلالق سبحانه وأما داللة هذه اآلية على الرجاء فيحتاج إىل إشارة وتكلف غري مقصود هبا، وآيات فمن كان {: الرجاء ىف القرآن أكثر وأظهر وأصرح ىف املقصود ظاهرة واستنباطا، فالظاهرة كقوله تعاىل

من {: ، وقوله]٥٧: اإلسراء* [}ويرجون رحمته{: ، وقوله تعاىل]١١٠: الكهف* [}هيرجو لقاء رب ].٥: العنكبوت* [}كان يرجو لقاء اهللا

* }وبشر الصابرين{] ٢٢٣: البقرة* [}وبشر المؤمنني{: واملستنبطة كآيات البشارة كلها كقولهذلك {، ]١٨ -١٧: الزمر* [}الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه* شر عباد فب{، ]١٥٥: البقرة[

].٢٣: الشورى* [}الذى يبشر اهللا عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات فصل* }شروا ببيعكم الذى بايعتم بهفاستب{: وشكرهم وسرورهم مبوجودهم واستبشارهم بلقائه: قال

وهذا أيضا من النمط املتقدم وشكر القوم هو عملهم بطاعة اهللا واستعانتهم بنعمه على ] ١١١: التوبة[ ].١٣: سبأ* [}اعملوا آل داود شكرا{: حمابه، قال تعاىل

قد غفر اهللا لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ أتفعل هذا و: وقال النىب صلى اهللا عليه وسلم ملا قيل لهفسمى األعمال شكرا وأخرب أن شكره قيامه هبا وحمافظته عليها، )). أفال أكون عبدا شكورا: ((قال

:فحقيقة الشكر هو الثناء على النعم وحمبته والعمل بطاعته، كما قال جباأفادتكم النعماء عندى ثالثة يدى ولساىن والضمري احمل

فاليد للطاعة، واللسان للثناء، والضمري للحب والتعظيم، وأما السرور به وإن كان من أجل املقامات فإن العبد إمنا يسر مبن هو أحب األشياء إليه، وعلى قدر حبه له يكون سروره، وهذا السرور مثرة الشكر ال

الشكر وموجبه، وهو كالرضا من التوكل أنه نفس الشكر، فكذلك االستبشار والفرح بلقائه إمنا هو مثرةوكالشوق من احملبة، وكاألنس من الذكر، وكاخلشية من العلم وكالطمأننة من اليقني، فإهنا مثرات هلا وآثار وموجبات، فعلى قدر شكره باألعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية يكون سروره

Page 287: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فهذا ] ١١١: التوبة* [}فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به{: واستبشاره بلقائه، وأما قوله سبحانه وتعاىلإمنا قاله للشاكرين الذين يقاتلون ىف سبيله فيقتلون ويقتلون، مث وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر

ون اآلمرون بالمعروف والناهون عن التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجد{: فقال .، فهؤالء املستبشرون ببيعهم جعلنا اهللا منهم مبنه وكرمه]١١٢: التوبة* [}املنكر واحلافظون لحدود اهللا

فصلفيه ؟ وقد تقدم الكالم على هذا مبا ))وحمبتهم فناؤهم ىف حمبة احلق، فماذا بعد احلق إال الضالل: ((قال

كفاية، وبينا أن البقاء ىف احملبة أفضل وأكمل من الفناء فيها من وجوه متعددة، وأن الفناء إمنا هو لضعف .ىف مقام البقاء والتمييز -مع شدة حمبتهم - احملب عما محل، وأما األقوياء فهم

فاآلية إمنا سبقت ىف الكالم ] ٣٢: يونس* [}فماذا بعد الحق إال الضالل{: وأما استدالله بقوله تعاىلقل من يرزقكم من السماء واألرض أم من يملك السمع {: على من يعبد غري اهللا ويشرك به، قال تعاىل

مر؟ فسيقولون اهللا، فقل واألبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر األ، ]٣٢ - ٣١: يونس* [}فذلكم اهللا ربكم الحق، فماذا بعد الحق إال الضالل فأنى تصرفون* أفال تتقون

كان ىف مقام عبد غري اهللا فما عبد إال الضالل احملض والباطل البحت، وأما من عبد اهللا بأمره و] فمن[التمييز بني حمابه ومساخطه مفرقا بينهما حيب هذا ويبغض هذا ناظرا بقلبه إىل ربه عاكفا هبمته عليه

.واهللا أعلم. منفذا ألوامره فهو مع احلق احملض فصلوعجلت إليك رب {: وشوقهم هزمهم من رمسهم ومساهتم استعجاال للوصول إىل غاية املىن: قال، قد تقدم الكالم ىف الشوق مستوىف وليس اهلرب من الغري والضد هو الشوق، بل ]٨٤: طه* [}ترضىل

هنا مهروب منه ومهروب إليه، فالشوق هو سفر القلب حنو احملبوب، وهذا ال يتم إال باهلرب من ضده، .فليس الشوق هو نفس اهلرب من الرسوم والسمات

فصلكل والصرب واحلزن واخلوف والرجاء، والشكر واحملبة والشوق من منازل واإلرادة والزهد والتو: ((قال

أهل الشرع السائرين إىل عني احلقيقة، فإذا شاهدوا عني احلقيقة اضمحلت فيها أحوال الشاهدين حىت )).يفىن ما مل يكن، ويبقى ما مل يزل

، وهى حقيقة ))ميانية نبويةحقيقة إ: ((احلقائق الىت أشار إليها على لسان أهل السلوك ثالث: قلتالعبودية الىت هى كمال احلب وكمال الذل، وسري أهل االستقامة إمنا هو إىل هذه احلقيقة ومنازل السري

Page 288: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الىت ينزلون فيها هى منازل اإلميان املوصلة إليها واملنحرفون ال يرضون هبذه احلقيقة وال يقفون معها ويروهنا منزلة من منازل العامة،

بالتكوين واإلجياد وحده، ] تعاىل[يشاهدون فيها انفراد الرب )) حقيقة كونية قدرية: ((الثانيةاحلقيقة وأن العامل كامليت يقلبه ويصرفه كيف يشاء، وهم يعظمون هذا املشهد ويروون الفناء فيه غاية ما بعدها

.شيء اإلميان فضال عن أن يكون وهذا من أغالطهم ىف املعرفة والسلوك، فإن هذا املشهد ال يدخل صاحبه ىف

: أفضل مشاهد أولياء اهللا املقربني، فإن عباد األصنام شهدوا هذا املشهد ومل ينفعهم وحده، قال تعاىلت قل من رب السموا* سيقولون هللا، قل أفال تذكرون * قل لمن األرض ومن فيها إن كنتم تعلمون {

قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجري * سيقولون هللا، قل أفال تتقون * السبع ورب العرش العظيم ولئن { ،]٨٩ -٨٤: املؤمنون* [}سيقولون هللا، قل فأنى تسحرون* وال يجار عليه إن كنتم تعلمون * }وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم{، ]٨٧: الزخرف* [}سألتهم من خلقهم ليقولن اهللا

، وهذا ]١٤٨: األنعام* [}سيقول الذين أشركوا لو شاء اهللا ما أشركنا وال آباؤنا{، ]٢٠:الزخرف[رآن، فالفناء ىف هذا املشهد ال يدخل العبد ىف دائرة اإلسالم، فكيف جيعله هو احلقيقة الىت كثري ىف الق

ينتهى إليها سري السالكني، وجيعل حقيقة اإلميان ودعوة الرسل منزل من منازل العامة، وهل هذا إال غاية االحنراف والبعد عن الصراط املستقيم وقلب للحقائق؟

قة من أمم ال حيصيهم إال اهللا، وكم عطل ألجلها الواقفون معها من الشرائع، وكم قد هلك ىف هذه احلقيوخربوا من املنازل وما جنا من معاطبها إال من مشلته العناية الربانية، ونفذ ببصره من هذه احلقيقة إىل

.اءاحلقيقة اإلميانية النبوية، حقيقة رسل اهللا وأنبيائه وأتباعهم، وذلك فضل اهللا يؤتيه من يشبل واحدية ال يفرق فيها بني الرب والعبد، وال بني القدمي واحملدث، )) حقيقة احتادية: ((واحلقيقة الثالثة

.وال بني صانع ومصنوع، بل األمر كله واحد، واألمر املخلوق هو عني األمر اخلالقحمجوبا، وهذه حقيقة وهذه احلقيقة الىت يشري إىل عينها طائفة االحتادية، ويعدون من مل يكن من أهلها

كفرية احتادية، وهى مع ذلك خيال فاسد، وعقل منكوس، وذوق من عني منتنة، وكفر أهلها أعظم من كفر كل أمة، فإهنم جحدوا الصانع حقا وإن أثبتوه جعلوا وجوده وجود كل موجود، والذين أثبتوا

هم خري من مقالة هؤالء الذين جعلوه وجود الصانع وعدلوا به غريه وسووا بينه وبني غريه ىف العبادة مقالت .كل موجود وعني كل شيء تعاىل اهللا عما يقول الكاذبون املفترون علوا كبريا

Page 289: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فعليك بالفرق بني السائرين إىل هذه احلقيقة، والسائرين إىل عني احلقيقة الكونية احلكمية، والسائرين إىل ىت هى حقيقة مجيع األنبياء واملرسلني، وفيها تفاوتت مراتب عني احلقيقة احملمدية اإلبراهيمية احلنيفية ال

.السالكني ومنازهلم من القرب من رب العاملنيإنى وجهت وجهى للذى {: قال شيخ هذه احلقيقة إبراهيم عليه السالم ملا حتقق فناء تلك الرسوم وأفوهلا

، وهذا التوجه يتضمن حمبته دون ]٧٩: األنعام* [}أنا من المشركنيفطر السموات واألرض حنيفا وما فهذه هى احلقيقة حقا وما سواها باطل حقيقة، قال تعاىل ألكرم خلقه . غريه، وعبادته وطاعته دون غريه

، فأمره ]١٢٣: النحل* [}من املشركنيثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان {: عليهتعاىل أن يقتدى بأبيه إبراهيم ىف هذه احلقيقة، وكان صلى اهللا عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا وإذا

أصبحنا على فطرة اإلسالم، وكلمة اإلخالص ودين نبينا حممد، وملة أبينا إبراهيم : ((أمسوا أن يقولوا، فنسأل اهللا العظيم أن يهب لنا هذه احلقيقة ويثبتنا عليها، ويعيدنا ))ركنيحنيفا مسلما وما كان من املش

.واهللا أعلم. مما سواها، إنه قريب جميب مبنه وكرمه

فصل ىف مراتب املكلفني ىف الدار اآلخرةوطبقاهتم فيها، وهم مثان عشرة طبقة

لق على اهللا وأخصهم بالزلفى لديه وهى العليا على اإلطالق مرتبة الرسالة، فأكرم اخل: الطبقة األوىل* }وسالم على المرسلني{: رسله، وهم املصطفون من عباده الذين سلم عليهم ىف العاملني كما قال تعاىل

: ، وقال تعاىل]٧٩: الصافات* [}سالم على نوح فى العالمني{: ، وقال تعاىل]١٨١: الصافات[سالم على إل {، ]١١٠-١٠٩: الصافات* [}كذلك نجزى المحسنني* سالم على إبراهيم{

: النمل* [}قل الحمد هللا وسالم على عباده الذين اصطفى{: ، وقال تعاىل]١٣٠: الصافات* [}ياسني٥٩.[

معطوفة على اجلملة اخلربية وهى هنا حتتمل أن تكون داخلة ىف حيز القول، فتكون )) السالم((وكلمة ، ويكون األمر بالقول متناوال للجملتني معا، وعلى هذا فيكون الوقف على اجلملة األخرية ))احلمد هللا((

ويكون حملها النصب حمكية بالقول، وحيتمل أن تكون مجلة مستأنفة مستقلة معطوفة على مجلة الطلب، .وعلى هذا فال حمل هلا من اإلعراب

التقدير أرجح، وعليه يكون السالم من اهللا عليهم، وهو املطابق ملا تقدم من سالمه سبحانه وتعاىل وهذا .على رسله عليهم السالم

Page 290: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كيف يعطف اخلرب على الطلب مع : وعلى التقدير األول يكون أمر بالسالم عليهم، ولكن يقال على هذااخرج وقعد وعمرو، أو جياب على هذا بأن : قم وذهب زيد، وال: تنافر ما بينهما؟ فال حيسن أن يقال

مجلة الطلب قد حكيت جبملة خربية، ومع هذا ال ميتنع العطف فيه باخلرب على اجلملة الطلبية لعدم تنافر قل انظروا ماذا فى السموات واألرض، وما تغنى اآليات {: الكالم فيه وتباينه، وهذا نظري قوله تعاىل

*}ذر عن قوم ال يؤمنونوالنوما تغنى اآليات ليس معطوفا على القول وهو انظروا بل معطوف على {: ، فقوله تعاىل]١٠١: يونس[

قال رب احكم بالحق، وربنا {: اجلملة الكربى، على أن عطف اخلرب على الطلب كثري كقوله تعاىلوقل رب اغفر وارحم وأنت خير {: ، وقوله تعاىل]١١٢: األنبياء* [}عان على ما تصفونالرحمن المست

، واملقصود أنه على هذا القول يكون اهللا سبحانه وتعاىل قد سلم على ]١١٨: املؤمنون* [}الراحمني* بخالصة ذكرى الدار{: ىل أنه أخلصهماملصطفني من عباده، والرسل أفضلهم، وقد أخرب سبحانه وتعا

، ويكفى ىف فضلهم وشرفهم أن اهللا ]٤٧-٤٦: سورة ص* [}وإنهم عندنا لمن املصطفين األخيارسبحانه وتعاىل اختصهم بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته وواسطة بينه وبني عباده، وخصهم بأنواع

من اختذه خليال، ومنهم من كلمه تكليما، ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم فمنهم : كراماتهدرجات، ومل جيعل لعباده وصوال إليه إال من طريقهم، وال دخول إىل جنته إال خلفهم، ومل يكرم أحدا

ه وأكرمهم منهم بكرامة إال على أيديهم، فهم أقرب اخللق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إلي .عليه

أيديهم وهبم عرف اهللا وهبم عبد وأطيع وهبم حصلت ((وباجلملة فخري الدنيا واآلخرة إمنا ناله العباد عليشرع لكم من {: تعاىل ىف األرض، وأعالهم منزلة أولو العزم منهم املذكورون ىف قوله تعاىل] اهللا[حمابه

، ]١٣: الشورى* [}ذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسىالدين ما وصى به نوحا والوهؤالء هم الطبقة العليا من اخلالئق وعليهم تدور الشفاعة حىت يردوها إىل خامتهم وأفضلهم صلى اهللا

.عليه وسلم .بعضهم على بعض] هللاتفضيل ا[من عداهم من الرسل على مراتبهم من : الطبقة الثانيةالذين مل يرسلوا إىل أممهم وإمنا كانت هلم النبوة دون الرسالة، فاختصوا عن األمة بإحياء اهللا : الطبقة الثالثة

إليهم، وإرساله مالئكته إليهم واختصت الرسل عنهم بإرساهلم إىل األمة بدعوهتم إىل اهللا بشريعته وأمره، .املالئكة عليهمواشتركوا ىف الوحى ونزول

ورثة الرسل وخلفاؤهم ىف أممهم، وهم القائمون مبا بعثوا به علما وعمال ودعوة للخلق إىل : الطبقة الرابعةقرهنم ] وهلذا أفضل مراتب اخللق بعد الرسالة والنبوة وهى مرتبة الصديقيه[اهللا، على طرقهم ومنهاجهم،

Page 291: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

يطع اهللا والرسول فأولئك مع الذين أنعم اهللا عليهم من النبيني ومن{: اهللا ىف كتابه باألنبياء فقال تعاىل، فجعل درجة الصديقية معطوفة ]٦٩:النساء* [}والصديقني والشهداء والصالحني وحسن أولئك رفيقا

لراسخون ىف العلم، وهم الوسائط بني الرسول صلى اهللا على درجة النبوة وهؤالء هم الربانيون، وهم اعليه وسلم وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته ومحلة دينه وهم املضمون هلم أهنم ال يزالون : على احلق ال يضرهم من خذهلم وال من خالفهم حىت يأتى أمر اهللا وهم على ذلك، وقال اهللا تعاىل

: احلديد* [}اهللا ورسله أولئك هم الصديقون، والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهموالذين آمنوا ب{، فيكون ))والشهداء عند ربهم((مث يبتديء * }هم الصديقون{: إن الوقف على قوله تعاىل: ، وقيل]١٩

دامها عن املؤمنني باهللا ورسله أهنم هم الصديقون واإلميان التام يستلزم العلم الكالم مجلتني أخرب ىف إحوالعمل والدعوة إىل اهللا بالتعليم والصرب عليه، وأخرب ىف الثانية أن الشهداء عند رهبم هلم أجرهم ونورهم،

لنساء، وهكذا جاء ومرتبة الصديقني فوق مرتبة الشهداء، وهلذا قدمهم عليهم ىف اآليتني، هنا وىف سورة ااثبت أحد فإمنا عليك نىب : ((ذكرهم مقدما على الشهداء ىف كالم النىب صلى اهللا عليه وسلم ىف قوله

بكر الصديق ] أبو[وصديق وشهيد، وهلذا كان نعت الصديقية وصفا ألفضل اخللق بعد األنبياء واملرسلني إن : صديقية لكانت نعتا له رضى اهللا عنه، وقيلولو كان بعد النبوة درجة أفضل من ال] رضى اهللا عنه[

الكالم كله مجلة واحدة وأخرب عن املؤمنني بأهنم هم الصديقون والشهداء عند رهبم، وعلى هذا لتكونوا شهداء على {: فالشهداء هم الذين يستشدهم اهللا على الناس يوم القيامة وهو قوله تعاىل

وهم املؤمنون، فوصفهم بأهنم صديقون ىف الدنيا وشهداء على الناس يوم ، ]١٤٣: البقرة* [}الناسالشهداء هم الذين قتلوا ىف سبيل اهللا، : القيامة، ويكون الشهداء وصفا جلملة املؤمنني الصديقني، وقيل مبتدأ خربه ما بعده، ألنه)) والشهداء: ((وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكالم مجلتني ويكون قوله

.ليس كل مؤمن صديق شهيدا ىف سبيل اهللالهم أجرهم {: لكان قوله تعاىل] عند املؤمنني[ويرجحه أيضا أنه لو كان الشهداء داخال ىف مجلة اخلرب

: ىف مجلة اخلرب عنهم ويكون قد أخرب عنهم بثالثة أشياء] أيضا[داخال ] ١٩: احلديد* [}ونورهمأن هلم أجرهم ونورهم، وذلك يتضمن : أهنم هم الشهداء، والثالث: قون، والثاىنأهنم هم الصدي: أحدها

زيد كرمي وعامل : عطف اخلرب الثاىن على األول، مث ذكر اخلرب الثالث جمردا عن العطف، وهذا كما تقولكرمي زيد: له مال واألحسن ىف هذا تناسب األخبار بأن جتردها كلها من العطف أو تعطفها مجيعا فتقول

.عامل له مال، أو كرمي وعامل وله مال فتأملهويرجحه أيضا أن الكالم يصري مجال مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون

الذين أقرضوا اهللا قرضا حسنا، فهؤالد ] والشهداء والصاحلون وهم املذكورون ىف اآلية وهم املتصدقون[

Page 292: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، فيتناول ذلك ]٢٥: احلديد* [}لقد أرسلنا رسلنا بالبينات{: قوله تعاىلثالثة أصناف مث ذكر الرسل ىفكفار، : األصناف األربعة املذكورة ىف سورة النساء، فهؤالء هم السعداء، مث ذكر األشقياء وهم نوعان

، ]١٩: احلديد* [}ك أصحاب الجحيموالذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئ{: ومنافقون، فقال تعاىليوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من {: وذكر املنافقون ىف قوله تعاىل

، فهؤالء أصناف العامل كلهم، وترك سبحانه وتعاىل ذكر املخلط صاحب ]١٣: احلديد* [}نوركمغالبا لسر اقتضته حكمته ] املخلصني[ائبتني على طريقة القرآن ىف ذكر السعداء واألشقياء دون الش

].سبحانه وتعاىل[فليحذر صاحب التخليط، فإنه ال ضمان له على اهللا، وال هو من أهل وعده املطلق، وال ييأس من روح

ة والنار واقف بني الوعد والوعيد كل اهللا فإنه ليس من الكفار الذين قطع هلم بالعذاب، ولكنه بني اجلنوهذا هو الذى حلظه القائلون باملنزلة بني املنزلتني، ولكن غلطوا . منهما يدعوه إىل موجبه ألنه أتى بسببه

ىف ختليده ىف النار، ولو نزلوه منزلة بني املنزلتني ووكلوه إىل املشيئة وقالوا بأنه خيرج من النار بتوحيده لكن منزلة بني منزلتني وصاحبهما خملد ىف النار مما ال يقتضيه عقل وال مسع،وإميانه ألصابوا، و

بل النصوص الصرحية املعلومة الصحة تشهد ببطالن قوهلم واهللا أعلم، وأيضا فصاحب الشائبتني يعلم حكمه من نصوص الوعد والوعيد، فإن اهللا سبحانه وتعاىل رتب على كل عمل جزاء ىف اخلري والشر،

أتى العبد هبما كان فيه سبب اجلزاءين، واهللا ال يضيع عمل مثقال ذرة، فإن كان عمل الشر مما فإذا وإن مل يسقطه كاملعصية ترتب ىف حقه األثران ما مل ] له[يوجب سقوط أثر احلسنة كالكفر كان التأثري

رجة الصديقية يسقط أحدمها بسبب من األسباب الىت نذكرها إن شاء اهللا فيما بعد، واملقصود أن دوالربانية ووراثة النبوة وخالفة الرسالة هى أفضل درجات األمة، ولو مل يكن من فضلها وشرفها إال أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علم غريه شيئا من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جاريا ىف

واهللا ألن : ((أنه قال لعلى بن أىب طالباألمة على آباد الدهور، وقد صح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم )).يهدى اهللا بك رجال واحدا خري لك من محر النعم

من سن ىف اإلسالم سنة حسنة فعمل هبا بعده كان له مثل : ((وصح عنه صلى اهللا عليه وسلم أنه قال )).أجر من عمل هبا ال ينقص من أجورهم شيئا

صدقة جارية، : إذا مات العبد انقطع عمله إال من ثالث: ((قالوصح عنه صلى اهللا عليه وسلم أيضا أنه )).أو علم ينتفع به، أو ولد صاحل يدعو له )).من يرد اهللا به خريا يفقهه ىف الدين: ((وصح عنه صلى اهللا عليه وسلم أنه قال

Page 293: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ىف األرض حىت إن العامل يستغفر له من ىف السموات ومن : ((وىف السنن عنه صلى اهللا عليه وسلم أنه قال )).النملة ىف جحرها

، وعنه صلى اهللا ))إن اهللا ومالئكته يصلون على معلم الناس اخلري: ((وعنه صلى اهللا عليه وسلم أنه قالإن العلماء ورثة األنبياء، وإن األنبياء مل يورثوا دينارا وال درمها وإمنا ورثوا العلم، : ((عليه وسلم أنه قال

)) .م وافرفمن أخذه أخذ حبظ عظي، وعنه ))العامل واملتعلم شريكان ىف األجر، وال خري ىف سائر الناس بعد: ((وعنه صلى اهللا عليه وسلم )) .نضر اهللا امرءا مسع مقالىت فوعاها وأداها كما مسعها: ((صلى اهللا عليه وسلم أنه قال

كتاب مفرد، فياهلا من مرتبة واألحاديث ىف هذا كثرية، وقد ذكرنا مائىت دليل على فضل العلم وأهله ىفما أعالها، ومنقبة ما أجلها وأسناها، أن يكون املرء ىف حياته مشغوال ببعض أشغاله، أو ىف قربه قد صار أشالء متمزقا وأوصاال متفرقة، وصحف حسناته متزايدة ميلى فيها احلسنات كل وقت، وأعمال اخلري

ملكارم والغنائم، وىف ذلك فليتنافس املتنافسون، وعليه حيسد مهداة إليه من حيث ال حيتسب تلك واهللا ا .احلاسدون، وذلك فضل اهللا يؤتيه من يشاء واهللا ذو الفضل العظيم

وحقيق مبرتبة هذا شأهنا أن تنفق نفائس األنفاس عليها، ويسبق السابقون إليها، وتوفر عليها األوقات فاتيح كل خري أن يفتح علينا خزائن رمحته، وجيعلنا من وتتوجه حنوها الطلبات، فنسأل اهللا الذى بيده م

أهل هذه الصفة مبنه وكرمه وأصحاب هذه املرتبة يدعون عظماء ىف ملكوت السماء كما قال بعض .من علم وعمل وعلم، فذلك يدعى عظيما ىف ملكوت السماء: السلف

هلم، إذ يقول فيما يروى عنه من وجوه وهؤالء هم العدول حقا بتعديل رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلمحيمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه حتريف الغالني، وانتحال ((بعضها بعضا ] سند[

)).املبطلني، وتأويل اجلاهلنياحلمد هللا الذى جعل )): ((الرد على اجلهمية((وما أحسن ما قال فيهم اإلمام أمحد ىف خطبة كتابه ىف

من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إىل اهلدى، ويصربون منهم على األذى، ىف كل زمان فترةويبصرون بنور اهللا أهل العمى، فكم من قتيل إلبليس قد أجربوه، ومن ضال جاهل قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اهللا تأويل اجلاهلني، وحتريف الغالني،

.وذكر ابن وضاح هذا الكالم عن عمر بن اخلطاب)). وانتحال املبطلنيأئمة العدل ووالته الذين تؤمن هبم السبل ويستقيم هبم العامل ويستنصر هبم الضعيف : الطبقة اخلامسة

ويذل هبم الظامل ويأمن هبم اخلائف وتقام هبم احلدود ويدفع هبم الفساد ويأمرون باملعروف وينهون عن نكر ويقام هبم حكم الكتاب والسنة وتطفأ هبم نريان البدع والضاللة، وهؤالء الذين تنصب هلم املنابر امل

Page 294: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

والوالة الظلمة قد صهرهم حر الشمس -من النور عن ميني الرمحن عز وجل يوم القيامة فيكونون عليهالضعيفة ىف يوم كان وقد بلغ منهم العرق مبلغه وهم حيملون أثقال مظاملهم العظيمة على ظهورهم ا

.مقداره مخسني ألف سنة، مث يرى سبيل أحدهم إما إىل اجلنة وإما إىل النارعلى منابر من نور يوم القيامة عن ميني الرمحن ] عند اهللا[املقسطون : ((قال النىب صلى اهللا عليه وسلم

: ه صلى اهللا عليه وسلم، وعن))تبارك وتعاىل وكلتا يديه ميني، الذى يعدلون ىف حكمهم وأهلم وما ولواإن أحب اخللق إىل اهللا وأقرهبم منه منزلة يوم القيامة إمام عادل، وإن أبغض اخللق إىل اهللا وأبعدهم منه ((

.أو كما قال)) منزلة يوم القيامة إمام جائروهم أحد السبعة األصناف الذين يظلهم اهللا ىف ظل عرشه يوم ال ظل إال ظله، وكما كان الناس ىف ظل عدهلم ىف الدنيا كانوا ىف ظل عرش الرمحن يوم القيامة ظال بظل جزاء وفاقا، ولو مل يكن من فضلهم وشرفهم إال أن أهل السموات واألرض والطري ىف اهلواء يصلون عليهم ويستغفرون هلم ويدعون هلم،

ناس اخلري يصلى ووالة الظلم يلعنهم من بني السموات واألرض حىت الدواب والطري، كما أن معلم العليه اهللا ومالئكته، وكامت العلم واهلدى الذى أنزله اهللا وحامل أهله على كتمانه يلعنه اهللا ومالئكته

] غريه[ويلعنه الالعنون، فيا هلا من منقبة ومرتبة ما أجلها وأشرفها أن يكون الواىل واإلمام على فراشه و يدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خري من يعمل باخلري وتكتب احلسنات ىف صحائفه فهى متزا

حرم اهللا عليه اجلنة وأوجب ] الذى[الغاش لرعيته الظامل هلم ] صفه[عبادة أعوام من غريه، فأين هذا من .له النار

أيها امللك املسلط املغرور، إىن مل : ويكفى ىف فضله وشرفه أنه يكف عن اهللا دعوة املظلوم كما ىف اآلثارلتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتكف عىن دعوة املظلوم، إىن مل أبعثك لتجمع أبعثك

فأين من هو نائم وأعني العباد ساهرة . الدنيا بعضها على بعض، فإىن ال أحجبها ولو كانت من كافر تدعو اهللا له، وآخر أعينهم ساهرة تدعو عليه؟

هم جند اهللا، الذين يقيم هبم دينه ويدفع هبم بأس أعدائه اجملاهدون ىف سبيل اهللا، و: الطبقة السادسةوحيفظ هبم بيضة اإلسالم وحيمى هلم حوزة الدين، وهم الذين يقاتلون أعداء اهللا ليكون الدين كله هللا وتكون كلمة اهللا هى العليا، قد بذلوا أنفسهم ىف حمبة اهللا ونصر دينه وإعالء كلمته ودفع أعدائه، وهم

ىف ديارهم، وهلم مثل أجور من ] باتوا[من حيمونه بسيوفهم ىف أعماهلم الىت يعملوهنا وإن شركاء لكل .عبد اهللا بسبب جهادهم وفتوحهم فإهنم كانوا هم السبب فيه

والشارع قد نزل املتسبب منزلة الفاعل التام ىف األجر والوزر، وهلذا كان الداعى إىل اهلدى والداعى إىل .تسببه مثل أجر من تبعهالضالل لكل منهما ب

Page 295: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقد تظاهرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنة على الترغيب ىف اجلهاد واحلض عليه ومدح أهله يا {: واإلخبار عما هلم عند رهبم من أنواع الكرامات والعطايا اجلزيالت، ويكفى ىف ذلك قوله تعاىل

