الولاء والبراءsite.iugaza.edu.ps/jhoobe/files/2010/02/الولاء... · web view8-...

72
ولاء ل ا راء لب وا ي ف( وء ض ن را لق ا) م ي ر لك ا# ث ح ب دم ق م ى ل- ا لة ج م مة ك ج ل ا ور ت ك لد ل مال ج/ ود م ح م مد ح م ى ب و ه ل ا اد ت سG اH ارك# ش م م س ق ب ر سب ق ت ل ا وم ل ع و ن را لق ا ي ف ة ي ل ك ول ضG ا ن ي الد عة ام ج ل ا ب ة ي م لا س- لا ا ة ر غ1430 ه- 2009 م

Upload: others

Post on 02-Mar-2020

8 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

الولاء والبراء

الولاء والبراء

(في ضوء القرآن الكريم)

بحث مقدم إلى مجلة الحكمة

للدكتور / جمال محمود محمد الهوبي

أستاذ مشارك بقسم التفسير وعلوم القرآن

في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية – غزة

1430هـ - 2009م

بسم الله الرحمن الرحيم

ملخص البحث

الولاء والبراء في ضوء القرآن الكريم

تناول هذا البحث عقيدة مهمة وخطيرة جداً من عقائد المسلمين ، بها يتحقق الإسلام والإيمان ، وبدونها تكون الردة والخطايا والآثام ، وكثير من المسلمين يجهلون المعلومات التفصيلية عنها ، وبعضهم أعطى ولائه للكفار .

وقد تناول البحث موضوع (الولاء والبراء) بالدراسة الموضوعية القرآنية ، المبنية على الاستدلال والتحليل والاستنباط والترجيح ودقة الربط والعرض والنتائج .

وقد فصّل المبحث الأول معنى وحكم الولاء والبراء ، وبين المبحث الثاني حقيقة الولاء والبراء ، وفصل مظاهره المشروعة لله ورسوله والمؤمنين ، ووضح المبحث الثالث مظاهر الولاء للكفار ، والأعذار في الولاء والبراء ، وقد أثبت البحث أن المسلمين لو طبقوا عقيـدة الولاء والبـراء لتغيـر وجـه الأرض ، ولتغير مجرى التاريخ ، ولصاروا في أحسن حال .

In the name of God the Merciful

Abstract

Loyalty and Enmity in the light of the Quran

This research dealt with the doctrine of a very serious and important doctrines of the Muslims, Islam and achieved by faith, without which apostasy, sins, and sins, and many Muslims are ignorant of the detailed information about, and some of them gave his loyalty to the infidels.

The discussion dealt with the subject (loyalty and disavowal) substantive study of the Koran, based on reasoning and analysis and inference and weighting and accuracy of the binding and presentation and results.

The separation of the first part, and the rule of the meaning of loyalty and disavowal, and the second part, the fact of loyalty and disavowal, separation of legitimate manifestations of God and His Messenger and the believers, and the third part, broad expressions of allegiance to the infidels, and excuses: loyalty and repudiation, Research has proved that Muslims had applied the doctrine of Loyalty and Enmity to change the face of the earth, and to change the course of history, and became the best.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ( ، أما بعد :

أولاً : أهمية البحث :

تتمثل أهمية البحث في تعريف المسلمين بعقيدة الولاء والبراء المهمة والخطيرة ، التي بها يتحقق الإسلام والإيمان ، وبدونها تكون الردة والخطايا والآثام ، وذلك بالعلم المبني على الأدلة من القرآن والسنة والمعزز بأقوال العلماء وذلك بتوضيح المعنى والحكم والحقيقة والمظاهر والأعذار .

ثانياً : أهداف البحث :

1- وجوب وضرورة العلم بعقيدة الولاء والبراء ، وفي هذا إرضاء لله ( .

2- بيان وتوضيح وتفصيل عقيدة الولاء والبراء لأهميتها وخطورتها دينياً وواقعياً دنيوياً .

3- توجيه المسلمين إلى وجوب الولاء لله ورسوله والمؤمنين ، وفي هذا سعادتهم دنيا وآخرة .

4- تحذير المسلمين من الولاء للكفار ، وفي هذا شقاؤهم دنيا وآخرة .

5- إثبات أن تطبيق عقيدة الولاء والبراء يغير وجه الأرض ، ومجرى التاريخ ، وحياة المسلمين للأفضل .

ثالثاً : منهج البحث :

تناول الباحث موضوع (الولاء والبراء في ضوء القرآن الكريم) بالدراسة الموضوعية ، والمنهج الوصفي التحليلي المبني على : الاستدلال والتحليل ، ودقة الربط والترجيح ، وعمق الاستنباط ، وحسن التطبيق .

رابعاً : خطة البحث :

ولتحقيـق أهداف البحث وفائدته جعلته في ثلاثة مباحث وخاتمة وفهرس كما يلي :

المبحث الأول : معنى الولاء والبراء والحكم .

المطلب الأول : معنى الولاء والبراء .

المطلب الثاني : حكم الولاء والبراء .

المبحث الثاني : حقيقة الولاء والبراء ومظاهره المشروعة .

المطلب الأول : حقيقة الولاء والبراء .

المطلب الثاني : مظاهر الولاء لله ( .

المطلب الثالث : مظاهر الولاء للنبي ( .المطلب الرابع : مظاهر الولاء للمؤمنين .

المبحث الثالث : مظاهر الولاء للكفار والأعذار .

المطلب الأول : مظاهر الولاء للكفار . المطلب الثاني : الأعذار في الولاء والبراء .

الخاتمة : أهم النتائج والتوصيات .

فهرس المصادر والمراجع .

تأليف : د. جمال محمود الهوبي

المبحث الأول

معنى وحكم الولاء والبراء

المطلب الأول : معنى الولاء والبراء :

أولاً : معنى الولاء :

أ- معنى الولاء لغة :

الوَلْيُ : الواو واللام والياء أصلُ صحيحٌ ، وهو المصدر ، ويدل على : القرب والدنو والمحبة والنصرة ، وله اشتقاقات كثيرة منها :

وَلِيَ : الفعل ، والاسم المفرد : وليّ ، والمثنى : وليّان ، والجمع : أولياء وأولية .

الموالاة : المحبة ، وهي ضد المعاداة .

الوَليةُ والتّولِّ والولاء والوِلايَة والوَلاية والوَليُ : كلها بمعنى القرب والدنو والنصرة .

الوليُّ : ضد العـدو وهـو المحب والناصر ، والنصير ، والصديق ، والتابع ، يقال : تولاه .

المولى : ويطلق على الرب والسيد والناصر والمحب والمنعم والمُعتِق والمُعتَق والصاحب والحليف وابن العم والجار ، وكلها تقوم وتدل على : القرب والدنو والمحبة والنصرة () .

قال الراغب الأصفهاني : "ولي : الوَلاء والتوالي : أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهمـا ، ويستعار ذلـك للقـرب من حيـث المكان ، ومن حيـث النسبة ، ومن حيـث الديـن ، ومن حيـث الصداقـة والنصرة والاعتقاد ، والولاية : النصرة" () .

