تقي الدين النبهانيمـ 1973الطبعة األولى

﷽التفكير

ــات على اإلطالق، ــل المخلوق ــو أفض ــان ه إن اإلنس وهو قول حق- إنــه أفضــل من المالئكــة.-قيل حتى لقد

اإلنســان هــو واإلنسان فضله إنمــا هــو في عقلــه، فعقل الذي رفع شأن هذا اإلنسان وجعله أفضــل المخلوقــات،

هــذا العقــل، وبالتــالي ال بــد من ولذلك ال بــد من معرفة معرفة التفكير، وال بـد من معرفـة طريقـة التفكـير، ألن هذا الواقــع المســمى بــالتفكير هــو الــذي يجعــل للعقــل

اليانعــة الــتي بهــا قيمته، وهو الذي يعطي هذه الثمــراتــا ــه بم تصلح الحياة، ويصلح اإلنسان، بل يصلح الكون كل

.شيء، حتى الجماد، والنبات والحيوان فيه من كلــفة، والفقه ــ ــون، واألدب والفلس ــ ــوم والفن ــ إن العل واللغــة، والمعرفـة من حيث هي معرفـة، إنمـا هي نتـاج

لذلك كان لزامــا لإلنســان،. العقل، وبالتالي نتاج التفكير درك واقع العقل مــا هــو، وأنوللحياة، وللكون كله، أن ي

.درك بالتالي واقع التفكير، وطريقة التفكيري

5

ــة من لقــد قطعت اإلنســانية هــذه المســافة الطويلــاج الحياة، ومن عمر الزمن، وهي تعنى أكثر ما تعنى بنت

ــاج ــل، وبنت ــع العق ــها بواق ــني نفس ــير، دون أن تع التفك يحــاول العقل، وبواقع التفكير. صـحيح أنـه قـد وجـد من

إدراك واقــع العقــل من علمــاء المســلمين، ومن علمــاء والحـديث، ولكنهم أخفقـوا غـير المسـلمين، في القـديم

في إدراك هذا الواقــع. ووجــد من يحــاول رســم طريقــة ولكنهم وقد نجحــوا في نــواح من ثمــرات هــذه للتفكير،

للوا عن معرفــة الطريقة بالمنجزات العلمية، ولكنهم ضــــيرهم من للوا غـ ــ ــير، وضـ ــو تفكـ ــير من حيث هـ التفكـ

دين الذين بهــرهم هــذا ــل، المقل النجــاح العلمي. ومن قبــدفعوا في الوصــول إلى منذ أيام اليونان ومن بعدهم، ان التفكير، فوصلوا إلى مــا يســمى بــالمنطق، ونجحــوا في

أفسدوا المعرفة من الوصول إلى بعض األفكار، ولكنهم حيث هي معرفة، فكان المنطق وباال على المعرفة بدل

كما-أن يكون أريــد لــه- ســبيال للوصــول إليهــا ومقياســا الوصــول لصحتها. وأيضا فــإن هــؤالء الــذين انــدفعوا في

إلى التفكير، قد وصلوا أيضا إلى ما يسمى بالفلسفة، أو والتعمق فيمــا وراء الوجــود، أي ما يعرف بحب الحكمة،

ــائج، ما وراء المادة، فأوجدوا بحثا لذيذ المعرفة لذيذ النت ولكنه كان بعيدا عن الواقع، بعيدا عن الصدق، فكــان أن

وبعــد عن الواقـع، فضــلل الكثــيرين، أبعــد عن الحقيقــة،.وانحرف بالتفكير عن جادة الصواب

ــذا كله ــه بحث في فه ــه، إذا جــاز أن نقــول إن وأمثال كونــه التفكير، وبحث في طريقــة التفكــير، ولكنــه -رغم

ــع ــا ينف ــد م ــاال للبحث وأوج ــد مج ــارف وأوج ــد مع أوج

6

التفكــير، ولم يكن اإلنســان- لم يكن منصــبا على واقع سائرا في طريق الصواب، ولهذا ال يعتبر بحثــا في واقــع

وإنمــا هــو بحث في نتائجــه وثمراتــه، ولم يكن التفكــير، من أســاليب طريقة مستقيمة للتفكير، وإنما هو أسلوب

هــذه الطريقــة، جــاء صــدفة من جــراء البحث في نتــاجــق البحث في العقل، أو في الثمرات، ولم يأت عن طري

واقـــع التفكـــير. ولـــذلك يمكن أن يقـــال إن البحث في للتفكير، ال يزال مجرد محاوالت تجري طريقة مستقيمة

.نفسه حول نتاج التفكير ال حول واقع التفكير أما سبب عدم االهتداء حـتى اآلن إلى واقـع التفكـير،

التفكير، فإنه راجع إلى أن الباحثين وبالتالي إلى طريقةــوا في العقــل، ــل أن يبحث ــوا في التفكــير قب وال قــد بحث

يمكن االهتــداء إلى واقــع التفكــير إال بعــد معرفــة واقــع جازم، ألن التفكير هــو ثمــرة العقل معرفة يقينية بشكل

العقل، والعلوم والفنون وسائر صنوف الثقافة إنمــا هي ثمرة التفكير. لذلك فإنه ال بــد من معرفــة واقــع العقــل

ــازم، ــكل ج ــة بش ــة يقيني ــك يمكن أوال معرف ــد ذل ثم بع معرفة واقع التفكــير، ويمكن معرفــة طريقــة مســتقيمة

ــير، ثم بعد ــك، وعلى ضــوئه، يمكن الحكم على للتفك ذل الكيمياء المعرفة هل هي علم أم ال، أي يمكن إدراك أن

علم، وأن ما يسمى بعلم النفس وعلوم االجتماع ليست المعرفة هــل هي ثقافــة أم ال، علما، ويمكن الحكم على

أي يمكن إدراك أن التشــريع ثقافــة، وأن التصــوير ليس ثقافة. فالمسألة كلهــا مبنيــة على أســاس معرفــة واقــع

ذلــك، وعلى ضــوء العقل معرفــة يقينيــة جازمــة، ثم بعدــالي طريقــة هــذه المعرفــة، يبحث واقــع التفكــير، وبالت

7

ضوئها يمكن الوصول بشكل صــحيح إلى التفكير، وعلى.أسلوب التفكير، أو إلى أساليب التفكير

ــذه هي ــة، ه المســألة، فالوصــول إلى العلم والثقاف وطريقــة يجب أن يكــون نتيجــة لمعرفــة واقــع التفكــير

التفكير وأسلوبه، والوصــول إلى واقــع التفكــير يجب أن العقــل. وعلى ذلــك ال بــد من يكون نتيجة لمعرفــة واقع

ــة واقع معرفة واقع العقل معرفة يقينية جازمة ثم معرف.التفكير

فـوا العقـل مـا هـو، أي حـاولوا معرفـةإن الـذين عر ســواء أكــان ذلــك في القــديم من واقع العقل، كثيرون،

ــاء ــلمين، أو علم ــاء المس ــان، أو من علم ــفة اليون فالس أو كــان ذلــك في العصــر الحــديث. ولكن هــذه الغــرب،

ــا التعاريف، أو بعبارة أخرى هذه المحاوالت، ال يوجد فيه مــا يســتحق الــذكر، وال مــا يرتفــع إلى مســتوى النظــر،

الشيوعية، فإن تعريفهم وحــده هــو سوى محاولة علماءــع إلى ــذكر، ويمكن أن يرتف ــتحق ال ــذي يمكن أن يس ال

مستوى النظر، ألنها محاولة جدية، لم يفسدها عليهم إال الوجــود خالقــا. إصــرارهم الخــاطئ على إنكــار أن لهــذا

ولوال هذا اإلصرار على إنكار أن للوجود خالقــا، لتوصــلوا واقع العقـل إدراكــا حقيقيــا، أي لتوصـلوا إلى إلى إدراك

ــة يقينية ــل معرف ــع العق ــة واق ــدأوا .جازمة معرف فهم ب البحث في الواقع والفكر فقالوا: هــل الفكــر وجــد قبــل

أن الواقع وجد قبل الفكر وكان الفكر نتيجــة الواقع؟ أم قال إن الفكــر للواقع؟ وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من

وجد قبل الواقــع، ومنهم من قــال إن الواقــع وجــد قبــل رأيهم النهائي على أن الواقــع وجــد قبــل الفكر. واستقر

8

ــاء على هــذا، أو من جــراء هــذا وصــلوا إلى الفكــر. وبن تعريف الفكر، فقالوا: إن الفكر هو انعكاس الواقــع على

لواقــع الفكــر هــو أنــه واقــع، الــدماغ. فتكــون معــرفتهم ودماغ، وعملية انعكاس لهذا الواقع على الدماغ. فالفكر

،هــذا هــو رأيهم .نتيجة النعكاس الواقــع على الــدماغ هوــدل ــدل على بحث صــحيح، وي ــو رأي ي ــة وه على محاول

ــوال إصــرارهم على،جــادة، وعلى قــرب من الحقيقة ول خالقــا خلقــه، وإصــرارهم على أن إنكــار أن لهــذا الواقع

.الوجود أزلي، لما حصــل الخطــأ في إدراك واقــع العقل نه صحيح أن ال فكر بال واقع، وأن كل معرفة دون واقــعإ

فــالواقع هــو أســاس الفكــر،. إنمــا هي خيــال أو تخريفــك ــع، أو حكم على ذل ــير عن واق ــو تعب ــا ه ــر إنم والفك

فالواقع هو أساس الفكر، وهــو أســاس التفكــير،. الواقع وال تفكــير. ثم وجود الواقع ال يمكن أن يوجد فكر وبدون

إن الحكم على الواقع، بل إن كــل مــا في اإلنســان ومــا مرتبط بالــدماغ، فالــدماغ هــو المركــز ينتج عنه، إنما هو

ــذلك ال يمكن أن ــان، ل ــي في اإلنس ــي واألساس الرئيس يوجد فكر إال بعــد وجـود الــدماغ، والــدماغ نفســه واقـع،

أساســي لوجــود الفكــر، ولهذا فإن وجود الــدماغ شــرط كما أن وجود الواقع شرط أساسي لوجود الفكر. ولهذا،

العقل، أي لوجود التفكير، أو الفكر، ال بد أن فإنه لوجود الشيوعية اهتــدوا يكون هناك واقع، وهناك دماغ. وعلماء

إلى هذين الشيئين، أي اهتدوا إلى أنه لوجود العقل ال بد هنــاك واقــع، وهنــاك دمــاغ، وأن وجودهمــا من أن يكون

معا شرط رئيســي وأساســي لوجــود الفكــر، أي لوجــود العقل. ولذلك كانت محاولتهم جادة، وصحيحة. وإلى هنا

ل إلى كـــانوا يســـيرون في الطريق المســـتقيم الموصــ

9

إال أنهم حين .معرفة واقــع العقــل معرفــة يقينيــة جازمةــدماغ للوصــول إلى الفكــر، أي حــاولوا ربــط الواقــع بال

فجعلوا الرابط بينهمــا هــو إليجاد التفكير، ضلوا الطريق، انعكاس هذا الواقع على الدماغ. فخرجوا بالنتيجة الخطأ

فــوا العقــل تعريفــا خاطئــا.معرفة العقل، ولذلك عر في وسبب ذلك هو إصــرارهم على إنكــار أن للوجــود خالقــا

خلقه من عدم، ألنهم لو قالوا إن المعرفة تسبق الفكــر، أمام حقيقة واقعــة، وهي أنــه من أين جــاء فإنهم يقفون

جاء من غير الفكر قبل وجود الواقع، فال بد أن يكون قد الواقع، وبالتالي من أين جاء الفكر لإلنسان األول؟ ال بد

غــيره، ومن غــير الواقــع، فيكــون اإلنســان أنه جاءه من األول األول، والواقـع، قـد أوجــدهما من أعطى اإلنســان

المعرفة، وهذا خالف ما لــديهم من معرفــة جازمــة بــأن أزلي. ولذلك قالوا إن انعكــاس العالم أزلي، وأن الواقع

الواقع على الدماغ هو العقــل، فهــو الــذي أوجــد الفكــر، الــذي وجــد بــه التفكــير. ومن أجــل أن يتهربــوا من وهو

إيجــاد تخيالت، ضرورة وجود المعرفة، صــاروا يحــاولون وإيجاد فروض، من أن اإلنســان األول قــد جــرب الواقــع

ثم كــانت هــذه التجــارب للواقــع فوصــل إلى المعرفــة، معــارف تســاعده على تجــارب أخــرى للواقــع، وهكــذا.

ــو وأصــروا على ــه، ه ــدماغ علي ــاس ال ــع وانعك أن الواق وقــد عمي .التفكــير العقل، وهو الفكر، وهو الــذي يوجد

بصـــرهم عن الفـــرق بين اإلحســـاس واالنعكـــاس، وأن تأت من انعكاس الواقــع على الــدماغ، عملية التفكير لم

ــاءت من ــا ج ــدماغ، وإنم ــع على ال ــاع الواق وال من انطبــوال الحس ــدماغ، ول ــزه ال اإلحســاس، واإلحســاس مرك

أي تفكــير. فعــدم بالواقع، لما حصل أي فكر، ولمــا وجد

10

تفـــريقهم بين اإلحســـاس واالنعكـــاس، زاد الطين بلـــة الطريق الذي كــانوا يســيرون فيــه، لديهم، وصرفهم عن

فكان ما كان من تعريفهم للعقــل، ومن الخطــأ في هــذاــق التعريف. ولكن أساس الخطأ لم يكن من عدم التفري

ــاس، وإال ــاس واالنعك ــدوا إلى أن بين اإلحس ــانوا اهت لكــل أســاس المســألة هي إحســاس وليســت انعكاســا. ب

ــاتج عن إنكــارهم أن لهــذا الخطــأ وأســاس االنحــراف ن سابقة عن الوجود خالقا، فلم يدركوا أن وجود معلومات

هــذا الواقــع شــرط ضــروري لوجــود الفكــر، أي شــرط شرط ضروري لتكــوين ضروري لوجود التفكير، وبالتالي

العقل، أي ليكون هنــاك عقــل، أي هنــاك فكــر، وتفكــير.ــدماغ، وينعكس وإال لكان لدى الحمار عقل، ألنه يملك ال

من الواقــع على دماغــه، أي يحس بــالواقع. والعقــل هو خواص اإلنســان، وقــد قيــل قــديما: إن اإلنســان حيــوان

ــه، ناطق، أي حيوان مفكر، ألن التفكير أو العقل خاص ب.وليس لدى غيره من حيوان وسواه عقل وال تفكير

ــيوعية هم ومهما ــاء الشـ ــإن علمـ ــر، فـ يكن من أمـ وحدهم الذين قاموا بمحاولة جــادة للوصــول إلى معــنى العقل، وساروا في طريــق مســتقيم نحــو معرفــة واقــع

العقــل، وانحرفــوا العقــل، وهم وإن أخطــأوا في تعريف عن الطريق الذي كانوا يســيرون بــه نحــو الوصــول إلى

يقينيـــة جازمـــة، ولكنهم فتحـــوا هـــذه المعرفـــة معرفة الطريق لمن يأتي بعدهم ويسير فيه حتى يصل إلى هذه المعرفة اليقينية الجازمة. إنه مع كون المســلمين يوجــد

ــود ــدل على أن وج ــا ي ــديهم م ــابقة عن ل ــات س معلوم الشيء أمر ال بــد منــه لمعرفــة الشــيء، ولكن هــذا وإن

11

باعتبــاره وصــف واقــع، وباعتبــار أن كــان صــحيحا، فإنه ال المراد منه إلزام الناس جميعا بتعريــف العقــل، لــذلك

ــا على المشــاهد ــل مبني ــف العق ــون تعري ــد من أن يك ب النــاس جميعــا ال إلــزام المحسوس، ألنه يــراد بــه إلــزام

.المسلمين منهم فحسبــه العزيز ــالى في كتابـ ــه تعـ ــول اللـ وعلم آدم) :يقـ

هم على المالئكــة فقــال أنــبئوني األسماء كلهــا ثم عرضــ كنتم صادقين. قالوا سبحانك ال علم لنا بأسماء هؤالء إن

يـا آدم أنـبئهم إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قـال بأسمائهم فلما أنبأهم بأســمائهم قــال ألم أقــل لكم إني

السموات واألرض وأعلم ما تبــدون ومــا كنتم أعلم غيب السابقة ال تكتمون(، فهذه اآلية تدل على أن المعلومات

بــد منهــا للوصــول إلى المعرفــة، أي معرفــة، فــآدم قــد األشــياء، أو مســمياتها، فلمــا عرضــت علمه الله أســماء

اللــه عليه عرفها. فاإلنسان األول، وهو آدم، قــد أعطــاه معلومات، ولذلك عرف األشياء، ولــوال هــذه المعلومــات

االنحراف في الطريــق الــذي لما عرفها. وبما أن أساس سلكه علماء الشيوعية للوصول إلى معرفة واقع العقــل

وجود المعلومــات الســابقة، فــإن هــذا يكفي هو ضرورة لبيــان لبيان خطأ الشيوعيين في تعريـف العقـل، ويكفي

وجه االنحراف، وأنه حتى يتوصل إليجاد الفكــر ال بــد من الواقـــع الـــذي يعـــرض على المعلومـــات الســـابقة عن

الدماغ. إال أنه لما كان المــراد هــو إلــزام النــاس جميعــا وليس المسلمين فحسب، كان ال بد من عرض المشاهد

ســابقة عن المحسوس بأنــه ال بــد من وجــود معلومــات الواقع حتى يتأتى إيجــاد الفكــر، أي حــتى يتكــون العقــل

12

متركز وجوده على وجود المعلومــات ويوجد. ألن العقل السابقة لدى الــدماغ، وإن كــان الواقــع شــرطا ضــروريا

.لوجود العملية العقلية، أي لوجود الفكر أو التفكيرذي سـلكه الشـيوعيون فسلوك الطريق المستقيم اـل

ثم انحرفوا ال يكفي فيه لمعرفــة وجــه االنحــراف إدراك إحســاس الــدماغ بــالواقع وليس أن الــذي حصـــل هو

االنعكاس، ألن هذا سهل، وهــو ليس أســاس االنحــراف, األساس هــو وجــود معلومــات ســابقة عن الواقــع، وإنما

يتــأتى أن حــتى يتــأتى إيجــاد العمليــة العقليــة، أي حــتى يكون هناك عقل. وقد جــرى إدراك أن الــذي حصــل هــو

ــالواقع وليس ــدماغ ب ــع على إحســاس ال ــاس الواق انعكــة ــل ذلــك وبعــد ذلــك، من فهم اآلي ــدماغ، وحصــل قب ال

ــوس، إدراك أن الكريمة، ثم من عرض المشاهد المحس ال المعلومات السابقة عن الواقع أو عمــا يتعلــق بــه أمر

بد منه للعقل، أي لإلدراك، وبمعنى آخــر لوجــود العقــل،ــل أو إدراك، ودون هذه المعلومات ال يمكن أن يوجد عق

أي ال يمكن أن يوجد واقع للعقــل. فحصــل التوصــل إلى معنى العقل، ثم كان تعريف العقل هــذا التعريــف إدراك

.الصحيح، بشكل يقيني جازمــير، أي أما ــة التفك ــل في عملي ــذي حص إدراك أن ال

فهــو أنــه ال العملية العقلية هو إحساس وليس انعكاســا، يوجد انعكــاس بين المــادة والــدماغ, فال الــدماغ ينعكس

المــــادة تنعكس على الــــدماغ. ألن على المــــادة، وال االنعكاس يحتاج إلى وجود قابلية االنعكــاس في الشــيء الذي يعكس األشياء كالمرآة، وكالضوء، فإنها تحتاج إلى

غير موجود، ال في الــدماغ، قابلية االنعكاس عليها، وهذا

13

ــاس بين ــد انعك ــذلك ال يوج ــادي. ول ــع الم وال في الواقــادة ــادة ال تنعكس على المـ ــا، ألن المـ ــدماغ مطلقـ والـ

اإلحســاس الدماغ، وال تنتقــل إليــه، بــل الــذي ينتقــل هو بالمادة إلى الـدماغ بواسـطة الحـواس، أي أن الحـواس

ــل هي التي تحس بالمادة، بأية حاسة من الحواس، فينقــل ــه. ونق ــه علي ــدر حكم ــدماغ فيص ــذا الحس إلى ال ه

بالمادة إلى الدماغ ليس انعكاسا للمادة على اإلحساســا هــو حس الدماغ، وال انعكاسا للدماغ على المادة، وإنم

بالمـــادة، وال فـــرق في ذلـــك بين العين وغيرهـــا منــواس، فيحصل ــ ــذوق، الحـ ــ ــم، والـ ــ من اللمس، والشـ

والسمع، إحساس كما يحصــل من اإلبصــار. إذن فالــذي األشياء ليس انعكاسا على الدماغ، وإنما هــو يحصل من

بواسطة حواسه حس باألشياء. فاإلنسان يحس باألشياء.الخمس، وال تعكس على دماغه األشياء األشــياء الماديــة، وهــذا ظــاهر ظهــور الشــمس في

فالحس هو الذي يحصــل. أمــا األمــور غــير الماديــة، منــا أمور معنوية أو روحية، فإنها كذلك يحصل إحســاس به

المنحط ال حتى تتكون العملية العقلية بشأنها. فالمجتمع بد من اإلحساس باالنحطــاط حــتى يحصــل الحكم عليــه

وما يجرح الكرامة ال بد من. بأنه منحط، وهذا أمر ماديــذا ــأن ه ــل، أو الحس ب ــذي حص ــالجرح ال ــاس ب اإلحس

الفعل يجرح الكرامة، حتى يحصل الحكم بأنه الشيء أو الكرامــة، قد حصل جرح، أو أن الشيء له شفرة تجــرح

وهذا أمر معنوي. وما يغضــب اللــه ال بــد من اإلحســاس الحس بــأن هــذا الفعــل أو بغضب اللــه الــذي حصــل، أو

ــرة الشيء يستفز رب العزة، أي فيه نار االستفزاز وجم

14

ــة، وهــذا أمــر روحي. وبــدون وجــود الغضب للذات العليــالحس ذلك الحس ال يمكن أن تحصل العملية العقلية. ف

أمر ضــروري حــتى تحصــل العمليــة العقليــة، ســواء في األمــور غــير الماديــة. إال أن األشــياء األشــياء الماديــة أو

ويضعف المادية يحصل الحس بها طبيعيا وإن كان يقوى حسب فهم طبيعتها، ولذلك قالوا: إن اإلحساس الفكري

األمــور غــير الماديــة فإنــه ال أقوى أنواع اإلحســاس، أماــا أو عن طريق ــود فهم لهـ ــا إال بوجـ ــل الحس بهـ يحصـ

.التقليدذي يحصـل هـو وعلى أي حـال فـإن موضـوع كـون اـل

ــا هـــو أمر يكـــاد يكـــون من إحســـاس وليس انعكاسـ البديهيات، وإن كان في األشياء الماديــة أوضــح منــه في

ولكنه ليس أساسيا، فإنــه ملمــوس من. األمور المعنوية قد كل إنسان، وال يوجد فيه خالف، سوى أن التعبير عنه

يكون خالف الواقع كما عبروا عنه باالنعكاس، وقد يكون باإلحســاس أو الحس. ولكن هــو الواقــع كمــا عبرنــا عنه

ــابقة الذي كان أساس االنحراف إنما هو المعلومات الس الواقـــع، فإنهـــا هي الـــتي جعلت انحـــراف علمـــاء عن

العقــل، الشيوعية فظيعا، وهي بيت القصيد في موضوع.أو هي العمل األساسي في العملية العقلية

هـو: أن الحس وخالصة موضوع المعلومات السـابقة وحده ال يحصل منــه فكــر، بــل الــذي يحصــل هــو الحس

وإحســاس زائــد إحســاس فقط، أي اإلحساس بــالواقع، إنمــا وزائد مليون إحساس مهمــا تعــدد نــوع اإلحســاس،

فقط، وال يحصل فكر مطلقا، بل ال يحصل منه إحساســان يفسر ــد اإلنس ــابقة عن ــات س ــود معلوم ــد من وج ب

15

ــل فكر ــتى يحص ــه ح ــذي أحس ب ــع ال ــطتها الواق .بواس ولنأخــذ اإلنســان الحــالي، أي إنســان، ونعطيــه كتابــا

سريانيا، وال توجد لديه أيــة معلومــات تتصــل بالســريانية على الكتابة، بالرؤية، واللمس، ونكــرر ونجعل حسه يقع

كلمــة هذا الحس مليــون مــرة، فإنــه ال يمكن أن يعــرف واحدة، حتى تعطى لــه معلومــات عن الســريانية، وعمــا

يفكر بها ويدركها. وال يقال يتصل بالسريانية، فحينئذ يبدأ هذا خاص باللغات، وإنها وضــعية فتحتــاج إلى معلومــات

ــة،. عنها ــة عقلي ــك، ألن الموضــوع هــو عملي ــال ذل ال يق أو في والعمليــة عمليــة عقــل، ســواء في وضــع الحكم،

فهم الداللـــة، أو في فهم الحقيقـــة. فالعمليـــة العقليـــة فــالتفكير في مســألة، هــو. عملية واحدة في كل شــيء

كالتفكير في بصلة. وفهم معنى كلمــة، هــو كفهم معــنى منها يحتاج إلى عملية عقلية، والعملية العقلية واقع، كل

.واقع واحدة في كل شيء، وفي كل أمر، وفي كلع، فلنأخـذ ة والواـق دال في اللـغ ومن أجل أن ال نثير ـج

الطفل الذي وجد عنده اإلحساس الواقع مباشرة. لنأخذ ولم توجد عنده معلومــات، ولنضــع أمامــه قطعــة ذهب،

نحاس، وحجرا، ونجعل جميع إحساساته تشترك وقطعة يــدركها، مهمــا في حس هذه األشياء، فإنــه ال يمكنــه أن

ــوعت. ولكن إذا أعطي ــات وتن ــذه اإلحساس ــررت ه تكــها، ــا وأحس ــات عنه ــات معلوم ــتعمل المعلوم ــه يس فإن

ويدركها. وهذا الطفل لو كبرت سنه وبلغ عشرين ســنة،ــوم، يحس ولم يأخذ ــه يبقى كــأول ي ــة معلومــات، فإن أي

الـذي باألشـياء فقـط وال يـدركها مهمـا كـبر دماغـه، ألن يجعله يدرك ليس الدماغ، وإنما هو المعلومات الســابقة

16

.الــذي يحسه مع الدماغ ومــع الواقع وأيضــا لنأخــذ طفال يـر عمره أربع سنوات، لم ير األسد ولم يســمع بـه، ولم

الميزان ولم يسمع به، ولم ير الكلب ولم يسمع به، ولم ير الفيل ولم يسمع به، وعرضنا عليه أسدا وميزانا وكلبا

وصورة وفيال، أو عرضنا عليه صورة أسد وصورة ميزان كلب وصــورة فيــل، ثم طلبنــا منــه أن يعــرف أي واحــد

الشيء، فإنه ال يعرف منها، أو يعرف اسمه، وما هو هذا شيئا، وال يمكن أن توجد لديه أية عملية عقليــة تجــاه أي

ولــو حفظنــاه أســماءها غيبــا، بعيــدا عنهــا دون أن .منها األشياء، وقلنا هذه تقترن بأي منها، ثم عرضنا عليه هذه

أســماؤها، أي األســماء الــتي حفظتهــا هي أســماء هــذهــا. ولكن إذا األشياء، فإنه ال يمكن أن يعرف اسم أي منه

أعطينــاه اســم كــل منهــا تجــاه واقعــه، أو تجــاه صــورة الواقع، وربطناه بها، حــتى حفــظ األســماء مربوطــا كــل

كل شيء باسمه، أي اسم منها بواقعه، فإنه حينئذ يدرك يدرك ما هــو هــذا الشــيء هــل هــو أســد أم مــيزان، وال

مغالطته ال ينســاق معــك، بــل يصــر يخطئ. وإن حاولت على أن هذا أسد عن نفس األسد وصورته، وهذا مــيزان

ــذا عن ــورته، وهك ــيزان وص ــوع إذن .نفس الم فالموض وإنمــا هــو متعلــق ليس متعلقا بــالواقع، وال بــالحس بــه،

بالمعلومــات الســابقة عن هــذا الواقــع، أي المعلومــاتــالواقع ــالواقع المرتبطــة ب حســب علمــه، أو المتعلقــة ب

.حسب علمه هوع، أو ات السـابقة عن الواـق ذلك فالمعلوـم ة ـب المتعلـق

ــة الواقــع، شــرط أساســي ورئيســي ألن تحصــل العملي.ورئيسي للعقل العقلية، أي شرط أساسي

17

أما من ناحيــة اإلدراك هذا من ناحية اإلدراك العقلي. فناتج عن الغرائز والحاجات العضوية، والــذي الشعوري،

فيعــرف يحصل عند الحيوان فإنه يحصــل عنــد اإلنســان، من تكــرار إعطائــه التفاحــة والحجــر، أن التفاحــة تؤكــل

الحمــار أن الشــعير يؤكــل والحجر ال يؤكل، كمــا يعــرف وأن الـتراب ال يؤكــل. ولكن هــذا التميــيز ليس فكـرا وال إدراكا، وإنما هو راجع للغرائز والحاجات العضــوية، وهــو

عنــد اإلنســان. ولــذلك ال موجــود عنــد الحيــوان كمــا هو يمكن أن يحصل فكر إال إذا وجدت المعلومــات الســابقة

.اإلحساس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع نقل المعلومـــات إن مـــا يشـــتبه على الكثـــيرين هـــو أن

الســابقة قـد تحصــل من تجـارب الشــخص نفســه، وقـدــدهم أن ــل من التلقي. فعن ــد تحص ــها ق ــارب نفس التج

ــتي ــون التجــارب األولى هي ال ــات، فتك أوجــدت معلوم العقلية. وهذا االشتباه يزال بمجرد لفت أوجدت العملية

الحيوان من فرق النظر إلى ما بين دماغ اإلنسان ودماغــا ــط، وبمجــرد لفت النظــر إلى مــا بين م من حيث الرب

والحاجــات العضــوية ومــا يتعلــق بــالحكم يتعلق بالغرائز الحيوان ودماغ أما الفرق بين دماغ .على األشياء ما هي

ــان، فـــإن دمـــاغ الحيـــوان ال يوجـــد فيـــه ربـــط اإلنســـا يوجد ــه اســترجاع اإلحســاس وال للمعلومــات، وإنم في

من حيث قيام الحيـوان-سيما إذا تكرر، وهذا االسترجاع بالفعــل طبيعيــا- خــاص بمــا يتعلــق بــالغرائز والحاجــات

إذا ضــربت الجــرس العضوية، وال يتعــداه لغيرهــا. فــأنتــكعوأط مت الكلب عند ضرب الجرس، فإنه إذا تكرر ذل

قرع الجرس أن األكل آت ولذلك يســيل يفهم الكلب إذا

18

ــرك فيه ــارة تتحـ ــار حمـ ــذلك إذا رأى الحمـ ــه. وكـ لعابـ الشهوة، ولكنه إذا رأى كلبة ال تتحرك، وأيضا فإن البقــر

والعشـــب الـــذي وهي تـــرعى تتجنب العشـــب الســـام يضرها. وكل هذا وأمثاله إنما هو تميــيز غريــزي. أمــا مــا

بعض الحيوانات حركات أو أعماال تقــوم يشاهد من تعلم بها وهي ال تتعلق بالغريزة، فهي إنما تقوم ــدا ــذلك تقلي ب

ــوان ال ــدماغ الحي ــل وإدراك. ف ــاة وليس عن عق ومحاك المعلومــات، وإنمــا عنــده تــذكر توجــد فيــه خاصــية ربط

اإلحساس والتمييز الغريــزي. فكــل مــا يتعلــق بــالغريزة يحسه، وكــل مــا يحســه يســتطيع اســترجاع إحساسـه ال

ــوم سيما إذا تكرر هذا اإلحساس. فما يتعلق بالغريزة يق الحيوان به طبيعيا، سواء أحسه أو استرجع إحساسه به.

يتعلق بالغريزة فال يمكن أن يقوم به طبيعيا إذا أما ما الــرر هــذا اإلحســاس واســترجعه فإنــه أحســه، ولكن إذا ك

.يمكن أن يقوم به تقليدا ومحاكاة وليس قياما طبيعياه خاصـية وهذا بخالف إن دماغـه توجـد فـي اإلنسان، ـف

.ربط المعلومات وليس مجرد استرجاع اإلحساس فقطــراه فالشخص يرى رجال في بغداد، ثم بعد عشر سنين ي

ولكنــه لعــدم وجــود في دمشق، فيسترجع إحساسه بــه، معلومات عنه، ال يربط به أي شــيء، بخالف مــا لــو رأى

بغداد، وأخذ معلومــات عنــه، فإنــه يربــط هذا الرجل في معنى حضوره لدمشق بالمعلومات السابقة عنه، ويدرك

ــترجع ــو اس ــه ل ــوان فإن ــق. بخالف الحي ــوره لدمش حض حضــوره، وإنمــا اإلحساس بذلك الرجــل ال يــدرك معــنى

يحس بما يتعلق بــالغرائز لديــه عنــد رؤيــة ذلــك الرجــل. اإلحساس ولكنه ال يربــط المعلومــات فالحيوان يسترجع

19

ولــو أعطيت إليــه بــالتعليم والمحاكــاة. بخالف اإلنســان فإنــه يســترجع اإلحســاس، ويربــط المعلومــات. فــدماغ

اإلحســاس، ولكن اإلنسان فيه خاصية الربط واســترجاع الحيوان ال توجد لديه خاصــية الربــط، وإنمــا يوجــد لديــه

.اإلحساس فقط استرجاع وأمـــا الفـــرق بين مـــا يتعلـــق بـــالغرائز والحاجـــات

. فهــو أنعلى األشياء ما هي العضوية وما يتعلق بالحكم ما يتعلق بــالغرائز يمكن لإلنســان بتكــرار اإلحســاس أن

ن منيسترجع اإلحساس، ويمكنه بخاصية الربط أن يكو إحساســات، مجمــوع مــا يحســـه ومــا يســترجعه من

معلومــات، وأن يســترجع هــذه اإلحساســات بمعلوماتهــا والحاجات العضــوية، ولكنــه ال يمكن فيما يتعلق بالغرائز

أن يربط هــذه المعلومــات في غــير مــا يتعلــق بــالغرائز والحاجات العضــوية، أي ال يمكنــه أن يربطهــا في الحكم

على الكثيرين التفريق على الشيء ما هو. ولذلك اشتبه بين عمليـــة االســـترجاع وبين عمليـــة الربـــط. فعمليـــة

تكــون إال فيمــا يتعلــق بــالغرائز والحاجــات االسترجاع ال سواء العضوية، ولكن عملية الربط تكون في كل شيء،

ــق ــا يتعل ــالغرائز والحاجــات العضــوية أو م ــق ب ــا يتعل م فالمعلومات الســابقة ال بــد. بالحكم على األشياء ما هي

منها في الربط، وميزة اإلنســان على الحيــوان إنمــا هي خاصية الربط. ولذلك فإن كون اإلنســان يعــرف من في

ســفينة، عوم الخشــبة أنــه يمكن أن يجعــل من الخشب هي مثل كون القرد يعرف أن إسقاط الموزة من قطف

قطــف المــوز مــوز معلــق يمكن أن يحصــل من ضــرب المعلـــق بعصـــا أو أي شـــيء. فكلـــه متعلـــق بـــالغرائز

20

ــط وجعــل والحاجــات العضــوية، وحصــوله ــو رب حــتى لــط، ــة رب ــترجاع وليس عملي ــة اس ــو عملي ــات، ه معلوم

ــذلك ال يكــون عملية ــاك ول ــدل على أن هن ــة، وال ي عقلي فكرا، عقال أو فكرا، بل الذي يدل على أن هناك عقال أو

ويكون عملية عقلية حقا، إنما هو الحكم على األشياء ماــط. هي، والحكم على األشياء ما هي ال يتم إال بعملية رب

وجــود وربط بمعلومات سابقة. ومن هنــا كــان ال بــد من معلومات سابقة ألية عملية ربــط حــتى يوجــد العقــل أو

.العقلية الفكر، أي حتى تكون العمليةان باإلنسـان األول وكثيرون من الناس يحـاولون اإلتـي

ــدى من تجاربه ــف اهت ــذه كي ــات من ه ــوين معلوم وتك التجارب إلى الفكر وإلى التفكــير، ليصــلوا من ذلــك إلى

الواقــع نفســه بانعكــاس الــدماغ عليــه، أو بإحســاس أن لديــه عمليــة اإلنسان به قد جعــل اإلنســان يفكــر وأوجد

ــالرغم من أن .عقلية، أي أوجد عنده فكرا أي تفكــيرا وبــاص ما قدمناه من أن هذا استرجاع وليس ربطا، وأنه خ

األشياء ما بالغرائز وال يمكن أن ينطبق على الحكم علىدهي، كاف لنقضه والر ــا عليه. ولكن الموضوع ليس بحث

وال هــو متعلــق بفــروض وتخمينــات في اإلنســان األول،ــو ــان من حيث ه ــق باإلنس ــو متعل ــا ه ــورات، وإنم وتص

فبــدل أن نأخــذ اإلنســان األول ونقيس عليــه إنســان،ــا اإلنســان الحــالي، فنقيس الشــاهد على الغــائب، وإنم

يجب أن نأخــذ اإلنســان الحــالي، الــذي أمامنــا، نشــاهدهــه، ونقيس الغــائب على الشــاهد، ومــا ينطبــق ونحس ب

على اإلنسان الحــالي بــالحس والمشــاهدة ينطبــق علىــتى ــل إنســان، ح ــذلك ال يصــح أن ك اإلنســان األول. ول

21

ــه ــ ــوقه على وجه ــ ــل يجب أن نس ــ ــان، ب ــ نعكس البره فاإلنســان الحــالي أمامنــا نشــاهده ونحس بــه،. الصحيح

بــالغرائز ومــا فلنقم بالعمليــة العقليــة فيــه، فيمــا يتعلق ، ثم نــرى االســترجاعيتعلق بالحكم على األشياء مــا هي

بينهما. فنشاهد أن المعلومــات الســابقة والربط والفرقــد منها ــان، فال ب ــد اإلنس ــط عن ــا في الرب ــد منه في ال ب

العمليـــة العقليـــة. بخالف اســترجاع اإلحســـاس، فإنـــه وهو ال يشكل عمليــة موجود عند اإلنسان وعند الحيوان،

ــيرا. والطفــل ــرا وال تفك ــو عقال وال فك ــة، وليس ه عقلي ال يعرف األشياء وليســت لديــه معلومــات، الصغير الذي

الصــادق والذي يمكن أن يأخذ المعلومات، هــو البرهــان.على معنى العقل

د اإلنسـان، وعلى ذلك فإن العقل غـير موجـود إال عـن العملية العقليــة ال يمكن أن يقــوم بهــا إال اإلنســان، وأن

موجــودة عنــد اإلنســان وأن الغرائز والحاجات العضــوية وعند الحيــوان، وأن إحساســاتها موجــودة عنــد اإلنســان

وأن استرجاع هــذه اإلحساســات موجــود وعند الحيوان، وال عند اإلنســان والحيــوان. ولكن ذلــك كلــه ليس عقال،

إدراكا، وال فكرا، وال تفكيرا، وإنما هو تمييز غريزي ليس فإنه يحتــاج إلى دمــاغ فيــه خاصــية ربــط غير. أما العقل

وعليــه .المعلومات، وهذا ليس موجودا إال عنــد اإلنســان فإن العملية العقلية ال يمكن أن تحصل إال بوجود خاصية

إنمــا تربــط المعلومــات بــالواقع، الربط، وخاصية الربط األول، ولذلك ال بد ألية عملية عقلية، سواء عند اإلنسان

أو عند اإلنسان الحالي من وجــود معلومــات ســابقة عن هــذا الواقــع أمــام الشــخص الواقع، وموجودة قبل وجود

22

الذي يريد أن يعقله. ومن هنا كــان ال بــد أن تكــون عنــد األول معلومات سابقة عن الواقع، من قبــل أن اإلنسان

قولــه تعــالى عن يعرض عليه الواقع. وهذا ما يشــير إليه آدم، اإلنســان األول: )وعلم آدم األســماء كلهــا( ثم قــال

ــا آدم ــبئهم بأســمائهم(، فالمعلومــات الســابقة لــه: )ي أن شــرط أساســي ورئيســي للعمليــة العقليــة، أي لمعــنى

.العقل فعلمــاء الشــيوعية ســاروا في إدراك معــنى العقــل،

ــد من وجــود ــه ال ب ــأدركوا أن ــة ف ــع حــتى تتم العملي واق العقلية، وأدركوا أنه ال بد من وجــود دمــاغ إنســان حــتى

ــاروا في الطريـــق توجد ــة. وبـــذلك سـ ــة العقليـ العمليـ الـــدماغ المســـتقيم. ولكنهم أخطـــأوا التعبـــير في ربط

بـــالواقع وعـــبروا عنـــه باالنعكـــاس وليس باإلحســـاس. أنكـــروا ضـــرورة وجـــود ولكنهم انحرفـــوا كليـــا حين

المعلومات الســابقة حــتى تتم العمليــة العقليــة، وبــدون الســابقة ال يمكن أن تتم وال بوجــه من هذه المعلومــات

ــؤدي الوجوه. وعلى ذلك فإن الطريق المستقيم الــذي ي إلى معرفة معنى العقل معرفة يقينية جازمــة هــو أنــه ال

حــتى تتم العمليــة العقليــة أي بد من وجود أربعة أشــياء حتى يوجد العقل أو الفكر. فال بد من وجود واقع، وال بدــد من من وجود دماغ صالح، وال بد من وجود حس، وال ب

ــد من وجود معلومات سابقة. فهذه األربعة ــة ال ب مجتمعــة ــا، حــتى تتم العملي ــق اجتماعه ــا وتحق ــا جميعه تحققه

.يوجد عقل أو فكر أو إدراك العقلية، أي حتى

23

ه فالعقـل أو الفكـر أو اإلدراك هـو: نقـل الحس وعلـي بالواقع بواسطة الحواس إلى الــدماغ ووجــود معلومــات

ر بواسطتها هذا .الواقع سابقة يفس هـذا وحـده هـو التعريـف الصـحيح، وال تعريـف غـيره

لجميــع النــاس في جميــع مطلقا. وهــذا التعريــف ملــزم العصور، ألنه وحده الوصف الصادق لواقــع العقــل، وهــو

.ينطبق على واقع العقل وحده الذي وإذا عرفنا معنى العقل معرفة يقينية جازمة، وعرفنا

العقل بشكل يقيني جــازم، صــار لزامــا علينــا أن تعريفــول إلى نعرف الطريقة التي يعمل فيها العقل في الوص

األفكــار، أي نعــرف الكيفيــة الــتي يجــري بحســبها إنتــاج هو طريقة التفكير. فهنــاك أســلوب العقل لألفكار. وهذا

التفكير فهــو أما أسلوب .للتفكير، وهناك طريقة للتفكير الكيفية الــتي يقتضــيها بحث الشــيء، ســواء أكــان شــيئا

شــيئا غــير مــادي، أو الوســائل الــتي ماديــا ملموســا، أو يقتضــيها بحث الشــيء. ولــذلك تتعــدد األســاليب وتتغــيرــه. أمــا ره واختالف وتختلــف حســب نــوع الشــيء وتغي

العمليــة العقليــة الطريقة فهي الكيفية التي تجري عليها أي عملية التفكير حسب طبيعتها وحسب واقعها. ولهــذا

تتغــير وإنمــا تظــل هي هي، وبــالطبع ال فإن الطريقــة ال دائمــة، تتعدد وال تختلف، ومن هنــا كــان ال بــد أن تكــون

ــد أن تكــون هي األســاس في التفكــير مهمــا وكــان ال ب.التفكير تعددت أساليب

وطريقــة التفكــير، أي الكيفيــة الــتي يجــري بحســبها مهما كانت هذه األفكار، هي نفسها إنتاج العقل لألفكار،

24

تعريف العقل. أي هي ما ينطبــق على واقــع العقــل، والميت الطريقــة تخرج عنه بحـال من األحـوال. ولـذلك ســ

وتعريــف هــذه الطريقــة .العقلية نسبة إلى العقل نفسهــة، هي منهج معين في ــة العقليـ ــا، أي الطريقـ ــو أنهـ هـ

ــذي البحث، يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الــالواقع، بواســطة ــه، عن طريــق نقــل الحس ب يبحث عنر الحواس، إلى الــدماغ، ووجــود معلومــات ســابقة يفســ

حكمــه عليــه. وهــذا بواســطتها الواقــع، فيصــدر الــدماغ الحكم هــو الفكــر، أو اإلدراك العقلي. وتكــون في بحث

كالفيزيــاء، وفي بحث األفكــار كبحث المواد المحسوسة العقائــد وبحث التشــريع، وفي فهم الكالم كبحث األدب وبحث الفقه. وهذه الطريقة هي الطريقة الطبيعيــة في

وعمليتهــا هي الــتي الوصــول إلى اإلدراك من حيث هــو، يتكون بها عقل األشياء أي إدراكها، وهي نفســها تعريــف

منهجها يصل اإلنسان من حيث هو إنســان للعقل، وعلى.إدراكه إلى إدراك أي شيء سبق أن أدركه، أو يريد

ــة ــدها طريق ــة، وهي وح ــة العقلي ــذه هي الطريق ه طرق التفكير، كالطريقــة التفكير، وما عداها مما يسمى

العلميــة والطريقــة المنطقيــة، إن هي إال فــرع لهــذهــاليبها الطريقة ــلوب من أس ــة، أو أس ــة العلمي كالطريق

ــه، كما ــائل بحث ــيء، أو وس ــاها بحث الش ــمى اقتض يس بالطريقــة المنطقيـة، وليســت طرقـا أساسـية للتفكــير.