، فتشوقت النفوس إىل ]١٠: الصف* [}رة تنجيكم من عذاب أليمأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجاتؤمنون باهللا ورسوله {: احلكيم فقال] العاملني العليم[هذه التجارة الراحبة الىت الدال عليها رب لنفوس ضنت حبياهتا وبقائها ، فكأن ا]١١: الصف* [}وتجاهدون فى سبيل اهللا بأموالكم وأنفسكم

يعىن أن اجلهاد خري لكم من قعودكم للحياة والسالمة، * }ذلكم خري لكم إن كنتم تعلمون{: فقاليدخلكم جنات {: ، مع املغفرة*}يغفر لكم ذنوبكم{: فما لنا ىف اجلهاد من احلظ؟ فقال: فكأهنا قالت، فكأهنا ]١٢: الصف* [}تحتها األنهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم تجرى من

وأخرى تحبونها نصر من اهللا وفتح قريب وبشر {: هذا ىف اآلخرة فما لنا ىف الدنيا؟ فقال: قالت ].١٣: الصف* [}المؤمنني

ما أحلى هذه األلفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبا هلا وتسيريا إىل رهبا، وما ألطف ] فلله[موقعها من قلب كل حمب، وما أعظم غىن القلب وأطيب عيشه حني تباشره معانيها، فنسأل اهللا من

.فضله إنه جواد كرميوعمارة المسجد الحرام كمن آمن باهللا واليوم اآلخر أجعلتم سقاية الحاج {: ومن هذا قوله تعاىل

الذين آمنوا وهاجروا * وجاهد فى سبيل اهللا ال يستوون عند اهللا، واهللا ال يهدى القوم الظالمني يبشرهم ربهم * نفسهم أعظم درجة عند اهللا، وأولئك هم الفائزون وجاهدوا فى سبيل اهللا بأموالهم وأ

: التوبة* [}خالدين فيها أبدا إن اهللا عنده أجر عظيم* برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم سبحانه وتعاىل أنه ال يستوى عنده عمار املسجد احلرام، وهم عماره باالعتكاف ، فأخرب]٢٢ -١٩

والطواف والصالة، هذه هى عمارة مساجده املذكورة ىف القرآن، وأهل سقاية احلاج ال يستوون هم ل وأهل اجلهاد ىف سبيل اهللا، وأخرب أن املؤمنني اجملاهدين أعظم درجة عنده وأهنم هم الفائزون، وأهنم أه

البشارة بالرمحة والرضوان واجلنات فنفى التسوية بني اجملاهدين وعمار املسجد احلرام مع أنواع العبادة إنما يعمر مساجد اهللا من آمن باهللا واليوم اآلخر وأقام الصالة وآتى {: مع ثنائه على عمارة بقوله تعاىل

، فهؤالء هم عمار ]١٨: التوبة* [}إال اهللا، فعسى أولئك أن يكونوا من املهتدين الزكاة ولم يخشىال يستوى القاعدون من {: وقال تعاىل. املساجد، ومع هذا فأهل اجلهاد أرفع درجة عند اهللا منهم

بيل اهللا بأموالهم وأنفسهم فضل اهللا املجاهدين بأموالهم المؤمنني غير أولى الضرر والمجاهدون فى س أجرا وأنفسهم على القاعدين درجة، وكال وعد اهللا الحسنى وفضل اهللا المجاهدين على القاعدين

، فنفى سبحانه ]٩٦ -٩٥: النساء* [}رة ورحمة وكان اهللا غفورا رحيمادرجات منه ومغف* عظيما

Page 296: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وتعاىل التسوية بني املؤمنني القاعدين عن اجلهاد وبني اجملاهدين، مث أخرب عن تفضيل اجملاهدين على .القاعدين درجة مث أخرب عن تفضيلهم عليهم درجات

الناس من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم اجملاهدون وقد أشكل فهم هذه اآلية على طائفة من الضرر ] أهل الضرر والقاعدون الذين فضل عليهم اجملاهدون بدرجات هم أولو[بدرجات إن كانوا هم

فيكون اجملاهدون أفضل من القاعدين مطلقا، وعلى هذا فما وجه استثناء أوىل الضرر من القاعدين وهم صال؟ال يستوون واجملاهدين أ

] ما قاله ىف األية مث نذكر[فيكون حكم املستثىن واملستثىن منه واحدا، فهذا وجه اإلشكال، وحنن نذكر ، فقريء رفعا ونصبا ومها ىف السبعة، ))غري((ما يزيل اإلشكال حبمد اهللا، فاختلف القراء ىف إعراب

النصب فعلى االستثناء ألن غريا يعرب ىف وقريء باجلر ىف غري السبعة وهى قراءة أىب حيوة، فأما قراءة .االستثناء إعراب االسم الواقع بعد إال وهو النصب، هذا هو الصحيح

إعراهبا نصب على احلال، أى ال يستوى القاعدون غري مضرورين، أى ال يستوون ىف : وقالت طائفةال ىف كالمهم إال مضافة ال تكاد تقع حا)) غري((حال صحتهم هم واجملاهدون، واالستثناء أصح، فإن

، ]١١٥: النحل] [١٤٥: األنعام] [١٧٣: البقرة* [}فمن اضطر غير باغ{: إىل نكرة كقوله تعاىلأحلت لكم بهيمة األنعام إال ما يتلى عليكم غير محلى {: وقوله عز وجل ىف أول املائدة

]١: دةاملائ*[}الصيد )).مرحبا بالوفد غري خزايا وال ندامى: ((وقوله صلى اهللا عليه وسلم

صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب {: فإن أضيفت إىل معرفة كانت تابعة ملا قبلها، كقوله تعاىلري، هذا هو املعروف من كالمهم مرحبا بالوفد غري اخلزايا وال الندامى، جلررت غ: ولو قلت* }عليهم

وأما الرفع فعلى النعت . والكالم ىف عدم تعرف غري باإلضافة وحسن وقوعها إذ ذاك حاال له مقام آخر .للقاعدين، هذا هو الصحيحهو خرب مبتدإ حمذوف تقديره هم غري أوىل الضرر، والذى محله على هذا ظنه : وقال أبو إسحاق وغريه

لتعريف باإلضافة فال جترى صفة للمعرفة، وليس مع من ادعى ذلك حجة يعتمد عليها أن غريا ال تقبل ا .أن غريا توغلت ىف اإلهبام فال تتعرف مبا يضاف إليه] قوهلم[سوى

تقابلني مل يكن فيها إهبام لتعيينها ما تضاف إليه، وأما قراءة اجلر ] ن[وجواب هذا أهنا إذا دخلت بني أنه بدل -وهو قول املربد -أنه نعت للمؤمنني، والثاىن - وهو الصحيح -مهاأحد: ففيها وجهان أيضا

.منه، بناء على أنه نكرة فال تنعت به املعرفة

Page 297: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وعلى األقوال كلها فهو مفهوم معىن االستثناء، وإن نفى التسوية غري مسلط على ما أضيف إليه غريه، . ، هو مبني ملعىن نفى املساواة]٩٥: النساء* [}دين درجةفضل اهللا المجاهدين على القاع{: وقولهمن أوىل الضرر درجة واحدة المتيازه عنه باجلهاد ] القاعدين[على ] اجملاهدين[واملعىن فضل اهللا : قالوا

وكال وعد اهللا {: مث أخرب سبحانه وتعاىل أن الفريقني كليهما موعود باحلسىن فقال. بنفسه وماله .أى اجملاهد والقاعد املضرور، الشتراكهما ىف اإلميان] ٩٥: النساء*[}سنىالح

أخرب أن اجملاهد مباله ] سبحانه[وىف هذا دليل على تفضيل الغىن املنفق على الفقري، ألن اهللا : قالوا@

وال {: بقولهونفسه أفضل من القاعد وقدم اجلهاد باملال على اجلهاد بالنفس، وأما الفقري فنفى عنه احلرج ، فأين مقام من حكم له ]٩٢: التوبة* [}على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت ال أجد ما أحملكم عليه

.بالتفضيل إىل مقام من نفى عنه احلرج]: سبحانه[ فهذا حكم القاعد من أوىل الضرر واجملاهد، وأما القاعد من غري أوىل الضرر فقال: قالوا

درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اهللا غفورا * وفضل اهللا المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما {أجرا {هو نصب على البدل من قوله : قيل* }درجات{ : ، وقوله]٩٦ -٩٥: النساء* [}رحيمااإلسالم : كان يقال: ه وإن كان بغري لفظه، ألنه هو ىف املعىن، قال قتادةتأكيد ل: ، وقيل* }عظيما

.درجة، واهلجرة ىف اإلسالم درجة واجلهاد ىف اهلجرة درجة، والقتل ىف اجلهاد درجةهبا اجملاهد على القاعد سبع، وهى الىت ذكرها اهللا تعاىل ] اجلهاد[الدرجات الىت فضل اهللا : وقال ابن زيدذلك بأنهم ال يصيبهم ظمأ وال نصب وال مخمصة فى سبيل اهللا وال يطئون موطئا يغيظ {:يلإذ يقول تعا

: التوبة[ *}ننيالكفار وال ينالون من عدو نيال إال كتب لهم به عمل صالح، إن اهللا ال يضيع أجر المحس* }وال ينفقون نفقة صغرية وال كبيرة وال يقطعون واديا إال كتب لهم{: ، فهذه مخس مث قال]١٢٠

الدرجات سبعون درجة ما بني الدرجتني حضر : به عمل صاحل، فهاتان اثنتان، وقيل] ١٢١: التوبة[ .الفرس اجلواد املضمر سبعني سنة

عن ] عنه[ح أن الدرجات هى املذكورة ىف حديث أىب هريرة الذى رواه البخارى ىف صحيحه والصحيمن آمن باهللا ورسوله وأقام الصالة وصام رمضان فإن حقا على اهللا : ((النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال

اهللا، أفال خنرب يا رسول: قالوا)) أن يدخله اجلنة، هاجر ىف سبيل اهللا أو جلس ىف أرضه الىت ولد فيهاإن ىف اجلنة مائة درجة أعدها اهللا للمجاهدين ىف سبيله، كل درجتني كما بني : ((الناس بذلك؟ قال

السماء واألرض فإذا سألتم اهللا فاسألوه الفردوس فإنه أوسط اجلنة وأعلى اجلنة وفوقه عرش الرمحن، ومنه )).تفجر أهنار اجلنة

Page 298: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

بدرجات ومغفرة ورمحة، ] ها هنا[يل األول بدرجة فقط، وجعله وجعل سبحانه وتعاىل التفض: قالوا .وهذا يدل على أنه يفضل على غري أوىل الضرر، فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه

إذا كان اجملاهدون أفضل من القاعدين مطلقا لزم أن ال يستوى جماهد وقاعد مطلقا، : ولكن بقى أن يقالهنم من غري أوىل الضرر فائدة، فإنه ال يستوى اجملاهدون والقاعدون من فال يبقى ىف تقييد القاعدين بكو

.أوىل الضرر أيضاوأيضا فإن القاعدين املذكورين ىف اآلية الذين وقع التفضيل عليهم هم غري أوىل الضرر ال القاعدون

يل على غريهم، الذين هم أولوا الضرر، فإهنم مل يذكر حكمهم ىف اآلية، بل استثناهم وبني أن التفضللعهد واملعهود هم غري أوىل الضرر ال املضررون وأيضا فالقاعد من اجملاهدين )) القاعدين((فالالم ىف

إذا : ((لضرورة متنعه من اجلهاد له مثل أجر اجملاهد، كما ثبت عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال: ، وقال صلى اهللا عليه وسلم))مقيما مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا

وهم : ((وهم باملدينة؟ قال: قالوا)) إن باملدينة أقواما ما سرمت مسريا وال قطعتم واديا إال وهم معكم((اآلية دلت على أن القاعدين من غري أوىل الضرر : ، وعلى هذا فالصواب أن يقال))باملدينة حبسهم العذر

عن القاعدين من أوىل الضرر فلم يدل على حكمهم بطريق [وسكت ال يستوون هم واجملاهدون، .عن حكمهم بطريق منطوقها وال يدل مفهومها على مساواهتم للمجاهدين] منطوقها

بل هذا النوع منقسم إىل معذور من أهل اجلهاد غلبه عذره وأقعده عنه ونيته جازمة مل يتخلف عنها .تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر اجملاهد مقدورها، وإمنا أقعده العجز، فهذا الذى

وهذا القسم ال يتناوله احلكم بنفى التسوية، وهذا ألن قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما ميكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه ىف الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام كما دل عليه قوله صلى

هذا القاتل، فما بال : ، قالوا))ا تواجه املسلمان بسيفيهما فالقاتل واملقتول ىف النارإذ: ((اهللا عليه وسلم )).إنه كان حريصا على قتل صاحبه: ((املقتول؟ قال

: وىف الترمذى ومسند اإلمام أمحد من حديث أىب كبشة األمنارى عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قاله اهللا ماال وعلما، فهو يتقى ىف ماله ربه ويصل به رمحه، ويعلم هللا فيه عبد رزق: إمنا الدنيا ألربعة نفر((

لو أن ىل ماال : ، وعبد رزقه اهللا علما ومل يرزقه ماال، فهو يقول]عند اهللا[حقا، فهذا بأحسن املنازل ما، فهو ال لعملت فيه بعمل فالن، فهو بنيته، ومها ىف األجر سواء، وعبد رزقه اهللا ماال ومل يرزقه عل

يتقى ىف ماله ربه، وال يصل به رمحه، وال يعلم هللا فيه حقا، فهذا بأسوإ املنازل عند اهللا، وعبد مل يرزقه ، فأخرب ))لو أن ىل ماال لعملت بعمل فالن، فهو بنيته، ومها ىف الوزر سواء: اهللا ماال وال علما فهو يقول

ى الذى ليس مقدوره إال بقوله دون فعله سواء، ألنه أتى بالنية صلى اهللا عليه وسلم أن وزر الفاعل والناو

Page 299: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وكذلك املقتول الذى سل السيف . ومقدوره التام، وكذلك أجر الفاعل والناوى الذى اقترن قوله بنيته .وأراد به قتل أخيه املسلم فقتل، نزل منزلة القاتل لنيته التامة الىت اقترن هبا مقدورها من السعى واحلركة

، فإن بداللته ونيته نزل ))من دل على خري فله مثل أجر فاعله: ((ل هذا قوله صلى اهللا عليه وسلمومث، ومن دعا إىل ضاللة عليه من الوزر ))من دعا إىل هدى فله مثل أجور من اتبعه: ((ومثله. منزلة الفاعل

جاء املصلى إىل املسجد ليصلى إذ : ((مثل آثام من تبعه ألجل نيته واقتران مقدورها هبا من الدعوة، ومثله، كما قد جاء ))مجاعة فأدركهم وقد صلوا فصلى وحده كتب له مثل أجر صالة اجلماعة بنيته وسعيه

.مصرحا به ىف حديث مروىومثل هذا من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم إليه فغلب عينه نوم كتب له أجر

، ومثله املريض واملسافر إذا كان له عمل يعمله، فشغل عنه باملرض والسفر ورده، وكان نومه عليه صدقةمن سأل اهللا الشهادة بصدق بلغة اهللا، منازل الشهداء : ((كتب له مثل عمله وهو صحيح مقيم، ومثله

.، ونظائر ذلك كثرية))ولو مات على فراشهعزما تاما، فهذا ال يستوى هو واجملاهد ىف والقسم الثاىن معذور ليس من نيته اجلهاد، وال هو عازم عليه

سبيل اهللا، بل قد فضل اهللا اجملاهدين عليه وإن كان معذورا ألنه ال نية له تلحقه بالفاعل التام كنية .أصحاب القسم األول

إن اهللا قد أوقع أجره على قدر : ((وقد قال النىب صلى اهللا عليه وسلم ىف حديث عثمان ابن مظعونلما كان القسم املعذور فيه هذا التفصيل مل جيز أن يساوى باجملاهد مطلقا، وال ينفى عنه املساواة ، ف))نيته

.مطلقا، وداللة املفهوم ال عموم هلا، فإن العموم إمنا هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض األلفاظ .والدليل املوجب للقول باملفهوم ال يدل على أن له عموما جيب اعتباره

.أحدمها التخصيص، واآلخر التعليل: أدلة املفهوم ترجع إىل شيئني فإنفأما التخصيص فهو أن ختصيص احلكم باملذكور يقتضى نفى احلكم عما عداه وإال بطلت فائدة التخصيص، وهذا ال يقتضى العموم وسلب حكم املنطوق عن مجيع صور املفهوم ألن فائدة التخصيص

إىل ما يسلب احلكم عن بعضها ويثبت لبعضها ثبوت تفصيل فيه، فيثبت قد حتصل بانقسام صور املفهومله حكم املنطوق على وجه دون وجه، إما بشرط ال جتب مراعاته ىف املنطوق، وإما ىف وقت دون وقت،

.خبالف حكم املنطوق فإنه ثابت أبدا، وحنو ذلك من فوائد التخصيصنقسام فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل واال

ترتيب احلكم على هذا الوصف املناسب له : التحكم، وأما التعليل فإهنم قالوا] مبجرد[باطلة فإثباته .يقتضى نفى احلكم عما عداه وإال مل يكن الوصف املذكور علة

Page 300: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

نفى احلكم املرتب على ذلك وهذا أيضا ال يستلزم عموم النفى عن كل ما عداه، وإمنا غايته اقتضاؤهالوصف عن الصور املنفى عنها الوصف، وأما نفى احلكم مجلة فال جتوز ثبوته بوصف آخر وعلة أخرى،

.فإن احلكم الواحد بالنوع جيوز تعليله بعلل خمتلفة، وىف الواحد بالعني كالم ليس هذا موضعهالقاعدون من المؤمنني غير أولى الضرر ال يستوى{ : قوله تعاىل] فإن[ومثال هذا ما حنن فيه

مطلقا من حيث الصورة، ] للمجاهدين[ال يدل على مساواة املضرورين ] ٩٥: النساء* [}والمجاهدون بل إن ثبتت املساواة فإهنا معللة بوصف آخر وهى النية اجلازمة والعزم التام، والضرر املانع من اجلهاد ىف

.من املساواة ىف األجر، واهللا أعلم] مانعا[لك احلال ال يكون ذوأما النصوص واألدلة الدالة على فضل اجلهاد وأهله . واملقصود الكالم على طبقات الناس ىف اآلخرة

.فأكثر من أن تذكر هنا ولعلها أن تفرد ىف كتاب على هذا النمط إن شاء اهللارضى [، أعىن درجة العلم والعدل واجلهاد وهبا سبق الصحابة فهذه الدرجات الثالث هى درجات السبق

وأدركوا من قبلهم وفاتوا من بعدهم واستولوا على األمد البعيد وحازوا قصبات العلى، وهم ] اهللا عنهاإلسالم إلينا وىف تعليم كل خري وهدى وسبب تنال به السعادة والنجاة، وهم ] بلوغ[كانوا السبب ىف .ولوه، وأعظمها جهادا ىف سبيل اهللا أعدل األمة فيما

واألمة ىف آثار علمهم وعدهلم وجهادهم إىل يوم القيامة، فال ينال أحد منهم مسألة علم نافع إال على أيديهم ومن طريقهم يناهلا، وال يسكن بقعة من األرض آمنا إال بسبب جهادهم وفتوحهم، وال حيكم

إليه، فهم الذين فتحوا البالد بالسيف ] وصوله[السبب ىف إمام وال حاكم بعدل وهدى إال كانوا هموالقلوب باإلميان وعمروا البالد بالعدل والقلوب بالعلم واهلدى، فلهم من األجر بقدر أجور األمة إىل يوم القيامة مضافا إىل أجر أعماهلم الىت اختصوا هبا، فسبحان من خيتص بفضله ورمحته من يشاء وإمنا

.العلم واجلهاد واحلكم بالعدل، وهذه مراتب السبق الىت يهبها اهللا ملن يشاء من عبادهنالوا هذا ب

أهل اإليثار والصدقة واإلحسان إىل الناس بأمواهلم على اختالف حاجاهتم ومصاحلهم من : الطبقة السابعةنىب صلى اهللا عليه تفريج كرباهتم ودفع ضروراهتم وكفايتهم ىف مهماهتم وهم أحد الصنفني اللذين قال ال

رجل آتاه اهللا احلكمة فهو يقضى هبا ويعلمها الناس، ورجل آتاه اهللا : ال حسد إال ىف اثنني: ((وسلم فيهم، يعىن أنه ال ينبغى ألحد أن يغبط أحدا على نعمة ويتمىن مثلها، إال ))ماال وسلطه على هلكته ىف احلق

ام واإلحسان املتعدى إىل اخللق، فهذا ينفعهم بعلمه وهذا أحد هذين، وذلك ملا فيهما من منافع النفع الع .ينفعهم مباله، واخللق كلهم عيال اهللا وأحبهم إليه أنفعهم لعياله

Page 301: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وال ريب أن هذين الصنفني من أنفع الناس لعيال اهللا، وال يقوم أمر الناس إال هبذين الصنفني وال يعمر فقون أموالهم فى سبيل اهللا ثم ال يتبعون ما أنفقوا منا وال أذى لهم الذين ين{ : العامل إال هبما، قال تعاىل

الذين ينفقون أمواهلم {: وقال تعاىل[، ]٢٦٢: البقرة* [}أجرهم عند ربهم وال خوف عليهم يحزنون إن {: هبم وال خوف عليهم وال حيزنون وقال تعاىلبالليل والنهار سرا وعالنية فلهم أجرهم عند ر

قال تعاىل ] ١٨:احلديد* [}المصدقني واملصدقات وأقرضوا اهللا قرضا حسنا يضاعف لهم وهلم أجر كرمي* } يقبض ويبسط وإليه ترجعونمن ذا الذى يقرض اهللا قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثرية واهللا{* }من ذا الذى يقرض اهللا قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كرمي{: ، وقال تعاىل]٥٤٢: البقرة[وهو ، فصدر سبحانه اآلية بألطف أنواع اخلطاب، وهو االستفهام املتضمن ملعىن الطلب، ]١١: احلديد[

هل أحد يبذل هذا القرض احلسن فيجازى عليه أضعافا : أبلغ ىف الطلب من صيغة األمر، واملعىنمضاعفة؟ ومسى ذلك اإلنفاق قرضا حسنا حثا للنفوس وبعثا هلا على البذل ألن الباذل مىت علم أن عني

.ماله يعود إليه وال بد طوعت له نفسه بذله وسهل عليه إخراجهاملستقرض ملى وىف حمسن كان أبلغ ىف طيب قلبه ومساحة نفسه، فإن علم أن املستقرض فإن علم أن

يتجر له مبا اقترضه وينميه له ويثمرة حىت يصري أضعاف ما بذله كان بالقرض أمسح وأمسح، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرا آخر من غري جنس القرض وأن ذلك األجر حظ عظيم

كرمي فإنه ال يتخلف عن قرضه إال آلفة ىف نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان، وذلك وعطاء .من ضعف إميانه، وهلذا كانت الصدقة برهانا لصاحبها

مساه قرضا، وأخرب أنه هو ] سبحانه[وهذه األمور كلها حتت هذه األلفاظ الىت تضمنتها اآلية، فإنه ملعاملته، وليعرف مقدار الربح فهو ] استدعاه[قرض إحسان إىل املقرض املقترض ال قرض حاجة، ولكن

يرجع إليه بالقرض وهو األضعاف ] عن ما[الذى أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به، مث أخرب .املضاعفة، مث أخرب عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو األجر الكرمي

أحدها أن يكون من : سنا، وذلك جيمع أمورا ثالثةوحيث جاء هذا القرض ىف القرآن قيده بكونه ح. طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاء مرضاة اهللا] خيرجه[أن : الثاىن. طيب ماله ال من رديئه وخبيثه

فاألول يتعلق باملال، والثاىن يتعلق باملنفق بينه وبني اهللا، والثالث بينه . أن ال مين به وال يؤذى: الثالثمثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل اهللا كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى {: وقال تعاىل. وبني اآلخذ

، وهذه اآلية كالتفسري ]٢٦١: البقرة* [}كل سنبلة مائة حبة واهللا يضاعف لمن يشاء واهللا واسع عليمملقدار األضعاف الىت يضاعفها للمقرض، ومثل سبحانه هبذا املثل إحضارا لصورة التضعيف ىف والبيان

األذهان هبذه احلبة الىت غيبت ىف األرض فأنبتت سبع سنابل ىف كل سنبلة مائة حبة، حىت كأن القلب

Page 302: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فينضاف الشاهد ينظر إىل هذا التضعيف ببصريته كما تنظر العني إىل هذه السنابل الىت من احلبة الواحدة .العياىن الشاهد اإلمياىن القرآىن فيقوى إميان املنفق وتسخو نفسه باإلنفاق

الكثرة، إذ املقام مقام تكثري ] جمموع[وتأمل كيف مجع السنبلة ىف هذه اآلية على سنابل وهى من : يوسف* [}بساتوسبع سنبالت خضر وأخر يا{: وتضعيف، ومجعها على سنبالت ىف قوله تعاىل

واهللا يضاعف لمن {: وقوله تعاىل. ، فجاء هبا على مجع القلة ألن السبعة قليلة وال مقتضى للتكثري]٤٣املعىن واهللا يضاعف هذه املضاعفة ملن يشاء ال لكل منفق بل خيتص : ، قيل]٢٦١: البقرة* [}يشاء

ىف شدة ] و[املنفق وأحواله ] وىف صفات[ نفسه، برمحته من يشاء، وذلك لتفاوت أحوال اإلنفاق ىف .احلاجة وعظيم النفع وحسن املوقع

واهللا يضاعف ملن يشاء فوق ذلك فال يقتصر به على السبعمائة، بل جياوز ىف املضاعفة هذا املقدار : وقيل .إىل أضعاف كثرية

مثل الذين ينفقون : وقيل. ثل حبةمثل نفقة الذين ينفقون ىف سبيل اهللا كم: واختلف ىف تفسري اآلية فقيلمنفق، ونفقة، وباذر، : أربعة أمور] فها هنا. [ىف سبيل اهللا كمثل باذر حبة، ليطابق املمثل للممثل به

فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه، فذكر من شق املمثل املنفق إذ املقصود ذكر حاله وشأنه، . وبذروذكر من شق املمثل به البذر إذ هو احملل الذى حصلت فيه .وسكت عن ذكر النفقة لداللة اللفظ عليها

.املضاعفة، وترك ذكر الباذر ألن القرض ال يتعلق بذكرهوهذا كثري ىف أمثال القرآن، بل عامتها ترد . فتأمل هذه البالغة والفصاحة واإلجياز املتضمن لغاية البيانمطابقني لسياقها، ومها الواسع والعليم، فال على هذا النمط، مث ختم اآلية بإمسني من أمسائه احلسىن

واسع العطاء واسع الغىن ] سبحانه[العبد هذه املضاعفة وال يضيق عنها عطنه، فإن املضاعف ] يستبعد[واسع الفضل، ومع ذلك فال يظن أن سعة عطائه تقتضى حصوهلا لكل منفق فإنه عليم مبن تصلح له هذه

وفضله تعاىل ال يناقض ] سبحانه[حقها وال هو أهل هلا، فإن كرمه املضاعفة وهو أهل هلا، ومن ال يست: مث قال تعاىل. حبكمته وعلمه] أهل[حكمته، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورمحته، ومينعه من ليس من

ى لهم أجرهم عند ربهم وال الذين ينفقون أموالهم فى سبيل اهللا ثم ال يتبعون ما أنفقوا منا وال أذ{، هذا بيان للقرض احلسن ما هو؟ وهو أن يكون ىف ]٢٦٢:البقرة* [}خوف عليهم وال هم يحزنون

.سبيله أى ىف مرضاته والطريق املوصلة إليه، ومن أنفعها سبيل اجلهاد: وأن ال يتبع صدقته مبن وال أذى، فاملن نوعان اهللا خاص وعام، واخلاص جزء من السبيل العام] فسبيل[

شهود منة ] نقصان[من غري أن يصرح به بلسانه، وهذا إن مل يبطل الصدقة فهو من ] بقلبه[من : أحدمهااهللا عليه ىف إعطائه املال وحرمان غريه وتوفيقه للبذل ومنع غريه منه فلله املنة عليه من كل وجه، فكيف

Page 303: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه ] فيتعدى[أن مين عليه بلسانه : ه؟ والنوع الثاىنيشهد قلبه منه لغري .أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده: اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة ىف عنقه فيقول

رجال إذا أعطيت: ، كان أىب يقول]زيد[وقال عبد الرمحن بن . يقول أعطيتك فما شكرت: قال سفيانصنيعة فانسوها، ] اصنعتم[إذا : شيئا ورأيت أن سالمك يثقل عليه فكف سالمك عنه وكانوا يقولون

:وىف ذلك قيل. وإذا أسديت إليكم صنيعة فال تنسوها وإن امرءا أهدى إىل صنيعة وذكرنيها مرة لبخيل

ى عباده املن بالصنيعة واختص به صنوان من منح سائله ومن، ومن منع نائله وضن وحظر اهللا عل: وقيل، ومن اهللا سبحانه إفضال وتذكري، وأيضا فإنه هو املنعم ىف ]تعبري[صفة لنفسه، ألن من العباد تكدير

وأيضا فاالمتنان استعباد وكسر وإذالل ملن . نفس األمر والعباد وسائط، فهو املنعم على عبده ىف احلقيقة .والذل إال هللا مين عليه، وال تصلح العبودية

وأيضا فاملنة أن يشهد املعطى أنه هو رب الفضل واإلنعام، وأنه وىل النعمة ومسديها، وليس ذلك ىف احلقيقة إال اهللا، وأيضا فاملان بعطائه يشهد نفسه مترفعا على اآلخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا، ويشهد

ك للعبد، وأيضا فإن املعطى قد توىل اهللا ثوابه ورد عليه ذل اآلخذ وحاجته إليه وفاقته، وال ينبغى ذل .أضعاف ما أعطى فبقى عوض ما أعطى عند اهللا

