docs.neu.edu.trdocs.neu.edu.tr/library/nadir_eserler_el_yazmalari... · web viewقال صاحب...

299
ن ب ا ر مي الأ م ي هرا ب ا ي ش من ل ا ن ب حاج ل ا د ب ع له ال ن ب ماوردي ل اAçık mavi: elif Mavi: harf Sarı: kontrol Yeşil: harf/irap Kahverengi: imla Pembe: irap hatası خ ي ار/ ت/ ه ه2 ر ب ر4 ظ ا ب ل ا/ وراحه ر ظ ا ح ل ا ي ف ع م ج خ ي وار/ ت ل ا ن م اب/ ب ك/ ه اي غ وب ل مط ل ا ي ف خ ي ار/ ت/ ت يH ب وب ي ا مس ب له ال ن م ج رP ل ا م، ي ح رP ل ا مد ح ل ا له ل ي دP ال ل2 ر P ب ا نX / راP لق ا ي غل ده P ب ع لأ، ت رP ي_ ي ل س ر وا داP م ح م ه ي ل غ لأمP س ل ا ا بH ب ن ما ي ر ك ولأ،P س ر ا بP ص خ و لأم،P س الأ ت ل ع ج و انP م ي الأ لأ، ت د P تP ر ص ن و/ قP ح ل ا ر ه/ ق و ل ط ا ب ل ا له ع ج وP را ي/ P ق ج لأ، ب ل د رP ع و انP م ي الأ د ب P ش و واغد/ ق لأمP س الأ ل ه ا ت لأ، بP ش و ل ا/ قP ل خ و دمX ا له ع ج و/ ه P ق ي ل خ ي ف ه رض ا له ح ي و لأ، ي ج ب/ ب م ث ب/ P ت خ ا ي اء P بH ب ن الأ ن ليP س ر م ل وا ن م ه/ ي ب ر د م ه ل ف ك و لأ، ب ف ك/ ت م ه رP م وا اع P ب/ ب ا ت/ قP ح ل ا ل م ع ل وا ه، P ي و ي ف ك له ال ت لأ، ب ك و م ث ار ح/ تP ش ا اء P ف ل ح ل ا ن ب د P راس ل ا ن ب دP الواP ع ي/ ب ا/ قP ح ل ا وه د P ي وا لأ، بH بP س م ث ها عل ج ي فوكP ل م ل ا ن طيلأP س ل وا ها ن و ي ور ي لأ ب ح عد ب ل ب ح ا، ن م ف غدل ي ف ه/ ي ي غ ر ف ص ن وا ي ف مه ك خ ل ع ج و/ قP ح ل ا له لأ، بH بP س ي/ ف ب ا ه ي ل غ كه ل م ها عل ج و ي ف ه/ ي ب ر د ا ب ل و ي فكP ل د لأ بH بP س لأ، ب ل د ن م و م ل4 ط ا ع ي/ ب واويP ه ل ا1 م خك ا P ف ه ي ل غ/ هP ال ر اH ت كه ل م لأ ب ل/ ف لأ. ب ل/ ف ي لP ص و له ال ي غل ا دت بP ش مد ح م ي ب P لب ا ي دP ال لهP رس ا2 ا ب ب ر له P ض ف و لأ، ب P ص ف/ ب ي غل و لهX ا ه ي جP ص و ن عي ب ا/ P ب ل وا م ه ل ل ك ب لأ ع ف لأ ب م ج، ول/ P ق ا له ال وت/ ق ت ف و/ ت ل ا ه وي، عان/ ي س م ل ا ه ي ل غ و. لأنْ كُ ّ / ت ل ا1 وي ه ل ا ي ل ر ه4 ظ فاد مد ل ا ن م ه ي غل/ ت ج ي ما ي/ ت ج ط ل/ ت" " 2 له رس ا ه/ دري/ ف فاد مد ل ا ن م ه ي غل/ ت ج ي ما ي/ ت ج ط ل/ ت" " 1

Upload: others

Post on 22-Feb-2020

0 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

ابن الأمير إبراهيم المنشي بن الحاج عبد الله بن الماوردي

Açık mavi: elif

Mavi: harf

Sarı: kontrol

Yeşil: harf/irap

Kahverengi: imla

Pembe: irap hatası

تاريخ نزهة الناظر وراحة الخاطر في جمع التواريخ من كتاب غاية المطلوب في تاريخ بيت أيوب

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده تنـزيلا، وأرسل محمدا عليه السلام نبيا كريما رسولا، وخصنا بالإسلام، وجعل الإيمان بديلا، ونصر الحق وقهر الباطل وجعله حقيرا ذليلا، وعز الإيمان وشيد قواعد الإسلام بأهل الوسيلا، وخلق آدم وجعله خليفة في أرضه وبجله تبجيلا، ثم اجتبى الأنبياء والمرسلين من ذريته وكفلهم تكفيلا، وأمرهم باتباع الحق والعمل به، وكفى بالله وكيلا، ثم استخار الخلفاء الراشدين الذين اتبعوا الحق واتخذوه سبيلا، ثم جعلها في الملوك والسلاطين يورثونها جيلا بعد جيلا، فمن عدل في رعيته وأنصف في حكمه وجعل الحق له سبيلا، أبقى عليه ملكه وجعلها في ذريته ولنا في ذلك سبيلا دليلا، ومن أظلم واتبع الهوى فأحكم عليه بإزالة ملكه قليلا قليلا. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الذي أرسله ربنا وفضله تفضيلا، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بكل فعلا جميلا، أقول وبالله التوفيق وبه المستعان، وعليه التُّكْلان.

أما بعد لما نظرت في تاريخ بيت أيوب الذي سميته "غاية المطلوب" قد كثر جمعه علي وعظم تأليفه علي وأقلقني تواتر الوقائع والحروب وكثرة الفتن وملازمة الخطوب فاخترت أن أجمع كتابا مقتصرا وأجعله تاريخا [مختصرا التي] يتسهل على من يقرأه ويستغني به عن سواه ويُحَصل فيه المقصود ويُعْلَم الماضي والمفقود [وزدت] فيه على كتابي المقدم ذكره بشرح الوقائع وجميع ما يتعلق به من حوادث السنين والفجائع.

ولقد حملني على جمع هذين الكتابين وجهان. الوجه الأول كل من يقرأ لهما يدعو بالرحمة والمغفرة لمن جمعهما وألفهما. والوجه الثاني لما رأيت حاوي الفضائل وحامي القبائل الجامع لكلمة الأمان الخاضع للملك الديان الخاشع في كل حكومة وقضية الدافع كل مصيبة وبلية العامل بالكتاب والسنة الباذل ماله بغير منة العادل في أحكامه الباسل في انتقامه الآمر بالمعروف والجابر كل ملهوف غاوي في مشترى الكتب وحاوي كل كتاب منتخب فألزمني أن أجمع أوصافه الرضية وأذكر مناقبه في كل بكرة وعشية واجتهد في ذلك كل الإجتهاد ورجيت أن أبلغ المقصود وأنال [المعهود]، فأعجزني ما قصدت في تحصيل ذلك وعلمت أني قد ألقيت نفسي في المهالك، ولو أني (2a) لعشت كعمر نوح عليه السلام لم أبلغ معشار عشر فضله. ولما رأيت مناقبه قد عمت الآفاق ولم تجمعها الأقلام ولا تحصرها الأوراق فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع هذا الكتاب لعلي أتوصل إلى تلك الأمور والأسباب.

وذلك في أيام مولانا السلطان الملك العادل أبو المفاخر فخر الدنيا والدين سليمان، أعز الله أنصاره، ابن السلطان الملك العادل شهاب الدنيا والدين غازي ابن السلطان الملك العادل مجير الدنيا والدين محمد ابن السلطان الملك الكامل سيف الدين أبي بكر ابن السلطان الملك الموحد تقي الدين عبد الله ابن الملك المعظم غياث الدين تورانشاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن نجم الدين أيوب أبو الملوك الأيوبية ابن شادي ابن مروان.

قال المؤرخون أصحاب التواريخ القديمة مثل ابن الأثير والقاضي بهاء الدين ابن شداد والعماد الكاتب وعبد الرحمن ابن إسمعيل صاحب كتاب الروضتين وصاحب مفرج الكروب وغيرهم رحمهما الله إن هذا نجم الدين أيوب ابن شادي من بيت قديم وأصل كريم من بلدة يقال لها دَوِين من آخر بلاد آذربايجان ممائل الروم. وأصلهم من الأكراد الراودية وهذا القبيل فهو أشرف الأكراد ومقدم قبائلهم. فلما استطالت أيدي المغل والتتار على تلك البلاد خرج نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين شيركوه وقدما العراق ولحقا بمجاهد الدين بهروز الخادم وهو شحنة العراق فرأي من نجم الدين أيوب عقلا ورأيا وأدبا وحسن سيرة فجلعه دزدارا بتكريت وكانت له فصار إليها ومعه أخوه أسد الدين شيركوه وتولى أمر تكريت واستمر بها. فلما انهزم الشهيد آتابك الزنكي ابن آق سنقر الملكي من العراق من قدام قراجا الساقي آتابك داود ابن السلطان محمود وذلك في أيام الخليفة المسترشد بالله في سنة ست وعشرين وخمسمائة، ووصل الشهيد زنكي إلى تكريت، فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن حتى عبر الدجلة هنالك وتبعه أصحابه فأحسن إليهم وأعانهم على حمل الأثقال والعلوفة ونزل إليهم الإقامة وسيرهم بالإحسان والإكرام. ومن بعد ذلك بأيام من الزمان قتل أسد الدين شيركوه رجلا نصراني لِمُلاحات جرت بينهما ووصل الخبر إلى مجاهد الدين بهروز. فأرسل إليه مجاهد الدين بهروز وإلى أخيه نجم الدين أيوب وأخرجهم من تكريت.

قال بعضهم كان نجم الدين أيوب حسن الرماية بالسهام (2b) فرمى شخصا من مماليك بهروز بسهم فقتله فخشي على نفسه من بهروز، فتوجه إلى الشام ولحق بالشهيد زنكي. قيل لما قتل شيركوه النصراني وكان النصراني عزيز عند بهروز الخادم هرب إلى الموصل ولحقه نجم الدين أيوب أخوه.