تتعـدد وهي الطريقـة العقليــة فطريقة التفكير واحـدة ال.ليس غير

ق في تعريفها بين اآلراء الســابقة إال أنه يجب أن يفر عن الشيء، وبين المعلومات السابقة عنه أو مــا يتعلــق

25

الطريقــة العقليــة ليس وجــود رأي أو بــه. فــالمحتم في آراء سابقة عن الواقع، بل وجــود معلومــات ســابقة عنه أو متعلقة به. ولذلك فإن المحتم الوجود هو المعلومــات

عن الواقــع، أو اآلراء وليس الــرأي. أمــا الــرأي الســابق السابقة عنه، فال يصح أن تكون موجودة، أي ال يصــح أن

ــتعمل ــو تس ــتعمل ه ــذي يس ــة. فال ــة الفكري في العملي عنــد المعلومــات فقــط مــع الحيلولــة دون وجــود الــرأي

العملية ودون تدخله. فإن الرأي السابق إذا استعمل قدــأ في اإلدراك، ــبب الخطـ ــلط على يسـ ــد يتسـ ــه قـ ألنـ

المعلومــات فيفســرها تفســيرا خاطئــا فيقــع الخطــأ فيــذلك ــرأي اإلدراك، ول ــق بين ال ــظ التفري ــد أن يالح ال ب

فقط السابق وبين المعلومات، وأن تستعمل المعلومات.ويستبعد الرأي

وإذا استعملت الطريقة العقلية على وجههـا الصـحيحــالواقع بواســطة الحــواس إلى الــدماغ من نقل الحس ب

بواسطتها ال آراء سابقة- يفسر-ووجود معلومات سابقة ر الواقع، أي بواسطة المعلومات مع استبعاد اآلراء، يفس

الـــدماغ حكمـــه على هـــذا الواقـــع. إذا وحينئـــذ يصـــدرــا ــحيح فإنه ــا الص ــة على وجهه ــذه الطريق ــتعملت ه اس

ــتي يصــل إليهــا تعطي ــائج صــحيحة. إال أن النتيجــة ال نت فيها: فإن كانت هذه الباحث على الطريقة العقلية ينظر

ــة ال النتيجــة هي الحكم على وجــود الشــيء فهي قطعي الخطــأ إليهــا مطلقــا وال بحــال من يمكن أن يتســرب

األحوال، وذلك ألن هذا الحكم جاء عن طريق اإلحساس بالواقع، والحس ال يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن

قطعي، فــالحكم الــذي إحساس الحــواس بوجــود الواقع

26

ــة ــذه الطريق ــع في ه ــود الواق ــل عن وج ــدره العق يصــانت ــا إن ك ــة قطعي. أم ــة هي الحكم على حقيق النتيج

الشيء أو صــفته فإنهــا تكــون نتيجــة ظنيــة، فيهــا قابلية الخطأ، ألن هــذا الحكم جــاء عن طريــق المعلومــات، أو

ــذه يمكن تحليالت الواقع المحسوس مع المعلومات، وه أن يتسرب إليهــا الخطــأ، ولكن تبقى فكــرا صــائبا حــتى

خطؤها، وحينئذ فقط، يحكم عليهــا بالخطــأ، وقبــل يتبين ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكرا ولهذا فإن األفكار .صحيحا

التي يتوصــل إليهــا العقــل بطريقــة التفكــير العقليــة، إن كانت ممـا يتعلــق بوجــود الشــيء كالعقائـد فإنهــا أفكــار

ــالحكم ــق ب ــا يتعل ــانت مم ــة، وإن ك ــة قطعي على حقيق الشيء أو صفته كاألحكام الشــرعية فإنهــا أفكــار ظنيــة،

الشـــيء الفالني حكمـــه كـــذا، أي غلب على الظن أن واألمر الفالني حكمه كــذا، فهي صــواب يحتمــل الخطــأ،

.يبقى صوابا حتى يتبين خطؤه ولكنه والطريقة العقلية سواء عرفت تعريفا صــحيحا أم لم تعرف، هي الطريقة التي يجري عليها اإلنسان من حيث

األشــياء وإدراكــه هــو إنســان في تفكــيره وحكمــه على لحقيقتها وصفاتها. ولكن الغرب، نعني أوروبا ثم أمريكــا

روسيا، قد أوجــد في أوروبــا االنقالب الصــناعي ولحقتهاــد ونجح في العلوم التجريبية نجاحا منقطع النظــير، وامت

سلطانه منذ القرن التاسع عشر حتى اآلن، حــتى شــمل فســمى أســلوب البحث في العلــوم. نفوذه جميع العالم

التجريبية طريقة علميــة في التفكــير، فكــان مــا يســمى بالطريقــة العلميــة، وصــار ينــادي بهــا أن تكــون طريقــة

وقــد أخــذها علمــاء التفكــير، وجعلهــا أساســا للتفكــير،

27

الشيوعية، وساروا عليها في غير العلوم التجريبيــة، كمــا في العلــوم التجريبيــة. وكــذلك ظــل علمــاء ساروا عليها

وســار على أوروبا يسيرون عليها في العلــوم التجريبيــة، نهجهم علماء أمريكا، وقلدهم فيها سائر أبناء العالم من

الغرب ثم نفوذ االتحاد الســوفياتي، جراء سيطرة ونفوذ فطغت على الناس بشكل عام هذه الطريقة، فكان من جراء ذلك أن وجدت في المجتمع اإلسالمي كله قداســة

العلمية. ولذلك كان ال بــد من لألفكار العلمية وللطريقة.بيان هذه الطريقة العلمية

ة هي منهج ة العلمـي معين في البحث، يسـلك الطريـق للوصول إلى معرفــة حقيقــة الشــيء الــذي يبحث عنــه،

تجارب على الشيء، وال تكــون إال في عن طريق إجراء األفكــار، بحث المواد المحسوسة، وال يتأتى وجودها في

فهي خاصــة بــالعلوم التجريبيــة. وهي تكــون بإخضــاع ظروفها وعواملها األصــلية، المادة لظروف وعوامل غير

ومالحظة المــادة والظــروف والعوامــل األصــلية، والــتي لهــا، ثم تســتنتج من هــذه العمليــة على المــادة خضــعت

.المختبرات حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال فيع المعلومـات وتفرض هذه الطريقـة التخلي عن جمـي

يبحث وعدم وجودهــا، ثم تبــدأ السابقة عن الشيء الذي ــا بمالحظة المادة وتجربتها، ألنهــا تقتضــيك إذا أردت بحثــك في أن تمحو من نفسك كل رأي وكل إيمان ســابق ل

والتجربــة، ثم بالموازنــة هذا البحث، وأن تبدأ بالمالحظة والــترتيب، ثم باالســتنباط القــائم على هــذه المقــدمات

فــإذا وصــلت إلى نتيجــة من ذلــك كــانت نتيجــة. العلمية ولكنهــا علمية خاضعة بطبيعــة الحــال للبحث والتمحيص

28

تظــل علميــة مــا لم يثبت البحث العلمي تســرب الخطــأ فالنتيجة التي يصل إليهــا البــاحث .إلى ناحية من نواحيها

على الطريقة العلمية هي مع تسميتها حقيقــة علميــة أو قانونا علميا، فإنها ليست قطعيــة وإنمــا هي ظنيــة فيهــا

هــذه في الطريقــة العلميــة قابلية الخطأ. وقابلية الخطأــا أساس من األسس التي يجب أن تالحظ فيها حسب م

.البحث العلمي هو مقرر في هــذه هي الطريقــة العلميــة، ومن بحثهــا يتــبين أنهــا

ــا صحيحة وليست خطأ وتسميتها طريقة ليس خطــأ ألنه منهج معين دائم في البحث. والطريقة هي الكيفية التي ال تتغــير. ولكن الخطــأ هــو جعلهــا أساســا للتفكــير، ألن

بــنى عليهــا،ليســت أصــال ي جعلها أساسا ال يتأتى. إذ هيــرج وإنما هي فرع بني على أصل، وألن جعلها أساسا يخ

المعارف والحقــائق عن البحث. ويــؤدي إلى الحكم أكثر تــدرس والــتي على عدم وجود كثير من المعــارف الــتي

تتضــمن حقــائق، مــع أنهــا موجــودة بالفعــل، وملموســة.والواقع بالحس

فالطريقــة العلميــة طريقــة صــحيحة، ولكنهــا ليســت أســلوب دائم من أســاليب أساسا في التفكــير، بــل هي

التفكير، وهي ال تطبق على كل أمر وإنما تطبق في أمر المادة المحسوسة لمعرفة حقيقتها عن طريـق واحد هو

المـــواد إجـــراء تجـــارب عليهـــا، وال تكـــون إال في بحث المحسوسة، فهي خاصة بالعلوم التجريبيــة وال تســتعمل

.في غيرها

29

ليســت أساســا فظــاهر من وجهين: األول أمــا كونها ولــو أنه ال يمكن السير بهــا إال بوجــود معلومــات ســابقة

معلومات أولية، ألنه ال يمكن التفكير إال بوجود معلوماتــالم ــالم في ســابقة. فع ــاء، والع ــاء وعــالم الفيزي الكيمي

العلميــة لحظــة المختبر، ال يمكن أن يســير في الطريقة واحدة إال أن تكون لديه معلومــات ســابقة. وأمــا قــولهم

العلميـــة تفـــرض التخلي عن المعلومـــات إن الطريقة الســابقة ال السابقة فإنمــا يريـدون بــه التخلي عن اآلراء

عن المعلومات السابقة، أي أن الطريقة العلمية تقتضي البحث أن يمحو من نفسه كل رأي وكل الباحث إذا أراد

ــدأ بالمالحظة ــه في هــذا البحث، وأن يب إيمــان ســابق ل والتجربــة ثم بالموازنــة والــترتيب ثم باالســتنباط القــائم

ــارة عن .على هذه المقدمات العلمية فهي وإن كانت عب مالحظة وتجربة واســتنباط. ولكن ال بــد فيهــا من وجــود

وهذه المعلومــات تكــون قــد جــاءت عن غــير .معلوماتــطة المالحظة والتجربة، أي عن طريق نقل الواقع بواس

الحـــواس، ألن المعلومـــات األوليـــة ألول بحث علمي الــة، ألن ذلــك لم يحصــل يمكن أن تكون معلومات تجريبي

بعد، فال بـد أن تكــون عن طريـق نقــل الواقــع بواســطة الــدماغ، أي ال بــد أن تكــون المعلومــات قــد الحس إلى

تكــون جــاءت من طريقــة الطريقــة العقليــة، ولــذلك ال الطريقة العلمية أساسا، بل تكون الطريقة العقليــة هي

مبنيــة على هــذا األســاس، األســاس، والطريقــة العلمية فتكــون فرعــا من فروعــه ال أصــال لــه. ولهــذا فــإن من

.الطريقة العلمية أساسا للتفكير الخطأ جعل

30

أن كل ة تقضـي ـب ا الوجه الثاني أن الطريقة العلمـي ـم ال يلمس ماديا ال وجــود لــه في نظــر الطريقــة العلميــة،

ــق، وال ــود للمنطـ ــه، وال وإذن ال وجـ ــاريخ، وال للفقـ للتـــا ال تلمس ــارف، ألنه ــك من المع ــير ذل للسياســة، وال غ

ــة، وال باليد، وال تخضع للتجربة، وال وجود لله، وال للمالئك الموجــودات، ألن ذلــك لم للشياطين، وال غــير ذلــك من

ــادة ــة الم ــق مالحظ يثبت علميــا، أي لم يثبت عن طري واالســتنتاج المــادي لألشــياء. وهــذا هــو الخطــأ وتجربتها

المعرفــة, الفاحش، ألن العلوم الطبيعية فرع من فــروعــيرة، وهي لم وفكر من األفكار، وباقي معارف الحياة كث

العلميــة، بــل تثبت بالطريقــة العقليــة. تثبت بالطريقة ووجــود ووجود الله ثبت بالطريقة العقلية بشكل قــاطع،

ــوت قطعي ــياطين ثبت بنص قطعي الثب ــة والش المالئكــة. الداللة، ثبتت قطعيته وقطعية داللته بالطريقــة العقلي

ولذلك ال يجوز أن تتخذ الطريقة العلمية أساسا للتفكير،ــات شــيء موجــود ــة إثب ــا وقصــورها عن إمكاني وعجزه

بشــكل قــاطع دليــل قــاطع على أنهــا ليست أساســا.للتفكير

ة ة العلمـي ة الخطـأ في الطريـق إن قابلـي ك ـف وفوق ذـلــا أساس من األسس التي يجب أن تالحظ فيها حسب م

ــد حصــل الخطــأ في ــرر في البحث العلمي. وق ــو مق ه بالفعــل، وظهــر ذلــك في كثــير من المعــارف نتائجها

ن فســادها بعــد أن كــان يطلق عليهــا العلميــة الــتي تــبي حقائق علمية. فمثال الذرة، كــان يقــال عنهــا إنهــا أصــغر

نقســم، فظهــر خطــأ ذلــك وتــبين تجــزء من المــادة وال بالطريقة العلمية نفسها أنها تنقسم. وكــذلك كــان يقــال

31

ن بالطريقــةهــالمــادة ال تفــنى فظ إن ر خطــأ ذلــك وتــبي ممــا كــان يســمى العلمية نفسها أنها تفنى. وهكذا كثــير

بالحقائق العلمية والقانون العلمي، قــد ظهــر بالطريقــة وتبين بالطريقــة العلميــة نفســها أنهــا العلمية خطأ ذلك،

ــا. ولــذلك فــإن ليست حقائق علمية وليست قانونا علمي الطريقــة العلميــة طريقــة ظنيــة وليســت قطعيــة، وهي

وعن صــفته، وعن توجد نتيجة ظنية عن وجــود الشــيء، حقيقته. ولذلك ال يجوز أن تتخذ الطريقة العلمية أساسا

ولكنها على كــل حــال طريقــة صــحيحة في .في التفكيرــوم التفكير، وهي طريقة للتفكير، ولكنها تصــلح في العل

التجريبية وحــدها، أي تصــلح فيمــا يمكن أن تجــري فيهــاــا ال يمكن المالحظة والتجربة ثم ــترتيب. وم الموازنة وال

ــالعلوم أن يجري فيه ذلك ال تصلح مطلقا، فهي خاصــة ب.التجريبية ليس غير

على أن الطريقة العلمية وإن كان يمكن أن يسـتنبطــار، ــا أفك ــر، فهي ال به ــدها فك ــا وح ــأ به ــا ال ينش ولكنه الحــال نشئ إنشاء جديدا أي فكر، كما هيتستطيع أن ت

في الطريقة العقلية، وإنما هي تستنبط استنباطا أفكارا مســتنبطة، ال أفكــار منشــأة إنشــاء جديدة، ولكنها أفكار

.جديداار دا هي األفـك تي أخـذها فإن األفكار المنشـأة جدـي اـل

العقل رأسا. فمعرفــة وجــود اللــه، ومعرفــة أن التفكــير التفكير الشخصي بذات الشــخص، وأن بالقوم أعلى من

الخشب يحترق، وأن الزيت يطفو على وجه المــاء، وأن تفكير الفرد أقوى من تفكير الجماعــة، كــل ذلــك أفكــار

ــأة أخذها العقل مباشرة. وهذا بخالف األفكار غير المنش

32

إنشــاء جديــدا، وهي األفكــار المســتنتجة على الطريقــة فإنها لم يأخذها العقــل رأسـا، وإنمــا أخــذها من العلمية،

جــانب التجــارب. عــدة أفكــار أخــذها العقــل ســابقا إلىــدروجين، فمعرفــة أن المــاء مكــون من أوكســجين وهي

ومعرفة أن المادة تفنى، هذه ومعرفة أن الذرة تنقسم، جديــدا، األفكار لم يأخذها العقل رأسا، ولم تنشــأ إنشــاء

وإنما أخذت من أفكار سبق للعقل أن أخذها، ثم أجريتــذه ــانب ه ــارب إلى ج ــرى اســتنتاج التج ــار، ثم ج األفك

الفكر. فهو ليس إنشاء جديدا بل هو مســتنتج من أفكــار موجودة وتجربة، لذلك ال تعتبر إنشــاء جديــدا، بــل تعتــبر

وتجربــة. فالطريقــة العلميــة أفكــارا مــأخوذة من أفكــار تستنبط فكرا، ولكنها ال تستطيع إنشاء فكر، ولذلك كان

من ــا ــون هي أساسـ ــبيعي، ومن المحتم، أن ال تكـ الطـ وأمريكــا، وتلحــق بهم إال أن الغــرب أي أوروبا .للتفكــير

روسيا، قد بلغت عندهم الثقة بالطريقة العلمية إلى حــد ما يقرب من التقديس، ال ســيما في القــرن التقديس أو

أصــبح التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى حــد أن منحرف التفكير، ضاال عن الطريق المستقيم، ألنه جعل

العلميــة، وجعلهــا وحــدها طريقتــه في التفكــير الطريقة أساس التفكير، وحكمها في جميع األشــياء، فصــار يــرى

الصـــحيح هـــو الـــذي يجـــري على الطريقـــة أن البحث العلمية. وتجاوز ذلك إلى حد أن صار بعضهم يبحث فعال

أمورا ال عالقة للطريقة العلمية بهــا، كاألفكــار المتعلقــة بالحيــاة والمجتمــع، على نهج الطريقــة العلميــة وتقليــدا

ــان ــة باإلنس ــارف المتعلق ــار يبحث بعض المع ــا، وص له والمجتمــع وبالنــاس بحثــا عقليــا، ولكن على أســلوب

ــذه ــق على ه ــة، ويطل ــة العلمي ــارف اســم الطريق المع

33

العلم. وهذا من جراء تعميمه للطريقة العلمية وتقــديره.أساسا للتفكير لها، وجعلها

فمثال سـار علمـاء الشـيوعية في وجهـة نظـرهم فيــام ــاة، وفي نظ ــة، الحي ــة العلمي ــع على الطريق المجتم

فوقعوا في الخطــأ الفــاحش الــذي تــردوا فيــه. واألمثلة على خطئهم كثيرة وموجودة في كل فكر من أفكارهم،

ــتي تبحث ألنهم قاسوا الطبيعة والمجتمع على األشياء ال في المختبر، فخرجوا بنتائج بالغة الخطــأ. ويكفي إلدراك

الجميع أن نأخذ فكرتين رئيسيتين، ونبين وجه الخطأ في الســير في الخطأ في كل منهمــا، وأن ســبب الخطــأ هو

ــة العلمية ــ .الطريق ــا ك ــة أنه ــرتهم عن الطبيع اللففكــا في حالة ــزأ، وأنه ــير يتم يتج ــذا التغ ــير دائم، وأن ه تغ

ــياء ــود في األشـ ــة الوجـ ــات الحتميـ ــطة التناقضـ بواســـار ــتي هي من األفك ــات ال ــذ التناقض ــوادث. فلنأخ والح

أنهــا موجــودةصح األساسية عندهم. هذه التناقضات إذا في األشــياء، فإنهــا غــير موجــودة فيهــا جميعهــا. فهنــاك

ــتي أشــياء ال توجد ــة ال ــا تناقضــات، فاألجســام الحي فيه يقولـون إن فيهـا تناقضـات بحجـة أن فيهـا خاليـا تمـوت وخاليا تحيا، هذه األجسام الحية ال يوجد فيهــا تناقضــات،

ــا تمــوت وأما ما يشاهد في الجسم الحي من وجود خالي وخاليا تحيا فإنه ليســت تناقضــات، بـل إن كــون األشـياء

وتموت، وتفنى وتوجــد ال يعــني أن هــذه تناقضــات، تولدــاتج عن قــوة الخليــة وضــعفها، وقــدرتها على بــل هــو ن

المقاومة وعجزها عنهــا. وهــذا ليس تناقضــات. على أن يحصــل فيهــا فنــاء وال تحصــل والدة. غير الحيةاألجسام

.تناقضــات ومع ذلك يقولون إنــه يوجــد في األشــياء كلها

34

ولو ســلمنا جــدال أن في األشــياء تناقضــات فــإن هــذا ال تناقضات. فعمليات البيع واإلجارة يعني أن في الحوادث

والشركة ونحوهــا، كلهــا تجــري دون أي تناقضــات فيهــا، وعمليات الصــالة والصــوم والحج وأمثالهــا، كلهــا تجــري

يوجـد فيهــا تناقضــات. دون أي تناقضــات. فهي قطعــا ال ى إلى خطــأولكن سلوكهم الطريقة العلمية هو الــذي أد

ســيما في الحــوادث. وقــد كــان من جــراء نظريتهم، وال خطــأ نظــرتهم هــذه وهي أن الحــوادث فيهــا تناقضــات

ــه من أن التناقضــاتحتمية، أن أد ت إلى ما كانوا يظنون أوروبــا ال يحصــل فيهــا في أوروبــا ستحصــل حتمــا، وإذا

تناقضات، وتغرق في الرأســمالية وتبعــد عن الشــيوعية. في الخطــأ هــو سـلوك الطريقــة العلميــة فالذي أوقعهم

في في الحكم على األشياء، وسلوكهم الطريقة العلمية.الحكم على الحوادث

وفكــرتهم عن المجتمــع هي أن المجتمــع مؤلــف من ومن نمــو الســكان وتكــاثفهم، ومن الوســط الجغــرافي

أسلوب اإلنتاج. فالحيــاة الماديــة في المجتمــع هي الــتي النهاية هيأة المجتمع وأفكاره وآراءه وأوضــاعه تحدد في

المادية إنما يؤثر فيها أســلوب السياسية. وبما أن الحياةــؤثر في ــذي ي ــو ال ــاج ه ــلوب اإلنت ــون أس ــاج، فيك اإلنت المجتمـــع. ذلـــك أن أدوات اإلنتـــاج، والنـــاس الـــذين

ــذه األدوات، ومعرفة ــتعملون ه ــف يس ــتخدامها، تؤل اس بمجموعها قوى المجتمــع المنتجــة، فتؤلــف جانبــا واحــدا

ــر عن ســلوك النــاس نحــو أشــياء وهو الجانب الــذي يعب فهــو عالقــة الطبيعة، وقواها المنتجة. أمــا الجــانب اآلخر

وهــذا خطــأ، فــإن .الناس فيمــا بينهم أثنــاء ســير اإلنتــاج

35

ومــا بينهم من عالقــات، بغض النظــر المجتمع هو الناســود أدوات ــر عن وج ــل بغض النظ ــاج، ب عن أدوات اإلنت إنتاج أو عدم وجودها، ألن الذي يوجد العالقات بينهم هو

أدوات اإلنتــاج، وإنمــا تقررهــا المصــلحة، وهي ال تقررها األفكار التي يحملونها عن إشباع الحاجات الــتي يريــدونــا إشباعها. والذي أوجد الخطأ هو أنهم رأوا المجتمــع كم

فصــاروا يحــاولون بحث مــا يــرون المــادة في المختــبر،ــون مــا يرونه من عناصر تطبيقا لنظريتهم، وأخذوا يطبق

المــادة على النــاس وعالقــاتهم، فوقعــوا في يحصل فيــات والحــوادث ال الخطأ، ألن الناس غير األشياء، والعالق

ــاعها تخضع للبحث كما تخضع المادة في المختبر، فإخضــذي أوقعهم للمالحظة والتجربة والخروج بنظريات هو ال

في الخطأ. فالشيوعية كلها ســبب خطئهــا ســبب واحــد، سلوكها الطريقــة العلميــة في الحــوادث والعالقــات. هو

التاسع عشــر من وهذا كان من جراء ما شاع في القرنــا إلى حــد ــراق فيه ــة، ومن اإلغ ــة العلمي ــدير للطريق تق

.والسير بها في كل بحث تطبيقها على كل شيء،ا ا وأمريـك اء أوروـب رب أي علـم اء الـغ إن علـم وأيضـا ـف

ــار ال خلطــوا ــةإبين األفك ســتنتاجية الناتجــة عن الطريق الطريقــة العلميــة، العقلية واألفكار العلميــة الناتجــة عن

ــان ــرفات اإلنسـ ــة على تصـ ــة العلميـ ــوا الطريقـ فطبقـ يسمى بعلم النفس وعلم االجتماع وأحواله، وأخرجوا ما

ــا وعلوم التربية، فكانت نتيجة ذلك هذا الخطأ البارز فيم يسمى بعلم النفس وعلم االجتماع وعلــوم التربيــة، أنهم

ــاره يعتبرون ما يسمى علم النفس ــبرون أفك علما، ويعت أفكــارا علميــة، ألنهــا جــاءت بنــاء على مالحظــات جــرى

36

األطفال في ظروف مختلفة وأعمار مختلفة، تتبعها على والحقيقــة أن .تجــارب فســموا تكــرار هــذه المالحظــات

ــار أفكار علم النفس ليست أفكارا علمية، وإنما هي أفك ألن التجارب العلمية هي إخضاع المادة لظــروف .عقلية

ومالحظــة أثــر وعوامل غير ظروفها وعواملهــا األصــلية، هـــذا اإلخضـــاع، أي هي نفس التجـــارب على المـــادة

أمــا مالحظــة الشــيء في .كتجــارب الطبيعــة والكيميــاء أوقات وأحوال مختلفة فليس بتجارب علمية. وعليه فإن

الطفل في أحوال مختلفة وفي أعمــار مختلفــة مالحظة يعتــبر طريقــة ال يــدخل في بحث التجــارب العلميــة، فال

علمية، وإنما هــو مالحظــة وتكــرار للمالحظــة واســتنتاج عقليــة وليســت علميــة. فكــان من فحسب. فهو طريقة

.الخطأ اعتباره أفكارا علمية عن وكان هذا الخطــأ ناتجــا الخطـــأ الفـــاحش في تطـــبيق الطريقـــة العلميـــة على

ــة، اإلنسان. ألن الطريقة العلمية أهم ما فيها هــو التجربــع ــتي تخض ــا هي ال ــادة، ألنه ــأتى إال في الم ــذه ال تت وه

ــال لالختبار في المختبر. والمالحظة ليست مالحظة ألفع نفسها أو ألشياء في ظروف مختلفة، بل مالحظة المادة

ومالحظة الظروف والعوامــل األصــلية، والــتي أخضــعتــذات ال لها. واالستنتاج إنما يحصل من هذه المالحظة بال

ــة على مجرد مالحظة. لذلك فإن تطبيق الطريقة العلمي هذا الوجه بالذات، أي على غــير المــادة وإخضــاعها، غير

اســتنتاجات خطأ فاحش يؤدي إلى أخطاء فاحشــة وإلى خاطئة. وهذا ما حصــل مــع علمــاء الغــرب في األبحــاث

ــا العقلية التي ساروا بها على الطريقة العلمية واعتبروه علما وأفكارا علمية، فوقعوا في الخطــأ الفــاحش الــذي

واألمثلة على خطئهم كثيرة وموجودة في كل .وا فيهترد

37

من أبحــاثهم، قاســوا فكرة من أفكارهم وفي كــل بحث اإلنسان على األشياء الــتي تبحث فخرجــوا بنتــائج بالغــة

ويكفي إلدراك الخطأ أن نأخذ فكرة واحــدة وهي .الخطأ.فيها فكرة الغرائز، ونبين وجه الخطأ

لقــد كــان من جــراء ســلوكهم في تطــبيق الطريقــة يالحظون أفعال اإلنســان العلمية على اإلنسان أن أخذوا

ويرجعونها إلى دوافــع، وانشــغلوا في األفعــال المتعــددةرفهم هـــذا عن البحث الحقيقي وفي مالحظتهـــا، فصـــ

أنهم لــو وجعلهم يخرجــون بنتــائج مغلوطــة. والحقيقةــوا إحساســهم باإلنســان ــة لنقل ســلكوا الطريقــة العقلي

روا وتصرفاته إلى الدماغ، ثم بالمعلومــات الســابقة فســ واقع اإلنسان وواقع هذه التصرفات، لخرجوا بنتــائج غــير النتائج التي توصلوا إليها، حتى لو كانت نتائج ظنية. فهم

ــا مثال يقولون إن الغرائز كثيرة، فقد أحصوها أوال، ثم لم وال رأوا أفعاال أخــرى صــاروا يقولــون إن الغرائــز كثــيرة

حصر لها، فقالوا هناك غريــزة الملكيــة وغريــزة الخــوفــع، ــزة القطي ــزة الجنس وغري ــك من وغري ــير ذل إلى غ

الغرائز الــتي قــالوا بهــا. والســبب في ذلــك هــو أنهم لم الغريــزة ومظهــر الغريــزة. أي بين كــون يفرقــوا بين

األصــلية الطاقة أصلية أو مظهر من مظاهرهــا. فالطاقةــان، فال يمكن ــة اإلنسـ ــزء من ماهيـ ــزة هي جـ أو الغريـ

ــد أن عالجها وال يمكن محوها، وال ــا ال ب يمكن كبتها، فإنه توجد بــأي مظهــر من مظاهرهــا، بخالف مظهــر الطاقــة

أي مظهر الغريزة، فإنـه ليس جــزءا من ماهيــة األصلية،ــوه، ــه، ويمكن مح ــذلك يمكن عالج ــان، ول ويمكن اإلنس

ــرة ومن مظاهرهــا كبته. فغريزة البقاء من مظاهرها األث

38

األثــرة باإليثــار، بــل يمكن محوهــا اإليثار، فيمكن معالجة ويمكن كبتهــا. ومثال الميــل للمـرأة بشــهوة، من مظــاهر غريــزة النــوع، والميــل لألم من مظــاهر غريــزة النــوع،

يمكن محوهـــا، وال فغريـــزة النـــوع ال يمكن عالجهـــا وال يمكن كبتها. ولكن معالجة مظاهر هذه الغريــزة ممكنــة،

المظــاهر ويمكن كبتهــا. فمثال من بــل يمكن محــو هــذهــهوة، والميل لألم، مظاهر غريزة النوع الميل للمرأة بش

والميــل لألخت، والميــل للبنت، وهكــذا. فيمكن معالجــةــالج الميل للمرأة بشهوة بالميل ــان يع بحنان لألم، فالحن

الشهوة كما يعالج اإليثار األثرة. وكثــيرا مــا يكــون حنــان األم صــارفا عن الزوجــة وحــتى عن الــزواج وعن الميــل

الجنســي الرجــل عن الجنسي. وكثيرا ما يصــرف الميل حنان أمه. فأي مظهر من مظاهر غريزة النوع يمكن أن

ــر. يسد مسد مظهر ــر بمظه آخر، ويمكن أن يعالج مظه فالمظهر يجري عالجــه، بــل يجــري كبتــه ومحــوه، ولكنــة الغريزة ال يمكن فيها ذلك، ألن الغريزة جــزء من ماهي

.ليس جزءا من ماهيته اإلنسان، بخالف المظهر فإنه ومن هنـــا أخطـــأ علمـــاء النفس بـــالغرائز وفهمهـــا

ــدم ــرها ثم عـ ــز وحصـ ــة أن الغرائـ ــرها. والحقيقـ حصـ محصورة بثالث غرائز هي: غريزة البقاء، وغريزة النــوع، وغريزة التدين أو التقــديس. وذلــك أن اإلنســان يحــرص

ــك ويخــاف ــو يمل ــه، فه ــاء ذات ــدام على بق ــدفع باإلق وين ويتجمع، إلى غير ذلــك من مثــل هــذه األفعــال من أجــل

ليس غريــزة، والملــك ليس غريــزة، بقاء ذاته. فــالخوف والشجاعة ليســت غريــزة، والقطيــع ليس غريــزة.. الخ،ــاء. ــزة البق ــزة واحــدة هي غري ــا هي مظــاهر لغري وإنم

39

والميل إلى المرأة وكذلك الميل إلى المرأة عن شهوة، عن حنان، والميل إلى إنقاذ الغريــق، والميــل إلى إغاثــة

الخ، كل ذلك ليس غرائــز وإنمــا هي مظــاهر.. الملهوف الجنس، لغريزة واحدة هي غريزة النوع، وليست غريزة

ألن الجنس يجمع الحيــوان واإلنســان، والميــل الطــبيعي لإلنســان، ومن الحيــوان للحيــوان. إنما هــو من اإلنســان

فالميــل بشــهوة من اإلنســان للحيــوان هــو شــاذ وليس طبيعيا، وال يحصل طبيعيا وإنما يحصل شذوذا. والغريــزة

ميل الــذكر للــذكر هــو شــاذ هي الميل الطبيعي. وكذلك وليس طبيعيا، وال يحصل طبيعيــا وإنمــا يحصــل شــذوذا.

ــل فالميل ــان لألم، والمي ــل بحن ــرأة، والمي ــهوة للم بش ولكن الميــل .بحنان للبنت، كلهــا مظــاهر لغريــزة النــوع

بشهوة من اإلنســان للحيــوان، ومن الــذكر للــذكر، ليس انحراف بالغريزة، فهــو شــاذ. فــالغريزة طبيعيا وإنما هو

ــزة الجنس، وهي لبقــاء ــوع وليســت غري ــزة الن هي غري وأيضا فإن الميل .النوع اإلنساني ال لبقاء جنس الحيوان

لتقــديس األبطــال، والميــل الحــترام لعبادة الله، والميل األقويــاء، كــل ذلــك مظــاهر لغريــزة واحــدة هي غريــزةــعور ــه ش ــان لدي ــك أن اإلنس ــديس. وذل ــدين أو التق الت

هــذا البقــاء يشــعر طبيعي بالبقاء والخلود. فكل ما يهدد تجاهه طبيعيا، شعورا حسب نوع هــذا التهديــد، بــالخوف

ــب أو اإلقدام، بالبخل أو الكرم، بالفردية أو التجمع، حســه ما يراه، فيوجد عنده شعورا يدفعه للعمل، فتظهر علي

مظاهر من األفعال ناتجــة عن الشــعور بالبقــاء. وكــذلك ببقاء النوع اإلنساني، ألن فناء اإلنسان يهدد عنده شعور

بقاءه، فكــل مــا يهــدد بقــاء نوعــه يشــعر تجاهــه طبيعيــا شعورا حسب نوع هذا التهديــد. فرؤيــة المــرأة الجميلــة

40

ورؤيــة األم تثــير فيــه الحنــان، ورؤيــة تثير فيه الشــهوة، للعمــل، الطفل تثير فيه اإلشفاق، فيشعر شــعورا يدفعه

فتظهر عليه مظاهر من األفعال قد تكون منسجمة وقــد عجــزه عن إشــباع شــعور تكــون متناقضــة. وأيضــا فــإن

البقــاء أو بقــاء النــوع يثــير فيــه مشــاعر أخــرى هي واالنقيــاد لمــا هــو حســب شــعوره مســتحق االستســالم

ــزعيم، لالستسالم واالنقياد. فيبتهل إلى الله، ويصــفق لل ويحترم القوي، وذلك نتيجــة لشــعوره بــالعجز الطــبيعي.