واهللا -ومن هنا. فأى حق بقى له قبل اآلخذ؟ فإذا امنت عليه فقد ظلمه ظلما بينا، وادعى أن حقه ىف قلبه، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم بطلت صدقته باملن، فإنه ملا كانت معاوضته ومعاملته مع اهللا -أعلم

.يرض به والحظ العوض من اآلخذ واملعاملة عنده فمن عليه مبا أعطاه أبطل معاوضته مع اهللا ومعاملته لهفتأمل هذه النصائح من اهللا لعباده، وداللته على ربوبيته وإهليته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه ىف شيء

: البقرة* [}ثم ال يتبعون ما أنفقوا منا وال أذى{: وال رب سواه ونبه بقولهمن ربوبيته وإهليته ال إله غريه ، على أن املن واألذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ومل حيصل له مقصود ]٢٦٢

باحلال، وإذا كان وال يتبعون ما أنفقوا منا وال أذى، ألومهت تقييد ذلك : اإلنفاق، ولو أتى بالواو وقال .املن واألذى املتراخى مبطال ألثر اإلنفاق مانعا من الثواب فاملقارن أوىل وأحرى

، وقرنه بالفاء ىف ]٢٦٢: البقرة* [}لهم أجرهم عند ربهم{: وتأمل كيف جرد اخلرب هنا عن الفاء فقال: البقرة* [}لليل والنهار سرا وعالنية فلهم أجرهم عند ربهمالذين ينفقون أموالهم با{: قوله تعاىل

] وأن اخلرب[، فإن الفاء الداخلة على خرب املبتدأ املوصول أو املوصوف تفهم معىن الشرط واجلزاء ]٢٧٤صر املستحق للجزاء دون مستحق مبا تضمنه املبتدأ من الصلة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضى بيان ح

غريه جرد اخلرب عن الفاء، فإن املعىن أن الذى ينفق ماله هللا وال مين وال يؤذى، هو الذى يستحق األجر

Page 304: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ومين ويؤذى بنفقته، فليس املقام مقام شرط وجزاء بل مقام ] وال من[املذكور، ال الذى ينفق لغري اهللا ].للمستحق دون غريه وىف اآليه األخرى[غريه ] من[بيان للمستحق

وىف اآلية األخرى ذكر اإلنفاق بالليل والنهار سرا وعالنية، فذكر عموم األوقات وعموم األحوال، فأتى حالة وجد من سر ] أية[بالفاء ىف اخلرب ليدل على أن اإلنفاق ىف أى وقت وجد من ليل أو هنار، وعلى

العبد وال ينتظر به غري وقته وحاله، وال يؤخر نفقة وعالنية فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليهالليل إذا حضر إىل النهار وال نفقة النهار إىل الليل، وال ينتظر بنفقة العالنية وقت السر وال بنفقة السر وقت العالنية، فإن نفقته ىف أى وقت وعلى أى حال وجدت سبب ألجره وثوابه، فتدبر هذه األسرار ىف

.تظفر هبا متر بك ىف التفاسري، واملنة والفضل هللا وحده ال شريك له القرآن فلعلك ال، ]٢٦٣: البقرة* [}قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى واهللا غنى حليم{: مث قال تعاىل

رة وهى العفو عمن أساء أن القول املعروف وهو الذى تعرفه القلوب وال تنكره، واملغف] سبحانه[فأخرب فالقول املعروف إحسان وصدقة بالقول، واملغفرة إحسان بترك . باألذى] املقرون[إليك خري من الصدقة

.املؤاخذة واملقابلة، فهما نوعان من أنواع اإلحسان، والصدقة املقرونة باألذى حسنة مقرونة مبا يبطلها هذا القول املعروف الرد اجلميل على السائل ويدخل ىف.[وال ريب أن حسنتني خري من حسنة باطلة ].والعدة احلسنة والدعاء والصاحل له حنو ذلك

ويدخل ىف املغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض اجلفوة واألذى بسبب رده، فيكون عفوه عنه خريا املغفرة من اهللا، أى أن: من أن يتصدق عليه ويؤذيه هذا على املشهور من القولني ىف اآلية، والقول الثاىنأى : وفيها قول ثالث. مغفرة لكم من اهللا بسبب القول املعروف والرد اجلميل خري من صدقة يتبعها أذى

.خري من أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى] املسؤول[مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر اخلطاب إمنا هو للمنفق املسؤول ال وأوصح األقوال هو األول، ويليه الثاىن، والثالث ضعيف جدا ألن

مث ختم . للسائل اآلخذ واملعىن أن قول املعروف له والتجاوز والعفو خري لك من أن تتصدق عليه وتؤذيهأحدمها أن : ، وفيه معنيان]٢٦٣: البقرة* [}واهللا غنى حليم{: ملا تضمنته فقال] مناسبتني[اآلية بصفتني

ء من صدقاتكم، وإمنا احلظ األوفر لكم ىف الصدقة فنفعها عائد عليكم ال إليه اهللا غىن عنكم لن يناله شيسبحانه وتعاىل، فكيف مين بنفقته ويؤذى مع غىن اهللا التام عنها وعن كل ما سواه، ومع هذا فهو حليم

مع غناه أنه سبحانه وتعاىل: واملعىن الثاىن. والتحذير] له[إذ يعاجل املان بالعقوبة، وضمن هذا الوعيد التام من وجه فهو املوصوف باحللم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة، فكيف

.يؤذى أحدكم مبنه وأذاه، مع قلة ما يعطى ونزارته وفقره

Page 305: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ى ينفق ماله رئاء الناس يا أيها الذين آمنوا ال تبطلوا صدقاتكم بالمن واألذى كالذ{: مث قال اهللا تعاىلا ال يقدرون على وال يؤمن باهللا واليوم اآلخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلد

، تضمنت هذه اآلية اإلخبار بأن املن ]٢٦٤: ةالبقر* [}شيء مما كسبوا واهللا ال يهدى القوم الكافرينيا أيها الذين آمنوا ال {: واألذى حيبط الصدقة، وهذا دليل على أن احلسنة قد حتبط بالسيئة مع قوله تعاىلأن تحبط أعمالكم وأنتم ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى وال جتهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض

.، وقد تقدم الكالم على هذه املسألة ىف أول الرسالة فال حاجة إىل إعادته]٢: احلجرات* [}ال تشعرونإن املن واألذى املقارن للصدقة هو الذى يبطلها دون ما يلحقها بعدها، إال أنه ليس ىف اللفظ : وقد يقال

متثيله باملرائى الذى ال يؤمن باهللا : وقد يقال. والسياق يدل على إبطاهلا به مطلقا ما يدل على هذا التقييدواليوم اآلخر يدل على أن املن واألذى املبطل هو املقارن كالرياء وعدم اإلميان، فإن الرياء لو تأخر عن

.العمل مل يبطلهحيبط هبا العمل، وهى حال املرائى واملان أن التشبيه وقع ىف احلال الىت : أحدمها: وجياب عن هذا جبوابني

)) فعال((أن الرياء ال يكون إال مقارنا للعمل، ألنه : الثاىن. املؤذى ىف أن كل واحد منهما حيبط العملاملن واألذى فإنه ] خالف[من الرؤية الىت صاحبها يعمل لريى الناس عمله فال يكون متراخيا، وهذا

.راخيه أكثر من مقارنتهيكون مقارنا ومتراخيا، وتكالذى ينفق إما أن يكون املعىن كإبطال الذى ينفق فيكون شبه اإلبطال باإلبطال، أو املعىن ال { : وقوله

أى مثل هذا املنفق } فمثله{: وقوله. تكونوا كالذى ينفق ماله رئاء الناس، فيكون تشبيها للمنفق باملنفقأنه واحد، : أحدمها: وهو احلجر األملس، وفيه قوالن} مثل صفوانك{: الذى قد بطل ثواب نفقته

وهو األملس الذى ))فتركه صلدا ((وهو املطر الشديد، ))عليه تراب فأصابه وابل ((مجع صفوة، : والثاىنه قلب هذا املنفق ال شيء عليه من نبات وال غريه وهذا من أبلغ األمثال وأحسنها، فإنه يتضمن تشبي

. باحلجر لشدته وصالبته وعدم االنتفاع به -واليوم اآلخر] إميانه[الذى مل يصدر إنفاقه عن -املرائىوتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذى علق بذلك احلجر، والوابل الذى أزال ذلك التراب

يذهب الوابل التراب الذى على احلجر فيتركه عن احلجر فأذهبه باملانع الذى أبطل صدقته وأزاهلا كما .صلدا فال يقدر املنفق على شيء من ثوابه لبطالنه وزواله

له كما ] يزكوا[وهو أن املنفق لغري اهللا هو ىف الظاهر عامل عمال يرتب عليه األجر : وفيه معىن آخربلة مائة حبة، ولكن وراء هذا تزكو احلبة الىت إذا بذرت ىف التراب الطيب أنبتت سبع سنابل ىف كل سن

اإلنفاق مانع مينع من منوه وزكائه كما أن حتت التراب حجرا مينع من نبات ما يبذر من احلب فيه فال مثل ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اهللا وتثبيتا من أنفسهم ك{: ينبت وال خيرج شيئا مث قال

Page 306: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

: البقرة* [}ن بصريجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل، واهللا بما تعملو٢٦٥.[

اإلخالص والصدق، فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو اإلخالص، ] على[هذا مثل الذى مصدر نفقته النفس هو الصدق ىف البذل، فإن املنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن جنا منهما كان مثله ما والتثبيت من

طلبه بنفقته حممدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر : ذكره ىف هذه اآلية، إحدامها؟ فاآلفة األوىل تزول وترددها، هل يفعل أم ال] بالبذل وتقاعسها[ضعف نفسه : املنفقني واآلفة الثانية

بابتغاء مرضاة اهللا، واآلفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها واإلقدام هبا على وهذا هو صدقها، وطلب مرضاة اهللا إرادة وجهه وحده وهذا إخالصها، فإذا كان مصدر اإلنفاق . البذل

. فهو جمنت هبا أى مستتر ليس قاعا فارغا -شجاروهى البستان الكثري األ -عن ذلك كان مثله كجنةأكمل من اجلنة الىت بالوهاد واحلضيض، ألهنا إذا ارتفعت ] ألهنا[ -وهو املكان املرتفع -واجلنة بربوة

والرياح، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروهبا، فكانت ] األهوية[كانت مبدرجة ره، فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس، خبالف الثمار الىت أنضج مثرا وأطيبه وأحسنه وأكث

أصابها {: فقال تعاىل] الشرب[تنشأ ىف الظالل، وإذا كانت اجلنة مبكان مرتفع مل خيش عليها إال من قلة ] رهتامث[، وهو املطر الشديد العظيم القدر فأدت مثرهتا وأعطت بركتها فأخرجت ]٢٦٥: البقرة* [}وابل

فإن {: ضعفى ما يثمر غريها أو ضعفى ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل، فهذا حال السابقني املقربني، فهو دون الوابل، فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها ]٢٦٥: البقرة* [}لم يصبها وابل فطل

النفقة وهم درجات عند اهللا، فتكتفى ىف إخراج بركتها بالطل، وهذا حال األبرار املقتصدين ىف فأصحاب الوابل أعالهم درجة، وهم الذين ينفقون أمواهلم بالليل والنهار سرا وعالنية، ويؤثرون على

.أنفسهم ولو كان هبم خصاصة، وأصحاب الطل مقتصدوهموكما أن كل بالوابل والطل، ] والقليلة[فمثل حال القسمني وأعماهلم باجلنة على الربوة ونفقتهم الكثرية

مثر اجلنة وحنوه باألضعاف، فكذلك نفقتهم كثرية أو قليلة بعد أن ] أو[واحد من املطرين يوجب زكاء .صدرت عن ابتغاء مرضاة اهللا والتثبيت من نفوسهم فهى زاكية عند اهللا نامية مضاعفة

] ضعفاء[عفه مثاله ض: ضعفا الشيء مثاله زائدا عليه وضعفه مثله، وقيل: واختلف ىف الضعفني، فقيلذلك ] على[والذى محل هذا القائل . ثالثة أمثاله، وثالثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثال

إىل املثل ] ضم[فراره من استواء داللة املفرد والتثنية، فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا ن مل يكن فرق بني املفرد واملثىن، فالضعفان عنده مثالن هلا ضعفا: فلو قيل. صار مثلني، ومها الضعف

هكذا ابدا والصواب [مضافان إىل األصل، ويلزم من هذا أن يكون ثالثة أضعافه أمثال مضافة إىل األصل

Page 307: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

: البقرة* [}فآتت أكلها ضعفين{: وعليه يدل قوله تعاىل] . أن الضعفني هى املثالت فقط األصل ومثله، أى مثلني، وهلذا ]٣٠: األحزاب* [}يضاعف لها العذاب ضعفين{: ى مثلني، وقوله تعاىل، أ]٢٦٥

، وأما ما تومهوه من استواء داللة املفرد ]٣١: األحزاب* [}نؤتها أجرها مرتين{: قال ىف احلسناتإن اعترب : لك، بل املثل له اعتبارانوالتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو املثل مع األصل وليس كذ

.واهللا أعلم. وحده فهو ضعف، وإن اعترب مع نظريه فهما ضعفان)) أصابها((ىف : هو مبتدأ خربه حمذوف أى وطله يكفيها، وقيل: فقيل)) فطل: ((واختلف ىف رافع قوله

يود أحدكم أن تكون له جنة من أ{: مث قال تعاىل. إما أن يرجع إىل اجلنة أو إىل الربوة ومها متالزمانضعفاء فأصابها نخيل وأعناب تجرى من تحتها األهنار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية

: ، قال احلسن]٢٦٦: البقرة* [}لكم اآليات لعلكم تتفكرونإعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين اهللا هذا مثل قل واهللا من يعقله من الناس، شيخ كبري ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إىل جنته، وإن

.أحدكم واهللا أفقر ما يكون إىل عمله إذا انقطعت عنه الدنيافيم : سأل عمر يوما أصحاب النىب صلى اهللا عليه وسلم: قالوىف صحيح البخارى عن عبيد بن عمري

: اآلية؟ قالوا] ٢٦٦: البقرة* [}أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل{: هم يرون هذه اآليات نزلتأمري ىف نفسى منها شيء يا : قولوا نعلم أو ال نعلم، فقال ابن عباس: اهللا أعلم، فغضب عمر فقال

أى : قال عمر. ضربت مثال لعمل: قال ابن عباس. قم يا ابن أخى وال حتقر بنفسك: املؤمنني، فقال عمرلرجل عمل بطاعة اهللا، مث بعث اهللا له الشيطان فعمل باملعاصى : قال عمر. لعمل: عمل؟ قال ابن عباس .حىت أغرق أعماله

ستفهام اإلنكارى، وهو أبلغ من النفى والنهى وألطف أخرجه خمرج اال} أيود أحدكم{: فقوله تعاىلال يفعل هذا عاقل، ال يفعل هذا من خياف اهللا والدار : موقعا، كما ترى غريك يفعل فعال قبيحا فنقول

بلفظ الواحد لتضمنه معىن اإلنكار العام، كما تقول يفعل هذا } أيود أحدكم{: وقال تعاىل. اآلخرة: أبلغ ىف اإلنكار من لو قيل)) أيود : ((وقوله. ؟ وهو أبلغ ىف اإلنكار من أن يقول أيودونأحد فيه خري

.أيريد، ألن حمبة هذا احلال املذكورة ومتنيها أقبح وأنكر من جمرد إرادهتالذكر ألهنما خص هذين النوعني من الثمار با} أن تكون له جنة من نخيل وأعناب{ : وقوله تعاىل

أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعا، فإن منهما القوت والغذاء والدواء والشراب والفاكهة واحللو .واحلامض، ويؤكالن رطبا ويابسا، ومنافعهما كثرية جدا

وقد اختلف ىف األنفع واألفضل منهما فرجحت طائفة النخيل، ورجحت طائفة العنب وذكرت كل ، فذكرناها ىف غري هذا املوضع وفصل اخلطاب أن هذا خيتلف باختالف البالد، فإن طائفة حججا لقوهلا

Page 308: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اهللا سبحانه وتعاىل أجرى العادة بأن سلطان أحدمها ال حيل حيث حيل سلطان اآلخر، فاألرض الىت يكون ينة املعتدلة فيها سلطان النخيل ال يكون العنب هبا طائال وال كثريا، ألنه إمنا خيرج ىف األرض الرخوة الل

غري السبخة فينمو فيها فيكثر، وأما النخيل فنموه وكثرته ىف األرض احلارة السبخة، وهى ال تناسب العنب، فالنخل ىف أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها، والعنب ىف أرضه ومعدنه أفضل من

.واهللا أعلم. النخل فيهامار وأكرمها، فاجلنة املشتملة عليهما من أفضل اجلنان، واملقصود أن هذين النوعني مها أفضل أنواع الث

ومع هذا فاألهنار جترى حتت هذه اجلنة، وذلك أكمل هلا وأعظم ىف قدرها، ومع ذلك فلم تعدم شيئا من أنواع الثمار املشتهاة بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل واألعناب، فال تناىف

: ، ونظري هذا قوله تعاىل]٢٦٦: البقرة* [}فيها من كل الثمرات{وأعناب، وبني كوهنا من خنيل * }ينهما زرعاواضرب لهم مثال رجلين جعلنا ألحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا ب{وىف آية ] هنا[إن الثمار : ، وقد قيل]٣٤: الكهف* [}وكان له ثمر{: إىل قوله تعاىل] ٣٢: الكهف[{ : املراد هبا املنافع واألموال، والسياق يدل على أهنا الثمار املعروفة ال غريها، لقوله هنا] ٢٦٦: البقرة[

إعصار فيه نار ((اجلنة أى))فأصابها : ((، مث قال تعاىل]٢٦٦: البقرة* [}له فيها من كل الثمرات وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على {]: الكهف[، وىف ))فاحترقت .، وما ذلك إال مثار اجلنة]٤٢: الكهف* [}عروشها

: ارة إىل شدة حاجته إىل جنته، وتعلق قلبه هبا من وجوه، أحدهاهذا إش} وأصابه الكبر{: مث قال تعاىلأن : أن ابن آدم عند كرب سنه يشتد حرصه، الثالث: أنه قد كرب سنه عن الكسب والتجارة وحنوها، الثاىن

أهنم ضعفاء فهم كل عليه ال ينفعونه : له ذرية فهو حريص على بقاء جنته حلاجته وحاجة ذريته، الرابعهناية ما يكون من تعلق القلب ] وهذه[أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم، : تصرفهم، اخلامسبقوهتم و .خلطرها ىف نفسها وشدة حاجته وذريته إليها: هبذه اجلنة

وهى -فإذا تصورت هذه احلال وهذه احلاجة فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصاروفيه نار مرت بتلك اجلنة فأحرقتها - طبقات اجلو كالعمودالريح الىت تستدير ىف األرض مث ترتفع ىف

، فصدق واهللا احلسن وهلذا نبه سبحانه وتعاىل على - هذا مثل قل من يعقله من الناس -وصريهتا رماداكذلك يبين اهللا لكم {: عظم هذا املثل، وحدا القلوب إىل التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعاىل

، فلو فكر العاقل ىف هذا املثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه، ]٢٦٦: البقرة* [}آليات لعلكم تتفكرونافهكذا العبد إذا عمل بطاعة اهللا مث أتبعها مبا يبطلها ويفرقها من معاصى اهللا كانت كاإلعصار ذى النار

Page 309: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

من ذكر - أن هذه املواضع أهم مما كالمنا بصدده احملرق للجنة الىت غرسها بطاعته وعمله الصاحل، ولوال .مل نذكرها، ولكنها من أهم املهم، واهللا املستعان املوفق ملرضاته - جمرد الطبقات

فلو تصور العامل مبعصية اهللا بعد طاعته هذا املعىن حق تصوره وتأمله كما ينبغى ملا سولت له نفسه واهللا عند املعصية، وهلذا استحق ]بذلك[ال بد أن يغيب عنه علمه إحراق أعماله الصاحلة وإضاعتها، ولكن .اسم اجلهل فكل من عصى اهللا فهو جاهل

واو احلال، أم واو العطف؟ وإذا كانت للعطف فعالم ))وأصابه الكبر : ((الواو ىف قوله تعاىل: فإن قيلأيود أحدكم أن : شرى، واملعىنأنه واو احلال اختاره الزخم: أحدمها: عطفت ما بعدها؟ قلت فيه وجهان

أن تكون للعطف على املعىن، فإن : والثاىن. تكون له جنة شأهنا كذا وكذا ىف حال كربه وضعف ذريتهأيود لو كانت له جنة من : لطلب املاضى كثريا، فكان املعىن))أيود أحدكم : ((فعل التمىن وهو قوله

.ما ذكر خنيل وأعناب وأصابه الكرب فجرى عليهابالصفوان الذى - إنفاقه عن اإلميان] يصدد[الذى مل -وتأمل كيف ضرب سبحانه املثل للمنفق املرائى .ضائعا، لعدم إميانه وإخالصه] بذره[عليه التراب، فإنه مل ينبت شيئا أصال، بل ذهب

جلنة الىت هى من أحسن مث ضرب املثل ملن عمل بطاعة اهللا خملصا بنيته هللا مث عرض له ما أبطل ثوابه با، فإن هذا نبت له شيء وأمثر له ]فأحرقها[، مث سلط عليها اإلعصار النارى ]وأزهارها[اجلنان وأطيبها

.عمله مث احترق، واألول مل حيصل له شيء يدركه احلريقنوا أنفقوا يا أيها الذين آم{: فتبارك من جعل كالمه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورمحة، مث قال

، ]٢٦٧: البقرة* [}من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من األرض وال تيمموا اخلبيث منه تنفقونأضاف سبحانه الكسب إليهم وإن كان هو اخلالق ألفعاهلم، ألنه فعلهم القائم هبم، وأسند اإلخراج إليه

فعال هلم، وال هو مقدور هلم، فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذى ال قدرة هلم عليه ألنه ليس .إليه، ففى ضمنه الرد على من سوى بني النوعني وسلب قدرة العبد وفعله وتأثريه عنها بالكلية

ومها اخلارج من األرض واحلاصل بكسب التجارة دون غريمها من - وخص سبحانه هذين النوعنيإما حبسب الواقع فإهنما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإن املهاجرين كانوا أصحاب جتارة - ملواشىا

وكسب واألنصار كانوا أصحاب حرث وزرع، فخص هذين النوعني بالذكر حلاجتهم إىل بيان إن حكمهما وعموم وجودمها، وإما ألهنما أصول األموال وما عدامها فعنهما يكون ومنهما ينشأ، ف

الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختالف أصنافها وأنواعها من املالبس واملطاعم والرقيق واحليوانات واآلالت واألمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة واخلارج من األرض يتناول حبها ومثارها

وال {: ، مث قالوركازها ومعدهنا، وهذان مها أصول األموال وأغلبها على أهل األرض فكان ذكرمها أهم

Page 310: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كما هو عادة [، فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء ]٢٦٧: البقرة* [}تيمموا الخبيث منه تنفقونللفقري، وهنيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه ] أكثر النفوس متسك اجليد هلا وخترج الرديءن اتفاق، إذا كان هو احلاضر إذ ذاك أو كان ماله من ع] إما[العذر ملن فعل ذلك ال عن قصد وتيمم بل

منه تنفقون موقع {: جنسه، فإن هذا مل يتيمم اخلبيث بل تيمم إخراج بعض ما من اهللا عليه، وموقع قوله .احلال، أى ال تقصدوه منفقني منه

، أى لو كنتم أنتم املستحقني له ]٢٦٧: رةالبق* [}ولستم بآخذيه إال أن تغمضوا فيه{]: تعاىل[مث قال أغمض فالن عن : وبذل لكم مل تأخذوه ىف حقوقكم إال بأن تتساحموا ىف أخذه وتترخصوا فيه، من قوهلم

كأنك ال تبصر وحقيقته من إغماض اجلفن فكأن -أى ال تستقص -أغمض: بعض حقه، ويقال للبائعمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا، ومنه قول الرائى لكراهته له ال ميأل عينه منه بل يغ

:الشاعر مل يفتنا بالوتر قوم وللضيـ م رجال يرضون باإلغماض

أحدمها كيف تبذلون هللا وهتدون له ما ال ترضون ببذله لكم وال يرضى أحدكم من صاحبه : وفيه معنيانثاىن كيف جتعلون له ما تكرهون األشياء وأنفسها؟ وال] خيار[أن يهديه له، واهللا أحق من خيري له

: ألنفسكم وهو سبحانه طيب ال يقبل إال طيبا؟ مث ختم اآليتني بصفتني يقتضيهما سياقهما فقالفغناه ومحده يأىب قبول الرديء، فإن قابل الرديء اخلبيث ] ٢٦٧: البقرة* [}واعلموا أن اهللا غنى حميد{

أن نفسه ال تأباه لعدم كماهلا وشرفها، وأما الغىن عنه الشريف القدر إما أن يقبله حلاجته إليه، وإما .الكامل األوصاف فإنه ال يقبله

ع الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واهللا يعدكم مغفرة منه وفضال واهللا واس{: مث قال تعاىلهذه اآلية تتضمن احلض على اإلنفاق واحلث عليه بأبلغ األلفاظ وأحسن املعاىن، ] ٢٦٨: ةالبقر* [}عليم

فإهنا اشتملت على بيان الداعى إىل البخل والداعى إىل البذل واإلنفاق، وبيان ما يدعوه إليه داعى البخل .وما يدعو إليه داعى اإلنفاق وبيان ما يدعو به داعى األمرين

ى يدعوهم إىل البخل والشح هو الشيطان، وأخرب أن دعوته هى مبا يعدهم به فأخرب سبحانه أن الذوخيوفهم من الفقر إن أنفقوا أمواهلم، وهذا هو الداعى الغالب على اخللق، فإنه يهم بالصدقة والبذل

مىت أخرجت هذا دعتك احلاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكه : فيجد ىف قلبه داعيا يقول له . لك حىت ال تبقى مثل الفقري، فغناك خري لك من غناهخري

وهذا إمجاع من . فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهى البخل الذى هو من أقبح الفواحش. املفسرين أن الفحشاء هنا البخل، فهذا وعده وهذا أمره، وهو الكاذب ىف وعده، الغار الفاجر ىف أمره

Page 311: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

كما . خمدوع مغبون، فإنه يدىل من يدعوه بغروره، مث يورده شر املوارد لدعوته مغرور] فاملستجيب[ :قال

دالهم بغرور مث أوردهم إن اخلبيث ملن وااله غرارهذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه وال نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه، وال حمبة ىف بقائه غنيا،

وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك بل ال شيء أحب إليه من فقره وحاجته، وإمنا .ما حيبه من اإلنفاق لوجهه فيستوجب منه احلرمان

وأما اهللا سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضال بأن خيلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما ىف طان فلينظر البخيل واملنفق أى الوعدين هو الدنيا أو ىف الدنيا واآلخرة، فهذا وعد اهللا وذاك وعد الشي

.أوثق وإىل أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه؟ واهللا يوفق من يشاء وخيذل من يشاء وهو الواسع العليموتأمل كيف ختم هذه اآلية هبذين االمسني، فإنه واسع العطاء عليم مبن يستحق فضله ومن يستحق عدله،

فتأمل هذه اآليات وال تستطل بسط الكالم . وهو بكل شيء عليم فيعطى هذا بفضله ومينع هذا بعدلهوتلك األمثال نضربها للناس وما {: فيها، فإن هلا شأنا ال يعقله إال من عقل عن اهللا خطابه وفهم مراده

].٤٣: العنكبوت* [}يعقلها إال العالمونالقرآن بأحكام األموال وأقسام األغنياء وأحواهلم، وكيف قسمهم وتأمل ختم هذه السورة الىت هى سنام

:إىل ثالثة أقسام، فذكر جزاءهم ومضاعفته وما هلم ىف قرض أمواهلم للمليء ))املتصدقون((حمسن وهم : القسم األول

مما الوىف، مث حذرهم مما يبطل ثواب صدقاهتم وحيرقها بعد استوائها وكماهلا من املن واألذى، وحذرهممينع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء، مث أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها وال يتيمموا أردأها وخبيثها، مث حذرهم من االستجابة لداعى البخل والفحش وأخرب أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أوىل هبم،

أوتى ما : ن من أوتيها فقد أوتى خريا كثرياوأخرب أن هذا من حكمته الىت يؤتيها من يشاء من عباده، وأ* }قل متاع الدنيا قليل{: هو خري وأفضل من الدنيا كلها، ألنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة فقال تعاىل

].٢٦٩: البقرة* [}و من يؤت احلكمة فقد أوتى خيرا كثريا{: ، وقال تعاىل]٧٧: النساء[لى أن ما يؤتيه عبده من حكمته خري من الدنيا وما عليها وال يعقل هذا كل أحد بل ال يعقله إال فدل ع

:من له لب وعقل زكى، فقال تعاىل، مث أخرب أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من ]٢٦٩: البقرة* [}وما يذكر إال أولوا األلباب{

يع لديه، بل يعلم ما كان لوجهه، ويكل جزاء من عمل لغريه إىل من عمل له، نذر فإنه يعلمه، فال يضفإنه ظامل لنفسه وما له من نصري، مث أخرب سبحانه عن أحوال املتصدقني لوجهه ىف صدقاهتم، وأنه يثيبهم

Page 312: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

* }ا هىإن تبدوا الصدقات فنعم{: عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة لوجهه فقالأى فنعم شيء هى، وهذا مدح هلا موصوفة بكوهنا ظاهرة بادية، فال يتوهم مبديها ] ٢٧١: البقرة[

بطالن أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر هبا اإلخفاء فتفوت أو تعترضه املوانع وحيال بينه وبني وقتها إىل وقت السر، وهذه كانت حال قلبه أو بينه وبني إخراجها، فال يؤخر صدقة العالنية بعد حضور

.الصحابة، فأخرب أن إعطاءها للفقري ىف ]٢٧١: البقرة* [}وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم{: مث قال