قيل لما قدم نجم الدين أيوب وأخوه شيركوه أولاد شادي إلى العراق وتولى نجم الدين أيوب قلعة تكريت وولد له بها صلاح الدين يوسف في سنة اثني وثلاثين وخمسمائة هجرية. وكان من أمر الله جل جلاله بأن هذا المولود يريد يفتح الله على يده البيت المقدس ويملك ولاية مصر والشام وأعمالها وبلاد الغرب واليمن وبلاد الشرق ويفتح من الإفرنج بلاد الساحل وتعلو كلمة التوحيد على التثليث، ويكون ما يريد يكون ويقمع أهل الشرك ويجاهد في سبيل الله حق الجهاد ويصير من أمره كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

فإن الله بالغ أمره ومسبب الأسباب من غير سبب، ولما كان ذلك كائن وقدر ما قدر قد ألقى الله عز وجل في نفس نجم الدين أيوب وألهمه حب الشام فخرج من تكريت بأهله وقصد نحو الشام وكذلك أخوه أسد الدين شيركوه. ومن قدرة الله تبارك وتعالى أنه لما قدما على آتابك الزنكي وهو على مدينة بعلبك محاصرا لها فحال وصولهما إليه استولى على بعلبك، فتفأل بهما واستفتح، وعرف حقهما عليه فأقطع بعلبك لنجم الدين أيوب وكتب له ثلثها ملكا وذلك عن يد كان قد سبق له عنده. واستقر بها بقومه وأهله ولم يزل بها إلى أيام نور الدين محمود ابن زنكي ابن آق سنقر فأخرجه منها. وذلك في سنة أربعة وأربعين وخمسمائة، وسيأتي ذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ثم ولد بها الملك العادل سيف الدين أبو بكر في سنة اثني وأربعين وخمسمائة. وأما شيركوه فإنه صار مع آتابك زنكي إلى الشام وجعله قائد جيشه ومقدم عساكره وسيف نقمته وحصل له منه غاية الكرامة وبقي الأمر على ذلك إلى حين ما قتل الزنكي خامس ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وتولى دمشق مجير الدين آبق وعزل نجم الدين أيوب عن قلعة بعلبك ورتب بها الضحاك القاعي ونوب نجم الدين أيوب المدينة.

قال عماد الكاتب استولى زنكي على الشام سنة اثني وعشرين وخمسمائة وقتل سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وهو على فتح الرحا من الإفرنج، وقيل على جعبر. وتملك ولده نور الدين محمود حلب يوم الإثنين سابع (3a) ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وكان السبب في ذلك قال ابن أبي طي الحلبي لما اتصل قتل زنكي بأسد الدين شيركوه ركب من وقته وساعته وقصد خيمة نور الدين محمود ولد زنكي وقال له إعلم أن الوزير جمال الدين قد أخذ عسكر الموصل وعزم على تقديم أخاك سيف الدين غازي وقصد الموصل وقد أنفذ إليَّ جمال الدين وأرادني اللحاق به فلم أجبه إلى ذلك، وقد رأيت من الرأي أن تسير إلى حلب وتجعلها كرسي مملكتك وتجمع في خدمتك عساكر الشام وأنا أعلم أن الأمر جميعه يصير ويرجع إليك لأن ملك الشام ما يحصل إلا بحلب ومن ملك حلب استظهر على بلاد الشرق.

فركب نور الدين وأمر أن ينادي في الليل في عساكر الشام بالإجتماع، فاجتمعوا إليه، وصاروا في خدمة نور الدين إلى حلب، ودخلوها في سابع ربيع الآخر. ولما دخلوا حلب راح أسد الدين شيركوه إلى تحت القلعة ونادوا إليها وأصعد نور الدين إليها، وقرر أمره ورتب أحواله. فكان نور الدين يرى له ذلك ويعلم أن أسد الدين كان السبب في توليته. أنظر في هذه الأمور كيف كيف تتهيأ لسعادة هذا البيت الأيوبي. أولا، فعل نجم الدين أيوب مع زنكي وما تقدم له من اليد معه، فما خابت تجارته ولا ضاعت صنيعته. والثاني ما ذكرناه من حركة أسد الدين شيركوه مع نور الدين وإلحاقه بحلب وتوليته عليها.

قال فارق صلاح الدين يوسف والده نجم الدين أيوب وصار إلى خدمة عمه أسد الدين شيركوه بحلب فقدمه بين يدي نور الدين ابن زنكي فقبله وأقطعه إقطاعا حسنا. وذلك في سنة أربعين وخمسمائة. قال فلما استولى نور الدين على دمشق كاتبه نجم الدين أيوب وسلم له بعلبك، وتوسط أسد الدين شيركوه أمر أخوه نجم الدين أيوب مع نور الدين محمود، فأقطعه إقطاعا وسيره إلى دمشق فأقام بها ورد نظر دمشق إليه وولى ولده توران شاه شحنكية دمشق. وذلك في سنة خمسين وخمسمائة هجرية. ولما استولاها ساسها أحسن سياسة. قال بعضهم كانت ولايته في سنة اثني وخمسين وخمسمائة. ولم يزل بها إلى أن تولى صلاح الدين يوسف أخوه شحنكية دمشق.

وقيل لما قتل الشهيد زنكي حضر عسكر دمشق وحاصر نجم الدين أيوب في بعلبك، فأرسل إلى سيف الدين غازي ابن زنكي وقد قام بالملك بعد والده، ينهي الحال إليه ويعرفه حصر عسكر دمشق، فلم يتفرغ لبعلبك وضاق الأمر على نجم الدين ومن بها وخاف نجم الدين أن لا تأخذ منه عنوة ويناله الأذى فأرسل في تسليم القلعة وطلب إقطاعا ذكره فأجابه إلى ذلك وحلف له صاحب (3b) دمشق عليه، وسلم القلعة ووفى له بما حلف عليه من الإقطاع والتقدم عنده، وصار عنده من أكابر الأمراء.

واتصل أخاه أسد الدين بالخدمة النورية بعد قتل زنكي فكان يلوذ به من أيام والده فقربه نور الدين وأقطعه إقطاعا ورأى منه في حروبه ومشاهده آثار العجز عنه غيره لشجاعته وجرائته فزاده إقطاعا وقربه حتى صار له من البلاد حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عساكره. فلما نقلت الهمة النورية بملك دمشق أمر أسد الدين بأن يراسل أخوه نجم الدين أيوب وهو بها في ذلك [الزمان] وطلب منه المساعدة على فتح دمشق فأجابه إلى ذلك الذي يريد منه. وطلب له والأسد الدين كثيرا من الإقطاع والأملاك بدمشق وغيرها فبذل لهما ما طلبا منه وحلف لهما عليه ووافى لهما لما ملكها، وصارا عنده في أعلى المنازل لا سيما نجم الدين أيوب، فإن جميع الأمراء كانو لا يقعدون عند نور الدين إلا أن يأمرهم بذلك إلا نجم الدين فإنه كان إذا دخل عليه قعد من غير إذن يؤمر به.

قال فلما كانت سنة تسعة وخمسين وخمسمائة عزم نور الدين على إرسال العساكر إلى مصر فما رآى لهذا الأمر الكبير أقوى ولا أجمع من أسد الدين شيركوه، فسيره، وكان سبب ذلك أن شاور ابن مجير أبا شجاع السعدي الملقب بأمير الجيوش وهو وزير الخليفة الملقب بالعاضد لدين الله آخر الخلفاء بمصر، كان قد وصل هذا شاور إلى دمشق في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة إلى نور الدين يستنجد به على من أخذ منه منصبه قهرا. وكان عادة المصريين أنه إذا غلب شخص صاحب المنصب وعجز صاحب المنصب عن دفعه وعرفوا عجزه، مسكوا مع القاهر ورتبوه ومكنوه، فإن قوتهم كانت بعسكر وزيرهم وهو الملقب عندهم بالسلطان وكان شاور قد غلب على الوزارة وانتزعها منه نائب الباب يقال له ضرغام ابن سوار ويلقب بالمنصور، فجمع له جموعا كثيرة لم يكن له بها قبل فغلبه وأخرجه من القاهرة قهرا، واستولى على الوزارة. ووصل شاور إلى الشام قاصدا خدمة نور الدين مستصرخا به، فأحسن ملتقاه فطلب منه إرسال عسكر إلى مصر ليعود إليها ويكن له فيها حصة ويتصرف بها على أمره ونهيه واختياره، فتوقف في ذلك نور الدين ثم استخار الله سبحانه وتعالى وأرسل أسد الدين شيركوه مع شاور في جماد الآخر سنة تسعة وخمسين وخمسمائة. أنظر إلى هذه الأمور المقدرة الذي قدرها الله عز وجل لأجل هذا البيت.

قال فأمر نور الدين إلى أسد الدين بإعادة شاور إلى منصبه والإنتقام ممن نازعه في الوزارة وساروا جميعا. ووصل أسد الدين ومن معه (4a) إلى مصر سالمين قهر المنازع لشاور في الوزارة وتمكن شاور منه ثم قتل وطيف برأسه. وعاد شاور إلى منصب الوزارة وتمكن فيها.