(قلت) : من خلال هذه المعاني اللغوية يتبين للباحث أن الولاء في اللغة يأتي على معاني متعددة منها : القرب والدنو والمحبة والنصرة والصداقة والإتباع والتحالف بين اثنين فأكثر ، أو جماعتين فأكثر ، وقد يكون في الخير ، وقد يكون في الشر .

ومما ينبغي التنويه إليه أن كثيراً من هذه الاشتقاقات ومعانيها اللغوية ورد في القرآن الكريم ، كقوله تعالى : [وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ...] {مريم:5} .

ب- معنى الولاء شرعاً :

لتحديد معنى الولاء شرعاً لا بد من تفصيل الحديث عنه كما يلي :

1- معنى الولاء لله ورسوله والمؤمنين :

يقول القرطبي : " [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ] {المائدة:56} أي : من فوض أمره إلى الله ، وامتثل أمر رسوله ، ووالى المسلمين فهو من حزب الله" () .

ويقول ابن كثير : "فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ، ومنصور في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى في الآية الكريمة : [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...]" () .

ويقول د. محمد ياسين : "فاعلم أن هذا اللفظ ]الموالاة[ مشتق من الولاء ، وهو الدنو والتقرب ، والولاية ضد العداوة ، والولي عكس العدو ، والمؤمنون أولياء الرحمن ... لقرب الفريق الأول ]المؤمنين[ من الله بطاعته وعبادته ..." () .

ويقول د. نسيم ياسين : "فالولاء في الله تعالى هو : محبة الله ونصرة دينه ، ومحبة أولياءه ونصرتهم ، والبراء هو : بغض أعداء الله ومجاهدتهم () .

(قلت) : ويرى الباحـث أن الولاء والموالاة والولايـة بمعنى واحد وهو : التقرب إلى الله ( والنبي ( والمؤمنين بالمحبة والنصرة والطاعة وغير ذلك من مظاهر الولاء .

2- معنى الولاء للكفار :

الولاء للكفار اصطلاحاً هو : القرب والدنو منهم ، وإظهار الود لهم بالأقوال والأفعـال والنوايـا كنصرتهـم ، ومحبتهـم ، ومعاضدتهم ، والتعاون معهم ، ومحالفتهم ،

ومعاشرتهم () .

(قلت) : ويخلص الباحث إلى أن المعاني اللغوية والشرعية للولاء متقاربة جداً ، ووجهة الولاء للحق أو الباطل هي التي تفرق بين تلك المعاني .

ثانياً : معنى البراء :

أ- معنى البراء لغة :

البرء : الباء والراء والهمزة أصل صحيح إليه ترجع فروع الباب ، وهو المصدر ، والبراء والبرئ سواء ، وهو عكس الولاء ، ويدل على التبرؤ والتخلص والتنزه والتباعد والتنصل والتزايل وغير ذلك .

والفعل منه : برأ ، ويقال للمذكر : برئ ، والأنثى : بريئة ، والمثنى بريئان وبريئتان ، والجمع : برءاء وبريئون ، وبريئات وبرايا .

وقوله تعالى : [بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ...] {التوبة:1} أي : إعذار وإنذار وتنزه () .

ب- معنى البراء شرعاً :

(قلت) البراء هو : التبرؤ والتخلص والتنزه والتباعد والتزايل والتنصل من الكفر والكافرين ، بعد إعذارهم ، وإنذارهم إلا ما خصه الله ( من معاملات خاصة بأهل الذمة ونحوهم ، لقوله تعالى : [لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الممتحنة:8} وسيأتي بيانه .

المطلب الثاني : حكم الولاء والبراء :

أولاً : حكم الولاء لله ورسوله والمؤمنين :

الولاء لله ( ولرسوله ( وللمؤمنين الملتزمين شرعه القويم ، فرضٌ وواجبٌ () بالقرآن والسنة وإجماع الأمة ، بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة .

فأما من القرآن ، فالأدلة كثيرة ومتضافرة :

1- منها قوله ( : [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] {المائدة:55} .

(قلت) : فالآية الكريمة فيها أمرٌ بصيغة الخبر ، أي : يجب عليكم أيها المؤمنون أن تعطوا ولائكم للمذكورين في الآية ، أي : وَالُو المذكورين في الآية ، و(إنما) في اللغة العربية أداة حصرٍ وقصر ، أي : لا ولاء في الإسلام إلا لله ( ورسوله ( والمؤمنين الملتزمين شرعه القويم ، وعبر بالمضارع بدل الماضي في قوله : [... الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ...] ، وقوله : [وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {التوبة:71} ليدل على أن المؤمنين الذين نواليهم هم الثابتون والمستمرون والمحافظون على إقـام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله ( ورسوله ( .

وقال الرازي : "أمر في هذه الآية بموالاة من يجب موالاته ، وقال : [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ...] أي المؤمنون الموصوفون بالصفات المذكورة" () .

وقال الكلبي : "ذكر الوليّ بلفظ المفرد إفراداً لله تعالى بهما ، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على سبيل التبع ، ولو قال إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصل وتبع" () .

2- ومنها قول الله ( : [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ] {المائدة:56} .

وأما من السنة فالأحاديث كثيرة ومنها :

1- قول النبي ( : (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله) () .

2- وما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله ( بايعه على أن : (تنصح لكل مسلم ، وتبرأ من الكافر) () ، وفي رواية : (... والنصح لكل مسلم وعلى فراق المشرك أو كلمة معناها) () .

وأمـا الإجمـاع فهـو منعقـد علـى ذلـك ، بل هـو مـن المعلـوم مـن الديـن بالضرورة .

ثانياً : حكم الولاء للكفار :

الولاء للكفار حرامٌ بالقرآن والسنة وإجماع الأمة ، وهو كبيرة من أكبر الكبائر ، بل هو عند جمهور من العلماء كفرٌ بعد إيمان ، وردة بعد إسلام .

فأما من القرآن فالآيات كثيرة ومتضافرة :

1- منها ما تعلق بالولاء لأهل الكتاب كقوله ( : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {المائدة:51} ، (قلت) : فالآية الكريمة تدل على أن الذي يتولى اليهود فهو ظالم من اليهود ، والذي يتولى النصارى فهو ظالم من النصارى ، والذي يتولاهما معاً فهو ظالم منهما معاً ، أي : من تعدادهما وجملتهما ، وهكذا بقية أصناف الكفار .

2- ومنها ما تعلق بالولاء للمشركين الوثنيين ، كقوله ( : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {المائدة:57} ، ذهب المفسرون إلى أن المراد بقوله : (الذين أوتوا الكتاب) هم اليهود والنصارى ، والمراد بقوله : (والكفار) هم المشركون كمشركي العرب () .

3- ومنها ما تعلق بالولاء للطاغوت ، قال تعالى : [اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:257} ، والمراد بالطاغوت : "يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله" () ، أي : كـل ما عبد من دون الله من شجر أو حجر أو كوكب أو إنس أو جن ، أو ملك أو حيوان ... الخ .

