داوود قسطنطين الخوري -...

62

Upload: others

Post on 09-Feb-2020

9 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

-١-

داود قسطنطني اخلوري

-٢-

-٣-

من رواد املسرح الغنائي السوري

م١٩٣٩ -١٨٦٠

حممد بري العواني: إعداد دإبـراهيــم عـــــوا: رســوم

ت الطفل منشورا- اهليئة العامة السورية للكتاب م٢٠١٣دمشق -وزارة الثقافة

-٤-

إعداد حممد بري العواين؛ رسوم / داود قسطنطني اخلوري اهليئة العامة السورية للكتـاب، : دمشق -.إبراهيم عواد

. سم ٢٠؛ مص: ص ٦٠ - .م٢٠١٣ )٢٢ سلسلة أعالم للناشئة؛( العنوان -٢اخلوري، داود قسطنطني ع : ط ٩٢٨ -١ السلسلة-٤لعواين ا-٣

مكتبة األسد

سلسلة أعالم للناشـئة

-٥-

املعلم داود قسطنطني اخلوري

-٦-

ــواك ـــة به بابــت ص ــالي فتن م ــواك ــتالل ه ــك واع وزالل مائ

وضك طـائع يك في فردوس ر عاص منه يفـيض الـيمن فـي يمنـاك

بحا أراك و ص كــل شـي ء بــاسم في حين طـرف غمـام أفقـك بـاك

مـن دمـاك منحتـه ذا دمـي هـو ه ـــداك ــروءة أن يكــون ف الم ــن فم

أنا إن أكن عنك ابتعـدت فـإن فـي ــوانحي ــين ج ــي وب ــقلب واكمث

ــشوقا ــاك ت بــى ر ــن إل ــي أح إنـ ال أنـساك وإلى الم ـصدى يـا حم

لك في جنـاني يـا جنـاني عطفـة أحيـي بهـا طـول المـدى ذكـراك

داود قسطنطني اخلوري

-٧-

األصدقاء الثالثة

وكان . أخوة الدين ومنارة العلمفي المسيحكنا ثالثة جمعتنا غم البرد والمطر يسير به رطفل صغير شاب يافع قد أمسك بيد

وفجأة يدخل الشاب من باب ضيق . في دروب ضيقة متعرجةأنه في غير مغلق، ويدخل خلفه صديقي الطفل الذي يكتشف

غرفة واسعة، رحبة، أنيقة، تزين جدرانها آيات من القرآن ا جديدا ، كما اكتشف عالمكريم مكتوبة بخطوط جميلة باهرةال

.من أسرار الدروب الضيقة ودهاليز الدور القديمة أبيض األنيق؛ جلباب الشيخ جالسا بلباسه التقليدي كان حامل خشبي هر؛ وأمامظهبسيطة الم ة بيضاءاموعم ،ناصع

تزينها كتب غير كثيرة، لكنها " كتبية"قراءة الكتب، وخلفه ل .مدهشة بكبر حجمها وسواد أغلفتها واصفرار ألوان أوراقها

-٨-

،بيأبو الص هلمعم باحترام زائد كما أوصاه الشاب سلمالشيخ الذي نظر بالطفل الذاهل أمام ن ودفعإلى الطفل بعيني وبينما ينسحب . فاحصتين وقد ظهر فيهما الرضا سريعا

.الشاب كان الشيخ يشير بيده إلى الطفل بالجلوسركع الطفل على ركبيته وانحنى بحذر يقبل يد شيخه حسب وصية أبيه في الوقت الذي هدر فيه صوت جميل

.على اهللا توكلنا. بسم اهللا الرحمن الرحيم: ق بخشوععميكانت المفاجأة مدهشة للطفل حين فتح الشيخ كتابا كبيرا، حواشيه مزخرفة، ووضعه على الحامل الخشبي وقرأ

اقرأ باسم ربك الذي (: بصوت آمر لكنه مليء بالعاطفةلحظتها عرف الطفل أن ما أمامه هو القرآن . )..خلق

الكريم الذي حدثه عنه والده وطلب منه أن ينصت جيدا إلى .صوت الشيخ إذا أراد أن يكون بارعا باللغة العربية

كان الشيخ يقرأ بدقة لغوية وموسيقية وإيقاعية بالغة علم اإلنسان . الذي علم بالقلم. اقرأ وربك األكرم(..تأثيرال

لمعي مأخوذا)ما لم هوراء ددروالطفل ي .