قال إبن الأثير وأقام شيركوه بظاهر القاهرة وغدر به شاور وعاد عما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين فأرسل إليه يأمره بالعودة إلى الشام فأنف أسد الدين من هذه الحالة وأعاد الجواب يطلب ما كان استقر له فلم يجبه شاور إليه. فلما رآى ذلك أسد الدين أرسل نوابه فتسلموا مدنية بلبيس وحكم على البلاد شرقية مصر نوابه، فأرسل شاور إلى الإفرنج وخوفهم من نور الدين أن يملك مصر وكان قد داخلهم من أمر نور الدين لا يكون يملك مصر، فلما أرسل إليهم شاور يستنجد بهم ويطلب منهم المساعدة على إخراج أسد الدين من البلاد المصرية وبذل لهم الأموال فجاءهم الفرج من ضيق ما كانوا فيه من نور الدين، فسارعوا إلى مساعدة شاور وطمعوا في مملكة مصر. ولما بلغ الخبر إلى نور الدين سار بعساكره إلى نحو بلاد الإفرنج ليشغلهم من جهة سيرهم إلى أسد الدين ووصل الخبر إلى الإفرنج قصد نور الدين بلادهم وقد استولى على حارم وكانوا يحاصرون أسد الدين في مدنية بلبيس وامتنع بها ثلاثة شهور. فلما وصل الخبر إلى الإفرنج بأخذ نور الدين حارم وقد سار إلى بانياس فحينئذ خافوا الإفرنج على بلادهم وأرادوا العودة إليها ليحفظوها، فراسلوا أسد الدين في الصلح والعودة إلى الشام ومفارقة مصر وتسليم ما بيده إلى المصريين فأجابهم إلى ذلك ولم يعلم أسد الدين ما فعله نور الدين بالإفرنج في الساحل. قال ابن الأثير خرج أسد الدين هو وأصحابه من بلبيس والمسلمين والإفرنج ينظرون إليه شزرا خوفا من بأسه وهو خلف أصحابه وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم وسار إلى الشام سالما.

قال ابن شداد سار أسد الدين إلى مصر واستصحب معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف ابن أيوب وجعله مقدم عسكره وصاحب رأيه وكان لا يفصل حال ولا يقرر أمرا إلا بمشورة صلاح الدين ورأيه لما لاح له من آثار الإقبال وأمارات السعادة والفكرة الصحيحة واقتران النصر بحركاته فساروا حتى وصلوا إلى مصر وشاور معهم يوم عظيم وخافهم أهل مصر ونصر شاور على خصمه وأعاد إلى منصبه ومرتبته وقرر قواعده وشاهد أسد الدين البلاد وعرف أحوالها وعلم أنها بلاد بغير رجال تمشي الأمور بها مجرد الإبهام والمحال وكان إبتداء رحيله عنها متوجها إلى الشام سابع من شهر ذي الحجة سنة تسعة وخمسين وخمسمائة فأقام بالشام مدبر لأمره مفتكر في كيفية رجوعه إلى بلاد مصر فحدثه (4b) نفسه بذلك يقرر القواعد مع نور الدين إلى سنة اثني وستين وخمسمائة.

ثم سار إلى أسد الدين إلى مصر مرة ثانية، وصحبته عساكر الشام، وملك الإسكندرية، وأنزل بها ولد أخيه صلاح الدين يوسف. ثم سار إلى الصعيد وملكه، وجاءت الإفرنج والمصريين وحاصروا الإسكندرية وبها صلاح الدين يوسف ثلاثة أشهر، ولم ينالوا كيدا، ونصحوا أهل الإسكندرية في القتال رغبة في صلاح الدين. ثم بلغ الإفرنج حركة أسد الدين من الصعيد بالعساكر رحلوا عن الإسكندرية وقصدوا مصر وصالحوا شاور على أن يكون لهم مصر شحنة يستخرج لهم ثلث المال وتكون ثلثان لهم ويكون مفاتيح المدينة في يدهم فأجابهم إلى ذلك.

ثم صارت المصلحة مع أسد الدين أن يعود إلى الشام ويترك ما بيده من أعمال مصر، فأجاب وعاد إلى الشام وفي قلبه من مصر أمر عظيم لأنه انكشف على أحوال المصريين، وعلم أن مصر بغير حامي. ولم دخلت سنة أربعة وستين وخمسمائة أقطع نور الدين لأسد الدين حمص وأباد الإفرنج كونه قريب من بلادهم. هذا قول إسمعيل ابن [] صاحب كتاب الروضتين.

وفي هذه السنة اجتمع الإفرنج على قصد مصر وتملكها، ثم ساروا بعساكرهم ونازلوا بلبيس وحاصروها وملكوها عنوة، ونهبوها وأسروا من فيها من المسلمين، وساروا طالبين مصر وضايقوا أهلها وشدوا الحصار عليها وعظم ذلك على المصريين وخافوا من الإفرنج كيلا يفعلوا بهم مثل أهل بلبيس، فأنصحوا في القتال وكان شاور قد حرق مصر قبل قدوم الإفرنج بيوم، وبقي الحريق يعمل في مصر مدة أربعين يوما. ثم إن الخليفة العاضد خليفة مصر أرسل إلى نور الدين يستصرخ ويعرفه أحوال مصر وضايقة المسلمين مع الإفرنج، وسير ذوائب النساء في طي الكتاب. هذا قول ابن الأثير.

قال العماد الكاتب بل شاور أرسل إلى نور الدين يعلمه بذلك ويستنجده ويحثه بسرعة المسير إليهم وسود الكتاب وأرسل بها شعور النساء. قال ولما وصل الكتاب وفيه مكتوب هذه شعور نسائي الذي في قصري يستغيثون بك من الإفرنج، فقام نور الدين وقعد وشرع في تجهيز العساكر إلى مصر. وصالح شاور الإفرنج على المال بأن يرحلوا عن مصر وعاود العاضد الرسالة لنور الدين وأعلمه ما لقي من الإفرنج وبذل له ثلث بلاد مصر وأن يكون أسد الدين شيركوه مقيما عنده في عسكره وإقطاعهم عليه خارجا عن الثلث الذي لنور الدين. هذا قول ابن الأثير. وقال العماد عجل شاور لملك الإفرنج بمائة ألف دينار حيلة منه وخذاع وواصل كتبه إلى نور الدين مستصرخا بما ناب الإسلام من الكفر. قال ولما أتى نور الدين رسل العاضد استدعى صلاح الدين يوسف وقال له سير إلى عند عمك إلى حمص (5a) وحثه بسرعة المسير.

قال صلاح الدين ما خرجت من حلب حتى لقيت بعمي أسد الدين قاصد حلب وقد ساق من حمص إلى حلب في يوم وليلة خوفا من استيلاء الإفرنج على مصر. لأنه قد وصل إليه رسل أهل مصر تستنجده على الإفرنج. ولما عبر إلى حلب واجتمع مع نور الدين ساعة وصوله، فتعجب نور الدين من ذلك وتفأل به وسيره. ثم أمره بالتجهيز إلى مصر والسرعة في ذلك وأعطاه جميع ما يحتاج إليه من النفقة وآلة القتال ورحلوا على قصد مصر مستبشرين من الله سبحانه وتعالى بالنصر. وذلك في نصف شهر ربيع الأول سنة أربعة وستين وخمسمائة. وخيم نور الدين على رأس المال وأقام ينتظر ورود المبشرات فورد المبشر برحيل الإفرنج عن القاهرة عائدين إلى بلادهم لما سمعو بوصول عسكر نور الدين.

وقال القاضي أبو المحاسن لقد قال لي صلاح الدين يوسف ابن أيوب كنت أكره الناس للخروج في هذه الوقعة وما خرجت مع عمي شيركوه باختياري. قال وهذا معنى قوله تعالى ﴿وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم﴾ (البقرة 2، 216).

قال ابن الأثير أحب نور الدين مسير صلاح الدين يوسف مع عمه إلى مصر وفيه ذهاب بيته وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه. ووصل أسد الدين إلى القاهرة رابع ربيع الأول واجتمع مع العاضد خليفة مصر وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات. ولم يمكن شاور المنع من ذلك لكثرة العساكر. قال ولما أبصر شاور كثرة العساكر مع شيركوه خاف على نفسه منه، وعزم على أن يعمل دعوة لشيركوه وأصحابه ويقبض عليه، فنهاه ابنه الكامل وخوفه من أمر الإفرنج، فرجع عن ذلك لما سمع من ابنه.

ولما رآى عسكر النوري المطل من شاور اتفق صلاح الدين يوسف وعز الدين جرديك وغيرهما على قتل شاور وأعلموا أسد الدين بذلك، فنهاهم فقالوا كلما شاور بيننا ما لنا في البلاد شيء. واتفق في بعض الأيام سار شيركوه إلى زيارة قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه وقصد شاور عسكره الإجتماع به فلقيه صلاح الدين يوسف وعز الدين جرديك ومعهما جمع من العسكر فخدموه وأعلموه أن شيركوه في زيارة قبر الشافعي رحمه الله. فقال نمضي إليه. فسار قليلا وألقوه عن فرسه فهرب أصحابه وأخذوه أسيرا. ثم لم يمكنهم قتله بغير إذن شيركوه فسجنوه في خيمة وتوكلوا بحفظه. فلما علم شيركوه الحال فعاد مسرعا، وأرسل الخليفة العاضد في الوقت إلى أسد الدين يطلب رأس شاور ويحثه على قتله. وتابع الرسل بعضها على بعض في ذلك. فقتل شاور في يوم سابع عشر ربيع الآخر وحمل رأسه إلى القصر. ودخل أسد الدين القاهرة فرآى كثرة الخلق واجتماعهم فخاف منهم على نفسه. فقال لهم إن أمير المؤمنين العاضد يأمركم بنهب داره، (5b) فَصَدُوها الناسُ ونهبوها فتفرقوا عنه. هذا قول ابن الأثير.

قال ابن شداد لقيه صلاح الدين يوسف يوما وهو راكب في أصحابه يعني لشاور سائر إلى عند أسد الدين شيركوه فمسك بجلابيبه وأمر العسكر أن يأخذوا على أصحابه فتفرقت عنه قومه وقبض على شاور ونهب عسكره وأنزل شاور في خيمة منفردة وفي الحال جاءه توقيع من خليفة مصر على يد خادم الخاص يقول لابد من قتل شاور وإرسال رأسه جريا على عادتهم في وزرائهم في تقرير قواعد من قوي علي صاحبه فخرت رقبته ونفذ برأسه إليهم.

وقال عماد الكاتب غير ذلك، بل لقيه صلاح الدين وهو راكب على عادته في هيبة الوزارة فحادثه وأفرده عن العسكر والتمس منه المسابقة بخيولهما فأجابه ووافقه جرديك عن أمر تقرر بينهم فحركوا خيولهم فلما بعد عن أصحابه وقفوا وقبضوا على شاور صلاح الدين وعز الدين جرديك ودخلوا به خيمة وقتلوه فيها.