4- ومنها ما تعلق بالولاء للظلمة كالمنافقين ، قال تعالى : [... وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ] {الجاثية:19} ، والمراد بالظالمين : قال ابن عباس وابن زيد : "يريد أن المنافقين أولياء اليهود" () .

(قلت) : والظالم يشمل الذي يتبع غير المنهج الحق ، ويخاصم أهل الحق ، فهو ظالم لنفسه وغيره ، وأمثال هذا يوالي بعضهم بعضاً ، والله أعلم .

5- ومنها ما تعلق بالولاء للشياطين والجن الكفار ، قال تعالى : [... وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا] {النساء:119} ، وقال : [وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ...] {الأنعام:128} ، ومن المعلوم أن سلطان الشيطان على أوليائه وليس على أولياء الرحمن ، لقوله ( : [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * ِإنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ] {النحل: 99-100} .

6- ومن النصوص القرآنية التي يدل ظاهرها على كفر وارتداد من يوالي الكفار قوله ( : [لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ...] {آل عمران:28} ، قال الطبـري فـي تفسـير الآية : "ومعنى ذلك : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار طهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتدلونهم على عوراتهم فإنه (من يفعل ذلك فليس من الله في شيء) يعني بذلـك فقـد برئ من الله وبرئ الله منـه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر" () .

7- ومنها قوله تعالى : [تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] {المائدة: 80-81} ، "فبين ( أن الإيمان بالله والنبي مرتبط بعدم ولاية الكفار ، فثبوت موالاتهم يوجب عدم الإيمان ، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم ، ومن جهة أخرى فقد رتب الله تعالى على موالاة الكافرين سخطه والخلود في العذاب ، وأخبر أن موالاتهم لا تحصل من مؤمن ، فإن أهل الإيمان يعادونهم ولا يوالونهم" () .

8- ومنها قوله تعالى : [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا] {النساء: 138-139} ، "فجعل ( اتخاذ الكافرين أولياء من أخص خصائص النفاق وأهله" () .

9- ومنها قوله ( : [لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ...] {المجادلة:22} ، فالله ( نفى وجود قوم مؤمنين ويوادون من عادى الله ورسوله أي الكفار ، ولو كانوا أقاربهم ، ومفهوم المخالفة موالاة الكفار تتنافى مع الإيمان .

وأما من السنة فالأحاديث كثيرة ومتضافرة :

1- منها ما رواه ابن إسحاق عن عروة بن الزبير وغيره أن حاطب بن أبي بلتعة كتب كتاباً إلى قريش وبعثه مع امرأة يخبرهم فيه أن النبي ( سيسير إليهم وذلك لفتح مكة ، فلما علم النبي ( بذلك دعا حاطباً فقال : (يا حاطب ما حملك على هذا ؟) فقال : يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكن كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول الله ( : (وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل الله تعالى في حاطب : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ ...] {الممتحنة:1} () ، فسبب نزول الآية يدل على أن التجسس على المسلمين للكفار من الولاء لهم ، ومن النفاق وحكمه القتل ، كما قال عمر ( وأن النبي ( لم يعترض على قول وحكم عمر ( وهو ( لا يسكت على باطل غير أنه أخبره أن الله تعالى قد غفر للبدريين ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر .

2- ومنها إن النبي ( نهانا عن مجرد مجاورة الكفار الأعداء غير الذميين فضلاً عن موالاتهم لقوله ( : (أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) قالوا : يا رسول الله ، لم ؟ قال : (لا تراءى ناراهما) () ، أي : نار المسلم ونار الكافر .

3- ومنها قولـه ( : (أوثـق عـرى الإيمان المـوالاة فـي الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله) () .

وأما الإجماع فهو منعقد على ذلك ، بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة .

وهذه بعض أقوال المفسرين والعلماء في حكم المستفاد من قوله تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {المائدة:51} .

1- قال الطبري : "... فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه ، وصار حكمه حكمه" () .

2- قال الشوكاني : "أي : فإنه من جملتهم وفي عدادهم ، وهو وعيد شديد ، فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت غاية ليس وراءها غاية ، وقوله : [إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] تعليل للجملة التي قبلها : أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين" () .

3- قال القرطبي : "[وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] وجوابه ، أي لأنه خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم ، ووجبت له النار كما وجبت لهم ، فصار منهم أي من أصحابهم" () .

4- وقال ابن عطية : "... ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه" () .

5- وقال سيد قطب عن معنى الولاية : "إنها تعني التناصر ، والتحالف معهم ، والتعاون" () وقال عن حكمهـا : "والفـرد الذي يتولاهـم من الصـف المسـلم ، يخلـع نفسـه من الصف ، ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف – الإسلام – وينضم إلى الصف الآخر ... وبسـبب من ظلمـه هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولائه" () .

6- وقال الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآية : "ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً ، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم" () .

7- وقال ابن حزم : "صح أن قول الله تعالى : [وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ] إنما هو على ظاهره : بأنه كافر من جملة الكفار ، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين" () .

8- وقال أبو بكر الجزائري : " [وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ] أي : أيها المؤمنون (َفَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، لأنه بحكم موالاتهم سيكون حرباً على الله ورسوله والمؤمنين ، وبذلك يصبح متهم قطعاً وقوله : [إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] جملة تعليلية تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين ... وهذا الموالي لليهود والنصارى قد ظلم بوضع الموالاة في غير محلها حيث عادى الله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله والمؤمنين" () .

9- وقال النسفي : "[وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ] من جملتهم ، وحكمه حكمهم ، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجـوب مجانبة المخالفين في الدين [إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة" () .

10- وقال الماوردي : "[وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ] يحتمل وجهين : أحدهما : موالاتهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر . والثاني : موالاتهم في الدين فإنه منهم في حكم الكفر ، وهذا قول ابن عباس" () .

11- وقال ابن تيمية : "وتبين أن موالاة الكفـار كانـت بسبب ارتدادهم على أدبارهم ؛ ولهذا ذكر في (سورة المائدة) أئمة المرتدين عقب النهي عن موالاة الكفار ، قوله : [وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ] () .

12- وقال أبو بكر الجزائري عند تفسير آية أخرى : "ينهى الله عباده المؤمنين من اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، أي : أعواناً وأنصاراً ، يبادلونهم المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين ، وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برئ الله تعالى منه ، وذلك لكفره وردته حيث والى أعداء الله وعادى أولياءه ، فقال تعال : [لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ ...] () .

13- وقال د. محمد ياسين عن هذه الآية وما شابهها : "تلك بعض النصوص والتي يدل كل واحد منها على ردة من يوالون الكفار والمشركين فكيف إذا اجتمعت ، وجمعت معها غيرها مما لم يذكر ، وعرفت تناقض موالاة الكفار مع الشهادتين" () .

ويخلص الباحث من أقوال العلماء وأدلتهم إلى ما يلي :

أ- أجمع العلماء على أن من تولى الكفار في الدين ، أي : بمعتقده ودينه ، فهو كافر مرتد .