وإن : وتأمل تقييده تعاىل اإلخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ومل يقل. خفية خري للمنفق من إظهارها وإعالهناحتفوها فهو خري لكم، فإن من الصدقة ما ال ميكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناء قنطرة وإجراء هنر أو غري ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففى إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم ختجيله بني الناس وإقامته مقام

شيء له فيزهدون ىف معاملته ال ] فقري[الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هى اليد السفلى وأنه ومعاوضته، وهذا قدر زائد من اإلحسان إليه مبجرد الصدقة مع تضمنه اإلخالص وعدم املراءاة وطلبهم احملمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقري خريا من إظهارها بني الناس، ومن هذا مدح النىب صلى اهللا عليه

.نه أحد السبعة الذين هم ىف ظل عرش الرمحن يوم القيامةوسلم صدقة السر وأثىن على فاعلها وأخرب أوهلذا جعله سبحانه خريا للمنفق وأخرب أنه يكفر عنه بذلك اإلنفاق من سيئاته، وال خيفى عليه سبحانه أعمالكم وال نياتكم، فإنه مبا تعملون خبري، مث أخرب أن هذا اإلنفاق إمنا نفعه ألنفاسهم يعود عليهم

.إليه، فكيف يبخل أحدكم عن نفسه مبا نفعه خمتص هبا عائد إليها أحوج ما كانواوإن نفقة املؤمنني إمنا تكون ابتغاء وجهه خالصا ألهنا صادرة عن إمياهنم، وأن نفقتهم ترجع إليهم @

هو اهلادى املوفق ملعاملته ] سبحانه[وصدر هذا الكالم بأن اهللا . وافية كاملة، وال يظلم منها مثال ذرةيثار مرضاته، وأنه ليس على رسوله هداهم، بل عليه إبالغهم، وهو سبحانه الذى يوفق من يشاء وإ

.ملرضاتهللفقراء الذين أحصروا فى سبيل اهللا ال {: املصرف الذى توضع فيه الصدقة فقال تعاىل] سبحانه[مث ذكر

الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم ال يسألون الناس يستطيعون ضربا فى األرض يحسبهمحبسهم أنفسهم ىف سبيله : الفقر، الثانية: إحداها: ، فوصفهم بست صفات]٢٧٣: البقرة* [}إلحافا

أشغال الدنيا، تعاىل وجهاد أعدائه ونصر دينه، وأصل احلصر املنع، فمنعوا أنفسهم من تصرفها ىفعجزهم عن األسفار للتكسب، والضرب ىف األرض هو السفر، : وقصروها على بذهلا هللا ىف سبيله، الثالثة

* }علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى األرض يبتبغون من فضل اهللا{: قال تعاىل

Page 313: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

* }ذا ضربتم فى األرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصالةوإ{: ، وقال تعاىل]٢٠: املزمل[ ،]١٠١: النساء[

شدة تعففهم، وهو حسن صربهم، وإظهارهم الغىن حىت حيسبهم اجلاهل أغنياء من تعففهم وعدم : الرابعة تعرضهم وكتماهنم حاجتهم،

اهللا هبا، وهذا ال يناىف ] وصفهم[المة الدالة على حالتهم الىت أهنم يعرفون بسيماهم، وهى الع: اخلامسةحسبان اجلاهل أهنم أغنياء ألن اجلاهل له ظاهر األمر، والعارف هو املتوسم املتفرس الذى يعرف الناس

، فاملتومسون خواص املؤمنني كما قال ]وهلذا وصف اجلاهل أغنياء وقال يعرفهم بسيماهم[بسيماهم ،]٧٥: احلجر* [}فى ذلك آليات للمتوسمني إن{: تعاىل

واإلحلاف هو اإلحلاح والنفى متسلط عليهما معا، ] شيئا[تركهم مسألة الناس فال يسألوهنم : السادسةعلى ال حب ال : ((وهذا كقوله. أى ال يسألون وال يلحفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إحلاف

ليس فيه منار فيهتدى به، وفيه كالتنبيه على أن املذموم من السؤال هو سؤال أى )) يهتدى ملناره .اإلحلاف، فأما السؤال بقدر الضرورة من غري إحلاف فاألفضل تركه وال حيرم

فهذه ستة صفات للمستحقني للصدقة، فألغاها أكثر الناس وحلظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غري . كورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز، واهللا خيتص بتوفيقه من يشاءحقيقته، وأما سائر الصفات املذ .فهؤالء هم احملسنون ىف أمواهلم

، وهم ضد هؤالء الذين يذحبون احملتاج املضطر، فإذا دعته احلاجة إليهم مل ))الظاملون: ((القسم الثاىن .ينفسوا كربته إال بزيادة على ما يبذلونه له وهم أهل الربا

* }يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهللا وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنني{: عاىل بعد هذا فقالفذكرهم ت، فصدر االية باألمر بتقواه املضادة للربا وأمر بترك ما بقى من الربا بعد نزول اآلية وعفا ]٢٧٨: البقرة[

، ولوال ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحرمي، وعلق هذا االمتثال على هلم عما قبضوه به قبل التحرمي .وجود اإلميان منهم واملعلق على شرط منتف عند انتفائه

فإن لم تفعلوا {: مث أكد عليهم التحرمي بأغلظ شيء وأشده، وهى حماربة املراىب هللا ورسوله فقال تعاىلففى ضمن هذا الوعيد أن املراىب حمارب هللا ورسوله، ] ٢٧٩: البقرة* [}سولهفأذنوا بحرب من اهللا ور

قد آذنه اهللا حبربه، ومل جييء هذا الوعيد ىف كبرية سوى الربا وقطع الطريق والسعى ىف األرض بالفساد، ا ألن كل واحد منهما مفسد ىف األرض، قاطع الطريق على الناس، هذا بقهره هلم وتسليطه عليهم، وهذ

.بامتناعه من تفريج كرباهتم إال بتحميلهم كربات أشد منها

Page 314: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فأخرب عن قطاع الطريق بأهنم حياربون اهللا ورسوله وآذن هؤالء إن مل يتركوا الربا حبربه وحرب رسوله، منه وقد يعىن إن تركتم الربا وتبتم إىل اهللا] ٢٧٩: البقرة* [}وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم{: مث قال

لكم رؤوس أموالكم، ال تزدادون عليها فتظلمون اآلخذ، وال تنقصون منها ] فإمنا[عاقدهتم عليه، .فيظلمكم من أخذها

فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إىل ميسرة، وإن تصدقتم عليه وأبرأمتوه فهو أفضل لكم و الفضل املندوب فذكروها يوما ترجعون فيه وخري لكم، فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل والواجب أ

إىل اهللا وتلقون ربكم فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه، فذكر سبحانه احملسن وهو املتصدق مث .وهو املراىب] بالظامل[عقبه

] ٢٨٢: البقرة* [}تم بدينيا أيها الذين آمنوا إذا تداين{: ىف آية التداين فقال تعاىل)) العادل((مث ذكر والغرض إمنا هو التنبيه . اآلية، ولوال أن هذه اآلية تستدعى سفرا وحدها لذكرت بعض تفسريها

واإلشارة، وقد ذكر أيضا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غرميه ال بزيادة وال نقصان، مث ختم السورة ، والشيطان يفر من البيت الذى تقرأ فيه، وفيها من هبذه اخلامتة العظيمة الىت هى من كنز حتت عرشه

.العلوم واملعارف وقواعد اإلسالم وأصول اإلميان ومقامات اإلحسان ما يستدعى بيانه كتابا مفرداواملقصود ذكر طبقات اخلالئق ىف الدر اآلخرة، ولنعد إىل املقصود، فإن هذا من سعى القلم، ولعله أهم

لطبقات األربع من طبقات األمة هم أهل اإلحسان والنفع املتعدى وهم العلماء، فهذه ا: مما حنن بصددهوأئمة العدل، وأهل اجلهاد، وأهل الصدقة وبذل األموال ىف مرضاة اهللا، فهؤالء ملوك اآلخرة، وصحائف

نعمة حسناهتم متزايدة، متلى فيها احلسنات وهم ىف بطون األرض، ما دامت آثارهم ىف الدنيا فيا هلا من .ما أجلها، وكرامة ما أعظمها، خيتص اهللا هبا من يشاء من عباده

طبقة من فتح اهللا له بابا من أبواب اخلري القاصر على نفسه كالصالة واحلج، والعمرة، : الطبقة الثامنة وقراءة القرآن، والصوم واالعتكاف، والذكر وحنوها، مضافا إىل أداء فرائض اهللا عليه فهو جاهد ىف

فهذا على خري عظيم، وله ثواب . تكثري حسناته، وإمالء صحيفته، وإذا عمل خطيئته تاب إىل اهللا منهافهذه طبقة أهل ] مبوته[ولكن ليس له إال علمه، فإذا مات طويت صحيفته . أمثاله من أعمال اآلخرة

.الربح واحلظوة أيضا عند اهللان يؤدى فرائض اهللا ويترك حمارم اهللا، مقتصرا عل ذلك ال طبقة أهل النجاة، وهى طبقة م: الطبقة التاسعة

.فال يتعدى إىل ما حرم اهللا عليه، وال يزيد على ما فرض عليه. يزيد عليه وال ينقص منه

Page 315: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

واهللا ال أزيد : هذا من املفلحني بضمان رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ملن أخربه بشرائع اإلسالم فقال، وأصحاب هذه الطبقة ))أفلح إن صدق: ((قال صلى اهللا عليه وسلمعلى هذا وال أنقص منه ؛ ف

.مضمون هلم على اهللا تكفري سيئاهتم، إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما هناهم عنه: النساء* [}رمياإن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخال ك{: قال تعاىل

٣١.[ الصلوات اخلمس ورمضان إىل رمضان واجلمعة إىل اجلمعة : ((وصح عنه صلى اهللا عليه وسلم أنه قال، فإن غشى أهل هذه الطبقة كبرية وتابوا منها توبة نصوحا مل ))مكفرات ملا بينهن ما مل تغش كبرية

.مبنزلة من ال ذنب له] وكانوا[خيرجوا من طبقتهم وقد نص عليها . اجتناب الكبائر: احلسنات املاحية، و الثاىن: أحدمها: الصغائر يقع بشيئني فتكفري

:سبحانه وتعاىل ىف كتابه فقال تعاىل: ، وقال تعاىل]١١٤: هود* [}وأقم الصالة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات{ ].٣١:النساء* [}ن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكمإ{

طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم، وغشوا كبائر ما هنى اهللا عنه ولكن رزقهم اهللا التوبة : الطبقة العاشرة إما قطعا عند قوم وإما ظنا ناجون من عذاب اهللا[فهؤالء . النصوح قبل املوت، فماتوا على توبة صحيحة

موكولون إىل املشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنة تدل على جناهتم وقبول ] ورجاء عند آخرين وهمفما الفرق بني أهل هذه الطبقة والىت : فإن قيل. توبتهم، وهو وعد وعدهم اهللا إياه، واهللا ال خيلف امليعاد

قد : بت هلم بكل سيئة حسنة كانوا كمن قبلهم أو أرجح؟ قيلقبلها؟ فإن اهللا إذا كفر عنهم سيئاهتم، وأثوكيف يستوى عند اهللا من أنفق . تقدم الكالم على هذه املسألة مبا فيه كفاية، فعليك مبعاودته هناك

عمره ىف طاعته ومل يغش كبرية، ومن مل يدع كبرية إال ارتكبها وفرط ىف أوامره، مث تاب؟ فهذا غايته أن .وأما أن يكون هو ومن قبله سواء أو أرجح منه فكال. كون ال له وال عليهمتحى سيئاته وي

فعملوا حسنات وكبائر، ولقو اهللا : طبقة أقوام خلطوا عمال صاحلا وآخر سيئا: الطبقة احلادية عشرةمصرين عليها غري تائبني منها، لكن حسناهتم أغلب من سيئاهتم، فإذا وزنت هبا رجحت كفة احلسنات،

والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون {: ؤالء أيضا ناجون فائزون قال تعاىلفه ].٩ -٨: األعراف* [}ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون* فمن : حيشر الناس يوم القيامة ثالثة أصناف: حذيفة وعبد اهللا بن مسعود وغريمها من الصحابة قال

رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل اجلنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، .ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل األعراف

Page 316: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

اء املظلومني حقوقهم من حسناته، فإذا بقى شيء منها وزن ، واستيف]القصاص[وهذه املوازنة تكون بعد .هو وسيئاته

إذا وزنت السيئات باحلسنات فرجحت احلسنات، هل يلغى املرجوح مجلة : ولكن هنا مسألة، وهىويصري األثر للراجح فيثاب على حسناته كلها، أو يسقط من احلسنات ما قابلها من السيئات املرجوحة

هذا عند من يقول باملوازنة واحلكمة، وأما من : لرجحان فيثاب عليه وحده؟ فيه قوالنويبقى التأثري لينفى ذلك فال عربة عنده هبذا، وإمنا هو موكول إىل حمض املشيئة، وعلى القول األول فيذهب أثر السيئات مجلة باحلسنات الراجحة، وعلى القول الثاىن يكون تأثريها ىف نقصان ثوابه ال ىف حصول

لعقاب له، ويترجح هذا القول الثاىن بأن السيئات لو مل حتبط ما قبلها من احلسنات، وكان العمل اوالتأثري للحسنات كلها مل يكن فرق بني وجودها وعدمها، ولكان ال فرق بني احملسن الذى حمض عمله

.حسنات، وبني من خلط عمال صاحلا وآخر سيئاصان ثوابه وال بد، فإنه لو اشتغل ىف زمن إيقاعها باحلسنات لكان وقد جياب عن هذا بأهنا أثرت ىف نق

أرفع لدرجته وأعظم لثوابه، وإذا كان كذلك فقد ترجح القول األول بأن احلسنات ملا غلبت السيئات ضعف تأثري املغلوب املرجوح وصار احلكم للغالب دونه الستهالكه ىف جنبه كما يستهلك يسري النجاسة

.، واهللا أعلم))مل حيمل اخلبث] قلتني[ثري واملاء إذا بلغ ىف املاء الكفمنعتهم حسناهتم املساوية ] فتقاوما[قوم تساوت حسناهتم وسيئاهتم، فتقابل أثرامها : الطبقة الثانية عشر

.من دخول النار وسيئاهتم املساوية من دخول اجلنةهبا الرمحة من ربه، ومل يفضل عليه ، مل يفضل ألحدهم حسنة يستحق]األعراف[فهؤالء هم أهل أهل

.سيئة يستحق هبا العذاببعد أن ذكر دخول أهل النار -وقد وصف اهللا سبحانه وتعاىل أهل هذه الطبقة ىف سورة األعراف

: فقال تعاىل - وتالعنهم فيها وخماطبة أتباعهم لرؤسائهم وردهم عليهم، مث مناداة أهل اجلنة أهل الناراب وعلى األعراف رجال يعرفون كال بسيماهم، ونادوا أصحاب الجنة أن سالم عليكم وبينهما حج{

وم وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا ال تجعلنا مع الق* لم يدخلوها وهم يطمعون أى بني أهل ] ٤٦: األعراف* [}وبينهما حجاب{: ، فقوله تعاىل]٤٧ -٤٦: األعراف* [}الظالمني

السور الذى يضرب بينهم له باب باطنه فيه الرمحة وظاهره من قبله ] هو: [اجلنة والنار حجاب، قيل .العذاب]جهته[كفار من باطنه الذى يلى املؤمنني فيه الرمحة، وظاهره الذى يلى ال: العذاب

هو هذا السور الذى : قيل[واألعراف مجع عرف وهو املكان املرتفع، وهو سور عال بني اجلنة والنار .عليه أهل األعراف] يضرب بينهم وقيل جبال بينم اجلنة والنار

Page 317: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، هم قوم استوت حسناهتم وسيئاهتم، فقصرت هبم سيئاهتم عن اجلنة: قال حذيفة وعبد اهللا بن عباسوجتاوزت هبم حسناهتم عن النار، فوقفوا هناك حىت يقضى اهللا فيهم ما يشاء مث يدخلهم اجلنة بفضل

.رمحته: كان سعيد بن جبري حيدث عن ابن مسعود قال: أخربنا أبو بكر اهلذىل قال: قال عبد اهللا بن املبارك

حدة دخل اجلنة، ومن كانت حياسب اهللا الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بوافمن ثقلت موازينه فأولئك {: بواحدة دخل النار، مث قرأ قوله تعاىل] من حسناته بواحده[سيئاته أكثر

إن : ، مث قال]٩ -٨: األعراف* [}ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم* هم المفلحون .ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب األعراف: قال. امليزان خيف مبثقال حبة أو يرجح

سالم عليكم، وإذا : فوقفوا على الصراط مث عرفوا أهل اجلنة وأهل النار، فإذا نظروا إىل أهل اجلنة نادوا، فأما ]٤٧: األعراف* [}م الظالمني ربنا ال تجعلنا مع القو{: صرفوا أبصارهم إىل أصحاب النار قالوا

أصحاب احلسنات فإهنم يعطون نورا ميشون به بني أيديهم وبأمياهنم ويعطى كل عبد يومئذ نورا، فإذا { : أتوا على الصراط سلب اهللا تعاىل نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل اجلنة ما لقى املنافقون قالوا

ومنعتهم [، وأما أصحاب األعراف فإن النور مل ينزع من أيديهم ]٨: التحرمي* [}رنا ربنا أمتم لنا نولم يدخلوها وهم { : فيقول اهللا] سيئاهتم أن ميضوا وبقى ىف قلوهبم الطمع إذا مل يزغ النور من أيديهم

اجلنة وكانوا آخر أهل اجلنة ، فكان الطمع للنور الذى ىف أيديهم مث أدخلوا ]٤٦: األعراف* [}يطمعون .يريد آخر أهل اجلنة دخوال ممن مل يدخل النار. دخوالهم قوم خرجوا ىف الغزو بغري إذن آبائهم فقتلوا، فأعتقوا من النار لقتلهم ىف سبيل اهللا وحبسوا عن : وقيل

وين دون اآلخر، هم قوم رضى عنهم أحد األب: وهذا من جنس القول األول، وقيل. اجلنة ملعصية آبائهمحيبسون على األعراف حىت يقضى اهللا بني الناس مث يدخلهم اجلنة، وهى من جنس ما قبله فال تناقض

هم أولو الفضل من املؤمنني علوا على : وقيل. هم أصحاب الفترة وأطفال املشركني: وقيل. بينهما .ئكة ال من بىن آدمهم املال: وقيل. األعراف، فيطلعون على أهل النار وأهل اجلنة مجيعا

]. أسانيدها[والثابت عن الصحابة هو القول األول، وقد رويت فيه آثار كثرية مرفوعة ال تكاد تثبت .وآثار الصحابة ىف ذلك املعتمدة

األول اختيار أىب عبد اهللا : وقد اختلف ىف تفسري الصحاىب هل له حكم املرفوع، أو املوقوف؟ على قولنيوقوله . الصواب، وال نقول على رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ما مل نعلم أنه قالهاحلاكم، والثاىن هو

. صريح ىف أهنم من بىن آدم ليسوا من املالئكة] ٤٦: األعراف* [}وعلى األعراف رجال { : تعاىلونادوا { بسيماهم، ، يعىن يعرفون الفريقني]٤٦: األعراف* [}يعرفون كال بسيماهم { : وقوله تعاىل

Page 318: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قوله . ، أى نادى أهل األعراف أهل اجلنة بالسالم]٤٦: األعراف* [}أصحاب الجنة أن سالم عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون الضمريات ىف اجلملتني ألصحاب األعراف مل يدخلوا اجلنة بعد وهم { : تعاىل

.يطمعون ىف دخوهلاالطمع ] جعل[الذى : ما جعل اهللا ذلك الطمع فيهم إال كرامة يريدها هبم، وقال احلسن: بو العاليةقال أ

إهنم أفاضل املؤمنني علوا على : ىف قلوهبم يوصلهم إىل ما يطمعون، وىف هذا رد على وقول من قالة بكتاب اهللا، األعراف يطالعون أحوال الفريقني، فعاد الصواب إىل تفسري الصحابة، وهم أعلم األم

.ومراده منهوإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا ال تجعلنا مع القوم الظالمني هذا { : مث قال تعاىلمعوا ىف مبكان مرتفع بني اجلنة والنار، فإذا أشرفوا على أهل اجلنة نادوهم بالسالم وط] أهنم[دليل على

ونادى أصحاب {: الدخول إليها، وإذا أشرفوا على أهل النار سألوا اهللا أن ال جيعلهم معهم، مث قال تعاىلما أغنى عنكم جمعكم { : األعراف رجاال يعرفوهنم بسيماهم يعىن من الكفار الذين ىف النار، فقالوا هلم

احلق ] أهل[يعىن ما نفعكم مجعكم وعشريتكم وجترؤكم على ] ٤٨:األعراف* [}كبرون وما كنتم تست .وال استكباركم، وهذا إما نفى، وإما استفهام وتوبيخ، وهو أبلغ وأفخم

مث نظروا إىل اجلنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلوهنم ىف الدنيا ويزعمون أن اهللا ال خيتصهم أهؤالء الذين أقسمتم أيها { : كما مل خيتصهم دوهنم ىف الدنيا، فيقول هلم أهل األعراف دوهنم بفضله

املشركون أن اهللا تعاىل ال يناهلم برمحة، فها هم ىف اجلنة يتمتعون ويتنعمون وىف رياضها حيربون مث يقال ].٤٩: األعراف* [}أنتم تحزنون ادخلوا الجنة ال خوف عليكم وال{ : ألهل األعراف

واستكبارهم، ] مجوعهم[إن أصحاب األعراف إذا عريوا الكفار وأخربوهم أهنم مل يغن عنهم : وقيلعريهم الكفار بتخلفهم عن اجلنة، وأقسموا أن اهللا ال يناهلم برمحة، ملا رأوا من ختلفهم عن اجلنة، وأهنم

أهؤالء الذين أقسمتم ال ينالهم اهللا برحمة، ادخلوا الجنة { : الئكة حينئذيصريون إىل النار، فتقول هلم امل .، والقوالن قويان حمتمالن، واهللا أعلم]٤٩: األعراف* [}ال خوف عليكم وال أنتم تحزنون

.فهؤالء الطبقات هم أهل اجلنة الذين مل متسهم الناروإن كانت آخرهتم إىل عفو وخري، وهم قوم . طبقة أهل احملنة والبلية، نعوذ باهللا: بقة الثالثة عشرةالط

مسلمون خفت موازينهم ورجحت سيئاهتم على حسناهتم فغلبتها السيئات، فهذه الطبقة الىت اختلفت فرهتم، وأوجبت فيها أقاويل الناس وكثر فيها خوضهم وتشعبت مذاهبهم وتشتتت آرآوهم، فطائفة ك

هلم اخللود ىف النار، وهذا مذهب أكثر اخلوارج، بل يكفرون من هو أحسن حاال منهم وهو مرتكب

Page 319: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وطائفة أوجبت هلم اخللود ىف النار ومل تطلق عليهم . الكبرية الذى مل يتب منها ولو استغرقتها حسناته .اسم الكفر، بل مسوهم منافقني

.باع بكر ابن أخت عبد الواحدوهذا املذهب ينسب إىل البكرية أتمؤمنني، وكفارا، وقسما ال : وطائفة نزلتهم منزلة بني منزلة الكفار واملؤمنني، فجعلوا أقسام اخللق ثالثة

مؤمنني وال كفارا بل بينهما، وأوجبت هلم اخللود ىف النار، وهذا هو الرأى الذى عليه أهل االعتزال، التوحيد الذى مضمونه جحد صفات اخلالق : قواعد مذهبهم وهىوهو أحد أصوهلم اخلمسة الىت هى

ونعوت كماله والتعطيل احملض، والعدل الذى مضمونه نفى عموم قدرة اهللا وأنه ال قدرة له على أفعال احليوانات بل هى خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته، وأنه يريد ما ال يكون ويكون ما ال يريد، فإنه ال

وال أن يضل مهتديا وال جيعل املصلى مصليا وال الذاكر ذاكرا وال الطائف طائقا، يقدر أن يهدى ضاال ] اخللود ىف النار[واملنزلة بني املنزلتني الىت مضموهنا إجياب . تعاىل اهللا عن إفكهم وشركهم علوا كبريا

رية واحدة، تعاىل اهللا للمسلم املبالغ ىف طاعة ربه الذى أفىن عمره ىف عبادته وطاعته ومات مصرا على كبواألمر باملعروف والنهى عن املنكر الذى مضمونه . عما نسبوه إليه من ذلك وجل عن هذا االفتراء

واألصل. اخلروج على أئمة اجلور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة مجاعة املسلمني .وجوه كثرية ليس هذا موضعهاالنبوة مع أهنم مل يوفوها حقها، بل هضموها غاية اهلضم من : اخلامس

واملقصود أن مذهبهم ختليد هذه الطبقة ىف النار، وإن مل يسموهم كفارا، فوافقوا اخلوارج ىف احلكم .وخالفوهم ىف االسم

فهذه ثالث فرق أوجبت هلذه الطائفة اخللود ىف . وهلذا تسمى هذه املسألة من مسائل األمساء واألحكامال يدرى ما يفعل اهللا هبم فيجوز أن يعذهبم كلهم، وأن يعفو : اختالف آرائهمالنار وقالت املرجئة على

عنهم كلهم، وأن يعذب بعضهم ويعفو عن بعضهم، غري أهنم ال خيلد أحد منهم ىف النار فجوزوافهم موكلون . أن يلحق بعضهم مبن ترجحت حسناته على سيئاته، بل جوزوا أن يرفع عليه ىف الدرجة

املشيئة ال يدرى ما يفعل اهللا هبم، بل يرجأ أمرهم إىل اهللا وحكمه، وهذا قول كثري من عندهم إىل حمض .املتكلمني والفقهاء والصوفية وغريهم

الىت يعرفها أكثر الناس، وال حيكى أهل الكالم غريها، وقول الصحابة والتابعني ] هى[فهذه األقوال رضى [ى ذكرناه عن ابن عباس وحذيفة وابن مسعود الذ] وهو[وال حيكونه ] يعرفونه[وأئمة احلديث ال

.أن من ترجحت سيئاته بواحدة دخل النار] اهللا عنهموهؤالء هم القسم الذين جاءت فيهم األحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم،

إىل كعبيه، ومنهم من فمنهم من تأخذه النار : فإهنم يدخلون النار فيكونون فيها على مقدار أعماهلم

Page 320: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

تأخذه النار إىل أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه النار إىل ركبتيه ويلبثون فيها على قدر أعماهلم، مث فيفيض عليهم أهل اجلنة من املاء حىت تنبت أجسادهم، مث : اجلنة] أهنار[خيرجون منها، فينبتون على

فاعة الشافعني، وهم الذين يأمر اهللا سيد الشفعاء وهم الطبقة الذين خيرجون من النار بش. يدخلون اجلنة .مرارا أن خيرجهم من النار مبا معهم من اإلميان

بما كنتم { : وإخبار النىب صلى اهللا عليه وسلم أهنم يكونون فيها على قدر أعماهلم مع قوله تعاىل، ]٤٣:، املرسالت١٤:دةالسج ١٩:، الطور٧٢، الزخرف ٣٢:النحل] [٤٣: األعراف* [}تعملون

ثم توفى كل نفس ما كسبت { : ، وقوله تعاىل]٩٠: النمل* [}هل تجزون إال ما كنتم تعملون { و ].١٧١: آل عمران* [}وهم ال يظلمون

وكتابه وأحكام وأضعاف ذلك من نصوص القرآن والسنة يدل على ما قاله أفضل األمة وأعلمها باهللاالدارين أصحاب حممد صلى اهللا عليه وسلم، والعقل والفطرة تشهد له، وهو مقتضى حكمة العزيز

.احلكيم الذى هبرت حكمته العقولفليس األمر سببا خارجا عن الضبط واحلكمة بل مربوط باألساليب، واحلكم مرتب عليها أكمل ترتيب،

وأى الطريق سلكها سالك غري هذه الطريق من الطرق . احلكمة جار على نظام اقتضاه السبب واستدعتهاملتقدمة أفضت به إىل ترك بعض النصوص وال بد، فإهنا تتناقض ىف حقه ملا أصله من األصل الذى ال يلتئم عليه مجع النصوص، فال بد أن يرد بعضها ببعض أو يستشكلها أو يتطلب هلا مستنكر التأويالت

ما رد اخلوارج واملعتزلة النصوص املتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من ك. التحريفات] ووجوه[ .ال سبيل ملن دخل النار إىل اخلروج منها بشفاعة وال غريها: كذبوا هبا وقالوا] ف[النار بالشفاعة

وملا هبرهتم نصوص الشفاعة وصاح هبم أهل السنة وأئمة اإلسالم من كل قطر وجانب ورموهم بسهام عليهم أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط ال على اخلروج من النار، فردوا السنة املتواترة قطعا الرد

وصاروا مضغة ىف أفواه األمة وعارا ىف فرقها، فإن أمر الشفاعة أظهر عند األمة من أن يقبل شكا أو ول صلى اهللا عليه وسلم به قطعا، نزاعا، وهو عندهم مثل الصراط واحلساب وحنومها مما يعلم إخبار الرس

ولكن إمنا أتى القوم ألهنم ىف غاية البعد عما جاء به الرسول صلى اهللا عليه وسلم، أجانب عنه، ليسوا من الورثة، وأما اخلوارج فكذبوا الصحابة صرحيا، وأما املرجئة فإهنم جيوزون أن ال يدخل النار أحد من

.أهل التوحيداملتواتر من نصوص السنة بدخول بعض أهل الكبائر النار مث خروجهم منها وهذا خبالف املعلوم

بالشفاعة، ومع هذا التواتر الذى ال ميكن دفعه ال جيوز أن يقال جبواز أن ال يدخل أحد منهم النار، بل ال

Page 321: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

رضى [بد من دخول بعضهم، وذلك البعض هو الذى خفت موازينه ورجحت سيئاته كما قال الصحابة .وحكى أبو حممد بن حزم هذا إمجاعا من أهل السنة] هماهللا عن