وقال الحافظ أبو القاسم لما خافوا من شر شاور ومكره وكان ذلك من رأي صلاح الدين يوسف فإنه أول من تولى القبض عليه وصفا الوقت لشيركوه وملكه الخليفة وخلع عليه واستولوا أصحابه على البلاد وجرت الأمور على السداد وظهر منه جميل السيرة وظهرت كلمة أهل الدين في وزارة أسد الدين. وذلك عقيب قتل شاور وإنفاذ رأسه إلى القصر، أنفذ إلى أسد الدين خلع الوزارة فلبسها وسار ودخل القصر ورتب وزيرا ولقب بالملك المنصور أمير الجيوش أسد الدين، وقصد دار الوزارة فنزلها، واستمر في ذلك الأمر ومن هذا التاريخ سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربعة وستين وخمسمائة.

إبتداء دولة بني أيوب

كانت إبتداء دولة الأيوبية في ديار المصرية وما بقي لأسد الدين فيها منازع ولا معارض ووقع البلاد للعساكر الذي قدمت معه وصلاح الدين ولد أخيه يباشر الأمور مقررا له وزمام الأمر والنهي منفوض إليه.

ذكر وفات أسد الدين شيركوه وتولية صلاح الدين يوسف ابن أخيه مكانه

توفي أسد الدين شيركوه فجأة يوم السبت ثاني عشرين جماد الآخر سنة أربعة وستين وخمسمائة. فكانت مدة وزارته شهرين وخمسة أيام. قال ابن شداد لما توفي أسد الدين وفوض الأمر بعده إلى صلاح الدين يوسف واستقرت القواعد، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين وأمره بالحضور إلى قصره ليخلع عليه خلع الوزارة ويوليه الأمر بعد عمه. وكان الذي حمل العاضد على ذلك ضعفه من الرجال والعساكر. فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقام فألزم العاضد به وأخذ كارها لأمر يدبره الله عز وجل. فلما حضر في القصر خلع عليه خلعة الوزارة الجبة والعمامة وغيرها ولقب بالملك الناصر (6a) وعاد إلى دار عمه أسد الدين وأقام بها. وثبت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه. ولما علم نور الدين استقرار صلاح الدين بمصر أخذ حمص من أنواب أسد الدين شيركوه في رجب من هذه السنة. وكانت وزارة صلاح الدين نهار الإثنين خامس عشرين جماد الآخر سنة أربعة وستين وخمسائة.

ذكر مسير نجم الدين أيوب إلى مصر

أنفذ نور الدين الشهيد إلى ولده صلاح الدين من أجل قطع الخطبة من المصريين وإقامة دعوة بني العباس في أول سنة سبع وستين وخمسمائة. وصار ذلك وتقرر.

ذكر وفات نجم الدين أيوب أبو الملوك قدس الله روحه بمصر يوم الثلاثة السابع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة ثمان وستين وخمسمائة فشب به الفرس ومات.

ذكر وفات نور الدين محمود ابن آتابك عماد الدين زنكي بالخوانيق يوم الأربعاء إحدى وعشرين يوما مضى من شهر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة وتولى مكانه ولده الملك الصالح مجد الدين إسمعيل وكان طفلا وتصرف الأمراء في الخزائن ونهض ولد عمه سيف الدين إلى جميع بلاد الجزيرة واستولى عليها وضعف أمر الملك الصالح عن دفع ابن عمه عن البلاد فصالحه عليها. وسار الملك الصالح إلى حلب. وبلغ ذلك الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب، فخاف من استيلاء الإفرنج على بلاد الإسلام لعدم رشد الطفل الملك الصالح وسوء تدبير الأمراء الذين أقاموا بتدبير دولته. فألجأت الضرورة للملك الناصر صلاح الدين بالنهوض والعبور إلى الشام فتجهز بالعساكر وسار إلى دمشق ودخلها يوم الإثنين آخر شهر ربيع الأول ونزل صلاح الدين بدار والده وأنزل سيف الدين أبا بكر أخاه بالقلعة.

قال ابن شداد دخل صلاح الدين يوسف دمشق يوم الثلثاء سلخ ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة وسار إلى حما، وملكها مستهل جمادى الأول من هذه السنة ونوب بها عنه وسار طالب حلب وضايقها وعاد طالب حمص وملكها نهار الثلثاء ثلاثة عشر يوما خلا من جمادى الأول، ثم رجع إلى حصار الحلبيين وتقرر بينهم الصلح على أن يترك للملك الصالح ابن نور الدين حلب وتكون مملكة الشام لصلاح الدين يوسف واستمر الأمر على ذلك وتقررت القاعدة. ورجع صلاح الدين إلى دمشق وناب بها عنه أخوه شمس الدولة توران شاه. وخرج من دمشق يوم الجمعة أربعة أيام خلا من ربيع الأول سنة اثني وسبعين وخمسمائة. وسار إلى مصر وعبر القاهرة يوم السبت سادس عشر ربيع الأول سنة المذكورة وتلقى السلطان بأخيه ونائبه الملك العادل سيف الدين أبي بكر (6b)

ولما استقر بمصر وأخذ في جمع العساكر وأنعم عليهم بالنفقات وسار يغزو الإفرنج ويجاهد حق الجهاد حتى صد الإفرنج عن أعمالهم وقهرهم وعرفهم شدة بأسه. ثم عاد إلى الشام وقرر قواعدها وتجهز للجهاد وعبر الساحل ثم عبر إلى بلاد الأرمن ونهب وأسر وعاد منصورا. لما دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة جاء الخبر للسلطان بوفات الملك المعظم أخيه بثغر الإسكندرية في محرم. وكان لما ملك السلطان صلاح الدين مصر أرسله إلى اليمن فملكها، ثم استناب بها وقدم إلى الشام سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.

ثم عاد السلطان إلى مصر ثامن عشر شهر رجب سنة ست وسبعين وخمسمائة.

وفيها توفي المك الصالح إسمعيل بن نور الدين الشهيد بحلب بعد ما حلف الأمراء والجند لابن عمه عز الدين صاحب الموصل، وتوفي في خامس عشرين من رجب الأصم. قال ابن الأثير ولم يبلغ عشرين سنة.

وحضر الأمير عز الدين صاحب الموصل وتسلم حلب وحضر إليه أخوه عماد الدين وطلب منه تسليم حلب له فلم يجبه ورد سؤاله مرة أخرى، فأرسل إليه يقول له تسلم إلى حلب وإلا أسلم أنا سنجار للسلطان صلاح الدين. فخاف عز الدين من صلاح الدين وسلم حلب إلى عماد الدين وأخذ عوضها سنجار وعاد إلى الموصل. وتسلم عماد الدين حلب ثالث عشر محرم سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وكان السلطان صلاح الدين بمصر، فلما بلغه ذلك برز من القاهرة بعساكره إلى الشام وترك حلب وملك بلاد الجزيرة ونازل الموصل ثم عاد إلى سنجار وملكها ونصيبين وتلك البلاد جميعها ورجع إلى الموصل يحاصرها وقدم عليه رسول الخليفة مستشفعا في المواصلة. فعاد السلطان إلى حلب وحصرها فلم يكن لمن فيها طاقة لمنعها فسلمها عماد الدين وعوض عنها بسنجار والخابور ونصيبين وسروج ورقة وغير ذلك.

وفي هذه السنة تقرر مع سيف الإسلام ظهير الدين طغتيكين أخو السلطان بأن يمضي إلى بلاد اليمن وزبيد وعدن ويتولاها، وكان السلطان قد عاد إلى مصر ورتب الأمور وسير أخوه سيف الإسلام إلى اليمن ثم عزم على التوجه إلى الشام في خامس محرم الحرام من سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وكان عشية وداعه لأهل مصر جالسا في سرداقه وكل شخص ينشد بيتا في الوداع وأنشد بعض مؤدبي أولاده يقول:

تمتع من شميم عذار نجد

فما بعد العيشة من عرار

فلما سمع السلطان ذلك خمد نشاطه وبدل بالإنقباض انبساطا فكأنه نطق بما هو كائن في الغيب. فإنه ما عاد بعدها إلى الديار المصرية وسار وعبر الفرات وملك البلاد جميعها ومن سنة إحدى وسبعين وخمسمائة تفرد السلطان (7a) بمملكة مصر والشام وحلب وبلاد الشرقية والجزيرية وما بقي له فيها منازع. لأجل ذلك عبر في هذه السنة ستة وثمان وسبعين [وخمسمائة] الفرات.

وفيها أنعم السلطان على نور الدين محمد ابن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا بأعمال الهيثم وكانت جارية في أعمال الموصل. وقد كان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى حين توجه إلى الموصل عند وفاة أخيه مودود، وعد ابن قرا أرسلان بقلعة هيثم أن يسلمها إليه دون أعمالها. ولما حضر في هذه السنة لمساعدة السلطان صلاح الدين يوسف، أنعم بها عليه في هذا العام وخصه عاجلا بهذا الإنعام ثم وهب له قلعة الجديدة وهي بالقرب من نصيبين ووعده بفتح آمد ووفى له بوعده.

ثم سار إلى آمد وحاصرها ونزل عليها يوم الأربعاء السابع والعشرون من ذي الحجة ونصب عليها المجانيق وضايقها فحصل فتحها يوم الإثنين في العشر الأول من محرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة وأنعم بها على نور الدين محمد ابن قرا آرسلان ابن آرتق وكان فيها من الذخائر والسلاح وآلة الحصار أشياء كثيرة لا يمكن أن يوجد في بلد مثلها ووجد فيها برج من أبراجها فيه مائة ألف شمعة وبرج مملو نصول نشاب وأشياء يطول شرحها. وكان فيه خزانة كتب كان فيها ألف ألف وأربعون ألف كتاب. وتسلمها نور الدين محمد ابن قرا أرسلان بما فيها. فقيل للسلطان لو أخذت الذخائر وأنفقتها على أصحابك كان راضيا به فارغا. فقال لهم أعطيته الأصل فما كنت أبخل عليه بالفرع. ثم سار السلطان عائدا إلى الشام، وقد ملك أكثر ديار بكر وأذعنت لطاعته ملوكها وحكامها وأشرط عليهم أن يكونون مساعدين له على الجهاد.