ب- ذهب بعض العلماء إلى أن من تولـى الكفـار بأفعالـه من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في مخالفة الأمر والمقت والمذمة ، أي : مرتكب لكبيرة ، وهو قول ابن عطية والماوردي وغيرهما .

ج- ذهب فريق من العلماء إلى أن من تولى الكفار بأفعاله كالنصرة والتحالف والتعاون والمعاضدة فهو كافر مرتد للأدلة التالية :

1- ظاهر آيات الولاء والبراء يدل على ذلك كما قال ابن حزم والجزائري وغيرهما .

2- الولاء والنصرة للكفار يدل على الرضا بهم وبدينهم وما هم عليه كما قال الطبري .

3- ذكر آيات الردة بعد آيات الولاء للكفار يدل على ردة من يتولاهم كما قال ابن تيمية .

4- من والى الكفار فسيكون محارباً ومعادياً لله ورسوله والمؤمنين ، وهو بذلك يكون قطعاً من الكفار ، كما ذهب الجزائري .

(قلت) والنتيجة : من والى الكفار بمعتقده ودينه فهو كافر بالإجماع ، ومن والاهم بأفعاله فقط فهو كافر ومرتد عند فريق من العلماء ، ومرتكب لكبيرة من أكبر الكبائر عند بعض العلماء .

(وقلت) وبذلك يتضح لنا الخطر العظيم المحيط والمحدق بكل من يوالي الكفار ، فهو على شفير جهنم يوشك أن يقع فيها إن لم يتب توبة نصوحاً ويصلح ويحسن !؟

ثالثاً : حكم البراء من الكفار :

البراء من الكفر والكافرين حكمه : الفرض والوجوب ، أي : يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتبرأ من الكفر والكافرين ، وهذا الوجوب ثابت بالقرآن والسنة وإجماع الأمة ، بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة .

أما من القرآن فالآيات التي توجب على المسلم التبرؤ منهم ومن كفرهم عديدة :

1- منها ما نص على وجوب التبرؤ من المشركين ، كقوله ( : [وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ...] {التوبة:3} ، (قلت) : والمؤمنون أيضاً بالتبع بريئون وبرءاء مما تبرأ الله ( منه ورسوله ( ، وسورة التوبة آخر سورة نزلت من القرآن كما ذهب المفسرون () ، أي : لا منسوخ فيها .

2- وكقوله : [وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ] {التوبة:114} ، أي : لما توضح لإبراهيم ( أن أباه آزر الذي كان يصنـع الأصنام من الخشب ويعبدها من دون الله عدو ومعادي ومحارب لله ( (تبرأ منه) أي : تنزه وتخلص وتنصل منه ، فمدحه الله ( مباشرة أنه ( كثير التأوه والتأسف وكثير الحلم .

3- ومنهـا ما هـو متعلق بكفر وشرك الكافرين المشركين ، كقوله ( آمراً نبيه ( : [... قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] {الأنعام:19} ، وكإخبـاره ( عـن خليلـه ( : [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ] {الزُّخرف: 26-27} ، أي : أن الأنبيـاء عليهـم السـلام بريئون من كفر الكافريـن ، ومن شرك المشركين ، ومن كل عبادتهم للأنداد والأوثان والأصنام ونحوها .

4- ومنها ما هو متعلق بالكفار وكفرهم معاً ، كقوله تعالى : [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ...] {الممتحنة:4} . فالله جل ثناؤه يأمرنا في الآية الكريمة بالتأسي والاقتداء والتشبه بخليله أبي الأنبياء ( وأصحابه المؤمنين معه ، وذلك بالتبرؤ والتنصل من الكفار وما يعبدون من دون الله وببغضهم ومعاداتهم حتى يؤمنوا بالله ( وحده .

هذا وكل الآيات القرآنية التي تنهانا عن الولاء للكفار ، يفهم منها أنها تأمرنا بالبراء منهم ، لأنه لا يتحقق أحدها إلا بوجود الآخر لأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين ، فعدم الولاء للكفار معناه التبرؤ منهم ، والتبرؤ من الكفار معناه عدم الولاء لهم .

وأما من السنة النبوية المطهرة فالأحاديث كثيرة في ذلك ومنها :

1- قال النبي ( : (أوثق عـرى الإيمان الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله) () .

2- أن رسول الله ( بايع جرير بن عبد الله البجلي على أن (تنصح لكل مسلم ، وتبرأ من الكافر) () .

3- قال النبي ( : (أنا برئ من كل مسلم بين أظهر المشركين) ، ثم قال ( : (لا تراءي ناراهما) () .

فالحديث يدل بوضوح على وجوب التبرؤ والتنزه والبعد عن كل مشرك حتى لا يرى المسلم نارَ المشرك ، ولا يرى المشرك نارَ المسلم .

وأما الإجماع فهو منعقد على ذلك ، بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة .

المبحث الثاني

حقيقة الولاء ومظاهره المشروعة

المطلب الأول : حقيقة الولاء والبراء :

إن الولاء والبراء ليس كلمة تقال باللسان ، أو شعار يعلن به بين الأنام ، وإنما هو اعتقاد بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعملٌ بالأركان ، أي له : حقيقة تنبثق عنها مظاهر ومستلزمات تشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، وبذلك تتحقق هذه العقيدة ، وتحيا كواقع عملي ملموس .

والباحث للأهمية الكبرى لهذه الحقيقة سيثبتها بالأدلة من القرآن والسنة ، وسيؤيدها باللغة والاصطلاح والقياس والمعقول ، وسيعززها بأقوال العلماء ، والتفصيل كما يلي :

أولاً : أدلة القرآن الكريم :

الآيات القرآنية الكريمة التي تربط بين الولاء والبراء وبين حقيقتهما ومستلزماتهما ومظاهرهما كثيرة ، ومنها ما يلي :

1- قوله جل ثناؤه : [اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:257} ، فالآية الكريمة بينت أو الولاء لله ( يخرج من الكفر ويدخل في الإيمان ، وأن الولاء للطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر .

2- وقوله ( : [وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] {المائدة:81} ، فالآية تدل على نفي الإيمان عن الذين يتخذون الكفار أولياء ، وهذا يدل على الربط بين الإيمان والولاء .

3- وقوله تبارك وتعالى : [قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ] {الأنعام:14} ، فالآية توضح العلاقة الوثقى بين الولاء لله سبحانه وبين الإسلام من جهة ، والنهي عن الشرك من جهة أخى ، والنهي عن الشرك يقتضي الأمر بالإيمان .

4- وقولـه ( : [وَالمُؤْمِنُــونَ وَالمُؤْمِنَــــاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {التوبة:71} ، فالآية الكريمة تـدل بوضوح وبما لا شك فيه أن أعمال الجوارح مما ذكر في الآية هي من حقيقة ومستلزمات ومظاهر الولاء في الإسلام .