ــز فأصل الغرائز هو الشعور بالبقاء أو بقاء النوع أو العج الطــبيعي، ونتج عن هــذا الشــعور أعمــال، فكــانت هــذه األعمـــال مظـــاهر لتلـــك األصـــول الطبيعيـــة، وهي في

هذه األصول مجملها يرجع كل مظهر منها إلى أصل من.الثالثة. لذلك كانت الغرائز ثالث ليس غير

هــو أن لديــه طاقــة على أن األصــل في اإلنســان حيوية، وهذه الطاقــة الحيويــة فيهــا إحساســات طبيعيــة

لإلشــباع، فهــذا الــدفع يكــون مشــاعر أو تــدفع اإلنســانــا يتطلب ــا مـ ــباع. منهـ ــات، وهي تتطلب اإلشـ إحساسـ اإلشباع حتما وإذا لم يشــبع يمــوت اإلنســان ألنــه يتعلــق

ــة من حيث هو ــود الطاق ــا يتطلب بوج ــا م ــود. ومنه وج اإلشباع ولكن بشكل غير حتمي، فإذا لم يحصل اإلشباع

ولكنه يبقى حيــا، ألنــه يتعلــق بحاجــات الطاقــة ال ينزعجــة الحيوية ــانت الطاق ــذلك ك ــا. ول ــقين: بوجوده ذات ش

ــق عليــه أحدهما يتطلب اإلشــباع الحتمي، وهــذا مــا يطل كـــالجوع والعطش وقضـــاء الحاجـــات العضـــوية، وذلك

ــق الحاجة. وثانيهما يتطلب مجرد اإلشباع، وهــذا مــا يطل

41

الغرائز، وهي ثالث: غريزة البقــاء، وغريــزة النــوع، عليه.وغريزة التدين

ــق في ــو الح ــذا ه ــق في ه ــو الح ــذا ه ــز، وه الغرائ اإلنسان. فلو سلك علماء الغرب الطريقــة العقليــة بنقل اإلحساس باإلنسان وأفعاله وفسروا هــذا الواقــع أو هــذا

السابقة، الهتــدوا لحقيقــة اإلحساس بالواقع بالمعلومات هذا الواقع. ولكن سلوكهم الطريقة العلمية، واعتبــارهم

ــان أن اإلنسان كالمادة، وظنهم أن مالحظة أفعال اإلنس الحقيقة وخرجــوا هي كمالحظة المادة. ضللهم ذلك عن

بهذه النتائج الخاطئة في الغرائز، وفي غيرها من أبحاث وقل مثل ذلك فيما يســمى بعلم االجتمــاع، .علم النفس

وهي في وعلوم التربية، فإنها كلهــا ليســت من العلــوم، جملتها خطأ في خطأ. فهذه األخطــاء الــتي حصــلت في

والملحقة بها روسيا، أي لدى الغرب، في أوروبا وأمريكا علماء الشيوعية، ولدى علمــاء النفس وعلمــاء االجتمــاع

باعهم الطريقــة العلميــة فيوعلماء التربية، هي نتيجة ات تقــدير الطريقــة العلميــة بحث كل شيء، ومغاالتهم في

وتطبيقها على جميع األبحاث. وهذا هو الذي أوقعهم في والضالل، وهو يوقــع كــل إنســان يطبــق الطريقــة الخطأ

.العلمية على كل بحثــير، إن الطريقة ــة صــحيحة في التفك ــة طريق العلمي

وهي ليست طريقة خاطئة، ولكنها طريقــة صــحيحة في البحث العلمي وحــده، فيجب أن يحصــر اســتعمالها في

تخضــع للتجربــة. البحث العلمي، أي في المــادة الــتي والخطأ هو استعمالها في غير األبحــاث العلميــة، أي في

ــادة ــير بحث الم ــأ غ ــة. فمن الخط ــع للتجرب ــتي تخض ال

42

ق في بحث وجهة النظــر في الحيــاة، أي والغلط أن تطب ما ق علىــيســمى )باأليديولوجيــة(، ومن الخطــأ أن تطب

ــع، أو على ــان، أو على المجتمـ ــة، أو في اإلنسـ الطبيعـ أبحاث التاريخ، أو أبحاث الفقه، أو أبحاث التعليم، أو مــا

من األبحاث، بــل يجب أن تحصــر في البحث شاكل ذلك.للتجربة العلمي فقط، أي في بحث المادة التي تخضع

والخطــأ الــذي حصــل في تطــبيق الطريقــة العلميــة على كل بحث نــاتج عن جعل الطريقــة العلميــة أساســا

في التفكير، ألن جعلها أساسا في التفكير هو الــذي جــر جعلها أصال يبــنى عليــه، وجعلهــا أساسـا لكــل بحث. إلى

إلى تطبيقهــا على فــإن جعلهــا أساســا في التفكــير يجر أبحــاث ال تنطبــق عليهــا هــذه الطريقــة، كبحث األنظمــة

ــز، ــ ــا وبحث الغرائ ــ ــة، وبحث التعليم، وم ــ وبحث األدمغ ى إلى وقـوع األخطــاء الفاحشــة فيشاكل ذلك، ممـا أد

الفكــرة االشــتراكية وفيمــا يســمى بعلم النفس وعلــوم فإن جعلها أساسا في التربية وعلم االجتماع. وفوق ذلك

ــائق عن البحث، ــارف والحق ــثر المع ــرج أك ــير يخ التفك الحكم على عــدم وجــود كثــير من المعــارف ويؤدي إلى

ــدرس والــتي تتضــمن حقــائق، مــع أنهــا موجــودة الــتي ت بالفعل وملموسة بالحس. وأيضــا فإنــه يــؤدي إلى إنكــار

.كثير من الموجوداتا على أن ة الخطـأ فيـه ة، وقابلـي الطريقة العلمية ظنـي

ــوز أساس من األسس التي يجب أن تالحظ فيها، فال يج أن تتخذ أساسا للتفكير. وذلك أن الطريقة العلمية توجد

وجود الشيء وعن حقيقته وعن صــفته. نتيجة ظنية عنــا قطعية وهناك أشياء يجب أن تكون النتيجة عن وجوده

43

ــا ــة أساس ــة الظني ــون الطريق ــح أن تك ــة، فال يص جازم وحـده كــاف لجعــل للوصول إلى النتيجة القطعية. وهــذا

.الطريقة الظنية غير صالحة ألن تكون أساسا للتفكيرإن تين ليس غـير وعلى هـذا ـف ،للتفكـير طريقـتين اثـن

ــة. وال يوجد ــة العلمي ــة، والطريق ــة العقلي ــا: الطريق همــة ال غيرهمــا بعــد البحث واالســتقراء. والطريقــة العلمي

المعرفـة، وهــو فـرع بحث تصلح إال في فـرع من فـروع المــادة الــتي تخضــع للتجربــة. بخالف الطريقــة العقليــة

ــه يجب أن فإنها تصلح ــذلك فإن لكل بحث من األبحاث. ل ففي .تكون الطريقة العقليــة هي األســاس في التفكــير

الطريقة العقلية ينشأ الفكر، وبدونها ال ينشأ فكر إنشــاء الطريقة العقلية يوجــد إدراك الحقــائق جديدا. وبواسطة

بواســطتها العلمية بالمالحظــة والتجربــة واالســتنتاج، أي توجد الطريقة العلمية نفســها. وبواســطتها يوجــد إدراك

ــة، ــائق المنطقي ــائق الحق ــد إدراك حق ــطتها يوج وبواس التاريخ وتمييز الخطأ من الصواب فيها. وبواسطتها توجدــائق الفكرة الكلية عن الكون واإلنسان والحياة وعن حق

.والحيـــــــــــــــاة الكـــــــــــــــون واإلنســـــــــــــــانــة العقليـــة تعطي نتيجـــة قطعيـــة عن وجـــود والطريقـ

ــانت تعطي ــه الشــيء، وهي وإن ك ــة عن كن نتيجــة ظنيــوده. الشيء وصفته، ولكنها تعطي نتيجة قطعية عن وج

ــة، فهي من حيث حكمها على وجود الشيء قطعية يقيني فيجب أن تتخــذ هي وحــدها أساســا للبحث، أي أساســا

باعتبار أن نتائجها قطعية. وعلى هذا لو تعارضــت نتيجــة عن وجود الشيء تؤخذ الطريقــة عقلية مع نتيجة علمية

44

ــترك النتيجــة العلميــة الــتي تتعــارض مع العقلية حتما وت.النتيجة العقلية، ألن القطعي هو الذي يؤخذ ال الظني

هــو اتخــاذ الطريقــة ومن هنــا كــان الخطــأ الموجــود كم علىالعلمية أساســا للتفكــير، وجعلهــا حكمــا في الح

صــبحفيجب أن يصــحح هــذا الخطــأ، ويجب أن ت .األشياء يرجــع الطريقة العقلية هي أســاس التفكــير، وهي الــتي

.كم على األشياءإليها في الح التفكـير، أما البحث المنطقي، فإنه ليس طريقـة في

وإنمـــا هـــو أســـلوب من أســـاليب البحث المبنيـــة على المنطقي هو بناء فكر على الطريقة العقلية. ألن البحث

فكر بحيث ينتهي إلى الحس والوصــول عن طريــق هــذا نتيجة معينة. مثل: لــوح الكتابــة خشــب، وكــل البناء إلى

يحــترق. خشب يحــترق، فتكــون النتيجــة أن لــوح الكتابة ومثل لو كان في الشاة المذبوحة حياة لتحــركت، لكنهــا

ــاة لم تتحـــرك، فتكـــون النتيجة أنـــه ال توجـــد في الشـ المذبوحــة حيــاة. وهكــذا، فقــد قــرنت في المثــال األول

خشب يحترق مع فكــرة لــوح الكتابــة خشــب، فكرة كل وقــرن في .فنتج عن هذا االقتران أن لوح الكتابة يحترق

ــرة المثال الثاني كون الشاة المذبوحة لم تتحرك مع فك المذبوحة تجعلها تتحــرك، فنتج عن أن الحياة في الشاة

فهذا .حياة هذا االقتران أن الشاة المذبوحة ال توجد فيها البحث المنطقي إذا كانت قضاياه الــتي تتضــمن األفكــار

صــادقة، تكــون النتيجــة صــادقة، وإذا التي جرى اقترانها كانت كاذبة تكون النتيجة كاذبــة. وشــرط المقــدمات أنــع إلى ــذلك ترج ــا إلى الحس. ول ــية منه ــل قض تنتهي ك

م فيها الحس حــتى يفهم صــدقها. الطريقة العقلية ويحك

45

ومن هنـــا كـــانت أســـلوبا من األســـاليب المبنيـــة على وفيها قابلية الكذب، وقابلية المغالطة. الطريقة العقلية،

الطريقــة وبــدل أن يختــبر صــدق المنطــق بــالرجوع إلى العقلية، األولى أن تستعمل الطريقة العقليــة في البحث

.يلجأ إلى األسلوب المنطقي ابتداء، وأن الــداهما أن ــألتين: إح ــه إلى مس ــد من التنبي ــا ال ب وهنــيك إذا أردت الطريقة العلمية أهم ما فيها هو: أنها تقتض

رأي وكــل إيمــان لــك في بحثا أن تمحــو من نفســك كلــل البحث ــذي يجع هذا البحث الذي تبحثه. وأن هذا هو ال

ــون سائرا في الطريقة العلمية، وعلى هذا األساس يقول حســب إن هــذا البحث بحث علمي، وهــذا البحث يســير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة العلمية .الطريـقــه ليس والجواب على هذا هو أن هذا الرأي صحيح، ولكن

وال هو يسير في الطريقة العلمية. بــل هــو عقلي علميا، الموضــوع ليس ويسير في الطريقــة العقليــة. وذلــك أن

متعلقا بالرأي بل متعلق بالبحث. فالبحث العقلي يكــونــدماغ، والبحث بنقــل الواقع بواســطة اإلحســاس إلى ال

الذي العلمي يكون بواسطة التجربة والمالحظة. هذا هو يميز الطريقة العقلية عن الطريقة العلمية. فالشيء إذا

حســب الطريقــة العقليــة، أحســه المــرء يحكم بوجــوده والشيء إذا لم تدل التجربــة والمالحظــة على وجــوده ال

بوجـــوده. فكـــون الخشـــبة تحـــترق، يكفي في يحكم الطريقة الطريقة العقلية أن يحس باحتراقها، ولكن في

العلمية ال بد أن تخضع للتجربــة والمالحظــة حــتى يحكم بد من وجود معلومات سابقة أمــر بأنها تحترق. فكون ال

ال بد منه في الطريقة العقلية، وتفرض الطريقة العملية

46

ــه ال يمكن أن ــع أن ــابقة، م ــات الس التخلي عن المعلوم وأما اآلراء السابقة واإليمان .وجدت يحصل تفكير إال إذا

معلومات وأحكام السابق فإنما يقصدون به ما عنده من سابقة. ولذلك فإن موضوع وجود آراء سابقة ال يقصد به

ــابق. الرأي من حيث هو رأي، وإنما يقصد به الحكم الس وجــود لذلك فــإن الموضــوع في الطريقــة العلميــة ليس

كمرأي سابق أو إيمــان ســابق، وإنمــا المقصــود بــه الحر بها التجربة والمالحظــة. فــأهم السابق كمعلومات تفس

ما في الطريقة العلميــة هــو التجربــة والمالحظــة وليس.المعلومات الرأي أو

وأمـا الـرأي السـابق أو اإليمـان السـابق واسـتعمالهــدم ــد البحث أو ع ــه في البحث أو عن ــتعماله، وتدخل اس

عــدم تدخلــه، فــإن ســالمة البحث وصــحة نتيجــة البحثــوع، أي تقتضي ــ ــابق للموض ــ ــل رأي س ــ التخلي عن ك

تقتضـــي التخلي عمـــا في ذهنـــه من آراء وأحكـــام عن الموضوع الذي يجري بحثه حتى ال يؤثر عليــه في البحث

فمثال عندي رأي أنه ال يمكن .وال يؤثر على نتيجة البحثــا أمةأأن تتوحد فرنسا و لمانيا في دولة واحدة وأن يكون

واحــدة. فعنــد البحث في توحيــدهما ليكونــا أمــة واحــدة الــرأي موجــودا عنــد ودولة واحدة، ال يصح أن يكون هذا

ــه يفســد علي البحث ويفســد ــدهما، ألن البحث في توحيــأن النهضــة ال يمكن أن .علي النتيجة ومثال عنــدي رأي ب

فعنــد البحث في توجد إال بالصــناعة واالخــتراع والتعليم، إنهاض شــعبي أو أمــتي يجب أن أتخلى عن هــذا الــرأي.

الذرة أصغر شيء في المــادة وأنهــا ومثال عندي رأي أن ال تنقسم، فعند البحث في جعل الــذرة تنشــطر وتنقسم

47

ــه يجب ــذا، فإن ال بد أن أمحو من نفسي هذا الرأي. وهك شيء، عن كــل رأي أن يتخلى المرء عند البحث في أي

سابق له عن البحث وعن الشيء الذي يريد أن يبحثه أو.فيه يبحث

إال أن هـــذه اآلراء الــتي يجب أن يتخلى عنهــا عنـــد كــانت آراء قطعيــة ثبتت بالــدليل البحث ينظر فيها: فإن

ــه ال يصح ــاب، فإن القطعي الذي ال يتطرق إليه أدنى ارتي أن يتخلى عنه وال بحال من األحوال إذا كان البحث الذي

التي توصل إليهــا ظنيــة، ألنــه يبحثه ظنيا، وكانت النتيجة إذا تعارض القطعي والظني يؤخذ القطعي ويرد الظني.

ــذلك ــان ل ــا إذا ك ــالظني. أم ــد أن يتحكم القطعي ب ال ب إليهــا قطعيــة. فإنــه البحث قطعيا والنتيجة الــتي يتوصل

في هذه الحال ال بد أن يتخلى عن كل رأي وكــل إيمــانــالتخلي ــه ســابق. ف ــد من ــر ال ب ــل رأي ســابق أم عن ك

لســالمة البحث وصــحة النتيجــة. إال أنــه إن كــان البحثــه عن اآلراء ــه ل ــد بحث ــه ال يصــح أن يتخلى عن ــا فإن ظني

ــل القاطعة واإليمان الجازم، ولكن ال بد أن يتخلى عن ك رأي ظني ســابق في الموضــوع. وهــذا ال فــرق فيــه بين

العقلية والطريقة العلميــة. وآفــة األبحــاث إنمــا الطريقة.البحث هي في تدخل اآلراء السابقة في

و ليس التخلي عن وأمـا مـا يسـمى بالموضـوعية، فـهــل حصر البحث في الموضــوع كل رأي سابق فحسب، ب

الذي يبحث إلى جانب التخلي عن كل رأي سابق. فحين زيت الزيتـون ال يصـح أن يتطـرق لهـذا تبحث في تحليل

.البحث أي بحث آخـــر وال أي شـــيء آخـــر وال أي رأي وحين تبحث في سياسة الصناعة ال يصح أن يتطرق لهذا

48

ــيء آخر ــر وال أي ش وال أي رأي. فال البحث أي بحث آخ يفكر باألسواق، وال بــالربح، وال في األخطــار، وال في أي

ــة. وحين تبحث في شــيء غــير سياســة الصــناعة للدولــتنباط الح ــ ــر فياس ــ ــح أن تفك ــ ــرعي، ال يص ــ كم الش

ــاس، وال في المصــلحة، وال في الضــرر، وال في رأي الن الشــرعي. وهكــذا كـل كمأي شـيء غـير االسـتنباط للح

ــوع البحث. ــ ــذهن في موض ــ ــر ال ــ ــد أن يحص ــ بحث ال ب تـدخل الـرأي الســابق في فالموضوعية ليست هي عدم

الموضوع فحسب، بل هي إلى جانب ذلــك حصــر البحث وإبعاد أي شــيء آخــر عنــه، وحصــر في الموضوع نفسه

.الذهن في الموضوع المبحوث فقطة فهي المنطـق. إن المنطـق وكـل أما المسألة الثانـي

وهو أكثر ما يتعلق به فيه قابلية الخداع وقابلية التضليل، ما يضر في التشريع والسياسة. ذلــك أن المنطــق تبــنى

وكذب هــذه المقــدمات أو صــدقها نتائجه على مقدمات، ليس من السهل إدراكــه في جميــع األحــوال، لــذلك قــد

كذب إحدى هذه المقدمات خفيا، أو يكون صــدقها يكونــؤدي ذلك ــة، في ــات خاطئ ــا على معلوم ــائج مبني إلى نت

خاطئــة. على أن المنطــق يمكن الوصــول بــه إلى نتــائجــل: القــرآن ــه قــديم، متناقضــة، مث ــه، وكالم الل كالم الل

فــالقرآن قــديم. وعكســها: القــرآن كالم اللــه في اللغة العربية، واللغة العربية مخلوقة، فــالقرآن مخلــوق. وقــد

لة مثل ــل :يؤدي إلى نتائج مضل المسلمون متأخرون، وك متــأخر منحــط، فالمســلمون منحطــون. وهكــذا تجــد أن

أخطار فظيعــة، فقــد تــؤدي إلى الخطــأ، أخطار المنطقــدمار ــؤدي إلى ال ــد ت ــل ق ــالل، ب ــؤدي إلى الض ــد ت .وق

49

والشعوب واألمم الــتي تعلقت بــالمنطق حــال المنطــق المنطــق وإن كــان بينها وبين رفعــة الحيــاة، لــذلك فــإن

أســلوبا من أســاليب الطريقــة العقليــة، ولكنــه أســلوب مضر، وخطره خطر مــدمر. ولــذلك ال عقيم، بل أسلوب

وبين بد من نبذه، بل ال بد من الحذر منه، والحيلولة بينه.الناس

واألســلوب المنطقي وإن كــان أســلوبا من أســاليب د، وأســلوب فيــهعقأســلوب م الطريقــة العقليــة، ولكنه

ل إلى عكس الحقــائق قابلية الخداع والتضليل وقد يوصــ ســواء احتــاج إلى-يراد إدراكهــا. وفــوق ذلــك فإنــه التي

فطــرة- ال يصــل إلى تعلم علم المنطق أو كــان منطقيــاــا ينتهي ــا، وإنمـ ــالواقع رأسـ ــاس بـ ــائج من اإلحسـ النتـ

بالواقع، ولذلك يكاد يكــون طريقــة ثالثــة في باإلحساس طريقتــان اثنتــان التفكــير. وبمــا أن التفكــير ليس لــه إال

ليس غــير، فــإن األولى تجنب هــذا األســلوب، واألســلمــوق بصــحة ــة للوث ــة العقلي ــائج أن نســتعمل الطريق النت

.النتيجة مباشرة، ألنها هي التي يضمن فيها صحةــة في ــة الطبيعي ــإن الطريق ــر، ف ــا يكن من أم ومهم

أن تكــون هي الطريقــة التفكــير، والطريقــة الــتي يجبــة ــا هي الطريقــة العقليــة، وهي طريق ــية، إنم األساس

وبالتــالي هي طريقــة اإلســالم. ونظــرة عاجلــة القــرآن، في إقامــة للقرآن تري أنه سلك الطريقة العقلية، سواء

البرهان، أو في بيـان األحكـام. انظـر إلى القـرآن تجـده فلينظــر اإلنســان مم خلــق( )أفال) :يقــول في البرهــان

ينظرون إلى اإلبل كيف خلقت( )وآيــة لهم الليــل نســلخ منه النهار فإذا هم مظلمون( )ما اتخذ الله من ولــد ومــا

50

إليــه بمــا خلــق ولعال كــان معــه من إلــه، إذا لــذهب كلــه لن ــدعون من دون الل بعضهم على بعض( )إن الذين ت

ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شــيئا ال يخلقوا ذباباعف الطــالب والمطلــوب لــو كــان( )يســتنقذوه منــه، ضــ

فيهما آلهــة إال اللــه لفســدتا( إلى غــير ذلــك من اآليــات، الحس لنقل الواقع حتى يصــل إلى وكلها تأمر باستعمال

النتيجة الصــحيحة. وتجــده يقــول في األحكــام: )حــرمتــة( )كتب عليكم ــرمت عليكم الميت ــاتكم( )ح عليكم أمه

منكم الشهر فليصمه( القتال وهو كره لكم( )فمن شهد )وشاورهم في األمر( )أوفــوا بــالعقود( )بــراءة من اللــه

أحــل اللــهوالذين عاهدتم من المشركين( ) ورسوله إلى تكلف إلى البيع وحرم الربــا( )فقاتــل في ســبيل اللــه ال

ك( )حــرض المؤمــنين على القتــال( ) انكحوا مــافــنفســ وثالث ورباع( )فــإن أرضــعن طاب لكم من النساء مثنى

لكم فآتوهن أجورهن(، إلى غير ذلــك من اآليــات، وكلهــا أحكامــا محسوســة لوقــائع محسوســة. وفهمهــا، تعطي

إنمــا يــأتي كم،كم أو للواقعة التي جاء بهــا الحسواء للحــا بالطريقــة العقليــة، أي أن التفكــير بهــا وبتطبيقهــا إنم

ــون بالطريقة ــ ــر ال يك ــ ــلوب المباش ــ ــة. وباألس ــ العقليــاء على ــه ج ــه بأن ــوهم في ــا يت ــلوب المنطقي. وم باألس األسلوب المنطقي، من مثل قوله تعالى: )لو كان فيهما

جاء كذلك باألسلوب المباشر، آلهة إال الله لفسدتا( فإنه فلم يـــأت بمقـــدمات، بـــل جـــاء بطلب التفكـــير بنقـــل

ــاس ــق اإلحسـ ــدماغ، وليس عن طريـ ــرة إلى الـ مباشـ.مقدمات مربوط بعضها ببعض

51

العقليــة وحــدها هي الــتي وعلى ذلــك فــإن الطريقةــو يجب أن يسير عليها الناس، وأن األسلوب المباشــر ه

للسير عليه. وذلك حتى يكــون التفكــير صــحيحا، األسلمــني، وتكون نتيجة التفكير أقرب إلى الصواب فيما هو ظ

وقاطعة بشكل جازم فيما هو قطعي، ألن المسألة كلهــا وهــو أغلى مــا لــدى اإلنســان، وأغلى متعلقــة بــالتفكير،

.شيء في الحياة، وتتوقف عليه كيفية السير في الحياة ولــذلك ال بــد من الحــرص عليــه بــالحرص على طريقــة

.التفكير الحقــــائق أو في فهم ســــواء في فهم-والتفكــــير

الحوادث أو في فهم النصوص، أي ســواء في اإلدراك أو نظرا للتجــدد الــدائم، وللتنــوع المتعــدد، في الفهم- فإنه

ال يكفي أن بتعاد، ولذلك فإنهإنزالق وعرضة للإعرضة لل يبحث في طريقــة التفكــير، بــل ال بــد أن يبحث التفكــير

مختلــف األحــوال والحــوادث نفســه بشــكل مفتــوح، في واألشياء. فيبحث التفكير فيمــا يصــح أن يجــري التفكــير

وفيمــا ال يصــح أن يجــري فيــه، ويبحث التفكــير في فيه التفكــير في العيش، الكــون واإلنســان والحيــاة، ويبحث

ويبحث التفكــــير في الحقــــائق، ويبحث التفكــــير في التفكير في الوسائل، ويبحث التفكــير األساليب، ويبحث

بالتفكير. في الغايات واألهداف، إلى غير ذلك مما يتصل وإلى جانب ذلـك ال بـد أن يبحث التفكـير الـذي هـو فهم

ــمع، ــذي يس ــد أن للكالم ال ــرأ، أي ال ب ــذي يق والكالم ال.يبحث التفكير في فهم النصوص

يصـح أن يجـري فيـه التفكـير ومـا ال أمـا البحث فيما يصــح أن يجــري فيــه، فإنــه على بداهتــه عقــدة العقــد،

52

ومنزلق الكثير من النــاس حــتى المفكــرين. أمــا بداهتــهــف العقــل، أو معرفــة معــنى العقــل معرفــة فــإن تعري

جازمة، تقضي بداهة بـأن التفكـير إنمـا يجــري فيمـا هــو وال يصــح أن يجــري في غــير الواقــع واقــع أو لــه واقــع،

المحسوس. ألن عملية التفكير هي نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ، فإذا لم يكن هناك واقع محسوس،

تحصــل. فــإن انتفــاء فــإن العمليــة الفكريــة ال يمكن أن الحس بـــالواقع ينفي وجـــود التفكـــير وينفي إمكانيـــة

البحث فيه عقدة العقــد، فــإن الكثــير التفكير. وأما كونــع. وما ــير الواق ــه في غ ــرى بحث ــد ج ــرين ق من المفك الفلســفة اليونانيــة كلهــا إال بحثــا في غــير الواقــع، ومــا

ــير أبحاث علماء التربية في تقسيم الدماغ إال بحثا في غ محسوس، ومــا بحث الكثــير من علمــاء المســلمين في

صفات الله وفي أوصاف الجنة والنار والمالئكــة إال بحثــاــام يغلب فيما ال يقع عليه الحس. ثم إن الناس بشكل ع

على أخذهم كثيرا من األفكــار وعلى تفكــيرهم في كثــير التفكير في غير الواقــع، أو في غــير مــا يقــع من األمور،

يجــري عليه الحس. ومن هنا كان البحث فيمــا يصــح أن.فيه التفكير وما ال يصح، عقدة العقد

ــارف ــود المع ــع وج ــك، وم ــع ذل ــه م ــيرة، إال أن الكث والمحترمة، والمجزوم بها عقيدة، مما ال يصح أن يجــري

تعريف العقل واتخاذ الطريقــة العقليــة فيه التفكير، فإنــا ليس أساسا للتفكير، يقضي بأن ما هو ليس واقعا، وم

مما يقع عليه الحس، ال يصح أن يجري التفكــير فيــه، وال فيه عملية عقلية. فمثال القــول يصح أن يسمى ما يجري

ــاني.. الخ، هــو مجــرد تخي التبالعقــل األول والعقــل الث

53

وفروض، فإنها ليست واقعــا وقــع عليــه الحس، وال ممــا فالمخيلـــة هي الـــتي .يمكن أن يقـــع عليـــه اإلحســـاس

تخيلت، وفرضــت فروضــا نظريــة، وتوصــلت إلى نتــائج، عقليــة. والتخيــل ليس تفكــيرا، وحــتى فهــو ليس عملية

الفروض كلها ولــو كــانت فروضــا في العلــوم الرياضــية، ليست تفكيرا وال عملية عقلية. وعلى هذا فإنه يمكن أن

كلهــا ليســت من األفكــار، وال يقال إن الفلسفة اليونانية جــرت فيهــا العمليــة العقليــة. فال يصــح أن تعتــبر نتــائج للتفكير، ألنه لم يجر فيها تفكير، وال وجدت فيها العمليــة

.وفروض التالعقلية، فهي مجرد تخي ومثال القول بأن الدماغ مقسم إلى أقسـام، وأن كـل

العلــوم.. الخ، كلهــا مجــرد قســم منهــا مختص بعلم من الت وفــروض، فهي ليســت واقعــا، ألن واقــع الــدماغتخي

أنــه غــير مقســم، وليســت ممــا يقــع عليــه المحســوس العقلية الحس، ألن الدماغ وهو يعمل، أي يقوم بالعملية

ال يمكن أن يقــع عليــه الحس، فــالقول بتقســيمه، فــوقــع فإنهكو ــا للواق ــه مخالف ــأت بنتيجــة اإلحســاس. ن لم ي

ولذلك فإنه يمكن أن يقال إن علوم التربيــة ليســت كلها أفكــارا، وال هي نتيجــة عمليــة فكريــة، وإنمــا هي مجــرد

.الت وفروضتخيه ومثال القول درة، وصـفة كوـن ه صـفة الـق ه ـل أن الـل ـب

ــق تخيــيري قــديم وتعلق تخيــيري قادرا، والقدرة لهــا تعلــه، حادث. وكذلك إقامة البراهين العقلية على صفات الل

وضعت عليه مسحة البحث العقلي ولو،كل ذلك وأمثاله تفكــير، والبرهان العقلي، فإنه ليس فكرا، وال هــو نتيجة

54

إذ لم تجر فيه العملية العقلية، ألنه ليس ممــا يقــع عليــه.اإلنسان حس

فالعمليـة العقليـة، أي التفكـير، ال يمكن أن يكـون إال بواقــع يقــع عليــه حس أو اإلنســان. إال أن هنــاك أمــورا

ــع ال يمكن أن يحسه ــذا الواق ــع، ولكن ه ــا واق أشــياء له اإلنســان وال يمكن نقلــه بــالحس، ولكن أثــره يقــع عليــه

بواســطة اإلحســاس، حس اإلنســان وينقــل إلى الــدماغ فإن هذا النوع من األمــور يمكن أن تجــري فيــه العمليــة

يمكن أن يحصــل فيــه تفكــير، ولكنــه تفكــير العقلية، أي بواســطة بوجــوده ال بكنهــه، ألن الــذي نقــل إلى الــدماغ

الحس هو أثره، وأثره إنما يــدل على وجــوده فقــط، والــدا إلى يدل على كنهه. فمثال لو أن طائرة كانت عالية ج

حــد أن العين المجــردة ال تراهــا، ولكن صــوتها تســمعهــان ــائرة يمكن أن يحس اإلنسـ ــذه الطـ ــإن هـ األذن، فـ

أي على بصوتها، وهذا الصوت دليــل على وجــود شــيء، وجود الطائرة، وال يمكن أن يدل على كنه هذه الطائرة.

من فــوق هــو صــوت لشــيء فالصوت المســموع واآلتي موجود، ومن تمييز حسه يستدل على أنه صوت طائرة.

العقلية هنا جرت في وجود الطائرة، أي حصــل فالعملية بوجودهــا، مــع أن كمالتفكير بوجود الطائرة، وصــدر الح

الحس لم يقــع عليهــا، ولكنــه وقــع على أثرهــا، أي على الطائرة، فحكم العقــل عن وجودهــا من شيء يدل على

وجود أثرها. صــحيح أنــه يمكن أن يعــرف صــوت طــائرة الميراج من صوت طــائرة الفــانتوم، ويمكن الحكم على

طــائرة من تميــيز نــوع نوعها كما يمكن الحكم على أنهاــائرة ــيراج أو ط ــائرة م ــا ط ــة أنه ــوت، ولكن معرف الص

55

كم علىمن تميــيز الصــوت، كمــا أن الح فانتوم إنما أتى .أنها طائرة أو ليست طائرة قــد أتى من تميــيز الصــوت

كمإال أن هــذا الحكم ليس حكمــا على كنههــا، بــل هــو ح وعلى أي حــال، .أثــره على نوع هذا الموجود من تميــيز

فإن هذا فكر، أيا كان، ألن العمليــة جــرت فيــه فعال، أيــال إن جرى ــره. وال يق التفكير فيه ألن الحواس نقلت أث

فإن الموضــوع هــو .هذا الحكم على وجود الطائرة ظني إمكانية وجود التفكير فيما يحس اإلنسان أثره وال يحس

ــه. وعلى أي ــون ذات ــان الحكم على ك ــه إن ك ــال فإن حــيء الصوت هو صوت طائرة ظنيا، فإن الحكم بوجود ش

منــه الصــوت هــو حكم قطعي. والطريقــة العقليــة خرج قطعيــة، يمكن أن تكون نتائجهــا ظنيــة ويمكن أن تكــون

حســب اإلحســاس الــذي ينقــل إلى الــدماغ وحســبر بها هذا .الواقع المعلومات التي يفس

إال أن هــذا التفكــير الــذي يجــري فيمــا ال يقــع عليــه يقع الحس على أثره، ألن أثــر الحس إنما هو خاص فيما

الشيء جزء من وجوده، فما يقع الحس على أثره يعتبر الحس وقــع على وجــوده، ولــذلك يصــح أن يقــع فيــه أن

قطعــا، وأن التفكير، ويصح أن يقــع التفكــير في وجــوده عليه الحس ويمــيزه من نوعــه. أمــايقع كذلك فيما يدل

أن يجـري فيــه التفكــير، ولــذلك ال ما عدا ذلك فال يمكنه يقـــع على أمـــور تكـــونس الحنإفمثال .يكـــون فكـــرا

أوصافا للشيء وليســت أثــرا لــه، فتتخــذ هــذه الصــفات وذلــك مثــل: أن .كم على األمر وعلى الشيءوسيلة للح

أمريكا تعتنق فكرة الحرية، وهذا يعني أنها ليســت دولــة االســتعمارية اســتعباد للشــعوب، وهــذا اســتعمارية، ألن

56

فكــرة يناقض فكرة الحرية. فهذه المقدمة، وهي اعتناقــار أمريكــا في الحرية من قبل أمريكا، ليست أثرا من آث

من صــفاتها، فكــون الشــيء خارج بالدها، بــل هي صــفة صفته كذا، ال تعني أن هذه الصفة أثــره. لــذلك ال يجــري

فيها، فهي ليست صفة ينقلها الحس إلى الدماغ التفكيرــاألمر كم على األعمال كلها، وإنما هي صفةللح خاصــة ب

وليست أثرا من آثاره، لذلك ال يحكم بواسطتها كمقدمة األفعال ال توجد من اإلنسان من جراء على األفعال، ألن

وصــفات اتصافه بصفة معينة، بل توجد العتبارات شــتى ومثل أن اإلسالم دين عزة، فإن هذا ال .متعددة ومختلفة

عزيــزا، ألن العــزة ليســت هي يعــني أن المســلم يكــون الــدين، بــل هي فكــرة من أفكــاره. ثم إن اإلنســان حين

دينا ال يعني أنه قد تقيد به. وبذلك ال تكــون العــزة يعتنق من صــفاته، والــدين أثــرا من آثــار الــدين بــل هي صــفة

ليس التقيد به أثرا من آثاره، بــل هــو صــفة من صــفاته. فيــه التفكــير، بــل هــو عبــارة عن مجــرد يجري ولذلك ال

التفكــير وعليــه فالــذي يجــري فيه .فرض، وليس تفكيرا هــو أثــر الشــيء ال صــفته، ألن األثــر يمكن أن ينقــل

يحس ال يمكن نقلهـــا ا الـــمبـــالحس، ولكن الصـــفة لــانت يمكن ــا يحس وإن ك ــواس، وهي فيم بواســطة الح

يجــري فيهـا ال في أثرهـا. ومن هنــا نقلهـا ولكن التفكــير كم على أثــره أوكان اتخــاذ صــفات الشــيء وســيلة للح

كم عليه ال يشــكل عمليــة عقليــة فال يجــري التفكــيرللح تصــلح وســيلة للحكم. فيه. وبعبارة أخرى أن الفروض ال

ــروض ــا. صــحيح أن بعض الف ــع الحس عليه ــا لم يق ألنه المنطق مما يقع عليه اإلحساس، ولكنه تكون كمقدمات

ــائق ــون حق ــل تك ــا ب ــون فروض ــذلك ال تك ــانت ك .إذا ك

57

والفــرض هــو عبــارة عن مجــرد تقــدير وليس إحساســا، هنــا يقــع الخطــأ وليس تقديرا ناتجــا عن إحســاس. ومن

في اعتبار الفروض والتخي .الت أفكاراير ه الحس، أو قد يقال إن حصـر التفـك ع علـي ا يـق فيـم

ــير ــ ــر التفكـ ــ ــني حصـ ــ ــره، يعـ ــ ــع الحس على أثـ ــ يقـــني ــذا يع ــة هيأن ا بالمحسوســات، وه ــة العلمي لطريق

فــأينأساس التفكــير ألنهــا ال تــؤمن إال بالمحسوســات، ذهبت الطريقة العقلية؟ والجواب على ذلك أن الطريقة العلميـــة تشـــترط إخضـــاع المحسوســـات للتجربـــة

نوالمالحظــة وال تكتفي بمجــرد الحس. ولــذلك فــإن كو التفكير ال يقع إال في المحسوسات يشمل المحسوسات التي تخضع للتجربة والمالحظــة وتشــمل المحسوســات

ــتي ي ــا.ال ــا، أي باإلحســاس به كتفى بوقــوع الحس عليه وهذا ال يجعل الطريقــة العلميــة أساســا للتفكــير. وإنمــا يجعلهــا عمليــة تفكــير صــحيحة ألنهــا تشــترط أن يكــون الشــيء محسوسـا وتزيـد على ذلـك أنهـا تشـترط أيضــاــة ــا موضــوع الطريق ــة والمالحظــة. أم إخضــاعه للتجرب العقلية فإن حصر التفكير بالمحســوس هــو مــا تقتضــيه. فإن األساس في تعريــف العقــل ليس وجــود معلومــات سابقة، بل األساس هو الواقع المحسوس، والمعلومــات السابقة شرط يكون المحسوس قد جرى التفكــير فيــه،ــون وإال لظل مجرد إحساس. فاألصل في التفكير أن يك

ــيءدفي واقع محسوس، ال في شيء قد ق ر، وال في ش قــال إن اإلنســانل وجوده. ولــذلك فإنــه حين يجرى تخي

ــبر ــه الفالني ال يعت ــيره على الوج ــرى تفك ــد ج األول ق تفكيرا، ألن اإلنسان األول ليس واقعــا محسوســا، وإنمــا

58

اإلنسان الحالي هو الواقع المحســوس، فيؤخــذ اإلنســان الحالي. ويبحث ليعرف كيف يجــري تفكــيره، ثم ينطبــقــة البحث على جنس ــه من نتيج ــل إلي ــرى التوص ــا ج م اإلنســان. ألن الجنس الواحــد الــذي ال يختلــف، أو النــوع

يختلف، ينطبــق على جنســه وعلى نوعــه الالواحد الذي كــل مــا ثبت لفــرد من أفــراده، ألنــه جنس واحــد ونــوعــا ــراب معين، فــإن م ــتراب، أو ت ــك كــذرة ال واحــد. وذل يتوصل إليــه بشــأن هــذه الــذرة من الــتراب عن طريــقــه، ســواء الحس ينطبق على جنسها كله وعلى نوعها كل

ــه التفكــير أم لمرجأكان حاضرا أم غائبا، وسواء أ ى علي ، فالمهم أن يكون الشيء الــذي جــرى فيــه التفكــيررجي

ــير.واقعا محسوسا بذاته أو محسوسا أثره وال يوجد تفك مطلقا في أي شــيء غــير محســوس أو غــير محســوس

أثره.ا يصـدر ون واضـحا أن ـم ه يجب أن يـك ذا فإـن وعلى ـه من أحكام، وما يؤخذ من معلومات، عن غــير الواقــع، أوــبر ل وجــوده، ال يعت عن واقــع مفــروض وجــوده أو متخي فكــرا وال بوجــه من الوجــوه، أي ال يعتــبر أن العقــل قــد أنتجه، ألن العقل ال يعمــل بــدون الواقــع المحســوس أو المحسوس أثره. وبالتالي ال يجري التفكير إال في الواقع أو في أثر الواقع، وال يجري في غير ذلك مطلقــا. ولهــذا فإن كثيرا مما يسمى بأفكار، سواء سجل في الكتب، أو جرى الحديث فيه، ال يعتبر نتاج العقل، ولم يجر التفكــير

فيه، وبالتالي ليس فكرا. وهنــا قــد يــرد الحــديث عن المغيبــات. ســواء أكــانت مغيبــة عن المفكــر أو كــانت مغيبــات عن الحس، فهــل

59

اشتغال الدماغ بالمغيبات ال يكون تفكــيرا، وبالتــالي هــل ما قيل في المغيبات ال يكون فكرا؟ والجواب على ذلــكــبر أن المغيبــات عن المفكــر ال تكــون مغيبــات. بــل تعت حاضــرة، ألن المقصــود بنقــل الحس، هــو أي نقــل أليــبيت الحــرام إنسان، وليس نقل المفكر فقط. فمكة وال حين يفكر فيهمــا أو في أي منهــا شــخص لم يرهمــا ولم يحس بهما ال يعني أنه يفكر في غير المحسوس، بل هو يفكر في المحسوس، ألنــه ليس المحســوس هــو الــذي يحســـه، بـــل المحســـوس الـــذي من شـــأنه أن يكـــون محسوســا، ومــا يغيب عن المفكــر من المحسوســات يعتــبر التفكــير بهــا تفكــيرا، واشــتغال الــدماغ بهــا يكــونــو جــرى ــبر أفكــارا، ول ــاريخ يعت تفكــيرا. ولهــذا فــإن التــبر ــنين. وتعت ــد آالف الس ــه بع ــديث عن ــجيله أو الح تس المعــارف القديمــة أفكــارا، واشـتغال الـدماغ بهــا يكــون تفكيرا ولو جرى بعد آالف السنين. وتعتــبر األخبــار الــتي تتناقلهــا البرقيــات أفكــارا، واشــتغال الــدماغ بهــا يكــون تفكيرا ولــو جــاءت من مســافات بعيــدة. فمــا يغيب عن المفكر ال يكون مغيبات وإنما يكــون من المحسوســات، ألن الحس ال يشترط أن يكون لدى المفكر، بل قد ينقل إليه نقال، فقد يسمعه وقد يقرؤه، أو يقرأ له. فالموضوع أن المعرفـــة ال تكـــون فكـــرا إال إذا نتجت عن واقـــع محسوس. فالواقع المحسوس أو المحسوس أثــره همــا وحدهما اللذان تكون معرفتهمــا فكــرا، ويكــون اشــتغال الدماغ بهما تفكيرا. أما ما عــداهما فإنــه ال يكــون فكــرا،

وال يكون اشتغال الدماغ به تفكيرا.