توفى صاحب ماردين قطب الدين إيلغازي ابن تمورتاش ابن إيلغازي ابن آرتق نصير أمير المؤمنين في مهل جمادى الآخر سنة ثمانين وخمسمائة وتولى مكانه ولده، وله من العمر عشرة سنين على ماردين وأعمالها وميافارقين وأعمالها. وكان قبل ذلك قد حموا البيت المقدس من يدي الإفرنج إلى سنة اثني وتسعين وأربعمائة. واستولوا الإفرنج على بيت المقدس من يد الأمراء فحمت الأمراء الآرتقية ديار بكر واستمروا بها.

وفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في شهر شوال خطب السلطان في جميع البلاد مثل الديار المصرية وأعمالها وبلاد الشام وأعمالها والإسكندرية واليمن وبلاد المغرب وزبيد وعدن وديار بكر وجميع ولايات الآرتقية، وجمعت له الكلمة بالسلطنة، ونقش اسم السلطان على الدنانير في جميع الولايات، بعد قطع الخطبة باسم الخليفة والسلجوقية من ديار بكر.

قال ابن القادسي في عاشر صفر سنة اثنين وثمانين وخمسمائة استولى سيف الإسلام أخو السلطان على مكة شرفها الله تعالى (7b) وضرب الدنانير باسم أخيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ومنع عن قولهم حي على خير العمل. ثم أقام السلطان بدمشق هذه السنة، وهو في الإستعداد للجهاد، وقد أرسل في طلب العساكر من البلاد الشرقية والديار البكرية والمصرية وانتظمت الأمور على أحسن قضية حتى دخلت سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة. وفي هذه السنة المباركة الذي سار فيها، كسر حطين وفتح الساحل والأرض المقدس للمسلمين على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف.

قال العماد هي السنة الحسنة المحسنة وكفى الله فيها الأشرار من أهل الشرك، وحكم على دماء الكفرة بالسفك ونصرت دولة الصلاحية وخذلت ملة النصرانية، وانتقم التوحيد من التثليث، وشاع في الدنيا بمحاسن الأيام الصلاحية أحسن الأحاديث. قال ثم برز السلطان من دمشق يوم السبت أول المحرم في العسكر المرمرم ومضى بأهل الجنة بجهاد أهل جهنم وقد اجتمع عنده عساكر لا تحصى. ثم شمر عن ساعدي الجهاد ودخل الساحل وهو في غاية الجهاد ولا زال مجد مجتهد حتى فتح الساحل جميعه وقصد المعاقل المحيطة بالقدس الشريف وفتحها وقصد غسقلان واستولى عليها. قال ابن شداد لما تسلم السلطان غسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والجهاد وقصد القدس واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل بعد ما قضي بها النهب والغارة فسار نحو القدس معتمدا على الله تعالى ففوض أمره إلى الله.

قال إسمعيل ابن إبراهيم كان نزوله على القدس قدس الله روحه يوم الأحد خامس عشر شهر رجب بالجانب الغربي وكان القدس قد احتوى به المقاتلة من الخيالة والرجالة، ولقد تجاوز أهل البحر الخبرة عدة من كان فيه من المقاتلة بما يزيد على ستين ألف ما عدا النساء والصبيان. ثم انتقل رحمه الله إلى الجانب الشمالي في عشرين من رجب ونصب عليها المجانيق وضايقها بالزحف والقتال حتى أثر النقب في الصور مما يلي وادي جهنم ولما رآي أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا يدفع وظهرت لهم أمارات نصرة الحق على الباطل وكان له قد ألقى الله الرعب في قلوبهم مما جرى على أبطالهم ورجالهم والسبي للذراري والقتل والأسر ومما جرى على حصونهم من الإستيلاء والأخذ، علموا أنهم إلى ما صاروا إليه صائرون، وبالسيف الذي قتل بهم إخوانهم يقتلون فطلبوا الأمان. وكان تسليمه في يوم الجمعة سابع عشرين رجب سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة وكانت تلك الليلة ليلة المعراج. فانظر إلى هذه الإتفاقات العجيبة كيف تم الله عوده إلى أيدي المسلمين في مثل زمن الإسراء (8a) بنبيهم صلى الله عليه وسلم. وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى. وكان فتوحا عظيما ثم رتب أمر القدس من جميع ما يحتاج إليه ونصب له قاضي وإمام ووالي، وأوقف عليه الأوقاف الحسنة في جميع البلاد، وأمر ببناء محرابه، وعمل له منبر. ولما قضى أمر القدس سار إلى ساحل الآخر وحاصر حصونه ومعاقله.

ودخلت سنة أربعة وثمانين وخمسمائة وهو في مجاهدة الكفر في الساحل وما عاد من هذه الغزوات حتى استولى على أربعة وخمسين مدينة وحصن، ومن جملتهم البيت المقدس، ودخل دمشق في مستهل ربيع الأول سنة المذكورة، وكانت غيبته عن دمشق سنة وشهرين وخمسة أيام، فقهر فيها الكفر ونصر الإسلام، وما أقام بدمشق غير قليل وسار إلى جهاد الكفر.

ودخلت سنة خمسة وثمانين وخمسمائة وهو في الجهاد. قال لما استولى على الإفرنج وملك بيت المقدس سلب من الإفرنج صليبهم الأعظم الأكبر الذي كانوا يعظمون ويزعمون أن هو الذي صلب فيه عيسى صلوات الله عليه فلما جرى من القصة ما جرى وبلغ ذلك الإفرنج وقيل اتفق شخصين من الإفرنج من أهل الساحل وعملوا كهيئة الصليبهم الأعظم ووضعوا عليه صورة شخص مسلم راكب على فرس وطيف به على ملة الإفرنجية والنصرانية وعبروه إلى القسطنطية وهم ينادون عليه أنصروا دينكم وإلاهاكم ولا زالوا فاعلين ذلك حتى تنخت الإفرنج وجمعوا جموعهم حتى جمع الملك الأمان ملك الإفرنج ثلاثة مائة ألف مقاتل وقصد العبور إلى بلاد المسلمين.

ودخلت سنة ستة وثمانين وخمسمائة والسلطان الملك الناصر في جهاد الكفر وقد استولى على أكثر حصونهم ومعاقلهم ووصل خبر الملك الأمان إلى السلطان الملك الناصر ولم يزده ذلك إلا قوة وشراسة في جهاد الكفر.

وفيها حضرت عنده ملوك الأطراف وحكام ديار بكر وملوك الآتابكية مثل عماد الدين صاحب الموصل وسنجار ونور الدين محمد ابن قرا آرسلان الآرتقي وغيرهم من الملوك.

ثم تواترت الأخبار بوصول الملك الأمان إلى بلاد الروم، ثم جاء الخبر أن الملك الأمان حصل في نفسه تكاسل، وغلبت عليه الحرارة ونزل في نهر هناك، فغلبه الماء، وسار به إلى شجرة هناك، شجت رأسه وبقي أيام ومات، وتولى بعده ولد أخته وسار بالعسكر فأخذ بلاد المسلمين فأرسل الله تعالى عليهم القحط والموت في مواشيهم وقلل الأزواد عليهم وماتت دوابهم حتى قيل إنهم ما نزلوا منزلا إلا وجمعوا فيه آلة حربهم ووضعوه على الأرض وشمروا فيه النار حتى يذهب ويتلف ولا تنتفع بهم المسلمين ولما كانت النار تخمد ينظر الشخص إلى جبل حديد هذا كان فعلهم في (8b) جميع المنازل. أنظر إلى صنع الله تعالى مع أهل الكفر وتأييد أهل الإيمان بهذا السلطان الملك الناصر. وصرف الله كيد الأمان ووجعه، وله شرح يطول وما الغرض في ذكر هذه الأمور إلا لأجل سياقة التاريخ.

ولما عاد الأمان بخزيه عن صلح جرى بينه وبين السلطان ومع هذا كل من يسمع أنه عاد الملك الأمان إلى بلاده بعد الصلح، وقد ذكرنا أنه هلك، فيتخيل له شيئان، لأن القول على كل من ملك الإفرنج يسمى الأمان ولما هلك الأمان الأول تولى ولد أخته بعده وسمي الأمان.

قال ولما شاعت الأخبار برجوع الأمان إلى بلاده بخزي عظيم أذعن ملك القسطنطينة بالطاعة للسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف وسير إلى السلطان رسولا وعلى يده كتاب يتضمن الإستعطاف ويذكر تمكينه من إقامة الجمعة في جامع المسلمين بالقسطنطينة والخطبة باسمه وأنه مستمر على المودة وراغب في المحبة.

ثم دخلت سنة سبعة وثمانين وخمسمائة والسلطان في مقام الجهاد والرسل تتردد بينه وبين الإفرنج حتى انفصل الأمر وعاد إلى القدس.

وانقضت هذه السنة، ودخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة والسلطان مقيم بالقدس وقد شرع في إنشاء صور حول القدس وتحصينه وتعميق خنادقه.

قال مصنف كتاب الروضتين بين لم يزل البيت المقدس شرفه الله تعالى ملحوظا بالعمارة والتحصين من أعمال السلطان رحمه الله إلى سنة خمسة عشر وستمائة، فإنه خرب في محرم بسب خروج الإفرنج، وانتشارهم في البلاد مخيفا من الإستيلاء عليه. وفي تلك السنة توفى الملك العادل ابن أيوب أخو السلطان، وتشتت الناس بعد خرابه ورغبوا عن السكن به.

وفي هذه السنة نزل الإفرنج على ثغر دمياط. ثم إن الإفرنج استولوا على القدس صلحا في سنة خمس وعشرين وستمائة. ثم أخرجوا منه عنوة مرتين. أخرجهم في إحدى المرتين الملك الناصر داود ابن المعظم عيسى ثم استولوا على طبرية وغسقلان. ثم أخذ منهم عنوة في شهور سنة خمس وأربعين وستمائة في دولة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد ابن العادل سيف الدين أبو بكر ابن أيوب. قال ولما انفصل الحال مع الإفرنج ووقع الصلح وقضى السلطان ضرورات القدس.

