محمد رضوانlib1.qsm.ac.il/books/mihnat althat.doc · web viewنجيب محفوظ 2-الل...

220

Upload: others

Post on 29-Dec-2019

6 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

محمد رضوان

محنـــــــــــة الـــــــــــــــذات

بــــــــــين

السلطــــــــــة والقبيلــــــــة

البريد الالكتروني: [email protected] E-mail :

[email protected]

موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت

http://www.awu-dam.org

تصميم الغلاف للفنان : ناصر زين الدين

((

محمد رضوان

محنـــــــــــة الـــــــــــــــذات

بــــــــــين

السلطــــــــــة والقبيلــــــــة

((دراسة لأشكال القمع وتجلياته في الرواية العربية))

من منشورات اتحاد الكتاب العرب

دمشق - 2002

الإهداء

إلى رفاق الروح:

عادل...

وعد...

فواز...

حمود..، أبي.. وأمي.. و....

ماذا لو تأخرتم قليلاً في الرحيل..؟

لو انتظرتم حتى ولادة الفجر..؟

أبهذا الحجم كنتم عبئاً على الكون؟!

أَعِدُكُمْ.. سأظل مشاغباً.

حتى أدرك خطوتَكم.. الأخيرة...

محمد

***

فاتحة الكلام

إذا كان لا بد من تمهيد لكل كلام أو نص، فإنني أودّ أن أعرض تصوراً عاماً لفكرة هذا الموضوع الواسع، المتعدد الجوانب، انطلاقاً من نماذج روائية معاصرة، كمؤشر للتغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية خلال النصف الأخير من القرن العشرين. وما كان لها من ظلال ومعانٍ في مضامين الرواية وأشكالها بل وفي جميع الأجناس الأدبية الأخرى.

لقد كانت المجتمعات العربية، حتى تخوم حزيران عام /1967/، بنموها المتباين، تبدو أشبه ما تكون، في مسيرتها، بالبطل التراجيدي السائر نائماً في دروب محفوفة بالمخاطر والانهيارات؛ لكنه يحمل أملاً في انبثاق يقظةٍ تحميه من المفاجآت الموجعة.

إلا أن النص الروائي المستشعر للفجيعة وأعاصيرها، تناول جوانبها المتعددة عبر وصف تفصيلي للإنسان العربي، في إطار فضائي- زمني، تطبعه علائق القهر والقمع والحرمان والاستغلال... إلى التساؤل الساخر المتشكّك في طروحات السياسة وبريق الشعارات.

إنها رحلة طويلة حقاً، رغم قِصَر تاريخها الفني، تلك التي قطعتها الرواية العربية ما بين صوت المويلحي- وجبران(1) وهيكل، وبين شخصيات نجيب محفوظ.. وحنا مينا. ويوسف إدريس.. وعبد الرحمن منيف.. وجبرا.. وكنفاني والياس خوري وحيدر حيدر وصنع الله إبراهيم، الغيطاني.. إلخ.. إلخ- وهي ترتجف تحت وطأة القهر والقمع والتمرد؛ تبحث، عبثاً، عن صفاء قيمٍ وتقاليد رحلتْ، أو كادت، لتَخْلِفَها مقاييس وأنماط تبدو هجينة في بنية المجتمع، متداخلة كتداخل البِنْيات الاقتصادية والاجتماعية المتعثرة في حركة نموّها وتطورّها..، فجاءت فجيعة حزيران /1967/ لتعمِّد بالدم ميلاد مجتمع إشكالي، بدأت تبرز فيه الرواية العربية كصيغة مفتوحة على كل الأشكال والتيارات..، تلاحق مشاهد السقوط المفجع وانهيار بعض المسلمات ويقينياتها عبر أشلاء الأزمنة المتداخلة والمكتسِبة لمعانيها في البحث عن فضاءات جديدة للنص الروائي.

إلا أن النقد العربي الحديث، خلال حقبة لا بأس بها، شغَل نفسه بالبحث عن جذورٍ للرواية في التراث العربي لإثبات أن هذا الجديد قديم، والإلحاح على ضرورة العودة إلى الحكايات والسير والمقامات والقصص الشعبية، لاستلهامها واستيحائها، وبذلك "نحطّم الخرافة التي تزعم القصور في العقلية العربية"(2).

هذه الإشكالية الثانوية ضيَّعَتْ فرصة الحوار المبدع والخلاق مع ذلك التراث القصصي /باستثناء جمال الغيطاني/، ليس من منطلق اعتباره كنزاً يؤكد سَبْقاً في هذا الفن، ولكن بالنظر إليه في تاريخيته ومحدوديته، وفيما يشتمل عليه من عناصر تركيبية وبنائية، لها امتداداتها في التطورات القصصية، والروائية اللاحقة(3) صالحة لأن تكون مفتاحاً للحوار، بالمعنى العميق، داخل الرواية العربية الحديثة، أي وسيلة لإبراز الفروق اللغوية والفنية في البنية السَّردية للرواية.

ومهما اختلفت الآراء والتأويلات، فإن الرواية العربية الحديثة جاءت قريبة- في أشكالها ومضامينها- من الرواية الأوروبية، لأن الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية التي برزت في ما سمّي بعصر النهضة العربية، كانت تدور في فلك المفاهيم العامة للمجتمعات الغربية وقوانينها، رغم استحالة تحقيق النتائج نفسها، ومن ثم فإن الثقافة، وبخاصة في عهد الاستعمار، قد مهّدت لقيام تفجيرات أدبية فنية كبرى، تنهل من منابع ثقافية وفلسفية متباينة، تتقاطع فيها التصورات المثالية مع المفاهيم الجدلية والمادية.

لقد كان واقع المجتمعات العربية في مستهل القرن الماضي مسرحاً سريع الحركة، ومن ثم كانت الرواية العربية منذ ميلادها، منبهرةً، مأخوذة بهذا الواقع المستجد، تلاحقه لاهثة، تسجله وتصوغه في مواقف وشخصيات وأحداث، وفضاءات وأزمنة، تحاكي وتشخّص، وتصف وتسرد، متنقلةً بين التقليد والتحديث والإبداع على يد روائيين لم تكن ثقافتهم أحادية البعد، إذ هم جزء من عملية التحديث في التحولات الاجتماعية.

هؤلاء الروائيون، على اختلاف انتماءاتهم الطبقية والفكرية، سرعان ما حققوا إنجازات فنية وفكرية في واقعية الرواية العربية، ليس فقط عن طريق نظيرتها الأوروبية أو الروسية. ولا بتأثير الترجمة والاقتباس. وإنّما لكونهم يتمتعون أيضاً بإدراك الواقع وفهمه، بمعناه الواسع، وهو يقترب من مفهوم الفلسفة الأوروبية للواقع في مختلف اتجاهاته؛ أي إعطاء الأسبقية للتجربة الفردية والتقاط الظواهر بعناصرها الجوهرية، والشخصيات بسماتها المتفردة، وربط الفضاء الروائي بالزمن.. إلخ.

من هذه الزاوية يمكن القول إنَّ الرواية العربية (وأعني النماذج الجيدة منها والمتميزة) لا تكتسب واقعيتها عَبْرَ وصف الحياة العصرية الطارئة أو الوافدة، وإنما تستمدها أساساً من الشكل الذي تشيّدهُ عبر عملية بناء وهدم، واكتشاف واختراق للواقع، تضمّنها رؤية من بين رؤى أخرى ممكنة، بعيداً عن الفوتوغرافية والميكانيكية التسجيلية. ولو اعتمدنا بعض النماذج الجيدة لوجدنا أن الرواية العربية في الأربعينيات وبداية الخمسينيات، لم تكن روايات فوتوغرافية أو ميكانيكية كما يقال في أحكام عشوائية ومبتسرة، بل إن هذه الواقعية رغم دورانها في فلك الواقعية الأوروبية، قد أنتجتْ، بسبب تماسها مع الواقع العربي الخاص بها، نماذج غنية الأشكال والمضامين تتعدى الفرد والطبقة، وتكسر وهم التطابق بين العالم المشخَّص والعالم الروائي؛ كما في قنديل أهم هاشم، زقاق المدق، خان الخليلي، القاهرة الجديدة، والمصابيح الزرق.. الرغيف.. إلخ.

فهذه كلها روايات تثبت تعددية الواقع، وتعددية الواقعية، بالإضافة إلى أنها تُخرج الكاتب والقارئ من نطاق الإحساسات الفردية، وتسجيل الوعي بالزمن من خلال الذاكرة الشخصية إلى نطاق الوعي بالأشياء، والعلائق، والمحيط الاجتماعي، وكون الرواية جزءاً من منظومة ثقافية، ومن حقل أيديولوجي ما(4)- لا بد أن تصل إلى المتلقي وأن تتعرض إلى النقد والتنظير وإثارة الأسئلة والإشكاليات الفكرية، فبعد أن تجاوزت الرواية العربية الحديثة إشكالية البحث عن أصولها في التراث، دخلت في إشكالية أخرى- لا تزال موضع جدال متعدد الأطراف- هي إشكالية التنظير لها،على غرار ما حاوله "جورج لوكاتش" و "باختين" وغيرهما، وهذه الإشكالية المزمنة مصدرها قبل كل شيء طبيعة العلاقة المعقدة والمتداخلة إلى حدّ الضبابية الفكرية بين النقد العربي والنقد الأوروبي بكل اتجاهاته بما في ذلك النقد الماركسي، ثم نوعية العلاقة غير المتكافئة بين الناقد والروائي.