60

أما المغيبات عن الحس، فهي التي تسـمى مغيبـات، وهي التي تكون موضع السؤال، والجواب عن المغيبــات هــو أنــه ينظــر فيهــا، فــإن نقلت أو رويت عن المقطــوع بصدق قوله، وكان قد ثبت وجوده بالدليل القاطع، فإنهــاــة ــا عملي ــدماغ به ــبر من الفكــر، ويكــون اشــتغال ال تعت عقلية، أي يكون تفكيرا. وذلك أن قطعيــة وجــود الناقــلــق الفكــر ــق الحس وعن طري ــراوي ثبتت عن طري أو الــق الحس وعن ــه ثبت عن طريـ ــدق قولـ القطعي، وصـــبر أنهــا في األصــل ــذلك تعت ــق الفكــر القطعي. ول طري صادرة عن محسوس هو، أو محسوس أثره، وفوق ذلك فقد ثبت وجــود المصــدر، وثبت صــدقه بــالفكر القــاطع. ومن أجل ذلك يعتــبر فكــرا، ويعتــبر اشــتغال الــدماغ بــه تفكيرا. سواء ثبت النقل أو الرواية بالــدليل القطعي، أو بالدليل الظني، ألن القطع إنما يشترط في وجوده وفي صدقه، حتى يعتبر فكرا، وال يشــترط في ثبــوت القــول،ــات ولكن تشترط صحته ولو بطريق غلبة الظن. فالمغيب التي تصــدر عمن ثبت وجــوده وصــدقه بالــدليل القــاطع تعتبر فكرا، ويعتبر اشتغال الــدماغ بهــا تفكــيرا، إذا صــح صدورها سواء صح بطريق القطع، أو صح بطريــق غلبــة

الظن.ــوده ــوع بوجـ ــدوره عن المقطـ ــح صـ ــا صـ إال أن مـ والمقطوع بصدقه إذا صــح بشــكل قطعي فكــان قطعي الثبوت قطعي الداللة. فإنه يجب تصديقه تصديقا جازما، وال يصح مجرد الشك به. وإذا صح بشكل غير قــاطع بــل بشكل ظني، فإنه يجوز تصديقه تصــديقا غــير جــازم. إال أن كال منهمــا يكــون فكــرا، ويكــون اشــتغال الــدماغ بــه

61

ــا ورد من المغيبـــات عنـــد ــإن مـ ــا فـ ــيرا. ومن هنـ تفكـ المســلمين، ســواء ورد في أحــاديث اآلحــاد المقبولــة لالستدالل أو ورد في القرآن الكريم، فإنــه يعتــبر فكــرا،

ويكون اشتغال الدماغ به تفكيرا. أمـــا مـــا ورد عن غـــير المقطـــوع بوجـــوده، وغـــير المقطوع بصدقه، فإنه ال يكون فكرا، وال يكــون اشــتغالالت أو ــه تفكــيرا. وإنمــا يكــون من قبيــل التخي الــدماغ ب

الفروض، ويكون مجرد تخريف. وعلى ذلـك، ال تعتـبر المغيبـات من الفكـر، وال يعتـبر اشتغال الدماغ بها تفكيرا، إال إذا صــدرت عن المقطــوع بوجوده والمقطوع بصــدقه بشــكل صـحيح. هــذه الحالــةــات فكــرا، ويكــون ــبر فيهــا المغيب ــتي تعت وحــدها هي ال اشتغال الدماغ بها تفكيرا. ألنها مستندة إلى المحسوس من حيث أصلها. ألنها تعتبر أنها صدرت عمن يحســها، أو أخذت عنه من المقطوع بوجوده والمقطوع بصدقه. وما عــدا هــذه الحالــة فــإن المغيبــات ليســت فكــرا، وليســت من ــ ــا ليس ــ ــيرا، ألنه ــ ــا تفك ــ ــدماغ به ــ ــتغال ال ــ اش المحسوســــات. فــــالتفكير هــــو اشــــتغال الــــدماغ بالمحسوسات، أو المحسوس أثرهـا، والفكـر هـو نتيجـةــات أو ــ ــون إال في المحسوس ــ ــتغال، وال يك ــ ــذا االش ــ ه

المحسوس أثرها.ه ليس اة، فإـن أمـا البحث في الكـون واإلنسـان والحـي بحثا في الطبيعة، ألن الطبيعة أعم من الكون واإلنســانــوى والحياة. وليس بحثا في العالم، ألن العالم كل ما س الله. فيشــمل المالئكــة والشــياطين، ويشــمل الطبيعــة،

62

ــان ــون واإلنس ــا نبحث الك ــول إنن ــا حين نق ــذلك فإن ول والحياة، فإننــا ال نعــني الطبيعــة، وال بحث العــالم، وإنمــا نعني هذه الثالثة فحسب. ألن اإلنسان يحيــا في الكــون، فهو ال بـد أن يعــرف اإلنســان، ويعـرف الكــون، ويعــرف الحياة. فهو إذن ال يعنيه أن يبحث الطبيعة، فإن بحثهــا ال يغنيه عن بحث نوعه وحياته والكــون الــذي يحيــا بــه، وال يعنيه بحث ما عدا ذلــك من مثــل المالئكــة والشــياطين،ل عنده عقدة. فاإلنســان يحس ألن بحثها ليس مما يشك نفسه أنه وجد، ويحس الحياة الــتي فيــه، ويحس الكــون الــذي يحيــا فيــه، فهــو منــذ يمــيز األمــور واألشــياء يبــدأ يتساءل هل قبل وجوده ووجــود أمــه وأبيــه ومن قبلهمــاــذه ــل ه ــد يوجــد شــيء أم ال، ويتســاءل ه إلى أعلى ج الحياة التي فيه والتي في غيره من بـني اإلنســان يوجـد قبلها شيء أم ال. ويتساءل هــل هــذا الكــون الــذي يــراه من أرض وشمس وما يسمع به من كواكب يوجــد قبلهــا شيء أم ال، أي هل هي أزلية وجدت هكذا من األزل، أم قبلها شيء أزلي، ثم يتســاءل هــل هــذه األشــياء الثالثــة يوجد بعدها شيء أم ال، أي هل هي أبدية تظل هكــذا والــيرا، ــرد عليــه كث تفنى أم ال. هذه التساؤالت أو األسئلة ت وكلما كبر تــزداد هــذه التســاؤالت، فتكــون عنــده عقــدةها. فهذا التســاؤل أو األســئلة هي بحث كبرى يسعى لحلــواس إلى ــطة الح ــع بواس ــل واق ــع، أي هي نق في واق الــدماغ، فيظــل يحس بهــذا الواقــع، ولكن مــا لديــه منــبر معلومــات ال تكفي لحــل هــذه العقــدة الكــبرى، ويك وتزداد المعلومات، ويحــاول أكــثر من مــرة تفســير هــذا الواقــع بواســطة المعلومــات الــتي لديــه، فــإن اسـتطاع تفسير هذا الواقع تفسيرا قطعيا ال يعيد هذه التساؤالت،

63

فإنه حينئذ يحل العقدة الكبرى. وإذا لم يســتطع تفســير هذا الواقع تفسيرا قاطعا، فإنه يظل يتساءل، فقد يحلها مؤقتا، ولكن التساؤالت تعود إليه، فيعرف أنه لم يحلهــا، وهكذا يواصل بشكل طــبيعي سلســلة التســاؤالت حــتى يصل إلى الجواب الذي تصدقه فطرته، أي يتجــاوب مــع الطاقــة الحيويــة الــتي لديــه، أي يتجــاوب مــع عاطفتــه. وحينئذ يوقن بأنه حل العقدة الكبرى حال� جازمــا وتنقطـع عنه التساؤالت. وإذا لم تحل لديه هــذه العقــدة الكــبرى فإن التساؤالت تظل تتوارد عليه، وتظل تزعجه، وتظــل العقدة الكبرى في نفسه، ويظل في حالة انزعاج، وفي حالة قلق على مصيره، حتى يحصــل هــذا الحــل، ســواء

أكان حال صحيحا أو حال خاطئا، ما دام يطمئن إليه.اة، وهـو هـذا هـو التفكـير في الكـون واإلنسـان والحـي تفكير طبيعي، وتفكير حتمي، وال بــد أن يوجــد عنــد كــلــير. ألن ــذا التفك ــود ه ــوده يقضــي بوج إنســان، ألن وج إحساســه بهــذه الثالث هــو أمــر دائم، وهــذا اإلحســاس يدفعه لمحاولة الوصول إلى الفكر. لــذلك فــإن التفكــير في الكون واإلنسان والحياة مالزم لوجــود اإلنســان، ألن مجرد اإلحساس بهذه الثالث الذي هــو حتمي، يســتدعيــه الموجــودة لديــه، أو بمحاولــة المعلومــات المتعلقــة ب طلب هذه المعلومات من غــيره، أو يحــاول طلب الحــل من غيره, فهو يدأب بحافز ذاتي لحل هذه العقدة. فحل العقــدة الكــبرى يالحــق اإلنســان بشــكل متواصــل، في طلب هــذا الحــل، إال أن النــاس، على حتميــة تســاؤلهم،ــول وحتمية القيام بمحاوالت متعددة ومتالحقة في الوص إلى اإلجابــة، أي في الوصــول إلى حــل العقــدة الكــبرى

64

فإنهم يختلفون في االستجابة لهذه المالحقة، فمنهم من يهرب من هذه األسئلة، ومنهم من يواصل طلب اإلجابــة عنهــا. أمــا وهم صــغار دون ســن البلــوغ فــإنهم يتلقــون اإلجابة عن أسئلتهم من آبائهم. فهم يولــدون خــالين منــدأ هذه األسئلة، ولكن حين يبدأون يميزون ما حــولهم تب هذه األسئلة تـرد عليهم، فيتــولى آبـاؤهم اإلجابـة عليهـا،لمون ونظــرا لثقتهم بآبــائهم أو من يتــولى شــؤونهم يســ باألجوبة تسليما ويطمئنون لهذا التسليم ألنه تسليم لمن يثقون به. فإذا ما بلغوا ســن الرجولــة، أي بلغــوا الحلم، فإن األكثرية الساحقة منهم تظل عند حــد اإلجابــة الــتيــدم تلقوها، واألقلية هي التي تعود لها هذه التساؤالت لع اطمئنانها لألجوبة التي تلقوهــا وهم صــغار. ولــذلك تعيــدــبرى، ــدة الك ــذه العق ــل ه ــا من ح ــا تلقوه ــر فيم النظ

ها بأنفسهم. ويحاولون حل فــالتفكير في حــل العقــدة الكــبرى، أي التفكــير في الكون واإلنسان والحياة، أمر حتمي لكــل إنســان، إال أن منهم من يحلهــا بنفســه، ومنهم من يتلقى حلهــا، ومــتى حلت، على أي وجه، فإن هذا الحل، سواء أكــان حال قــد جـاء عن طريـق التلقي، أو كــان حال وصــل إليــه بنفســه فإنه إن تجاوب هذا الحل مع الفطرة واطمأن إليه فإنــه يرتــاح ويحس بســعادة الطمأنينــة. وإن لم يتجــاوب هــذاــه ال يطمئن إلى الحــل، وتظــل الحــل مــع الفطــرة، فإن التساؤالت تالحقه وتزعجه ولو لم يفصــح عن ذلــك بأيــة إشارة. ولذلك ال بد من التفكير في حل العقــدة الكــبرى

لإلنسان، حال يتجاوب مع الفطرة.

65

نعم إن التفكير بحل العقدة الكـبرى طـبيعي وحتمي، ولكن هذا التفكير نفسه قد يكون تفكــيرا صــحيحا، وقــد يكون تفكيرا سقيما، وقد يكون تفكــيرا في الهــروب من التفكــير، ولكنــه على أي حــال تفكــير حســب الطريقــة العقلية. فالذين يرجعــون اإلنســان والكــون والحيــاة إلى أنها مادة، وينتقلــون إلى البحث في المــادة يهربــون من التفكير باإلنسان والكــون والحيــاة إلى التفكــير بالمــادة، وهذا التفكير بالمادة باعتباره هروبا من التفكير الطبيعيهم إلى الســـقم في التفكـــير. فالمـــادة والحتمي، يجـــر تخضع للمختبر، ولكن اإلنسان والكون والحيــاة ال تخضــع للمختبر، والتساؤالت التي ترد تحتــاج إلى تفكــير عقلي، وهم ينتقلــون إلى التفكــير العلمي. ولــذلك يســتحيل أنــأتون بالحــل المغلــوط. ــذلك ي ــأتوا بالحــل الصــحيح وب ي فيحلون العقدة الكبرى، ولكن حال خاطئا ال تتجاوب معه ــراد ال حال ــل حال ألف ــذا الح ــا يظــل ه الفطــرة، ومن هن لشــعب أو أمــة. فيبقى الشــعب أو األمــة دون أن تحــل لديها العقــدة الكــبرى حال يتجــاوب مــع فطرتهــا، وتظــلــراد التساؤالت تالحق الناس، وحتى تالحق كثيرا من األف

الذين ارتضوا هذا الحل.ة، وال برى فردـي دة الـك ذه العـق رون أن ـه ذين ـي ا اـل أـمــة، تعني الشعب بوصفه شعبا، وال تعني األمة بوصفها أم وال دخل لهــا في أمــور العيش، فــإنهم يهربــون من حــل العقــدة الكــبرى، ويــتركون األفــراد وشــأنهم، والشــعب وشأنه، أو األمــة وشــأنها. ولــذلك تظــل العقــدة الكــبرىــراد ــزعج األف تالحق األفراد، وتالحق الشعب أو األمة، وت والجماعــات، ويعيش الجميــع في حالــة اطمئنــان كــاذب

66

لحل هذه العقدة الكبرى، ألنها في الحقيقة ظلت بــدون حل، وظل اإلزعاج النفســي أو الفطــري مســيطرا على

األفراد وعلى الشعب أو األمة. والحقيقة أن مسألة حل العقدة الكبرى فيها ناحيتــان إحــداهما الناحيــة العقليــة، أي المتعلقــة بالعقــل، أي فيــة ــة بالطاق ــة متعلق ــذي يجــري. والثاني ــير ال نفس التفكــباع، ــا يتطلب اإلش ــان، أي بم ــتي في اإلنس ــة ال الحيوي فـالتفكير يجب أن يتوصـل إلى إشـباع الطاقـة الحيويـة. وإشــباع الطاقــة الحيويــة بــالفكر، يجب أن يــأتي عنــطة ــع بواس ــل الواق ــأتي عن نق ــير، أي يجب أن ي التفكــالتخيالت أو الحــواس إلى الــدماغ. فــإذا جــاء اإلشــباع ب الفروض، أو بغير ما هو واقع محسوس، فــإن الطمأنينــة ال تحصل، والحل ال يوجد. وإذا جاء التفكــير بمــا ال يوجــد اإلشباع، أي بما ال يتفق مع الفطــرة، فإنــه يكــون مجــرد فروض أو مجــرد إحســاس، فال يوصــل إلى حــل تطمئن

إليه النفس، ويوجد اإلشباع.دة الكـبرى، يجب فحتى يكون الحل حال صـحيحا للعـق أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية، وأن يشبع الطاقة الحيوية، وأن يكــون جازمــا بحيث ال يـترك مجـاال لعودة التســاؤالت. وبهــذا يوجــد الحــل الصــحيح، ويوجــد االطمئنان الدائم لهذا الحل. ومن هنا كان من أهم أنواع التفكير، التفكير بـالكون واإلنســان والحيــاة. أي التفكــيرــل بحل العقدة الكبرى حال يتجاوب مع الفطرة، أي يحص بــه إشــباع الطاقــة الحيويــة، ويكــون جازمــا يحــول دون

رجوع هذه التساؤالت.

67

ــة إشــباع مــا يتطلب نعم إن محاولــة الطاقــة الحيوي اإلشباع، قد ترشد إلى حل العقدة الكبرى، فإن الشــعور بالعجز والحاجة إلى قوة تعينه قــد يــؤدي إلى حــل هــذه العقدة، ويملي أجوبة التساؤالت. ولكن هذا الطريق غير مأمون العواقب، وغير موصل إلى تركيز إذا ترك وحده.ــا ال الت أو فروض فغريزة التدين قد توجد في الدماغ تخي تمت إلى الحقيقـــة بصـــلة. وهي وإن أشـــبعت الطاقـــة الحيوية، ولكنها قد تشبعها إشباعا شاذا كعبادة األصــنام، أو تشبعها إشباعا خاطئا كتقديس األولياء. ولذلك ال يصح أن يترك للطاقة الحيوية أن تحل العقدة الكــبرى وتجيب على التساؤالت بل ال بد أن يجري التفكــير في اإلنســانــذه ــاؤالت. إال أن ه ــة عن التس ــاة لإلجاب ــون والحي والك اإلجابــة يجب أن تتجــاوب مــع الفطــرة، أي يجب أن يتم بهــا إشــباع الطاقــة الحيويــة وأن تكــون بشــكل جــازم ال يتطرق إليه شك. وإذا حصــل هــذا الحــل بــالتفكير الــذيــذ يكــون حال يمأل العقــل تتجاوب معه الفطرة، فإنه حينئ

قناعة والقلب طمأنينة.ة، ة الحيوـي أما التفكير في العيش، فإن إشـباع الطاـق أي إشــباع الحاجــات العضــوية كاألكــل، وإشــباع الغرائــز كالتملـــك يتطلب أن يوجـــد لـــدى اإلنســـان تفكـــير فيــير ــبيعي وحتمي. إال أن التفكـ ــير طـ ــو تفكـ العيش، فهـ بالعيش هكذا لمجــرد العيش ال يكفي لإلنســان للنهضــة،ــة ــل الطمأنين ــل الســعادة، أي لني وال يكفي لإلنســان لني الدائمة. ولذلك فإنــه من أجــل أن ينهض اإلنســان، ومن أجل أن ينــال الســعادة أي الطمأنينــة الدائمــة، ال بــد أن يجعل تفكيره في العيش مبنيا على أســاس تفكــيره في

68

وجهة نظــره في الحيــاة. فهــو إنســان يحيــا في الكــون، وعيشه في هذا الكون يعني حياته في الكون، ولــذلك ال بد أن يكون تفكيره في العيش مبنيــا على نظرتــه لهــذهــيره في العيش الحياة الدنيا التي يحياها. وبدون بناء تفك على نظرته لهــذه الحيــاة الــدنيا، يبقى تفكــيره منحطــا،ــل على ــة، وال يحص ــع بنهض ــيقا، فال يتمت ــدودا، وض ومح الطمأنينــة الدائمــة. ولــذلك ال بــد أن يكــون التفكــير فيــاة أساســا للتفكــير في العيش. الكــون واإلنســان والحيــتجابة لطلب ــر في العيش اس ــان يفك ــحيح أن اإلنس صــه نظــرة للكــون واإلنســان ــانت لدي اإلشــباع، ســواء أك والحياة أم لم تكن. ولكن هذا التفكير يظل بدائيا، ويظل قلقا، وغير سائر في الطريق التصاعدي، حتى يبنى على التفكير في اإلنسان والكون والحياة، أي حتى يبنى على نظرتــه للحيــاة. فالموضــوع ليس أي التفكــيرين يســبق، فإنه معــروف بداهــة أن التفكــير في العيش يســبق كــل تفكــير، بــل الموضــوع هــو التفكــير في العيش الــراقي، العيش الذي تكون فيه الطمأنينة الدائمــة، ولــذلك ال بــد

أن يبنى التفكير في العيش على النظرة إلى الحياة. صحيح أن التفكير بالعيش يـرتقي من التفكـير بعيش نفسه إلى التفكير بعيش عائلته وعشــيرته، ويــرتقي منــرتقي التفكير بعيش نفسه إلى التفكير بعيش قومــه، ويــه، ــير بعيش أمتـ ــه إلى التفكـ ــير بعيش قومـ من التفكـ ويـــرتقي من التفكـــير بعيش أمتـــه إلى التفكـــير بعيش اإلنسانية. ولكن هذا االرتقاء وإن كان موجودا في فطرة اإلنسان، ولكنه إذا ترك وحده بدون أن يجعل له أســاســنى عليــه فإنــه قــد يحصــر بــالتفكير بعيش نفســه وال يب

69

يتعداه إال إذا كان متعلقا بعيش نفسه، كــأن يتعــداه، إلىــك إلى ــدى ذل ــيرته. أو يتع ــه وعش ــير بعيش عائلت التفك التفكير بعيش قومــه وأمتــه. ولكنــه يظــل تفكــيرا بعيش نفســه، فتبقى فيــه األنانيــة متحكمــة، ويظــل االنحطــاطــه. وال ــرا من مظــاهر حيات ــارزا في تصــرفاته، أو مظه ب يتعدى ذلك إلى النهضة، وال إلى االطمئنان الدائم. ولهذا فإن ترك التفكــير بــالعيش هكــذا على طبيعتــه، دون أنــتمر وأن ــح أن يس ــاة، ال يص ــرة في الحي ــنى على نظ يب يبقى، ألنـــه ال يوصـــل إلى النهضـــة، وال إلى الطمأنينـــةــة، والعيش ــة الدائم ــول دون الطمأنين ــل يح ــة، ب الدائم البدائي، أو عيش الشعوب المنحطة هو خــير دليــل على

ذلك.ة ير بإشـباع الطاـق ني التفـك العيش ال يـع ير ـب إن التفـك الحيويــة إشــباعا آنيــا أو كيفمــا اتفــق، وال إشــباع الــذات وحدها أو العائلة وحدها، أو القوم واألمــة وحــدهم. فإنــه إنسان يحيا في الكون، فال بد أن يكون التفكــير بــالعيش أن يكــون عيشــا مســتمرا، وأن يكــون عيشــا على أرقى وجه مستطاع، وأن يكــون لعيش اإلنســان من حيث هــو إنسان، بما تقتضيه غريزة بقاء النوع اإلنســاني. وهــذا ال يمكن أن يتأتى بجعل التفكير في العيش دون بنائه على نظــرة معينــة للحيــاة. ألنــه إذا بقي كــذلك، ظــل تفكــيرا

بدائيا وظل تفكيرا يتسم باالنحطاط. وعلى أي حــال، ســواء بني التفكــير بــالعيش على النظرة في الحياة أو لم يبن، فإن أهم ما يجب أن يكون فيه، أن يكون تفكــيرا مســؤوال، تقصــد فيــه الغايــة منــه،ــه، ــا يجب أن يالحــظ في ــة من العيش. وإن أهم م والغاي

70

المسؤولية عن الغير. المسؤولية عمن تقتضــي الفطــرةــة المســؤولية المســؤولية عنهم، وعمن تقتضــي الحماي عمن تحصل بهم الحمايــة. فــرأس العائلــة كــاألب، مثــل الزوجة واألوالد، ورأس العشيرة كالزعيم، مثــل أي فــرد من أفــراد العشــيرة. كــل منهم، األب والزوجــة واألوالد، والزعيم وكل فــرد من أفــراد العشــيرة، يجب أن يقصــدــة نفســها من ــالعيش، والغاي ــا ب ــر فيه ــتي يفك ــة ال الغايــالتفكير ــ ــير. ف ــ ــؤولية عن الغ ــ ــظ المس ــ العيش، ويالح المسؤول في العيش، ال بد أن يكون هــو طــابع التفكــيرــالعيش، ألن ــيرا ب ــون تفك ــأتى أن يك ــتى يت ــالعيش، ح ب التفكير غير المسؤول، في موضوع العيش، ال يزيــد عن التميــيز الغريــزي لــدى الحيــوان في إشــباع الطاقــة الحيوية، وهــو ال يليــق باإلنســان، وال يصــح أن يظــل هــو

تفكير اإلنسان. ــيرا ــالعيش تفكـ ــير بـ ــون التفكـ ــتراط أن يكـ إن اشـ مسؤوال، هو أدنى ما يجب اشــتراطه، ألنــه رغم كونــه الــة، ــة الدائم ــه ال يكفي للطمأنين ــة، ورغم أن يكفي للنهض ولكنه أدنى ما يجب أن يكون لرفع مستوى اإلنسان عن رتبــة الحيــوان، ولجعلــه تفكــير إنســان لــه دمــاغ متمــيزــباع ــوى إش ــوان ال يتطلب س ــرد حي ــط، وليس مج بالرب

الطاقة. إن التفكـير بـالعيش هـو الـذي يصـوغ الحيـاة للفـرد، وهو الذي يصــوغ الحيــاة للعائلــة والعشــيرة، وهــو الــذي يصوغ الحياة للقوم، وهو الذي يصوغ الحياة لألمــة، وهــو فوق كل ذلــك يصــوغ الحيــاة لإلنســانية، صــياغة معينــة، فيجعلها شكل قــرد أو خــنزير، ويجعلهــا من ذهب أو من

71

قصدير، أي يجعلها حياة عز ورفاهية وطمأنينة دائمــة، أو يجعلها حياة شقاء وتعاسة وركض وراء الرغيف. ونظــرة واحدة للتفكير الرأسمالي بالعيش، وما صــاغ بــه الحيــاةــري مــا جلبت هــذه لإلنســانية كلهــا من صــياغة معينــة، ت الصياغة لحياة اإلنسانية كلها من تعاســة وشــقاء وجعــل اإلنسان يقضي حياته كلها يــركض وراء الرغيــف. وكيــفــات خصــام دائم، هي ــاس عالق ــات بين الن جعلت العالق عالقة الرغيف بيني وبينك آكله أنا أو تأكله أنت، فيستمر بيننا الصراع حتى ينال أحــدنا الرغيــف ويحــرم اآلخــر، أو يعطي أحدنا ما يبقيه على الحيــاة ليــوفر بــاقي الرغيــف لآلخر ويزيد خــبزه. فنظــرة واحـدة لهــذه الصــياغة الـتيــري كيــف جعلت ــاة، ت صــاغها التفكــير الرأســمالي للحي الحيــاة الــدنيا دار شــقاء وتعاســة، ودار خصــام دائم بين الناس. ذلك أن التفكير الرأسمالي بالعيش، وإن كان قد بناه على فكرة كليــة عن الكــون واإلنســان والحيــاة، أي وإن كــان بنــاه على نظــرة معينــة في الحيــاة، فإنــه وإنــذا ــتي ســارت على ه ــق نهضــة للشــعوب واألمم ال حقــك الشــعوب واألمم، ــه أشــقى تل ــالعيش، فإن ــير ب التفكــرة ــد فك ــذي أوج ــو ال ــا. فه ــانية بأجمعه ــقى اإلنس وأش االستعمار واالستغالل، وهو الذي أتاح ألفراد أن يعيشــوا في مســتوى هيــأ لهم أن يأخــذوا الرســائل الــتي تــأتيهمــد، ــدم، أي العبي ــه إليهم الخ ــق من ذهب يقدم على طب وحرم أفرادا حــتى من أن يكونــوا خــدما أو عبيــدا ألبنــاء عــائالتهم أو عشــيرتهم أو أمتهم، يســتطيعون أن ينعمــوا بفضالت العيش. وفي أمريكا الغنية، وإنجلترا التي تحلمــا بالعظمــة ــتي يســبح خياله ــة، وفرنســا ال باإلمبراطوري والمجد، نماذج عديدة من هذه الحياة، فضال عمــا فعلتــه

72

ــا من فكرة االستعمار واالستغالل في غير أوروبا وأمريك استعباد ومص دمــاء. وكــل هــذا إنمــا كــان، ألن التفكــيرــه ــيرا في ــؤوال، أي ليس تفك ــيرا مس ــالعيش ليس تفك ب المســؤولية عن الغــير، وإنمــا هــو خــال من المســؤولية الحقيقيــة، حــتى وإن كــانت تظهــر فيــه المســؤولية عنــه العائلة أو العشيرة أو القوم أو األمة، ولكنه في حقيقت خــال من المســؤولية، ألنــه ليس فيــه إال مــا يضــمن

اإلشباع. والفكــرة االشــتراكية وإن جــاءت لتوجــد المســؤوليةــالعيش، لتوجــدها مســؤولية عن الفقــراء في التفكــير ب والكادحين، ولكنها وقد عجزت عن الصمود أمام الحياة، انحرفت مع الزمن، حتى غدت إســما أو شــبحا، وأخــذت تخلو تدريجيا من المسؤولية عن الغير، حتى صارت فعال تفكيرا بالعيش، ال يختلــف عن التفكــير الرأســمالي، فيــا ــو من المســؤولية عن الغــير، وصــارت في واقعه الخل

فكرة قومية أكثر منها فكرة إنسانية. وعلى هــذا فــإن العــالم، وإن كــان فيــه التفكــير فيــا ــدى كــل من أوروب ــاة ل ــا على نظــرة للحي العيش مبنيــاة في ــتي تصــوغ الحي ــدول ال وأمريكــا وروســيا وهي الــالم ــير في العيش الموجــود في الع ــإن التفك ــالم. ف العــير. إن ــه خــال من المســؤولية عن الغ ــبر حقيقــة أن يعت المرء قد يفهم أن خلو التفكــير بــالعيش من المســؤولية عن الغير، قد يوجد طبيعيا في اإلنسان المنحط ولكنه ال يفهم كيف يجعل استعباد الغير واستغالله إلشباع حاجات الذات يحل محل المسؤولية عن الغير. ولهــذا فإنــه رغمــوم مظــاهر النهضــة والتقــدم الموجــودة في العــالم الي

73

ــاء ولكن خلو التفكير بالعيش لدى الناس وال سيما األقوي القادرين على تحصيل العيش، من المسؤولية عن الغــيرــيره ــالم في تفك ــدرك أن الع ــر ي ــل المبص ــل العاق يجعــق وليس بمطمئن ــدما، وقل ــالعيش منحــط وليس متق بــالي من ــالعيش الخـ ــير بـ ــذا التفكـ ــاء هـ ــبر أن بقـ ويعتـ المسؤولية عن الغير أمر مضر بالحياة. ومجلبــة للشــقاءــير ــذا التفك ــد من القضــاء على ه ــذلك ال ب لإلنســان. ول والعمل ألن يحل محله تفكير بالعيش تكــون المســؤولية

عن الغير جزءا ال يتجزأ منه. صحيح أن الرغيف هو العالقة بين اإلنسان واإلنسان، وصحيح أن التفكير بالعيش هــو التفكــير بالحصــول على هذا الرغيف إلشباع الطاقة الحيوية الــتي تــدفع اإلنســان لإلشــباع. ولكن بــدل أن تكــون العالقــة بــالرغيف بين اإلنسان واإلنسان، هي أن آكله أنــا أو تأكلــه أنت تكــون،ل ــا أحصــ ــا، فأن ــه أنت ال أن ــالرغيف تأكل ــة ب ــذه العالق هل الرغيــف لتطعمــني الرغيف ألطعمــك إيــاه وأنت تحصــ إيــاه، ال أن أخاصــمك ألخــذه وتخاصــمني ألخــذه، أي أن تكون عالقة إيثار ال عالقة أثرة. أي أن تفــرح بالعطــاء ال باالســتغالل، وأن أفــرح بالعطــاء ال باالســتغالل. وللــه در

الشاعر العربي حين يقول: كأنك تعطيه الذي أنتتراه إذا ما جئته متهلال

سائله أي إن اإلنسـان وإن كـان يفـرح بـأن يأخـذ، اسـتجابة لغريزة البقاء ولكنه حين يرتقي يصــبح يفــرح ألن يعطيــو كما يفرح حين يأخذ وكذلك استجابة لغريزة البقاء، وه

74

مظهر الكرم واإلعطاء، فإنه كمظهر الملكية واألخذ كــلمنهما مظهر من مظاهر غريزة البقاء.

العيش تفكـيرا فالموضـوع ليس فيـه جعـل التفكـير ـب بالغير، ألن التفكــير بــالعيش هــو تفكــير بإشــباع الطاقــة الحيوية لإلنسان الذي يفكر فال بد أن يكون متجاوبــا مــع اإلشباع حتى يكون تفكيرا صحيحا، وإنمــا الموضــوع هــو أن تكـون في هــذا التفكــير المســؤولية عن الغــير، ال أن يكون تفكيرا بإشباع الغير. فهو ال يفكــر بــالعيش ليشــبع الطاقة الحيويــة لــدى الغــير، بــل يفكــر بــالعيش إلشــباع الطاقة الحيوية لديه، ولكنه حين يفكــر تفكــيرا مســؤوال،فا بصــفة المســؤولية عن صــ ــيره مت ــون تفك أي حين يك الغير؛ فإنه بدل أن يشبع مظهــر الملكيــة، يشــبع مظهــر الكرم، وبدل أن يشبع مظهر الخوف يشبع مظهر الثناء. وفي كلتا الحالتين هــو يشــبع الطاقــة الحيويــة لديــه في إشباع غريزة البقاء، ولكنه اختار إشــباع المظهــر األرقىــل ــو الموضــوع في جع ــذا ه ــط. ه ــر المنح على المظه التفكير بــالعيش تفكــيرا مســؤوال. فــإن المســؤولية عن ــه تفكــيرا ــتي تجعل ــالعيش هي ال ــير ب الغــير في التفك

بالعيش يعطي العيش الراقي والعيش الهنيء.ف عن أما التفكير في الحقائق فإنه وإن كـان ال يختـل التفكير في أي شيء، ألن الحقيقــة هي مطابقــة الفكــر للواقع، ولكن لما كان للحقــائق وزن وال ســيما الحقــائق غير المادية، فإنه ال بد من بيــان هــذا النــوع من التفكــيرــيره. ــيء غـ ــير في أي شـ ــاره يختلـــف عن التفكـ باعتبـ والتفكير بالحقائق هو جعل الحكم الــذي يصــدر منطبقــا تمــام اإلنطبــاق على الواقــع الــذي نقــل إلى الــدماغ

75

بواسطة اإلحساس، وهذه المطابقة هي التي تجعــل مــا يدل عليه الفكر حقيقة، وهي إذا كــانت حقيقــة تتجــاوب مع الفطرة تجاوبا طبيعيا. فمثال: كون المجتمع هو عبارةــه. فحين يجــري ــذا واقع ــاس فيكــون ه ــات ون عن عالق الحكم على المجتمع ما هو، فإن كل األحكام على واقعه قد جرت على الطريقــة العقليــة، وهي فكــر ولكن كــون هذا الفكر حقيقة أو ليس بحقيقة راجع إلى انطباق هــذاــارة عن ــع عب ــالوا إن المجتم ــذين ق ــة. فال ــر حقيق الفك مجموعة أفراد، فإنهم رأوا أن الجماعة مكونة من أفرادــأتى أن يكــون إال إذا وجــد مجموعــة وأن المجتمــع ال يت أفراد فنقل هذا الواقــع إلى دمــاغهم بواســطة الحــواس وفسروه بواسطة المعلومات السابقة فأصــدروا حكمهمــر ولكن بأن المجتمع هو مجموعة أفراد. فهذا الحكم فكــه مطابقته للواقع وعدم مطابقته هو الــذي يــدل على أن حقيقـــة أم ال. فعنـــد تطبيقـــه على الواقـــع يشـــاهد أن ــا ــون مجتمع الجماعة في باخرة مهما بلغ عددهم ال يكون وإنما يكونون جماعة مــع أنهم مجموعــة أفــراد في حين أن الجماعة الذين يعيشون في قرية مهمــا بلــغ عــددهمــا ولم يجعــل يكونون مجتمعا. فالذي جعل القرية مجتمع الباخرة مجتمعــا، إنمــا هــو وجــود العالقــات الدائمــة بين سكان القرية وعدم وجود العالقــات الدائمــة بين ركــاب الباخرة. فإذن، فالذي يكون المجتمــع هــو العالقــات بينــبين أن هــذا ــذلك يت ــاس. وب ــاس وليس مجموعــة الن الن التعريــف للمجتمــع وإن كــان فكــرا ولكنــه ليس حقيقــة، وهذا يعني أنه ليس كل فكر حقيقــة بــل ال بــد أن يكــون

هذا الفكر منطبقا على الواقع الذي صدر الحكم عليه.

76

ومثال كون الديانة النصرانية فكرا، صحيح. فقــد نقــل الحس أن اآلب واإلبن وروح القدس هي واحــد، فالثالثــة واحد، والواحد ثالثــة، فالشــمس فيهــا الضــوء والحــرارة وجرم الشمس فكلهــا شــيء واحــد وهي ثالثــة، فكــذلكــاد اإلله هو اآلب واالبن وروح القدس، وقد تجاوب االعتق باإلله مع الفطرة أي مع غريزة التدين فكان فكــرا ولكن مطابقته للواقع وعــدم مطابقتــه للواقــع هــو الــذي يــدل على أنه حقيقــة. وعنــد تطبيقــه على الواقــع يشــاهد أنــة ــة ثالث ــة، فالثالث ــة ليســت واحــدا وال الواحــد ثالث الثالث والواحد واحـد. أمـا الشـمس فـإن كــون لهــا ضـوء ولهــا حرارة، ال يدل على أنها ثالثة بل هي واحد هو الشــمس، والضوء خاصة من خواصها وليس شــيئا ثانيــا، والحــرارةــاوب خاصة من خواصها وليست أمرا ثالثا، وكون هذا تج مع الفطرة ال قيمة له ألن غريزة التدين تتطلب اإلشباع فقد يجري إشباعها بشــكل خــاطئ أو شــاذ وقــد يجــري إشباعها بشكل صحيح. وإثبات كون اإلله واحــدا أم ثالثــة إنما يأتي عن طريــق العقــل ال عن طريــق الفطــرة وإن كان شرطه أن يتجاوب هذا التفكير العقلي مع الفطرة. وعليه يكون هذا الفكر غير منطبــق على واقــع اإللــه فال

يكون حقيقة، فالديانة النصرانية ليست حقيقة.ــذلك ومثال كــون المــادة تتطــور من ذاتهــا ويجــري ب الخلق واإليجاد وأن هذا فكر أمر صحيح. فقد نقل الواقع أن المــادة تتحــول من حــال إلى حــال بواســطة قــوانينــدة لم تكن ثابتة. ويحصل بهذا التحول إيجــاد أشــياء جدي فيكون هذا خلقا وإيجادا. ولكن انطباق هــذا على الواقــع هو الــذي يــدل على أنــه حقيقــة أو ليس بحقيقــة. وعنــد

77

تطبيقــه على الواقــع يشــاهد أن هــذه المــادة لم توجــد أشــياء من عــدم، بــل من شــيء موجــود وأن القــوانين مفروضــة عليهــا فرضــا فهي ال تســتطيع أن تخــرج علىــون هي ــا وال تك ــا خلق ــون عمله ــوانين. فال يك ــذه الق ه خالقة. فيكون هذا الفكر غير منطبق على واقع الخــالق،

وال على واقع الخلق فال يكون حقيقة.ــتي ــدنيا وال ــار الموجــودة في ال ــع األفك ــذا جمي وهك توجد، ال يعني كونها فكرا أنها حقيقة، بل ال بد أن ينطبق الفكر على الواقع حتى يكون حقيقة. وألجــل معرفــة أن الفكــر حقيقــة أم ال، ال بــد من تطــبيق هــذا الفكــر على الواقع الذي يدل عليه، فإن انطبق عليه كان حقيقة وإن لم ينطبــق عليــه لم يكن حقيقــة. فــالتفكير بالحقــائق ال يعني القيام بالعملية العقليــة فحســب بــل يعــني القيــام بالعملية العقلية، وتطــبيق الفكــر الــذي نتج عن العمليــة العقلية على الواقع الذي يــدل عليــه، فــإن انطبــق عليــه كــان حقيقــة، وإن لم ينطبــق عليــه لم يكن حقيقــة. وال يقــال إن هنــاك أشــياء ال يمكن معرفــة انطبــاق الواقــع عليهــا ألنهــا ال تحس، ال يقــال ذلــك ألن شــرط التفكــير اإلحساس بالواقع فما لم يكن واقعا يحس ال يكون فكرا وبالتالي ال يكون حقيقة. فالله مثال، ليس فكرة وإنما هو حقيقة، فإن الحس قد نقــل أثــره، وهــو المخلوقــات من عــدم إلى الــدماغ بواســطة الحــواس وهــذا جعلنــا نحكم على وجوده. فوجود الله حقيقــة. أمــا ذات اللــه فإنهــا الــا. فال ــتطيع الحكم عليه ــذلك ال نس ــع تحت الحس ول تق يوجــد شــيء من الحقــائق الــتي توصــل أو يتوصــل إليــه العقــل، إال ويقــع عليــه الحس. فالحقيقــة ال بــد أن يقــع

78

عليهــا الحس وال بــد أن يجــري التفكــير بهــا عن طريــقالعقل.

فالتفكير بالحقيقة هو تطبيق الفكر على الواقع الذي يدل عليه فإن انطبق عليه كــان حقيقــة، وإن لم ينطبــق عليه لم يكن حقيقة. والتفكــير بالحقيقــة أمــر ال بــد منــه للنــاس جميعــا من أفــراد وشــعوب وأمم، وال ســيما من يتحملــون مســؤوليات مهمــا كــانت صــغيرة ألن األفكــار كثيرا ما تكون سببا للخطأ، وسببا للضالل فال يصــح أخــذ الفكر أي فكر على أنه حقيقــة بــل يؤخــذ على أنــه فكــر فقط ثم يجري تطبيقه على الواقع الذي يدل عليــه فــإن انطبق عليه كــان حقيقــة، وإال لم يكن حقيقــة وإن كــان فكرا. فالتفكير بالحقيقة سواء أكــان ابتــداء مثــل القيــامــذا ــر ثم تطــبيق ه ــة للوصــول إلى الفك ــة العقلي بالعملي الفكر على الواقع حتى ينطبــق عليــه فــإذا انطبــق عليــه كان حقيقة وإال فيجب أن يجري البحث عن الحقيقة، أي عن الفكر الذي ينطبق على الواقع الذي يدل عليه أو لمــار الموجــودة يكن ابتداء وإنما كان عن طريق أخذ األفك والبحث عن الحقائق منها. مثــل القيــام بتطـبيق األفكــار

الموجودة على الواقع، للوصول إلى الحقيقة. وهنـــا ال بـــد من لفت النظـــر إلى أمـــرين: أحـــدهماــاني ــ ــائق، والث ــ ــل في الحق ــ ــتي تحص ــ ــات ال ــ المغالط المغالطات التي تصرف عن الوصول إلى الحقــائق. أمــا المغالطات التي تحصل عن الحقــائق، فإنهــا تحصــل من جراء التشابه الذي يحصل بين الحقائق أو األفكار فيتخذ هذا التشابه أداة لطمس الحقــائق، أو يكــون باســتعمالــون ــرى، أو يك ــة أخ ــائق لطمس حقيق ــة من الحق حقيق

79

ــت ــا ليس ــائق، من أنه ــة من الحق ــكيك في حقيق بالتش حقيقة أو كانت حقيقــة في ظــرف وتغــير هــذا الظــرف، إلى غــير ذلــك من األســاليب. فمثال كــون اليهــود أعــداء للمسلمين حقيقة وكون اليهــود أعــداء ألهــل مــا يســمىــابهتان أو ــان متشـ ــان حقيقتـ ــة، وهاتـ ــطين حقيقـ فلســـداء بين ــة الع ــة جعلت حقيق ــداخلتان ولكن المغالط مت اليهــود وأهــل فلســطين هي البــارزة بــل هي المالحظــة فاتخذ هذا التشابه أو التداخل أداة لطمس حقيقة العداء بين اليهود والمسلمين. وكون فكــر أن الحريــة موجــودة عنــد أمريكــا حقيقــة وكــون فكــر أن أمريكــا إنمــا يختــار رؤساءها، الرأسماليون حقيقة وهمــا فكــران متشــابهانــا. ولكن ــع أمريك ــدل على واق ــا ي من حيث إن كال منهمــون ــة كـ ــة أداة لطمس حقيقـ ــة الحريـ ــذت حقيقـ اتخـــا. ــاء أمريكـ ــارون رؤسـ ــذين يختـ ــماليين هم الـ الرأسـ فطمست هذه الحقيقة وصــار المعــروف أن الــذي ينجح رئيســا في أمريكــا هــو من لــه شــعبية أكــثر. ومثال كــونــد ــترا تري إنجلترا ضد الوحدة األوروبية حقيقة وكون إنجل تقوية نفسها بأوروبا الموحدة حقيقة. فاتخــذت الحقيقــةــذلك دخلت ــ ــة األولى، وب ــ ــة أداة لطمس الحقيق ــ الثاني إنجلترا الســوق المشــتركة. ومثال كــون اإلســالم قــوة ال تغلب حقيقــة ولكن جــرى التشــكيك في هــذه الحقيقــة حتى أصبح الرأي بــأن هــذا ليس حقيقــة أو كــان حقيقــة في أول اإلسالم ثم تغير الزمن فلم تعد حقيقــة. وهكــذا تجــري المغالطــات في الحقــائق فتطمس إمــا بحقــائق أخــرى أو بالتشــكيك في تلــك الحقــائق. وهــذا مــا حــذق

فعله الغرب في الحقائق الموجودة عند المسلمين.

80

وأمــا المغالطــات الــتي تصــرف عن الحقــائق فإنهــا تحصل بإيجاد أعمال تصرف عن الحقائق أو إيجاد أفكــار تصرف عن الحقائق. فمثال كون األمة ال تنهض إال بالفكرــر شــجعت ــة، ولكن لصــرف المســلمين عن الفك حقيق األعمــال الماديــة من مظــاهرات واضــطرابات وثــورات لصرف الناس عن الفكر، وانشغالهم بالعمل، فطمســت حقيقة أن األمة ال تنهض إال بالفكر وحل محلها أن األمــة ال تنهض إال بـــالثورة. وكـــذلك لصـــرف المســـلمين عنــاألخالق حقيقة النهضة وجدت أفكار أن النهضــة تكــون ب وأن النهضة تكون بالعبادات وأن النهضة تكون باالقتصادــك من األفكــار. وهكــذا تجــري المغالطــات إلى غــير ذل

لصرف الناس عن الوصول إلى الحقائق. ولـــذلك ال بـــد من االنتبـــاه للمغالطـــات وال بـــد من التمسك بالحقائق والقبض على الحقيقة بيــد من حديــد،ــير ــر واإلخالص في التفكـ ــد من العمـــق في الفكـ وال بـــدم ــا يحصــل لع ــائق. ومن أخطــر م للوصــول إلى الحق اإلنتفاع بالحقائق هــو إهمــال حقــائق التــاريخ، وال ســيما الحقائق األساســية فيــه، وذلــك أن التــاريخ فيــه حقــائق ثابتة ال تتغير وفيه آراء وليدة ظــروف، فــاآلراء الــتي هي وليدة ظروف ليست حقائق وإنما هي حــوادث فال يصــح أن ينتفع بها وال يصح أن تطبق في ظــروف مختلفــة عن ظروفها. ولكن الواقع أنــه قــد جعــل النظــر إلى التــاريخ كله نظرة واحدة وأهملت حقائق التــاريخ. ولم يمــيز بين الحقائق والوقائع، ولذلك لم يلتفت للحقائق. فمثال كــون الغربيين اتخذوا الساحل الشرقي وخاصة سواحل مصــر وبالد الشام لغزو الدولة اإلسالمية حقيقــة ولكن انتصــار

81

الغربيين على المسلمين حــادث تــاريخي وليس حقيقــة.ــه الحقــائق فــاختلطت الحــوادث بالحقــائق، وأهملت فيــر األبيض ــرقي للبح ــاحل الش ــون الس ي ك ــ ــتى تنوس ح المتوسط ثغرة منها ينفذ العدو إلى داخــل بالد اإلســالم.ــة ومثال كون فكرة القومية هي التي زعزعت كيان الدول العثمانيــة وكــون المســلمين حــاربوا الغــرب كعثمــانيين مســلمين، ال كمســلمين فحســب حقيقــة. ولكن انهــزام العثمانيين في أوروبا ثم انهــزامهم في الحــرب العالميــة األولى حدث من أحداث التاريخ، ولكن جعــل النظــر إلى تـــاريخ الحـــروب بين العثمـــانيين واألوروبـــيين، وتـــاريخ الحـــرب العالميـــة األولى كلـــه نظـــرة واحــدة وأهملت الحقــائق في هــذه الحــروب أي أهملت حقــائق التــاريخ. فــاختلطت الحقــائق بــالحوادث، وأهملت الحقــائق حــتى تنوســـي كـــون الفكـــرة القوميـــة هي ســـبب االنهـــزام للعثمـــانيين في أوروبـــا وفي الحـــرب العالميـــة األولى.ــا إهمــال ــد جــرى فيه ــاريخ ق ــع حــوادث الت وهكــذا جميــائق ــع أن حق ــاريخ، م ــائق الت ــع بحق ــائق، فلم ينتف الحقالتاريخ هي أغلى ما لدى اإلنسان، وأعلى أنواع األفكار.