5- وعن التطبيق العملي لعقيدة الولاء والبراء بمظاهرها قال تعالى في حق النبي ( وأصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار : [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ...] {الأنفال:72} ، فالآية بينت أن الإيمان والهجرة والجهاد والإيواء والنصرة من مظاهر الولاء ، وقال عن المنافقين واليهود : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ...] {المائدة: 51-52} ، أي : المنافقون كعبد الله بن أبي يسارعون في موالاة يهود بمودتهم في الباطن والظاهر وبمعاونتهم والتحالف معهم () ، ويتعذرون بحجة موهومة ، وباطلة شرعاً .

ثانياً : أدلة السنة النبوية :

السنة النبوية أفضل مفسر للقرآن بعد تفسير القرآن بالقرآن ، وقد قال ( : [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم: 3-4} ، والأحاديث النبوية التي تربط بين الولاء والبراء ، وبين حقيقتهما ومستلزماتهما ومظاهرهما عديدة ، ومنها ما يلي :

1- قال النبي ( : (أوثـق عرى الإيمان الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله) () ، فالحديث ربط بين الإيمان والولاء والبراء ، وأشار إلى أعمال القلب بالحب والبغض ، وإلى أعمال الجوارح بالمعاداة التي تشتمل على جهادهم في سبيل الله ، وهو من أعمال الجوارح .

2- قال النبي ( : (من أعطى لله ، ومنع لله ، وأحب لله ، وأبغض لله ، وأنكح لله ، فقد استكمل إيمانه)() ، فالحديث جمع بين أعمال القلب من حب وبغض ، وأعمال الجوارح من إعطاء ومنع .

3- قال النبي ( : (أنا برئ من كـل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) ثم قال : (لا تراءي ناراهما) () ، فالحديث يبين أحد مظاهر البراء من المشركين وعدم توليهم ، وهو البعد

عن سكناهم حتى لا يرى كل منهم نار الآخر .

4- إن رسـول الله ( بايـع عبد الله البجلي على أن : (تنصح لكل مسلم ، وتبرأ من الكافر) () ، فالحديث أشار إلى أن النصح للمسلم من مظاهر الولاء له ، وأن التبرؤ من الكافر من مظاهر عدم موالاته .

ثالثاً : التأييد باللغة والاصطلاح والمعقول والقياس :

1- التأييد بالتعريف اللغوي :

إن المعنى اللغوي (للولاء) وهو : القرب والدنو والمحبة والنصرة (والبراء) وهو : البعد والتنزه والتخلص ، يقتضي وجود حقيقة ومظاهر لذلك تتمثل في أعمال للقلوب وأعمال للجوارح ، تضمَّن التعريف بعضها كالمحبة والنصرة والقرب والبعد والعداوة .

2- التأييد بالتعريف الاصطلاحي :

إن المعنى الشرعي (للولاء) يشتمل على أعمال القلوب : كالحب والود والرضا والتوكل ، وأعمال الجوارح : كالطاعة والنصرة والمعاضدة والتعاون ، وإيصال الخير وكف الأذى (وللبراء) يشتمل على أعمال القلوب : كالكره والبغض وأعمال الجوارح : كالعداوة والمجاهدة .

3- التأييد بالمعقول :

يرى الباحث أن عقيدة الولاء والبراء لا يعقل أن تكون مجرد كلمة أو شعار ليس لها حقيقة ومظاهر تؤثر على قلب المؤمن وجوارحه ، وإلا ستكون وهماً كشجرة وهمية لا أصل لها ولا فرع ، وحاش لله ( أن يأمرنا بوهم أو ينهانا عن وهم .

4- التأييد بالقياس :

يرى الباحث أن هناك علاقة وثقى بين الإيمان وبين الولاء والبراء ، وبالقياس والمقارنة بينهما يثبت وجود مظاهر لكل منهما تشتمل على أعمال القلب وأعمال الجوارح .

فالله سبحانه أمرنا بالإيمان ، وبينه لنا فقال : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا] {النساء:136} ، ووضح لنا مظاهره رسوله ( بقوله : (الإيمان بضع وسبعون ، أو بضع وستون شعبة : فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان) () ، وبيّن لنا حقيقتـه عندمـا مـرَّ رسـول الله ( بحارث فقال له : (يا حارث ، كيف أصبحت ؟) قال : أصبحت مؤمناً حقاً ، قال : (انظر ما تقول ، إن لكل شيء حقيقة فما حقيقتك ؟) قال : ألست قد عزفت الدنيا عن نفسي ، وأظمأت نهاري ، وأسهرت ليلي ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، يعني : يصيحون ، قال : (يا حارث عرفت فالزم ، ثلاث مرات) () .

وبذلك يتضح لنا أن الإيمان له معنى وحقيقة ومظاهر ، وكذلك الولاء والبراء ، فهما مشتركان بأعمال للقلب وأخرى للجوارح ، والله أعلم .

رابعاً : التعزيز بأقوال العلماء :

توصل الباحث من خلال استقرائه لآراء علماء أهل السنة والجماعة أن الولاء والبراء له حقيقة ومظاهر ، ومنهم من صرح بلفظ مظاهر الولاء ، ومنهم من فهم عنه ذلك دون التصريح ، وهذا والله أعلم محل اتفاق بينهم ، وقد قال ( : [... فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:43} ، وهذه بعض النقولات عنهم في ذلك :

1- قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ : "لما كان أصل الموالاة : الحب ، وأصل المعاداة : البغض ، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة ، والأنس ، والمعاونة ، وكالجهاد ، والهجرة ، ونحو ذلك" () .

2- قال دكتور عدنان النحوي : "ويمتد الولاء في الآيات البينات إلى جميع ميادين الممارسة والعمل إلى الشعائر من صلاة وزكاة وغيرها ، إلى الجهاد في سبيل الله ، إلى سائر ميادين الحياة" () .

3- قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "فاتباع سنة رسوله ( ، واتباع شريعته باطناً وظاهراً هو موجب محبـة الله ، كمـا أن الجهـاد فـي سبيل الله ، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه هو حقيقتها" () .

4- قال محمد القحطاني : "ثم علمه بحقيقة الولاء والبراء في المفهوم الإسلامي الصحيح وهو : أن الولاء والحب والنصرة للمؤمنين ... فهو مع إخوانه المؤمنين بقلبه ولسانه وماله ودمه ، يألم لألمهم ويفرح لفرحهم ، وبغضه وبراءه لجميع أعداء الله سواء كانوا كفاراً أصليين أم مرتدين أم منافقين وموقفه منهم : الجهاد بالنفس والمال والقلم واللسان ، وكل ما أوتي من طاقة ، وعلى حسب جهده وطاقته" () .

5- قال الشيخ صالح الفوزان : "للولاء والبراء مظاهر تدل عليهما : أولاً : من مظاهر موالاة الكفار 1. التشبه بهم ... . 2. الإقامة في بلادهم ..." () ، وقال : "ثانياً : من مظاهر موالاة المؤمنين 1. الهجرة إلى بلاد المسلمين ... . 2. مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان ..." () .