فبالنسبة للرواية العربية الجديدة؛ فإن جزءاً كبيراً من إشكالياتها ارتبط بفهمها للواقع والواقعية، وبطموحاتها النظرية: -في الفن من حيث التجاوز، وفي الإيديولوجيا من حيث الانفكاك الوظيفي الضيّق(5)، وأعتقد أن عدداً من الروايات الصادرة بعد /1967/ حملت مؤشرات التجاوز، ورسّخت الرؤية الواقعية من خلال أشكال فنية جديدة، مركبة، تضرب في أعماق الذات الفردية والجماعية، وتعرّي حالات القمع والقهر والزيف، وتفضح زنازين الخوف، والسلطة، والوصايا الأبوية...، وبذلك تعددت المرايا لتُظهرَ هذا الواقع المتردّي، الذي يراد له الاستمرار والتكرار، ثم لتتحول الرواية بعد حزيران/67/ إلى مرايا مخيفة وحافزة في الآن نفسه، مخيفة لمن يتوهمون أن الواقع ثابت أو خاضع لحركة دائرية، وحافزة لمن يؤمنون بالتحول وبالفعل المبدع، الخلاق، في عملية التغيير، وبهذا المعنى تظل الرواية العربية، والفنون الأخرى بشكل عام، مجال تحررٍ للمخيِّلة الفردية والجماعية- رغم الحصار النسبي عليها- ترصد التاريخ الماضي والراهن، وترسم من الداخل التاريخ الفردي والجماعي للقوى العربية الرافضة للإحباطات والهزائم، رغم صنوف القمع والاضطهاد والتغييب لتلك القوى الخفية، الكامنة في رحم التربة الوطنية والقومية.

هذه الحيوية التي اكتسبتها الرواية العربية المعاصرة من خلال قدراتها على التجاوز، ومواكبة التحولات، وصياغة النقد الجذري لأنساق الحياة. للسلطة وتشخيصاتها، هذه الحيوية هي التي ساهمت بشكل ما في بلورة الوعي المناهض للاستغلال والاستسلام، واستبداد السلطات، إلى جانب رصد التحولات الجوهرية في المجتمعات العربية بعد الاستقلال.

في القراءة النقدية للنص، تنمو الكتابة عبر علاقات متعددة ومتنوعة، لتعود إلى مراجعها الحية، فنقرؤها تارةً خارج النص، في توحّشها وتفاصيل معيشتها، في صمتها وخفائها، وتارةً داخل النص عبر جمالياتها المتعددة في اللغة والرمز والدلالة، فلا تجد الكتابة سبيلاً لها سوى أن تسأل الكتابة نفسها، يعني أن تقرأها من موقع بنيتها، لتثير تلك لعلاقة الجدلية بين الداخل والخارج.. بين الذات والعالم.

أن تسأل الكتابة عن قولها، عن موقعها في الزمن والفن يعني أن تقرأها تحليلاً ونقداً، وليس نقلاً عن راهنيتها وفوضاها، إنما تقولها صياغةً تشارك في خلقها من جديد، عبر عملية بحثٍ وسبرٍ واكتشافٍ، تضيء ما خفي من جماليات الكتابة ومدلولها، ثم تعرّي أسئلة الكتابة في محاولة الإجابة عليها.

في هذا الإطار تأتي الرواية العربية- من بين الفنون الأخرى- أكثر غنىً وتنوعاً في تناول القمع- موضوع هذا البحث- وتجلياته في الواقع الموضوعي والواقع الروائي(6)-.

وقبل تناول هذه الأعمال لا بد من التنويه إلى أن النماذج الروائية التي سيتناولها هذا البحث، لا تنتمي إلى جيل واحد. غير أن المرجع الذي استمدتْ منه الروايات مناخاتها وفضاءاتها الروائية، هو مرجع متقارب وذو إشكالية مشتركة تطمح إلى بناء مجتمع عربي متقدم- عبر عملية هدم واختراق- تسوده العدالة والحرية، وينتفي منه القهر والكبت والاضطهاد.

إن الواقع الموضوعي براهنيّته المستمرة بالحاضر، وربما بالمستقبل، يغمر الواقع الروائي كعلامة فاصلة بين ماضٍ يبدو فاقداً لقيمته ومعناه، بسبب من تدهور الحاضر، ومستقبل مشكوك في نهوضه وإشراقه، نتيجة استمرار نفس البنى المنهزمة، أو ثبوت عجزها.

إن هذه الملاحظة لا تُعتبر انتقاداً يخص النماذج الروائية التي سأتناولها، بقدر ما هي طرح لقضية نظرية تتصل بالرواية ككل، فالرواية تستمد مادتها من الماضي والحاضر، ومن الجدلية المجتمعية عبر تبدلات الإنسان داخل صيرورة مفتوحة على المستقبل، وهي مشدودة إلى التقاط التعدد الاجتماعي من خلال اللغة والصراع.

إن التحام الرواية بالجدلية المجتمعية وقدرتها على استيعاب بقية الأجناس الأدبية كعناصر، يعطيانها إمكانيات لا محدودة من حيث الشكل وتفريعاته؛ ويمثل التراث القومي والإنساني أرضية خصبة، منح الرواية العربية أشكالاً ارتقت بها إلى مصاف العالمية.

إلا أن المسألة لم تنحصر في ابتكار شكل عربي للرواية فحسب وإنما تمثلت في تطوير التجربة الروائية وتنويعها(7) للنفاذ إلى أعماق المجتمعات العربية من زاوية أساسية: هي الكشف عن الوعي الممكن، المغيَّب، والوعي القائم، متجاوزة ترديد الخطاب الأيديولوجي التبشيري..، فتميزت كعمل له استقلاليته الذاتية، وكشكل ينسِّب المضامين ويشخصها في بُنىً ورؤى متصارعة تستهدف الكشف عن المعوقات الحائلة دون نهوض وعي ممكن لدى السواد الأعظم في المجتمع، حتى يكون التغيير شاملاً وعميقاً، يحرِّر الإنسان العربي من الاستغلال، والقمع، والكبت، والحرمان، ويعتقه من التبعية وعبادة الشخصيات، ووهم المحرّمات من خلال تأصيل وعيه بالأرض والتاريخ والحرية.

وفي ضوء ذلك سأتناول نماذج روائية متميزة، ظهرت خلال الأربعين عاماً الأخيرة، تطرقت- عبر بناء الشخصية الروائية(8)- إلى موضوع القمع وتجلياته في المجتمعات العربية، وكيفية التعبير عنه فنياً، بتقنيات متعددة.. تنوعت فيها أساليب السرد الروائي: من واقعيه متعددة الاتجاهات، إلى تجريبية ديناميكية متحركة تحاول السّطو على الفنون الأخرى لخلق نصٍّ نوعي جديد من الكتابة. لم تستقر سماته الفنية بعد، في حين أن ظروف القمع والقهر والاستغلال، وكبت الحريات تتجلى في رؤية روائية مبطنة، تتمثل بمسار جماعي لآلية القمع، بموجبها يمحو الروائي شخوصه، موحياً أن ظروفاً كهذه لا تتيح للفرد النمو. هكذا نجد الفرق- على سبيل المثال- بين شخوص "توفيق يوسف عواد" في /طواحين بيروت/ وبين شخوص "غسان كنفاني" في /رجال في الشمس/. لكن هذه الفروق يمكن أن تتوضح أكثر من خلال تعرّفنا على نماذج روائية أخرى قد تسعف في إثارة الحوار من جديد للمساهمة في مشروع رؤية نقدية للرواية العربية.

ولا شك أن الموضوع- موضوع القمع- قد شغل حيزاً مهماً في الرواية العربية(9). إذ لا تخلو التجربة الروائية لأي كاتب عربي من تلك التي تناولت مشكلة الحرية عبر تجليات القمع والقهر والاغتراب: في السجون، والمطاردة البوليسية، في الحصار الخانق والمنافي في الأقبية المجهولة والصحارى البعيدة المنسية، في التشويه الجسدي والموت استشهاداً، وفي الهجرة داخل الذات وخارج الوطن. في آلاف الأقنعة من الأسماء المستعارة، وفي العزلة الإجبارية عن الحرية وممارسة الحياة في حدودها الدنيا...

فماذا قالت الروايات...؟

***

نجيب محفوظ

1-القاهرة الجديدة()

لا شكّ أن شعوب العالم أجمع قد عانت، عبر العصور من ويلات العبودية بمختلف أشكالها وألوانها، ومن بينها تلك المأساة المصرية التي عبّر عنها نجيب محفوظ.. بدءاً من ((القاهرة الجديدة)) حتى مرحلة الصمت (10).

فالمأساة الإنسانية هي الصراع غير المتكافيء بين الإنسان والطبيعة.. بين الإنسان والمجتمع.. بين الإنسان والسلطة، بمعنى أن أحد الطرفين يحمل فكرة قمع الآخر أو قهره وإذلاله، ثم الانتصار عليه.

ولمّا كان هذا الصراع هو السمة الأساسية لتاريخ البشر فإن الحس المأساوي، القمعي، هو الغالب على بقية أحاسيسهم، وقد ظلّ الفن، منذ العصور الأولى للإنسان، يعبر عن مقاومته الدائبة لهذه المأساة، تعبيراً ملحمياً أو ذاتياً، يحيط بجملة من الطقوس الاجتماعية والظروف التاريخية الصانعة له.

ونجيب محفوظ، بصدقه الفني في اختيار "الشكل الملحمي" لأعماله /من القاهرة الجديدة حتى السراب/ 1948/ كان تمهيداً طبيعياً لاختيار "الشكل الروائي" في الثلاثية، التي أعلنت ميلاد البطل التراجيدي في الأدب العربي(11)، مختاراً البورجوازية الصغيرة في بنائه الملحمي، كونها أوسع الشرائح الاجتماعية في مصر.

والقاهرة الجديدة هي (الحلقة الأولى في التكوين الملحمي)() لأعمال محفوظ الروائية، وللعنوان دلالته الاجتماعية والسياسية لطبيعة المرحلة التاريخية التي عاشتها مصر ما بين الحربين الأولى والثانية: حالة من الضياع والبطالة والانحلال، والبؤس عبر آلية القمع الجماعي الذي يبدو تلقائياً، بين أحضان الاحتلال وهيمنة العلاقات الإقطاعية. والقاهرة الجديدة.. هي كل ذلك بما تتضمنُه من تناقضات في البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بشكل عام، والبناء الإنساني لمختلف الفئات بشكل خاص.