فالتفكير بالحقائق ســواء بالوصــول إليهــا أو بتميزهــا من غـــير الحقـــائق، أو بـــالقبض عليهـــا بيـــد من حديـــد واإلنتفاع بهــذه الحقــائق هــو التفكــير المجــدي والتفكــير الذي يكون لــه آثــار هائلــة في حيــاة األفــراد والشــعوب واألمم. وما فائدة التفكير إذا لم يؤخذ للعمل بــه وإذا لم يقبض على الحقـــائق ويتمســـك بهـــا وإذا لم يمـــيز بينالحقيقــــــــــــــــة وغـــــــــــــــير الحقيقــــــــــــــــة؟ــير ــة ال تتغ ــر قطعي وهي ثابت ــائق هي أم على أن الحق

82

وهي يقينيــة قطعيــة، ال يــؤثر فيهــا اختالف الظــروف والــده من ــر ال يصــح تجري ــوال. صــحيح أن الفك ــير األح تغ ــا ظروفه ومن األحوال التي تكتنفه وال يقاس عليه قياس شموليا، ولكن هذا هــو الفكــر من حيث هــو فكــر إذا لم يكن حقيقة. أما إذا كان الفكر حقيقــة، فإنــه ال يصــح أن ينظر فيه إلى الظروف واألحوال مهما تغيرت أو تبدلت. بــل يجب أن يؤخــذ كمــا هــو بغض النظــر عن الظــروف واألحــوال. ال ســيما وأن الحقــائق ال تؤخــذ بالطريقــةــة الــتي هي طريقــة ظنيــة، بــل تؤخــذ بالطريقــة العلمي العقلية وبالجانب اليقيني منها. ألنهــا أي الحقــائق تتعلــق بالوجود، ال بالكـنه وال بالصفات. فإن انطباق الفكر على الواقع الذي يدل عليه يجب أن يكون انطباقا يقينيا حـتى يكون حقيقة. لذلك ال بد من التفكير بالحقائق وال بد من

القبض على الحقائق بيد من حديد. وأما التفكــير باألســاليب فهــو التفكــير بالكيفيــة غــير الدائمة الـتي بهـا يقـام بالعمـل، واألسـلوب يقـرره نـوع العمل، ولــذلك يختلــف األســلوب بــاختالف نــوع العمــل، صحيح أن األساليب قد تتشابه، وأن األسلوب الواحد قد ينفع في عدة أعمال، ولكن عند التفكير باألســلوب يجب أن يفكر في نوع العمل الــذي يــراد اســتخدام األســلوب للقيام به، حــتى لــو تشــابهت األســاليب وحــتى لــو كــان األسلوب المعروف ينفع في هذا العمــل الجديــد، فال بــد من التفكير في نوع العمل عند التفكير باألســلوب الــذي يــراد لــه بغض النظــر عن تشــابه األســاليب وعن وجــود أساليب تنفــع لهــذا العمــل. ألن التشــابه قــد يضــلل عن األسلوب الفعال، وألن كون هناك أسلوب ينفــع في هــذا

83

العمل قـد يســبب عرقلــة القيــام بالعمـل فمثال أسـلوب الدعاية لفكرة يتشابه مع أسلوب الــدعوة لهــذه الفكــرة كل منهما يعتمد على عــرض الفكــرة على النــاس ولكن هذا التشابه قد يضلل حملة الدعوة وقد يضــلل أصــحاب الدعايـــة لفكـــرة، فأســـلوب الدعايـــة إذا اســـتعمل في أسلوب الــدعوة يخفــق على المــدى الطويــل، وأســلوب الدعوة إذا استعمل في الدعايــة يجعــل الدعايــة تخفــق. فأسلوب الدعوة يعتمد على شرح الحقائق كما هي، أما أسلوب الدعاية فإنه يعتمد على تزيين الفكرة وبهرجتها. وإن كان كل منهما ال بــد فيــه من حســن العــرض. ومثال أسلوب نصب الحاكم في النظام الديمقراطي وهو جعلــاكم في ــب الح ــع في نص ــاكم، ينف ــعب ينتخب الح الشــاكم. ولكن النظام اإلسالمي، فيجعل الشعب ينتخب الح حين يراد اتخاذ أســلوب لنصــب خليفــة للمســلمين يجب أن يفكر في واقع الحكم في نظــام اإلســالم بأنــه نصــب حاكم دائم وليس حاكما لفترة زمنيــة محــددة، ولــذلك ال بد من التفكير في نوع الحكم في اإلســالم عنــد التفكــير في رســم أســلوب لنصــب الخليفــة فيجعــل مثال حصــر المرشحين الذين هم أهل للخالفة من قبل ممثلي األمــة ومنــع ترشـيح من عــداهم. ثم جعــل الشــعب ينتخب من يريد من هؤالء المرشحين فقط، ثم الطلب من الشعبــة ــلمين خليف ــثر المس ــاه أك ــذي ارتض ــايع ال ــه أن يب كل للمسلمين. صحيح أن البيعة هي طريقة لنصب الخليفــة وليست أســلوبا، ولكن كيفيــة أداء البيعــة، هــو أســلوب.ــل ــا في العم ــلوب نافع ــون األس ــذلك ال يكفي أن يك ول الجديد كما نفع في غيره من األعمال، ولكن حـتى يقـرر هذا األسلوب لهذا العمــل ال بــد من التفكــير في العمــل

84

حين التفكير في األسلوب: فإن التفكير في نــوع العمــلضروري عند التفكير في وضع أسلوب للقيام به.

إن األسلوب هــو كيفيــة معينــة للقيــام بالعمــل، وهــو كيفية غــير دائمــة، بعكس الطريقــة فإنهــا دائمــة للقيــامــاج بالعمل. والطريقة ال تختلف مطلقا، وال تتغير، وال تحت إلى عقلية مبدعة حتى تقوم بها، ألنهــا يقينيــة، فهي إمــا أن تكون هي يقينيــة، وإمــا أن يكــون أصــلها يقينيــا. أمــا األسلوب فإنه قد يخفق عنــد اســتعماله للقيــام بالعمــل،ــا وقد يتغير، ويحتاج إلى عقلية مبدعة للقيام به. ومن هنــالطرق. ــير ب ــاليب أعلى من التفك ــير باألس ــان التفك ك فالطريقة قد يستنتجها عقل مبـدع، ولكن قـد يســتعملها عقل عادي. أما األسلوب فإن الوصــول إليــه يحتــاج إلى عقل مبدع، أو عقل عبقري، وإن كان استعماله قــد ينتج

بالعقل العادي. فالطريقـــة ليس من الضـــروري أن ينتجهـــا العقـــل المبدع، ولكن األسلوب من الضــروري أن ينتجــه العقــل المبدع أو العقــل العبقــري، ســواء أكــان متعلمــا أو غــيرــالعلم ــق بـ ــلوب ال يتعلـ ــول إلى األسـ متعلم. ألن الوصـ والمعرفة بل هو يتعلق بالعملية الفكرية التي تجــري من أجــل الوصــول إليــه. ومن هنــا يتفــاوت النــاس في حــل المشاكل. ألنهم يحلونها بأســاليب، فقــد يحــاول شــخص حل مشكلة ما، فتستعصــي عليــه فيهــرب منهــا أو يعلن عجزه عن حلها أو يظن أنهــا مشــكلة ال حــل لهــا، ولكنهــا من يملك عقلية حل المشــاكل إذا عــالج مشــكلة لحل واستعصت عليه، فإنه يغير األســلوب الــذي يســتعمله أو يقوم بعدة أســاليب، وإذا استعصــت عليــه رغم مختلــف

85

ــا، األساليب، فإنه ال يهرب منها وال يعلن عجــزه عن حله وال ييأس من حلها، وإنما يصبر عليها، ويتركهــا فــترة من الــوقت، أي يتركهــا للــزمن على حــد قــولهم، ثم يعــاود التفكير بحلها فترة بعد أخرى حــتى يحلهــا. ولــذلك فــإن من لديه عقلية حــل المشــاكل ال توجــد لديــه مشــكلة ال حل لها، بل إن كل مشــكلة لهــا حــل والســبب في ذلــك اعتماده على قدرته في إيجاد األساليب التي تحــل هــذه المشكلة المستعصية. ومن هنا كــان التفكــير باألســاليب من مــيزات العقــول المبدعــة أو العبقريــة فــإن حــل

المشاكل متوقف على التفكير باألساليب. وأما التفكير بالوسائل فإنه صــنو التفكــير باألســاليب ومقارن له، وهو التفكير باألدوات المادية التي تســتعمل للقيام باألعمال، فإذا كان التفكــير باألســاليب هــو الــذيــا إذا ــإن هــذه األســاليب ال قيمــة له يحــل المشــاكل، فــل. إال أن إدراك ــل إلى حـ ــائل ال توصـ ــتعملت وسـ اســـة ــير، ولكن التجرب ــق التفك ــائل وإن أتى عن طري الوســذلك يتحتم على للوســيلة عنصــر هــام في معرفتهــا. ول المفكر باألساليب أن يكون مفكــرا بالوســائل، وإال فــإنــائل ال جميع األساليب ال يمكن أن تنتج إذا استعملت وس تقوى على استعمال األســاليب، وال ســيما وأن الوســائلــاج األســاليب. فمثال رســم خطــة جــزء جــوهري في إنت لقتــال العــدو هــو رســم ألســلوب وإن كــان خطــة، ألن الخطة نفسها أسلوب، فإذا رسم الخطة رســما صــحيحا مائة بالمائة، ولكنه استعمل السالح الــذي ال يقــوى على مواجهة سالح العدو، فإن الخطة مخفقة قطعا، ولو كان الرجــال الــذين يحــاربون أقــوى من رجــال العــدو، ولــو

86

ــعفي حارب برجال يقوون على مقاتلة العدو ولو كان ض قوته، فــإن الخطــة مخفقــة حتمــا، فالخطــة الموضــوعةــذ هــذا للحرب أسلوب، والرجال واألسلحة وســائل لتنفي األسلوب، فإذا لم يكن التفكــير بالوســائل موجــودا عنــد التفكير باألســلوب أو كــانت الوســائل ليســت من النــوعــير ــة للتفك ــه ال قيم ــلوب فإن ــذا األس ــه ه ــذ ب ــذي ينف ال باألساليب، وال قيمة لألســاليب الــتي فكــر فيهــا، ألنهــا ال تثمر إال إذا جــرى التفكــير بهــا عنــد التفكــير باألســلوب، وكانت من النوع الذي يستعمل في هذا األسلوب. وعليه فإنه ال يصح أن يجري التفكــير بالوســائل خــارج التفكــير باألساليب، وال يصح أن يجري التفكير بالوســائل إال على

ضوء األسلوب الذي يجري التفكير به. إال انه وإن كانت األســاليب قــد تخفى على المفكــر، ولكن الوســائل أشــد خفــاء على كــل مفكــر، وذلــك ألنــرر، ولكن األساليب يكفي أن يجري التفكير بها حــتى تق الوسائل ال بد أن يجري التفكير بها، وأن تجــري تجربتهــا لتقرر هذه التجربة صحتها وعدم صــحتها وصــالحها لنــوع األسلوب وعدم صالحها. فمثال تقوم الدول غير الصناعية بشــراء األســلحة من الــدول الصــناعية وتقــوم بتــدريب جيوشــها على هــذه األســلحة بمعرفــة خــبراء الــدول الصناعية. ولكنها لم تجر تجارب على هذه األسلحة. ولم تختــبر تــدريب الجنــود ولــذلك فإنهــا مهمــا وضــعت من خطط، ال تكون قد اختارت الوســائل الــتي هي من نــوع هذه الخطــط. صــحيح أنهــا تتلقى التعليم العســكري من الــدول العســكرية، ومن الــدول الصــناعية ولكن التعليمــوم ــابهه من العل ــا ش ــط وم ــم الخط ــكري، ورس العس

87

العســـكرية هـــو أســـلوب، ويكفي فيـــه التفكـــير، ولكن الوسائل ال يكفي فيهــا التفكــير، فال بــد من التجربــة إلى

جانب التفكير حتى يجري التفكير بالوسائل. ومثال، تشــكيل كتلــة أو حــزب على فكــرة من أجــل نشــر هــذه الفكــرة في الشــعب أو األمــة واتخــاذ تســلم الحكم طريقة لتنفيذ هــذه الفكــرة. فــإن هــذه الكتلــة أو الحزب إذا جرى تقصد العلماء في هذه الفكــرة ليكونــوا أعضاء في الحزب، وتقصد من لهم ثقل في وسطهم أو في المجتمع لكسبهم لعضوية الحزب، فـإن هــذه الكتلــة أو هذا الحــزب ســيخفق في تحقيــق غايتــه فهــو إذا نجح بالعلمـــاء في نشـــر الفكـــرة فلن ينجح بهم في تســـلم الحكم، وإذا نجح بالذين لهم ثقــل في تســلم الحكم فلن يقوم الحكم على الفكــرة ولن تنشــر الفكــرة. وتشــكيلــوف غالبية الحزب من أحد الفريقين أو الفريقين معا سر عمــر الحــزب، ويخفــق في تحقيــق غايتــه ويظــل يقصــ سائرا في طريق الفناء حتى يفنى. فــإن هــذه الوســائل وهي األشخاص من هذا النوع، إنما جاء التفكــير بهــا عن طريق العقل وحــده، ولم يجــر عن طريــق التجربــة إلى جانب العقــل، ولكن إذا أخــذت حقــائق التــاريخ في هــذا النوع من تشكيل األحزاب فإنه يكون قــد جــرى التفكــير بالوسيلة عن طريق العقل، وعن طريق التجربــة. فأخــذ حقائق التاريخ في هذا األمر واستعمال الوسائل حســب هذه الحقائق التاريخيــة يكــون تفكــيرا منتجــا بالوســائل، واختبارها من نوع األساليب. وحقائق التــاريخ تحتم على الكتلة التي تقوم على فكرة، لنشر الفكرة وجعل الحكم طريقة لتنفيذها، أن تقصد الشعب أو األمــة بغض النظـر

88

ــل عن األفراد، فتقبل أي شخص يقبل هذه الفكــرة ويقب االنخراط في الكتلة باعتباره فــردا من الشــعب أو فــردا من األمــة، بغض النظــر عن درجــة تعلمــه وبغض النظــرــزب أو عن مكانته. وأن هذا وحده الذي يضمن نجاح الح

الكتلة، وتحقيق غايته التي يهدف إليها.لل عنهــا إذا وعليه فإن الوســائل قــد تخفى وقــد يضــــذي جرى التفكير بها في معزل عن التفكير باألسلوب الــا. ــا إذا لم تجــر تجربته ــلل عنه ــد تخفى ويض ــذه، وق تنفــذا ــون ه ــائل، وأن يك ــير بالوس ــد من التفك ــذلك ال ب ول التفكير عند التفكير باألســاليب وال بــد أن تجــري تجربــة هذه الوسائل إلى جانب التفكير بها، حــتى يضــمن نجــاح الوسائل وتحقق بها األهــداف. أي حــتى تثمــر األســاليب

التي تستعمل الوسائل. وأما التفكير في الغايات واألهــداف فإنــه أوال تحديــد ما يريده، أي تحديد ما يهدف إليه. وهذا التحديد ضروري للوصــول إلى التفكــير المثمــر. وتحديــد مــا يريــده ليس باألمر السهل، فإن األمم والشــعوب المنحطــة ال تعــرفــراد ــد. واألف ــا تري ــة م ــا تســتطيع معرف ــد، وقلم ــا تري م المنخفضو التفكير، وحتى الكثيرون من مرتفعي التفكير ال يحددون مــا يريـدون ومنهم من ال يســتطيع تحديــد مــا يريد. أما الشعوب واألمم فإنها لوجود مظهر القطيع، أو على حد تعبــيرهم غريــزة القطيــع بشــكل بــارز ومكــونــه يتحكم فيهم التقليــد، ويغلب عليهم عــدم للتجمــع، فإن تمحيص األفكار، ولذلك تتكــون عنــدهم أفكــار مغلوطــة، فتوجــد لــديهم معلومــات غــير صــادقة، وينــدفعون دونــذا يغلب تحديد غاية، أو دون أن يقصدوا تحديد غاية. وله

89

ــود عليهم عدم تحديد الغايات. أما األفراد، فإنه لعدم وجــات ــهم بالغايـ ــون أنفسـ ــإنهم ال يعنـ ــديهم فـ ــد لـ القصـــة، ــير غاي واألهداف، ولذلك يسيرون في تفكيرهم إلى غــددة. فال يكون لتفكيرهم ثمرة وال يسيرون نحو غاية مح مع أن تحديــد الغايــات واألهــداف في التفكــير أمــر الزم لجعل التفكير مثمــرا. وذلــك أن التفكــير أو العمــل إنمــا يوجــد من أجــل شــيء معين، أي من أجــل غايــة معينــة، ومن أجل ذلك ترى أن كل إنسان مفكر، ولكن ليس كل

إنسان قادرا على تحقيق األهداف. والغايات واألهداف تختلــف بــاختالف النــاس. فاألمــة المنحطــة غايتهــا أن تنهض واألمــة المتقدمــة غايتهــا أن تحقق جميع أنواع اإلشــباع. والشــعب البــدائي غايتــه أن يظل محتفظا بأوضاعه التي هو عليها والشعب المتقــدم غايتــه أن يحســن حالــه وأن يحــدث التغيــير، والفــرد المنخفض التفكـــير، غايتـــه أن يشـــبع طاقتـــه الحيويـــة والشعب المرتفع التفكير غايته أن يحســن نــوع اإلشــباع لديه. وهكذا تختلف الغايــات واألهــداف بــاختالف النــاس ومســـتواهم في التفكـــير. إال أنـــه مهمـــا تكن الغايـــات واألهداف لدى الشعوب واألفراد فإن الصبر على تحقيق األهــداف، والجــد في مالحقتهــا إنمــا يكــون في الغايــات القريبة، واألهداف السهلة فإشــباع الجوعــات، من حيث هو إشباع غاية سهلة، حتى لو كــانت غــير قريبــة ولــذلك فإن طاقة الصــبر عليهــا تكــاد تكــون موجــودة عنــد كــل إنسان وإن كانت تتفاوت لدى الناس. فأن تسعى لتأكــلــعى في أو تسعى إلطعام عيالك، أو تسعى لتملك أو تس طلب األمان وما شاكل ذلك، فإن تحقيــق هــذه الغايــات

90

موجــود لــدى جمهــرة النــاس. أمــا أن تســعى لتنهض أو إلنهاض شعبك أو تســعى لرفــع منزلتــك أو لرفــع منزلــة شعبك أو أمتك، فإنهــا غايــات يحتــاج تحقيقهــا إلى صــبر وإلى مالحقة جادة، وهــذا ليس في مقــدور كــل إنســان. فقد تبدأ الطريق، ولكن قد تقصر دون تحقيق الغاية لما ينالك من تعب ولفقدان الصبر. وقــد تبــدأ الســعي ولكن تبدؤه غير جاد وتسير به غير جاد، فتظل تسير ولكن لنــك التعب ولم تفقــد الصــبر. تحقق غايــة، مــع أنــه لم ينل ولكنــك غــير جــاد في الســير، وتحقيــق الغايــات البعيــدةيحتاج أول ما يحتاج إلى جدية ثم إلى الصبر والمالحقة.

ــات أي من ــبر من الجماع ــدر على الص ــراد أق واألفــوى الشعوب واألمم. ألن الرؤية عندهم أكثر وضوحا وأق من الجماعات، ألن تجمع الناس يضعف لــديهم التفكــير، ويضعف لديهم الرؤية، ولذلك كانت رؤيــة الواحــد أقــوى من رؤية االثنين، وكلما كبر العدد قلت الرؤية. ولــذلك ال يصح أن توضع للشعوب غايات بعيدة فــإنهم ال يســيرون لتحقيقهــا، وإن ســاروا، فــإنهم ال يســيرون بجديــة وال يبلغون الغاية. ومن هنا كان ال بد أن تكــون الغايــة الــتي توضع للشعوب غاية قريبة ممكنة التحقيق، ولو أدى إلى وضع غايات قريبة كمرحلة من المراحل، حتى إذا جــرى تحقيقها انطلقــوا إلى غايــة أخــرى وهكــذا. ألن الجماعــة أقرب من الفرد لرؤية الممكن وأقل احتماال للمصــاعب الكبيرة. فــالممكن عقال ال تســتطيع الشــعوب أن تجعلــه غاية، بل الممكن فعال هو الــذي يمكن أن تــراه وتســعى لتحقيقه. أمــا األفــراد فــإنهم بشــكل عــام قــادرون على رؤية أن الممكن عقال ممكن فعال، وقادرون على الرؤية

91

البعيدة، وهم أكثر صــبرا على المشــقات وأكــثر احتمــاالللمصاعب، وأقدر على السير في المرحلة البعيدة.

إال أن الغايـــات واألهـــداف ســـواء وضـــعت لألمم والشعوب أو لألفراد، فال يصح أن يكــون تحقيقهــا يحتــاجــر، وال إلى ــة البش ــوق طاق ــد ف ــال، وال إلى جه إلى أجي وسائل غير موجودة أو غير ممكنة اإليجــاد. بــل ال بــد أن تكون غاية يمكن للجيل الذي يعمل لتحقيقها أن يحققها، ويمكن بالجهــد العــادي لإلنســان أن يحققهــا، وأن تكــون وسائلها موجودة أو ممكنة اإليجاد. وذلك أن الغاية هدفــان ــه إذا ك ــعى إلي ــاعي، وال يس ــه نفس الس ــعى إلي يسما لديه أنه لن يحققه. وما دام يريد أن يســعى إليــه مسلــإذا لم فإنه يحتاج إلى الوسائل التي يحققه بواسطتها، ف توجد لديه الوسائل التي يسعى بها فإنه لن يســعى إليــه حتى لو تظاهر بالسعي، أو لو خـدع نفســه بأنـه يســعى. وهو يسعى بطاقته البشرية فإذا كانت طاقته البشرية الــف ــه ال يكل ــا، ألن ــه لن يســعى مطلق تكفي للســعي فإن اإلنســان فــوق طاقتــه، بــل ال يســتطيع أن يعمــل فــوق طاقته. ولذلك ال بد أن تكون الغايــات مهمــا بعــدت، من الممكن أن يحققهـــا نفس الســـاعي، بجهـــده العـــادي،

بالوسائل التي لديه.ــة من ــدد، والغايـ ــير يجب أن تحـ ــة من التفكـ فالغايـ العمل يجب أن تحدد، وأن تكــون غايــة مرئيــة للبصــر أو مرئية للبصــيرة. وأن تكــون ممكنــة التحقيــق عقال وفعال وإال فقدت كونها غاية. وإذا كــان األفــراد ال بــد أن يكــون لتفكيرهم وعملهم غاية، فــإن الشــعوب واألمم ال بــد أن تكون لديها غاية أو غايات. إال أن غاية الشعوب واألمم ال

92

يصح أن تكون بعيــدة بــل ال بــد أن تكــون قريبــة، وكلمــا كانت أقرب، وأكـثر تحقيقــا كلمـا كــانت أحســن وأقـربــحيح أن ــل. ص ــير والعم ــة للتفك ــثر إمكاني ــار، وأك لإلثم الشعوب واألمم ال يتصور أن تضع لنفسها غايات، وال أن ترســم بمجموعهــا أهــدافا. ولكن هــذه الشــعوب واألممــد فتكــون هــذه تشيع بينها أفكار وتتخذ آراء وتعتنق عقائ األفكــار هي أفكارهــا وهــذه اآلراء هي آراءهــا، وهــذه المعتقدات هي معتقــداتها. وكــذلك تطغى عليهــا غايــات إمــا من جــراء أفكــار وآراء ومعتقــدات، وإمــا من جــراء تجارب الحياة، وإما من جراء ما تكــون فيــه من حرمــان أو إشـــباع. فتتكـــون لـــديها غايـــات: إمـــا القضـــاء علىــون الحرمان، وإما تحسين اإلشباع. فالشعوب واألمم تكــتطيع أن ــا ال تس ــانت هي بمجموعه ــات، وإن ك ــا غاي لهــوع الممكن ترسم غايات. إال أن غاياتها كلهــا هي من الن التحقيــق فعال، وال تكــون من النــوع الممكن عقال، وغــير

مشاهد بالفعل أنه ممكن فعال.ــق بين ــو التفري ــه ه ــا يجب أن يلفت النظــر إلي ومم الغاية والمثل األعلى. فالمثل األعلى هــو غايــة الغايــات، وال يشترط فيه إال الســعي لنوالــه وتحقيقــه فال يشــترط فيه أن يكون ممكن التحقيق فعال، ولكن يشترط فيه أنــير ــو غ ــل األعلى ه ــق عقال. فالمث ــون ممكن التحقي يكــه وبين الغاية، وإن كان هو نفسه غاية. إال أن الفــرق بينــام ــل القي ــا قب ــد من معرفته ــة ال ب ــو أن الغاي ــة ه الغاي بالعمــل، ودوام معرفتهــا أثنــاء القيــام بالعمــل والســعي الحثيث لتحقيقها، والــدأب حــتى تحقــق فعال. أمــا المثــل األعلى فإنه يالحظ مجــرد مالحظــة أثنــاء التفكــير وأثنــاء

93

األعمال وتكون جميع األفكار واألعمال من أجل تحقيقه. فمثال رضوان اللــه هــو المثــل األعلى للمســلمين ولكــل مسلم. وقد يتخــذ بعضــهم دخــول الجنــة مثال أعلى وقــد يتخذ بعضهم اتقــاء دخــول النــار مثال أعلى، ولكن هــذين األمــرين ومــا شــاكلهما وإن كــان يصــح أن تكــون غايــةــل األعلى، فهي ــا المث ــق عليه ــا ال يطل ــات، ولكنه الغاي غايات لغايــات قبلهــا، ولكن توجــد غايــة بعــدها. والمثــل األعلى وإن كان غاية الغايات ولكنه ال تكون غايــة بعــده. وغاية الغايات التي ال غاية بعدها، هي رضوان الله. ومن أجل ذلك كان المثل األعلى للمســلم هــو نــوال رضــوان الله. ولهذا قيل في حق بعض األتقياء األبرار " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصــه " ألن غايتــه من عــدمــية، العصيان ليست خوف الله من أن يعذبه على المعص بل غايته أن ينال رضا الله. فهو لو لم يوجد لديه الخوف من الله فإنه ال يقــدم على المعصــية. ألن عــدم إقدامــه على المعصية هو لطلب رضوان الله ال خوفا من عذابه. فالمثل األعلى عند المســلمين هــو رضــوان اللــه، وليس

دخول الجنة وال اتقاء دخول النار. فالمثل األعلى وإن كان غاية، باعتباره غاية الغايــات، ولكنه غير الغاية والهدف فما يقال في شــأن التفكــير أو العمل من أنــه ال بــد أن تحــدد الغايــة منــه، ال يقصــد بــه المثل األعلى وإنما يقصد به الغاية التي تحقــق فعال وإن كان وراءها غاية أخرى أو غايات. فالغاية يجب أن تكــون محددة وأن تكون ممكنــة التحقيــق على يــد من يســعىــائلها ــد األجيــال اآلتيــة، وأن تكــون وس إليهــا ال على ي متيســرة أو يمكن أن تيســر إمكانــا عمليــا واقعيــا. فهي

94

ليست المثل األعلى بل هي الهدف الذي يقصد تحقيقه. ولــذلك يتحتم أن يكــون التفكــير بالغايــة تفكــيرا واقعيــا عمليا. أي أن تكون ممكنة التحقيق على يد من يســعون

إليها. وهنــا قــد يــرد ســؤال وهــو أن عمــر األمم ال يقــاس بالجيل الواحد بل باألجيال وأن التخطيط لمستقبل األمة يجب أن يكون بعيد المــدى بحيث تحققــه األجيــال اآلتيــةــذين ــا نفس ال ــد أن يحققه ــة ال ب ــال إن الغاي ــف يق فكي

يسعون إليها؟ــال. والجواب على ذلك أن عمر األمم ال يقاس باألجي وال بمئات الســنين كمــا يتــوهم، بــل هــو يقــاس بــالعقود فالعقد الواحد من الزمن تتحــول فيــه األمــة وتنتقــل من حال إلى حال، والفكــرة العمليــة يمكن أن تعطى لألمــة وتعلق بها في جيل واحد مهما وجــدت من مقاومــة على شرط جدية التفكير وجدية العمل. ولذلك ال تحتاج األمــة إلى أجيال وال إلى مئات الســنين، بـل تحتــاج كــل فكـرة وكل عمل ألن يثمر في األمــة إلى مـا ال يقــل عن عقــد، فإن في العقـد الواحـد يجـري تحويـل األمـة، وإذا كـانت خاضعة لعدوها فإنها تحتاج إلى أكثر من عقــد، ولكنهــا ال تحتاج ألكثر من ثالثة عقود مع المقاومة. ولذلك ال بد أنــد ــة أو العمــل أو الفكــرة في األمــة على ي تثمــر الحرك الناس الــذين يســعون إلى تحقيــق هــذه الفكــرة أو هــذا العمل ال على يد األجيال التي تأتي بعدهم. فالغاية يجب أن تكون من النــوع الــذي يحققــه الســاعون إليهــا، هــذا شـــرط التفكـــير في الغايـــة وال تكـــون غايـــة إذا كـــان

الساعون إليها ال يحققونها بأنفسهم.

95

ــة أما ما يقال عن التخطيط لألمة وجعل األجيال اآلتي تمشي لتحقيــق هــذه المخططــات كمــا تفعــل الشــعوب واألمم الحية. فــإن هــذا النــوع من التخطيــط ليس غايــة حتى وال أفكارا محددة، بل هو خطــوط عريضــة وأفكــارــة، ــا غاي ــرض ال على أنه ــة. ترســم على ســبيل الف عام ولذلك ال يعتبر مثل هذا غاية، وإنمــا يعتــبر أفكــارا عامــة بفرض وجودها. ولكن الغاية هي فقط األمر الذي يحققه الساعون إليه. هذه هي الغاية وهذا هو التفكــير بالغايــة. وما عدا ذلك فإنه مجرد فروض ونظريات وليس تفكــيرا

بالغايات. والتفكــير إمــا أن يكــون ســطحيا وإمــا عميقــا وإمــا مستنيرا. فــالتفكير الســطحي هــو تفكــير عامــة النــاس. والتفكير العميق يكون عند العلماء أما التفكير المستنير فغالبا ما يكون تفكــير القــادة والمســتنيرين من العلمــاءــع فقــط وعامة الناس. فالتفكير السطحي هو نقل الواق إلى الــــدماغ دون البحث في ســــواه ودون محاولــــة إحساس ما يتصل به. وربط هذا اإلحساس بالمعلومــات المتعلقــة بــه دون محاولــة البحث عن معلومــات أخــرى تتعلق به. ثم الخروج بــالحكم الســطحي وهــذا مــا يغلب على الجماعــات ومــا يغلب على منخفضــي الفكــر، ومــا

يغلب على غير المتعلمين وغير المثقفين من األذكياء.ــه ال والتفكير السطحي هو آفة الشــعوب واألمم، فإن يمكنها من النهضة بل ال يمكنها من العيش الرغيــد، وإنــير ــنيء. وســبب التفك ــا من العيش اله ــد يمكنه ــان ق ك السطحي هو ضعف اإلحساس أو ضــعف المعلومــات أو ضعف خاصية الربط الموجودة في دماغ اإلنســان. وهــو

96

ليس التفكير الطبيعي عند اإلنسان، وإن كان هو التفكير البــدائي. فبــني اإلنســان يختلفــون في قــوة اإلحســاس وضــعفه، ويختلفــون في قــوة خاصــية الربــط وضــعفها، ويختلفون في كمية أو نوع المعلومات التي لديهم سواء أكانت معلومات أخذت بالتلقي أو بالمطالعــة، أو أخــذت من تجارب الحياة. فإن اختالفها يعني أن التفكــير يكــون بحسبها. واألصل في جمهرة الناس أن يكونوا أقوياء في الــدماغ وخاصــية الربــط، إال القليــل وهم الــذين خلقــواــرة ــل في جمه ــعف عليهم. واألص ــرأ الض ــعفاء أو ط ضــانوا الناس أن تتجدد لديهم المعلومات يوميا، حتى ولو ك أمــيين، اللهم إال الشــواذ وهم الــذين ال يلفت نظــرهمــه من ــه أو يطالعون ــا يتلقون ــا لم شــيء وال يقيمــون وزن ــا المعلومات. ولذلك فإن التفكير الســطحي ليس طبيعي بل هو شاذ. إال أن تعود األفـراد على التفكــير الســطحي ورضــاهم بنتائجــه، وعــدم حــاجتهم لألمــور األعلى ممــا لديهم يجعل التفكــير الســطحي عــادة فيســتمرون علىــور ذوقهم ــتمرئونه، ويتبل ــير ويس ــط من التفك ــذا النم ه عليه. أما الجماعات فإنه لنقصان قــدرتهم على التفكــير من جـــراء كـــونهم جماعـــة فإنـــه يغلب عليهم التفكـــيرــرين ــة من المفكـ ــانت جماعـ ــو كـ ــتى لـ ــطحي حـ السـ المبدعين. لذلك كان التفكير الســطحي هــو الغــالب في الحيــاة، ولــوال أن أفــرادا من الشــعب أو األمــة يوهبــون قدرة خارقة من اإلحساس والربط فإنه ال يتصور وجــود

نهضة وال يتصور تقدم مادي في الحياة. والتفكير السطحي ليس له عالج في الجماعــات، إال أنه يمكن رفــع مســتوى الواقــع والوقــائع، ويمكن تزويــد

97

ــيرة، ــرة أي كث الجماعــات بأفكــار ســامية ومعلومــات ث فيمكن أن يرفع مستوى تفكيرهم، ولكنه يظل على كــلــه يمكن أن حال سطحيا وإن كان مستواه عاليا. يعني أن يتصــرف الشــعب واألمــة، تصــرفات التفكــير المســتنير، ولكن تفكيرهم على كل حــال يظــل تفكــيرا ســطحيا وال تستطيع الجماعات أن تفكر التفكــير العميــق أو التفكــير المســتنير مهمــا بلغت من االرتفــاع والــرقي. ألنهــا ال تستطيع بوصفها جماعة أن تتعمق في البحث، أو يكــون لديها فكر مستنير، فألجل رفع مستوى تفكيرها ال يحاول معالجــة تفكــير الجماعــة، وإنمــا يحــاول معالجــة الواقــعــا ويمكن ــة عليه ــاس الجماع ــع إحس ــتي يق ــائع ال والوق معالجة األفكار والمعلومــات الــتي توضــع فيهــا. فــترتفع الســـطحية، ولكنهـــا ال تـــزول فـــيرتفع بـــذلك مســـتوى

تصرفاتها. أما األفراد، فإنه يمكن إزالة السطحية أو تخفيفها أو جعلها نادرة لديهم. وذلك أوال بإزالـة العــادة في التفكـير الموجـــودة لـــديهم. وذلـــك بتعليمهم أو تثقيفهم ولفت نظرهم إلى ســخافة تفكــيرهم وإلى ســطحية أفكــارهم، وثانيا بإكثار التجارب لديهم أو أمامهم ويجعلهم يعيشــون في وقائع كثيرة ويحسون بواقع متعدد ومتجــدد ومتغــير، وثالثــا بجعلهم يعيشــون مــع الحيــاة ويســايرون الحيــاة. وبهذا يتركون السطحية أو تتركهم السطحية ويصــبحون غير سطحيين. وهؤالء األفراد كلما كثروا في األمة، كلما كان األخذ بيدها نحـو النهـوض أسـهل وأقـرب للتحقيـق. وهــؤالء األفــراد وإن كــانوا يعيشــون في األمــة ويتلقــونــائع ــالواقع والوقـ ــون بـ ــودة ويحسـ ــات الموجـ المعلومـ

98

ــوع ــانهم، وال من ن الموجــودة وال يســتطيعون ســبق زم يخـــالف نـــوع أمتهم. ولكنهم يســـتطيعون ســـبق أمتهم ويســـتطيعون نقلهـــا من وضـــع إلى وضـــع آخـــر. ألنهم يتصورون وقائع الحياة الراقية تصــورا واقعيــا وذلــك عن طريــق تقبــل األفكــار الصــادقة وقبــول اآلراء الصــحيحة واعتنــاق األفكــار القطعيــة، والتميــيز بين مختلــف اآلراء وإبصار واقع اآلراء. فيوجد لديهم اإلحساس الفكــري أي اإلحساس الناجم عن معرفة وإدراك، ومنطق اإلحساس أي الفهم النــاتج عن اإلحســاس مجــرد اإلحســاس. فهم وإن كانوا يملكون حواس كما يملك سائر الناس ولديهم دماغ كما لدى ســائر النــاس، ولكن قــوة خاصــية الربــط الموجودة في دمــاغهم يتفوقــون بهــا عن ســائر النــاس، وكــونهم يعنــون أنفســهم بربــط اإلحســاس بالمعلومــات السابقة ربطا صــحيحا، يكونــون أكــثر إدراكــا لألمــور أي يكون تفكيرهم تفكيرا متميزا عن غيرهم. فيتكون لديهم اإلحساس الفكري وبه يعلــو منطــق اإلحســاس. ولــذلك فإن األفراد في ترك السطحية هم أقــدر من الجماعــات وإن كــان ال قيمــة لقــدرتهم إال إذا أخــذتها الجماعــات

وتبنتها. هذا هو عالج السطحية وهــو معالجــة األفــراد وجعــل األمة تأخذ ما وصــلوا إليــه من فكــر وتتبنــاه، إلى جــانب تجديد الوقــائع في األمــة ووضــع األفكــار الســامية بينهــا وفي متناول يدها. وأن يجري ذلــك في وقت واحــد فــإنــه إذا لم ــترك الســطحية في األمــة، ال قيمــة ل العمــل لــه إذا لم يصحبه معالجة األفراد، وعالج األفراد ال قيمــة ل يكن ســـائرا مـــع العمـــل في األمـــة لـــترك الســـطحية

99

الموجودة لـديها. ألن األفـراد جـزء من األمـة غـير قابـل للتجزئة واالنفصال. واألمة مكونــة من مجموعــة النــاســعب ــة في العيش، والش ــة معين ــربطهم طريق ــذين ت ال مكــون من مجموعــة النــاس الــذين من أصــل واحــد يعيشون معا. فاألفراد هم من جملة هؤالء النــاس سـواء في الشعب أو األمة. فال يمكن انفصالهم عنها، وال يمكنــد عزلها عنهم. لذلك ال بد أن يسير ترك الســطحية وال ب من العمل في األفراد واألمة في وقت واحد حتى يمكن

ترك السطحية من الجميع. أما الفكر العميق فهو التعمق في التفكير أي التعمقــالواقع والتعمــق في المعلومــات الــتي في اإلحســاس ب تربــط بهــذا اإلحســاس إلدراك الواقــع. فهــو ال يكتفيــط ــة لرب بمجــرد اإلحســاس وبمجــرد المعلومــات األولي اإلحســاس، كمــا هي الحــال في التفكــير الســطحي بــل يعاود اإلحساس بالواقع ويحاول أن يحس فيه بأكثر ممــا أحس إما عن طريق التجربــة، وإمــا بإعــادة اإلحســاس، ويعــاود البحث عن معلومــات أخــرى مــع المعلومــات األولية، ويعاود ربط المعلومات بالواقع أكــثر ممــا جــرى ربطه، إما بالمالحظات وتكرارها وإما بإعادة الربط مرة أخرى. فيخرج من هذا النوع من اإلحســاس وهــذا النــوع من الربط، أو هذا النوع من المعلومــات بأفكــار عميقــة ســواء أكــانت حقــائق أو لم تكن حقــائق وبتكــرار ذلــك وتعوده يوجد التفكير العميق. فالتفكير العميق هــو عــدم االكتفاء باإلحســاس األولي وعــدم االكتفــاء بالمعلومــات األولية وعدم االكتفاء بالربط األولي. فهو الخطوة الثانية بعـــد التفكـــير الســـطحي. وهـــذا هـــو تفكـــير العلمـــاء

100

ــير ــون تفكـ ــرورة ألن يكـ ــان ال ضـ ــرين وإن كـ والمفكـ المتعلمين. فـــالتفكير العميـــق هـــو التعمـــق في الحس

والمعلومات والربط. أمــا التفكــير المســتنير فهــو التفكــير العميــق نفســه مضــافا إليــه التفكــير بمــا حــول الواقــع ومــا يتعلــق بــه للوصول إلى النتائج الصادقة. أي أن التفكير العميق هــو التعمــق بــالفكر نفســه ولكن التفكــير المســتنير هــو أن يكون إلى جانب التعمق بالفكر، والتفكير بما حولــه ومــا يتعلــق بــه، من أجــل غايــة مقصــودة وهي الوصــول إلىــير ــو تفك النتائج الصادقة. ولذلك فإن كل فكر مستنير ه عميق، وال يتأتى أن يأتي التفكــير المســتنير من التفكــير السطحي. إال أنه ليس كل تفكير عميق تفكيرا مستنيرا. فمثال عــالم الــذرة حين يبحث في شــطر الــذرة وعــالمــه حين ــركيب األشــياء والفقي ــاء حين يبحث في ت الكيمي يبحث في استنباط األحكام ووضــع القــوانين. فــإنهم هم وأمثــالهم حين يبحثــون األشــياء واألمــور، إنمــا يبحثونهــاــاهرة. ــائج الب بعمق ولوال العمق لما توصلوا إلى تلك النت ولكنهم ليســـوا مفكـــرين تفكـــيرا مســـتنيرا، وال يعتـــبرــذلك ال تعجب حين تجــد ــيرا مســتنيرا. ول ــيرهم تفك تفك عالم الذرة يصلي للخشــبة أي للصــليب. مــع أن أبســط اســتنارة تــرى أن هــذه الخشــبة ال تنفــع وال تضــر وأنهــا ليست مما يعبــد، وال تعجب حين تجــد القــانوني الضــليع يصدق بوجود القديسين ويســلم نفســه لرجــل مثلــه منــانوني ــذرة والق ــالم ال ــه. ألن ع ــه ذنوب ــر ل أجــل أن يغف وأمثالهما يفكرون تفكيرا عميقا وليس تفكــيرا مســتنيرا، ولو كان تفكــيرهم مســتنيرا لمــا وصــلوا للخشــبة، ولمــا

101

صدقوا بوجود القديسين، ولما طلبوا الغفران من رجــال أمثالهم. صحيح أن المفكر تفكيرا عميقا إنما هــو عميــق فيمــا فكــر فيــه وليس بســواه، فقــد يكــون عميقــا عنــدــه يكــون ــذرة أو وضــع القــانون ولكن تفكــيره بشــطر ال سخيفا في غيره إذا فكر فيه. هــذا صــحيح. ولكن اعتيــاد المفكر على التفكير العميق يجعله يتعمــق في أكــثر مــا يفكر، وال سيما األمــور الــتي تتعلــق بالعقــدة الكــبرى أوــتنارة في وجهة النظر في الحياة. ولكن عدم وجود االس تفكــيره يجعلــه يعتــاد التفكــير العميــق، ويعتــاد التفكــير السطحي وحتى التفكير السخيف. ولــذلك فــإن التفكــير العميق وحده ال يكفي إلنهــاض اإلنســان ورفــع مســتواه الفكري، بل ال بــد حــتى يحصــل ذلــك من االســتنارة في

الفكر حتى يوجد االرتفاع في الفكر. واالستنارة وإن كانت ليســت ضــرورية في الوصــولــانون إلى نتائج صحيحة في الفكر، كالعلم التجريبي والق والطب ونحو ذلك، ولكنها ضرورية لرفع مستوى الفكــر، وجعل التفكير ينتج مفكرين. ولــذلك فــإن األمــة ال يمكن أن تنهض من جراء وجود العلماء في العلم التجريبي والــاء ــانونيين، وال من وجــود األطب ــاء والق من وجــود الفقه والمهندسين؛ ال تنهض من جــراء وجــود هــؤالء وأمثــالهم وإنما تنهض إذا وجـد لـديها اسـتنارة في التفكـير، أي إذا

وجد لديها المفكرون المستنيرون. واالستنارة في التفكــير ال تقتضــي وجــود التعليم، أيــوا ــ ــرورة ألن يكون ــ ــتنيرين ال ض ــ ــرين المس ــ أن المفكــير، متعلمين، فاألعرابي الذي قال: البعرة تدل على البع واألثر يدل على المسير، هــو مفكــر مســتنير، والخطيب

102

الذي قال: إن الحــذر ال ينجي من القــدر وإن الصــبر من أسباب الظفر؛ هو مفكــر مســتنير، ولكن الشــاعر الــذي

قال:قالن فكأنني أفطرتمات الخليفة أيها الث

في رمضان ليس مفكرا مستنيرا ولو كان فقيها متعلما. والحكيم ــرا ــه، ليس مفك ــة الل ــة مخاف ــال: رأس الحكم ــذي ق ال مســتنيرا، فــإن رأس الحكمــة إدراك وجــود اللــه، وليس مخافــة اللــه. فــالتفكير المســتنير ال يحتــاج إلى علم وال يحتاج إلى حكمة، وإنما يحتاج ألن يفكر بعمق وأن يجول فيهــا حــول الشــيء ومــا يتعلــق بــه بقصــد الوصــول إلىــا ال يقــرأ وال يكتب، النتائج الصادقة، ولذلك قد يكون أمي كمــا قــد يكــون متعلمــا أو عالمــا. والمفكــر المســتنير ال يكون فكرا مســتنيرا، إال إذا وجــدت فيــه االســتنارة عنــدــر ــد مفك ــتنير، والقائ ــر مس ــي مفك ــير. فالسياس التفك مســتنير، ولكن كال منهمــا يحتــاج لوجــود االســتنارة عنــدــتنيرا. التفكير في كل شيء حتى يكون ذلك التفكير مســاء ــادة وعظمـ ــاء القـ ــا عظمـ ــذلك ال نعجب إذا رأينـ ولـ السياسيين يصلون للخشبة ويطلبون الغفران من رجال هم أقــل منهم اســتنارة، فــإن تفكــيرهم هــذا ليس فيــهــد أو عمق وال استنارة، بل هو من طريق العادة أو التقلي من طريــق الــدجل والنفــاق. وكــل هــذا ليس عمقــا وال استنارة ألن المفكر المستنير، ال يتصل بالدجل والنفاق،

وال تتحكم فيه العادات والتقاليد.