ولوال أن املقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما هلذه املذاهب وما عليها، وبينا تناقض أهلها، وما وافقوا فيه احلق وما خالفوه بالعلم والعدل ال باجلهل والظلم، فإن كل طائفة منها معها حق وباطل، فالواجب

ومن فتح اهللا له هبذه الطريق فقد فتح له من العلم . من احلق، ورد ما قالوه من الباطل موافقتهم فيما قالوه .واهللا املستعان. والدين كل باب، ويسر عليه فيهما األسباب

.قوم ال طاعة هلم وال معصية، وال كفر وال إميان: الطبقة الرابعة عشرةهلا خبرب، ومنهم اجملنون الذى ال يعقل شيئا وال منهم من مل تبلغه الدعوة حبال وال مسع : وهؤالء أصناف

.مييز، ومنهم األصم الذى ال يسمع شيئا أبدا، ومنهم أطفال املشركني الذين ماتوا قبل أن مييزوا شيئافاختلفت األمة ىف حكم هذه الطبقة اختالفا كثريا، واملسألة الىت وسعوا فيها الكالم هى مسألة أطفال

وحكى ابن . أهنم ىف اجلنة] يعىن[ال خيتلف فيهم أحد : أطفال املسلمني فقال اإلمام أمحد وأما. املشركنيوذهب إىل هذا القول مجاعة : أهنم توقفوا فيهم، وأن مجيع الولدان حتت املشيئة قال: عبد الرب عن مجاعة

حاق ابن راهويه كثرية من أهل الفقه واحلديث منهم محاد بن زيد، ومحاد بن سلمة، وابن املبارك، وإسوعلى أكثر . وهو شبه ما رسم مالك ىف موطئه ىف أبواب القدر، وما أورده من األحاديث ىف ذلك: قالوا

أصحابه، وليس عن مالك فيه شيء منصوص إال أن املتأخرين من أصحابه ذهبوا إىل أن أطفال املسلمني .ىف اجلنة وأطفال املشركني خاصة ىف املشيئة

:ني فللناس فيهم مثانية مذاهبوأما أطفال املشركالوقف فيهم، وترك الشهادة بأهنم ىف اجلنة أو ىف النار، بل يوكل علمهم إىل اهللا تعاىل، ويقال اهللا : أحدها

أن : منها ما أخرجاه ىف الصحيحني من حديث أىب هريرة: واحتج هؤالء حبجج. أعلم ما كانوا عاملنيا من مولود إال يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، م: ((رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم قال

يا رسول اهللا، أفرأيت من : ؟ قالوا))فيها من جدعاء] حيسن[كما تنتج البهيمة من هبيمة مجعاء، هل ، ومنها ما ىف الصحيحني أيضا عن ابن عباس أن ))اهللا أعلم مبا كانوا عاملني: ((ميوت وهو صغري؟ قال

)).اهللا أعلم مبا كانوا عاملني: ((اهللا عليه وسلم سئل عن أوالد املشركني فقالالنىب صلى يقول وهو ] العطاردى[مسعت أبا رجاء : وىف صحيح أىب حامت بن حبان من حديث جرير بن حازم قال

مل ما -أو مقاربا -ال يزال أمر هذه األمة قواما: ((قال رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم: على املنرب .الولدان أراد به أطفال املشركني: قال أبو حامت)). يتكلموا ىف الولدان والقدر

Page 322: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فإن النىب صلى اهللا عليه . إليه من املوقف هبذه النصوص نظر] ذهبت[وىف استدالل هذه الفرقة على ما : واملعىن. وسلم مل جيب فيهم بالوقف، وإمنا وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إىل اهللا سبحانه وتعاىل

.اهللا أعلم مبا كانوا يعملون لو عاشوافهو سبحانه وتعاىل يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش، والقابل منهم للكفر املؤثر له لو عاش،

سبحانه [علمه فيهم بال عمل يعملونه، وإمنا يدل على أنه ] مبجرد[لكن ال يدل هذا على أنه جيزيهم ] و[ .م ما هم عاملون بتقدير حياهتميعلم منه] وتعاىل

ما : جواب هلم إذ سألوه عنهم: أحدمها: وهذا اجلواب خرج عن النىب صلى اهللا عليه وسلم على وجهني، وهو ىف هذا الوجه يتضمن أن اهللا سبحانه وتعاىل يعلم ))اهللا أعلم مبا كانوا عاملني: ((حكمهم؟ فقال

اجملازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه صلى اهللا عليه من يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير احلياة، وأما .وسلم

كان النىب صلى اهللا : وىف صحيح أىب عوانة اإلسفرايىن عن هالل بن خباب عن عكرمة عن ابن عباسغزوه [ىف الالهني؟ فسكت عنه، فلما فرغ من ] تقول[ما : عليه وسلم ىف بعض مغازيه، فسأله رجل

؟ فأقبل الرجل، ))أين السائل عن الالهني: ((األرض، فأمر مناديه فنادى إذا هو بصىب يبحث ىف] وطاف )).اهللا أعلم مبا كانوا عاملني: فنهى رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم عن قتل األطفال، وقال

اهللا أعلم مبا كانوا : ((بال عمل؟ فقال: جواب هلم حني أخربهم أهنم من آبائهم، فقالوا: والوجه الثاىنيا رسول اهللا، ذرارى املؤمنني؟ : قلت: قالت] رضى اهللا عنه[، كما روى أبو داود عن عائشة ))عاملنييا : قلت)) [اهللا أعلم مبا كانوا عاملني: ((يا رسول اهللا، بال عمل؟ قال: ، فقلت))من آبائهم: ((قال

اهللا : ((ل؟ قاليا رسول اهللا، بال عم: ، فقلت))هم من آبائهم: ((رسول اهللا، فذرارى املشركني؟ قالففى هذا احلديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم ])). أعلم مبا كانوا عاملني

فهؤالء مع آبائهم، وال يقتضى أن كل واحد من الذرية . اهللا أهنم لو عاشوا الختاروا الكفر وعملوه به .مع أبيه ىف النار

: با، واجلواب يدل على التفصيل، فإن قوله صلى اهللا عليه وسلمفإن الكالم ىف هذا اجلنس سؤاال وجوا .معلوم اهللا فيهم] ىف[يدل على أهنم متباينون ىف التبعية، حبسب نياهتم )) اهللا أعلم مبا كانوا عاملني((

فاحلديث يدل على أهنم يلحقون بآبائهم من غري عمل، وهلذا فهمت ذلك منه عائشة : بقى أن يقال، وجياب عن هذا بأن احلديث ))اهللا أعلم مبا كانوا عاملني: ((مل؟ فأقرها عليه السالم فقالبال ع: فقالت

.إمنا دل على أهنم يلحقون هبم بال عمل عملوه ىف الدنيا، وهو الذى فهمته عائشة

Page 323: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن شاء ] بأسباب آخر ميتحنهم هبا ىف عرصات القيامة كما سيأتى بيانه[وال ينفى هذا أن يلحقوا هبم إمنا ] رضى اهللا عنه[فحينئذ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بال عمل عملوه ىف الدنيا، وعائشة . اهللا

استشكلت حلاقهم هبم بال عمل عملوه مع اآلباء، وأجاهبا النىب صلى اهللا عليه وسلم بأن اهللا سبحانه وهذا ظاهر حبمد اهللا ال . إنه يعذهبم مبجرد علمه فيهم: وتعاىل يعلم منهم ما هم عاملوه، ومل يقل هلا

.إشكال فيهوأما حديث أىب رجاء العطاردى عن ابن عباس، ففى القلب من رفعه شيء وإن أخرجه ابن حبان ىف صحيحه، وهو يدل على ذم من تكلم فيهم بغري علم، أو ضرب النصوص بعضها ببعض فيهم، كما ذم

.فالمن تكلم ىف القدر مبثل ذلك، وأما من تكلم فيهم بعلم وحق وهذا قول مجاعة من املتكلمني وأهل التفسري، وأحد الوجهني ألصحاب . أهنم ىف النار: املذهب الثاىن

أمحد، وحكاه القاضى نصا عن أمحد، واحتج هؤالء حبديث عائشة املتقدم، واحتجوا مبا رواه أبو عقيل م عن أوالد املسلمني أين هم؟ سألت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسل: حيىي بن املتوكل عن هبية عن عائشة

مل يدركوا : ، فقلت))ىف النار: ((، وسألته عن أوالد املشركني أين هم يوم القيامة؟ قال))ىف اجلنة: ((قالحيىي بن املتوكل ال حيتج : ، قلت))ربك أعلم مبا كانوا عاملني: ((قال. األعمال ومل جتر عليهم األقالم .حبديثه، فإنه ىف غاية من الضعف

ما حديث عائشة املتقدم فهو من حديث عمر بن ذر، وتفرد به عن يزيد عن أىب أمية أن الرباء بن وأ، وقال ]عنه[عازب أرسل إىل عائشة يسأهلا عن األطفال، فذكرت احلديث هكذا، قال مسلم بن قتيبة

عتبة بن عن عمر بن ذر عن يزيد عن رجل عن الرباء، ورواه اإلمام أمحد ىف مسنده من حديث : غريهوعبد اهللا . حدثىن عبد اهللا بن أىب قيس موىل غطيف أنه سأل عائشة، فذكرت احلديث: ضمرة بن حبيب

.هذا ينظر ىف حاله، وليس باملشهورواحتجوا مبا رواه عبد اهللا بن أمحد ىف مسند أبيه عن عثمان بن أىب شيبة عن حممد بن فضيل بن غزوان

سألت خدجية رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم عن ولدين : قالعن حممد بن عثمان عن زاذان عن على لو رأيت مكاهنما : ((رأى الكراهية ىف وجهها قال)) مها ىف النار: ((هلا ماتا ىف اجلاهلية فقال

إن املؤمنني وأوالدهم ىف اجلنة، وإن املشركني : ((يا رسول اهللا، فولدى منك؟ قال: قالت)) ألبغضتهما ].٢١: الطور* [}والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإميان ألحقنا بهم ذريتهم{: ، مث قرأ))وأوالدهم ىف النار

وقال . أن زاذان مل يدرك عليا: أن حممد بن عثمان جمهول، والثاىن: وهذا معلول من وجهني، أحدمهاأتيت أنا وأخى : عن سلمة بن قيس األشجعى قال مجاعة عن داود بن أىب هند عن الشعىب عن علقمة

إن أمنا ماتت ىف اجلاهلية وكانت تقرى الضيف وتفعل وتفعل، فهل : النىب صلى اهللا عليه وسلم فقلنا

Page 324: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فإهنا كانت وأدت أختا لنا ىف اجلاهلية مل تبلغ : ، قلنا))ال: ((نافعها ذلك شيئا؟ قال صلى اهللا عليه وسلم، وهذا إسناد ال بأس ))وائدة واملوؤدة ىف النار، إال أن تدرك الوائدة اإلسالم فتسلمال]: ((فقال[احلنث؟

: به، وحبديث خدجية أهنا سألت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم عن أوالدها الذين ماتوا ىف الشرك؟ فقال .وهذا حديث باطل موضوع: ، قال شيخنا))إن شئت أمسعتك تضاغيهم ىف النار((

ا مبا روى البخارى ىف صحيحه ىف حديث احتجاج اجلنة والنار عن النىب صلى اهللا عليه واحتجوا أيضفهؤالء ينشؤون للنار بغري عمل، : قالوا)) وأما النار فينشيء اهللا هلا خلقا يسكنهم إياها: ((وسلم أنه قال

وقعت غلطا من وهذه حجة باطلة، فإن هذه اللفظة. فألن يدخلها من ولد ىف الدنيا بني كافرين أوىلحدثىن عبد اهللا بن حممد : بعض الرواة، وبينها البخارى ىف احلديث اآلخر وهو الصواب فقال ىف صحيحه

حتاجت اجلنة : ((انبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن مهام عن أىب هريرة قال النىب صلى اهللا عليه وسلمماىل ال يدخلىن إال ضعفاء الناس :ت اجلنةأوثرت باملتكربين واملتجربين وقال: والنار، فقالت النار

أنت : أنت رمحىت أرحم بك من أشاء من عبادى، وقال تعاىل للنار:وسقطهم؟ قال اهللا عز وجل للجنةفأما النار فال متتليء حىت يضع اجلبار : عذاىب أعذب بك من أشاء من عبادى، ولكل واحدة منكما ملؤها

. متتليء ويزوى بعضها إىل بعض وال يظلم اهللا من خلقه أحدا قط، قط، فهناك: عز وجل رجله، فتقول، فهذا هو الذى قاله رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم بال ريب، وهو ))وأما اجلنة فإن اهللا ينشيء هلا خلقا

* }ننيإن رمحة اهللا قريب من المحس{: وىف باب ما جاء ىف قوله تعاىل] وقال[الذى ذكره ىف التفسري حدثنا عبد اهللا بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أىب عن صاحل بن كيسان عن األعرج ]: ٥٦: األعراف[

يا : اختصمت اجلنة والنار إىل رهبما، فقالت اجلنة: ((عن أىب هريرة عن النىب صلى اهللا عليه وسلم قالثرت باملتكربين، فقال اهللا تعاىل إىن أو: رب ماهلا ال يدخلها إال ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار

: أنت عذاىب أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها قال: أنت رمحىت، وقال تعاىل للنار: للجنةهل من : فأما اجلنة فإن اهللا تعاىل ال يظلم من خلقه أحدا، وإنه ينشيء للنار من يشاء فيلقون فيها، فتقول

، فهذا غري حمفوظ، ))قط قط قط: فتمتليء ويرد بعضها إىل بعض، فتقول مزيد ثالثا حىت يضع قدمه فيهاإن : ((وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم قوله صلى اهللا عليه وسلم

إن ابن مكتوم يؤذن بليل فكلوا : ((، فقال))بالال يؤذن بليل فكلوا واشربوا حىت يؤذن ابن أم مكتوم )).ىت يؤذن باللواشربوا ح

وله نظائر وحديث األعرج عن أىب هريرة مل حيفظ كما ينبغى وسياقه يدل على أن رواية مل يقم متنه، قال رسول اهللا : خبالف حديث مهام عن أىب هريرة، واحتجوا مبا رواه أبو داود عن عامر الشعىب قال

)).الوائدة واملؤودة ىف النار: ((صلى اهللا عليه وسلم

Page 325: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أن عامرا حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن : فحدثىن أبو إسحاق السبيعى: بن زكريا قال حيىي .واهللا أعلم. النىب صلى اهللا عليه وسلم ويأتى اجلواب عن هذا احلديث إن شاء اهللا

ه واحتج هؤالء مبا روا. أهنم ىف اجلنة، وهذا قول طائفة من املفسرين واملتكلمني وغريهم: املذهب الثالثمما يكثر أن ] يعىن[كان رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم : البخارى ىف صحيحه عن مسرة بن جندب قال

فنقص عليه ما شاء اهللا أن نقص، وأنه قال لنا ذات : ؟ قال))هل رأى أحد منكم رؤيا: ((يقول ألصحابهفيها من كل لون الربيع ] مةمعت[فأتينا على روضة : فذكر احلديث، وفيه -إىن أتاىن الليلة آتيان: ((غداة

وإذا بني ظهرى الروضة رجل طويل ال أكاد أرى رأسه طوال ىف السماء وإذا حول الرجل من أكثر ، فقال بعض ))وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة -وفيه -ولدان رأيتهم قط

، ))وأوالد املشركني: ((عليه وسلم يا رسول اهللا وأوالد املشركني؟ فقال الرسول صلى اهللا: املسلمني .فهذا احلديث الصحيح صريح ىف أهنم ىف اجلنة، ورؤيا األنبياء وحى

وىف مستخرج الربقاىن على البخارى من حديث عوف األعراىب عن أىب رجاء العطاردى عن مسرة عن رسول اهللا، وأوالد يا : ، فقال الناس))كل مولود يولد على الفطرة: ((النىب صلى اهللا عليه وسلم قال

)).وأوالد املشركني: املشركني؟ قال ...)يتبع(

حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف عن : وقال أبو بكر بن محدان القطيعى@ النىب ىف اجلنة : ((يا رسول اهللا، من ىف اجلنة؟ قال: حدثتىن عمىت قالت: خنساء بنت معاوية قالت

.؟، وكذلك رواه بندار عن غندر عن عوف))واملؤودة ىف اجلنةوالشهيد ىف اجلنة ، وبقوله ]١٧٢: األعراف* [}وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم{: واحتجوا بقوله تعاىل

، ]٢٤: البقرة* [}ينأعدت للكافر{: ، وبقوله تعاىل]١٥: الليل* [}ال يصالها إال األشقى{: تعاىل، وهؤالء مل تقم عليهم حجة اهللا ]١٥: اإلسراء* [}وما كنا معذبني حتى نبعث رسوال{: وبقوله تعاىل

* }رسال مبشرين ومنذرين لئال يكون للناس حجة بعد الرسل{واحتجوا بقوله تعاىل [بالرسل فال يعذهبم ]١٦٥: النساء[

وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فى أمها رسوال يتلو عليهم آياتنا، وما {: اىلواحتجوا بقوله تع، فإذا كان سبحانه ال يهلك القرى ىف الدنيا ]٩٥:القصص* [}كنا مهلكى القرى إال وأهلها ظالمون: ذب ىف اآلخرة العذاب الدائم من مل يصدر منه ظلم؟ وال يقالويعذب أهلها إال بظلمهم، فكيف يع

يدخله النار تبعا هلم، ألن مصائب الدنيا إذا وردت ] فكذلك[كما أهلكه ىف الدنيا تبعا ألبويه وغريهم، ة واتقوا فتن{: ال ختص الظامل وحده بل تصيب الظامل وغريه ويبعثون على نياهتم وأعماهلم كما قال تعاىل

Page 326: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، وكاجليش الذى خيسف هبم مجيعهم وفيهم ]٢٥: األنفال* [}ال تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .املكره واملستبصر وغريه

وقال تعاىل ىف . فأما عذاب اآلخرة فال يكون إال للظاملني خاصة، وال يتبعهم فيه من ال ذنب له أصالوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل كلما ألقى فيها ف{: النار

ألمألن جهنم منك وممن تبعك منهم {: إلبليس] تعاىل[، وقال ]٨،٩:امللك* [}اهللا من شيءوأيضا : ، وإذا امتألت بإبليس وأتباعه فأين يستقر فيها من مل يتبعه؟ قالوا]٨٥: النمل* [}أجمعني

هل تجزون إال ما كنتم {: فالقرآن مملوء من األخبار بأن دخول النار إمنا يكون باألعمال كقوله تعاىل *}وال يظلم ربك أحدا ووجدوا ما عملوا حاضرا{: ، وقوله تعاىل]٩٠: النمل* [}تعملون

* }واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اهللا، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم ال يظلمون{، ]٤٩: الكهف[إىل غري ]٧٦: الزخرف* [}وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمني{: ، وقوله تعاىل]٢٨١: البقرة[

على الفطرة، وإمنا ] يولد[وقد أخرب النىب صلى اهللا عليه وسلم أن كل مولود : قالوا. ذلك من النصوصيهوده وينصره أبواه، فإذا مات قبل التهويد والتنصري مات على الفطرة، فكيف يستحق النار؟ وىف

إىن خلقت : يقول اهللا: ((صحيح مسلم من حديث عياض بن محار عن النىب صلى اهللا عليه وسلم قال، وقال حممد بن ))عبادى حنفاء، فجاءهتم الشياطني فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت هلم

إسحاق عن ثور بن يزيد عن حيىي بن جابر عن عبد الرمحن بن عائذ عن عياض عن النىب صلى اهللا عليه ، فزاد ))طاهم املال حالال ال حراماإن اهللا خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمني، وأع: ((وسلم قال

)).مسلمني((واجلنة دار فضله، فلهذا ينشيء للجنة من مل يعمل عمال قط، ] تعاىل[وأيضا فإن النار دار عدله : قالوا

وأيضا فإن النار دار جزاء، فمن مل يعص : وقالوا. وأما النار فإنه ال يعذب هبا إال من عمل بعمل أهلهاوأيضا فلو عذب هؤالء لكان تعذيبهم إما : كيف جيازى بالنار خالدا خملدا أبد اآلباد؟ قالوا اهللا طرفة عني

.مع تكليفهم باإلميان أو بدون التكليفأما األول فالستحالة تكليف من ال متييز له وال عقل أصال، وأما الثاىن فيمتنع أيضا : والقسمان ممتنعان

وأيضا فلو : وقالوا. من أن اهللا ال يعذب أحدا إال بعد قيام احلجة عليهبالنصوص الىت ذكرناها وأمثاهلا كان تعذيب هؤالء ألجل عدم اإلميان املانع من العذاب الشتركوا هم وأطفال املسلمني ىف ذلك،

.الشتراكهم ىف عدم اإلميان الفعلى علما وعمالاهللا : اب، خبالف أطفال املشركني، قلناالعذ] من[أطفال املسلمني منعهم تبعهم آلبائهم : فإن قلتم

، وقال ]١٦٤: األنعام* [}وال تزر وازرة وزر أخرى{: ال يعذب أحدا بذنب غريه، قال تعاىل] تعاىل[

Page 327: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، وهذه حجج كما ]٥٤: يس* [}فاليوم ال تظلم نفس شيئا وال تجزون إال ما كنتم تعملون{: تعاىلترى قوة وكثرة، وال سبيل إىل دفعها وسيأتى إن شاء اهللا فصل النزاع ىف هذه املسألة، والقول مبوجب هذه احلجج الصحيحة كلها، على أن عادتنا ىف مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول مبوجبها، وال

من احلق وخنالفها نضرب بعضها ببعض وال نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معهاال نستثىن من ذلك طائفة وال مقالة، ونرجو من اهللا أن حنيا على ذلك، . فيما معها من خالف احلق

.ومنوت عليه ونلقى اهللا به، وال حول وال قوة إال باهللاوال أهنم ىف منزلة بني املنزلتني بني اجلنة والنار فإهنم ليس هلم إميان يدخلون به اجلنة : املذهب الرابع

آلبائهم فوز يلحق هبم أطفاهلم تكميال لثواهبم وزيادة ىف نعيمهم، وليس هلم من األعمال ما يستحقون به .دخول النار

هم الذين : ((وقال عبد العزيز ابن حيىي الكناىن. وهم أهل األعراف: وهذا قول طائفة من املفسرين قالواهذا املنزل مستقرهم أبدا فباطل، فإنه ال دار للقرار إال ، والقائلون هبذا إن أرادوا أن ))ماتوا ىف الفترة

.اجلنة أو النار، وإن أرادوا أهنم يكونون فيه مدة مث يصريون إىل دار القرار فهذا ليس مبمتنعأهنم حتت مشيئة اهللا تعاىل، جيوز أن يعمهم بعذابه، وأن يعمهم برمحته، وأن يرحم : املذهب اخلامس

ض اإلرادة واملشيئة، وال سبيل إىل إثبات شيء من هذه األقسام إال خبرب جيب بعضا ويعذب بعضا مبحوهذا قول اجلربية نفاة احلكمة والتعليل، وقول كثري من . املصري إليه، وال حكم فيهم إال مبحض املشيئة

.مثبىت القدر وغريهمواحتج . وممالكيهم ىف الدنياأهنم خدم أهل اجلنة ومماليكهم، وهم معهم مبنزلة أرقائهم : املذهب السادس

هؤالء مبا رواه يعقوب بن عبد الرمحن القارى عن أىب حازم املديىن عن يزيد الرقاشى عن أنس، قال ورواه عبد العزيز املاجشون عن ابن املنكدر عن يزيد الرقاشى عن أنس عن النىب صلى اهللا : الدارقطىن

)) أن ال يعذهبم، فأعطانيهم، فهم خدام أهل اجلنة سألت رىب لالهني من ذرية البشر: ((عليه وسلم قال .يعىن الصبيان

فهذان طريقان، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان عن عبد الرمحن بن إسحاق عن الزهرى عن الالهون من هليت عن الشيء إذ غفلت عنه، وليس هو من هلوت، وهذه الطرق : أنس، قال ابن قتيبة

.وفضيل بن سليمان متكلم فيه، وعبد الرمحن بن إسحق ضعيف ضعيفة، فإن يزيد الرقاشى واهأن حكمهم حكم آبائهم ىف الدنيا واآلخرة فال يفردون عنهم حبكم ىف الدارين، فكما : املذهب السابع

.هم منهم ىف الدنيا فهم منهم ىف اآلخرة

Page 328: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

علهم معهم تبعا والفرق بني هذا املذهب ومن مذهب من يقول هم ىف النار، أن صاحب هذا املذهب جيهلم، حىت لو أسلم األبوان بعد موت أطفاهلما مل حيكم ألفراطهما بالنار وصاحب القول اآلخر يقول هم

.ىف النار لكوهنم ليسوا مبسلمني مل يدخلوها تبعاوهؤالء حيتجون حبديث عائشة الذى تقدم ذكره، واحتجوا مبا ىف الصحيحني عن الصعب بن جثامة

هللا صلى اهللا عليه وسلم عن أهل الدار من املشركني يبيتون فيصيبون من نسائهم سئل رسول ا: قالوقد تقدم حديث أىب وائل عن ابن . ، ومثله من حديث األسود بن سريع))هم منهم: ((وذراريهم، فقالويدل :قالوا. ، وهذا يدل على أهنا كانت ىف النار تبعا هلا))الوائدة واملوءودة ىف النار: ((مسعود يرفعه

ن شيء والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم م{: عليه قوله ، فهذا يدل على أن إتباع الذرية آلبائهم وجناهتم إمنا كان]٢١: الطور* [}كل امريء بما كسب رهني

] إمنا يستحق بإميان اآلباء فإذا انتفى إميان اآلباء انتفى اتباع[إكراما آلبائهم وزيادة ىف ثواهبم وأن االتباع )).هم منهم: ((ويفسره قوله صلى اهللا عليه وسلم. النجاة، وبقى اتباع العذابوأما حديثها . فهفقد تقدم ضع)) إهنم ىف النار: ((أما حديث عائشة الذى فيه: وأجيب عن حجج هؤالء

فمثل حديث الصعب واألسود بن سريع، وليس فيه تعرض للعذاب بنفى وال )) هم من آبائهم: ((اآلخرإثبات، وإمنا فيه أهنم تبع آلبائهم ىف احلكم، وأهنم إذا أصيبوا ىف اجلهاد والبيات مل يضمنوا بدية وال

.كفارة. د، أما حديث عائشة اآلخر فضعفه غري واحدوهذا مصرح به ىف حديث الصعب واألسود أنه ىف اجلها

وعلى تقدير ثبوته . وعبد اهللا بن أىب قيس موىل غطيف رواية عنها ليس باملعروف فيقبل حديثه: قالوا .فليس فيه تصريح بأن السؤال وقع عن الثواب والعقاب

وكوهنم منهم . حلرفنيوفرق بني ا. ومل يقل هم معهم)) هم من آبائهم: ((والنىب صلى اهللا عليه وسلم قالأن تثبت هلم أحكام ] أن يكونوا معهم ىف أحكام اآلخرة خبالف كوهنم منهم فإنه يقتضى[ال يقتضى

اآلباء ىف الدنيا من التوارث واحلضانة والنسب وغري ذلك من أحكام اإليالد، واهللا سبحانه خيرج الطيب .من اخلبيث واملؤمن من الكافرس فيه أن هذا حكم كل واحد من أطفال املشركني وإمنا يدل على أن بعض وأما حديث ابن مسعود فلي

ال مينع من [من يدخل النار، وكوهنا موؤودة -وهن املؤودات -أطفاهلم ىف النار، وأن من هذا اجلنسهو السبب املوجب لدخول النار، حىت يكون ] دخوهلا النار بسبب آخر وليس املراد أن كوهنا موءودة

، ]ولكن كوهنا موءودة ال يرد عنها النار إذا استحقتها بسبب[ىف كل موؤدة وهذا ظاهر اللفظ عاما هى ىف النار ما مل يوجد سبب مينع من : وأحسن من هذا أن يقال. كما سيأتى بيانه بعد هذا إن شاء اهللا

Page 329: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

قت هبا ففرق بني أن تكون جهة كوهنا موؤدة هى الىت استح. دخوهلا النار كما سنذكره إن شاء اهللاعن وأد ] الوائدة[دخول النار، وبني كوهنا غري مانعة من دخول النار بسبب آخر، وإذا كان تعاىل يسأل

، فكيف ]٨:التكوير* [}وإذا املوءودة سئلت{: ولدها بغري استحقاق ويعذهبا على وأدها كما قال تعاىل .ها بغري ذنبيعذب املوءودة بغري ذنب؟ واهللا سبحانه ال يعذب من وأد

فهذه اآلية ] ٢١: الطور* [}والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإميان ألحقنا بهم ذريتهم{: وأما قوله تعاىل .تدل على أن اهللا سبحانه يلحق ذرية املؤمنني هبم ىف اجلنة، وإهنم يكونون معهم ىف درجتهم

أى مل ينقصهم من أعماهلم من شيئا -األباء إىل درجة الذرية فإن اهللا مل يلتهم[زول ومع هذه فال يتوهم نملا كان إحلاق الذرية باآلباء ىف الدرجة ] و[اآلباء عليهم، ] بل رفع ذرياهتم إىل درجاهتم مع توفري أجور

م ىف العذاب تبعا وإن مل إمنا هو حبكم التبعية ال باألعمال، رمبا توهم متوهم أن ذرية الكفار يلحقون هب، وتأمل قوله }كل امريء بما كسب رهني{: يكن هلم أعمال اآلباء، فقطع تعاىل هذا التوهم بقوله تعاىل

ية ، كيف أتى بالواو العاطفة ىف اتباع الذر]٢١: الطور* [}والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان{: تعاىلأحدمها إميان اآلباء، والثاىن : وجعل اخلرب عن املؤمنني الذين هذا شأهنم، فجعل اخلرب مستحقا بأمرين