-٩-

بدت الغمغمات والتلعثمات األولى واضحة في قراءة عر دفء غير أنه تجاوزها حين استش. الطفل الحائر الخائف

صوت شيخه وحنانه بسرعة كبيرة، فصار صوته واضحا، هد ما علممستخدما بإتقان جي دوجتل ويري ا، وها هو اآلنقويإياه شيخه من أصول قراءة القرآن وأحكام التجويد بصوت

يخ يبتسم ويهز رأسه رخيم، وأداء لغوي متقن، ما جعل الشخشوعا وطربا وهو يمسح على رأس الصغير براحة كفه ما رآه أن قنأي ة حينكينة، خاصأنينة والسري فيه الطمفتسفي عيني الطفل من نجابة وذكاء يوم حضر إليه أول مرة

آلن يظهر نبوغه في علوم اللغة وها هو ا. كان حقيقياالعربية، ويتقن قراءة قرآنها رغم أنه كان يخفي في نفسه ما

. يعجز عن فهمه من بعض أصول النحو والصرفالذي سيكون " يوسف شاهين"كان ذاك الطفل هو صديقي كان والده يعمل حائكا لدى . داعرفيق درب وعمر وتعليم وإب

ف"الشيخ الذي أبصرالذي " يوس فيه ذكاؤه هة فأعجبرذات ميلمع في عينيه فطلب من أبيه أن يعلمه أصول اللغة العربية

.من صرف ونحو

-١٠-

فيه شيخ يتعلم " كتاب"أما الصديق اآلخر فكان تلميذا في هو بعد مرور سنين طويلة يقرأ وها. أصول القراءة والكتابة

أن ق لهوح ،ففاق أقرانه ،هلمتع ما كان ختموي ،ويكتب سه، وقدرفي ليلة ع عريس احتفاال الئقا كأنه يحتفل به أهله

باهيا في دروب الحارة ألبسوه ثيابا مزركشة يسير بها مت من الصغار رفاقه لهوالثغر، وح ن، باسمكتابه"مربوط اليدي "

يغنون وينشدون فرحين، والشيخ يهش عليهم بعصاه برفق عن الغناء واإلنشاد، بينما كان مف صوتهعوحنان كلما ض

يتفر بالطفل أهل الحي على الموكب البهيج سعداء جونحتى إذا بلغ الموكب دار الطفل خرج األهل . المتعلم

غاريد واألغاني وهمورفاقه بالز نهمالستقبال اب واألصدقاءيرشون الحلوى من السكاكر والملبس والراحة فوق رؤوس

. بنهم وأطفال الحارةاألطفال أصدقاء اوإذ يهجم األطفال على سكاكرهم يلتقطونها ويجمعونها عن األرض فرحين بها يتقدم الشيخ ويحل رباط يدي تلميذه ضاحكا لتحضنه أمه ودموع الفرح تهطل من عينيها، بينما

الشيخ قطعة نقود إكراما ومكافأة يضع األب السعيد في يد .لتعليمه ابنه القراءة والكتابة

-١١-

الذي أكمل " حبيب سالمة"كان ذاك الطفل هو صديقي ة بعدالعلوم الدينية المسيحي س وبعضالكتاب المقد مزامير

!ولكن الفرحة لم تكتمل. زمن من الكتابى كان األب يتباه" حبيب"في بيت أهل ففي مساء جميل

ضيفه القس وبما حصل عليه أمام ،ابنه هبما تعلم البيروتي ن من تعليم جيد، ويريد اآلن أن يعرف مستقبل ابنه فطلب م

يقرأ أمام صغيره أن"في كتاب ما" القس.