103

والمفكر سواء أكان سطحيا أو عميقا أو مســتنيرا، ال بـــد أن يكـــون جـــادا في تفكـــيره. صـــحيح أن المفكـــرــه السطحي ال تساعد سطحية تفكيره على الجدية، ولكن في بعـــده عن العبث، وفي بعـــده عن العــادة يمكن أن يكون جادا. والجدية ال تحتاج إلى عمق وإن كــان العمــق يدفع إليها، وال تحتاج إلى استنارة، وإن كــانت االســتنارة تقتضيها ألن الجدية هي وجود القصد، والســعي لتحقيــق هذا القصد، إلى جانب حسن التصور لواقع ما يفكــر بــه.ــه، ــو التقائ ــا ه ــه وإنم ــا في ــالخطر ليس بحث ــالتفكير ب ف والتفكير باألكل ليس بحثا فيه، وإنما هو للحصول عليــه. والتفكير باللعب ليس بحثا في اللعب، وإنما هو من أجل أن يلعب، والتفكير بالنزهة ليس بحثــا في النزهــة وإنمــا هو من أجل أن يتمتع بالنزهة، والتفكير بالسير إلى غــير هدف ليس تفكيرا بهذا السير، وإنما هــو من أجــل طــرد السأم والملـل، والتفكــير بوضـع القـانون ليس بحثــا في القانون نفسه بل هو من أجل وضع هذا القانون. وهكــذا كل تفكير مهما كان نوعه، هو تفكــير بالشــيء أو تفكــير بالعمل بذلك الشيء. فالتفكير بالشــيء ال بــد أن يكــون من أجل معرفتــه والتفكــير بالعمــل بــذلك الشــيء إنمــا يكون من أجل العمل به وفي كلتــا الحــالتين ال يصــح أن يدخل العبث في أي واحد منهما وال تتحكم عادة التفكير بالشيء أو بالعمل به، في ذلك التفكير، فإذا أبعد العبث وأبعدت العادة فإنه يوجد التفكير الجــاد، ألنــه حينئــذ من السهل إن لم يكن من المحتم أن يوجد القصد والســعي لتحقيق هذا القصد ومن السهل بل من المحتم أن يوجد

التصور لواقع ما يقصده، أي لواقع ما يفكر فيه.

104

ــير ــون في التفك ــة ممكن أن تك ــإن الجدي ــه ف وعليــير ــق والتفك ــير العمي ــد في التفك ــا توج ــطحي، كم الس المستنير، وإن كان األصل في التفكير العميق والتفكــير المستنير أن تحصــل فيــه الجديــة. إال أن الجديــة ليســتــال من ــاس خ ــير الن ــثر تفك ــل أن أك ــير، ب ــة للتفك الزم الجدية. فهم يقومون بأعمالهم عن طريق العادة وبحكمــارز. االســتمرار والعبث في تفكــيرهم موجــود بشــكل ب ولذلك فإن الجدية ال بــد أن تصــطنع اصــطناعا، والقصــد أساس لها، واالصطناع هو نفس القصــد، ومن هنــا يجب أن يقــال إن الجديــة غــير طبيعيــة حــتى لــو لوحــظ على

بعض الناس أنه جدي طبيعيا. إال أن الجديــة الــتي نعــني ليس مطلــق الجديــة، بــل الجدية التي تكون في مستوى ما يفكــر بــه. فــإن كــانتــر ــذي يفك ــخص ال ــة. فالش ــبر جدي ــتواه ال تعت دون مس بالزواج ثم ال يعنى بما يحقــق الــزواج ال يكــون جــادا فيــق تفكيره بالزواج، والشخص الذي يفكر بالتجارة ثم ينف كل ما يربحه من البيع ليس جــادا في تفكــيره بالتجــارة، والشخص الذي يفكــر بــأن يكــون قاضــيا ثم ال يعمــل إال بالسعي ألن يوظف في منصب القضــاء ليس جــادا بــأنــخص يكون قاضيا، وإنما هو جاد بأن يكون موظفا، والش الذي يفكر بإطعام عياله ثم يتلهى باللعب والــدوران في

األسواق ليس جادا بالتفكير بإطعام عياله، وهكذا. فإن الجدية تقضي بأن يعمل لتحقيق ما يقصــد إليــه، وأن يكــون عملــه في مســتوى مــا يقصــد إليــه. فــإذا لم يعمل لتحقيق ما يقصد إليه ولو الوصول إلى فكــر معين أو يعمل أعماال هي دون ما يقصد إليــه، فإنــه ليس جــادا

105

في تفكيره. فقول المــرء إنــه جــاد في تفكــيره ال يكفي ألن يكون جادا، واصطناعه أحواال أو مظــاهر أو حركــاتــادا، وال يكفي فكرية كانت أو مادية ال يكفي ألن يكون ج للداللة على الجدية بل ال بــد من القيــام بأعمــال ماديــة، وأن تكون هذه األعمال في مســتوى مــا يفكــر بــه حــتى يكون جادا، أو حــتى يســتدل على أنــه جــاد في تفكــيره. فالقيام باألعمال الماديــة، وأن تكــون هــذه األعمــال في مستوى ما يفكر به أمر ضروري حتى توجــد الجديــة في التفكــير، أو حــتى يســتدل على وجــود هــذه الجديــة فيالتفكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير. واألمم والشعوب المنحطة، واألفراد الكســالى أو الــذينــاء أو الخــوف أو يتجنبون األخطار أو الذين يتملكهم الحي االعتماد على الغير، فإن هؤالء جميعــا غــير جــادين فيمــا يفكــرون بــه. ألن االنحطــاط يجعــل المــرء يســتهوي األســهل، فال يعــني نفســه باألشــق األصــعب، والكســل يتنافى مع الجدية، واتقــاء األخطــار يصــرف عن الجديــة، والحياء والخوف واالعتماد على الغير يحول دون الجدية. ولذلك ال بد من رفع الفكر، والقضاء على الكســل وحب اقتحام األخطار، والتفريــق بين الحيــاء وبين مــا يجب أن يســتحيى منــه، والشــجاعة وجعــل االعتمــاد على النفســراد ــة في األف ــد الجدي ــتى توج ــجايا، ح ــجية من الس س والشعوب واألمم. ألن الجدية ال توجد بشكل عفــوي بــل

ال بد من اصطناع إيجادها.ــه ليس أما ضرورة وجود الجدية في التفكير، فهــو أن القصد من التفكير هو إيجاد الفكر فحسب، بــل يجب أن يكون التفكير من أجــل االنتفــاع بهــذا الفكــر أي انتفــاع.

106

وبالتالي ال بد أن يكون التفكير من أجل العمل. فاألفكار التي ينتجها العلماء والمفكــرون والمعــارف الــتي يجــري التوصل إليها، ليست للمتعة فقط وال للتمتع واللذة بهذه األفكار، وإنما هي من أجل الحياة ومن أجــل العمــل في هــذه الحيــاة. ولــذلك يخطئ من يقــول: إن العلم يطلب لذات العلم، ولذلك ال قيمة للفلسفة اليونانية ألنها مجرد أفكار يتلذذ بها. وال قيمــة ألي علم ال يمكن االنتفــاع بــه. ألن العلم ال يطلب للتلـــذذ بـــه، وإنمـــا تطلب المعرفـــة للعمل بها في هذه الحياة. ولــذلك ال نســتطيع أن نقــولــانوا ــاء ك ــدهم من العلم ــان ومن قل ــفة اليون إن الفالس جادين في تفكــيرهم، وال نســتطيع أن نقــول إن العلمــاء المتأخرين عنــد المســلمين الــذين جعلــوا علــوم البالغــة كالفلســفة، كحواشــي الســعد في علــوم البالغــة، كــانوا جادين في تفكيرهم، ألن هذا التفكير ال يستفاد منــه في الحيــاة بشــيء مــا، وليس فيــه إال االســتمتاع بالدراســة والبحث. صحيح أن الشعراء واألدبــاء ال ينتفــع بتفكــيرهم في الحياة، ولكن ال ينتفع بــه من حيث القيــام باألعمــال وإن كان قد ينتفع به، ولكن إنتــاجهم هــو نفســه منفعــة، فــإن قــراءة القصــيدة وقــراءة النصــوص األدبيــة كــالنثرــوا ــد عمل ــد انتعاشــا، فهم ق ــذة وتوج ــد ل ــه، توج بأنواع النصوص وإن كانت هي نفســها نتيجــة تفكــير، ولــذلك ال يصــح أن يقــال إنهم ليســوا جــادين. بــل منهم الجــادون المجيدون وإن كان فيهم من ليس جادا وال مجيدا. وهــذا بخالف الفلسفة فإن التفكير بها إنمــا جــاء للوصــول إلى الحقـــائق، ومـــا ورد فيهـــا ليس حقـــائق وال يمت إلى الحقائق بصلة. وبخالف علماء البالغة الذين ألفوهــا على طراز الفلسفة فإن تفكيرهم إنمــا كــان لمعرفــة البالغــة

107

في القول وليكون الناس بلغاء في القول، وما ورد فيهــاــلة. ولم يكن ــة بصـ ــة وال يمت إلى البالغـ ــد بالغـ ال يوجـ إنتاجهم سوى مدعاة للبحث ولــذة البحث دون الوصــول إلى الغايــة الــتي أنتجــوا من أجلهــا. ألنهم لم ينتجــوا منــوا أجل لذة البحث بل أنتجوا لشيء آخر، ولذلك لم يكون جادين في التفكــير، ال ألنهم لم يصــلوا إلى مــا يريــدون، بــل ألن طبيعــة مــا أنتجــوه يســتحيل أن يوصــل إلى مــا يريدون. ولو كــانوا جــادين في التفكــير لمــا أنتجــوا هــذه الفلسفة ولما أنتجــوا هــذا النــوع من علــوم البالغــة. ألنــل إلى الجدية تقتضي القصد، والقصد من شأنه أن يوص الغاية فهم لم يقصدوا ســوى البحث مجــرد البحث. فهم

بالتأكيد غير جادين في التفكير. والجدية في التفكــير ال تســتلزم قصــر المســافة بين الفكر والعمل وال تقتضي طولهــا. ألن العمــل هــو نتيجــة للفكر، فقد يفكر المرء بالذهاب إلى القمــر وقــد تطــولــد يفكــر ــير وبين الوصــول. وق المســافة بين هــذا التفك باألكــل وقــد تطــول المســافة بين التفكــير وبين القيــام باألكل. وقد يفكر بإنهاض أمته وقد تقصــر المســافة بين تفكــيره وبين وجــود النهضــة. فالمســألة ليســت بطــول المسافة أو قصرها، ألن المسافة بين التفكــير والعمــل، ال ضــرورة ألن تكــون قصــيرة أو طويلــة، بــل قــد تكــون قصيرة وقد تكون طويلة. بل المهم هــو أن يوجــد عمــل من جراء التفكير، سواء أوجده نفس المفكــر أو أوجــده ســواه. فــالتفكير يجب أن ينتج عمال ســواء أكــان كالمــا كالشعراء واألدبــاء أو كــان أعمــاال كالعلمــاء في العلــومــاء ــة وعلم ــاء السياس ــا كعلم ــان خطط ــة، أو ك التجريبي

108

الحرب. أو كان فعال ماديا كالحرب واألكل والتعليم وغيرذلك من األفعال.

وعليه فإن التفكير. حتى ينتج النتيجة التي فكــر بهــا، ال بــد أن يكــون جــديا ســواء أنتج بالفعــل أم أخفــق في اإلنتاج. فالجدية أمر ضروري في التفكير. وبدون الجديةــير يكون التفكير عبثا في عبث أو لهوا ولعبا، أو رتيبا يســير على وتيرة واحدة بحكم العادة وبحكم التقليد. والتفكــتي الرتيب يستمرئ الحياة التي عليها المفكر والحياة ال عليها الناس، ويبعد عن األذهان فكــرة التغيــير والتفكــير

بالتغيير. والتفكير بــالتغيير ضــروري للحيــاة ألن ركــود الحيــاة واالستسالم لألقدار هــو من أخطــر اآلفــات الــتي تجعــل الشــعوب واألمم تنقــرض وتنــدثر مــع األحــداث واأليــام.ــير. ــواع التفك ــالتغيير من أهم أن ــير ب ــان التفك ــذلك ك ولــاملون وال يقبلـــه ــيغه الخـ ــير بـــالتغيير ال يستسـ والتفكـ الكسالى، ألن التغــير ثمنــه باهــظ. وألن من تتحكم فيهم العــادات يــرون في التفكــير بــالتغيير ضــررا عليهم ونقال لهم من حـــال إلى حـــال، ولـــذلك يحاربـــه المنحطـــون والكسالى، ويقف في وجهــه من يســمون بالمحــافظين، ومن يتحكمــون في رقــاب العبــاد وأرزاقهم. لــذلك كــان التفكير بالتغيير خطرا على صــاحبه، وكــان من أشــد مــا

يحارب حربا ال هوادة فيها، بين جميع أنواع التفكير. والتفكير بالتغيير، سواء أكان تغيــيرا لنفــوس األفــرادــاع ــيرا ألوضـ ــات أو تغيـ ــيرا للمجتمعـ ــالهم أو تغيـ أو حـ الشعوب واألمم أو غير ذلك مما يحتاج إلى تغيــير، يجب

109

أن يبــــدأ باألســــاس الــــذي يعيش عليــــه اإلنســــان وبالمجتمعات التي ال أســاس لهــا أو تقــوم على أســاس خاطئ، أو األوضاع التي تسير على طريق غير مستقيم. هذا األســاس الــذي تقــوم عليــه الحيــاة هــو الــذي يرفــع الحياة أو يخفضها، وهو الذي يســعد اإلنســان أو يشــقيه، وهو الذي يوجد وجهة النظر في الحيــاة وبحســب وجهــة

النظر هذه يخوض اإلنسان معترك الحياة.ــة فأوال ينظر إلى هذا األساس، فإن كان عقيدة عقلي تتجاوب مع فطرة اإلنسان فإنه حينئذ ال يحتاج إلى تغييرــان ــر وال في ذهن أي إنسـ ــرأ على قلب أي بشـ وال يطـ فكرة التغيير في هذا األساس، ألنــه هــو األســاس الــذي يجب أن تقوم عليه الحياة. ألن التغيير إنما يوجد حيث الــتقيمة، تكون األشياء صحيحة، وحيث ال تكون األمور مســة وحيث يكون الخطأ ماثال للعقل، أو بارزا لمشاعر طاق اإلنسان الحيوية. فإذا ما كان العقل موقنا بشــكل جــازم بصحة الشيء واستقامة األمــر وكــانت مشــاعر الطاقــة الحيوية مشبعة ومرتاحة فإن فكرة التغيــير تنعــدم كليــا. ولذلك فإنــه ال يتــأتى التفكــير بــالتغيير، إذا كــان أســاس الحياة عقيدة عقلية تتجاوب مع فطرة اإلنســان. أمــا إذا كان األسـاس الـذي يعيش عليـه اإلنســان، ويقـوم عليــه المجتمع وتسير بحســبه األوضــاع، غــير موجــود أصــال أو موجودا بشكل خاطئ، فإنه من العبث أن يجري التفكير بــالتغيير ألي شــيء قبــل التغيــير في األســاس، أي قبــل التغيير في العقيــدة الــتي يعتقــدها النــاس. ولــذلك فــإن المسلمين وقد نعموا بالعقيدة العقلية التي تتجــاوب مــع فطرة اإلنسان، كان واجبــا عليهم أن يحــدثوا التغــير في

110

الناس الذين ال عقائد لهم، أو لهم عقائــد فاســدة يمجهــا العقــل وال تتجــاوب مــع فطــرة اإلنســان، ومن هنــا كــانــع ــدعوة اإلســالمية إلى جمي ــوا ال فرضــا عليهم أن يحمل النــاس غـير المســلمين ولـو أدى ذلـك إلى القتـال وإلى خوض المعارك مع الكفار أي مــع الــذين ال توجــد لــديهم

العقيدة العقلية المتجاوبة مع فطرة اإلنسان.ــإذا غ ــاس، ف ــدأ باألس ــالتغيير يجب أن يب ف ــي ــذا ر ه

المقطوع بصحته وصدقه، األساس، وحل محله األساســير ــالتغيير بالمجتمعــات واألوضــاع. وتغي ــذ يفكــر ب فحينئ

ــات ــاييس المجتمع ــير المق ــون بتغي ــا يك ــاع إنم واألوض الصحيح والمفاهيم والقناعات. ذلك أنه إذا وجد األساس

ــع ــي لجميـ ــاس األساسـ ــون المقيـ ــه يكـ ــادق، فإنـ الصـ المفـــاهيم، المقـــاييس، والمفهـــوم األساســـي لجميع

والقناعة األساســية لجميــع القناعــات. فمــتى وجــد هــذاــاس أمكن حينئذ ــ ــاهيم األس ــ ــاييس والمف ــ ــير المق ــ تغي

والقناعات، وبالتالي أمكن التغيير بالمجتمعات واألوضاع ألنــه تتغــير بــه القيم كلهــا، قيم األشــياء، وقيم األفكــار،

الحياة. فالتفكير بالتغيير ال بد أن وبالتالي تتغير مقومات اإلنسان، وكــل يكون عند اإلنسان، أو ال بد أن يوجد عند

من يملــك عقيـدة عقليــة متجاوبـة مــع فطــرة اإلنســان، يوجد لديه التفكير بالتغيير، إما بــالقوة بــأن يكــون كامنــا

بــالتغيير فعال أثنــاء فيه، وإما بالتغيير كأن يباشر التفكــير.خوضه معترك الحياة

ــه موجــود ــالتغيير ال يعــني أن ــذين والتفكــير ب ــد ال عن يشعرون بضرورة تغيــير أحــوالهم، أو أفكــارهم، بــل هــو

حالــة تقتضــي التغيــير. ولــذلك موجود ما دام في الكون

111

فإن التفكير بالتغيير ال يقتصــر على تغيــير المــرء لحالــه، وال تغييره لمجتمعــه، وال تغيــيره لشــعبه وأمتــه، بــل هــو

الناس اآلخـرين، والمجتمعـات موجود لتغير الغير، لتغيير األخرى، واألوضــاع األجنبيــة. فــإن اإلنســان فيــه خاصــية اإلنسانية، وهي تقضي بالنظر لإلنسان أينما كان، ســواء

ــه أكان في بلده، أو في غير بلده، وسواء أكــان في دولت .أو في غير دولته، وسواء أكان في أمته أو في غير أمته

ــاج إلى فالتغيير يحاول اإلنسان إحداثه في كل مكان يحت.تغييرال

ــه، والتفكير بالتغيير ينبع من قرارة النفس، وتدفع إلي وإن ده مجرد الشعور بالحيــاة، وهووقائع الحياة، بل يوج

ــا، كانت تقاومه القوى التي تشعر أن التغيير خطــر عليه القوى. فوجوده في اإلنســان فإنه موجود حتى لدى هذه

ــا أن ــالتغيير، إم أمر حتمي. إال أن جعل الناس يفكرون ب يأتي باإلقناع، وإما أن يأتي بالقوة القاهرة. ومتى حصــل

قيمة التغيير، فإنه يصبح التفكير التغيير بالفعل، أو أدرك شــعورهم بالتغيير سهال ميســورا، ألنــه يعيــد إلى النــاس

بضرورة التغيير، وبالتالي يوجد لــديهم التفكــير بــالتغيير. ــير ولذلك كان لزاما على كل مسلم أن يكون لديه التفك

.بالتغيير نمــاذج من هذه عشرة أنواع من التفكــير، أو عشــرة

التفكــير، وهي كافيــة إلعطــاء صــورة عن التفكــير. وهيــان ــيرتوإن ك ــمل التفك ــذاتي، تش ــير ال ــداء، والتفك ابت

والتفكـــير عن طريـــق الحس، والتفكـــير عن طريـــق أنها تشمل كذلك التفكير في فهم النصوص، السماع، إال

.والتفكـــــــــــــــــير فيمـــــــــــــــــا يقـــــــــــــــــرأ

112

ــير بما ــاص، ولفت ولكن التفك ــاج إلى بحث خ ــرأ يحت يق بــل نظر معين. ذلك أن القراءة وحدها ال توجد التفكــير،

ال بد من معرفـة كيــف يجــري التفكــير في النصــوص إذا والكتابــة هي وســيلة قرأهــا اإلنســان. ذلــك أن القــراءة

للتفكير وليست هي التفكير. فكثير من الذين يقــرأون ال وكثير من الذين يقــرأون ويفكــرون ال يســتقيم يفكرون،

ــر عنهــا لــديهم تفكــير، وال يصــلون إلى األفكــار الــتي عب الكالم. ومن هنــا كــان من الخطــأ أن يظن أحــد أن تعلم

ــان من القراءة والكتابة يعلم الناس، أو ينهض األمم، فكــة األم ــة بإزالـ ــد عنايـ ــأ أن توجـ تعليم ة من أجليالخطـ

ــة من أجــل إنهــاض الناس، وأن يوجه الجهــد لمحــو األمي القــراءة والكتابــة ال تغــذي العقــل الشعب أو األمــة، ألن

بشــيء، وال تبعث ال في النفس وال في العقــل أي دافع للتفكير، ألن التفكير يوجده الواقع والمعلومات السابقة.

ر بهــا والقراءة ليست واقعا ر فيه وال معلومات يفســ يفك تعبــير عن الواقع، فال قيمــة لهــا في التفكــير، وإنمــا هي

األفكار، فمجرد قراءتها ال توجــد األفكــار في الــذهن، وال ومــا هي إال تعبــير عن األفكــار، فـإذا. تبعث على التفكير

األفكار، كان القارئ يحسن فهم هذا التعبير وجدت لديه من إحســان فهمــه من القــراءة، وإذا كــان ال يحســن

ولــو قــرأ ســاعات أو ســنين. الفهم، ال توجد لديه أفكار، ولــذلك ال بــد من بحث التفكــير بالنصــوص، وكيــف تفهم

.النصوص هذه إن أهم النصــوص الــتي تســطر أربعــة نصــوص هي:

ــوص ــة، والنصـ ــوص األدبيـ ــوص النصـ ــة، والنصـ الفكريـ التشريعية، والنصوص السياسية. والتفكير في كل منهــا،

113

يختلف عن اآلخر، وإن كان فهم جميعها يسير أي فهمه،ــة. ولم ــة العقلي ــدة هي الطريق ــة واح ــذكر على طريق ت

ــة ــا خاص ــون نصوص ــاد تك ــا تك ــة، ألنه ــوص العلمي النصــيرهم. بالعلماء في العلوم التجريبية، وال يكاد يعنى بها غ

أما النصوص األربعة فهي مطروحة لجميـع النــاس، وفي.كل واحد أن يفهمها إذا تيسرت له وسائل الفهم إمكان

ةموضــوعة للذ أما النصــوص األدبيــة، فإنهــا نصــوص وهز المشاعر، وإن حوت معارف يســتفيد منهــا العقــل،

باأللفــاظ والــتراكيب أكــثر من عنايتهــا ولذلك هي تعــنى مقصــودة بالمعاني. والمعاني وإن كانت ال بــد أن تكــون

للشـــاعر واألديب، ولكن القصـــد األول هـــو األلفـــاظ تـــدل على معـــان، والـــتراكيب. صـــحيح أن األلفـــاظ

والتراكيب تدل على معان، ولكن الشاعر واألديب يصب والتراكيب ألداء هذه المعاني. صحيح جهده على األلفاظ

اللفــظ أنهم يقولون إن البالغة هي المعــنى الجميــل في الجميل والــتركيب الجميــل، ولكن الشــاعر واألديب وإن

ولكنه يتصــيدها من أجــل أن عنى نفسه بتصيد المعاني، يصـــوغها في لفـــظ جميـــل وتـــركيب جميـــل. فاللفـــظ

المعاني إنمـا هي في الصــورة الـتي والتركيب أو صياغة.التركيب يخرج بها هذا المعنى، في ذلك اللفظ أو

ــتي تعتمــد عليهــا فالصياغة لأللفاظ والتراكيب هي ال أيضــا أن المــراد من النصــوص صياغة المعاني. وصــحيح

هــو أداء المعــاني، ولكن هــذا في النصــوص عامــة، أمــاــة منهــا أداء المعــاني النصــوص ــه ليس الغاي ــة فإن األدبي

القــارئ فحسب، بــل الغايــة منهــا في األصــل هــو إثــارة والسامع، وليس إعطاءه المعــنى فحســب. فاإلثــارة هي

114

ــة األولى ــود في الدرج ــاعر .المقص ــار الش ــذلك يخت ولــا أن ــد فيه ــارا، ويقص ــتراكيب اختي ــاظ وال واألديب األلف

بالتفخيم والتعميم، والوقوف عند مــواطن تتصف عبارته االنفعــاالت. الجمــال والتــأثير، وإثــارة العواطــف وإيجــاد

ولذلك تجد النصوص األدبية تتميز بالعبارات الــتي تصــاغ وتخرج الصور، ثم العناية بالصور، ثم باختيــار بها األفكار

صــوغها وإخراجهــا األفكار. فهمه من األفكار أن يستطيع في صــورة مثــيرة ومــؤثرة. فاألصــل هــو التعبــير، وهــو

ــراج ــار أداة أو وســيلة. التصــوير أو إخ الصــورة، واألفك نفســه فالتصوير والصورة، هما ما يعني الشاعر واألديب

بهما، ويعني نفسه باألفكار من حيث صالحيتها للتصــوير، ال من حيث صــحتها وصــدقها، والصورة التي تخــرج بهــا،

ــة من النص ــل من حيث صــالحيتها للتصــوير، ألن الغاي ب الناس لألفكار، بل إثـارة مشــاعرهم. ولـذلك ليس تعليم

التعبــير. ولهــذا تصب فيها العناية على التصــوير أي على فإن عنايتها بمــا يجــري فيــه هــذا التعبــير وهــذه األلفــاظ

بما يحويه هذا التعبير إال من حيث صالحيته والتراكيب، ال.المثيرة للتصوير، أي إلخراج الصورة الرائعة

هذا هو واقع النصوص األدبية. ومــا دام هــذا واقعهــا، الســابقة الــتي تلــزم لربــط اإلحســاس فإن المعلومــات

ــون الذي يحصل من قراءة النصوص األدبية، يجب أن تك معلومات متعلقة بالتصوير، متعلقة بالصور األدبية، حــتى

ــرجت، يدرك معنى النص، وحتى تشاهد الصورة التي أخ على الوجـه الـذي أخـرجت عليــه. بمعـنى أن فهم النص

ــتلزم ــ ــاظ وعن األدبي يس ــ ــابقة عن األلف ــ ــارف س ــ معــا من أدوات التراكيب، أي عن عملية التصوير وما يلزمه

115

ــيز ووسائل، ويستلزم مرانا على مشاهدة الصــور والتمي النصــوص األدبيــة بشــكل بينها، أي يستلزم سبق قــراءة

يتربى معه الذوق، والتمييز، واإلدراك. ولهذا فإن من لم لديه معرفة سابقة بالنصوص األدبيــة فإنــه ال يتــأتى تكن

ــأثر بهــا لــه فهم النصــوص األدبيــة، حــتى وإن أظهــر الت والتقدير لها. فالمسألة مسألة ذوق، وهذا الذوق ال يتأتى

المران وكثرة التذوق واختالف أنــواع مــا يتــذوق. إال بعد واإلكثــار من قراءتهــا أي إال بعد قراءة النصوص األدبيــة،

على مختلف أنواعها وصورها. ومــتى وجــد هــذا الــذوق، وجـــد الفهم للنص، ألن الفهم للنص األدبي ليس فهمـــا

التــذوق لمعانيه، بل هو تـذوق الـتركيب، ويـأتي من هـذا:فهم المعاني. فمثال قول الشاعر

فتىـاهما لـلقان ال أرضــخ تيه الغنى

قرـذلة الفـومفإذا غنيت فال تكن بطرا

توإذا فقر على الدهرفته

:الشاعر وقولـت فـمـتي زعـإن ال هاــؤادك مل

116

خلقت لها هواك كما خلقت هوى

فبك الذي زعمت بها وكالكما بديــي

ـصــبه الــصاحـل ـبابة ك هاـل

:قول الشاعر هو غيروكنا إذا ما استكره الضيف بالقرى

أتته م ترعف العوالي وهي بالس

ـــجم الخــوال نست عيدهاــيل حتى ن وانمـغ

زحف ن أعدائنا وهيـم:وغير قول الشاعر

ةإذا ما عضبنا غضبة مضري هتكنا حجاب

الشمس أو قطرت دماإذا ما أعرنا سيدا من قبيلة

117

ـــذرى م برــــنـــوس يناـــصلى عل اـمـل

ــل بالصــورة وهذه الغيرية ليست باختالف المعاني، ب وبالتصوير الــذي أوجــده فإنــه وإن التي أخرجها الشاعر،

كان واحد من هؤالء الشعراء قــد هــز القــارئ والســامع،ــير ــاعران األوالن هي غ ــدثها الش ــتي أح ــزة ال ولكن اله

اآلخران. ومثل قول األديب: الهزة التي هزها الشاعران "يــا مــوالي وســيدي الــذي ودادي لــه، واعتمــادي عليــه،

منه، ومن أبقاه الله ماضــي حــد العــزم، واري وامتدادي لبــاس نعمائــك،- أعزك الله-تني بزند األمل. إن كنت سل

أو نفضت عني كف حياطتــك، بعــد أن نظــر األعمى إلى ثنــائي عليــك، وأحس الجمــاد تأميلي لــك، وســمع األصم

باستنادي إليك، ال غــرو، قــد يغص المــاء شــاربه، ويقتــل المستشفي به، ويؤتى الحــذر من مأمنــه، وتكــون الدواء

جهـــد منيـــة المتمـــني في أمنيتـــه، والحين قـــد ســـبق".الحريص

وقــول األديب: "الكتــاب وعــاء مليء علمــا، وظــرفحن مزاجــا وجــدا. إن شــئت كــان حشي ظرفا، وإناء شــ

أعيا من باقـل، وإن شـئت كــان أبين من سـحبان وائـل، شــئت ضــحكت من بــوادره، وإن شــئت عجبت من وإن

".غرائب فوائده ال يعـــرف الكلمـــة هـــو غـــير قـــول األديب: "والعلم

ــا ــه كله ــا حقائق األخــيرة في مســألة من مســائله، وإنم

118

قيمتهــا حــتى يكشــف البحث عمــا إضــافية موقوتــة، لها".يزيل هذه القيمة أو يغيرها

ــددة،":وغير قول األديب األفكار متنوعــة، واآلراء متع فيظنها وقضايا كل عصر تخالف ما قبلها، ويراها الباحث

ــاط، ولم تتصــل أول وهلة جديدة لم ترتبط بما قبلها برب فكره فيمــا عســى أن يكــون بينهمــا به أية صلة، فيعمل

".من قرابة أو نسب، وما قد يصل بينهما من سبب الغيرية ليست باختالف المعــاني، بــل بالكيفيــة وهذه

ــل التي أديت بها هذه المعاني، وبالصورة التي يحــاول كــتعطف، ــدهما يس ــان األوالن: أح ــا. فاألديب ــا أداءه منهم

كتابــا. وكــل منهمــا قــد أدى المعــنى الــذي واآلخر يصف واألديبــان. يريــده بكيفيــة خاصــة، وأعطى صــورة خاصة

اآلخران: أحدهما يتحدث عن العلم، والثاني يتحــدث عن يــؤدي المعــنى بكيفيــة غــير الكيفيــة األفكار. وكل منهما

.التي أدى بها األديبان األوالنــاني، ولكن كل منهم ــا، لم يكن يبحث عن المع جميع

ــاني ــالتركيب واأللفــاظ، وكــانت المع ــا كــان يهتم ب وإنمــد ــد إبرازهــا. فحين يري ــتي يري وســائل ألداء الصــورة ال

كانت أو نثريــة، ال المرء أن يفهم هذه النصوص، شعرية يصح أوال أن يجهــد نفســه بالمعــاني، بــل يجب أن يوجــه

ــأتي فهم المعــاني الجهد إلى فهم األلفاظ والتراكيب، وي الســابقة تبعا لــذلك. ومن هنــا ال بــد أن تكــون معلوماته

ــل أن ــاني. وألج ــتراكيب، ال بالمع ــاظ وال ــة باأللف متعلق ذلك، ال بــد أن يقــرأ النصــوص تتكون لديه معلومات في

األدبية كثيرا، وأن يحاول نقدها، وأن يجهــد في الوقــوف

119

على أسرار تراكيبها، إلى أن يتكــون عنــده الــذوق، ومن ولــذلك فــإن فهم. وجــود الــذوق تتكــون المعلومــات

النصــوص األدبيــة ال يحتــاج إلى درس وتحصــيل، وال إلىــا معلومــات عن المعــاني ــتي تحويهــا النصــوص، وإنم ال

يحتاج إلى تكوين ذوق في الدرجــة األولى، وهــذا الــذوق إنما يتكــون بكــثرة قــراءة النصــوص األدبيــة حــتى توجــد

ــذوق ــون ال ــا، فيك ــدى النشــوة من قراءته ــون ل ــد تك قــاج إلى معرفــة ــة ال يحت اإلنســان. وفهم النصــوص األدبي

معرفــة بعلــوم البالغــة من معــان بــالنحو والصــرف، وال فــإن وبيان وبديع، وال يحتاج إلى فقه اللغة وعلم الوضع،

هذه وإن استحسن اإللمام بها ولكن ال يستحسن التبحــرــاج إلى ــا يحت شــيء واحــد هــو كــثرة قــراءة فيهــا. وإنم

.النصوص، حتى يتكون لديه الذوق فهم النصــوص األدبيــة، هــذه هي كيفيــة التفكــير في

وهي أن فهمها يحتاج إلى وجود ذوق ســابق، أي معرفــة ينتج عنهــا تكــون الــذوق. فمعلوماتهــا بطبيعــة النصــوص

ــار من السابقة هي وجود الذوق، والطريق إليه هــو اإلكث قراءة النصوص األدبية حتى يتكــون هــذا الــذوق. وإذا لم

النصــوص األدبيــة، أي ال يوجد الــذوق فإنــه ال يمكن فهم يكون التفكير بهــا منتجــا. صــحيح أنــه قــد يخــرج بــإدراك

الذي تحويـه، وقــد يخــرج برؤيـة لمــا تهــدف إليــه، الفكر عليهــا، ألنــه لم ولكنــه ال يخــرج بفهم لهــا، وال بــالوقوف

ــرف ــذوقها ويع ــا، وإذا لم يت ــرف طعمه ــذوقها ولم يع يت يفهمهــا. فــالنص األدبي فهمــه أن تهــتز طعمها، فإنــه لم

إليه، وأن يثيرك ويؤثر فيك. وهــذا ال يمكن أن يحــدث إال

120

إذا كان هناك ذوق لدى من يقرأ هذه النصوص. ومن هنا.النصوص هو وجود الذوق كان ما يلزم لفهم

أمــا النصــوص الفكريــة، فــإن المعــارف العقليــة هيــة إلى األســـاس في ــاء النص، والعنايـــة فيـــه موجهـ بنـ

لغة العقل، المعاني أوال ثم إلى األلفاظ والتراكيب، وهو ال لغـــة العاطفـــة. والغـــرض من أداء األفكـــار ال ســـيما

المعرفة وإثارة العقول. والكلمــات الحقائق، قصد خدمة وهــو. والتراكيب فيه تتميز بالدقة والتحديد واالستقصــاء

يقوم على العقل بغض النظر عن العواطف، وعلى نشر يحتـاج الوصـول إليهـا الحقائق الفكرية، والمعارف الـتي

إلى جهد وتعمق. ولذلك فإن النصــوص الفكريــة تخــالف ذلــك أن النص األدبي ال .تمام المخالفة النصوص األدبية

ــارف، وال يقصــد منه ــائق والمع ــد الحق ــف عن ــة يق تغذي العقل باألفكار، وإنما يحــاول تقــريب هــذه الحقــائق إلى

ــار ــه يخت ــان، ولكن ــا األذه ــار م ــا، أي يخت ــا وأهمه أبرزه يستطيع أن يجد فيه مظهــرا لجمــال ظــاهر أو خفي، أي

مـــا يوجـــد التـــأثر واالنفعـــال. وتكـــون األلفـــاظ يختـــارــراء والتراكيب التي تؤدي هذه األفكار على وجه يثير الق

ويثــير الســامعين، فيهــز مشــاعرهم، ويبعث فيهم مــا .غبطة ورضا، أو سخط وغضب يقتضيه هذا االنفعال من

وهذا بخالف النص الفكري، فإنه يقصــد بــه تغذيــة العقل باألفكار، فهو يقــف عنــد حــد الحقـائق والمعــارف، بغض

تهزهــا. فهــو يتقصــد النظر عن كونها تهز المشــاعر أو ال اجتالء األفكار وليس تقريبها، وحســن إبرازهــا وليس مــا

وما يوجد قناعة العقــل ودقــة األداء، وال فيها من جمال، من سرور أو يعنى أبدا بما يثيره هذا من سخط أو رضا،

121

غضب، بــل يعــنى بـأداء الفكــر كمـا هــو، ويجعــل صـورةــان فهم الفكر واضحة وليس صورة التركيب. ومن هنا ك

النصوص الفكريــة يخــالف كــل المخالفــة فهم النصــوص.األدبية

والتفكير في النصوص الفكريــة، أي فهمهــا، ال يتــأتى ســابقة عن موضــوع النص، فــإذا لم إال بوجود معلومات

توجد هــذه المعلومــات الســابقة المــذكورة، ال يمكن أن يفهم النص، ألنه يعبر عن واقع معين، فإذا لم توجد لديه

الواقــع، فإنــه ال يمكن أن معلومات سابقة يفسر بها هذا يفهمه وال بحال من األحوال. واألسلوب الفكري ال بد أن

المعلومـات الســابقة لفهمـه ممـا يكــون مــدلولها تكــون عــرفت مجــرد مدركا، فإذا كانت المعلومات السابقة قد

ــه ال معرفــة دون أن يكــون مــدلولها مــدركا واقعــه، فإنــر عن يمكن فهم النص الفكــري، ألن النص الفكــري يعب

فكر له واقع وله مــدلول، وليس مجــرد فكــر، فــإذا فهم الفكر فهما لمــا يــدل عليــه، ال إدراكــا لواقعــه، وال رؤيــة

ــر لمدلوله، فإنه ال يكون معلومات سابقة يمكن أن يفس الواقع بهــا، وإنمــا تكــون مجــرد معلومــات، وال تنفــع في التفكــير، أي ال تنفــع في الفهم للنص الفكــري. فشــرط

معلومــات ســابقة التفكــير بــالنص الفكــري ليس وجــود فقط، بل وجود إدراك لواقعها، وتصور حقيقي لمدلولها.