: إتباع اهللا ذريتهم إياهم، وذلك ال يقتضى أن كل مؤمن يتبعه كل ذرية له، ولو أريد هذا املعىن لقيلكون املعطوف هبا قيدا وشرطا ىف ثبوت آمنوا تتبعهم ذرياهتم فعطف االتباع بالواو يقتضى أن ي] والذين[

وعلى هذا خيرج ما رواه مسلم ىف صحيحه عن عائشة قالت أتى . اخلرب، ال حصوله لكل أفراد املبتدأيا رسول اهللا، طوىب هلذا مل يعمل شرا، : فقلت: النىب صلى اهللا عليه وسلم بصىب من األنصار يصلى عليه

عائشة، إن اهللا خلق اجلنة وخلق هلا أهال وخلقها هلم وهم ىف أو غري ذلك يا: ((قال. ومل يدره به، فهذا احلديث يدل ))أصالب آبائهم، وخلق النار وخلق هلا أهال وخلقها هلم وهم ىف أصالب آبائهم

على أنه ال يشهد لكل طفل من أطفال املؤمنني باجلنة، وإن أطلق على أطفال املؤمنني باجلنة، وإن أطلق ؤمنني ىف اجلملة أهنم ىف اجلنة لكن الشهادة للمعني ممتنعة، كما يشهد للمؤمنني مطلقا أهنم على أطفال امل

.ىف اجلنة، وال يشهد ملعني بذلك إال من شهد له النىب صلى اهللا عليه وسلمومن يشك أن . ال يصح: فهذا وجه احلديث الذى يشكل على كثري من الناس ورده اإلمام أمحد وقال

.ني ىف اجلنة؟ وتأوله قوم تأويالت بعيدةأوالد املسلمالقيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإىل كل من مل تبلغه ] عرصة[أهنم ميتحنون ىف : املذهب الثامن

وعلى هذا فيكون بعضهم ىف اجلنة . الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل اجلنة ومن عصاه أدخله النارالذى ] عز وجل[وتتوافق األحاديث ويكون معلوم اهللا . هاوهبذا يتألف مشل األدلة كل. وبعضهم ىف النار

، يظهر حينئذ ويقع ))اهللا أعلم مبا كانوا عاملني: ((أحال عليه النىب صلى اهللا عليه وسلم حيث يقول

Page 330: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

الثواب والعقاب عليه حال كونه معلوما علما خارجيا ال علما جمردا، ويكون النىب صلى اهللا عليه وسلم يرد ثواهبم وعقاهبم إىل معلومه منهم، فاخلرب عنهم مردود ] تعاىل[إىل علم اهللا فيهم، واهللا قد رد جواهبم

فمنها ما رواه : إىل علمه ومصريهم مردود إىل معلومه، وقد جاءت بذلك آثار كثرية يؤيد بعضها بعضاعاذ بن هشام عن أبيه حدثنا م: والبزار أيضا بإسناد صحيح، فقال اإلمام أمحد] ىف مسنده[اإلمام أمحد

أربعة حيتجون : ((عن قتادة عن األحنف بن قيس عن األسود بن سريع أن النىب صلى اهللا عليه وسلم قال: رجل أصم ال يسمع، ورجل هرم، ورجل أمحق، ورجل مات ىف الفترة، أما األصم فيقول: يوم القيامة

رب لقد جاء اإلسالم والصبيان حيدفونىن : لرب لقد جاء اإلسالم وأنا ما أمسع شيئا، وأما األمحق فيقورب ما أتاىن رسول، : فيقول] رب لقد جاء اإلسالم وما أغفل وأما الذى ىف الفترة[بالبعر، وأما اهلرم

فريسل إليم رسوال أن ادخلوا النار، فوالذى نفسى بيده لو دخلوها لكانت . فيأخذ مواثيقهم ليطيعنهوحدثىن أىب عن قتادة عن احلسن عن أىب رافع عن أىب ]: بن هشام[ذ ، قال معا))عليهم بردا وسالما

فمن دخلها كانت عليه بردا وسالما ومن مل يدخلها رد : ((هريرة مبثل هذا احلديث وقال ىف آخره )).إليها

وهو ىف مسند إسحاق عن معاذ بن هشام أيضا، ورواه البزار ولفظه عن األسود ابن سريع عن النىب صلى يعرض على اهللا تبارك وتعاىل األصم الذى ال يسمع شيئا، واألمحق واهلرم، ورجل : ((عليه وسلم قالاهللا

رب لقد جاء اإلسالم : رب جاء اإلسالم وما أمسع شيئا، واألمحق يقول: مات ىف الفترة، فيقول األصمفيأخذ : ما يقول، قالرب ما أتاىن لك رسول، وذكر اهلرم و: وما أعقل شيئا يقول الذى مات ىف الفترة

ادخلوا النار، فوالذى نفس حممد بيده لو دخلوها ]: تبارك وتعاىل[مواثيقهم ليطيعنه، فريسل إليهم قد جاء هذا احلديث، وهو : ، قال احلافظ عبد احلق ىف حديث األسود))لكانت عليهم بردا وسالما

خيص من يشاء مبا يشاء، ويكلف صحيح فيما أعلم، واآلخرة ليست دار تكليف وال عمل، ولكن اهللا .وحيثما شاء، ال يسأل عما يفعل وهم يسألون] يشاء ما شاء[من وسيأتى الكالم على وقوع التكليف ىف الدار اآلخرة وامتناعه عن قريب إن شاء اهللا، ورواه على : قلت

نا أبو جعفر الرازى، حدثنا على ابن حممد بن بشران، أخرب: قال البيهقى. بن املديىن عن معاذ بنحوهأخربنا حنبل بن احلسني، أخربنا زيد بن جدعان عن أىب رافع عن أىب هريرة عن النىب صلى اهللا عليه

.وسلم حنوه، ورواه معمر عن عبد اهللا بن طاوس عن أبيه عن أىب هريرة قولهة ثقة عن أىب وروى حممد بن املبارك الصورى ثقة، حدثنا عمرو بن واقد ضعيف، حدثنا يونس بن ميسر

يؤتى يوم القيامة باملمسوخ عقال، وباهلالك ىف الفترة، وباهلالك : ((إدريس اخلوالىن عن معاذ يرفعهيا رب لو آتيتىن عقال ما كان من آتيته عقال بأسعد مىن، ويقول اهلالك ىف : فيقول املمسوخ عقال. صغريا

Page 331: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ك عهد بأسعد بعهده مىن، مىن، فيقول الرب يا رب لو آتاىن منك عهد ما كان من آتاه من: الفترةاذهبوا فادخلوا النار، فلو دخلوها ما : نعم وعزتك فيقول: لئن أمرتكم بأمر فتطيعوىن؟ فيقولون: سبحانه

فيخرج عليهم قوابص يظنون أهنا قد أهلكت ما خلق اهللا من شيء فيأمرهم الثانية، : ضرهتم قالوعزتك نريد دخوهلا، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أهنا يا ربنا خرجنا : فريجعون كذلك ويقولون

قبل : قد أهلكت ما خلق اهللا من شيء، فيأمرهم الثانية فريجعون كذلك ويقولون مثل قوهلم، فيقول اهللا، فهذا وإن ))أن ختلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمى خلقتكم وإىل علمى تصريون، فتأخذهم النار

.ال حيتج به، فله أصل وشواهد واألصول تشهد له كان عمرو بن واقدوقد رويت أحاديث االمتحان ىف اآلخرة من حديث األسود بن سريع . وىف الباب أحاديث غري هذا

.وصححه عبد احلق والبيهقى من حديث أىب هريرة وأنس ومعاذ وأىب سعيدنف بن قيس عن األسود بن هشام عن أبيه عن قتادة عن األح] عن[فأما حديث األسود فرواه معاذ

وحدثىن أىب عن قتادة عن احلسن عن أىب رافع عن أىب : سريع أن النىب صلى اهللا عليه وسلم قال معاذمحاد بن سلمة عن على بن زيد بن جدعان عن رافع عن ] ورواه[هريرة، ورواه أمحد وإسحاق عن معاذ

موقوفا عليه، وهذا ال يضر احلديث فإنه أىب هريرة، ورواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أىب هريرةإن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق املعارضة فغايتها حتقق الوقف، ومثل هذا

.ال يقدم عليه بالرأى إذ ال جمال له فيقبل جبزم بأن هذا توقيف ال عن رأىليم عن عبد الوارث عن أنس عن النىب وأما حديث أنس فرواه جرير بن عبد احلميد عن ليث بن أىب س

باملولود وباملعتوه، ومبن مات ىف الفترة، وبالشيخ الفاىن : يؤتى يوم القيامة بأربعة: ((صلى اهللا عليه وسلمإىن كنت أبعث إىل عبادى : ويقول هلم. ابرزى: كلهم يتكلم حبجته فيقول الرب سبحانه لعنق من جهنم

ويقول من كتب عليه . ادخلوا هذه: ويقول هلم: قال. ى إليكمرسوال من أنفسهم وإىن رسول نفسوأما من كتب عليهم : فأنتم لرسلى أشد تكذيبا قال: أىن ندخلها ومنها كنا نفر؟ فيقول اهللا: الشقاء

)).السعادة فيمضى فيقتحم فيها، فيدخل هؤالء إىل اجلنة وهؤالء إىل الناريث بن أىب سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النىب صلى اهللا وهذا وإن مل يعتمد عليه مبجرده ملكان ل

: وأما حديث أىب سعيد فرواه حممد بن حيىي الذهلى. وأما حديث معاذ فتقدم الكالم عليه[عليه وسلم قال رسول اهللا صلى اهللا : أخربنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أىب سعيد قال

: مل يأتىن كتاب، ويقول املعتوه: لفترة واملعتوه واملولود يقول اهلالك ىف الفترةاهلالك ىف ا: ((عليه وسلم: رب مل أدرك العقل فريفع هلم نارا فيقول: ويقول املولود. رب مل جتعل ىل عقال أعقل به خريا وال شرا

ىف علم اهللا شقيا فريدها من كان ىف علم اهللا سعيدا لو أدرك العمل، وميسك عنها من كان : ردوها، قال

Page 332: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

. ، تابعه احلسن بن موسى عن فضيل))إياى عصيتم، فكيف لو رسلى أتتكم: لو أدرك العمل، فيقولفهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعترب حبديثه ويستشهد به، . ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه

فهذه األحاديث يشد بعضها . وأما الوقف فقد تقدم نظريه من حديث أىب هريرة. وإن مل يكن حجةبعضا وتشهد هلا أصول الشرع وقواعده، والقول مبضموهنا هو مذهب السلف والسنة نقله عنهم

.األشعرى رمحه اهللا ىف املقاالت وغريهاأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، ألن اآلخرة : قد أنكر ابن عبد الرب هذه األحاديث وقال: فإن قيل

ال ابتالء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك ىف وسع املخلوقني، واهللا ال يكلف ليست دار عمل و :اجلواب من وجوه] فـ[نفسا إال وسعها؟

أن أهل العلم مل يتفقوا على إنكارها بل وال أكثرهم، وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غريه : أحدها

.بعضها كما تقدمذهب عن أهل السنة واحلديث، فدل على أهنم ذهبوا إىل أن أبا احلسن األشعرى حكى هذا امل: الثاىن

.موجب هذه األحاديثأن إسناد حديث األسود أجود من كثري من األحاديث الىت حيتج هبا ىف األحكام، وهلذا رواه : الثالث

.األئمة أمحد وإسحق وعلى بن املديىنال ينقطع التكليف إال : اآلخرة، وقالواأنه قد نص مجاعة من األئمة على وقوع االمتحان ىف الدار : الرابع

.بدخول دار القرار ذكره البيهقى عن غري واحد من السلفما ثبت ىف الصحيحني من حديث أىب هريرة وأىب سعيد ىف الرجل الذى هو آخر أهل اجلنة : اخلامس

، وأنه خيالفه دخوال إليها أن اهللا سبحانه وتعاىل يأخذ عهوده ومواثيقه أن ال يسأله غري الذى يعطيه، وهذا الغدر منه هو ملخلفته للعهد الذى عاهد ربه ))ما أغدر كغدرك: ((ويسأله غريه، فيقول اهللا تعاىل

.عليه :جوابه من وجهني. وليس ذلك ىف وسع املخلوقني: قوله: السادسكليف بىن أن ذلك ليس تكليفا مبا ليس ىف الوسع، وإمنا تكليف مبا فيه مشقة شديدة، وهو كت: أحدمها

إسرائيل قتل أوالدهم وأزواجهم وآبائهم حني عبدوا العجل، وكتكليف املؤمنني إذا رأوا الدجال ومعه .مثال اجلنة والنار أن يقعوا ىف الذى يرونه نارا

.أهنم لو أطاعوه ودخلوها مل يضرهم، وكانت بردا وسالما، فلم يكلفوا مبمتنع وال مبا مل يستطع: والثاىن .أنه قد ثبت أنه سبحانه وتعاىل يأمرهم ىف القيامة بالسجود وحيول بني املنافقني وبينه: السابع

Page 333: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وهذا تكليف مبا ليس ىف الوسع قطعا، فكيف ينكر التكليف بدخول النار ىف رأى العني إذا كانت سببا الصراط رواه مسلم، فركوب هذا)) كما قال أبو سعيد اخلدرى هو أدق من الشعرة وأحد من السيف

.الذى هو ىف غاية املشقة كالنار، وهلذا كالمها يفضى منه إىل النجاة واهللا أعلمفمن سلك طريق املشيئة اجملردة : أن هذا استبعاد جمرد ال ترد مبثله األحاديث والناس هلم طريقان: الثامن

ة تنفى أن يكون مل ميكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق احلكمة والتعليل مل يكن معه حج .هذا التكليف موافقا للحكم، بل األدلة الصحيحة تدل على أن مقتضى احلكمة كما ذكرناه

أن ىف أصح هذه األحاديث وهو حديث األسود أهنم يعطون رهبم املواثيق ليطيعنه فيما يأمرهم : التاسعفكيف يقال أنه . عجزهم عنهبه، فيأمرهم أن يدخلوا نار االمتحان فيتركون الدخول معصية ألمره ال ل

.ليس ىف الوسعأن : فاآلخرة دار جزاء، وليست دار تكليف، فكيف ميتحنون ىف غري دار التكليف؟ فاجلواب: فإن قيل

التكليف إمنا ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما ىف الربزخ وعرصات القيامة فال ينقطع وهذا معلوم .سألة امللكني ىف الربزخ وهى تكليفبالضرورة من الدين من وقوع التكليف مب

* }يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فال يستطيعون{: وأما ىف عرصة القيامة فقال تعاىلصريح ىف أن اهللا يدعو اخلالئق إىل السجود يوم القيامة، وأن الكفار حيال بينهم ] فهذا[، ]٤٢: القلم[

ذاك، ويكون هذا التكليف، مبا ال يطاق حينئذ حسا عقوبة هلم، ألهنم كلفوا به ىف وبني السجود إذالدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور هلم كلفوا به وهم ال يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة

يعىن أصحابه ال ] [٤٣: القلم* [}وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون{: هلم، وهلذا قال تعاىلدعوا إليه ىف وقت حيل بينهم وبينه كما ىف الصحيح من ] أحد مينعهم منه فلما تركوه وهم ساملون

يا رسول اهللا، هل نرى : إن ناسا قالوا: ((حديث زيد ابن أسلم عن عطاء عن أىب سعيد رضى اهللا عنهفارقنا : تتبع كل أمه ما كانت تعبد فيقول املؤمنونفيقول (( -فذكر احلديث بطوله، إىل أن قال - ))ربنا

نعوذ باهللا منك ال نشرك : فيقولون. أنا ربكم: فيقول. الناس ىف الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ومل نصاحبهم)) حىت إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه هبا -مرتني أو ثالثا -باهللا شيئا

فيكشف عن ساق فال يبقى من كان يسجد تلقاء نفسه إال أذن اهللا له بالسجود، وال يبقى فيقولون نعم، واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه مث ] طبقة:)) [من كان يسجد اتقاء ورياء إال جعل اهللا ظهره

.وذكر احلديث)) يرفعون رؤوسهمدنيا طوعا واختيارا أجاب ىف الربزخ، وهذا التكليف نظري تكليف الربزخ باملسألة، فمن أجاب ىف ال

ومل يكن تكليفه ىف احلال وهو غري قادر قبيحا، بل ] ومن امتنع من اإلجابة ىف الدنيا منع منها ىف الربزخ[

Page 334: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

هو مقتضى احلكمة اإلهلية، ألنه كلف وقت القدرة فأىب، فإذا كلف وقت العجز وقد حيل بينه وبني .الفعل كان عقوبة له وحسرة

قصود أن التكليف ال ينقطع إال بعد دخول اجلنة أو النار، وقد تقدم أن حديث األسود بن سريع وامل .فهو مطابق ملا ذكرنا من النصوص الصحيحة الصرحية. صحيح، وفيه التكليف ىف عرصة القيامة

.لمفعلم أن الذى تدل عليه األدلة الصحيحة وتأتلف به النصوص ومقتضى احلكمة هذا القول واهللا أعوقد حكى بعض أهل املقاالت عن عامر بن أشرس أنه ذهب إىل أن األطفال يصريون ىف يوم القيامة ترابا، وقد نقل عن ابن عباس وحممد بن احلنفية والقاسم بن حممد وغريهم أهنم كرهوا الكالم ىف هذه

.املسألة مجلةومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا اإلسالم : الطبقة اخلامسة عشرة

إن املنافقني فى الدرك {: وهؤالء املنافقون، وهم ىف الدرك األسفل من النار، قال تعاىل]. ورسوله[اهللا ، فالكفار اجملاهرون بكفرهم أخف، وهم ]١٤٥: النساء* [}األسفل من النار، ولن تجد لهم نصريا

ألن الطائفتني اشتركتا ىف الكفر ومعاداة اهللا ورسله وزاد املنافقون عليهم . هم ىف دركات النارفوق: بالكذب والنفاق، وبلية املسلمني هبم أعظم من بليتهم بالكفار اجملاهرين، وهلذا قال تعاىل ىف حقهم

صر، أى ال عدو إال هم، ولكن مل ، ومثل هذا اللفظ يقتضى احل]٤: املنافقون* [}هم العدو فاحذرهم{من إثبات األولوية واألحقية هلم ] حصر العداوة فيهم وأهنم ال عدو للمسلمني سواهم بل هذا[يرد هاهنا

وخمالطتهم إياهم أهنم ليسوا ] هلم[ىف هذا الوصف، وأنه ال يتوهم بانتساهبم إىل املسلمني ظاهرا ومواالهتم فإن ضرر هؤالء . ممن باينهم ىف الدار، ونصب هلم العداوة وجاهرهم هبابأعدائهم، بل هم أحق بالعدواة

أشد عليهم من ضرر من جاهرهم -وهم ىف الباطن على خالف دينهم -املخالطني هلم املعاشرين هلمبالعداوة وألزم وأدوم، ألن احلرب مع أولئك ساعة أو أياما مث ينقضى ويعقبه النصر والظفر، وهؤالء

يار واملنازل صباحا ومساء، يدلون العدو على عوراهتم ويتربصون هبم الدوائر وال ميكنهم معهم ىف الد، ال ]٤: املنافقون* [}هم العدو فاحذروهم{: مناجزهتم، فهم أحق بالعداوة من املباين اجملاهر، فلهذا قيل

. ا لكم عدوا من الكفار اجملاهرينعلى معىن أنه ال عدو لكم سواهم، بل على معىن أهنم أحق بأن يكونوليس املسكني الطواف الذى ترده اللقمة واللقمتان والتمرة : ((ونظري ذلك قول النىب صلى اهللا عليه وسلم

، فليس هذا نفيا السم ))والتمرتان، ولكن املسكني الذى ال يسأل الناس، وال يفطن له فيتصدق عليهالقانع الذى ال يسمونه مسكينا أحق هبذا االسم من الطواف املسكني عن الطواف، بل إخبار بأن هذا

.الذى يسمونه مسكينا

Page 335: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، ))ليس الشديد بالصرعة، ولكن الذى ميلك نفسه عند الغضب: ((ونظريه قوله صلى اهللا عليه وسلم .ليس نفيا لالسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأن من ميلك نفسه عند الغضب أحق منه هبذا االسم

: قال. من ال درهم له وال متاع: ؟ قالوا))ما تعدون املفلس فيكم: ((قوله صلى اهللا عليه وسلم ونظريهاملفلس من يأتى يوم القيامة حبسنات أمثال اجلبال، ويأتى قد لطم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، ((

من سيئاهتم مث فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من : ؟ قالوا))ما تعدون الرقوب فيكم: ((، ونظريه قوله صلى اهللا عليه وسلم))طرح عليه فألقى ىف النار

الربا : ((، ومنه عندى قوله صلى اهللا عليه وسلم))الرقوب من مل يقدم من ولده شيئا: ((ال يولد له؟ قال )).ىف النسيئةهو إثبات ألن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل، وليس فيه )) إمنا الربا ىف النسيئة: ((وىف لفظ

.فتأمله. اسم الربا عن ربا الفضلواملقصود أن هذه الطبقة أشقى األشقياء، وهلذا يستهزأ هبم ىف اآلخرة، وتعطى نورا يتوسطون به على

، ويضرب ]١٣: احلديد* [}تمسوا نوراارجعوا وراءكم فال{: الصراط مث يطفيء اهللا نورهم ويقال هلمينادونهم ألم نكن * بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب {: بينهم وبني املؤمنني

بتم وغرتكم األمـانى حتى جاء أمر اهللا وغركم معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارت، وهذا أشد ما يكون من احلسرة والبالء أن يفتح للعبد طريق النجاة ]١٣: احلديد* [}باهللا الغرور

والفالح، حىت إذا ظن أنه ناج ورأى منازل السعداء اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة ونعوذ باهللا من .غضبه وعقابه

وإمنا كانت هذه الطبقة ىف الدرك األسفل لغلظ كفرهم، فإهنم خالطوا املسلمني وعاشروهم، وباشروا من أعالم الرسالة وشواهد اإلميان ما مل يباشره البعداء، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما مل يصل إىل

وا أغلظ كفرا وأخبث قلوبا، وأشد عداوة هللا املنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه املعرفة والعلم كان .ولرسوله وللمؤمنني من البعداء عنهم، وإن كان البعداء متصدين حلرب املسلمني

* }ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم ال يفقهون {]: ىف املنافقني[وهلذا قال تعاىل ، وقال تعاىل ىف ]١٨: البقرة* [}صم بكم عمى فهم ال يعقلون{: ، وقال تعاىل فيهم]٣: املنافقني[

، فالكافر مل يعقل، واملنافق أبصر مث عمى ]١٧١: البقرة* [}صم بكم عمى فهم ال يرجعون{: الكفاررا وأخبث قلبا وأعىت على وعرف مث جتاهل وأقر مث أنكر وآمن، مث كفر، ومن كان هكذا كان أشد كف

.اهللا ورسله، فاستحق الدرك األسفل

Page 336: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وفيه معىن آخر أيضا وهو أن احلامل هلم على النفاق طلب العز واجلاه بني الطائفتني فريضوا املؤمنني .ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضا

، ومل يكن هلم غرض ىف اإلميان دخل عليهم البالء، فإهنم أرادوا العزتني من الطائفتني] هاهنا[ومن واإلسالم وال طاعة اهللا ورسوله، بل كان ميلهم وضعوهم وجهتهم إىل الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل وهو أن جعل مستقرهم ىف أسفل السافلني حتت الكفار، فما اتصف به املنافقون من خمادعة اهللا

من املؤمنني [والكذب والتالعب بالدين وإظهار أهنم ورسوله والذين آمنوا، واالستهزاء بأهل اإلميانمن النار وهلذا ملا ذكر تعاىل أقسام اخللق ىف ] وأبطنوا قلوهبم فتغلظ كفرهم به، فاستحقوا الدرك األسفل

فقسمهم إىل مؤمن ظاهرا وباطنا، وكافر ظاهرا وباطنا، ومؤمن ىف الظاهر ]٢٠- ٢: البقرة[أول سورة .٧ - ٦، وىف حق الكفار آيتني ٥- ٣هم املنافقون، وذكر ىف حق املؤمنني ثالث آيات كافر ىف الباطن و

ذمهم فيها غاية الذم وكشف عوراهتم ٢٠ - ٨فلما انتهى إىل ذكر املنافقني ذكر فيهم بضع عشرة آية وقبحهم وفضحهم، وأخرب أهنم هم السفهاء املفسدون ىف األرض املخادعون املستهزئون املغبونون ىف

شترائهم الضاللة باهلدى، وأهنم صم بكم عمى فهم ال يرجعون، وأهنم مرضى القلوب وأن اهللا يزيدهم امرضا إىل مرضهم، فلم يدع ذما وال عيبا إال ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه هلم، وبغضه

ه الطبقة بالدرك فظهرت حكمته الباهرة ىف ختصص هذ.إياهم، وعداوته هلم، وأهنم أبغض أعدائه إليه .األسفل من النار

اهللا به املنافقني ىف القرآن من [ومن تأمل ما وصف . نعوذ باهللا من مثل حاهلم، ونسأله معافاته ورمحتهقلوهبم ] صفات الذم علم أهنم أحق بالدرك األسلف فإنه وصفهم مبخادعته وخمادعة عباده ووصف

فساد ىف األرض وباالستهزاء بدينه وبعباده، ووصفهم باإل. باملرض وهو مرض الشبهات والشكوكوبالطغيان، واشتراء الضاللة باهلدى والصمم والبكم والعمى واحلرية والكسل عند عبادته، والزنا وقلة

بني املؤمنني والكفار، فال إىل هؤالء وال إىل هؤالء، واحللف بامسه تعاىل - والتذبذب -ذكره، والترددوبغاية اجلنب، وبعدم الفقه ىف الدين وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم اإلميان باهللا كذبا وباطال وبالكذب

واليوم اآلخر وبالرب، وبأهنم مضرة على املؤمنني وال حيصل كلهم بنصيحتهم إال الشر من اخلبال صل واإلسراع بينهم بالشر وإلقاء الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر اهللا، وحمو احلق، وأهنم حيزنون مبا حي

للمؤمنني من اخلري والنصر، ويفرحون مبا حيصل هلم من احملنة واالبتالء، وأهنم يتربصون الدوائر باملسلمني املؤمنني ورميهم مبا ليس فيهم فيلزمون املتصدقني [وبكراهتهم اإلنفاق ىف مرضاة اهللا وسبيله، وبعيب

الناس، وأهنم عبيد الدنيا إن أعطوا منها بالرياء إرادة الثناء ىف] مكثرهم[مزهدهم، ويرمون ] ويعيبونسخطوا، وبأهنم يؤذون رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم وينسبونه إىل ما برأه اهللا منه ] منعو[رضوا وإن

Page 337: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ويعيبونه مبا هو من كماله وفضله وأهنم يقصدون إرضاء املخلوقني وال يطلبون إرضاء رب العاملني وأهنم م يفرحون إذا ختلفوا عن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم، ويكرهون اجلهاد يسخرون من املؤمنني، وأهن

ىف سبيل اهللا، وأهنم يتحيلون على تعطيل فرائض اهللا عليهم بأنواع احليل، وأهنم يرضون بالتخلف عن مطبوع على قلوهبم، وأهنم يتركون ما أوجب اهللا عليهم مع قدرهتم عليه، ] وأهنم[طاعة اهللا ورسوله،

م أحلف الناس باهللا قد اختذوا أمياهنم جنة تقيهم من إنكار املسلمني عليهم، وهذا شأن املنافق أحلف وأهن - الناس باهللا كاذبا قد اختذ ميينه جنة ووقاية يتقى هبا إنكار املسلمني عليه، ووصفهم بأهنم رجس

أهنم فاسقون، وبأهنم فهم أخبث بىن آدم وأقذرهم وأرذهلم وب -والرجس من كل جنس أخبثه وأقذرهمضرة على أهل اإلميان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حارهبم وحارب اهللا ورسوله، وأهنم يتشبهون هبم ويضاهوهنم ىف أعماهلم ليتوصلوا منها إىل اإلضرار هبم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن املنافقني

باملسلمني دوائر السوء، وهذه عادهتم ىف كل أبدا وبأهنم فتنوا أنفسهم بكفرهم باهللا ورسوله وتربصوا زمان، وارتابوا ىف الدين فلم يصدقوا به، وغرهتم األماىن الباطلة وغرهم الشيطان، وأهنم أحسن الناس أجساما تعجب الرائى أجسامهم،والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقوهلم رأيت خشبا مسنده،

ق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراء ذلك وال إميان وال فقه، وال علم وال صدشيئا، وإذا عرض عليهم التوبة واالستغفار أبوها وزعموا أهنم ال حاجة هلم إليها، إما ألن ما عندهم من

وإما احتقارا وازدراء - كحال كثري من الزنادقة -الزندقة واجلهل املركب مغن عنها وعن الطاعات مجلةىل ذلك، ووصفهم سبحانه باالستهزاء به وبآياته وبرسوله وبأهنم جمرمون وبأهنم يأمرون مبن يدعوهم إ

باملنكر وينهون عن املعروف ويقبضون أيديهم عن اإلنفاق ىف مرضاته، ونسيان ذكره،وبأهنم يتولون ال الكفار ويدعون املؤمنني، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حىت أنساهم ذكر اهللا ف

يذكرونه إال قليال، وأهنم حزب الشيطان وأهنم يوادون من حاد اهللا ورسوله وبأهنم يتمنون ما يعنت املؤمنني ويشق عليهم، وأن البغضاء تبدو هلم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، بأهنم يقولون بأفواههم

.ما ليس ىف قلوهبميه وسلم الكذب ىف احلديث واخليانة ىف األمانة، ومن صفاهتم الىت وصفهم هبا رسول اهللا صلى اهللا عل

والغدر عند العهد، والفجور عند اخلصام، واخللف عند الوعد، وتأخري الصالة إىل آخر وقتها، ونقرها .عجلة وإسراعا، وترك حضورها مجاعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاء

نني باخلري، واجلنب عند اخلوف، فإذا ذهب اخلوف وجاء ومن صفاهتم الىت وصفهم اهللا هبا الشح على املؤم :األمن سلقوا املؤمنني بألسنة حداد، فهم أحد الناس ألسنة عليهم كما قيل

جهال علينا وجبنا عن عدوكم لبئست اخللتان اجلهل واجلنب

Page 338: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ق املسلمني وإهنم عند املخاوف تظهر كمائن صدورهم وخمبآهتم، وأما عند األمن فيجب ستره، فإذا حل .خوف دبت عقارب قلوهبم وظهرت املخبآت وبدت األسرار

بني أعماهلم وأقواهلم ومن ] خمالفة[قلوبا وأعظم الناس ] وأمرهم[ومن صفاهتم أهنم أعذب الناس ألسنة، صفاهتم أهنم ال جيتمع فيهم حسن صمت وفقه ىف دين أبدا ومن صفاهتم أن أعماهلم تكذب أقواهلم،

.ظاهرهم وسرائرهم تناقض عالنيتهم وباطنهم يكذبومن صفاهتم أن املؤمن ال يثق هبم ىف شيء فإهنم قد أعدوا لكل أمر خمرجا منه، حبق أو بباطل بصدق أو

فكلما - وهو بيت حيفره وجيعل له أسرابا خمتلفة -بكذب، وهلذا مسى منافقا أخذا من نافقاء الريبوع :تمكن طالبه من حصره ىف سرب واحد، قال الشاعرطلب من سرب خرج من سرب آخر، فال ي

ويستخرج الريبوع من نافقائه ومن جحره بالشيحة اليتقصعومن صفاهتم كثرة التلون، وسرعة التقلب، وعدم . على املاء، ليس معك منه شيء] كقبض[فأنت منه

أو صدق، إذ بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صاحل: الثبات على حال واحدانقلب إىل ضد ذلك كأنه مل يعرف غريه، فهو أشد الناس تلونا وتقلبا وتنقال، جيفة بالليل قطرب

.بالنهارومن صفاهتم أنك إذا دعوهتم عند املنازعة للتحاكم إىل القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك

:إىل التحاكم إىل طواغيتهم، قال تعاىللى لى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إألم تر إ{

إلى ما وإذا قيل لهم تعالوا * الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضالال بعيدا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت * أنزل اهللا وإلى الرسول رأيت املنافقني يصدون عنك صدودا ن يعلم اهللا ما فى قلوبهم أولئك الذي* أيديهم ثم جاؤك يحلفون باهللا إن أردنا إال إحسانا وتوفيقا

].٦٣- ٦٠: النساء* [}فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فى أنفسهم قوال بليغامعارضة ما جاء به الرسول صلى اهللا عليه وسلم بعقول الرجال وآرائهم، مث تقدميها على : ومن صفاهتم

ضون له، زاعمون أن اهلدى ىف آراء الرجال وعقوهلم، دون ما جاء به فهم معرضون عنه معار. ما جاءفلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغريه لكانوا منافقني، فكيف إذا مجعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه ال

.يستفاد منه هدىعروف إذا أمروا بامل -فريموهنم: كتمان احلق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم: ومن صفاهتم

.بأهنم أهل فنت مفسدون ىف األرض -وهنوا عن املنكر ودعوا إىل اهللا ورسوله

Page 339: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقد علم اهللا ورسوله واملؤمنون بأهنم أهل الفنت املفسدون ىف األرض، وإذا دعا ورثة الرسول إىل كتاب غبني ىف رموهم بالبدع والضالل، وإذا رأوهم زاهدين ىف الدنيا را] مثوبة[اهللا وسنة رسوله خالصة غري

.اآلخرة متمسكني بطاعة اهللا ورسوله رموهم بالزوكرة، والتلبيس واحملال

وإذا رأوا معهم حقا ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول ىف قالبة شنيع لينفروهم عنه، وإذا .لباس احلق وأخرجوه ىف قالبه ليقبل منهم] ألبسوه[كان معهم باطل

سلمني كالزغل ىف النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصريهتم بالنقد، ويعرف ومجلة أمرهم أهنم ىف املحاله الناقد البصري من الناس، وقليل ما هم، وليس على األديان أضر من هذا الضرب من الناس، وإمنا تفسد األديان من قبلهم، وهلذا جال اهللا أمرهم ىف القرآن، وأوضح أوصافهم وبني أحواهلم وكرر

هم، لشدة املؤنة على األمة هبم وعظم البلية عليهم بوجودهم بني أظهرهم وفرط حاجتهم إىل ذكرمعرفتهم والتحرز من مشاهبتهم واإلصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكني إىل اهللا طرق اهلدى وسلكوا

.وعدوهم ومنوهم، ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور: هبم سبيل الردىوأسري ال يرجى له . قتيل، ولكن ىف سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى واإلميانفكم من

صحبتهم توجب العار والشنار، ومودهتم حتل . اخلالص وفار من اهللا ال إليه، وهيهات والت حني مناصبه كالليب كلبهم وخماليب رأيهم مزقت منه ثياب ] علقت[غضب اجلبار وتوجب دخول النار من

ن واإلميان وقطعت له مقطعات من البالء واخلذالن، فهو يسحب من احلرمان والشقاوة أذياال، الدي .وميشى على عقبيه القهقرى إدبارا منه وهو حيسب ذلك إقباال

فهم واهللا قطاع الطريق، فيا أيها الركب املسافرون إىل منازل السعداء، حذار منهم حذار، هم اجلزارون .ففرارا منهم أيها الغنم فرارا. ياألسنتهم شفار البال

ومن البلية أهنم األعداء حقا وليس لنا بد من مصاحبتهم، وخلطتهم أعظم الداء وليس بد من خمالطتهم قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعدا للمستجيبني، ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من

يا شياه األنعام حى على اهلالك، : لشباك ومدوا األشراك وأذن مؤذهنمنصبوا ا. الشهوات، فويل للمغترين .فاستبقوا يهرعون إليهم، فأوردوهم حياض العذاب، ال املوارد العذاب. حى على التباب

ادخلوا باب اهلوان صاغرين وال تقولوا حطة، فليس : وساموهم من اخلسف والبالء أعظم خطة، وقالوان جنا من شراكهم ال من علق، وأىن ينجو من غلبت عليه شقاوته وهلا خلق، مل] فواعجبا. [بيوم حطة

فحقيق بأهل هذه الطبقة أن حيلو باحملل الذى أحلهم اهللا من دار اهلوان وأن ينزلوا ىف أردئ منازل أهل .العناد والكفران

Page 340: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ف سادة األمة وحبسب إميان العبد ومعرفته بكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، وهلذا اشتد خويا حذيفة، ناشدتك اهللا، هل : وسابقوها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن اخلطاب يقول

.ال، وال أزكى بعدك أحدا: مساىن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم مع القوم؟ فيقول .غريكيعىن ال أفتح على هذا الباب ىف تزكية الناس، وليس معناه أنه مل يربأ من النفاق

أدركت ثالثني من أصحاب رسول اهللا؟ صلى اهللا عليه وسلم كلهم خياف النفاق : وقال ابن أىب مليكة .على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إميان جربائيل وميكائيل

@

رؤساء الكفر وأئمته، ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد اهللا عن اإلميان وعن : الطبقة السادسة عشرةعذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس : ىف دينه رغبة ورهبة فهؤالء عذاهبم مضاعف، وهلم عذابانالدخول

الذين كفروا وصدوا عن سبيل اهللا زدناهم عذابا فوق {: قال اهللا تعاىل. عن الدخول ىف اإلميانوقد استقرت . بصدهم عن سبيل اهللافأحد العذابني بكفرهم، والعذاب اآلخر ] ٨٨: النحل* [}العذاب

حكمة اهللا وعدله أن جيعل على الداعى إىل الضالل مثل آثام من اتبعه واستجاب له، وال ريب أن عذاب .هذا يتضاعف ويتزايد حبسب من اتبعه وضل به

ب وهذا النوع ىف األشقياء مقابل دعاة اهلدى ىف السعداء، فأولئك يتضاعف ثواهبم وتعلو درجاهتم حبسمن اتبعهم واهتدى هبم، وهؤالء عكسهم، وهلذا كان فرعون وقومه ىف أشد العذاب، قال تعاىل ىف

: غافر* [}النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب{: حقهمنفسه ىف األشد من ذلك، ألهنم إمنا دخلوا أشد العذاب تبعا له، فإنه هو ، وهذا تنبيه على أن فرعون ]٤٦

وهلذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرطهم ىف هذا الورد، قال . الذى استخفهم فأطاعوه، وغرهم فاتبعوه ].٩٨: هود* [}يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار{: تعاىل

. م استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم، وصدهم عن سبيل اهللا وعقوبتهم من آمن باهللاأهن: واملقصود: فليس عذاب الرؤساء ىف النار كعذاب أتباعهم، وهلذا كان ىف كتاب النىب صلى اهللا عليه وسلم هلرقل

)).فإن توليت فإن عليك إمث األريسيني((ليس أشد أهل النار عذابا، وهو أول من يكسى والصحيح ىف اللفظ أهنم األتباع وهلذا كان عدو اهللا إب

.حلة من النار، ألنه إمام كل كفر وشرك وشروال ريب أن الكفر . فما عصى اهللا إال على يديه وبسببه، مث األمثل فاألمثل من نوابه ىف األرض ودعاته

.يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر، كما أن اإلميان يتفاوت فإميان أفضل من إميان

Page 341: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

املؤمنني ليسوا ىف درجة واحدة، بل هم درجات عند اهللا، فكذلك الكفار ليسوا ىف طبقة واحدة فكما أن .وهو الغىن احلميد. وال يظلم اهللا من خلقه أحدا. ودرك واحد بل النار دركات كما أن اجلنة درجات

فصلكافرة ىف نفسها، من حيث العقيدة ال: أحدها: وغلظ الكفر املوجب لغلظ العذاب يكون من ثالثة أوجه

كمن جحد رب العاملني بالكلية وعطل العامل عن الرب اخلالق املدبر له، فلم يؤمن باهللا ومالئكته وال وهلذا ال يقر أرباب هذا الكفر باجلزية عند كثري من العلماء، وال تؤكل . كتبه وال رسله وال اليوم اآلخر

ؤالء هم املعطلة والدهرية وكثري من الفالسفة وأهل ذبائحهم وال تنكح نساؤهم اتفاقا لتغلظ كفرهم، وه .الوحدة القائلني بأنه ال وجود للرب سبحانه وتعاىل غري وجود هذا العامل

تغلظه بالعناد والضالل عمدا على بصرية، ككفر من شهد قلبه أن الرسول حق ملا رآه ]: اجلهة الثانية[وقوم فرعون واليهود الذين عرفوا الرسول كما عرفوا من آيات صدقه، وكفر عنادا وبغيا، كقوم مثود،

.أبناءهم، وكفر أىب جهل وأمية ابن أىب الصلت وأمثال هؤالءالسعى ىف إطفاء نور اهللا وصد عباده عن دينه مبا تصل إليه قدرهتم، فهؤالء أشد الكفار : اجلهة الثالثة

ت الثالث، ومنهم من يكون فيه جهتان منها عذابا حبسب تغلظ كفرهم، ومنهم من جيتمع ىف حقه اجلهاأو واحدة فليس عذاب هؤالء كعذاب من هو دوهنم ىف الكفر ممن هو ملبوس عليه جلهله، واملؤمنون من أذاه ىف سالمة ال يناهلم منه أذى، ومل يتغلظ كفره كتغلظ هؤالء، بل هو مقر باهللا ووحدانيته ومالئكته

.روجنس الكتب والرسل واليوم اآلخوهل يستوى ىف النار عذاب أىب . وإن شارك أولئك ىف كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعا من الكفر

طالب وأىب هلب وأىب جهل وعقبة بن أىب معيط وأىب ابن خلف وأضراهبم؟واملقصود أن هذه الطبقة وهى طبقة الرؤساء الدعاة الصادين عن دين اهللا ليست كطبقة من دوهنم، وقد

، ومعلوم أن كفر أىب ))أهون أهل النار عذابا أبو طالب: ((عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال ثبت .طالب مل يكن مثل كفر أىب جهل وأمثاله

: طبقة املقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم ومحريهم الذين هم معهم تبعا هلم يقولون: الطبقة السابعة عشرةومع هذا فهم متاركون ألهل اإلسالم غري حماربني هلم، كنساء . نا أسوة هبمإنا وجدنا آباءنا على أمة، ول

احملاربني وخدمهم وأتباعهم الذين مل ينصبوا أنفسهم لنا نصب له أولئك أنفسهم من السعى ىف إطفاء نور .اهللا وهدم دينه وإمخاد كلماته، بل هم مبنزلة الدواب

ار وإن كانوا جهاال مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إال ما حيكى وقد اتفقت األمة على أن هذه الطبقة كفعن بعض أهل البدع أنه مل حيكم هلؤالء بالنار وجعلهم مبنزلة من مل تبلغه الدعوة، وهذا مذهب مل يقل به

Page 342: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

أحد من أئمة املسلمني ال الصحابة وال التابعني وال من بعدهم، وإمنا يعرف عن بعض أهل الكالم احملدث .المىف اإلس

ما من مولود إال وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه : ((وقد صح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال، فأخرب أن أبويه ينقالنه عن الفطرة إىل اليهودية والنصرانية واجملوسية، ومل يعترب ))أو ينصرانه أو ميجسانه

.ىف ذلك غري املرىب واملنشإ على ما عليه األبوان، وهذا املقلد ليس ))إن اجلنة ال يدخلها إال نفس مسلمة: ((عنه أنه قال صلى اهللا عليه وسلم وصح

وأما من مل تبلغه الدعوة . مبسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل املكلف ال خيرج عن اإلسالم أو الكفر .فليس مبكلف ىف تلك احلال، وهو مبنزلة األطفال واجملانني

اإلسالم هو توحيد اهللا وعبادته وحده ال شريك له، واإلميان باهللا وبرسوله و. وقد تقدم الكالم عليهمفغاية . واتباعه فيما جاء به، فما مل يأت العبد هبذا فليس مبسلم وإن مل يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهلكافر من هذه الطبقة أهنم كفار جهال غري معاندين، وعدم عنادهم ال خيرجهم عن كوهنم كفارا فإن ال

.جحد توحيد اهللا وكذب رسوله إما عنادا وإما جهال وتقليدا ألهل العنادفهذا وإن كان غايته أنه غري معاند فهو متبع ألهل العناد، وقد أخرب اهللا ىف القرآن ىف غري موضع بعذاب

: ألتباع يقولوناملقلدين ألسالفهم من الكفار، وأن األتباع مع متبوعيهم وأهنم يتحاجون ىف النار وأن ا، ]٣٨: األعراف* [}ربنا هؤالء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال لكل ضعف ولكن ال تعلمون{

ا لكم تبعا فهل أنتم مغنون وإذ يتحاجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كن{: وقال تعاىل، ]٤٨- ٤٧: غافر* [}قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن اهللا قد حكم بين العباد* عنا نصيبا من النار

رجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ي{: وقال تعاىلقال الذين الذين استكربوا للذين استضعفوا أنحن * استضعفوا للذين استكبروا لوال أنتم لكنا مؤمنني

وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر * مجرمني صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم ].٣٣ - ٣١: سبأ* [}الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر باهللا ونجعل له أندادا

. ومل يغن عنهم تقليدهم شيئا فهذا إخبار من اهللا وحتذير بأن املتبوعني والتابعني اشتركوا ىف العذابإذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم األسباب {: وأصرح من هذا قوله تعاىل

].١٦٧- ١٦٦: البقرة* [}برؤا مناوقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تمن دعا إىل ضاللة كان عليه من اإلمث مثل أوزار من : ((وصح عن النىب صلى اهللا عليه وسلم أنه قال

، وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إمنا هو مبجرد اتباعهم ))اتبعه، ال ينقص من أوزارهم شيئا .وتقليدهم

Page 343: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

ل به يزول اإلشكال، وهو الفرق بني مقلد متكن من العلم ومعرفة احلق نعم ال بد ىف هذا املقام من تفصيفأعرض عنه، ومقلد مل يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان ىف الوجود، فاملتمكن املعرض مفرط تارك للواجب عليه ال عذر له عند اهللا، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذى ال يتمكن من العلم بوجه

يضا أحدمها مريد للهدى مؤثر له حمب له، غري قادر عليه وال على طلبه لعدم من يرشده، فهم قسمان أمعرض ال إرادة له، وال حيدث نفسه : الثاىن. فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن مل تبلغه الدعوة

ما أنا عليه يا رب لو أعلم لك دينا خريا مما أنا عليه لدنت به وتركت: فاألول يقول. بغري ما هو عليهراض مبا : والثاىن. ولكن ال أعرف سوى ما أنا عليه وال أقدر على غريه، فهو غاية جهدى وهناية معرفىت

هو عليه ال يؤثر غريه عليه وال تطلب نفسه سواه وال فرق عنده بني حال عجزه وقدرته، وكالمها عاجز من طلب الدين ىف الفترة ومل يظفر به فاألول ك: وهذا ال جيب أن يلحق باألول ملا بينهما من الفرق

فعدل عنه بعد استفراغ الوسع ىف طلبه عجزا وجهال، والثاىن كمن مل يطلبه، بل مات ىف شركه وإن .كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بني عجز الطالب وعجز املعرض

من قامت عليه حجته فتأمل هذا املوضع، واهللا يقضى بني عباده يوم القيامة حبكمه وعدله، وال يعذب إالوأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه احلجة أم ال، . بالرسل، فهذا مقطوع به ىف مجلة اخللق

فذلك مما ال ميكن الدخول بني اهللا وبني عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين . يعذب أحدا إال بعد قيام احلجة عليه بالرسولغري دين اإلسالم فهو كافر، وأن اهللا سبحانه وتعاىل ال

وأما ىف . وحكمه هذا ىف أحكام الثواب والعقاب] عز وجل[هذا ىف اجلملة والتعيني موكول إىل علم اهللا هلم حكم ] فهى جارية مع ظاهر األمر فأطفال الكفار وجمانينهم كفار ىف أحكام الدنيا[أحكام الدنيا

:وهو مبىن على أربعة أصول. يزول اإلشكال ىف املسألةوهبذا التفصيل . أوليائهموما كنا {: أن اهللا سبحانه وتعاىل ال يعذب أحدا إال بعد قيام احلجة عليه، كما قال تعاىل: أحدها

ون للناس رسال مبشرين ومنذرين لئال يك{: ، وقال تعاىل]١٥: اإلسراء* [}معذبني حتى نبعث رسوالكلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم {: ، وقال تعاىل]١٦٥: النساء* [}على اهللا حجة بعد الرسل

، وقال ]٩ - ٨: لكامل* [}قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل اهللا من شيء* يأتكم نذير يامعشر الجن {: ، وقال تعاىل]١١: امللك* [}فاعترفوا بذنبهم فسحقا ألصحاب السعري{: تعاىل

ـذا قالو ا شهدنا على واإلنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم ه، وهذا كثري ]١٣٠: األنعام* [} أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين

ىف القرآن، خيرب أنه إمنا يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه احلجة، وهو املذنب الذى يعترف بذنبه، ، والظامل من عرف ما جاء به ]٧٦: الزخرف* [}وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمني{: اىلوقال تع

Page 344: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

] يكن عنده من الرسول خربا أصال وال ميكن من معرفته بوجه[الرسول أو متكن من معرفته، وأما من مل وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظامل؟

هبا ] إرادة العلم[اإلعراض عن احلجة وعدم : تحق بسببني، أحدمهاأن العذاب يس: األصل الثاىنوأما . فاألول كفر إعراض والثاىن كفر عناد. العناد هلا بعد قيامها وترك إرادة موجبها: الثاىن. ومبوجبها

كفر اجلهل مع عدم قيام احلجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذى نفى اهللا التعذيب عنه حىت تقوم .رسلحجة ال

أن قيام احلجة خيتلف باختالف األزمنة واألمكنة واألشخاص فقد تقوم حجة اهللا على : األصل الثالثالكفار ىف زمان دون زمان وىف بقعة وناحية دون أخرى كما أهنا تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم

. ضر ترمجان يترجم لهعقله ومتييزه كالصغري واجملنون وإما لعدم فهمه كالذى ال يفهم اخلطاب ومل حيفهذا مبنزلة األصم الذى ال يسمع شيئا وال يتمكن من الفهم، وهو أحد األربعة الذين يدلون على اهللا

.باحلجة يوم القيامة كما تقدم ىف حديث األسود وأىب هريرة وغريمها، وأهنا مقصودة لغايتها ]سبحانه[أن أفعال اهللا سبحانه وتعاىل تابعة حلكمته الىت ال خيل هبا : األصل الرابع

الذى عليه نبىن مع تلقى [وهذا األصل هو أساس الكالم ىف هذه الطبقات . احملمودة وعواقبها احلميدةأحكامها من نصوص التكاب والسنة ال من أراء الرجال وعقوهلم وال يدرى عدد الكالم ىف هذه

ئف ىف هذا الباب والنهى إىل غاية ، إال من عرف ما ىف كتب الناس ووقف على أقوال الطوا]الطبقات .مراتبهم وهناية إقدامهم، واهللا املوفق للسداد اهلادى إىل الرشاد

وأما من مل يثبت حكمة وال تعليال، ورد األمر إىل حمض املشيئة الىت ترجح أحد املثلني على اآلخر بال العظيمة، وأدخلها كلها حتت مرجح، فقد أراح نفسه من هذا املقام الضنك واقتحام عقبات هذه املسائل

، وهو الفعال ملا يريد، وصدق اهللا وهو ]٢٣: األنبياء* [}ال يسأل عما يفعل وهم يسألون{: قولهلكمال حكمته وعلمه ووضعه األشياء ] ٢٣: األنبياء* [}ال يسأل عما يفعل{: أصدق القائلني

خلل وال عبث وال فساد يسأل عنه كما يسأل املخلوق، وهو الفعال ملا مواضعها، وأنه ليس ىف أفعاله خري ومصلحة ورمحة وحكمة، فال يفعل الشر وال الفساد وال ] هو[يريد ولكن ال يريد أن يفعل إال ما

.اجلور وال خالف مقتضى حكمته، لكمال أمسائه وصفاته، وهو الغىن احلميد العليم احلكيمقال . طبقة اجلن، وقد اتفق املسلمون على أن منهم املؤمن والكافر والرب والفاجر: الطبقة الثامنة عشرة: قال جماهد] ١١: اجلن* [}وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا{: تعاىل إخبارا عنهم

.يعنون مسلمني وكافرين

Page 345: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقال . ألوانا شىت: وقال سعيد ابن جبري. ة ومرجئة ورافضةأمثالكم، فمنهم قدري: وقال احلسن والسدىومنا {: أصنافا خمتلفة ومذاهب متفرقة، مث قيل ىف إعراب اآلية: ومعىن الكالم. شيعا وفرقا: ابن كيسانوما منا إال له {: قوم دون ذلك، فحذف املوصوف وأقام صفته مقامه كقوله] أى ومنا[} دون ذلك

ومن الذين هادوا سماعون {: ، أى إال من له مقام معلوم، وكقوله]١٦٤: الصافات* [}قام معلومم* }من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه{: ، أى فريق مساعون، وكقوله]٤١: املائدة* [}للكذب

* }ومن الذين أشركوا يود أحدهم{: ه على أظهر القولنيأى فريق حيرفون وكقول] ٤٦: النساء[ :أى فريق يود أحدهم، وقال الشاعر] ٩٦: البقرة[

فظلوا ومنهم دمعه سابق هلم وآخر يذرى دمعة العني باملهللصالحون ومنا دون منا ا{: بيان لقوهلم] ١١: اجلن* [}كنا طرائق قددا{: وقوهلم. أى ومنهم من دمعه

وأحدها طريقة وهى املذهب، والقدد مجع -وهى املذاهب - أى كنا ذوى طرائق] ١١: اجلن* [}ذلككنا ىف اختالف أحوالنا مثل الطرائق : وهى من القد وهو القطع وقيل. قدة، كقطعة وقطع وزنا ومعىن

إن : ددا وليس بشيء، وأضعف منه قول من قالاملختلفة ىف اختالفها، وعلى هذا فاملعىن كنا طرائق ق، وهذا مما ال ))عسل الطريق الثعلب: ((طرائق منصوب على الظرف، أى كنا ىف طرق خمتلفة كقوله

.حيمل عليه أفصح الكالموقال تعاىل إخبارا . املعىن كانت طرائقنا طرائق قددا فحذف املضاف وأقام املضاف إليه مقامه: وقيلفاملسلمون الذين آمنوا باهللا ورسوله منهم، ] ٤٩:اجلن* [}ا منا المسلمون ومناالقاسطونوأن{:عنهم

هم الذين جعلوا هللا أندادا، يقال أقسط الرجل : والقاسطون اجلائرون العادلون عن احلق، قال ابن عباس، وقسط إذا جار ]٩:احلجرات* [}لمقسطنيوأقسطوا إن اهللا يحب ا{: ومنها. إذا عدل، فهو مقسط

، قد تضمنت هذه اآليات انقسامهم ]١٥: اجلن* [}وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا{فهو قاسط، .صاحلني، ودون الصاحلني، وكفار: إىل ثالث طبقات

، ]فالصحالون بإزاء واألبرار. كفارأبرار، ومقتصدون و: وهذه الطبقات بإزاء طبقات بىن دم فإهنا ثالثةوهذا كما قسم سبحانه بىن إسرائيل إىل هذه . ومن دوهنم بإزاء املقتصدين والقاسطون بإزاء الكفار

: األعراف* [}وقطعناهم فى األرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك{: األقسام الثالثة ىف قولههؤالء الناجون منهم، من ذكر الظاملني، وهم خلف السوء الذين خلفوا بعدهم، وملا كان ، ف]١٦٨

: اإلنس أكمل من اجلن وأمت عقوال ازدادوا عليهم بثالثة أصناف أخر ليس شيء منها للجن، وهموذهب شذاذ من : فليس ىف اجلن صنف من هؤالء، بل حيلتهم الصالح. الرسل، واألنبياء واملقربون

يا معشر الجن واإلنس ألم يأتكم {: الناس إىل أن فيهم الرسل واألنبياء حمتجني على ذلك بقوله تعاىل

Page 346: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

* }منذرين{: إىل قوله} وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن{: ، وبقوله]١٣٠: األنعام* [}رسل منكم، وهذا قول شاذ ال ]١٦٥: النساء* [}رسال مبشرين ومنذرين{: تعاىل، وقد قال اهللا]٢٩: األحقاف[

ألم يأتكم رسل {: يلتفت إليه وال يعرف به سلف من الصحابة والتابعني وأئمة اإلسالم، وقوله تعاىلل إذا كانت الرسل من ، ال يدل على أن الرسل من كل واحدة من الطائفتني، ب]١٣٠: األنعام* [}منكم

أن يقال ] أمل يأتكم رسل منكم ونظري هذا: صح أن يقال لإلنس واجلن[اإلنس وقد أمرت اجلن باتباعهم أمل جيئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم؟ فهذا ال يقتضى أن يكون من هؤالء : للعرب والعجم .رسل ومن هؤالء

ولوا إلى {: وقوله تعاىل. ، وليس ىف كل مساء قمر]١٦: نوح* [}نوراوجعل القمر فيهن {: وقال تعاىل: ، فاإلنذار أعم من الرسالة واألعم ال يستلزم األخص، قال تعاىل]٢٩: األحقاف[} قومهم منذرين

: التوبة* [}ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهمفلوال نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ول{الرسل من اإلنس، وأما اجلن ففيهم : قال غري واحد من السلف. ، فهؤالء نذر وليسوا برسل]١٢٢، ]١٠٩:يوسف* [}وما أرسلنا من قبلك إال رجاال نوحى إليهم من أهل القري{: قال تعاىل. النذر

:فهذا يدل على أنه مل يرسل جنيا وال امرأة وال بدويا، وأما تسميته تعاىل اجلن رجاال ىف قولهعليهم الرجال، بل ] يطبق[، فلم ]٦:اجلن* [}وأنه كان رجال من اإلنس يعوذون برجال من الجن{

ل من اجلن وال يستلزم ذلك دخوهلمفهم رجا} من الجن{: هى تسمية مقيدة بقوله .رجال من حجارة، ورجال من خشب وحنوه: ىف الرجال عند اإلطالق كما تقول

فصل

: وقد اتفق املسلمون على أن كفار اجلن ىف النار وقد دل على ذلك القرآن ىف غري موضع كقوله تعاىل: ، وقوله تعاىل]١٣: السجدة* [}الجنة والناس أجمعني ولكن حق القول منى ألمألن جهنم من{وقال . اآلية، فملؤها منه به وبكفار ذريته] ٨٥:ص* [}ألمألن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعني{

وقال تعاىل ]. ٣٨: األعراف* [}إلنس فى النارادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن وا{: تعاىل، ]١٥- ١٤: اجلن* [}حطبا{: إىل قوله} وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون{: ىف حكاية عن مؤمنهم

{ : وقال تعاىل] ١٧٩: األعراف* [}ولقد ذرأنا لجهنم كثريا من اجلن واإلنس{: وقال اهللا تعاىلفكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون وجنوده إن مل خيتص بالشياطني فهم داخلون ىف

.عمومه

Page 347: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وباجلملة فهذا أمر معلوم باالضطرار من دين اإلسالم، وهو يستلزم تكليف اجلن بشرائع األنبياء ووجوب على أن حممدا صلى اهللا عليه وسلم بعث إىل اجلن واإلنس، فأما شريعتنا فأمجع املسلمون . اتباعهم هلم

{ : وأنه جيب على اجلن طاعته، كما جيب على اإلنس، وأما قبل نبينا صلى اهللا عليه وسلم فقوله تعاىلفار اجلن ىف ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن واإلنس فى النار يدل على األمم اخلالية من ك

.النار، وذلك إمنا يكون بعد إقامة احلجة عليهم بالرسالةفبأى {: وقد دلت سورة الرمحن على تكليفهم بالشرائع كما كلف اإلنس، وهلذا يقول ىف إثر كل آية