قال القاضي أبو المحاسن دخل السلطان دمشق بكرة نهار الأربعاء سادس عشرين شوال. وكانت غيبته عنها أربع سنين حتى قال إنه ولد له مولود وتمشى وتوفى ولم يره، جاء المبشر بمولده وهو في الجهاد وجاء خبر وفاته وهو في مقام الجهاد ولم ير ذلك المولود. أنظر إلى هذا المولى الذي لم تخلف الأرض مثله رحمه الله.

ودخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة، والسلطان (9a) مقيم بدمشق. وفيها قدم ولد أخيه سيف الإسلام من اليمن. فتلقاه بالإكرام وترحب به.

وفيها توفى السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب رحمه الله تعالى وأسكنه جنة المأوى.

ذكر وفات السلطان الشهيد صلاح الدين يوسف قدس الله روحه ونور ضريحه

وذلك نهار الأربعاء سابع والعشرين من شهر صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة هجرية. وشق موته على جنده وأهل دمشق، وحزنوا الحزن الزائد وغلقت سوقات دمشق جميعها.

قال ولم ينل الإسلام والمسلمين بعد وفاة سيد المرسلين وأصحابه مصيبة أعظم من وفات السلطان صلاح الدين فجزى الله الإسلام والمسلمين خيرا. ولقد شيد لبيت أيوب مجدا لا يفنى وفضلا لا يحصى وثناء لا يبلى وذكرا مخلدا يبقى.

وتولى بعده دمشق ولده الأكبر الملك الأفضل وجلس للعزاء بعد ما حلف له الجند والأمراء. قال محمد بن القادسي شاعت الأخبار يوم السبت ثالث عشر ربيع الأول في بغداد بوفات السلطان صلاح الدين ابن أيوب وكذلك في جميع البلاد وعظمت الأمور على المسلمين بعد وفاته. قال ابن شداد كان مولد صلاح الدين أيوب بقلعة تكريت في سنة اثني وثلاثين وخمسمائة. وكان والده نجم الدين أيوب واليها يكون على ما ذكر عمره ثمانية وخمسين سنة، ومدة ملكه خمسة وعشرين سنة.

وتولى مصر الملك العزيز ولده وكان نائبا بها من قبل [وفات] والده. فلما توفى والده استمر بها.

وبقي الأفضل بدمشق مشتغل بلذاته في ذاته وتشاغل عن أمور دولته وسلم أمور الناس وتدبير الدولة وسياستها للوزير الجزري وأساء التدبير وتفرقت قلوب الأمراء والجند منه وتفرقت في البلاد فمنهم من قصد أخيه العزيز بمصر وكثرت الشكوى من الوزير الجزري وشاعت الأخبار في البلاد بسوء تدبير الأفضل وبلغ عمه الملك العادل تلك الأمور فخاف على دمشق من الخراب والإستيلاء عليها من غير بيت أيوب فنهض العادل وسار إلى مصر واجتمع مع العزيز ولد أخيه. وقال له قم بنا نتدارك الأمور من أخيك الأفضل وإلا خرجت دمشق من أيدينا من سوء تدبير وزير أخيك الجزري. وكان قد بلغ العزيز عن الجزري أمور أشغلت قلب العزيز فاتفقا هو وعمه العادل إذا ملكوا دمشق تكون للعزيز ومصر للعادل وركبا وسارا إلى دمشق فلم يكن للأفضل طاقة لمنع العساكر عن دمشق لأن الأمراء كان قد تفرقت وأحوال الجند قد تمزق وأكابر دمشق من فعل الوزير الجزري قد تململت. ولما علموا بحضور العادل والعزيز كاتبوهما بتسليم قلعة دمشق إليهما فلما نزلوا عليها دخلوها واستوليا عليها (9b) بعد إخراج الأفضل إلى سرخد.

ثم إن العزيز ندم على ما قرر مع عمه من تسليم مصر فأرسل إليه وقال له أقم أنت بدمشق، وعاد العزيز إلى مصر واستولى الملك العادل على دمشق في شهر شعبان سنة اثني وتسعين وخمسمائة فأضافها إلى ممالكه البلاد الشرقية والجزيرية وديار بكر الذي كان قد أقطعه أخيه السلطان صلاح الدين يوسف في حال حياته الرها وحران وغيرهما من البلاد. قال ولما تسلم الملك العادل دمشق تفقد أحوالها واعتبر خزائنها فأبصرها فارغة من المال فسأل عن ذلك الملك فقيل له إن الوزير الجزيري كان يجمع الأموال ويدفعها إلى بلده. فقلت نفقات الأمراء والجند ففارقوا ولد أخوك الأفضل فآل الأمر إلى ما ترى.

وقيل إن الملك الأفضل خرج من البلاد الشامية وتوفي بشميصاة بسوء تدبيره كيف استوزر الوزير الجزري. فيجب على الملك الحازم بأن يستوزر له وزير عارفا خبيرا حكيما لأن الملوك القدماء والسلاطين العظماء كانوا يستوزرون لهم وزراء حكماء علماء أهل معرفة وأصحاب تدبير. لأن ملوك الروم كانوا يستعملون على دولتهم الحكماء، وملوك الفرس كان يفوضون أمور دولتهم الأعلم من فيهم وكانوا يلقبونه قاضي الدولة، وكلاهما سوي، لأن الحكيم العارف يعرف كل الداء ودوائه وكل طبع ما يميل لهواء وكل مزاج وما هو شفاه، فيداري كل شخص على ما يراه ويسيس الناس بمعرفته ويدبر الأمور بحكمة، والحكماء ما تشير بإهراق الدماء والعالم هو القاضي فيقضي بما أمر الله تعالى ويعرف الحق من الباطل ويفرق بين الحلال والحرام ويخاف الله الملك العلام فيحسن التدبير ويسوس الناس بأحسن سياسة، فيستقيم حال الملك وتدوم دولته وتحسن سيرته، كما قيل إن الملك الحازم لا يتم حزمه إلا بمشاورة الوزراء والأخيار وكذلك لا يتم إلا باستفتاء علماء الأبرار.

وقد قرأت في كتاب حلية العروس ونزهة النفوس إذا أراد الله تعالى بالملك خيرا فيض له وزيرا صالحا سده وأرشده لأحسن السيرة فعند ذلك يستقيم قواعد دولته وتعود البركة عليه وعلى رعيته. وإذا أراد الله بملك سوءا قيض له وزير سوء فيثنه عن العدل والصلاح ويحسن له الظلم لنفسه ولرعيته فهنالك ترتفع البركات وتسير الركبات بقبيح سيرته وخبث طويته فيكون ذلك سببا لزوال ملكه وذهاب دولته. وقيل سئل بعض الملوك وكان قد زال عنه ملكه فقيل له ما الذي كان السبب في انقلاب الدولة عنك وسلب الملك منك. قال لاغتراري بالدولة والقوة والعمل برأيي وغفلتي عن المشاورة وتوليتي لأصغر العمال أكبر الأعمال وتضييع الحيلة في وقتها وإغفالي عما أهمني من أمور الرعية والنظر في مصالح الدولة. وقيل كان (10a) على سرير كسرى أنوشروان أربعة أسطر، الأول لا يكون الملك إلا بالرجال، والثاني لا يكون الرجال إلا بالأموال، والثالث لا يكون الأموال إلا بالعمارة، والرابع [لا] يكون العمارة إلا بالعدل.

وقيل ينبغي للسلطان أن يتفقد أمره خاصة في كل يوم وأمر رعيته في كل شهر وأمر سلطنته في كل ساعة. وقيل سئل بعض الملوك بعد أن سلب ملكهم من الذي سلب عزكم وهدم مجدكم وزال ملككم. قال شغلتنا لذاتنا عن التفرغ بمهماتنا وثقتنا بمن يضيع كفايتنا فأثروا مرافقهم علينا وظلم عمالنا لرعيتنا فانفسدت نياتهم لنا وتمنوا الراحة منا وحمل على أهل أخراجنا فقل دخلنا وبطل عطاءنا لعبيدنا فزالت الطاعة منهم لنا وقصدنا عدونا فقل ناصرنا وكان أعظم ما زال به ملكنا استتار الأخبار عنا.

وقال أبو الفتح البستي في مقتضى هذا الذي نحن في ذكره، يقول، شعر:

إذا غدا ملكا باللهو مشتغـــــلا

فاحكم على ملكه بالويل والخـــربي

أما ترى الشمس في برج المميزان هابطة

لما غدا وهو برج اللهو والطــــربي

قال وما وضعنا كتابنا بقصد هذا ولكن أحوجتنا الضرورات لها أحكام. أنظر ما فعل سوء تدبير الوزير المقدم ذكره مع هذا الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين يوسف ملك مدينة دمشق. وكان وزيره القاضي الفاضل وولده الأفضل وزر الجزري. فآل الأمر إلى ما آل، وخرج من ملك أبيه كالغريب وتوفى كما قيل في شميصاط.

ثم عدنا إلى ما كنا فيه من سياقة الحديث. قال لما استولى الملك العادل على دمشق حدثه نفسه بالنهوض على الولايات الآرتقية. وكان السبب في ذلك لما توفى السلطان صلاح الدين أيوب بادروا ملوك الآرتقية إلى بلاد الملك العادل ليغتنموا الفرصة عند اشتغال الملوك الأيوبية بوفات الملك الناصر صلاح الدين يوسف. فسارع الملك العادل وجمع عساكره وسار إلى حفظ بلاده. فلما سمعوا بقدوم العادل عادوا راجعين.