6- قال الدكتور محمد نعيم ياسين : "ومن هنا يتبين أن موالاة الكفار تعني التقرب إليهم ، وإظهار الود لهم ، بالأقوال والأفعال والنوايا ، وقد أشارت النصوص إلى كثير من هذه الأمور التي تدخل الإنسان في الولاء للكفار ، من ذلك : اتباع أهوائهم ... وطاعتهم ... والركون إليهم ... ومداهنتهم ..." () .

7- هناك أقوال كثيرة للمفسرين تدل على مظاهر الولاء والبراء بالمفهوم ، ويذكر بعض المظاهر حسب الآية ، وإن لم يصرحوا بلفظ (مظاهر الولاء والبراء) ، منها ما سبق ذكره كما في التعريف الاصطلاحي وحكم الولاء والبراء ، ومنا ما سيرد ذكره .

المطلب الثاني : مظاهر الولاء لله ( :

الولاء لله ( لـه مظاهـر كثيـرة ومتنوعـة تكـاد تستغرق كـل الديـن ، ولذلـك سيكتفي الباحـث بالحديـث الموجـز عن أهمهـا وأجمعهـا ، وكلهـا مهمة ، وذلك كما يلي :

أولاً : الإيمان بالله ( وبكل ما أَمَرَنا به :

من الولاء لله ( الإيمـان به ، إذ لا يعقـل بل يستحيل موالاتـه سبحانه دون الإيمان به ، وبكل ما أمرنا أن نؤمن به ، فالإيمان بالله والولاء له متلازمان لا ينفكان ، لقوله ( : [وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ...] {المائدة:81} .

قال الله تعالى في أركان الإيمان : [آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ...] {البقرة:285} ، وقال ( في معنى الإيمان : (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) () .

(قلت) : فنؤمن بالله ( وبكل ما أمرنا أن نؤمن به ، دون زيادة أو نقص ، أو تعطيل أو تحريف ، أو مغالاة أو تفريط .

ثانياً : الإسلام لله ( :

من الولاء لله ( الدخول في دينه العظيم الإسلام ، قال تعالى : [... اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ...] {المائدة:3} ، وقال ( في معنى الإسلام : (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) () ، والله ( لا يقبل بعد محمد ( من أحد ولو زعم موالاته إلا الإسلام لقوله : [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] {آل عمران:85} ، ولقـول رسوله ( : (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصرانيٌ ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار) () .

والمقصود بذلك أن يدخل المسلمُ في الإسلام جملة وتفصيلاً ، فلا يجوز له أن يأخذ من الدين ما يعجبه ، ويدع ما لا يعجب هواه .

فنسلم لله ( بالعبادات المحضة كالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد ... الخ ، ونسلم لله ( بالدعوة ، قال تعالى : [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...] {النحل:125} ، ونسلم له بالجهاد في سبيله : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] {التوبة:73} ، ونسلم له بالسياسة ، قال تعالـى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ...] {النساء:59} ، ونسلم له بالاقتصاد ، قال تعالى : [... وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...] {البقرة:275} ، ونسلم ( بالتعليم ، قال تعالـى : [... يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ ...] {المجادلة:11} ، ونسلم لـه بالتربيـة والأخـلاق ، قـال تعالـى : [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4} ، وقال تعالـى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ...] {التَّحريم:6} ، ونسلم له سبحانه بكل ما ورد في القرآن والسنة .

وأما الذين يأخذون بعضاً مما ذكر ، ويدعون بعضاً ولو واحداً ، فإنهم على خطرٍ عظيم ، ونحذرهم بقوله ( : [... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] {البقرة:85} .

ثالثاً : المحبة لله ( :

من الولاء لله ( أن نحبه سبحانه أكثر من كل المخلوقين ، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقربين ، فضلاً عن الآباء والأمهات والزوجات والأبناء ، والإخـوان والأصدقـاء ، والأمـوال ... الخ ، قال تعالى : [وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ...] {البقرة:165} ، وقال النبي ( : (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ...) () .

رابعاً : النصرة لله ( :

من الولاء لله ( أن ننصره كما سبق في معنى الولاء ، أي : ننصر دينه وشريعته ورسوله ( ، والآيات في ذلك كثيرة ومتضافرة منها قوله ( : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] {محمد:7} ، أي : إن تنصروا دين الله ( وشريعته ينصركم على الكفار ويفتح لكم () .

فالله سبحانه يغار على أوليائه ، إذ كيف ينصر أعداؤه باطلهم وكفرهم يبذلون فيه جهدهم المالي والبدني والعقلي والزمني ... الخ مع ما ينتظرهم من خزي في الدنيا ، وجهنم في الآخرة ، بينما يتراخى أولياؤه عن نصرته سبحانه مع ما ينتظرهم من نصر أو شهادة في الدنيا ، وجنة في الآخرة !؟

قال النبي ( : (إن الله تعالـى يغار ، وغيرة الله تعالى ، أن يأتي المرء ما حرم الله عليه) () . قلت : ومما حرم علينا ( ألا ننصره .

خامساً : الطاعة لله ( :

من الولاء لله ( طاعته سبحانه – كما سبق في معنى الولاء - ، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ ...] {النساء:59} .

فالله جل ثناؤه أمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الرحم والأخلاق ... الخ فنأتمر ، والله ( نهانا عن الشرك والسحر والخمر والميسر والقتل والزنا والسرقة والربا والرشوة وعقوق الوالدين وسوء الأخلاق ... الخ فننتهي .

سادساً : التحكيم لله ( :

من الولاء لله ( تحكيمه والرضا والتسليم بحكمه – كما يقتضي معنى الولاء - ، فالحكم ليس لشخصٍ مهما كان ، أو قبيلة مهما كانت ، أو حزبٍ مهما كان ، أو شعب مهما كان ، أو أمة مهما كانت ، أو مؤسسة وطنية أو إقليمية أو دولية مهما كانت ، وإنما الحكم كما قال ( : [... إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:40} .

والحكم بغير ما أنزل الله ( جاهلية جهلاء لقوله ( : [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50} ، وضلال مبين لقوله : [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} ، وبعدٌ عن الإيمان لقوله ( : [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} ، وكفرٌ وظلم وفسق لقوله ( : [... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44} ، [... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {المائدة:45} ، [... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {المائدة: 46} ، فهذه الصفات جميعاً تجتمع في كل من لا يحكم بما أنزل الله .

وقد اتفق العلماء على أن من جحد الحكم بما أنزل الله فهو كافر خارج عن الدين سواء حكم به أم لم يحكم به .

وأما من لم يحكـم بما أنزل الله وهو مؤمن ومقر به غير جاحد ( فقد اختلف العلماء في حكمه :

1- ذهب بعض العلماء أنه كافر خارج عن الدين بدليل ظاهر قوله تعالى : [... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44} .

2- ذهب جمهور العلماء إلى أنه ظالم فاسق غير خارج عن الدين ، وأن الكفر المذكور في الآية الكريمة ليس بكفر ينقل عن الملة ، فهو كفر دون كفر ، وبهذا قال ابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، وابن طاوس ، والطبري وغيرهم () .