إلا أن القمع المشخّص (بالضياع الاجتماعي) في (القاهرة الجديدة) لم يقف حائلاً دون دخول الفتيات إلى الجامعات، أو يمنع الحوار والمناقشات الخصبة بين الشباب حول الأفكار "الجديدة"، وقد رأى بعض الباحثين أن الحوار الدائر في مقدمة الرواية، بين الطلبة، ما هو إلا وصف لا يخدم البناء العام لعدم وجود صلة بينه وبين ما يليه من أجزاء...(12).

وفي اعتقادي أن تلك المناقشات الدائرة بين الطلبة الجدد لم تكن زائدة عن بنية السرَّد الروائي- كما استنتج الناقد- إنما هي إيماء واضح بوحدة القضايا التي تشغل أفكار الطلبة الجدد، وعلى وجه الخصوص مشكلة المرأة، وما تحتله من مكانة معقدة في المجتمع الذي يعيش- آنذاك- أزمة تحولات شمولية(13). وقد جسّد الكاتب تلك الأزمة في تناوله بنية المجتمع "الجديد" باختياره أولئك الشباب الذين يمثلون كافة الشرائح الاجتماعية والسياسية في "القاهرة الجديدة" في ذلك الحين، مقدماً "محجوب" كنموذج لتجسيد القضية الأولى: قضية المرأة لدى الجيل الجديد من الطلبة، و"مأمون رضوان" نموذج الانتماء إلى اليمين، و"علي طه" المنتمي إلى اليسار، وأخيراً "أحمد بدير" نموذجاً يرمز إلى شريحة واسعة لا تهتم بالانتماء لأيٍّ من التيارات السياسية أو غير ذلك، ولا تمتلك أفكاراً واضحة، لكنها تتجه نحو الحياة العملية، وتسعى دائماً للابتعاد عن مشكلات الانتماء؛ لذا نراه /أحمد بدير/ يعمل في الصحافة مستفيداً من موقعه في إقامة علاقات مع الشريحة العليا، المتنفذة في السلطة والمجتمع، تلك الشريحة التي كانت تنشر الفساد والقهر، والتي كانت سبباً لسقوط "محجوب عبد الدايم" كما سنرى.

ويمكن القول إن هذا النموذج: "نموذج محجوب" قد شغل حيزاً كبيراً في أدب نجيب محفوظ بعد "القاهرة الجديدة" فنتعرّف إليه عبر شخصية المُعلِّم كرشه في زقاق المدَق، ورؤوف علوان في اللص والكلاب، ومصطفى المنياوي في الشحّاذ... الخ.

إن تسليط الضوء على نموذج "محجوب عبد الدايم" مكّن نجيب محفوظ من تعرية المجتمع، وفضح مكامن الفساد فيه، من خلال القامع والمقموع:

ففي "القاهرة الجديدة" تنمو آلية القمع والاستلاب، حيث أفرزت حالة من الضياع الاقتصادي والتيه الاجتماعي، أدّيا إلى خللٍ مريب في البنية الفردية نفسياً وسلوكياً، ممّا خلق مناخاً ملائماً للقهر السياسي والفساد الاجتماعي.. عبْر تشابك العلاقات بين فئات البورجوازية المختلفة والفئات الأخرى، أدّى إلى مزيج من التناقض بين القاهرتين: القديمة والجديدة، فتنمو مأساة الحرية لدى أبطال محفوظ بشكل متداخل ومعقد، لتحوّلهم إلى دُمى ضائعة، يشكل القمع الداخلي الشريان الرئيسي في حياتهم.

لقد ترك "محجوب عبد الدايم" الجامعة بحثاً عن وظيفة أو عمل يكون نافذة للنجاة من السقوط، له ولأسرته، -بعد الشلل الدائم للأب-، حيث بدأت تواجهه مشكلات المجتمع المصري(15)، وهذه المشكلات في إطارها العام، هي نتاج حالة قمعية تتجلى في عملية الاستغلال الاقتصادي والفساد الاجتماعي للإنسان، حيث كان الحصول على وظيفة أمراً عسيراً، يستلزم مواقف تكشف الفساد وتواجهه بالرفض، أو تستسلم لـه بتقديم تنازلات شتّى للحصول على هذه الوظيفة، وقد كانت شروط التعيين تفضح آلية القمع كنتيجة لحالة الفساد في أرض المأساة لأمثال "محجوب عبد الدايم". قال له أحد المسؤولين: "اسمع يا بني تَناسَ مؤهلاتك ولا تضع ثمن الاستخدام.. المسألة لا تعدو كلمة واحدة ولا كلمة غيرها: لديك شفيع..؟ أأنت قريب أحد ممن بيدهم الأمر..؟، أتستطيع أن تطلب يد كريمة أحد رجال الدولة..؟ إن أجبت بنعم فمبارك مُقدَّماً، وإن أجبت بكلا فلْتولِ وجهك وجهة أخرى" ص 81-82.

لقد أيقن أن هذه الطريقة مسدودة أمامه، وأدرك مرارة الإخفاق في إيجاد الوسيلة للعمل متسائلاً "أأموت جوعاً..؟". غير أنه تعرّف، من خلال بحثه الدائب، على أسلوب آخر للتعيين يكشف عن بؤرة فساد أخرى في الدولة والمجتمع: "نظر إليه الإخشيدي نظرة غامضة وقال: أرجو أن تكون رجلاً عملياً، وأن تحسن فهم الدنيا، وأن تعلم أن كل فائدة بثمن..، هناك مثلاً عبد العزيز بك راضي..، الطريق ميسور، ولكن ينبغي أن تعلم أنه يأخذ ممن يعيّنه نصف مرتبه لمدة عامين بضمان" ثم تابع: "أو فنانة مشهورة لها نفوذ في وزارة الحربية والدوائر الكبرى.. والأسعار كما يلي: الدرجة الثامنة ثلاثون جنيهاً. والسابعة أربعون والسادسة مائة جنيه. والدفع فوراً" ص 84-86.

ثم يكشف الكاتب أن "عبد العزيز بك راضي" ذاهب لتأدية فريضة "الحج" للدلالة على آلية القمع المبطنة ليس بالسجن والنفي والتعذيب. إنما بآلية أشدّ قبحاً وخطراً آلية خادعة، متستِّرة.. بقيم وطقوس اجتماعية أفرزتها الحقب التاريخية السابقة عبر آلية الطاعة العمياء، وإلغاء الحوار، وعدم الاعتراف بالرأي الآخر.

بدا محجوب عبد الدايم مهزوماً أمام ضنك الشّلل الاقتصادي الذي ألّم بأسرته، ولم يجد سبيلاً للوصول إلى الوظيفة /قارب النجاة/ سوى التعامل بالأساليب التي كانت تسود مجتمعه، فامتدح ينافق سالم بك الإخشيدي بخطبة قال فيها:

"يا سالم بك أنت جار قديم.. وأستاذنا في العلم والوطنية على السواء... لهذا أقصد إليك كبير الرجاء، يا سعادة البك الشهادة من غير شفاعة أرخص من ورق اللحم، فهل آمل أن تلحقني بوظيفةٍ ما..؟" ص 84.

عبر هذا التملّق الاجتماعي المكتسب، يورد المؤلف حواراً طويلاً بين سالم الإخشيدي ومحجوب. يكشف من خلاله احتقار الإخشيدي لزميله القديم، والاستخفاف به عبر مزيد من فضح آلية الفساد والقمع والاستلاب الروحي والأخلاقي داخل المجتمع المصري- بل والعربي- قال لمحجوب ضاحكاً:

"لستَ بالفتى الأمرد، ولا أمك بالفاتنة اللعوب فما عسى أن أصنع أنا..؟" ص 86.

ثم يقدم نجيب محفوظ هذه الشخصية المتواطئة- سالم الإخشيدي- التي تتاجر بمصائر البشر، مستغلة أضعف الحلقات وأخطرها، ألا وهي /الحلقة الاقتصادية/ في حياة الأسرة، ونكتشف أن الإخشيدي كان زميلاً لمحجوب في مرحلة الدراسة وكان زعيماً خطيراً من زعماء الطلبة، من أبطال لجان المقاطعة وموزعي المنشورات ضد الدستور، ومما يذكره محجوب ولا ينساه أن الإخشيدي دُعي يوماً لمقابلة الوزير فذاعت عن المقابلة الأقاويل وتوقع كثيرون أن يقع اضطهاد وبغي، ولكن الفتى انقلب فجأةً، وانسحب من ميدان السياسة كله، وتوقّف نشاطه الذي لم يكن يعرف الحدود، ولم يعد يُرى إلا في المحاضرات. فإذا واجهه أحد بسؤال عن سرّ انقلابه أجابه ببروده المعهود: ميدان الجهاد الحقيقي للطلبة: العلْم" ص 33.

هذا النموذج المرتد، ثم المتواطئ المفسد، يعدّ أول نموذج مبكّر في الرواية العربية يقدمه نجيب محفوظ كنموذج للسقوط وضحية للقمع، عبر التعذيب الجسدي والضغط والإغراءات أو غير ذلك من أساليب القمع المتعددة.

وفيما بعد سيتابع نجيب محفوظ- كما نوّهتُ سابقاً- تقديم نماذج كالإخشيدي، في "زقاق المدق" المعلم كرشة الذي كان وطنياً وانقلب تاجراً في الانتخابات، وكذلك رؤوف علوان- الثوري المرتد- في اللص والكلاب، وكان قد مهد محفوظ لمرحلة ما بعد اللص والكلاب، برائعته الملحمية "أولاد حارتنا" التي عبّرت عن المعنى الكبير لانتكاس المبادئ وأسباب الانتكاس. فقد كانت المأساة في "أولاد حارتنا" تكمن في سرعة التخلي عن المبادئ وعدم الحفاظ عليها عبر حالة من النسيان- خلل الذاكرة الشعبية والفردية على حدّ سواء.

لقد جاء استعراض الخلفية التاريخية لماضي "سالم الإخشيدي" ليؤكد على عوامل الفساد التي تقاوم وتحارب دائماً العناصر الوطنية والقيم الإنسانية والأخلاقية، وتقمعها عبر آلية القمع المبطنة داخل المجتمع في سبيل إفساده. هذا الوضع لا يتيح للذات المقموعة أن تتحرك إلا ضمن حلقة متخصصة في الزيف، أو ضمن حلقة الضحية لاصطيادها وللإيقاع بها.