ثم إن الملك العادل لما جرى ما ذكرنا واستولى على دمشق وقوي سلطانه وكثر جمعه أرسل إلى الملك العزيز ولد أخيه صاحب مصر واستنجده وطلب منه الإعانة على ما تقدم عليه. فأجابه إلى ذلك وأرسل له العزيز عساكر مصر فسار ونازل ماردين وحاصرها وضايقها. قال صاحب الروضتين حاصر الملك العادل ماردين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة وبقي محاصرا لها إحدى عشر شهرا (10b) ولم يبق إلا استولى عليها فبينما الملك العادل يحاصرها إذا توفى ولد أخيه العزيز صاحب مصر وكان عسكره مع عمه على مادين. فلما توفى العزيز ملك أخيه الأفضل سلطنة مصر. ثم وصل الخبر إلى العادل وكان بين الأفضل وبين عمه العادل نفرة من قضية الذي جرت فيما تقدم. فلما ملك مصر أرسل إلى عسكر مصر الذي مع عمه يأمرهم بمفارقته. ففارقوه وعادوا إلى مصر. ثم وصل الخبر إلى العادل بأن الأفضل خرج من مصر عازما على حصر دمشق واستعادتها من عمه، فسار العادل عن ماردين جريدة إلى دمشق وترك ولده الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد محاصرا لها بعد ما كان قد طلع سنجقه إلى قلعة ماردين. فاجتمع صاحب سنجار وصاحب الموصل على ترحيل الكامل عن ماردين فرحل.

قال ثم إن الأفضل ما دامت له الولاية غير قليل وسار إليه عمه وأخرجه منها واستولى على مصر ونقل أهله إليها ثم جعلها كرسي المملكة وكان قبل ذلك من زمان آتابك زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين يوسف كان قد جعلوا كرسي المملكة دمشق ومقر السلاطين الذي كانت تحكم على جميع ولاية الشام. فلما استولى السلطان صلاح الدين على مصر في أيام الملك العادل نور الدين ثم توفى نور الدين وتولى ولده الملك الصالح على دمشق وجميع ولايات الشام ثم تولى دمشق الملك الناصر صلاح الدين ابن أيوب ونقل أهله إليها وجعلها مقر ملكه ونوب أخيه العادل بمصر. فمن تلك السنة ألف العادل إلى أهل مصر وحب السكنة بها فلما توفى أخيه صلاح الدين وجرى الأمر على ما تقدم واستولى الملك العادل على جميع البلاد الشامية والمصرية نقل أهله إلى مصر وجعلها كرسي الملكية واسطوطن بها إلى حين ما بلغه الوفاة في سنة خمس عشر وستمائة. وكان مولوده سنة اثني وأربعين وخمسمائة في بعلبك، يكون مدة عمره أربعة وسبعين سنة، ويكون على ما ذكر ملكه أربعة وعشرين سنة.

ثم تولى بعده ولده الأكبر السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد على مملكة مصر وتولى دمشق الملك المعظم عيسى أخا السلطان الملك الكامل وتملك الملك الأشرف مظفر الدين موسى على ديار الشرقية والجزيرية وإثناهما نيابة عن أخاهما الملك الكامل ناصر الدين محمد وكلاهما اتباعا ما آثر والدهما وعمهما في العدل والإنصاف.

وكان الحاكم بآمد وأعمالها الملك المسعود ابن الملك الصالح محمود ابن نور الدين محمد ابن قرا أرسلان ابن داود ابن سكمان ابن آرتق. وكانت آمد من بعض فتوحات السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب.

قال ولما فتح آمد وتملكها من صاحبها نيسان وكانت لبعض أمراء التركمان قد أعطاه السلطان ملك شاه. وكان ابن نيسان وزيره ومدبر أمره أنعم بها على نور الدين محمد ابن قرا أرسلان (11a) جد الملك المسعود هذا وكان له قبل ذلك حصن كيفا فقط.

قال ابن شداد لما استولى الملك الناصر صلاح الدين على آمد في شهر محرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة وكان قد سبق وعده لنور الدين محمد ابن قرا آرسلان بآمد لما صار إلى حصار الموصل وأنعم عليه في تلك السنة بقلعة الجديدة والهيتم. فلما استولى على آمد أنعم بها على نور الدين محمد ووفى له بوعده وقد تقدم ذكره لأن هذا نور الدين محمد كان ناصحا للسلطان مشاهدا لجميع حروبه وحوادثه منفقا أمواله في طاعته وكان يعادي أعدائه ويوالي أوليائه. وكان نور الدين جيد السيرة فلما توفى في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وتولى بعده ولده قطب الدين سقمان إلى سنة سبعة وتسعين وخمسمائة وسقط من صطح جوسق كان له بظاهر حصن كيفا فمات.

وتولى بعده أخيه الملك الصالح ناصر الدين محمود واستمر بآمد وما بيده غيرها إلى سنة تسع عشر وستمائة. وكان على ما يقال عنه مائلا إلى الظلم وقبح السيرة متظاهر بمذهب الفلاسفة، فبقي بها إلى حين ما توفى.

وملك بعده ولده الملك المسعود ركن الدين مودود فسلك سيرة والده في الظلم والتفسق وارتكاب ما لا يليق بأمثاله وكان يتعرض إلى نساء الرعية فشاعت قبح سيرته واتصلت إلى السلطان الملك الكامل صاحب مصر فعله مع رعيته وظلمه للغرباء والتجار. ثم أوكد الأسباب أنه أسى جوار الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل أبا بكر ابن أيوب، وكان يومئذ بميافارقين وتخطف بلاده وتظاهر للسلطان الملك الكامل بمخالفة أوامره وكان والده مزوجا في ابنة الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن أيوب. فلما مات والده أساء إليها إساءة كثيرة فخرجت من عنده وقصدت أخاها الملك المظفر غازي بميافارقين، وكان شقيقها. وشكت إليه حالها مع الملك المسعود. فأرسل إلي أخويه السلطان الملك الكامل والملك الأشرف وعرفهما تلك الأمور الذي بدت من الملك المسعود في حقه وحق أخته. فلما وصل رسوله إلى إخوته أمر السلطان الملك الكامل بتجهيز العساكر وركب وسار طالب دياربكر وقصد آمد وحاصرها وضايقها ونصب عليها المجانيق. فلما أبصر ذلك الملك المسعود وطلب الأمان خوفا من جنده والرعية لا تغدر به وتسلمه إلى السلطان الملك الكامل ويأخذه قهرا فطلب الأمان فأمنه السلطان على أن يسلم جميع ما بيده من المدن والقلاع وأن يقطع له إقطاعا بالديار المصرية، فقبل ذلك وسلمها. وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة هجرية. ثم تسلم أيضا ما كان بيده من الحصون ما خلا حصن كيفا. (11b) فإن الذي كان بها نائبا لم يسلمه فسير السلطان الكامل الملك مسعود إليه فسار إلى الحصن وأظهر لمن فيه أنه يعذبه بسبب امتناعهم من تسليمه فسلموا الحصن إليه في محرم سنة ثلاثون وستمائة.

فرتب فيه وفي آمد نائبا عنه ابن أخته شمس الملوك سيف الإسلام أحمد ابن الملك الأعز شرف الدين يعقوب ابن السلطان الملك صلاح الدين يوسف ابن أيوب فحكم به اثني عشر يوما وتوفى ودفن على باب آمد رحمه الله تعالى. ولما توفى شمس الملوك أراد السلطان أن يختبر ولد شمس الملوك شهاب الدين غازي ويرعى بذلك حق والده فولى آمد شهاب الدين غازي وأشرك معه شمس الدين صبواب.

قال وسار السلطان الملك إلى مصر واستمر شهاب الدين غازي بآمد ومعه شمس الدين صواب العادلي إلى سنة ثلاثة. وبلغ السلطان الكامل عنه أنه كاتب علاء الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم وأراد بيع آمد فنفذ إليه واستدعاه إلى آمد مصر وحبسه بها وولى تلك البلاد لولده الملك الصالح نجم الدين أيوب فاستقبل بها ومعه شمس الدين صواب العادلي، إلى أن دخلت سنة ثلاثة وثلاثون وستمائة، توفى شمس الدين صواب ودفن بآمد واستقبل الملك الصالح بآمد وغير لها ولم تزل بيده إلى أن بلغه وفات والده الملك الكامل بمصر فخرج من آمد وقصد الديار المصرية واستولى عليها وعلى جميع ممالك الشام وكان عبوره إلى دمشق نهار الجمعة تسع وعشرين يوما خلا من شهر جماد الأول سنة سبع وثلاثون وستمائة وذلك بعدما نوب في آمد وغيرها ولده الملك المعظم غياث الدين تورانشاه وأقام بها [إلى] أن بلغه قصد عسكر السلطان غياث الدين آمد. فخرج منها وقصد حصن كيف وترك بآمد نوابه فنازلها عسكر المذكور وحاصرها وضايقها فلم يكن للذين بها طاقة فطلبوا الأمان لأنفسهم وأموالهم فأجابوا إلى ذلك وملكوها ولم تزل بأيديهم إلى سنة خمس وخمسين وستمائة. وقصدها الملك ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن أيوب صاحب ميافارقين ونازلها وعاد من عليها.

قال وأما الملك المعظم تورانشاه أقام بحصن كيفا واستمر بها وأما نواب السلطان غياث الدين كيخسرو ابن قلج آرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم فإنهم استمروا بآمد. قال وأما السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب لما ملك مصر وأطاعته الأمراء والجند وفتح خزائن المال وفرقها على الأمراء لأنه كان جيد الرأي حميد السيرة عارفا بأمور السلطنة (12a) وحكم السياسة وذلك من ملازمته لوالده. لأنه ما كان يفارق خدمته وكان أعز أولاده عنده. قال ولما نظر في الأمور واطلع على أحوال المملكة علم أنه ما ينال الأمور ويبلغ المقصود ويشيد ملكه وسلطانه إلا [بـ]العدل وبذل المال وكثرة الرجال فصمم عزمه وفرغ همته لذلك وأمر بشرى المماليك وبذل المال وكثرت الرجال والجند حتى وصل من إنعامه إلى تركمان الشام وعربانها وشرع في فتح البلاد وسار يغزو بلاد الإفرنج ودخل إلى أرض الساحل. ثم تقرر الصلح بينه وبين الإفرنج وأشرط عليهم بأن تأمن التجار والقوافل من المسلمين من كيدهم. وكان قد قصدوا القدس فصدهم عنه وكسر عساكرهم وتقرر الصلح بينهم وعاد إلى مصر مؤيدا منصورا وسارت التجار من جميع البلاد تشتري المماليك وتجلبها إلى مصر ولما رأوا السلطان الملك الصالح نجم الدين قد بسط يده في شرى المماليك.