(قلت) : رأي الجمهور هو الراجح ، ولكنه متصف بكل الصفات الواردة في الآيات السابقة ، وهو مرتكب لكبيرة من أكبر الكبائر .

وقد اهتـم النبي ( اهتماماً بالغاً بهذه الفريضة ، فقد روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنهـا أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم رسول الله ( ؟ فقالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ( فكلمه أسامة ، فقال رسول الله ( : (أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب فقال : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) () .

وكذلك كان اهتمام الصحابة ( بعد النبي ( ، حتى قال أبو بكر ( بشأن مانعي الزكاة : "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه" () ، وقال عمر بن الخطاب ( : "... فأخشى إن طال بالناس زمانٌ ، أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ..." () ، فاعتبر ( ترك حكم شرعي واحد ضلال ، فكيف بترك الأكثر أو الأغلب !؟

ولذلك لا نعجب من سبب قوة السلف الصالح ، حيث فتح الله على أيديهم مشارق الأرض ومغاربها ، ودمروا الإمبراطوريات ، وصاروا سادة العالم ورواد العلم والحضارة ، ذلك أنهم حكموا بما أنزل الله ، وهو الحكم الصالح لكل زمان ومكان ، والموافق للفطرة السليمة ، قال تعالى : [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14} ، ولما خالف المسلمون في زماننا ما كان عليه سلفهم الصالح فعطلوا الحكم بما أنزل الله وحكموا بقوانين من وضع شياطين الإنس والجن لا تساوي الحبر الذي كتبت به ، لا جرم أن صاروا إلى أسوأ حال ، والواقع شاهد على ذلك .

سابعاً : الذكر لله ( :

من الولاء لله ( ذكره كثيراً سبحانه – كما يقتضي معنى الولاء ، وقد أمرنا الله بذكره كثيراً فقال : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا] {الأحزاب:41} ، بل أمرنا ( أن نكثر من ذكره في أشد الأوقات انشغالاً في الجهاد في سبيل الله حيث هدير الطائرات ، ودويّ الدبابات ، وأزيز الرصاص ، وانفجار القنابل والقذائف ، وحيث الدخان والدمار والدماء والأشلاء والتحام الصفوف ... الخ ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45} ، قال قتادة : "افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون ، عند الضراب بالسيوف" () .

(قلت) : فما بال أقوامٍ منا يهدرون أغلى ما يملكون أعمارهم المحدودة فيما لا فائدة منه ، أو بما يعصي الله به كالغيبة والأفلام والتمثيليات والحفلات المخالفة للشرع ... الخ !؟

وذكر الله يكون بالقلب ، بما أعتقد ، وأخلص ، وتوكل ، وأحب ، وأبغض ، وعلم ، ووعي ، وتفكر واعتبر ، وخاف واتقي ... الخ ، وكل ذلك في الله ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللهِ ...] {النساء:136} ، وقال النبي ( : (يقـول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم ، وإن تقرب إليّ بشبرٍ تقربتُ إليه ذراعاً ، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) () .

وذكـر الله يكـون باللسـان ، وذلـك بقراءة القرآن ، وبالتسبيح ، والدعاء ، والتعلم والتعليم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصلاة على النبي ( ، والنصيحة ... الخ ، قال تعالى : [... وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلًا] {المزمل:4} ، وقال : [يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] {الجمعة:1} ، وفي الحديث السابق : (ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) .

وذكر الله يكون بالأركان والجوارح ، وذلك بالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وصلة الرحم وكثرة الخطى إلى المساجد ... الخ ، قال تعالى : [... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي] {طه:14} .

ثامناً : الولاء لرسول الله ( وللمؤمنين :

من الولاء لله ( الولاء لرسوله ( وللمؤمنين – كما يقتضي معنى الولاء - فمن والى الله سبحانه اقتضى ولاؤه لله أن يوالي أيضاً رسوله ( والمؤمنين ، قال تعالى : [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ...] {المائدة:55} ، قال الكلبي : "ذكر الوليّ بلفظ المفرد إفراداً لله تعالى بهما ، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على سبيل التبع ، ولو قال : إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصل وتبع" () .

(قلت) : الولاء للرسول ( والمؤمنين فرعٌ نابع أو منبثق عن أصل ، وهو الولاء لله ( ، فما والى الله ( من لم يوالي رسوله ( والمؤمنين ، والولاء للرسول ( وللمؤمنين سيفصل الحديث عنه المطلبان التاليان .

المطلب الثالث : مظاهر الولاء للنبي ( :

الولاء للنبي ( له مظاهر كثيرة ومتنوعة ، وسيكتفي الباحث بالحديث الموجز عن أهمها وأجمعها ، وكلها مهمة ، وذلك كما يلي :

أولاً : الإيمان بالنبي ( :

من الولاء للنبـي ( الإيمان به ، وبكل ما ورد عنه في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، إذ لا يعقل ولاء للنبي ( دون الإيمان به ، وهذا ما يقتضيه معنى الولاء .

ومن ذلك أنه ( خاتم الرسل والنبيين ، لقوله تعالى : [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ...] {الأحزاب:40} ، وأنه ( بعث للإنس والجن كافة ، لقوله : [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] {الفرقان:1} وأنه متربع على عرش الأخلاق لقوله تعالى : [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4} ، وأنه حبيب وخليل الرحمن لقوله ( : (وقد اتخذ الله ( صاحبكم خليلاً) () ، وأنه أفضل الإنس والجن والملائكة بما فيهـم الأنبياء والرسل وجبريل عليهم السلام ، قال النبي ( : (أنا سـيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع وأول مشفع) () ، وأنه صاحـب الشـفاعة الكبرى يوم القيامة ، وصاحب الحوض المورود ، ويشـهد علـى أمتـه ، وأنه أول من يدخل الجنة ... الخ .

ثانياً : محبة النبي ( :

من الولاء للنبي ( محبته أكثر من أي مخلوق ، أي أكثر من آبائنا وأمهاتنا ، وأزواجنا وذرياتنا ، وإخواننا وأخواتنا ، وأصدقائنا وأحبابنا ، ومصالحنا ورغباتنا ، حتى من أنفسنا ، يدل على ذلك قول النبي ( : (لا يؤمن عبدٌ حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين) () ، وما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي ( ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ( فقال له عمر : يا رسول الله : لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي ، فقال النبي ( : (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك) قال عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي ، فقال النبي ( : (الآن يا عمر) () ، (قلت) : أي : الآن كمل إيمانك يا عمر ، وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما رحمة الله عليهم : "المحبة ثلاثة أقسام : محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبـة سـائر الناس ، فجمع ( أصناف المحبة في محبته" () .

ثالثاً : نصرة النبي ( وتعزيره :

النصرة أحد معاني الولاء ، ونصرة النبي ( من مظاهر الولاء له ( ، قال تعالى : [... فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الأعراف:157} ، فقوله : (وعزروه) أي : عظموه ووقروه (ونصروه) أي : نصروا دينه ونصروه على أعدائه () .