إن اختيار شخصية الإخشيدي كحلقة وصل في البناء الدرامي. هو اختيار غاية في الدقة؛ فالإخشيدي الشاب الذي ترك قيادة المظاهرات، وزعامة الطلبة، بعد مقابلة خاصة مع الوزير، ثم عُيّن بوظيفة هامة قبل الأوائل بتوصية من الوزير شخصياً /ص 34/. هذا الشاب هو نفسه الذي عرض على "محجوب" زميله، للخروج من مأزقه الاقتصادي ومأساته الأسرية، وظيفة لدى "قاسم بك فهمي" مقابل أن يتزوج عشيقة ذلك البك: دعوة إلى السقوط واللحاق بركب من سقطوا في النفق.

ولأن محجوب المقموع، الضائع، هو من نفس طينة الإخشيدي، يتردد في البداية في قبول الصفقة، لكنه تردُّد الضائعين، الذين يرجحون السقوط والانهيار على التماسك والانطلاق من جديد؛ ولا شك أن الفقر وحياة الحرمان التي عاشها محجوب ساهما في تحويله إلى إنسان يستبيح الإقدام على أيِّ شيءٍ في سبيل الخروج من أزمته؛ الأزمة التي جعلته يرفع شعار "طظ" أي شعار اللامبالاة في وجه المثل والمبادئ محدثاً نفسه:

"سأكون أي شيء، ولكن لن أكون أحمق أبداً، أحمق من يرفض وظيفة غضباً لما يسمونه كرامة، أحمق من يقتل نفسه في سبيل ما يسمونه وطناً، أحمق من يضع لذة لأي وهم من الأوهام ابتدعته الإنسانية... وليكن لي أسوة في الإخشيدي، ذلك الفتى الأريب، ظفر بوظيفته لأنه خائن، ورقّي لأنه قوّاد، فإلى الأمام.. إلى الأمام" ص 112.

على هذا النحو يتجلى القمع في "القاهرة الجديدة" ليأخذ شكل الضياع والسقوط ثم الانقلاب بشكل وحشي على كل القيم والمبادئ الإنسانية، لتتعدّد أوجه المأساة في المجتمع: مأساة الخبز والجنس والحرية، ليبرز السؤال المؤرق لجميع الشخصيات الروائية في نهاية مفتوحة، تخاطب المستقبل الغامض، المجهول، بشيء من القهر والهزيمة والانتظار: "ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟".

بعد هذا العرض المفتاحي السريع للرواية، نستطيع القول أنها قدمت رؤية انتقادية جادة في تصوير الواقع الذي عاشته مجموعة من طلبة الجامعة في مصر الثلاثينات (1934) وهي نفس السنة التي تخرج فيها الكاتب من كلية الآداب- قسم الفلسفة، كما تخرّج أبطاله "علي طه" و"مأمون رضوان" من نفس القسم بالكلية(16).

وفي الوقت نفسه لم تبلغ درجة كافية من النضج الفني والعمق الفكري لجدلية المجتمع، وقد يرجع سبب ذلك إلى رؤية المؤلف المسطحة مع شيء من الصنمية- آنذاك- للقاهرة الجديدة، في إخضاع شخصياتها خضوعاً كاملاً لمجموعة من الثوابت منها:

1ً-النظرة المطلقة إلى فساد الطبقة الأرستقراطية، فهي تبدو فاسدة بشكل كامل ونهائي، ومطلق، فساداً لا بداية له ولا نهاية، لا ينمو ولا يتطور، ولا يقبل صراعاً أو ندماً، مما جعل الشخصيات الروائية تخضع لهذه النظرة فتُفْسَد بشكل نهائي ومطلق، وكأن الفساد سمة غريزية ثابتة وقدر يولد به الإنسان كاملاً وبشكل نهائي أيضاً غير قابل للتطور أو التعديل..، مما يجعل المرء يتساءل: ألهذا القدر يكون محجوب عبد الدايم فاسداً هذا الفساد المطلق..؟ رافضاً كل القيم والمبادئ، ومثله الإخشيدي..؟!.

2ً-تقودنا النظرة المطلقة للمؤلف إلى رؤية نمطية ذات نسقٍ واحد، منذ البداية وحتى النهاية، محكومة بالمواجهة المباشرة للواقع، ذات طابع انتقادي، غلب عليه روح الخطابة والتقريرية، والوعظ، على ضوء النظرة المطلقة لكل شخصية، مما أضعف بناء الشخصية الروائية المتماسكة فنياً، بينما احتجز المؤلف كل شخصياته في قبضة حديدية صارمة وسيَّرها كما يشاء عبر نسق قيمي أخلاقي وفني واحد.

3ً-في ضوء ما سبق تتصف رؤية المؤلف في "القاهرة الجديدة" بالنزعة الأخلاقية الصارمة، وعلى الأخص في النهاية التي وصل إليها "محجوب عبد الدائم" فقد انتهت انتهازية ذلك الشاب إلى انهيار كل عالمه، مما دفعه إلى التفكير بالانتحار، وهذه النهاية تتناقض والقضية التي تطرحها الرواية بأسرها، لأنها تعبير عن صعوبة إفساد المجتمع إفساداً كاملاً.

4ً-لا يختفي دور القدر في "القاهرة الجديدة" بصورة كاملة ولا في غيرها من روايات نجيب نحفوظ، وكأن آلية القمع والاستلاب تتمثل في الموت الفجائي والاعتباطي الذي يصيب شخصيات نجيب محفوظ. فقد كان للآباء النصيب الأكبر من هذا الموت؛ فالأب في معظم أعمال محفوظ يموت في بداية الرواية، وقد يموت معنوياً حين يُصاب بمرض يقعده عن الكسب والإنفاق على الأسرة، كما حدث لوالد محجوب في "القاهرة الجديدة"، وقد يموت في اختفائه من أول الرواية – زقاق المدق – الطريق -، وقد يموت فعلاً بسكتة قلبية – بداية ونهاية.

5ً-يسيطر المؤلف على الأحداث وحركتها في "القاهرة الجديدة" سيطرة كاملة. يوجهها كما يريد بصورة قسرية، بعيداً عن التلقائية، التي ينبغي توافرها في العمل الفني: ويفرض عليها الحوار والنطق بما يشاء لها أن تتكلم، يحذف من الصورة ما لا يعجبه ويضيف إليها ما يروق له.

6ً-تبلغ آلية القمع، المبطنة بحالة الاستلاب، ذروتها، في الصورة القاتمة التي تقدمها الرواية، بانعدام وجود المرأة العادية الطبيعية، فكل نسائها ساقطات ومنحلات، والمرأة الوحيدة التي تنجو من هذه اللعنة هي أم محجوب عبد الدايم، ورغم ذلك فقد أغرقها المؤلف بالمآسي، فهي لا تخلع السواد لموت طفلتيها بالحمى، ثم إصابة زوجها بالشلل؛ وفي النهاية تفقد ابنها الوحيد بسقوطهِ سقوطاً كاملاً.

غير أن المؤلف – في أكثر النماذج النسائية التي برزت في رواياته اللاحقة – أخذت شكل العطف والشفقة لديه – فيحوّلها إلى ضحية من خلال كشف عناصر الاستغلال والانتهاز.. المؤدية إلى حالة البؤس المبطنة، التي عانتها مع أخوتها السبعة الصغار(17).

7ً-تتحرك شخصيات الرواية في القاهرة الجديدة وتنمو في عالمين متناقضين لا سبيل إلى اللقاء بينهما، عالم أرستقراطي قمعي يمثله الأغنياء والأثرياء من رجال الحكم والسلطة وذوي النفوذ؛ وعالم الطليعة المثقفة من الفئات الوسطى في المجتمع تمثّل بطلبة الجامعة؛ ويختلف أسلوب المؤلف في تناول شخصيات كل من العالمين؛ فنحن نواجه في العالم الأول كابوساً قدرياً حالك السّواد، محكم الإغلاق على نفسه، لا يُعرف له بداية ولا نهاية، ولا نجد لفساده – في الرواية – مسوِّغاً واضحاً وكافياً. ويبدو كأن الفرد من هذه الطبقة يولد محمَّلاً بكل صفات هذه الشريحة الفاسدة، ليتحوّل فيما بعد إلى كابوس قدري، يسيطر على مصير البلد، ويُحْكِم قبضته على مقدراتها.

فالمؤلف يتعامل مع شخصيات هذه الطبقة ككتلة واحدة متجانسة، لا اختراقات ولا خصوصية لأفرادها؛ وليس لفردٍ من هذه الطبقة حضوره المستمر في الرواية. إنما كان حضوراً مستتراً، يعبر عنه الفساد الذي يسود مجتمع الطبقة، وآلية القمع الخفية التي تمارسها على الآخر، باستثناء شخصية "عبد العزيز بك راضي" تلك الشخصية التي تدّعي عكس حقيقتها متسترة بأداء فريضة الحج، بينما هي في حقيقة أمرها تتميز بنهم جشع، وتوقٍ إلى الملذات والاستغلال عبر المظاهر الكاذبة؛ للوصول إلى المال: معبودها الوحيد، لذا فهي مستعدة للحصول عليه بكل الوسائل حتى لو باعت كل شيء: الشرف. والعرض والكرامة، والدين والوطن.

أما في الجانب الآخر من عالم القاهرة الجديدة، فيركّز المؤلف اهتمامه على طليعة المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى في المجتمع بصورة تدعو إلى التساؤل والاستغراب؛ فهو لا يتعامل معهم ككتلة واحدة.. ذات ملامح متشابهة كتلك الصيغة التي تعامل بها مع شخصيات العالم الأرستقراطي، فقد تعامل معهم كأفراد، لكل منهم نزعته الفردية المستقلة، وهذا أمرٌ طبيعي في تناول الشخصيات الروائية ذات الملامح المتعدّدة المتباينة في مجتمعٍ انتقالي.. تسوده علاقات المجتمع القديم.