قال ابن شداد بالغ السلطان الملك الصالح في شرى المماليك حتى ملك اثني عشرة ألف مملوك تركب لركوبه وتقبل أوامره وتسارع في رضاه ولو أمرهم باللجج في البحر لدخلوا فيه ولو ألقوا أنفسهم في المهالك من أجل طاعته لأنه كان قد رباهم وحولهم في نعمته وأحسن تربيتهم وجعلهم عدته في الشدائد وفوض أمرهم إلى مملوكه بيبرس المبندقداري. قال وكان هذا بيبرس جيد الرأي عاقلا عارفا وأبصر منه أمورا استوجب رفعة محله على أبناء جنسه وكان ناصحا في خدمة السلطان فجعله مقدما على جميع الممالك وأمرهم بطاعته واستمر الأمر على ذلك إلى سنة سبع وأربعين وستمائة.

وتوفي الملك الصالح نجم الدين أيوب واضطربت البلاد بعد وفاته وتشوش الأحوال من الأمراء والجند وصارت الأمور منقادة إلى بيبرس المبندقداري مملوك السلطان، والناس تتردد إليه وهو يقضي الأشغال مدة حتى اتفق الأمراء الصالحية مع الأمير ركن الدين بيبرس وأرسلوا إلى الملك المعظم تورانشاه صاحب حصنكيفا يعلموه بوفات والده ويحثوه على سرعة المسير إلى مملكة والده وسارت الرسل إلى دياربكر وجدوا في المسير حتى لحقوا بالملك المعظم وعرفوه بتلك الأحوال فأسرع في وقته وساعته وتجهز لقصد الشام ثم رتب ولده الملك الموحد تقي الدين عبد الله على حصنكيفا وأعمالها. قال ابن شداد كان عمر الملك الموحد تقي الدين يومئذ عشرة سنوات. ثم سار الملك المعظم تورانشاه متوجها إلى دمشق فلما وصل تلقوه أهل دمشق خارج البلد وفرحو به.

قال ابن شداد كان يوم دخول المعظم إلى دمشق يوم مشهور (12b) لم ير مثله مما داخل أهل دمشق من السرور عند قدومه. ثم أقام المعظم بدمشق يومين وسار طالبا مصر. وكان دخوله إلى مصر في أواخر سنة سبعة وأربعين وستمائة. وصعد إلى قلعة الجبل وقر قراره واستبشروا الذين كانوا في انتظاره وفتح خزائن الأموال وفرقها على الأمراء والجند والمماليك وشرع في ترتيب الدولة. ثم أبعد عنه من كان عند والده قريبا وقرب من استخار وأعرض عن المماليك الصالحية وأبعدهم عنه وبدا منه في حقهم أمورا أوجب إبعادهم خوفا منهم فاتفقوا جميع المماليك واجتمعوا مع مقدمهم بيبرس البندقدارى. وقالوا له نحن كنا المقدمين عند والده واليوم نحن أبعد الخلق عنده نحن قد أتينا إليك نعرفك حالنا فنرجو منك المعونة معنا وتقوم معنا فيما ندبناك وإلا تركناك وتمسكنا بسواك وقدمناه علينا وطلبنا منه النجدة والمعونة ويفوتك الأمر ويحضى به غيرك. قال ابن الأثير وكان قد تعلقت آمال بيبرس بمملكة مصر وأرادها لنفسه. فلما جاءه الأمر كما أراد نهض وبادر إلى قتله، فقتله.

قال فلما دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة قتل الملك المعظم تورانشاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على يد بيبرس المبندقداري مملوك أباه الملك الصالح ومن هذا التاريخ تولت المماليك الجراكسة على ديار المصرية.

قال صاحب التاريخ وقد اتفقت المؤرخين كلهم عن أصل الجراكسة هم من أولاد إخوة يوسف بن يعقوب عليه السلام. لما توفى يعقوب ويوسف عليهما السلام وبقي ريان ابن الوليد ملك مصر رفع قدر أولاد يعقوب ويعظمهم. فلما توفى الوليد أبو ريان وجلس ولده أكماس في سرير سلطنة مصر، وضع قدر أولاد يعقوب وأهانتهم العماليقة واستخدموهم في زي العبيد حتى تقاسموا فيهم وأخذوا أولادهم ونسائهم ورجالهم أسرا واستخدموهم فهرب أربعة رجال منهم بنسائهم وانهزموا إلى بلاد الخزر بين بلاد العجم وتمكنوا هناك واستعموا واستعمروا وكثروا. فسمتهم الأعجام "جاركس" يعني من أربعة رجال، وبقي اسمهم "جاركس".

وكان هذا بيبرس المبندقداري مملوك رجل تاجر بدمشق. وكان ماهرا في رمي النبال معروفا بين الرجال وفي بعض الأيام سارت نساء مولاه إلى الحمام فأخذ ولد مولاه وما كان له سواه وسار به إلى طرح النبال واشتغل بها إلى وقت الغياب فوقع الصبي على صورته، وانحطم أنفه وجرى الدم منه، فخاف بيبرس من ذلك وأتى به إلى البيت والنساء في الحمام وأخذ رأسه من خوفه وخرج إلى (13a) خارج دمشق. فأمسى عليه الليل ودخل إلى غار هناك واختفى به. وبعد ساعة أتى رجل آخر فدخل الغار واختفى بجانب منه. وبعد ساعة أتى رجل آخر فسار إلى جانب الغار وبيبرس ينظرهم ولا يتكلم. فكانت تلك الليلة نصف شهر شعبان ليلة البرات والقمر يضيء كالنهار وذلك الإثنان ما لهم علم من الآخر وبيبرس عالم بهم.

فعندها قال بيبرس: "يا عبيد الله من أنتم من الخلق وما حالكم؟" فتعجبوا من ذلك واجتمعوا الثلاثة عند باب الغار والليل كالنهار.

فقال لهم بيبرس: "ما حالكم وما السبب في وصولكم إلى ههنا؟"

فقال الذي قدم بعد بيبرس: " أنا جمال الأمير الفلاني وكان له جمل يعز عليه من دون الجمال فشرد من القطار وتاه في البراري والقفار، ومن خوفي أتيت إلى هنا إلى الصباح عسى يفرج الله علي بوجوده."

فقال الآخر: "أنا بازدار الأمير الفلاني، قد أخذت باز كان على قلب الأمير أعز من ولده من غير علمه وسيرت به إلى غيضة الفلانية وطرحته على بط هناك فعلا الباز إلي وجه السماء وارتفع فغاب عن ناظري وجريت وراءه إلى المساء وما قدرت على المسير أتيت إلى ههنا."

فقال لهم بيبرس: "وأنا والله مثلكم لأنني مملوك الخواجا الفلاني، وقد سارت الستات إلى الحمام فأخذت ولده وما كان لهم غيره وسرت به إلى الخضراء واشتغلت برمي النشاب فوقع الصبي على وجهه وانحطم أنفه وجرى دمه فسرت به إلى البيت ورأيتهم ما قد أتوا من الحمام فجعلت الصبي في البيت ومن خوفي خرجت من دمشق وأتيت إلى هاهنا عسى يصلح الله حالنا."

فتعجبوا بعضهم من قضية بعض. فقال بيبرس: "تعالوا نتوسل إلى الله عز وجل نطلب منه في هذه الليلة المباركة كل واحد منا بما يشتهي قلبه." قال الجمال: "أنا والله راض من مولاي أرجو من الله عز وجل أن أجد الجمل وأسير به إليه وقد بلغت المأمول ونلت المطلوب." فقال البازدار: "وأنا كذلك راض من مولاي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن أقع بالباز وأسير به على الصباح مسرورا وقد بلغت المأمول." فقال بيبرس: "أنا أرجو من الله عز وجل أن يجعلني صاحب خطف ويبلغني سلطنة مصر وخدمة المدينة ومكة." ودعوا لله عز وجل وأمنوا على دعاءهم.

قال فلما أصبح الصباح خرج الجمال فوجد الجمل في البر يرعى وأخذه وأتى به مولاه. وكذلك البازدار وجد الباز من توط في شجرة بعض الغياض فأخذه وأتى به إلى صاحبه. وأما بيبرس ثم جالس في الغار لما يريد يقضي الله أمرا فاعله.

كان السلطان الملك الصالح جالس على سرير سلطنة في روضة كالجنان وأتت قطعة من الوز طائرين في وجه السماء فأخذ قوسا كان في جانبه وجعل في كبده نبلة وصطر بها وزة طائرة في الهواء (13b) فوقعت في وسط الديوان وافتخر بها. وقال: "من يكون مثلي في رمي النبال؟" قال بعض الحضار يا خوند عند الخواجة الفلاني مملوك جركسي ما مثله في الدنيا ماهر في جميع فنون السلاح من ضرب السيوف وطفر الرماح وحدف النبال من اليمين والشمال ما يليق ذلك إلا في حضرة مولانا السلطان.

قال فحن قلب السلطان إلى ذلك الغلام وأرسل طلبه من مولاه. وكان القضا والقدر في تلك اليوم الذي هرب. فقال مولاه فدى السلطان أرواحنا ولكن القضية كيت وكيت فأعلموا السلطان بذلك. فأمر المنادية أن تنادي كل من يأتي بمملوك الفلاني يجلب له من السلطان الجائزة وإنعام. فسمع البازدار بذلك وأعلمهم بمكانه وقال والله البارحة كنا معه فسار بهم إلى الغار فوجدوه هناك جالسا يصلي فأتوا به إلى السلطان الملك الصالح ورأى فيه دلائل الإقبال وعلى أعطافه علائم السعادة فقربه وأدناه وسلم إليه جميع أمواله وخزائنه وهو الذي حثه على مشترى المماليك من أبناء جنسه وعلمهم السلاح شورية وطرح النبال ولعب الرماح والتقلب تحت السفاح وب