كتاب فكــري، ســواء أكــان بحثــا في فأنت حين تقرأ فيــإن ــا في مســألة، ف ــا في موضــوع، أو بحث ــر، أو بحث فك نصوص هذا الكتاب نصوص عربية وألفاظه ألفاظ عربية

باللغة العربية، ولكن وتراكيبه تراكيب عربية، وأنت عالم علمك بالعربيــة وإن ســاعدك على فهم معــاني األلفــاظ

122

ولكنه ال يساعدك على فهم مدلوالت األفكار والتراكيب، فهم هــذه التي صيغت بهذه األلفــاظ والــتراكيب. فألجل

األفكار ال بد أن تكــون لـديك معلومــات عنهـا، وال بـد أنــدلولها، تكون هذه المعلومات مدركا واقعها، ومتصورا م

وإال فهمت الكالم فهما لغويا، وقد يكــون فهمك ــا مطابق لما تدل عليه األفكار، وقد يكون معاكسا له، ولكنه على

.للفكر، وإنما هو فهم لغوي كل حال ليس فهما فمثال: حين تقرأ هذا النص "والــواعي سياســيا يتحتمــتي ــع االتجاهــات ال ــه أن يخــوض النضــال ضــد جمي علي

ــتي ــاهيم ال ــع المف ــه، وضــد جمي ــاقض اتجاه ــاقض تن تن مفاهيمه. في الوقت الذي يخــوض فيــه النضــال لتركــيز

من النصــوص الفكريــة، مفاهيمه وغرس اتجاهاته"، وهوــتى ــة ح ــة العربي ــاه في اللغ ــه ال يكفي أن تفهم معن فإن

يكفي الوقـــوف على مـــدلوالت ألفاظـــه تفهمـــه، والــد أن يكــون واقع وتراكيبه حتى تقف على معناه، بل ال ب التدبر السياسي من زاوية خاصة، واضحا لديك ومتصورا

.مدلوله عندك وال بد أن ــدركا يكون واقع االتجاهات وما تدل عليه م

االتجاهــات باتجاهاتــك، ومتصورا لديك. وواقع نضال هذه ورا ــدركا ومتصــ ــاس، م ــك في الن ــع غــرس اتجاهات وواق

أي ال بد من أن تكــون المعلومــات الســابقة .لديك.. الخ االتجاهــات، عن الــوعي السياســي، وعن النضــال، وعن

وعن المفاهيم، متصورا واقعها، ومــدركا مــدلولها، حــتىــذا ــأتى فهم هـ ــك، وظلت يتـ ــل ذلـ النص. وإذا لم يحصـ

المعلومــات مجــرد معلومــات مجــردة، أو مالحظــا فيها مدلولها كمعان ال كواقــع، فإنــه ال يمكن فهم هــذا النص.

123

ولــو حفــظ عن ظهــر قلب. وإذا لم يفهم ال يســتفاد منه ولــذلك فــإن النصــوص الفكريــة، كالبنــاء، ال يمكن إزالــة

وتبقى صــورة البنــاء كمــا هي. فال يمكن نقــل حجــر منه استبدال كلمة حرف منه من مكان إلى مكان، وال يمكن

بكلمة أخرى، بل ال بد من المحافظة الكاملة على النص الواقــع الــذي يــراد منــه، أي مــدلول الفكــر كما هو، ألن

ــر الذي يراد أداؤه، واقــع معين وصــورة معينــة، فــإذا تغيــا أو ــير الفهم كلي ــورة، يتغ ــع ومن الص ــيء من الواق ش

ــا. ففهم النص ــه، جزئي ــإدراك مدلول ــي ب ــري يقض الفك.وتراكيبه وإدراك مدلوله يقضي بالمحافظة على ألفاظه

نعم إن النص الفكري قد يصــاغ بمــا يصــاغ بــه النص على المشاعر إلى جــانب تقصــي األدبي، فيالحظ تأثيره

الحقائق وبلورتها، ولكنه على أي حال نص فكري وليس أدبيا. فــإن شــرط النص الفكــري ليس عــدم تــأثيره نصا

ســواء أثــرت على المشاعر، بل الوصول إلى الحقــائق،ــري على على المشاعر أم ال. فمالحظة تأثير النص الفك

المشاعر ال تخرجه عن كونه نصـا فكريـا، بـل يبقى نصــا الفكر فكريا ما دامت العناية به موجهة إلى الفكر، وكان

هــو القصــد األساســي منهــا. وإذا لوحــظ في النصــوصــا على المشــاعر، ــة تأثيره ــف حــال الفكري ــه ال يختل فإن

ــا فهمها عن حاله فيما لو لم يالحظ ذلك. بل ال بد لفهمهــات ــع من معلوم ــار، ومن إدراك لواق ــابقة عن األفك س

.األفكار، وتصور لمدلولها الفكرية قــد تكــون صــالحة لكــل صحيح أن النصوص

ــاس مهما الناس، وفيها القدرة على أداء األفكار لكل النــل ــة الفهم لك ــا ممكن ــافتهم، فهي على عمقه ــانت ثق ك

124

يمكن أن النــاس، ولكن مثــل هــذه النصــوص، وإن كــان يأخــذ كــل واحــد من النــاس مــا يقــدر على فهمــه منهــا،

متنـــاول كـــل النـــاس أن ولكنهـــا في عمقهـــا ليس في يفهموهــا. نعم إن النــاس يأخــذون منهــا مــا في قـدرتهم

كل النــاس يقــدر على التفكــير بهــا أو فهمه، ولكن ليســة إذا لم توجــد معلومــات ــا، ألن النصــوص الفكري فهمه سابقة في مسـتواها عنهـا، ال يمكن فهمهـا، وإذا لم يكن

أفكارها متصورة، فإنه ال واقع أفكارها مدركا، ومدلوالت يمكن االستفادة منها وتنفيذ أفكارها. فكــون كــل النــاس قادرا على أن يأخذوا منها كل حسب قدرته على الفهم،

قــادرون على فهم هــذه فإن هذا ال يعني أن كــل النــاس النصوص. فإن الذين ال توجــد عنــدهم معلومــات ســابقة

ــتواها، ال ــ ــال من في مس ــ ــا وال بح ــ يمكن أن يفهمهوه.األحوال

لتكــوين وقد يقال هنا إن المعلومــات الســابقة كافية الفكر متى وجــد الحس، وهــذا يعــني أن النص الفكــري،

ــابقة كاف ألن يفهم، أن تكون لدى اإلنسان معلومات س.يفســــــر بهــــــا الواقــــــع الــــــذي يتضــــــمنه النص

هو أن المعلومات السـابقة يـراد بهـا والجواب على ذلك أن أن يفسر بهــا الواقــع الــذي يتضــمنه النص، وال يمكن

يفسر بها الواقــع إال إذا كــانت في مســتواه. فــإذا كــانت المعلومــات اللغويــة، فإنهــا ال المعلومــات الســابقة هي

ــر، تكفي إال إلى التفسير اللغوي، وال تكفي لتفسير الفك وإذا كــانت المعلومـات الســابقة عن الحكم بأنـه القــوة،

الحكم، بل وقد تضلل عن فإن هذه ال تكفي لفهم معنى فهم معــنى الحكم. وإذا كــانت المعلومــات الســابقة عن

125

نـــاس وعالقـــات، فإنهـــا ال تكفي لفهم بأنهعالمجتمـــ ألنهــا المجتمع فهما يمكن من تغييره أو المحافظة عليه،

ــإن ــذا ف ــع. وهك ــه المجتم ــا يعني ليســت في مســتوى م الفكــري، ال بــد أن المعلومات السابقة حتى يدرك النص

تكــون في مســتوى الفكــر الـذي يحويـه النص، ال مجـرد.عنه معلومات

وقد يقال: إذا كــان يشــترط لفهم النص الفكــري أن النص في مســـتوى تكـــون المعلومـــات الســـابقة لفهم

الفكر الذي يريد أن يفهمــه، فمن أين يــأتي اشــتراط أن يتصــور مدلولــه، إلى جــانب أن تكــون يدرك واقعه، وأن

المعلومات السابقة في مستواه؟ أن فهم النص الفكــــري ليس والجــــواب على ذلك

المراد منه التلذذ به، وال الوقوف على معنــاه، بــل النص الفكــري يفهم ليؤخـذ، أي يفهم ليعمـل بــه، ومــا لم يكن

ووجوده ال قيمة لــه. ألن الفكــر كذلك فإنه ال فائدة منه، يوقف عليه ليؤخذ، ال لمجرد المعرفة. وأخذه ال يتأتى إال

بإدراك واقعه وتصور مدلوله. ومن هنا يشــترط في فهمــانب ــري إلى ج ــة النص الفك ــابقة ثالث ــات الس المعلوم

شـــروط: أحـــدها أن تكـــون المعلومـــات الســـابقة في الذي يراد فهمه، وثانيها أن يــدرك واقعهــا مستوى الفكر

وثالثها أن يتصور كما هو إدراكا يحدده ويميزه عن غيره، هذا الواقع تصورا صحيحا يعطي الصورة الحقيقيــة عنــه.

ــري، وبدون هذه الثالثة مجتمعة ال يمكن فهم النص الفك يمكن أخــذه، أي ال يمكن فهم الفكــر. وبعبــارة أخــرى ال

وأقــرب. ألن فهم الفكر يعــني أخــذه، وليس فهم معنــاه اإلســالم من عقائــد وأحكــام، فإنــه مثال على ذلك أفكار

126

لمــا نــزل على العــرب، ونــزل منجمــا بحســب الوقــائع، فإنهم فهموه وأخذوا به، ال ألن لغتهم كــانت تمكنهم من

أفكاره، وتصوروا مدلوالتها، فهمه، بل ألنهم أدركوا واقعــر فيهم فأخذوها بعد هذا اإلدراك وذلك التصور، ولذلك أث وقلبهم رأســا على عقب، فتغــيرت قيمــة األشــياء في

وانخفضــت قيمــة أخــرى، نظرهم، فارتفعت قيمة أشياء وأصبحت مقومـات الحيــاة في نظــرهم غيرهــا بـاألمس.

أنفسهم حين فقد لديهم إدراك واقــع ولكن هؤالء العرب األفكــار، وتصــور مــدلوالتها، فــإنهم فقــدوا فهم هــذه األفكــار، أي فقــدوا أخــذها، ولــذلك لم تعــد تــؤثر فيهم.

محــدثون أعلم من مالــك، وبالرغم من أنه يوجــد لــديهمرون أكــثر وفقهــاء أوســع علمــا من أبي حنيفــة، ومفســ

عباس، ومع ذلك فإنــه ال يوجــد فيهم من إحاطة من ابن من هــو قــريب ممن كــانوا في المدينــة أيــام مالــك، وال

كانوا في عصر ابن عباس، وال ممن عاشوا في عهد أبي التقصـــير في معرفـــة حنيفـــة. وليس ذلـــك ناتجـــا عن

األفكار، بل هو نتيجة لعدم إدراك واقعهــا، وعــدم تصــور ولذلك فإنه للتفكير بالنصوص الفكرية، فإنــه ال. مدلولها

بــل ال بــد أن يكفي وجود معلومات سابقة في مستواها،ا.يكون إلى جانب ذلك إدراك لواقعها وتصور لمدلوله

الفكرية ال يعني أن يكون ألخذها، بل وفهم النصوص المقصــود، يكون كــذلك لرفضــها ومحاربتهــا. فاألخــذ هو

ــا وإذا كانت ليس مما يؤخذ، فإنها تكون مما يترك أو مم لم يوجــد إدراك لواقعهــا وتصــور يجب أن يحــارب. فــإذا

لمدلولها، فإن األمر قد يــؤدي إلى االنحــراف، فيؤخــذ ماــترك ويحــارب مــا ينبغي أن ينبغي أن يترك ويحــارب، وي

127

المعرفــة، مجــرد المعرفــة، يؤخذ، أو يوقــف منــه موقف دون أخذ أو ترك. ولــذلك ال بــد لفهم النصــوص الفكريــة

واقعها وتصور مدلولها، التخاذ الموقــف الالزم من إدراك واشتراط إدراك .والمحاربة تجاهها، إما األخذ وإما الترك

واقع األفكــار إدراكــا يحــددها ويميزهــا، وتصــور مــدلولهاــل ــر من الزل ــم الفك ــذي يعص ــو ال ــحيحا، ه ــورا ص تص

هــذه األفكــار واالنحراف، ويجعل المرء يقرر موقفه منــد حــد تقريرا سليما. فإن هذه األفكار ال يقف ضررها عن

المعرفة، بــل قــد يصــرف من يأخــذها من االقتصار على أعمال أساسية في حياته، وقد يجعله يــزل وينحــرف، أو يضــل ضــالال كبــيرا. وأقــرب مثــال على ذلــك مــا فعلتــه

ــير ــدى كثـ ــة لـ ــفة اليونانيـ ــة الفلسـ ــاء دراسـ من علمـــار ــمالية واألفك ــار الرأس ــه األفك ــا فعلت ــلمين، وم المس

أبناء المسلمين، فــإن ذلــك كلــه الشيوعية لدى كثير من ويميزه، إنما كان ألن إدراك الواقع لم يكن إدراكا يحدده

.وألن تصور مدلول األفكار لم يكن تصورا صحيحا اليونانية، فإنها كــانت موجــودة لــدى ولنأخذ الفلسفة

ــون ــلمون يحمل ــان المس ــراق، وك ــام والع ــارى الش نص هؤالء النصارى، دون أن يدركوا األفكار التيعوة إلى الد

أن يــروا المغالطــات الــتي تحويها هــذه الفلســفة، ودون تدخل في مقدمات المنطق. فأدت هــذه الدراســة الــتي

نشــر اإلســالم إلى أن انصــرف لهــا بعض كانت من أجلــدونها في ــتي يج ــذة ال ــل الل ــلمين من أج ــاء المس علم دراســتها، وانصــرف إليهــا علمــاء مســلمون آخــرون من

صــحة أفكــار أجــل الــرد على النصــارى، والبرهنــة على.اإلسالم

128

أما الفريق األول من العلماء فإنهم صــاروا يســيرون فالسفة اليونان، وأخــذوا الفلســفة اليونانيــة، في طريقة

مراعــاة اإلســالم وصارت ثقــافتهم، واعتنقــوا آراءهــا مع حســب مــا تــراه هــذه األفكــار الفلســفية، وبــذلك نشــأ

فمنهم من زل وانحــرف، ومنهم الفالســفة المســلمون،ــون ــريقين: المنحرفـ ــيرا. وكال الفـ ــالال كبـ من ضـــل ضـ

كفــارا، ولــذلكاوأصــبحووالضالون، قد تركــوا اإلســالم، المسـلمين أو فالسـفة فإن جميع من يســمون بفالسـفة

اإلسالم كفار، ال فرق بين ابن ســيناء والفــارابي، وال بين.والكندي ابن رشد

وأمــا الفريــق الثــاني من علمــاء المســلمين، الــذينــفة اليونانية ــوا الفلس ــإنهم درس ــاني، ف ــق اليون والمنط

انقسموا فريقين: فريق يتخذ الفلسفة اليونانية أساســا، ويؤول أفكار اإلسالم بمــا يتفــق وأفكــار هــذه الفلســفة،

أفكار اإلسالم، وهؤالء هم ويطبق األفكار الفلسفية على المعتزلــة. وفريــق قــد وقــف من هــذه األفكــار موقــف

والناقد، وصــار يحــاول تصــحيحها ويــرد عليهــا، المعارض الجدال بين هذين وهؤالء من يسمون بأهل السنة. فكان

ــدعوة ــل ال ــدال عن حم غلوا بهــذا الج الفــريقين، وشــرفوا عن العمـل األساسـي الــذي فرضـه اإلسالمية، وصـ

اللــه عليهم، أال وهــو حمــل دعــوة اإلســالم إلى غــيرــا ــلمين، إم ــد المس ــحيح عقائ ــة تص ــلمين، بمحاول المس

للبرهنــة على صــحة باستخدام أفكــار الفلســفة اليونانية أفكار اإلسالم، ولبلورتها، وإما بــالرد على هــذه األفكــار.

النــاس بهــذا أجيــاال وقرونــا. وهــؤالء وإن كــانوا وشــغلوا

129

ــفة ــبب الفلس ــلمين، ولكنهم بس ــا مس ــة، جميع اليوناني.صرفوا عن حمل الدعوة إلى اإلسالم، لغير المسلمين

على ذلك، بــل وجــدت من جــراء ثم لم يقتصر األمرــة، ــة، والمرجئ ــال الجبري ــك جماعــات أخــرى من أمث ذل

وغيرهــا. وأدى ذلــك إلى وجــود ملــل ونحــل، والقدريــة، أي بلبلة، وأفكار وجماعات، بين المسلمين، فكانت بلبلة

حــتى صــار المســلمون عشــرات الفــرق، وعشــرات دخــول الفلســفة المذاهب الفكرية. كــل ذلــك من جــراء

اليونانية لبالد اإلسالم، وإقبال الكثير من المسلمين على إدراك يحدد أفكارها ويميزها، ودون تصور دراستها، دون

نفســه، صحيح لمدلول تلك األفكار. ولــوال قــوة اإلســالم ووقــوف أهــل الســنة والجماعــة بصــدق وإخالص في

الواقع الــذي تــدل عليــه، الوقوف في وجه األفكار ببيان وتصوير مدلوالتها تصويرا صحيحا، وامتشاق الحسام في

ــذهب وجه الكفرة من هذه الفرق والمذاهب، لوال ذلك لــه اإلسالم، ولضاع من جراء الفلسفة اليونانية وما أوجدت

.من أفكار وآراء خطرها أمــر أما األفكار الرأسمالية واالشتراكية فإن

مشاهد محسوس، وضالل أفكارها قد شــمل الكثــير من مفاهيمها قــد تفشــى حــتى لــدى أبناء المسلمين، وخطأ

جماهير المسلمين. ولســنا بحاجــة إلقامــة الــدليل وذكــر من األفكار الضالة واألفكار الخاطئــة، فــإن الواقــع أمثلة

ســيما الــذين وعــوا على المشــاهد في بالد اإلســالم، وال الحياة بعد الحرب العالمية الثانية، يرينا مــا أحدثتــه هــذه األفكار من تخريب في عقــول المســلمين، ومن صــرف

.اإلسالم للمسلمين عن العمل من أجل

130

ــة، يجب أن ــوص الفكري ــير بالنص ــإن التفك ــذلك ف ل يكفي فيهــا مجــرد وجــود يعرف تمــام المعرفــة، وأنــه ال

المعلومات السابقة، بل ال بد أن تكون هــذه المعلومــات في مســتوى الفكــر، وأن يكــون إدراك واقعهــا موجــودا

بشكل يحدده ويميزه، وأن يكون تصــور مــدلولها تصــورا.صحيحا يعطي الصورة الحقيقية عن ذلك المدلول

ــه عن ــل نعم إن اإلســالم لم ين ــة ب الدراســة الفكري أباحها، ولم ينه عن أخــذ األفكــار بــل أبــاح أخــذها، ولكن

ــار، اإلســالم قد ــدة اإلســالمية قاعــدة لألفك ــل العقي جع فكر يتناقض ومقياسا ألخذها أو رفضها، فإنه ال يجيز أخذ

مع هذه القاعدة، وإن جاز قراءة النصوص الــتي تحويــه،ــبيح أخــذ فكر ــبيح وال ي ــة ت إال إذا كــانت القاعــدة الفكري

الفكريـة أو أخذه. فحتى يدرك أن الفكر يناقض العقيــدة يوافقها، فإنه ال يمكن اتخاذ الموقــف منــه إال بعــد إدراك

واقع الفكر إدراكا يحدده ويميزه، وتصور مدلوله تصــورا الفكــر بالقاعــدة صحيحا. وبدون هذا ال يمكن قياس هــذا

الفكرية، وبالتالي ال يمكن اتخاذ الموقــف الصــحيح منــه. التفكير في النصوص الفكريــة، أيــا كــانت، ال ولذلك فإن

الفكــري، أن بد أن تكون لدى من يريــد التفكــير بــالنص تكون لديه معلومات سابقة في مستوى هذا الفكر، وأن

ــدده يكون لديه عالوة على ذلك، إدراك لواقعه إدراكا يح ويميزه، وتصور لمدلوله تصــورا صــحيحا يعطي الصــورة

.الحقيقية لهــا النصــوص التشــريعية، فــإن الوقــوف على مــا وأم

والوصــول إلى اســتنباط األفكــار، ال تحتويــه من أفكــار، وال يكفي فيه أن يفهم األلفاظ والتراكيب وما تدل عليه،

131

ــاج ــا يحت يحتاج إلى معلومات سابقة، أية معلومات، وإنم ــا ــنين مع ــرين اث ــة: إلى أم ــة دالل ــاج أوال إلى معرف يحت

األلفاظ والــتراكيب، ثم المعــاني الــتي تــدل عليهــا هــذه األلفـــاظ والـــتراكيب، ثم اســـتعمال معلومـــات معينـــة

ــتنباط الفكر ــر، أو اس ــوف على الفك ــة. للوق ــا معرف أم معاني األلفاظ والتراكيب فإنه يحتاج إلى معرفة باللغــة،

ويحتاج إلى معرفة اصــطالحات معينــة، ألفاظا وتراكيب، وهــذا. ثم بعد ذلك يأتي الوقوف على األفكــار واألحكــام

ــريعي، ــير تش ــل تفك ــق على ك ــان يمكن أن يطب وإن ك بالتشــريع، ال نعــني أي ولكننــا حين نتحــدث عن التفكــير

تشريع، وإنما نعني التشريع اإلســالمي ليس غــير. وذلــك بوصـــفنا مســـلمين، ال يحـــق لنـــا أن نبحث إال في أنا

ــازم ــر الج ــالمي، ألن األم ــريع اإلس ــه التش ــذي تحتم ال عقديتنا، يحصر تفكيرنا بالتشريع اإلســالمي وحــده، وأمــا

اإلسالمي فال يحــق لنــا أن نبحثــه، حــتى وال غير التشريع يقــرأ من أجــل أن نقــرأه. فــإن التشــريع حين يقــرأ إنما

األخذ بما جاء فيه، وليس قراءة متعة ولذة. وحين يبحث فيــه، إنمــا يفعــل ذلــك من أجــل أخــذه، ويجري التفكــير

علينا أن ويحرم علينا أخذ شيء من غير اإلسالم، ويحرم.نأخذ غير الحكم الشرعي

وإذا جــاز لنــا أن نقــرأ وأن نبحث في النصــوص غــيرــة ــة والنصـــوص الفكريـ ــريعية، كالنصـــوص األدبيـ التشـ

نقــرأ أو نبحث والنصوص السياسية، فإنه ال يحــق لنــا أن غير النصــوص التشــريعية اإلســالمية. فالنصــوص األدبيــة

للمتعة واللذة، والنصوص الفكريــة حين إنما تقرأ وتبحث لمــا فيهــا تقرأ نكون قد اتخذنا القاعدة الفكرية مقياســا

132

ــة من أفكار، والنصوص السياسية إنما تقرأ لمعرفة كيفي الخارجيـة. فكلهـا ال يوجـد مـا يمنـع من رعايـة الشـؤون

النصــوص قراءتهــا وبحثهــا ودرســها والتفكــير فيهــا. أما التشريعية فإنها تقرأ وتبحث لألخذ منها. وبما أنه ال يحــل

الحكم الشرعي، فإنه تبعا لذلك، ال يحق لنا أن نأخذ غير.اإلسالمي لنا أن نقرأ أو نبحث أو نفكر بغير التشريع

وإذا كانت األفكار تبنى على العقيدة، فتكون مقياســا وعــدم صــحتها، أي لتعين الموقــف لصــحة هــذه األفكــار

ــام الشــرعية تنبثق ــإن األحك ــرفض، ف ــا لألخــذ أو ال منهــا انبثاقا من العقيدة، أي تستنبط وتؤخذ من العقيدة، فم

حكمــا شــرعيا، كــان وحــده انبثق عن هذه العقيدة وكانــرفض كلــه، ســواء هو الذي يؤخــذ، ومــا ال ينبثــق عنهــا ي

العقيدة أو خالفهــا. لــذلك فإنــا ال نأخــذ مــا يوافــق وافق إســالم ليس غـير. ألن اإلسالم، وإنما نأخــذ فقــط مــا هو

الحكم الشرعي ينبثق عن العقيدة انبثاقا ويؤخذ منها وال عليها، بخالف الفكر فإنــه يبــنى على العقيــدة بنــاء. يبنى

لنــا القــراءة إباحــة فالله تعــالى حين قــال: )اقــرأ( أبــاحــاة أي ــات الحي ــذ معالج ــر بأخ ــه حين أم ــة، ولكن مطلق

حصر األخذ بها وقرنه باإليمان، وجعل األحكام الشرعية، األخــذ من غـيره أخـذا من الطـاغوت، فتكــون النصــوصــون التي جاءت بموضوع التشريع مخصصة للقراءة، فتك

متعلــق بالتشــريع، أمــا إباحة القراءة خاصة بغــير مــا هو التشـــريع، أي األحكـــام والمعالجـــات، فـــإن اإلباحـــة ال

لوجود النصوص الدالــة على عــدم جــواز األخــذ تشملها، اإلسالمي، وال من غيرها. ولذلك فإنا ال نقرأ غير التشريع

133

نبحثه، وال نفكـر فيـه. ومن هنــا فإنـا حين نبحث التفكـير.نبحث التشريع اإلسالمي ليس غير بالتشريع إنما

ــة والتفكير بالتشريع، وإن كان يحتاج إلى معرفة اللغ العربية، واألفكار اإلسالمية، ولكنه يحتاج قبل ذلك وبعــد

والفقــه فيــه، ثم معرفــة الحكم ذلــك إلى معرفــة الواقع الشرعي، ثم تطبيق هــذا الحكم الشــرعي على الواقــع،

انطبق عليــه كــان حكمــه، وإن لم ينطبــق عليــه لم فإنــه. لــذلك يكن حكمــه، فيبحث عن حكم آخــر ينطبق علي

فإن التفكير بالتشريع ال يتــأتى لكــل النــاس، ألنـه يحتــاجــيرة ــور كث ــق إلى أم ــتراكيب، وتتعل ــاظ وال ــق باأللف تتعل

المعلومــات باألفكار التشريعية أي بمعلومات معينــة هيــع الحكم ــع، أي واق ــاج إلى فهم الواق ــريعية، ويحت التش

يســتنبط. فــالتفكير بالنصــوص الــذي يؤخــذ أو الــذي التشــريعية ال يكفي فيــه العنايــة باأللفــاظ والــتراكيبــار كالتفكير بالنصوص األدبية، وال العناية بالمعاني واألفك

الفكريـــة، وال العنايـــة بـــالحوادث كـــالتفكير بالنصـــوص والوقائع والظروف كالتفكير بالنصوص السياســية، وإنماــاني ــتراكيب، والمع ــاظ وال ــة لأللف ــد أن توجه العناي ال ب

التي يــراد أخــذ الحكم لهــا، واألفكار، والوقائع والحوادث دفعــة واحــدة، أي يحتــاج إلى كــل مــا تحتــاج إليــه ســائر

ــير. النصوص لذلك كان التفكير به أكثر صعوبة من التفك واســتنارة في بأي نص آخر، وكــان في حاجــة إلى عمق

ــه ــانت تكفي في وقت واحد. فال يكفي فيه العمق، وإن ك.تكون إال عن عمق االستنارة، ألنها ال

والنصــوص التشــريعية يختلــف التفكــير بهــا بــاختالف التفكير، ألن الغاية من التفكير بالنصــوص الغاية من هذا

134

وإمــا أن التشريعية، إما أن تكون ألخذ الحكم الشــرعي،ــنين. تكــون الســتنباط الحكم الشــرعي، وفــرق بين االث

الشرعي فقط وإن كانت تحتاج فالتفكير لمعرفة الحكم إلى معرفة معاني األلفــاظ والــتراكيب، ولكنهــا ال تحتــاج

ــوم إلى ــة أو عل ــرف، وال متن اللغ ــو والص ــة النح معرف القــراءة باللغــة العربيــة البالغة، وإنما يكفي فيها معرفة

ــة. فقــراءة النص باللغــة العربيــة، ــو لم يعــرف الكتاب ول يقرأ، كافية في طلب معرفة األحكام الشــرعية وفهم ما

األفكـــار من النصـــوص، وهي وإن احتـــاجت إلى معرفةــا يكفي الشرعية أي معلومات سابقة عن الشرع، ولكنه

األولية الــتي تلــزم للمعرفــة، فال فيها معرفة المعلومات تحتاج إلى معرفة علم أصول الفقــه، وال معرفــة اآليــاتــرعي من ــا أن يفهم الحكم الش ــاديث، فيكفي فيه واألح

يلــزم فيهــا معرفــة غيره، من مجرد القــراءة. وكــذلك ال الواقع ما هــو، بــل يكفي أن يعــرف أن هــذا الحكم لهــذا

يقرأ ليعرف حكم لحم العلب ما هو، فإنــه الواقع. فحينــة حــرام، وأن يعــرف أن يكفي أن يعــرف أن لحم الميت

ــذبح ذبحــا شــرعيا. وحين لحم العلب لحم ميتة ألنــه لم ي الكلنيا، أي ما يسمى بالكولونيا، يكفي يقرأ ليعرف حكم

مسكر، وهكــذا. أن يعرف أن المسكر حرام، وأن الكلنيا فإن التفكير في معرفــة الحكم الشــرعي من النصــوص

وجــود معلومــات ســابقة كافيــة الشرعية فإنه يكفي فيه.لتفسير واقع الحكم الذي يبحث عنه

الستنباط الحكم الشرعي، فإنــه ال يكفي أما التفكير إلى معرفة فيه مجرد القراءة حتى يستنبط، وإنما يحتاج

بـــاألمور الثالثـــة، وهي األلفـــاظ والـــتراكيب، واألفكـــار

135

ــه من الشرعية، والواقع للفكــر أي للحكم، معرفــة تمكن ــا ــد أن يكــون عالم ــه. فال ب االســتنباط، ال مجــرد معرفت باللغة العربية من نحو وصــرف وبالغــة.. الخ، وأن يكــون

الفقه، وال بد أن يكــون عالما بالتفسير والحديث وأصول عالما بالواقع الذي يريد استنباط الحكم له. وليس معنى

عالمــا أن يكــون مجتهــدا في هــذه المواضــيع، بــل كونهــام. فهو ــرد إلم ــا مج ــون ملم ــتطيع أن يكفي أن يك يس

يسأل عن معــنى كلمــة وأن يرجــع إليهــا في القــاموس، ــع ويستطيع أن يسأل مجتهدا في النحو والصرف أو يرج

إلى كتاب في النحو والصــرف ليعــرف إعــراب جملــة أوــالم من علمــاء تصــريف كلمــة، ويســتطيع أن يرجــع لع

الحــديث أو يرجــع إلى كتــاب من كتب الحــديث ليعــرف الحديث، ويستطيع أن يســأل عالمــا بــالواقع الــذي يريــد

يرجــع إلى كتــاب يبحث فهمه ولو كان غير مسلم، أو أن هذا الواقــع. فال يعــني كونــه عالمــا أن يكــون مجتهــدا أو

ــرا، ــه من متبح ــا يمكن ــا إلمام ــون ملم ــل يكفي أن يك ب تكــون لديــه االستنباط. وهــذا معــنى كونــه أنــه ال بــد أن

معلومـــات معينـــة، أي معلومـــات كافيـــة لتمكينـــه منــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتنباط .االـس

االستنباط وإن كان يحتاج إلى معلومات أكثر ولذلك فإن الشــرعي، ولكنــه من المعلومات الالزمة لمعرفة الحكم

ال يعني أن يكون مجتهدا في كل واحد من األمور الثالثــة لالستنباط، بل أن يكون ملمــا بمعلومــات كافيــة الالزمة

االستنباط، ومتى أصبح عن هذه األمور الثالثة تمكنه من قادرا على االستنباط فإنه حينئــذ يكــون مجتهــدا. ولــذلك

ر فإن االستنباط أو االجتهاد ممكن لجميــع النــاس وميســ بين يــدي النــاس لجميع الناس، وال ســيما بعــد أن أصــبح

136

ــائع ــالمي، ووق ــرع اإلس ــة، والش ــة العربي كتب في اللغرة ــ ــاة، ميس ــا، الحي ــوع إليه ــاس، يمكن الرج ــع الن لجمي

األحكــام واالستعانة بهــا لالســتنباط. ولــذلك فــإن معرفة الشرعية وإن كانت ميســورة لكــل فــرد، فــإن اســتنباط

فرد، وإن كان يحتــاج الحكم الشرعي كذلك ميسور لكل.إلى معرفة أكثر، أي إلى معلومات سابقة أكثر وأوسع

من قبلنــا قـد ضــيقوا على أنفســهم ســبيل وإذا كــان فكانوا في االجتهاد واالستنباط، واكتفوا بمجرد المعرفة،

ــائع، ولم ــرتهم مقلــدين، وتجــددت الحــوادث والوق جمه تصــميمنا على أن نتقيــد باألحكــام يوجــد لهــا حكم، فــإن

الشــرعية، ونخــوض معــترك الحيــاة على أعلى مســتوى واسع ومنفتح، يحتم علينا، وقد يســرت لنــا كتب وبشكل

إلى مرتبــــة المعرفــــة والعلم، أن نرتفــــع من التقليدــاة باألحكــام ــع شــؤون الحي ــالج جمي االســتنباط، وأن نع

يكلفنـــا إال الحصــول على الشـــرعية وحــدها. وذلــك ال.المعرفة الالزمة لالستنباط

ــرعي ــة الحكم الشـ ــحيح أن معرفـ ــرض عين، صـ فـ واستنباط الحكم الشرعي فــرض كفايــة، ولكن ضــرورة

ــا أن نأخــذ تجدد الوقائع والحوادث، وتحريم اإلسالم علين أي حكم غير الحكم الشرعي، يجعل فرض الكفايــة هــذا

يقل لزوما عن فرض العين. ولذلك ال بد أن يوجــد في ال.المستنبطين والمجتهدين األمة الحشد العظيم من

ومن هذا يتبين أن التفكير بالتشريع، مع كونه أصعب التفكير، ولكنه ألزم أنواع التفكير لألمة اإلســالمية، أنواع

الشــرعي، أو التفكــير ســواء التفكــير لمعرفــة الحكم

137

الســـتنباط الحكم الشـــرعي. إال أن التفكـــير باســـتنباط ال يصح أن يؤخذ بخفة وال أن يؤخذ بهــذا الحكم الشرعي

وأن ال يقدم البساطة، بل يجب أن يؤخذ بعناية واهتمام، عليه أحد إال إذا توفرت لديه المعلومات الالزمة له، وأن

مالحظــا دائمــا مــا يحتــاج إليــه التفكــير بالنصــوص يكون في األمــور الثالثــة التشريعية من وجود معلومات كافية،

ــرعية ــور الش ــة، واألم ــة العربي ــه، وهي: اللغ ــة ل الالزم الواقــع، وانطبــاق الحكم الشــرعي على ومعرفــة حقيقة

ــاق ليس من ــارف ذلك الواقع. وأنه وإن كان االنطب المع الالزمة لالستنباط، ولكنه نتيجـة لصــحة المعرفـة لألمــور

.الثالثة التفكير بالتشريع، وهو أن تكــون المعلومــات هذا هو

ومعلومــات كافيــة التي تربط بــالواقع معلومــات معينــة، لمعرفة حكم الواقــع، أو الســتنباط الحكم لــه. وإذا كــان

ــداؤنا قد ــرى أن أع ــا ن ــات، وجعلون ــوا في المغالط نجح العســل خــرء الــذباب، فنشــمئز منــه ونعــرض عنــه، أي جعلوا الفقه مبغضــا إلينــا ومحتقــرا لــدينا حــتى أعرضــنا

هذه المغالطة، وأن نرى عنه، فإنه قد آن األوان لكشف أن سعادتنا وحياتنا ال تتحقق إال باألحكام الشرعية، أي ال نصل إليها إال بالفقــه، أي إال بمعرفــة األحكــام الشــرعية

غـــير اإلســـالم من تشـــريع واســـتنباطها، ال ســـيما وأنــا كالقانون المدني وغيره إنما هي شرع الطــاغوت، وأنه

.عنه صريح القرآن مما نهاناــوص ــير بالنصـ ــإن التفكـ ــر، فـ ــا يكن من أمـ ومهمـ

بالتشريع اإلســالمي، يختلــف كــل التشريعية، أي التفكير االختالف عن التفكير بأية نصــوص أخــرى، فإنــه إذا كــان

138

ــاج إلى معرفــة األلفــاظ التفكــير بالنصــوص األدبيــة يحت يتكون من هــذه المعرفــة، والتراكيب، وبالتالي إلى ذوق

وإذا كان التفكير بالنصــوص الفكريــة يحتــاج إلى معرفــة الفكـــر الـــذي يـــراد إدراكـــه، وإذا كـــانت في مســـتوى

النصـــوص السياســـية تحتـــاج إلى معرفـــة بالوقـــائعــاج إلى والحوادث، فإن التفكير بالنصوص التشريعية يحت

ــاج إلى جميع ما تحتاج إليه جميع أنواع ــه يحت التفكير. ألن معرفة باأللفاظ والتراكيب، ويحتاج إلى معرفــة شــرعية

مســـتوى الواقـــع الشـــرعي، ويحتـــاج إلى معرفـــة فيق عليهــا الحكم الشــرعي، بالوقائع والحــوادث الــتي يطب

ســـواء لمعرفـــة الحكم أو الســـتنباطه. ومن هنـــا يمكن أكثر صــعوبة من أي تفكــير، القول بأن التفكير بالتشريع

.وأكثر لزوما للمسلمين التفكــير السياســي هــذا هــو التفكــير التشــريعي. أما

فإنه يختلــف كــل االختالف عن التفكــير التشــريعي، وإنــه. ألن ــان من نوع ــة ك ــو لمعالج ــريعي ه ــير التش التفك

مشاكل الناس، والتفكير السياســي هــو لرعايــة شــؤون إال أن هنــاك فرقــا بين التفكــيرين. وكــذلك هــو. النــاس

ــير األدبي يناقض التفكير األدبي كل المناقضة، ألن التفك إنما يعنى باللذة والنشوة باأللفــاظ والــتراكيب، ويطـرب

ــاني وهي ــلوب للمع ــاق باألس ــاظ تس ــوالب األلف في ق تفصــيال: األدبي. أما بالنســبة للتفكــير الفكــري فــإن فيه

فــإذا كــان التفكــير السياســي تفكــيرا بنصــوص العلــوم السياســية، فــإن التفكــير السياســي السياسية واألبحاث

ــدا، فهما ــا واح ــا نوع ــادان يكون ــري، يك والتفكــير الفك متمـــاثالن ومتشـــابهان إلى حـــد كبـــير. إال أن التفكـــير

139

المعلومــات الســابقة في الفكري يشترط فيه أن تكــون مستوى الفكر الذي يبحث، حــتى وإن كــانت ليســت من

متعلقة به. أما التفكــير السياســي فإنــه وإن نوعه ولكن ولكنــه احتاج إلى معلومات ســابقة في مســتوى الفكــر،

يحتــاج إلى معلومــات ســابقة في نفس الموضــوع وال مشــابهة لــه أو ممــا تصــلح يكفي أن تكون متعلقة به أو

ــية لتفسير التفكير. لذلك فإن التفكير بالنصوص السياس.نوع التفكير بالنصوص الفكرية هو من

أمــا إذا كــان التفكــير السياســي تفكــيرا باألخبــار والوقــائع، وربطــا للحــوادث، فإنــه يخــالف جميــع أنــواع

قاعــدة من قواعــده. بــل ال التفكير. وال تنطبق عليــه وال التفكــير، تكــاد تربطــه قاعــدة، ولــذلك هــو أعلى أنــواع

ــير، وأصعب أنواع التفكير. أما كونه هو أعلى أنواع التفك والحوادث، والتفكير بكــل نــوع فألنه هو التفكير باألشياء

من أنواع التفكير، ولـذلك هــو أعالهــا جميعــا. صـحيح أن القاعدة الفكرية التي تبــنى عليهــا األفكــار وتنبثــق عنهــا

التفكير، ولكن هــذه القاعــدة المعالجات هي أعلى أنواع هي نفسها فكر سياسي، وفكــرة سياســية، وإذا لم تكن

سياسية وتفكيرا سياسيا، ال تكون قاعدة صحيحة، فكرة فإنــا حين نقــول إن وال تصلح ألن تكــون قاعــدة. ولــذلك

التفكــير السياســي هــو أعلى أنــواع التفكــير، فــإن ذلــك الفكرية، أي التي تصلح ألن تكون قاعدة يشمل القاعدة

لعدم وجــود فكرية. وأما كونه أصعب أنواع التفكير، فإنهــر قاعدة له يبنى عليهــا ويقــاس عليهــا. ولــذلك فإنــه يحي

ضــا للخطــأ الكثــير، المفكر، ويجعلــه في أول األمــر معرــر بالتجربة ــا لم يمـ ــاء. ومـ ــام واألخطـ ــة لألوهـ وفريسـ

140

ــوادث ــع الح ــع لجمي ــة والتتب ــدوام اليقظ ــية، وب السياس يتمكن من التفكــير اليومية، فإنــه من الصــعب عليــه أن

ــار ــي باألخب ــير السياس ــإن التفك ــذلك ف ــي. ول السياس جميــع أنــواع التفكــير، ويمتــاز عليهــا والوقائع يتمــيز عن

.امتيازا ظاهراــية، ــوص السياس ــالتفكير بالنص ــمل ف ــان يش وإن ك

التفكــير بنصــوص العلــوم السياســية ونصــوص األبحــاث السياســي الحــق، هــو التفكــير السياسية، ولكن التفكير