لكن المؤلف لا يدع هذه الذات تنمو بشكل تلقائي لتكشف عن نفسها من خلال الحركة والفعل. بل يقدم الشخصيات مهيمناً عليها منذ البداية عَبْرَ تقارير وصفية مطوّلة، يحدد فيها بشكل عام الملامح الشخصية نفسياً وجسدياً.. بطريقة تبدو قسرية أحياناً، وهذا لا يغني الشخصية الروائية فنياً ولا يمنحها حرية الحركة والفعل والنمو والتبدّل عبر الأزمنة والأمكنة.

8ً-أخيراً كان لا بد من الإطالة في الحديث عن هذه الرواية كونها تمثل نقلة إيجابية واضحة المعالم في أسلوب نجيب محفوظ الروائي – زمن كتابتها – في تخلّصه من أسلوب "الحكاية الشعبية والحدوته" وابتعاده عن صيغ "البلاغة الشكلية" التي تجد جماليتها بذاتها، فتفقد اللغة هدفها ووظيفتها كأداة للتوصيل، وكونها أيضاً بداية المرحلة الواقعية لدى محفوظ، إلى جانب بداية التكوين الملحمي لأعماله الروائية اللاحقة – كما ذكرت سابقاً – بدءاً من خان الخليلي. زقاق المدق – بداية ونهاية – السراب..(18)، وصولاً إلى الثلاثية، قمة أعماله، ثم رائعته "أولاد حارتنا"، ثم لنبدأ مرحلة جديدة في أسلوبه وعالمه الروائي بدءاً من "اللص والكلاب" وما تلاها من أعمال خالدة لهذا الكاتب الكبير.

***

نجيب محفوظ

2-اللّص والكلاب()

بعد مرحلة الصمت، ظهرت "أولاد حارتنا" لتعلن انطلاقة فنية تجريبية جديدة لنجيب محفوظ، قدّم بعدها أعمالاً روائية مهمة تحمل بعدين يتفاعلان على نحو غاية في التعقيد:

-البعد الفكري المجرّد والواقع الحي، الكثيف بكل أثقاله.

والعلاقة بين الفكر المجرد والواقع المجسَّد هي محور البناء الروائي في المرحلة الجديدة، لكن يصعب الحسم بأن هذه العلاقة تشكل العنصر الوحيد في البنية التعبيرية الجديدة التي أبدعها محفوظ بوحيٍ من أفكاره المسبقة والواقع المتغيّر معاً.

لقد صاغ نجيب محفوظ روايته الكبيرة "أولاد حارتنا" صياغة ملحمية تناولت – رغم نكهة التاريخ فيها – حاضر الإنسان المعاصر من وجهة نظر المستقبل، وإمكانية الانتماء إلى الغد، حاملة معنى الانتصار في خاتمتها المتفائلة بقرب انبثاق عصر الأعاجيب، تلك الخاتمة الملحمية التي وضعها محفوظ لروايته فحلّ المشكلة الميتافيزيقية من خلال حلّه للمشكلة الاجتماعية (19).

وفي "اللص والكلاب" أجرى نجيب محفوظ أول اختبار لهذه الرؤية الفكرية والفنية في مجال الواقع الحي والمعاش؛ - خاصة بعد إعلان قوانين التغيير الاجتماعي والاقتصادي الصادرة في يوليو – تموز 1961 – لتنتقل من البناء الملحمي إلى قلب التراجيدايا مباشرة. ذلك أن التغيير المفاجئ في قرارات يوليو تمّ في مناخٍ معقد شديد الاضطراب، في ظل غياب التنظيمات السياسية "التي كان يمكن أن تقود الجماهير إلى الأمام: نحو الاشتراكية"، لكن سلطة القرارات الفردية أدت إلى مزيد من القمع، والإمعان في إذلال الإنسان وقهره، فانتفتْ الحرية من الحياة العامة ودُفنتْ الديمقراطية تحت أحْذية الأجهزة القمعية في السلطة.

في هذا المناخ يكتب نجيب محفوظ روايته متَتَبِّعَاً فكرة انتكاس القيم في "أولاد حارتنا" ليعيد تقديمها من خلال آلية القمع التي أخذت شكلاً جديداً من الزيف، وخيانة المبادئ؛ ثم الانتقال من مصاف الجماهير إلى جهاز السلطة القمعي، تلك البنية التي كانوا يحاربونها قديماً ثم انقلبوا إلى صفوفها، متنكرين لمبادئ الاشتراكية والنضال، ورفاق الأمس.. ليقع "سعيد مهران" في أزمة عنيفة بين "المثل الأعلى" [الذي فتح أمامه آفاق المعرفة وأجّج فيه روح الثورة والتمرد، ثم فجأةً ينضمّ إلى صفوف الطبقة الجديدة متنكراً وخائناً]، وبين الوجه الرابض في أعماقه للكتاب والمسدس "أداة المعرفة والثورة".

يقدم لنا محفوظ هذه الرواية من خلال شخصية واحدة هي "سعيد مهران" الذي نتعرف عليه وعلى ماضيهْ الذي سيتشكّل الحاضر على ضوئه، ويستخدم المؤلف "تيار الوعي" كأسلوب مناسب لعرض أزمة الإنسان المقهور داخل مجتمعه مستعرضاً أسبابها الحقيقية. ومن خلال ذلك نكتشف أن سعيد مهران كان يعمل في أحد بيوت الطلبه، مما تسنّى له الاختلاط بوسطٍ أتاح له قدْراً من المعرفة والوعي..؛ ومن جملة من تعرّف عليهم كان الطالب "رؤوف علوان" ذو الفكر التقدمي الذي يقود تنظيماً سرياً من الشباب؛ وقد وجد في سعيد مهران ملامح طبقية متميزة من واقع الظروف المعاشة، جديرة بالعطف والرعاية والنمو والتبنيّ لقضايا تلك الطبقة.

ولهذا قرَّبهُ إليه، وعلّمه القراءة. واستمع سعيد بدهشةٍ وإعجاب إلى كلمات يسمعها للمرة الأولى في حياته.. إذ حدثه عن الشعب.. العدالة.. النار المقدسة.. الثورة.. الجوع.. التمرّد.. إلخ، وتوج هذا الإعجاب يوم اعتُقل "رؤوف علوان" بسبب محاربته أشكال القمع التي تمارسها السلطة. فارتفع في نظر سعيد إلى مصاف الآلهة، صار مثله الأعلى.

غير أن سعيد مهران يقع فريسة في أول مواجهة حادة بينه وبين المجتمع: مرضت أمه ولم يستطع توفير نفقات العلاج لها، وبلغت أزمته ذروتها حين طرد من المستشفى الذي لجأ إليه في محاولة إسعافية لإنقاذ حياتها، وقد "وجد نفسه وأمه وحيدين في الطريق المسقوفة بالأغصان. وعقب شهر من الحادث ماتت الأم في قصر العيني". إنها آلية القمع الاقتصادي الذي لا يمكن أن يمنح العلاج مجاناً، وسعيد مهران لا يملك شيئاً.

ولهذا لم يجد غضاضة في امتهان السرقة، وقد فعل ذلك لأول مرة أثناء مرض أمه، قبل شهر من موتها.

آنذاك فلسف له "رؤوف علوان" تلك السرقة قائلاً: "لا تخف، الحق إنني أعتبر هذه السرقة عملاً مشروعاً" وما هذا السلوك سوى ثورة على المجتمع والسلطة (20)، لكنه استدرك محذراً "سعيد" قائلاً: "ولكنك ستجد البوليس لك بالمرصاد ولن يتسامح القاضي معك مهما تكن بواعثك، فهو أيضاً يدافع عن نفسه /ص 4/.

تلقى سعيد كلماته بالتقديس والطاعة لتعاليم "القائد الثوري"، زارعاً بذور الانتماء الثوري في نفسه: "المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران. المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك /ص 62/.

وذات مساء سأله: "سعيد ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟" ثم أجاب نفسه على السؤال دون انتظار جواب: "إلى المسدس والكتاب. المسدس يتكفّل بالماضي والكتاب للمستقبل، تدرَّب واقرأ" /ص 62/.

ويسأله بإعجاب: "سرقتَ..؟ هل امتدت يدك إلى السرقة حقاً..؟، برافوا.. كي يتخفّف المغتصَبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد لا تشكّ في ذلك" /ص 62/.

ثم يلخص فكرته "الثورية" قائلاً: "أليس عدلاً أنّ ما يؤخذ بالسرقة فبالسرقة يجب أن يُسترد" /ص 114/، ثم لكي تصبح السرقات ذات محتوى سياسي واجتماعي، يقول رؤوف علوان: "سرقات فردية لا قيمة لها، لا بد لها من تنظيم" /ص 124/.

هذه الرؤية التمردية تضعنا أمام "الثوري" رؤوف علوان الذي يطمح إلى تغيير النظام القائم تغييراً شبه جذري. إذ يرى رؤوف علوان في الطبقة التي ينتمي إليها سعيد مهران، إمكانية التمرد على آلية القمع والاستلاب، ثم التقدم والصعود لتجاوز الواقع الراهن، الذي يتسم باستبداد الطبقة الحاكمة.

نكتشف عبر هذا اللقاء – بين رؤوف وسعيد – إرادة التغيير، وصدق الانتماء والتحالف بين الطليعة الواعية والطبقة الصاعدة.. لتحقيق التمرّد والثورة.

ومنذ ذلك اللقاء لم يكف سعيد مهران عن القراءة والسرقة؛ والسرقة كأسلوب للتعامل مع آلية القمع والاستلاب في الواقع الراهن؛. يقول سعيد مهران محدثاً نفسه: "ولم أكف عن القراءة والسرقة بعد ذلك، وكنت ترشدني إلى الأسماء الجديرة بالسرقة، ووجدتُ في السرقة مجدي وكرامتي /ص 125/.

غير أن "سعيد" يُلقى عليه القبض، ويدخل السجن لوشايةٍ قام بها صديقه "عليش سدرة"، ثم يعلم، وهو ما زال في السجن، أن صديقه هذا استولى على أمواله وزوجته "نبوية".

ويدور الزمن دورته، ويخرج سعيد مهران من السجن، بعد أن يمضي فترة العقوبة.