(قلت) : وكذلك يعد وفاته نعظم ونوقر ذكره ( وسنته ، وننصر وندافع عن دينه وسنته ، وننافح عن نسائه وعرضه ، كما نحمي قبره ( في الأولين والآخرين ، وذلك بألسنتنا بأقلامنا بأموالنا بأنفسنا بسلاحنا ... الخ حسب الحال .

رابعاً : طاعة النبي ( :

من معانـي ومقتضيـات الولاء الطاعة ، ومن الولاء للنبي ( طاعته فيما أمر وفيمـا نهى ، قال ( : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...] {النساء:59} ، فطاعتـه ( هـي طاعة لله ( ، ومعصيته هي معصية لله ( ، للآيـة السـابقة ، ولقولـه ( : (من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله) () ، وطاعته ( هي من الوحي لقوله ( : [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ] {النَّجم:3-4} .

وطاعته ( فيما أمر قـد يأخذ حكم الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة ، وفيما نهى

قد يأخـذ حكم التحريم أو الكراهة ، قال النبي ( : (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا) () .

فإذا أطعناه ( فيما أمر ونهى فلنا الهداية والاستقامة والنصر والتمكين في الدنيا ، والمغفرة والشفاعة والجنـة يوم القيامة ، قال تعالى : [... وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ...] {النور:54} وقال : [... وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {النساء:13} ، وقـال النبي ( : (كل أمتي يدخلون الجنة إلا مـن أبـى) قالـوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) () .

خامساً : التأسي بالنبي ( :

من معاني الولاء الاتباع ، والاتباع يقتضي التأسي والتشبه ، ولذلك من الولاء للنبي ( أن تتخذه أسوة حسنة نتأسى به ، وقدوة مباركة نقتدي به ، وهداية صالحة نهتدي به ، ونوراً منيراً نستنير به في ظلمات الدنيا والجهل والضلال والانحراف ، والغربة والتيه ، والمعاصي والكفـر ... الخ ، قال تعالـى : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21} ، ومعنى الآية : "أي : لقد كان لكم أيها المؤمنون في هذا الرسول العظيم قدوة حسنة ، تقتدون به في إخلاصه ، وجهاده ، وصبره ، فهو المثل الأعلى الذي يجب أن يقتدى به في جميع : أقواله وأفعاله وأحواله ، لأنه لا ينطق ولا يفعل ويتصرف عن الهوى ، بل عن وحيٍ وتنزيل ، فلذلك وجب عليكم تتبع نهجه ، وسلوك طريقه" () .

والتأسي بالنبي ( له فوائد عظيمة منها محبة الله ومغفرته ، قال تعالى : [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31} ، ومنها مرافقة النبـي ( فـي الجنة لقوله ( : (من تشبه بقوم فهو منهم) () ، ولقوله ( : (المرء مع من أحب) () ، وعدم التأسي به ( فيه خطر عظيم لقوله تعالى : [... فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63} .

ومع كل هذه الثمرات التي رتبت على الاقتداء بالنبي ( ، ومع كل هذا التحذير من مخالفته فقد وجد في زماننا هذا من خالف ذلك كله وهم كثر ، اتخذوا من الكفار والمجرمين قدوة لهم في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم وكل شيء ، حتى انطبق عليهم قول النبي ( (لتتبعن سنن () الذين من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍ لاتبعتموهم) قلنا : يا رسول الله ! آليهود والنصارى ؟ قال : (فمن؟) () ، تشبهوا بهم في الطعام والشراب والثياب والأسماء ، والغناء والتمثيل والاختلاط ، والموسيقى والخمر والزنا واللواط وإتيان المحارم ، والربا ، وقصات الشعر ، وشواطئ العراة ، والفجور وقطع الأرحام ومحاربة الدين ، وتحديد النسل ونشر الفساد ... الخ بحيث يصعب عليك أن تجد عملاً عمله الكفار دون أن يعمله بعضٌ من أمة محمد ( .

بل ووجد من الأمة دعاة انحرفوا دينياً ، وانهزموا حضارياً أمام الغرب فصاروا دعـاة عن جهل يدعون إلى الأخذ بكل ما عنده دون تمييز بين الخير والشر ، فهم كالحيوانـات ، بل أضل سبيلاً ، فجاءوا لأمتهم بالفتنة والبوار والهلاك والانحلال والانحراف ، وبكل ما يفسدها ويضعفها ، ونشأت على دعوتهم وتربت أجيال ساقطة ضعيفة مهزومة لا هم لها إلا إشباع رغباتها وشهواتها وأنانيتها ، وهذه النوعيات لا يمكن الاعتماد عليها لحفظ الدين أو العرض أو الوطن ... الخ .

والواقع الذي تعيشـه الأمة خير شاهد على ذلك ، فقد صرنا أضعف الأمم ، وسخرية الناس ، وسرنا في ذيل القافلة إن لم تكن قد خلفتنا وراءها ، انتهكت حرمات ديننا فغيب الإسلام عن الحكـم وحوصـر دعاتـه ، وانتهكت أعراض المسـلمات كالـذي حدث للمسلمات في البوسنة ، وانتهكت مقدساتنا وأوطاننا كما حدث للأقصى والقدس والأرض المقدسـة ، وانتهكت إنسانيتنا حتى صارت دماء المسلمين في هذا الزمن أرخص من دماء الكلاب ! فهـل نستفيق من غفلتنـا وسـكرتنا ونومنـا العميق ، فنقتدي بنبينا ( في كل شيء ؟

سادساً : تحكيم النبي ( :

من الولاء للرسول ( تحكيمه والتسليم والرضا بحكمه ، كما يقتضي معنى الولاء ، قال تعالى : [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} ، قال الطبري في تفسير الآية الكريمة : "(فلا) فليس الأمـر ... (وربك) يا محمـد (لا يؤمنون) أي : لا يصدقون بي وبك ، وبما أنزل إليك (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) يقول : حتى يجعلوك حكماً بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهـم ، فالتبس عليهـم حكمـه ... (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت) يقول : لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً مما قضيت ... أي : لا تأثم بإنكارها ما قضيت ، وشكها في طاعتك ، وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه" () .

(قلت) : يجب علينا أن نحكم بما ورد من أحكام النبي ( ونعتقد أن ذلك من الوحـي ولا يجوز مخالفته أو استبداله كما يفعل الجاهلون الظالمون الفاسقون .

سابعاً : الصلاة والسلام على النبي ( :

من الولاء للرسول ( كثرة الصلاة والسلام عليه والدعاء له ، كما يقتضي معنى الولاء ، قال تعالى : [إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {الأحزاب:56} ، قال القرطبي : "أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه ( دون أنبيائه تشريفاً له ، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة ، وفي كل حين من الواجبات وجـوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه" () ، و"قوله تعالى : (وسلموا تسليماً) قال القاضي أبو بكر بن بكير : "نزلت هذه الآية على النبي ( فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه ، وكذلك من بعدهم أمروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره" () ، وقد سئل النبي ( عن كيفية الصلاة عليه فقال : (قولوا : اللهم صل على محـمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما ب