اهللا فدل ذلك على أن السورة خطاب للثقلني معا، وهلذا قرأها رسول اهللا صلى} آالء ربكما تكذبانعليه وسلم على اجلن قراءة تبليغ وأخرب أصحابه أهنم كانوا أحسن ردا منهم، فإهنم جعلوا يقولون كلما

.ال نكذب بشيء من آالئك ربنا فلك احلمد: }فبأى آالء ربكما تكذبان{: قرأ عليهموفسوق وعصيان فهو وملا كان أبوهم هو أول من دعا إىل معصية اهللا، وعلى يده حصل كل كفر

، فأتباعه ))واثبوراه((الداعى إىل النار، وكان أول من يكسى حلة من النار يوم القيامة يسحبها وينادى إن كل عذاب يقسم على أهل النار يبدأ به : حىت قيل)) واثبوراهم((من أوالده وغريهم خلفه ينادون

.فيه، مث يصري إليهم

فصلوترجم على ذلك . اآلخرة، فجمهور السلف واخللف على أهنم ىف اجلنةوأما حكم مؤمنيهم ىف الدار يا معشر الجن واإلنس ألم {: لقوله تعاىل)) باب ثواب اجلن وعقاهبم: ((البخارى ىف صحيحه فقال

وجعلوا بينه : قال جماهد خبسا نقصا،. اآلية] ١٣٠: األنعام* [}يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتىولقد {: قال تعاىل. املالئكة بنات اهللا، وأمهاهتم بنات سروات اجلن: قال كفار قريش. وبين الجنة نسبا

.ستحضر للحساب] ١٥٨: الصافات* [}علمت اجلنة إنهم لمحضرونأو باديتك فأذنت بالصالة فارفع صوتك بالنداء فإنه ال إذا كنت ىف غنمك: ((مث ذكر حديث أىب سعيد

، مسعته من رسول اهللا صلى ))يسمع مدى صوت املؤذن جن وال إنس وال شيء إال شهد له يوم القيامة .اهللا عليه وسلم، هذا ما ذكره ىف الباب

. هبم جناهتم من الناروقد ذهب مجهور الناس إىل أن مؤمنيهم ىف اجلنة وحكى عن أىب حنيفة وغريه أن ثوا :واحتج هلذا بقوله تعاىل حكاية عنهم

.اآلية، فجعل غاية ثواهبم إجارهتم من العذاب األليم] ٣١: األحقاف* [}يا قومنا أجيبوا داعى اهللا{

Page 348: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

مؤمنهم ىف اجلنة كما أن كافرهم ىف النار، مث اختلفوا فأطلق أكثر الناس دخول : وأما اجلمهور فقالوا. يكونون ىف ربض اجلنة يراهم املؤمنون من حيث ال يروهنم: وقال سهل بن عبد اهللا. نة ومل يقيدوهاجل

هل هم مكلفون : فهذه مذاهب الناس ىف أحكامهم ىف اآلخرة، وأما أحكامهم ىف الدنيا فاختلف الناسىف كتاب باألمر والنهى، أم هم مضطرون على أفعاهلم؟ على قولني حكامها أبو احلسن األشعرى

واختلف الناس ىف اجلن، هل هم مكلفون، أم مضطرون؟ فقال قائلون من املعتزلة : له فقال)) املقاالت(( .هم مأمورون منهيون وقد أمروا وهنوا، وهم خمتارون، وزعم زاعمون أهنم مضطرون: وغريهمريعة اإلسالمية، أدلة الصواب الذى عليه مجهور أهل اإلسالم أهنم مأمورون منهيون مكلفون بالش: قلت

.القرآن والسنة على ذلك أكثر من أن حتصرذهبت املعتزلة إىل مبعاد األبدان وحنو ذلك، فما هو من : فإضافة هذا القول إىل املعتزلة مبنزلة أن يقال

:وقال اهللا تعاىل. أقوال سائر أهل اإلسالم] ١٨: األحقاف* [}قد خلت من قبلهم من الجن واإلنس إنهم أولئك الذين حق عليهم القول فى أمم{

فأخرب أن منهم من حق عليه القول أى وجب عليه العذاب وأنه خاسر وال يكون ذلك إال ىف أهل .التكليف املستوجبني العقاب بأعماهلم

أى ىف اخلري والشر يوفوهنا وال ] ١٩: ألحقافا* [}ولكل درجات مما عملوا{: مث قال بعد ذلكيظلمون شيئا من أعماهلم، وهذا ظاهر جدا ىف ثواهبم وعقاهبم، وأن مسيئتهم كما يستحق العذاب بإساءته فمحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه، ولكل درجات مما عملوا فدل ذلك ال حمالة أهنم كانوا

نيا، ولذلك استحقوا الدرجات بأعماهلم ىف اآلخرة ىف اخلري والشر، مأمورين بالشرائع، متعبدين هبا ىف الدد وقيضنا هلم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول فى أمم ق{: وقال اهللا تعاىل

أى -إن اهللا قيض للمشركني: ، ومعىن اآلية]٢٥:فصلت[اآلية } ..خلت من قبلهم من الجن واإلنس قرناء من الشياطني يزينون هلم ما بني أيديهم وما خلفهم من التكذيب باآلخرة وما فيها من - سبب هلم

الثواب والعقاب، وقيل عكس هذا، وأن ما بني أيديهم هو ترغيبهم ىف الدنيا وحرصهم عليها، وما حب ما كان عليه آباؤهم من الشرك ] ما بني أيديهم هو: ب باآلخرة وقال احلسنالتكذي[خلفهم هو

.وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعدهأعماهلم الىت : وىف اآلية قول رابع وهو أن التزيني كله راجع إىل أعماهلم فزينوا هلم ما بني أيديهم

عليها وملا يعملوها بعد، وكأن لفظ التزيني هبذا القول األعمال الىت هم عازمون: عملوها، وما خلفهمومن جعل ما خلفهم هو اآلخرة مل يستقم قوله إال بإضمار، أى زينوا هلم التكذيب باآلخرة ومع . أليق

.هذا فهو قول مستقيم ظاهر فإهنم زينوا هلم ترك العمل هلا واالستعداد للقائها

Page 349: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

: مل يذكر البغوى غريه، وحكاه عن الزجاج، فقال الزجاج وهلذا كان عليه مجهور أهل التفسري حىتسببنا هلم قرناء نظراء من الشياطني حىت أضلوهم فزينوا هلم ما بني أيديهم من أمر الدنيا حىت آثروا على

.اآلخرة، وما خلفهم من أمر اآلخرة فدعوهم إىل التكذيب به وإنكار البعث

ليهم القول فى أمم قد خلت من قبلهم من الجن واإلنس إنهم كانوا وحق ع{: واملقصود أن قوله تعاىل، أى وجب عليهم العذاب مع أمم قد مضت من قبلهم من اجلن واإلنس، ]٢٥: فصلت* [}خاسرين

الثواب والعقاب هبم، ففى هذا أبني دليل على تكليف الثقلني وتعلق األمر والنهى هبم، وكذلك تعلق ويوم يحشرهم جميعا يا معشر اجلن قد استكثرتم من اإلنس وقال أولياؤهم من اإلنس{: وقال تعاىل

: األنعام* [}إال ما شاء اهللا{: عاىلإىل قوله ت} ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذى أجلت لناللجن ىف القيامة، فيذكر اإلنس استمتاع ] يقال[، وهذا صريح ىف تكليفهم، فإن هذا القول ]١٢٨

بعضهم ببعض ىف الدنيا، وذلك االستمتاع هو ما بني اجلن واإلنس من طاعتهم إياهم ىف معصية اهللا، شهواهتم وأغراضهم فإهنم كانوا يستوحوهنم ويعوذون هبم وعبادهتم هلم دون اهللا، ليستعينوا هبم على

.ويذحبون هلم وبأمسائهم ويوالوهنم من دون اهللا كما هو شأن أكثر املشركني من أولياء الشيطان- وقد مجع العابدين واملعبودين -فهذا هو استمتاع بعضهم ببعض، وهلذا يقول تعاىل للمالئكة يوم القيامة

قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم * اكم كانوا يعبدون؟ أهؤالء إي{: .فهؤالء عباد اجلن وأولياء الشياطني] ٤١- ٤٠: سبأ* [}بهم مؤمنون

منهم ملبوس عليه، فهو يعبد الشيطان وال وكثري . وأكثرهم يعلم ويرضى به ملا ينال به من املتعة مبعبوده :وقد أشار زيد بن عمرو بن نفيل ىف شعره إىل هذا الشرك باجلن فقال. يشعر

حنانيك إن اجلن كانت رجاؤهم وأنت إهلى ربنا ورجاؤنا] ١٢٨: األنعام* [} جلت لناربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذى أ{: وهلذا يقولون ىف القيامة

فهذا خطاب للصنفني، ] ١٢٨: األنعام* [}النار مثواكم خالدين فيها إال ما شاء اهللا{: قال اهللا تعاىل .وهو كثري ىف القرآن. وهو صريح ىف اشتراكهم ىف التكليف، كما هو صريح ىف اشتراكهم ىف العذاب

يا معشر الجن واإلنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم {: ا قوله تعاىلومما يدل على تكليفهم أيض، فلما اعترفوا بأهنم كانوا كافرين، وشهدوا على ]١٣٠: األنعام* [}كافرين{: إىل قوله تعاىل* }آياتى

.أنفسهم بالكفر دل ذلك على تكليفهم وتوجه اخلطاب إليهم: إىل قوله} وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا{: وقال تعاىل

:، فهذا يدل على تكليفهم من وجوه متعددة]٣٢- ٢٩:األحقاف* [ }أولئك فى ضالل مبني {

Page 350: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إىل رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به ويأتمروا بأوامره وينتهوا أن اهللا سبحانه وتعاىل صرفهم: أحدها .عن نواهيه

أهنم ولوا إىل قومهم منذرين واإلنذار هو اإلعالم باخلوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أهنم منذرون : الثاىن .هلم بالنار إن عصوا الرسول

يهدى إىل احلق، وهذا القول منهم يدل على أهنم أخربوا أهنم مسعوا القرآن وعقلوه وفهموه وأنه : الثالث .أهنم عاملون مبوسى وبالكتاب املنزل عليه، وأن القرآن مصدق له وأنه هاد إىل صراط مستقيم

وهذا يدل على متكينهم من العلم الذى تقوم به احلجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه والتكليف إمنا .والقدرة] العقل[ يستلزم وهذا صريح ىف أهنم ] ٣١:األحقاف* [}يا قومنا أجيبوا داعى اهللا وآمنوا به {: الوا لقومهمإهنم ق: الرابع

.مكلفون مأمورون بإجابة الرسول، وهى تصديقه فيما أخرب وطاعته فيما أمر .الفة األمرواملغفرة ال تكون إال عن ذنب وهو خم} يغفر لكم من ذنوبكم{: أهنم قالوا: اخلامس .والذنب خمالفة األمر} من ذنوبكم {: أهنم قالوا: السادس، وهذا يدل على أن من مل يستجب منهم لداعى اهللا مل }ويجركم من عذاب أليم{: أهنم قالوا: السابع

.وهذا صريح ىف تعلق الشريعة اإلسالمية هبم. جيره من العذاب األليم* }ومن ال يجب داعى اهللا فليس بمعجز فى األرض وليس له من دونه أولياء {: واأهنم قال: الثامن

وقد استدل هبا على أهنم كانوا . ، وهذا هتديد ملن ختلف عن إجابة داعى اهللا منهم]٣٢: األحقاف[اآلية ال تستلزمه، ولكن قوله متعبدين بشريعة موسى كما هم متعبدون بشريعة حممد، وهذا ممكن و

، اآلية تدل على أن اجلن ]١٣٠: األنعام* [ }يا معشر الجن واإلنس ألم يأتكم رسل منكم {: تعاىل .كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل حممد صلى اهللا عليه وسلم، واآليات املتقدمة تدل على ذلك أيضا

اص النىب صلى اهللا عليه وسلم بالبعثة إىل الثقلني إىل مجيعهم ال إىل بعضهم ومن وعلى هذا فيكون اختصومن الجن من يعمل بين {: قبله كان يبعث إىل طائفة خمصوصة، وأيضا فقد قال تعاىل عن نبيه سليمان

.، وهذا حمض التكليف]١٢: سبأ* [}عذاب السعري يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه منلجهنم {: إىل قوله تعاىل* }وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم{: وقد تقدم قوله حكاية عنهم

لقرآن وأهنم سألوه ، وقد صح أن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم قرأ عليهم ا]١٥-١٤: اجلن* [}حطباالزاد هلم ولدواهبم، فجعل هلم كل عظم ذكر اسم اهللا عليه، وكل بعرة علف لدواهبم وهنانا عن

.االستنجاء هبم

Page 351: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقد أخرب - ]١٥: اإلسراء* [}وما كنا معذبني حتى نبعث رسوال{: ولو مل يكن ىف هذا إال قوله تعاىلومما يدل على أهنم مأمورن . به حجة على أهنم مكلفون باتباع الرسل لكفى - أنه يعذب كفرة اجلن

: منهيون بشريعة اإلسالم ما تضمنته سورة الرمحن، فإنه سبحانه وتعاىل ذكر خلق النوعني ىف قوله تعاىلطب النوعني باخلطاب خلق اإلنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار مث خا{

املتضمن الستدعاء اإلميان منهم، وإنكار تكذيبهم باآلية، وترغيبهم ىف وعده، وختويفهم من وعيده، ، وختويفهم من عواقب ذنوهبم، وأنه ]٣١: الرمحن* [}سنفرغ لكم أيها الثقالن{: وهتديدهم بقوله تعاىل

استعالم، بل يعرف اجملرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم لعلمه هبا ال حيتاج أن يسأهلم عنها سؤال .واألقدام، مث ذكر عقاب الصنفني وثواهبم

.وهذا كله تصريح ىف أهنم هم املكلفون املأمورون املنهيون املثابون املعاقبونه خرج رسول اهللا صلى اهللا علي: وىف الترمذى من حديث حممد بن املنكدر عن جابر بن عبد اهللا قال

لقد قرأهتا على اجلن : ((وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرمحن من أوهلا إىل آخرها فسكتوا فقال} فبأى آالء ربكما تكذبان{: كنت كلما أتيت على آية: ليلة اجلن وكانوا أحسن مردودا منكم

دل على ذكائهم وفطنتهم وهذا ي)). ال شيء من نعمك ربنا نكذب فلك احلمد: قالوا] الرمحن[ .ومعرفتهم مبؤنة اخلطاب، وعلمهم أهنم مقصودون به

وعيد للصنفني املكلفني بالشرائع، ] ٣١: الرمحن* [}سنفرغ لكم أيها الثقالن{: وقوله ىف هذه السورةال يشغله شيء عن معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها وجميء اآلخرة واجلزاء فيها، واهللا سبحانه : قال قتادة

.فراغ من الشغل، وفراغ مبعىن القصد: والفراغ ىف اللغة على وجهني. شيءيا معشر الجن {: وهو ىف هذا املوضع باملعىن الثاىن، وهو قصد جملازاهتم بأعماهلم يوم اجلزاء وقوله

: فيها قوالن] ٣٣: الرمحن* [}ت واألرض فانفذواواإلنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموافاعلموه، ولن -أى أن تعلموا ما فيها -أحدمها إن استطعتم أن تنفذوا ما ىف السموات واألرض علما

نفوذ علم الثقلني ىف السموات ] هاهنا[تعلموه إال بسلطان أى إال ببينة من اهللا، وعلى هذا فالنفوذ اسطعتم أن خترجوا عن قهر اهللا وحمل سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السموات إن: واألرض، والثاىن

واألرض وخروجكم عن حمل حكم اهللا وسلطانه فافعلوا، ومعلوم أن هذا من املمتنع عليكم، فإنكم حتت معىن اآلية إن استطعتم أن هتربوا عند املوت: وقال الضحاك. سلطاىن وىف حمل ملكى وقدرتى أين كنتم

.هذه األقوال على أن يكون اخلطاب هلم هبذا القول ىف الدنيا. فاهربوا فإنه مدرككموىف اآلية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا اخلطاب ىف اآلخرة إذا أحاطت املالئكة بأقطار األرض وأحاط

قوم إنى أخاف ويا{: سرادق النار باآلفاق، فهرب اخلالئق، فال جيدون مهربا وال منفذا، كما قال تعاىل

Page 352: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

فارين غري معجزين، وقال : ، قال جماهد]٣٣-٣٢: غافر* [}يوم تولون مدبرين* عليكم يوم التناد إذا مسعوا زفري النار ندوا هربا، فال يأتون قطرا من األقطار إال وجدوا املالئكة صفوفا، : الضحاك

، وقوله ] ١٧: احلاقة* [}والملك على أرجائها{: انوا فيه، فذلك قوله تعاىلفريجعون إىل املكان الذى ك: الرمحن* [}يا معشر الجن واإلنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات واألرض فانفذوا{: تعاىل .، وهذا القول أظهر، واهللا أعلم] ٣٣

* }إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات واألرض فانفذوا{: ه اخلالئق ولوا مدبرين يقال هلمفإذا بدأى إن قدرمت أن تتجاوزوا أقطار السموات واألرض فتعجزوا ربكم حىت ال يقدر على ] ٣٣: الرمحن[

* }سنفرغ{: يدل على هذا القول، فإن قبلهاعذابكم فافعلوا، وكأن ما قبل هذه اآلية وما بعدها * }فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان{: اآلية وهذا ىف اآلخرة، وبعدها] ٣١: الرمحن[ .، وهذا ىف اآلخرة] ٣٧: الرمحن[

يا معشر {: تعاىلوأيضا فإن هذا خطاب جلميع اإلنس واجلن، فإنه أتى فيه بصيغة العموم وهى قوله .فال بد أن يشترك الكل ىف مساع هذا اخلطاب ومضمونه] ٣٣: الرمحن* [}الجن واإلنس

إن {: وقال تعاىل. وهذا إمنا يكون إذا مجعهم اهللا ىف صعيد واحد يسمعهم الداعى وينفذهم البصريا معشر الجن {: عة كما ىف آية أخرىومل يقل إن استطعتما، إلرادة اجلما] ٣٣: الرمحن* [}استطعتم

، ومل يقل يرسل ]٣٥: الرمحن* [}يرسل عليكما{: ، وقال تعاىل]١٣٠: األنعام* [}واإلنس ألم يأتكم .عليكم إلرادة الصنفني أى ال خيتص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفني معا

فخطاب اجلماعة ىف ذلك بلفظ اجلمع ] ٣٣: الرمحن[} إن استطعتم{: تعاىلوهذا وإن كان مرادا بقوله .أحسن، أى من استطاع منكم

وهو موافقة رؤوس اآلى، . أمر آخر] ٣٥: الرمحن* [}عليكما{: وحسن اخلطاب بالتثنية ىف قوله تعاىللتنصيص عليهما، فال حيتمل اللفظ إرادة وفيه التسوية بني الصنفني ىف العذاب با. فاتصلت التثنية بالتثنية

.أحدمها واهللا أعلم: وقوله تعاىل. الشواط اللهب الذى ال دخان فيه والنحاس الدخان الذى ال هلب فيه: قال ابن عباس

فأضاف الذنوب إىل الثقلني، وهذا دليل ] ٣٩: الرمحن* [}فيومئذ ال يسأل عن ذنبه إنس وال جان{ .أهنما سويا ىف التكليفعلى هو وقت البعث واملصري إىل املوقف ال يسألون حينئذ : واختلف ىف هذا السؤال املنفى، فقيل@

املنفى : وقيل. ذلك] مقابلهم[ويسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إىل اهللا أن حياسبهم ويرحيهم من

Page 353: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

زاة، أى قد علم اهللا ذنوهبم فال يسأهلم عنها سؤال سؤال االستعالم واالستخبار، ال سؤال احملاسبة واجملا .من يريد علمها، وإمنا حياسبهم عليها

فصل

فإذا علم تكليفهم بشرائع األنبياء ومطالبتهم هبا وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب، علم أن حمسنهم وأنا لما سمعنا {: ؤمنهمىف اجلنة كما أن مسيئهم ىف النار، وقد دل على ذلك قوله تعاىل حكاية عن م

.، وهبذه احلجة احتج البخارى]١٣: اجلن* [}الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه اآليةووجه االحتجاج هبا أن البخس املنفى هو نقصان الثواب، والرهق الزيادة ىف العقوبة على ما عمل، فال

ومن يعمل من الصالحات وهو {: ونظري هذا قوله تعاىل. هينقص من ثواب حسناته وال يزداد ىف سيئاتوأيضا . أى ال خياف زيادة سيئاته وال نقصان حسناته] ١١٢: طه* [}مؤمن فال يخاف ظلما وال هضما: الرمحن* [}ربكما تكذبانولمن خاف مقام ربه جنتان فبأى آالء {: فقد قال تعاىل ىف سورة الرمحن

، وهذا ]٥٦: الرمحن* [}لم يطمثهن إنس قبلهم وال جان{: ، وذكر ما ىف اجلنتني إىل قوله تعاىل]٤٦ :يدل على أن ثواب حمسنهم اجلنة من وجوه

.صيغ العموم، فتتناول كل خائف)) من((أن : أحدهاوقد اختلف ىف إضافة املقام . كور على خوف مقامه، فدل على استحقاقه بهأنه رتب اجلزاء املذ: الثاىن

أن املعىن وملن خاف : أحدمها: إىل الرب هل هى من إضافة املصدر إىل فاعله، أو إىل مفعوله؟ على قولنيه أن املعىن وملن خاف مقام رب: مقامه بني يدى ربه، فعلى هذا هو من إضافة املصدر إىل املفعول، والثاىن

وأما من {: وكذلك القوالن ىف قوله تعاىل. عليه واطالعه عليه، فهو من باب إضافة املصدر إىل فاعلهذلك لمن خاف {: ، ونظريه قوله تعاىل]٤٠: النازعات* [}خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى

.ذه ثالثة مواضع، فه]١٤: إبراهيم* [}مقامى وخاف وعيدأن طريقة القرآن ىف : الراجح هو األول، وأن املعىن خاف مقامه بني يدى ربه لوجوه، أحدها: وقد يقال

: التخويف أن خيوفهم باهللا وباليوم اآلخر، فإذا خوفهم به علق اخلوف به ال بقيامه عليهم كقوله تعاىل، ]٨: البينة* [}ذلك لمن خشى ربه{: ه تعاىل، وقول]١٧٥: آل عمران* [}فال تخافوهم وخافون{

إن الذين يخشون ربهم {: ، وقوله تعاىل]٥٠: النحل* [}يخافون ربهم من فوقهم{: وقوله تعاىل *}بالغيب لهم مغفرة وأجر كبري

Page 354: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

وقد يذكر . ه عليهم، وإمنا مدحهم خبوفه وخشيته، ففى هذا كله مل يذكر خشية مقام]١٢: امللك[، وأما خوف ]٥٧: اإلسراء* [}يرجون رحمته ويخافون عذابه{: اخلوف متعلقا بعذابه كقوله تعاىل

.مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن، ]٥١: األنعام* [}خافون أن يحشروا إلى ربهموأنذر به الذين ي{: أن هذا نظري قوله تعاىل: الثاىن

.فخوفهم أن حيشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بني يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاأن خوف مقام العبد بني يدى ربه ىف اآلخرة ال يكون إال ممن يؤمن بلقائه وباليوم اآلخر : الثالث

يستحق اجلنتني املذكورتني، فإنه ال يؤمن بذلك حق اإلميان إال من وهذا هو الذى . وبالبعث بعد املوت .آمن بالرسل، وهو من اإلميان بالغيب الذى جاءت به الرسل

وأما مقام اهللا على عبده ىف الدنيا واطالعه عليه وقدرته عليه فهذا يقر به املؤمن والكافر والرب والفاجر لدنيا ملا عاينوه من جمازاة الظامل بظلمه واحملسن بإحسانه، وأما وأكثر الكفار خيافون جزاء اهللا هلم ىف ا

.مقام العبد بني يدى ربه ىف اآلخرة فال يؤمن به إال املؤمن بالرسلإذا كان املعىن أنه خاف مقام ربه عليه ىف اآلخرة باجلزاء فقد استوى التقديران، فمن أين : فإن قيل

بد بني يدى ربه أبلغ من التخويف مبقام الرب على العبد، وهلذا التخويف مبقام الع: رجحتم أحدمها؟ قيل، وألنه مقام خمصوص مضاف إىل ]٦: املطففني* [}يوم يقوم الناس لرب العالمني{: خوفنا تعاىل ىف قوله

درة اهللا على وأيضا فإنه ال يقال لق. اهللا وذلك ىف يوم القيامة، خبالف مقام اهللا على العبد فإنه كل وقت .مقام اهللا، وال هذا من املألوف إطالقه على الرب: العبد واطالعه عليه وعلمه به

عسى أن يبعثك ربك مقاما {: وأيضا فإن املقام ىف القرآن والسنة إمنا يطلق على املكان كقوله :، وقوله تعاىل]٧٩: اإلسراء* [}محمودا

خير {: ، وقوله تعاىل]٢٦ -٢٥: الدخان* [}وزروع ومقام كرمي* ات وعيون كم تركوا من جن{

ولمن خاف مقام ربه جنتان يتناول { : ، واملقصود أن قوله تعاىل]٧٣: مرمي* [}مقاما وأحسن نديا :الصنفني من وجوه تقدم منها وجهان

].الرمحن* [}فبأى آالء ربكما تكذبان{: الوعدقوله عقيب هذا : الثالثوهذا واهللا ] ٥٦: الرمحن* [} لم يطمثهن إنس قبلهم وال جان{: أنه ذكر ىف وصف نسائهم أهنن: الرابع

.أعلم معناه أنه مل يطمث نساء اإلنس إنس قبلهم وال نساء اجلن جن قبلهم

Page 355: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا ال نضيع أجر من {: ثواهبم اجلنة قوله تعاىل ومما يدل على أن، وأمثال هذه ]٣١ -٣٠: الكهف* [}أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم األنهار* أحسن عمال .من العمومات

نني فيدخلون ىف العموم، كما أن كافرهم يدخل ىف الكافرين املستحقني للوعيد وقد ثبت أن منهم املؤمودخول مؤمنهم ىف آيات الوعد أوىل من دخول كافرهم ىف آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد

.عدله، وفضله من رمحته وهى تغلب غضبه

أطاع اهللا أدخل اجلنة، وأيضا فإنه ال دار وأيضا فإن دخول عاصيهم النار إمنا كان ملخالفته أمر اهللا، فإذا .للمكلفني سوى اجلنة والنار، وكل من مل يدخل النار من املكلفني فاجلنة مثواه

وأيضا فقد ثبت أهنم إذا أجابوا داعى اهللا غفر هلم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر له دخل اجلنة وال أن الرسول مبعوث إليهم [جاة من النار، وأيضا فإنه قد ثبت بد، وليس فائدة املغفرة إال الفوز باجلنة والن

ومن يطع اهللا {: ورسوله مع الذين أنعم اهللا عليهم، لقوله تعاىل] وأهنم مكلفون باتباعه وأن مطيعهم هللاقني والشهداء والصالحني وحسن أولئك والرسول فأولئك مع الذين أنعم اهللا عليهم من النبيني والصدي

، وقد أخرب سبحانه عن مالئكته محلة العرش ومن حوهلم أهنم يستغفرون للذين ]٦٩: النساء* [}رفيقاوأدخلهم جنات ربنا* فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب اجلحيم {: آمنوا وأهنم يقولون، فدل على أن كل مؤمن غفر اهللا له ووقاه عذاب اجلحيم، فقد ]٨ - ٧: غافر* [}عدن التى وعدتهم

وقد ثبت ىف حق مؤمنهم اإلميان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم، فتعني دخوهلم اجلنة، . وعده اجلنة .واهللا أعلم

هم إىل املسلمني والكفار والصاحلني ودون ذلك، فهم ىف املوازنة على حنو وإذا ثبت تكليفهم بانقساموأفضل درجاهتم درجة الصاحلني، ولو كان هلم درجة . طبقات اإلنس املتقدمة، إال أهنم ليس فيهم رسول

.أفضل منها لذكروهااإلنس بدرجة وزاد عليهم. صاحلني، ودوهنم، وكفار: فقد دل القرآن على انقسامهم إىل ثالثة أقسام

.الرسالة والنبوة، ودرجة املقربني، واهللا أعلمفهذا ما وصل إليه اإلحصاء من طبقات املكلفني ىف الدار اآلخرة، وهى مثان عشرة طبقة، وكل طبقة

وهم درجات عند اهللا، واهللا تعاىل حيشر الشكل مع شكله والنظري مع نظريه . منها هلا أعلى وأدىن ووسط .ىف الدرجةويقرن بينهما

Page 356: طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية

، قال ]٢٢: الصافات* [}احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون اهللا{: قال تعاىل .أشباههم ونظراؤهم)) أزواجهم: ((اإلمام أمحد وقبله عمر بن اخلطاب

نعمان بن بشري عن عمر بن اخلطاب أنه روى ال] ٧: التكوير* [}وإذا النفوس زوجت{: وقال تعاىلبقرن الرجل الصاحل مع الرجل الصاحل يف اجلنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل : سئل عن هذه اآلية فقال

وقال . يلحق كل بشيعته، اليهودى باليهودى، والنصراىن بالنصراىن: وقال احلسن وقتادة. السوء ىف النار .حيشر الرجل مع صاحب عمله: الربيع

تزوجيها : الثاىن. أن تزويج النفوس اقتراهنا بأجسادها وردها إليها: وىف اآلية ثالثة أقوال أخر، أحدها .أنه تزويج املؤمنني احلور العني، وتزويج الكفار بالشياطني: الثالث. اقتراهنا بأعماهلا

.والقول األول أظهر األقوال، واهللا أعلم .على سيدنا حممد وعلى آله وصحبه وسلمواحلمد هللا رب العاملني، وصلى اهللا