من هنا.. من لحظة الخروج الحاسمة، يبدأ نجيب محفوظ روايته عبر صور حسية متحركة، ذت دلالات متعددة، تشير إلى طبيعة المواجهة التي سيبدؤها سعيد مهران، وتكشف لنا عن تغيّرات مريبة في العالم الخارجي وهو في داخل السجن، "مرّة أخرى يتنفس الحرية، ولكن في الجوّ غبار خانق وحرّ لا يطاق.. لم يجد في انتظاره أحداً /ص 7/، "آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييئسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفّر عن سحنتها الشائهة" /ص 8/.

هكذا يخرج سعيد ليواجه قدره، وليواجه الحياة بكل تناقضاتها، سواء في الظلم أو الزيف أو القمع. وكان أول ما واجهه هو إنكار ابنته "سناء" له: "أنا بابا.. تعالي – فتأبّتْ واشتدّ ميلها إلى الوراء. جذبها نحوه بشيء من القوة. صرختْ، ضمها إلى صدره فدافعته باكية /ص 18/.

لقد رفضت الاستجابة لمشاعر الأبوّة، وأنكرتها بطريقة تشير إلى أن إنكار الابنة لمشاعر الأبوة.. هو مفتاح الدلالة على الإنكار الأشمل الذي سيواجهه سعيد مهران في المجتمع كافة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن نجيب محفوظ قدّم فكرة الإنكار في أكثر من رواية؛ فهذه المسألة الاجتماعية السايكولوجية، تبرز أثناء حركة التغيير في المجتمع وعبر الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، إذ يسقط أفرادٌ في هذه العملية، بينما يعلو معها آخرون نتيجة مواكبتها، وهذه الفكرة ظهرت في المرحلة الروائية التي أعقبت الثورة 1952 ثم قرارات يوليو 1961() فقد شهدت حركة التغيير التي نجمت عن تلك المرحلة مواقف السقوط التي لحقت ببعض الأفراد والبنى الاجتماعية والسياسية؛ وقد تجلّى ذلك في "السمان والخريف"، حيث أنكرت "نعمات" أباها "عيسى الدباغ" دلالة على سقوطه من حركة التحرير التي أطاحت بحزبه وأقصته عن دائرة الحكم، كذلك في "ميرامار" إذ نجد الوفدي القديم "عامر وجدي" يعاني مرارة الانزواء جرّاء تنكّر الآخرين له، بعد أن فقد دوره في الحياة العامة.

إن فكرة الإنكار من الابنة لسعيد مهران امتدت إلى مستوى آخر أعم وأشمل، حين وجد سعيد تعاطف المُخبر "حسب الله" مع"عليش سدرة" وتهجّمه عليه / ص 16 ـ 20 /.

والمخبر هنا يمثل أداة قمع بيد السلطة، بل هو السلطة بكل تجليات القهر والاستبداد، ولهذا تبعه معظم الناس الذين تعاطفوا مع سعيد مهران من قبل، فتحوّلوا إلى أدوات بيد السلطة، فهم المستفيدون من حالة التملّق لها، والانسياق في ركابها. ولهذا كان موقفهم من سعيد يتسم بالإنكار والجحود.

ترك سعيد هذا الحيّز من ماضيه.. بكل ما يحمله من تجليات القهر والحرمان وآلام الخيانة: خيانة الصديق والزوجة والسجن وإنكار الابنة ـ ولم يحمل من آثار ذلك الماضي سوى كتبه التي تعلّم منها مبادئ الثورة وأدرك كلمات العدل والحرية والقانون، وإن كان قد ضاع أكثرها أثناء وجوده في السجن، فتناول كتاباً إثر آخر وهو يقول بأسف: "ضاع أكثرها حقاً" وهذه الإشارة رمزية دالّة على ضياع القيم التي اشتملت عليها الكتب المفقودة من مكتبتِه.

حمل سعيد هذا الجزء المتبقي من ماضيه، وقرّر أن يذهب إلى "رؤوف علوان" أستاذه وصوت الحرية والانتماء الثوري. وقبل أن يصل إليه كان يقلّب بين يديه جريدة "الزهرة". وفوجئ حين اكتشف أن "رؤوف علوان" صار صحفياً مرموقاً في الجريدة. من خلال تواجد اسمه على معظم صفحاتها، وتساءل: من أي مداد يستمد رؤوف علوان مداده..؟:

ملاحظات عن موضة السيدات؛ مكبرات الصوت، ردّ على شكوى زوجة مجهولة..! / ص 33 // ـ "أين رؤوف علوان..؟.. بيت الطلبة وتلك الأيام العجيبة الماضية. الحماس الباهر الممثّل في صورة طالب ريفي رثّ الثياب كبير القلب...؟، والقلم الصادق المشعّ..؟، ترى ماذا حدث للدنيا..؟ وماذا وراء هذه الأعاجيب والأسرار..؟ / ص 34 //.

وترك السؤال مفتوحاً يركض في لُجَّة غامضة نحو الآتي؛ وحين ذهب إليه.. إلى رؤوف علوان، معلمهُ الثوري ومَثَله الأعلى، وجد نفسه أمام لغز كبير. فقد سكن أستاذه ذو الثياب الرثّة في أحد القصور التي كان يحارب أصحابها قديماً، وقد أصبح صحفياً ذا نفوذٍ كبير، فكيف وصل إلى ذلك في مدّة قصيرة لا تتجاوز سنوات السجن الأربع التي قضاها بعيداً عنه؟!.

لم يشأ سعيد أن يصدق ما رأته عيناه من مظاهر تنذر بالوجل والتوجس المريب، وحدّث نفسه قائلاً: "ترى كيف أنت اليوم يا رؤوف؟، هل تغيّر مثلك يا نبوية.؟ هل ينكرني مثلكِ يا سناء..؟" ص 35 //.

لكنه أبعد هذه الأفكار السوداء من ذهنه راسماً صورة رؤوف علوان الأولى؛ صورة "الصديق والأستاذ وسيف الحرية المسلول؛ وسيظل كذلك رغم العظمة والمقالات الغريبة وسكريتاريته الرفيعة" / ص 35 /.

غير أن اللقاء بين التلميذ والمعلّم كان كاشفاً للتّغَيُّر الذي لحق برؤوف علوان، عبر آلية القمع والاستلاب، وفقدان الحرية، وكأن الكاتب يعرض ـ من وجهة نظره ـ أزمة الانتماء الثوري، وماذا حلّ بها، عبر شبكة متداخلة من العلاقات المعقدة، لم ينضج فيها الفكر الثوري، نتيجة إرثٍ ضخم من القيم الفكرية والاجتماعية، تتعلق بالرؤية القدرية المستسلمة للغامض المجهول، خاصة في حالة القمع واستبداد السلطة، وإحكام الطوق على حرية الإنسان.. حتى في الحلم؛ ليتحوّل إلى أداة طيّعة من أدوات السلطة المهيمنة.

هكذا تحوَّل رؤوف علوان؛ فقد أمسَتْ ثوريته جزءاً من الماضي. وواقعه الآن يشي بإنسان جديد، وفكر مختلف تماماً؛ لقد تخلّى رؤوف علوان عن انتمائه الثوري، منتهزاً الوصول إلى مصاف الطبقة المتنفذة، التي تريد في الأصل القضاء على ذلك الانتماء، الذي كان يمثلهُ. وبمعنى أبسط أنه ركب الموجة السياسية الجديدة، وانضمّ إلى خدمة السلطة والطبقة العليا المستغلة، فتحول بذلك إلى أداة قمع بيد أولئك المهيمنين والمستغِّلين، بدءاً من قمع ذاتِه أولاً. وقد اختار مهنة الصحافة ـ الأكثر تعبيراً عن انتهازيته وانجرافه، فهي موقع يمكّنه من تحقيق مصالحهِ وممارسة نفوذِه من جهة، وخدمة العالم المفعم بالخمر والنساء والقمع والاستغلال. ذلك العالم الذي انغمس فيه، ونسي عالماً مطرزاً بأحلام الثورة والتمرد؛ جاء منه ليصنع التغيير.

وفي ضوء ذلك تغيّر موقفه من سعيد، وتنكّر لـه، على الرغم من جرأة سعيد في مواجهته وتقريعه بما طرأ عليه من تغيير.

غير أن رؤوف علوان كان من الحيطة والحذر ما يجعله يحرص على التخلّص من سعيد مهران، ودفنِ كل ما يتصل به.

بعد تلك المقابلة أزهرت مشاعر التمرّد من جديد في نفس سعيد مهران.. ضد هذا (الثوري المرتدّ)، ضد الطبقة التي انضم إليها. تلك الطبقة المتنفذة في السلطة والمجتمع.. تنتزع الثقة قسراً أو سرقة، وتستولي على العقول والأقلام، لتوظفها لخدمة مصالحها ونموّها، دون أن يطالها القانون.

في هذا المناخ لم يجد سعيد مهران أمامه سوى الخلاء موطناً يهرب إليه.

وعلى حافة المدينة، في الصحراء، ذهب إلى قهوة صديقه القديم" المعلم طرزان". وهناك التقى ـ مصادفة صديقته القديمة "نور".

ولقاء المصادفة حلّ مشكلة المأوى. إذ رحبت نور بصديقها للإقامة في مسكنها الذي يشرف على القبور؛ فوجد سعيد المكان نقِّياً غير فاسد بأنفاس الأحياء.

وفي الخلاء أنجز خطته للانتقام من الخونة، معتمداً على المسدس، الذي يستطيع أن يصنع منه "أشياء جميلة، على شرط ألاّ يعاكسني القدر، وبه أستطيع أن أوقظ النيام، فهم أصل البلايا، هم خلقوا نبوية، وعليش، ورؤوف علوان" / ص 91 ـ 92 / وهم تركوا الحكومة تتحيز لبعض اللصوص دون البعض / ص 93 /.