بنصوص األخبار والوقــائع، ولــذلك كــانت صــياغة األخبــار التي تعتبر نصوصــا سياســية حقــة. وإذا كــان المــرء هي

ــإن عليه ــير السياســي، ف ــد التفك ــير بنصــوص يري التفك األخبار، وال سيما صياغتها وكيفية فهم هذه الصياغة، ألن

ــذي ــو ال ــذا ه ــير ه ــيرا سياســيا، وليس التفك ــبر تفك يعتــية. ألن ــاث السياس ــية واألبح ــالعلوم السياس ــير ب التفك

بالعلوم السياسية واألبحاث السياسية يعطي معلومــات، تماما كالتفكير بالنصوص الفكريـة، ويعطي فكــرا عميقــا

يجعلــه أو مستنيرا، ولكنه ال يجعل المفكر سياسيا، وإنما عالما بالسياسة، أي عالما باألبحــاث السياســية والعلــوم

يصــلح ألن يكــون معلمــا وال يصــلح السياسية، ومثل هذا أن يكون سياسيا. ألن السياسي هــو الــذي يفهم األخبــار والوقائع، ومــدلوالتها، ويصــل إلى المعرفــة الــتي تمكنــه

ــه إلمــام ــالعلوم واألبحــاث من العمــل، ســواء أكــان ل ب السياســـية، أو لم يكن لـــه إلمـــام، وإن كـــانت العلـــوم

ــار السياسية واألبحاث السياسية تســاعد على فهم األخبــد حد ــف عن ــا تق ــذه إنم ــاعدتها ه ــائع، ولكن مس والوقــد الربــط، وال ــوع المعلومــات عن المســاعدة في جلب ن

141

شرطا في التفكير تساعد في غير ذلك. ولهذا فإنه ليس.السياسي

ــرة إال أنه مع األسف الشديد، فإنه منذ أن وجدت فك فصل الــدين عن الدولــة، وتغلب على أصــحابها موضــوع

ــا وأمريكــا، الحــل الوســط، انفــرد الغــرب، نعــني أوروبــية ــ ــوم السياس ــ ــات والكتب في العل ــ ــدار المؤلف ــ بإص

ــاة، واألبحــاث السياســية، على ــه عن الحي أســاس فكرت وعلى أسـاس الحــل الوسـط، وعلى أسـاس الشــكليات

الوســـط، الـــذي وجـــد للتوفيـــق الـــتي تعطي الفكر والمصــالحة. وحين جــاءت الفكــرة الشــيوعية واعتنقتهــا

الدولة الشيوعية، فإنه كان يؤمل أن تخرج أبحاث روسيا أســاس الحــل سياســية على أســاس فكــر ثــابت ال على

الوســط. ولكن مــع األســف، فــإن روســيا ظلت ملحقــة السياســـية واألبحـــاث بـــالغرب، ولـــذلك فـــإن العلـــوم

السياسية ظلت ســائرة في نفس الطريــق، مــع اختالفــا أن في الشــكل ال في ــه يمكنن ــذلك فإن المضــمون، ول

نقــول إن األبحــاث السياســية والعلــوم السياســية الــتي خرجت حتى اآلن هي أبحــاث سياســية ال يطمئن العقــل

يســمى علم إلى صــحتها، وعلــوم سياســية أشــبه بماــها النفس مبنية على الحدس والتخمين فوق كون أساس.هـــــــــــــــــــــــــــو الحـــــــــــــــــــــــــــل الوسط

فإنه حين يجري التفكير في نصــوص هــذه العلــوم لذلكــد أن يكــون المــرء في حالة يقظــة على واألبحــاث، ال ب

األفكار، وفي حالة حذر من االنزالق مــع أخطائهــا، ألنهــا مخالفة للواقع، وأبحاثــا هي غايــة الخطــأ. تتضمن أفكارا

التشــريع الغــربي وإنا مع كوننا نفضل أن تعامــل معاملة

142

ــدرس، ألن فيهــا مــا هــو متعلــق بالتشــريع فال تقــرأ وال ت مثل أنظمــة الحكم. ولكن نظــرا ألنهــا وليس بالسياسة،

فإنـه من نوع األبحاث الفكريـة، وفيهــا أبحـاث سياسـية، من هذه الجهة ال بأس من قراءتهــا ودراســتها ولكن مــع

.اليقظة والحذر بعض األفكــار كنمــوذج لمــا تتضــمنه األبحــاث ولنأخذ

جماعيــة السياســية لــدى الغــرب. فالقيــادة في الغــرب تتمثل في مجلس الــوزراء، وأخــذها الشــرق فجعــل لهــا

الجماعية، وهذا مخالف للواقــع، شكال آخر وقال بالقيادةــني على الحــل الوســط، ألن الملــوك المســتبدين في وب أوروبا كانوا أفرادا، وضــج النــاس من اســتبداد الملــوك،

القيادة، فقالوا إن القيــادة واعتبروا سبب ذلك هو فردية للشــعب ال للفــرد، وجعلوهــا في مجلس الــوزراء. وهــذا

حل وسط، ألن مجلس الوزراء ليس الشعب، وال منتخبا يتــولى قيــادة من الشعب، وألن رئيس الوزراء هو الــذي

ــرد، الوزراء، وبذلك كانت القيادة ليست للشعب، وال للف ومجلس الوزراء، فكــان هــذا النظــام بل لرئيس الوزراء

تكــون حال وسطا بين أن تكــون القيــادة للفــرد، وبين أن للشعب، فهو ليس حال لموضوع القيادة، بل هو مراضــاة

واقع الســير أن القيــادة ظلت للفريقين. وفوق ذلك فإن فردية في جميع أنــواع األنظمــة الديمقراطيــة. فهي في

إما أن يتوالها رئيس الدولــة، كــرئيس الجمهوريــة الواقع فواقع القيادة أنها. مثال، أو يباشرها رئيس الوزراء نفسه

فردية ليس غــير، وال يمكن أن تكــون جماعيــة وال بحــالميت جماعــة من األحوال، وحتى لو جعلت جماعــة أو ســ

143

فرديــة، فإن سير الحكم نفسه يحول القيــادة إلى قيــادة.ألنه ال يمكن أن تكون إال فردية

فالشــعب هــو وعند الغرب جعلت الســيادة للشــعب، الــذي يشــرع، والشــعب هــو الــذي يحكم، والشــعب هــو

التنفيذ. وهذا مخــالف للواقــع، الذي يملك اإلرادة ويملك ومبني على الحل الوسط، ألن الملوك المستبدين كانت

اإلرادة, وكـــان لهم التقريـــر. فكـــانوا هم الـــذين لهم من استبداد يشرعون، وهم الذين يحكمون. وضج الناس

ــبروا ســبب ذلــك كــونهم يملكــون هــؤالء الملــوك، واعت فيملكــون التشــريع ويملكــون اإلرادة، ويملكون التقرير،

الحكم. فقالوا إن الســيادة للشــعب، فهــو الــذي يشــرع، يحكم. فجعلــوا التشــريع لمجلس منتخب من وهو الــذي

ــوزراء، ورئيس ــذ لمجلس الـ ــوا التنفيـ ــعب، وجعلـ الشـــط، ألن مجلس الوزراء، أو لرئيس الدولة، وهذا حل وس

الشــعب، ولكنــه ال يشــرع، النواب وإن كــان منتخبــا من وإنما الذي يشرع هو الحاكم. ومجلس الــوزراء أو رئيس الجمهوريــة هــو الــذي يحكم، وهــو وإن كــان منتخبــا من

فإنــه ليس في الشــعب أو وافــق عليــه ممثلــو الشــعب، ذلك أن الشعب يحكم، وإنما فيه فقط أن الشعب يختار

ــذا ــان ه ــاكم. فك ــإنهم الح ــك ف ــوق ذل ــطا. وف حال وس يصرحون بأن السيادة للقانون، ويعتبرون الحكم الصــالح

هو الذي فيــه الســيادة للقــانون. فكــان هــذا النظــام حال فـإن واقـع الحكم وسطا، ومغالطـة للنفس. وفـوق ذلك

هو غير هذا. فواقع الحكم الصالح هــو أن يختـار الشـعب السيادة للقانون. فال ســيادة للشــعب حاكمه، وأن تكون

.األحوال مطلقا، وال حكم للشعب وال بحال من

144

ــة وعند الغرب أن الحكم شيء، وأن األمــور العاطفي فعنـدهم أن سـلطة الكنيسـة غـير والدينيـة شـيء آخـر،

سلطة الدولة، وأن األعمال العاطفية، من فعل الخيرات والعطف على الفقراء، ومؤاســاة الجــرحى، ومــا شــاكل

على فكــرة فصــل ذلك، ال شأن للدولة فيها. وهذا مبــني الدين عن الدولة، وعلى الحل الوسط، ومخالف للواقع،

المســتبدين كــانوا يتحكمــون في الكنيســة، ألن الملــوك وكانوا ال يقومون بمؤاســاة النــاس من جــرحى ومرضى وفقراء ونحوهم. لذلك ضج الناس. فكان الحــل الوســط

األعمـــال في فصـــل الكنيســـة عن الدولـــة، وفي فصل العاطفية عن الدولة. فنشــأت عنــدهم ســلطة للكنيســة

عنــدهم الجمعيــات الخيريــة، غير سلطة الدولة، ونشأت وجمعيات الصـليب األحمـر ومـا شـاكل ذلـك. ولكن لمـا

الحكم هــو رعايـة شــؤون النــاس كــل النــاس، كان واقع الشــؤون، والدين من الشؤون، واألعمــال العاطفيــة من

ولـــذلك كـــانت الدولـــة تشـــرف على الكنـــائس، ولكن الجمعيــات الخيريــة بأسلوب غــير ظــاهر، وتشــرف على

ــذلك وجمعيات الصليب األحمر، ولكن بأساليب خفية. ول النظريــة مخالفــة للواقــع حقيقــة، وإن كــان كــانت هــذه

.ظاهرا وجود الفصل بين الحكم وغيره ثالثة أفكار كنموذج لخطأ األفكار السياسية التي هذه

الغــرب. وإذا قيــل هــذا تضمنتها األبحاث السياسية لــدى في األفكــار السياســية المتعلقــة باألنظمــة فإنهــا يقــال

األبحاث السياسية المتعلقة باألشياء والوقائع، كذلك في ال يملــك العقــل وهذه وإن كان فيها بعض الحقائق الــتي

الحقيقة، ومملوءةيخالفمغالطة فيها فإنها مملوءة بما

145

ــات ــ ــة. بالمغالطـ ــ ــدثون عن السياسـ ــ فمثال: حين يتحـ ثالثــة أمــور: هي عالقــة االنجليزيــة من أنهــا مبنيــة على

انجلترا بأمريكا، وعالقة انجلترا بأوروبــا، وعالقــة انجلــترا بالــدول الــتي كــانت مســتعمرات لهــا واســتقلت، أو مــا

صحيح، ألنه وصــف يسمى بالكومنولث، فإن حديثهم هذاــه، ولكنهم حين ــة فيـ ــع المغالطـ ــع ال يمكن أن تقـ لواقـ

االنجليزيــة من حيث ســلوكها في يتحدثون عن السياسة المحالفات، وموقفهــا من األصــدقاء أو األعــداء ونظرتها للشعوب واألمم، فإنهم فوق مــا يكــون في حــديثهم من

مخالفــا للواقــع مغالطــات وتضــليل، فإنــه يكــون كــذلكــك في ــل ذل ــل مث ــائع. وق ــداث والوق ــة على األح وجناي

ــة دولة ــة حــديثهم عن أي ــانت دول ــدول، ســواء أك من ال غربية، أو دولة غـير غربيــة، وسـواء أكــان حــديثا تاريخيــا ألمور مضت، أو كان حــديثا عن وقــائع جاريــة، وحــوادث

ــإن لهم من ــام األعين، ف ــع أم ــارة في التضــليل تق المه وتزييف الحقائق، ما يخفى حــتى على بعض المبصــرين.

التفكـــير بـــالعلوم السياســـية واألبحـــاث ولـــذلك كـــان اليقظــة السياســية، أيــا كــانت، ال يصــح أن يكــون إال مع

.والحذر أما التفكــير السياســي بالوقــائع والحــوادث الجاريــة،

الــذي يصــح أن يكــون تفكــيرا سياســيا بمــا فهو التفكــير سياسـيا. تعنيــه هــذه الكلمــة، وهــو الــذي يجعــل المفكر

:وهذا التفكير يحتاج إلى خمسة أمور رئيسية مجتمعة تتبع جميع الوقــائع والحــوادث الــتي فأوال: يحتاج إلى

تقع في العالم، أي يحتاج إلى تتبع جميع األخبــار، ونظــرا الختالف األخبــار من حيث األهميــة وعــدم األهميــة، ومن

146

الواقعة والحادثة أو في سوق حيث الصدفة والقصد في الخــبر عنهــا، ومن حيث االقتضــاب واإلســهاب، فإنــه معــار، ــع األخب المران ومع الزمن يصبح تتبع األخبار، ال لجمي

.في حلقات المعرفة بل لما هو ال بد من معرفته ثانيا: يحتاج إلى معلومات، ولــو أوليــة ولــو مقتضــبة،

ــار، عن ماهية ــدلوالت األخب الوقائع والحوادث، أي عن م تاريخية، أو سواء أكانت معلومات جغرافية، أو معلومات

معلومــات فكريــة، أو معلومــات سياســية، أو مــا شــاكل الوقــوف على واقــع الواقعــة أو ذلك، مما يســتطيع معه

.الحادثة، أي على حقيقة مدلوالت األخبار تجريــد الوقــائع من ظروفهــا، وعــدم ثالثــا: عــدم

تعميمها. فالتجريد والتعميم والقياس الشمولي، هي آفة فهم الوقائع والحــوادث، أي آفــة معرفــة األخبــار. فال بــد

من أن تؤخـذ الواقعــة الحادثـة مع ظروفهــا أخـذا واحـداــا وال بحــال من بحيث ال يفصل بين الحادثة وبين ظروفه

ــه،. األحوال إلى جانب حصر هذه الحادثة بما حصــلت في فال تعمم على كل حادثــة مثلهــا وال يقــاس عليهــا قياســا

شــموليا، بــل تؤخــذ حادثــة فرديــة ويصــدر الحكم عليهــا.أي لهذه الحادثة ليس غير بوصفها حادثة فردية،

رابعا: تميــيز الحادثــة والواقعــة، أي تميــيز الخــبر من طريــق تمحيصــه تمحيصــا تامــا، فيعــرف مصــدر الخــبر،

وزمانهــا، والوضــع الــذي وموقع وقوع الواقعة والحادثــة، حصلت فيــه، والقصــد من وجودهــا، أو من ســوق الخــبر

إيجــاز الخــبر واإلســهاب فيــه، وصــدقه أم عنهــا، ومــدىــه التمحيص. ألن ــا يتناول ــك مم ــير ذل ــه، إلى غ ــذا كذب ه

147

التمحيص هو الذي يوجد التمييز. وبقدر ما يكــون شــامال تمييز لــه. وبــدون التميــيز ال يمكن وعميقا بقدر ما يوجد

ــه يصــبح فريسة ــة أو الواقعــة، ألن أن يأخــذ هــذه الحادث للتضليل أو الخطأ. ولــذلك فــإن التميــيز عامــل هــام في

.سماعه أخذ الخبر، بل مجرد خامســا: ربــط الخــبر بالمعلومــات، وال ســيما ربطــه

الربط هو الذي يؤدي إلى الحكم بغيره من األخبار. وهذا األقــرب للصــواب على الخــبر. فــالخبر إذا كــان متعلقــا بالسياســة الدوليــة، وربــط بالسياســة المحليــة، أو كــان

بالسياســة الدوليــة. أو متعلقا بالسياســة المحليــة وربط كان خبرا اقتصاديا وربــط باالقتصــاد مــع أنــه من األمــور

بألمانياالسياسية ولو كان اقتصاديا، أو كان خــبرا يتعلــق مـع أنـه من األمـور المتعلقـة األلمانيةوربـط بالسياسـة

بأمريكا. فالخبر إذا ربط بغير ما يجب أن يربـط بـه فـإن الخطأ يقع حتما، إذا لم يقع التضليل والخداع. لذلك فإن

بالغ األهمية. وأن يكون هذا ربط الخبر بما يتعلق به أمر الربط على وجهــه الصــحيح، أي بــأن يكــون ربطــا للفهم واإلدراك، ال ربطــا لمجــرد المعرفــة. أي ربطــا للعمــل ال

.للعلم ال بــد من تحققهــا جميعهــا حــتى هذه األمور الخمسة

ــأتى ــتى يت ــية، أي ح ــوص السياس ــير بالنص ــأتى التفك يتــير ــيرة التفك ــور كث ــذه األم ــال إن ه ــي. وال يق السياس

ألن وجــود وصعبة، ومن العسير تحقيقها. ال يقــال ذلــك، هذه األمور ليس بــاألمر الصــعب. ألن المقصــود بهــا هــو

المعرفــة الواســعة، وهي تــأتي مــع مجرد اإللمام وليســع ــق التتب ــأتي عن طري ــة واحــدة، وت ــزمن وليس دفع ال

148

طريــق الدراســة والبحث العلمي. صــحيح أن وليس عنــاعدة على ــثر مس ــون أك ــة والبحث العلمي، تك الدراس القدرة، ولكنها ال تلزم في التفكــير السياســي، وال تلــزم

والمهم في كل ذلك هــو. للسياسي، فهي كمالية وثانوية ــا .التتبع، ومتى حصل التتبع وجدت األربعة الباقيــة طبيعي فاألصـل في التفكــير السياسـي هـو التتبــع، ومـتى وجـد

التتبع وجد التفكير السياسي .طبيعيا على صــعوبته-وعلى ذلــك، فــإن التفكــير السياســي

إنسان، مهمــا كــان تفكــيره، وعلوه- فإنه في مقدور كل ومهما كان عقله، فالعادي والنابغة والعبقري، كــل منهم

مقدوره أن يفكر تفكــيرا سياسـيا، وفي مقــدوره أن في معينة من العقل، وال يكون سياسيا، ألنه ال يتطلب درجة

ــائع ــع الوق ــل يتطلب تتب ــة، ب ــة من المعرف ــة معين درج الجارية، أي تتبع األخبار، ومتى وجد هذا التتبع والحوادث

التتبــع ال يصــح أن يكــون وجد التفكــير السياســي. إال أنــوادث ــال، ألن الحـ ــون متصـ ــا، بـــل يجب أن يكـ منقطعـ

الجارية تشكل حلقــة مترابطــة األطــراف، فــإذا والوقائع الحلقة، فقدت حلقة منها انقطعت السلسلة، أي انفكت

ويصبح في غير مقــدور الشــخص أن يربــط األخبــار وأن الحلقة حلقة أمــرا ضــروريا في يفهمها. ولذلك كان بقاء

التفكير السياسي، أي أن التتبع المتصل شرط أساســي.التفكير السياسي في

والتفكير السياسي ليس خاصا باألفراد، بــل هــو كمــا األفــراد يكــون في الجماعــات، أي يكــون في يكــون في

كالتفكير الشعوب واألمم، فهو ليس كالتفكير األدبي، وال التشــريعي إنمــا يتحقــق بــاألفراد فحســب وال يتــأتى أن

149

فردي، بــل التفكــير السياســي يكون في الجماعات فهو تفكير فــردي وتفكــير جمــاعي، وكمــا يكــون في األفــراد

الجماعات، فيكــون في الشــعوب واألمم كمــا يكون في يكفي يكون في األفراد من حكام وسياسيين، بــل أنــه ال

أن يكــون في األفــراد بــل يجب أن يكــون في الشــعوب واألمم ال يوجــد واألمم. وبــدون وجــوده في الشــعوب

الحكم الصـــالح، وال يتـــأتى وجـــود النهضـــة. وال تصـــلح الرساالت. ومن هنا كان ال بد أن الشعوب واألمم لحمل

يوجــد التفكــير السياســي في الشــعب واألمــة. ذلــك أن الحكم إنمــا هــو للشــعب أو األمــة، وكــامن في الشــعب

إال إذا أعطاه الشــعب واألمة، وال تستطيع قوة أن تأخذه واألمــة، وإذا حصــل اغتصــابه منهــا، فإنــه إنمــا يغتصــب

ــترجاعه لفترة، فإما أن تعطيه فيستمر، أو تصر على اس واألمــة، أو فيطاح بالحكم. ومــا دام الحكم هــو للشــعب

كامن فيها، فإنه ال بد لهــذا الشــعب وهــذه األمــة من أنــه أو ــذلك فــإن يكــون لدي ــديها التفكــير السياســي. ول ل

ــام، ــل الحك ــة قب ــو ضــروري لألم ــير السياســي ه التفكــاد ــرورته إليج ــثر من ض ــتقامة الحكم أك ــروري الس وض

.الحكم األمــة أو الشــعب ثقافــة ومن هنا كان ال بد أن تثقف

سياسية، وأن يكون لديها التفكير السياسي. أي ال بد أن تزود األمــة بالمعلومــات السياســية واألخبــار السياســية،

ــار السياســية، ولكن بشــكل وأن ينمى لديها سماع األخب طـــبيعي ال بشـــكل مصـــطنع، وبإعطائهـــا الصـــحيح من

ــار، حــتى ال تقــع الثقافة السياســية، والصــادق من األخبــانت السياسة ــا ك ــليل. ومن هن ــة للتض ــير فريس والتفك

150

السياسي، هي التي توجد في الشــعب أو األمــة الحيــاة،ــك أي كانت السياسة هي ــدون ذل التي تحيا بها األمة، وب

.تكون جثة هامدة، ال حركة فيها وال نمو الخطـــأ في فهم السياســـة، والضـــالل الـــذي إال أن

ــير ــأتي من التفكـ ــا يـ ــة، إنمـ ــل من فهم السياسـ يحصـ بالنصـــوص السياســـية على غـــرار التفكـــير بالنصـــوص

ر باأللفــاظ. األخــرى من أدبيــة وفكريــة وتشــريعية فيفكــتراكيب كمــا هي. والتراكيب مثال وتفهم هذه األلفاظ وال

ر بالمعاني التي تحويهــا هــذه األلفــاظ والــتراكيب أو يفكر في دالالت هــذه فتفهم هــذه المعــاني كمــا هي. أو يفك

األفكار والمشاعر واألنظمة فتفهم هــذه الــدالالت. وهنــا الضالل، ألن التفكير بالنصــوص السياســية يقع الخطأ أو

ألن. يختلـــف كـــل االختالف عن التفكـــير بـــأي نص آخر الخطأ والخطر في التفكير السياسي إنما يأتي من عدم

ــيز بين النصـــوص ــ السياســـية، وبين غيرهـــا من التمي.النصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوص فالنصــوص السياســية قــد تكــون معانيهــا موجــودة في النصوص، وقد تكــون موجــودة في غــير النصــوص، وقــد

ــاظ ــ ــياغة األلف ــ ــودة في ص ــ ــون موج ــ ــتراكيب تك ــ وال كالمعاهدات مثال، والتصــريحات المســؤولة، وقــد يكــون

بالصياغة، وقد يكون بالدالالت ال بالمعاني في المعاني ال المعــاني واأللفــاظ وال باأللفاظ، وقد يكون ما وراء هــذه

والدالالت، بل قد يكون مخالفــا لهــا أو مغــايرا للنصــوص كلية. فإذا لم يدرك ما يعنيه النص السياسي مما مغايرة

ال يدرك النص وال هو متضمن للنص، أو خارجا عنه، فإنه

151

بحال من األحوال، فيقــع الخطــأ أو الضــالل في التفكــير.السياسي بالنص

ــه من أخطــر األمــور على التفكــير السياســي، ثم إن القيــاس الشــمولي فيــه. فــإن تجريده وتعميمه ودخــول

النص السياســـي ال يفصـــل عن ظروفـــه وال بحـــال منــه من األحوال، فهي جزء منه، وال يصح أن يعمم وال بوج

القيــاس. الوجوه، وال يدخله القياس الشمولي، حــتى والــه نص فإنه عالوة على أن الظروف جــزء من النص، فإن

ــة، فيؤخــذ لتلك ــة معين ــة ليس غــير، فال في حادث الحادث يعمم على غيرها، وال يقاس عليها، ال قياســا شــموليا وال قياسا حقيقيا، بل يجب أن يؤخــذ لتلــك الحادثــة وحــدها.

لذلك كــان التجريــد والتعميم والقيــاس مطلقــا، شــموليا كان أو حقيقيا، تشكل خطر الخطأ وخطــر الضــالل على

السياسي. فقــد يعطي مســؤول تصــريحا فيفهم التفكير ــه شــيء، ثم يعطي نفس التصــريح أو تصــريحا آخــر من

فيفهم منه شيء آخر قد يكون مخالفا له بــل قــد يكــون تصـــريحا عن أمــر مناقضـــا لـــه. ويعطي مســـؤول آخر

حقيقي، أي تصريحا صادقا، فيفهم منه أنه تصريح كاذب التضليل، وقد يعطي تصــريحا كاذبــا فيفهم منــه يراد منه

عناه والكذب أنه تصريح صادق وأن المقصود منه هو ما فيــه هــو أنــه أعطي لإلخفــاء بالكــذب. وقــد يقــام بعمــل

بعمــل على خالف التصــريح، حسب التصريح وقــد يقــام وهكــذا. فــالظروف والمالبســات هي الــتي تلقي الضــوء

ــه، وليس نفس النص على التصريح ــراد من فتكشف ما ي السياســي. ولــذلك فــإن التفكــير السياســي ال يتــأتى أن يكون قريبا من الصــواب إال على هــذا الوجــه، أي إال إذا

152

جعلت الظروف جزءا ال يتجــزأ من النص أو العمــل، وإالــا التعميم ــد عنه ــا، وأبع ــة بمفرده ــل حادث ــذت ك إذا أخ

.والقياس ولقــد عــانت األمــة اإلســالمية من ســوء التفكــير

والـــويالت. فالدولـــة السياســـي الكثـــير من المصـــائبــرن ــا في الق ــا تحاربه ــانت أوروب ــة مثال، حين ك العثماني

إنما كانت تحاربها في األعمــال السياســية التاسع عشر، وقعت أكــثر منهــا في األعمــال العســكرية، وإنــه وإن

أعمـــال عســـكرية ولكنهـــا كـــانت مســـاعدة لألعمـــال.السياسية

يسمونه بمشكلة البلقان، هي مشــكلة فمثال ما كانواــأعلنوا أن دول ــة بالتصــريحات، ف ــدول الغربي ــا ال خلقتهــانيين، أي من ــ ــ ــرر من العثم ــ ــ ــان يجب أن تح ــ ــ البلق

ســـيحاربون المســـلمين. ولكن لم يكونـــوا يعنـــون أنهم الدولة العثمانية، وإنما كانوا يعتمدون على إيجاد القالقل

البلقــان، فجــاءوا بفكــرة القوميــة واالضــطرابات في بـالثورات. والتحرر. فأخذها البلقانيون، وأخـذوا يقومـون

فكانت الدولة العثمانية تقوم بعمليات عسكرية ضد هذه األخرى، وتحــاول استرضــاء الدول الثورات مراعية وضع

الدول األخرى، مع أن هذه الدول األخرى هي التي كانت تسند الثورات، وهي التي كــانت تــوهم العثمــانيين، وهي

ــورات، من أجــل أن التي كانت تجعلهم يشتغلون ضد الثــورات. ــواهم، ال قضــاء على الث ــا لق ــون عملهم إنهاك يك

نتيجة خطأ الدولة العثمانية، وضاللها في وهكذا كان من الحقتها فكرة التفكير السياسي، أن خسرت البلقان، ثم

153

ــا القضــاء ــا، حــتى قضــت عليه ــة في عقــر داره القومي.المبرم

روسيا أو االتحــاد الســوفياتي، فإنهــا قــد وهذا بخالف وقعت في نفس المشـــكلة في أوروبـــا الشـــرقية في الخمسينات. فإن أمريكا نــادت بتحريــر أوروبــا الشــرقية

بــالتحرير، وأخــذت تســند من الشيوعية، وأخــذت تنــادي هذه الدول والشعوب سرا وعلنا. ولكن روســيا لم تقــف

العثمانيين، وعــرفت أن فكــرة التحريـر هــذه هي موقف ولذلك لم تهــادن حرب ضد روسيا أو االتحاد السوفياتي،

أمريكــا، وإنمــا اتخــذتها العــدو األول، ولمــا قــامت ثــورة ســحقتها ولم تجعــل لهــا أي منفــذ للنجــاح. ولمــا بولونيا

وشــددت قبضــتها ثارت بلغاريا سحقتها دون أيــة رحمــة،ــا الحديدية على أوروبا الشرقية، واستعدت لحرب أمريك

ــا إذا هي تحركت ــا، مم إلسناد أوروبا الشرقية سرا وعلن اضــطرت أدى إلى إخفــاق أمريكــا إخفاقــا ذريعــا، حــتى

أمريكا بعد إخفاقهــا وإدراكهــا موقــف روســيا السياســيــازل ــي، أن تتنـ ــا السياسـ ــة وفهمهـ ــرة محاربـ عن فكـ

ــع ــات م ــد اتفاقي ــيا، إلى عق ــعاف روس ــيوعية وإض الش كــل ذلـك ليس ناتجــا عن قـوة. روسـيا، والتعــايش معها

روسيا، وإنما ناتج عن التفكــير السياســي الصــحيح لــدى.االتحاد السوفياتي

ــا أن ــرائيلومثال حين رأت أمريك ــاإس ــتي أقامته ال تفلت من يدها، وتكــاد انجلــترا تســترجع هــذه دولة، تكاد

كيــان آخــر إلىإســرائيلالبالد بتحويل ما يســمى بدولــة ــر ــك في أواخ ــا ذل ــطين، حين رأت أمريك ــمى فلس يس

فلسطين اســم مشــكلة الستينات، أطلقت على مشكلة

154

الشرق األوسط، وصارت تقوم باألعمال السياسية التي تتــولى المشــكلة وحــدها. وصــارت تتخــذ تمكنهــا من أن

ــكلة، وســيلة لتعقيد ــل المش ــرة ح ــالم، وفك ــة الس كلم المشكلة. وهكذا استمرت في التضليل السياســي حــتى

أحضانها، وصارت تتبع ارتمى كل من العرب واليهود في أسلوب المغالطة، وأسلوب التضــليل حـتى أنهكت قـوى

واليهــود، فــاتجهت ال إلى حـل المشــكلة، كل من العربــة بل إلى نقل المنطقة من حالة اضطراب، وتسميه حال

ــك حرب، إلى حالة هدوء نسبي وتسميه حالة سالم. وذل تركــيز المنطقــة على لكي تتمكن على مهل وبهدوء من

الوضع الذي رسمته لها، حـتى تطـرد االنجلـيز نهائيـا من وتنفــرد وحــدها في الســيطرة وبســط النفــوذ المنطقة

بدولــة على المنطقة كلها، عن طريق تقويــة مــا يســمىــرائيل ــرقإس ــكلة الش ــمى بمش ــا يس ــان م ــذلك ك . وب

بســواء، وكمــا وقــع األوسط مثل مشكلة البلقــان ســواء العثمانيون وأهــل دول أوروبــا الجنوبيــة في الشــرك من

ــليل ــراء التض ــود في ج ــرب واليه ــع الع ــي، وق السياس الشــرك نفســه. وإذا لم يوجــد التفكــير السياســي لــدى المسلمين اليــوم إلدراك مشــكلة الشــرق األوســط كمــا

ــا الشــرقية، ــإن مصــير أدركت روســيا مشــكلة أوروب فــل مصــير البلقــان ســواء الشــرق األوســط ســيكون مث

.بسواء هــو الــذي يــدمر الشــعوب فســوء التفكــير السياسي

واألمم، وهو الــذي يهــدم الــدول أو يضــعفها، وهــو الــذي نعتاق من ربقــةإالشعوب المستضعفة وبين ال يحول بين

المنحطــة وبين ســتعمار، وهــو الــذي يحــول بين األممإال

155

النهوض. ولــذلك فــإن التفكــير في النصــوص السياســية ونتائجــه فظيعــة أو عظيمـة. وأخطــار أمر بــالغ األهميــة،

بد الخطأ أو الضالل فيه، أخطار مدمرة. ومن هنا كان الــوق ــة تف ــالتفكير السياســي، عناي ــة ب ــة الفائق من العناي

ضـروري للشــعوب ضـرورة العناية بأي تفكــير. ذلـك أنه.الحياة

إال أن التفكير السياسي، وإن كان من أصــعب أنــواعــراد التفكير وأعالها، فإنه ال يكفي فيه أن يكون تفكير أف

ــا فقط، فإن األفراد ال قيمة لهم مهما كثر عددهم، ومهم كان تفكيرهم سليما أو عبقريا. فإن التضليل في التفكير السياسي إذا تمكن من الشعب أو األمة، ال تنفــع تجاهــه

ــراد، وال قيمة ــات األفـ ــير عبقريـ ــريين في التفكـ للعبقـــة ــان عبقري ــا ك ــددهم، ومهم ــان ع ــا ك السياســي، مهم

الضــالل إذا تمكن من الشــعب أو األمــة تفكــيرهم. فــإن جرف تياره كل شيء، ووقعت األمــة أو الشــعب فريسةــون لقمــة سهلة لهذا التضليل، وكانت هي ومعها العبقري

مصــطفى كمــال في سائغة يلتهمها األعــداء. ومــا نجــاح هدم الدولة اإلسالمية وإزالــة الخالفــة في أوائــل القــرن

الناصـــر في الميالدي، ونجـــاح جمـــال عبد العشـــرينــرن، في الحيلولة ــذا الق ــتينات من ه ــينات والس الخمس دون تحــرر العــرب، وقــد كــانوا عقب الحــرب العالميــة

حيــة على أن ســوء الثانيــة متحفــزين للتحريــر، إال أمثلة التفكــير السياســي إذا اجتــاح الشــعوب واألمم، فإنــه ال

عبقرية العبقريين، ما داموا أفــرادا، ولــو بلــغ تنفع تجاهه.عددهم اآلالف

156

لذلك فإن سوء التفكــير السياســي ال يشــكل خطــرا .على األفراد، وإنما يشكل خطــرا على الشــعوب واألممــدى ــي ل ــالتفكير السياس ــة ب ــد من العناي ــا ال ب ومن هن

ــة تفــوق كــل شــيء صــحيح أن .الشــعوب واألمم، عنايــديهم في التفكير السياسي، إذا وجد عند األفراد وسار ل

بهم أن يوجد التفكير السياسي الطريق المستقيم يمكن الذي يقف في وجــه األعــداء، ويكشــف تضــليلهم، ولكن

إنما يتأتى إذا انتقل تفكير هؤالء األفراد إلى الشعب هذا األمة كما هــو عنــد األفــراد، وإذا أو األمة، وإذا أصبح عند

فيصــبح انتقل إلى أن يكون تفكير األمة ال تفكير األفراد، هؤالء األفراد جزءا من األمة ال أفرادا، وتكون األمة كلهــا

.وليس أفــــــــــــرادا منها أمــــــــــــة مفكــــــــــــرة وإذا لم يتحول التفكير الفردي إلى تفكــير جمــاعي، ولم

تفكير األفراد تفكــير أمــة ال تفكــير أفــراد، فإنــه ال يصبحــير، وال قيمة ــذا التفك ــير قيمــة له ــراد. فتفك ــؤالء األف له

األفـــراد السياســـي ال يقـــوى على الوقـــوف في وجـــهمت األعداء، وفي وجه تضليلهم، مهما كــثر عــددهم وســ

ــير ــو تفك ــف في وجههم ه ــذي يق ــا ال ــاتهم، وإنم عبقري الشعوب واألمم، أي هو التفكير السياســي الــذي يكــون

.عند الشعوب واألمم األفراد العباقرة، هم أناس عاديون، مثلهم صحيح أن

أي إنســان مثل باقي الناس، ال يتميزون بإنســانيتهم عن عادي، والناس ينظرون إلى هؤالء األفراد نظــرة عاديــة،

تشاهد وال تلمس، وال يحس بها. ولذلك فإن عبقريتهم الـرى فيهم في فإنهم حين تتحرك عبقريتهم وينتجـون، ال ي

أول األمر أية ميزة، وال يدرك في إنتــاجهم أي تفــوق وال

157

كــانوا مثقفين فــإن مثلهم كثــيرين أيــة عبقريــة. فهم إن األذكياء. مثقفون، وإن كانوا أذكياء فإن مثلهم الكثير من

فــإذا لفت النظــر إلى أفكــارهم، فإنمــا يلفت النظــر من يقبلون على إنتــاجهم، ليكونــوا مثلهم، قبل أفراد آخرين،

مجتمعهم أو ليســاعدهم هــذا التفكــير على االرتفــاع في وفي وسطهم، أو التخاذه وسيلة لتحقيق مآرب شخصية

ــة. وإذا ظل ــ ــات أناني ــ ــل إلى أو غاي ــ ــذلك ولم ينتق ــ ك الجماعات، فإنه يبقى فرديا مهما كثر األفراد المفكــرون

التفكير، ولو كان تفكيرا فريدا يقبله كل من ذاقه أو هذا التفكير السياسي، ويصــبح عرفه. ولذلك فحتى ينفع هذا

قادرا على الوقــوف في وجــه األعــداء، ال بــد أن يتحــولــة، ومن إلى ــة الفردي تفكــير جمــاعي ويخــرج من قوقع

وانتقــل شرنقة العزلة. فإذا تحــول إلى تفكــير جمــاعي، إلى الشعب أو األمة، فقد وجدت القــوة الــتي تقــف في

البــذرة القويــة الــتي تبنت شــجرة وجه األعداء، ووجدت.النهضة

التفكــير هذا هو التفكــير السياســي الــذي ينفــع، وهوــير الشــعب ــو تفك ــردي، أي ه ــير الف ــاعي ال التفك الجم

حتى لو كانوا من العبقريين. واألمة، وليس تفكير األفرادــي، ويجب ــف السياس ــة التثقي ــف األم ــذلك يجب تثقي ل

األمــة وتعليمهــا على التفكــير السياســي، حــتى تمــرين وليس تفكــير يكون التفكــير السياســي هــو تفكــير األمة

.األفرادــالعلوم ــير ب ــو تفك ــير السياســي. فه ــو التفك ــذا ه ه

واألبحـــاث السياســـية، وتفكـــير بـــالحوادث السياســـية قيمة له، السياسية والوقائع السياسية. والتفكير األول ال

158

وال يزيـــد عن مجـــرد المعرفـــة لألفكـــار. أمـــا التفكـــير ينفع ويفيد، وهو الذي يكــون لــه السياسي فإنه هو الذي

ــه إن جــاز التفكــير ــذلك فإن ــأثير عظيم. ول ــاهر وت ــر ب أث السياســي في العلــوم السياســية واألبحــاث السياســية،

ــإن وكانت منه فوائد لألفراد من العلماء في السياسة، ف التفكير في الوقائع والحــوادث، هــو واجب على الكفايــة

باألمة، ال سيما على الذينإليجادهيعمل لألمة، يجب أن المتعلمين أو لديهم مثل هــذا التفكــير، ســواء أكــانوا من

.غير المتعلمين:وبعد

فهذه لمحة مــوجزة عن موضــوع التفكــير، من حيث هو تفكير، نقدمها لألمة اإلســالمية، لعــل دراســتها توجــد

ينقلهــا هــذا التفكــير إلى أن التفكير في هذه األمة، حتى تعود خير أمــة أخــرجت للنــاس، ال ســيما بعــد أن مضــى

األمة عشــرة قــرون وهي بعيــدة عن التفكــير، على هذه.وإن حاولت هذا التفكير عدة مرات

األمـــة اإلســـالمية قـــد بليت في القـــرن الرابـــع إن في األمــة، الهجري بعلمــاء عملــوا على تعطيــل التفكــير

ونادوا بخطر التفكير على األمــة، وضــرره على اإلســالمــك حين ــل والمســلمين، وذل قــام رهــط من العلمــاء مث

ــاب ــال ب ــادوا بإقف ــال، ون ــالم المشــهور باســم القف العــاد، ــاس االجته ــوا الن ــاد، وأقنع ــع االجته ــوا على من وعمل

ــوا بخطر االجتهاد. فصدق المسلمون هذه الدعوة، وعمل بها، وتحرج العلماء من االجتهــاد، وخــاف المفكــرون من

يكــون هنــاك مجتهــدون. وقــد االجتهاد، وكره النــاس أن

159

تبنى الرأي العام في جميع أقطــار اإلســالم هــذا الــرأي. تعطل التفكــير، ووقــف النــاس عنــد حــد التقليــد، وبذلك

االجتهاد. فكان وألغوا عقولهم، ولم يعودوا يجرؤون علىــا يكــون في هــذا المنــع لالجتهــاد، والتفكــير أعاله إنم

ذلــك إلى وقــف التفكــير لــدى النــاس، اإلســالم، فــأدى حيوان وا هذا التعطيل للتفكير. واإلنسان بطبعهأواستمر

ــرن، كسول، لذلك وقفت األمة عن التفكير حتى هذا الق فسلخت عشرة قرون وهي القرن الرابع عشر الهجري،

معطلــة التفكــير. ولــذلك ليس من الســهل على أمــة من عمرهــا وهي معطلـة التفكــير، سلخت عشرة قرون

أن يتحرك فيها التفكير وأن تفهم عن وعي قيمة التفكير وقيمة المفكــرين. ولــذلك فــإن ماليين الكتب مثــل هــذا

للتفكــير، وأن تســوقها الكتاب، ال تضمن أن تحرك األمة.سجية من سجاياها ألن تجعل التفكير

الــتي تســحق األمــة ســحقا، ولكن األحداث الموجعة وتمعسها معسا، فإنهــا صــارت تبعث األمــل في أن يجــد

سبيله لألمة، ال سيما بعد أن وجد فيها جماعــات التفكير أن تحقق فيها آالف تفكر، وجماعات تحاول التفكير. بعد

ــرين ال ــ ــاروا مفك ــ ــير، وص ــ ــديهم حب التفك ــ د ل ــ ــ تجس حتى غدوا تفكــيرا يحيــا ويتحــرك يستمرئون غير التفكر،

وينمو. لــذلك فــإن ضــخامة األحــداث وفظاعتهــا، وكــونــي في د في أشخاص حتى غدا تفكيرا يمش التفكير تجس

األسواق بين النــاس، فــإن هــذين األمــرين يوجــدان أمال مشرقا في أن ينتقل التفكير من األفراد إلى الجماعات،

يصــبح تفكــيرا جماعيــا ال تفكــيرا فرديــا، وأن يكــون وأن

160

فتصبح األمة اإلسالمية أمــة تفكير األمة ال تفكير األفراد،.مفكرة، وتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس

هـ1393صفر سنة من 8

مـ 1973من آذار )مايس( سنة 12

161