لكن رصاصات سعيد مهران أصابت رجلاً آخر، بريئاً مجهولاً، بدلاً من أن تصيب "عليش سدرة" ثم أصيب حارس "رؤوف علوان"، بدلاً من أن تصيب ذلك المرتد، المتنكر لماضيه، فنجا الخونة "المجرمون ينجون ويسقط الأبرياء". ونجاة المجرمين هنا دلالة على قوة الطبقة المتنفذة وقدرتها على الاستمرار وحماية نفسها من جهة، وضعف وسائل القوة الفردية وإخفاقها في إنجاز عملية التغيير بشكل فردي، وهذا يقتضي التنظيم والعمل الجماعي، والقوّة اللازمة لدحر آلية القمع بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

بعد نجاته، كشَّر "الثوري المرتد" عن أنيابه لتعبئة الرأي العام ضد تلميذه القديم سعيد مهران، مستغلاً مركزه ووظيفته الصحفية، ومقدرته الثقافية على التأثير في الجمهور (21) .

غير أن ردّة الفعل لدى الجمهور تشير إلى التعاطف والتأييد لقضيته، كونه ضد الطبقة المستغلّة وأدواتها القمعية.

لقد كان الانتماء الثوري لدى سعيد مهران ينقصه التنظيم والفكر، اللذان مثّلهما رؤوف علوان، قبل السجن، ذلك الثوري المرتد، الذي تخلى عن تكملة المسيرة وانضم إلى محاربتها وقمعها، ولهذا لم يتردّد سعيد مهران في أن يدفع حياته ثمناً للقضاء عليه.

غير أن محاولاته ـ في ظل الغياب الشامل للتنظيم والديمقراطية ـ تصاب بالفشل فقد كان محاطاً بالخونة والمزيفين الذين أنكروه ـ زوجته ـ وابنته.. وأصدقائه ـ، وبالتالي فإنه من أبناء الطبقة الدنيا التي لا يزال مصيرها معلقاً بأيدي اللصوص من الطبقات العليا المتنفذة.

في ظل هذا كله يسقط سعيد مهران "بطلاً تراجيدياً" مضرجاً بدمائه.. بين المقابر، وحيداً في مناخ يمتصّ كل ما هو إيجابي وثوري في شخصية سعيد، فلا يبقى أمامنا سوى "المظهر الفردي والفوضى والعبثي لحياته الدامية".

من هنا تأتي رؤية نجيب محفوظ الرافضة للشخصية المباشرة "للثوري النموذجي" في نمطيته الكلاسيكية، المبنية بشكل هندسي، بحيث تتطابق مع آلية ميكانيكية للفكر الثوري، ولهذا نراه يعادل الانتماء الثوري معادلة موضوعية، تخفي وتعلن عن الكثير من التفاصيل الواقعية.

إن محفوظ ـ في مرحلة ما بعد يوليو ـ يأتينا بشخصية تحمل في تضاعيفها أثقال المجتمع الجديد، وما يكمن فيه من تناقضات وأحلام وقمع وانكسارات، ورؤى ثورية وانتهازية، وأطماع ومستقبل غامض.

لذا يجسد نجيب محفوظ أبطاله الجدد: ـ سعيد مهران ـ عيسى الدباغ ـ عمر الحمزاوي ـ أنيس زكي ـ..، في صورة الثوري، ليس في انتمائه السلبي، بل في ظل مناخ سلبي معقد وقمعي،() أفرز مرحلة الضياع والفوضى، أي أن التشويه والسلبية، والانحراف، كسمات بشعة تجرف هذه الشخصيات إلى هاوية السقوط ـ ليست سمات ذاتية كامنة، بقدر ما هي انعكاسات مكثفة لواقع مشوّه.. تحكمه آلية قمع تدميرية ـ غير مرئية أحياناً ـ تجلّت في مرحلة "الضياع الشمولي..".

هكذا يسقط سعيد مهران سقوطاً مأساوياً، تنرف دماؤه سؤالاً كبيراً، حاول نجيب محفوظ الإجابة عليه في "أولاد حارتنا" لكن الواقع المتغيّر أسقط الإجابة قائلاً أن المشكلة، وهي تتفاقم، في ظل آلية القمع والقهر والاستلاب، لا تزال بلا حل.

وإذا كانت "نور" وهي المومس، الأمل الوحيد الذي تراءى لسعيد مهران، قبل سقوطه بلحظات فإن "سناء" تمثل خيبة الأمل التي مزقته فور خروجه من السجن؛ ـ هي ابنته التي اختارت الأم الآثمة وعشيقها الملوّث صديقه القديم ـ عندئذ لابد أن يسقط سعيد مهران، بطلاً ثورياً مهزوماً. كتعبير دلالي: عن الواقع المشوّه، المحكوم بانهيار القيم والمبادئ..

وفي اللحظة التي تمّ فيها القضاء على سعيد مهران "تغلغل الصمت في الدنيا جميعاً.. وتكاثف الظلام" / ص 175 /. لكن أيّ ظلام يعني المؤلف..؟، هل هو ظلام القهر والاستبداد وفقدان الحرية والعدالة، مما يؤدي إلى قتل أمثال سعيد مهران، بينما يُترك أمثال "رؤوف علوان" لممارسة القمع والزيف وارتكاب الجرائم في حق المجتمع..؟!.

إنه السؤال القديم، يتجدد ويزداد كثافة وتعقيداً، ليلقي ظلاله على تجربة جديدة، هي "تجربة الواقع الحي" في "اللص والكلاب"، ثم تليها "تجربة المنتمي إلى الماضي" في "السمان والخريف" حيث نلتقي بمجموعة من الشخصيات ـ وفي مقدمتها عيسى الدباغ ـ الرامية إلى اختلاف الرؤية الفكرية والانتماء إلى الثورة، أو الانتهازية. أو الرفض.

هكذا يكرر ـ مرة أخرى ـ نجيب محفوظ ـ، بتقنية سردية عالية المستوى، والشخصيات الرئيسية التي صاغها في "أولاد حارتنا"، فنلتقي بالمتصوف، المتمرّد والانتهازي، والمنتمي، واللا منتمي.. الخ (22).

غير أن التكرار عند نجيب محفوظ لا يخضع إلى مقاييس ومعادلات رياضية..، إنما هو التعبير العميق عن "أزمة الانتماء" في مناخ سلبي محكوم بآلية قمعٍ تشارك فيها قوانين السلطة والظروف الاجتماعية والأقدار، تنمو بشكل خفي لتتحول إلى طقوس اجتماعية سائدة لا تحتاج إلى تدخّل قمعي مباشر من قبل السلطة في قليل من الأحيان.

***

عبد الرحمن منيف:

1ً ـ شرق المتوسط()

إذا كانت آلية القمع ـ بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ـ تكاد تُشِّكل النسيج الدرامي في البناء الروائي للرواية العربية ـ عبر أزمة الحرية والقيم ـ فإن معظم روايات عبد الرحمن منيف تركز بشكل صارخ على هذا الموضوع، رغم اختلاف المعالجة، وأخص هنا موضوع التعذيب في سجون البلاد: من رمال الشواطئ إلى رمال الصحراء وتخومها.

ذلك ما تشي به رواية "شرق المتوسط" و "الآن.. هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى" (23). وآلية القمع هنا تتجلّى في التعذيب المباشر للروح والجسد، إلاّ أن ذلك ليس امتهاناً تتعرض له النفس البشرية فحسب، لكنه أيضاً تجسيد صارخ لمنهج السلطة السياسية، لنظام من الأنظمة.. في بلدٍ من البلدان، وفي عصرٍ من العصور. وهو تعبير صارخ عن الاستبداد والقمع والاستلاب. وعن مدى التخلف الإنساني والحضاري فيه.

وشرق المتوسط، إذ تؤرخ للزمن العربي الذي لم يتوانَ عن انتهاك حقوق الإنسان، جملة وتفصيلاً (24) فإنها لا تسمي أحداً، ولا توجه إصبع الاتهام إلى نظام بعينه، إنما هي ـ من خلال التاريخ الفردي لشخصيات مناضليه ـ تؤرخ للعصر العربي في أحد تجلياته القمعية..، عصر الاعتقال والتعذيب والتصفيات الجسدية، عصر الأقبية البوليسية، وعصر المخبرين عبر التوجّس المؤلم من أن يكون كل إنسان مخبراً؛ عصر ديست فيه الكرامة الفردية والجماعية حتى تموت في النفس قبل أن تموت في الجسد.

كما حدث لـ "رجب" في مواجهة التعذيب الجسدي والمعنوي الذي تعرض له.

في هذا المناخ تقدم "شرق المتوسط" صورة لسقوط مناضلٍ قضى أحد عشر عاماً في السجن، يقاوم التعذيب من خلالها، مقاومة باسلة، لكنه لا يلبث في النهاية، أن يسقط، بعد أن وقّع على وثيقةٍ تخلَّى فيها عن ممارسة العمل السياسي: "وبدأت أسقط. أصبحت الآلام تنتشر في جسدي مثل انتشار النار. كتفي الأيمن مشتعلة من الألم. معدتي تخرج من حلقي كل يوم. رجلي اليمين رخوة، وتحرّك فيها الروماتيزم حتى أصبح المشي بالنسبة لي عذاباً لا نهاية له" / ص 25 /.

وثمناً لهذا يطلق سراحه، ويمنح الحرية من جديد. ولكن أية حرّية هذه..؟! لقد تخلت عنه "هدى" حبيبته، مرغمة، وفُرض عليها أن تتزوج من آخر: "كانت هدى أقوى الآمال التي تشدني إلى الحرية؛ كنت أتصورها مثل بطلة الأساطير، لا تملّ أبداً من الانتظار " / ص 20 /. وماتت أمه التي كانت بارقة الأمل في صموده، حيث كانت تشجعه على المواجهة بصبر، وتدفعه للتماسك.

هي لم تمتْ ميتة طبيعية، إنما ميتة تشبه القتل تقريباً... جراء ضربة على أضلاعها من أحد جنود السجن، وهي تشارك في تظاهرة مع أمهات السجناء أمام أبواب السجن، فتعجّل الضربة بنهايتها، كانت تقول له: "ماذا تقول للناس، لأصدقائك غداً إذا اعترفتَ وخرجت..؟. الحبس يا ولدي ينتهي أما الذل فلا ينتهي.. إذا اعترفت كلهم سيقولون عنك خائن، ولا تستطيع أن تنظر في وجه أحد " / ص 26 /.

غير أن أخته "أنيسة" كانت تشجعه على الاعتراف، وتقلِّل من شأن التضحية التي يقوم بها، ثم تقدم له مادة للتخاذل وهو في السجن.. هذه المادة تتمثّل بنقل صورة وحشية عن آلية القمع والتعذيب التي أسقطت كل صمود وتضحية لدى أصحابه الذين يستمتعون بالحرية الآن أو فقدوا حياتهم الطبيعية بسبب تمسكهم بالمبادئ: "باسل جنّ، أصبح يدور في الشوارع عارياً. خالد فقد عينه نتيجة الضرب، وعينه الأخرى مهددة. ومحسن.. ألا تتذكر محسن؟ لقد أصيب بالشلل. وعندما حملوه إلى البيت ورأته أمه، ماتت!" / ص 23 /.

كانت أنيسة ـ مفتاح تخاذله ـ تردد: "أنا الوحيدة بعد أمي التي تنتظر رجب، ويمكن أن أموت من أجله / ص 93 /.. متابعةً الرحلة الخطرة في تفكيك رجب حتى نهايتها.

كانت تنبهه إلى أمورٍ لم يكن يأبه بها أو يحسها من قبل "تطلع هذه الناحية يا رجب".

ومثل طفل صغير يدير رأسه.. تصرخ:

ـ عروق رقبته نافرة مزرقّة.. هل ضربوك؟ هل حصل لك شيء..؟

ـ العروق تظهر.

ـ العروق تظهر إذا ضعف الجسم، وأنت ضعيف جداً في هذه الفترة / ص 29 /.

ومن يومها بدأ رجب يلاحظ يوماً بعد يوم، أن أشياء كثيرة من جسده تتغير وتضطرب. وسيعترف بعد خروجه من السجن، أن أنيسة كانت تقوده "في الدهاليز اللعينة" وتسرْف في التحدث عن العالم الخارجي، تغريه وتغويه لكي يحسّ كم هو محروم من هذه "الجنة" التي تنتظره في الخارج. ولهذا اعترف فيما بعد قائلاً "أنيسة هي التي دمرَّت حياتي" / ص 23 / وقد اعترفتْ هي بذلك في النهاية. لقد كانت عاملاً رئيساً، ودافعاً حاسماً قاده إلى الاعتراف والسقوط().

ويطلق سراح رجب، لكن السجن يظل في داخله. فقد كان السجن امتحاناً عسيراً له. ثم كان التعذيب محنته؛ ويبدو أن ما كان يخشاه "رجب" طيلة فترة السجن هو أن تضعف إرادته، التي نبّههُ إلى أهميتها "هادي" رفيقه، موضحاً له أن القرار هو للإرادة / ص 75 /.

كان يخشى أن يزداد إحساسه بأعضاء الجسد على الإحساس بصموده الداخلي.. الروحي، لذلك راح يمتحن جسده وروحُه معاً وحين بدأت طقوس التعذيب ـ بدءاً من الضرب والرّفس واللدغ بالكهرباء وإطفاء السجائر في ظهره، ورقبته، وأذنيه، ومؤخرته.. الخ. حين مارسوا كل ذلك، اكتشف رجب أن الإنسان قد يتحول إلى إله حقيقي في صموده وتحديّه / ص 76 /، على نحو من الانتصار على الخصم، وقهره ـ رغم امتلاكه كل وسائل القهر والتعذيب.

لكن ذلك كله لم يَحُلْ دون سقوطه في النهاية ونسي ما قاله أن الإنسان بصموده إلهٌ حقيقي / ص 81 /.

صار يتكلّم عن أن عيبَ الإنسان في جسده / ص 88 /. وأن الجسد "هو الذي يقرر" و"الجسد وحده هو الذي يفعل كل شيء".

وبالرغم من أن جسداً مثل جسد رجب.. احتمل ما لا يمكن تحميله مسؤولية السقوط، فقد اعتبر أن جسده هو الذي خانه بعد ما بنته "الأم" ونفخت فيه روح الصمود والتحدي، في كل زيارة كانت تقوم بها إلى السجن لرؤيته / ص 28 /.

بعد موتها.. أصبح جسده هشاً. وتحول استقبال الألم إلى حالة من الفزع والوهن. لقد تغيّر فجأةً.. وأصبح الجسد عبئاً عليه،.. وازدادت متطلباته / ص 28 /.

بعد هذا السقوط الذريع.. يخرج من السجن، لا يحمل سوى رائحة الهزيمة والخذلان، وصوت العذاب الداخلي، واحتقار الذات بجسدٍ ستقلّهُ الباخرة "أشيلوس" إلى خارج البلاد بحجّة العلاج؛ فهو مصاب بروماتيزم بالدم.

على ظهر الباخرة ـ أشيلوس ـ لم يكن سوى جثة فاسدة "ألم تقتلكِ الرائحة.. رائحة الرجل الميت يا أشيلوس" / ص 68 ـ 88 /. ثم يبدأ عن طريق التداعي، ومخاطبة الباخرة اليونانية أشيلوس، بفضحِ ما جرى ويجري في سجون شرق المتوسط من تعذيب.. وقهر.. واستلاب.

وفي باريس.. يخضع لأول اختبار جنسي، حين استلقت أمامه امرأة عارية، وبدأ يتذرع بالمرض والتعب. لكن العبارة الوحيدة التي كان صداها يدوي في أعماقه ثم قالها لتلك المرأة العارية ـ التي تراكم فيها شوق السنين الطويلة إلى عريها: "أنا لست رجلاً".

وهناك.. حيث رست السفينة في شاطئها الأخير، شرع رجب بتدوين مذكراته، محاولاً الاغتسال من عقدة الذنب، والتطهّر من الشعور بالإثم والخطيئة، مستنداً إلى وثائق وحقائق، تعرّي آلية القمع الوحشي وتفضحها، بكل تجلياتها المرعبة؛ لتقديمها إلى الصليب الأحمر "في جنيف دفاعاً عن حقوق المعتقلين في "شرق المتوسط"، وسيفضحهم أمام الناس.. كل الناس، رغم تحذيراتهم له قبل إطلاق سراحه ـ، سيقول لهم أن البشر بالنسبة لهؤلاء الأبالسة هم من أتفه الأشياء وأرخصها على الإطلاق...

وتصل أخباره إلى سجّانيه، فيبدؤون بمضايقة صهره حامد.. زوج"أنيسة". يهدّدونه بالسجن إنْ لم يعد "رجب من فرنسا. وحين يعلم رجب بذلك، يقرّر العودة إلى الوطن رغم ما تعنيه هذه العودة من خطر. إن يتلقف الفرصة التي تبدو مستحيلة، كي ينهض متحدياً تخاذله من جديد ماسحاً وصمة العار التي لحقت به، وتلاحقه في هواجسه.

عاد ليواجه جلاّديه مرة أخرى، غير آبهٍ بما يسمونه الجسد، صامداً أمام كل أشكال التعذيب، متماسكاً رغم كل أساليب القمع المستحدثة، مستعيداً روحه، قائلاً "عدتُ كما أريد، لا كما تريدون، سأعطيكم جسدي. أما إرادتي فقد تعلّمتُ في رحلة الظلمة، كيف أجدها مرّة أخرى؛ خذوا أيها الجلاّدون.. خذوا جسداً لم يبق فيه إلاّ الإرادة، افعلوا كل ما تستطيعون، سيكون صمتي الرّد الذي يقطّع أحشاءكم.." / ص 139/.

وبعد أن أفلس جلاّدوه، وأيقنوا أن رجب يحتضر، أطلقوا سراحه وهو شبه جثةٍ تؤجّل موتها: فَقَدَ بَصَرَهُ في التعذيب، وبدا شديد الهزال والشحوب، وثَقُلَتْ أنفاسه جرّاء الظلام والألم الثقيلين، وانقطع عن الطعام والكلام. وفي اليوم الرابع من خروجه "عند الظهر تماماً مات.. مات رجب" / ص 146 /، مغتسلاً بصموده، متطهراً من وصمة العار التي كانت تمزّقهُ أَرَقاً. وتندم أنيسة، لشعورها بأنها ساهمت في قتل رجب "لو ظل هناك لما امتدت إليه أيديهم.. أنا امرأة خاطئة. الخطيئة ولدت معي، وسرت في دمي؛ يبدو أنها سترافقني حتى آخر أيام حياتي / ص 147 / ثم يدفعها هذا الإحساس أن تعمل على فضح السلطة وأدواتها القمعية التي أودت بحياة أخيها رجب، ولتنخرط أخيراً مع زوجها حامد وابنها عادل ـ بشكلٍ آخر ـ في طريق رجب، طريق النضال عبر ولاداتٍ جديدة، رغم القمع والاستلاب، وأشكال التعذيب والاستشهاد:

"كما قلت لكم، أنا امرأة خاطئة.. وأريد أن أتبع طريقة رجب ذاتها: أن أدفع الأمور إلى نهايتها.. لعل شيئاً بعد ذلك يقع" / ص 148 /.

هكذا تنتهي الرواية: "بوابة مفتوحة على المستقبل" عبر جراح الماضي والراهن، المزدحمين بالقمع والتمرّد، والخوف والموت والصمود، والاستمرار لتلتقي مع البداية، بداية تشكيل الرواية ببعض مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبعض أبيات من شعر بابلو نيرودا.. توحي بوحشية القمع وتجلياته المتعددة، التي ينبغي ألاّ تنسى.

من هذه الانطلاقة يمكن تحديد معالم الدلالة العامة للرواية وما ترمز إليه. وهي:

1ً ـ دلالة ذات بعد فني في البناء الدرامي.. تجمع بين الواقعية المباشرة التي يمثلها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" وبين المتخيَّل الفني الذي تؤسس لـه أبيات "نيرودا" ثم يبدأ التشكيل الروائي عَبرَ ثنائية واقعية متخيَّلة في فضاء نفسي لدى رجب.. مبني على سيكولوجيا اجتماعية م