صوت رزين ونبرات عاليةكتابا وقرأ فيه ب" حبيب"أخذ نحو رق النظرسوهو ي"القس "عنه ليعرف مدى رضاه . غير

" يلحن"أن الضيف المبجل الممتلئ بالعلم أعلن أن هذا التلميذ هو تغيير أواخر الكلمات خالفا " اللحن"و. كثيرا في اللغة

اد الطفل أن يتقن اللغة العربية فعليه أن وإذا أر. للقواعد .في الصرف والنحو" ألفية ابن مالك"يحفظ

نا، وهطلت دموعزال وحخج هرأس بالطي األب أخفضلكنه منذ الصباح الباكر طار إلى إحدى المكتبات . من عينيه

-١٢-

ابن "ومعها شرح " األلفية"اشترى اإلسالمية في حمص فوما . وعاد بهما ليحفظهما ابنه في أسرع وقت ممكن" عقيل

زيمي كني الصغير الذي لم على صديقي ذلك أصعب كان ! والحرف واالسم يومها بين الفاعل والمفعول،

-١٣-

عربي يوناني

. »داود قسطنطين الخوري«طفل الصغير الثالث هو أنا كان ال .م١٨٦٠ في الثاني من شباط عام »حمص« ولدت في

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حوالي عام ١٧٥٠ هماس يوناني شاب م جاء"داود " امهإلى دمشق في م

غير أنه في لحظات طيبة كان . ادية اقتص-سياسية وتجارية األرثوذوكسي ك األنطاكيريطرطة البإلى غب قد اجتمع

الذي أعجب بأخالقه ودماثته، وبإتقانه اللغتين " دانيال"لم الالهوت المسيحيق بعمتعة، والمة واليونانيوهكذا . التركي

بالبقاء عنده في دمشق، ثم " داود"مل البطريرك جهده وأقنع ع .عينه مدرسا للغة التركية في المدرسة البطريركية

-١٤-

ا كانولم"أسرة " داود بفتاة من با فقد اقترنزا عشاب" داود"ك أن رسم وما لبث البطرير". حنة"اسمها " البحري"

في عهد سيادة المطران اليوناني صبمدينة حم كاهنا، وكلفه ".أفتيميوس"

ولدين صبيين هما " داود" أنجب - في حمص-هناالذي سيكون " قسطنطين" الذي سيصبح عمي، و"ميخائيل"

ولهذا صار . دتيهي ج" حنة"فهو جدي، و" داود"وأما . أبيالمولود في عائلة علم " داود قسطنطين الخوري"اسمي

يميل نحو " قسطنطين"وهذا ما جعل والدي . ومعرفة وإيماناألدب وعلوم الدين، ويتقن اللغات العربية والتركية

.واليونانية حين -ديولما كان أصل أسرتي يونانيا فقد تم تعيين وال

ممثال للقنصل اليوناني في حمص، ومن ثم -أصبح شابا الحاكم التركي تشارا عندسم نوهفي دمشق" طاهر باشا"عي.

ولنبوغ والدي في العلم والمعرفة، ولصدقه ووفائه الوالي التركي هأقنع ته فقدباشا"وكفاء الذي انتهت " طاهر

-١٥-

ليدرس اللغة الفارسية " إستانبول"مدة واليته بالسفر معه إلى من ل العلمنهة سنة يشرع فمكث فيها أربع ،اإلسالمي والفقه

.منابعه الصافيةوحين عاد والدي إلى حمص كان قد صار حجة ومرجعا

ولكن أعظم . ضاء يقصده المسلم قبل المسيحيبارعا في القهو أنه وضع القوانين األساسية " قسطنطين"ما فعله والدي

لجميع الكنائس في الكرسي األنطاكي، خاصة ما يتعلق من ثة مستفيدا بذلكبالميراث وأصول توزيعه على الور

فى أصول الفقه اإلسالميتوفي التوزيع العادل لميراث الم .على ورثته

التي تنتمي إلى عائلة حمصية عريقة " زهرة"أما أمي فهي وبذلك يكون نسبي مزيجا إبداعيا من ". لوقا"النسب من آل

حضارتين عريقتين قدمتا للبشرية علوما وفنونا وآدابا وفلسفةاليونانية والعربية : هاتان الحضارتان هما. قل نظيرها

.اإلسالمية، فكان ذلك نعمة علي وبركة زحفت بين الكتب التي - في حمص-في بيت أبي... هنا

-١٦-

. اختبأت خلفها. جلست فوقها. تسلقت عليها. تمأل كل مكانتح بعضها وأنظر فيه دهشا، فإذا بي وأنا ثم وجدت نفسي أف

من أعود أن أقرؤها بعد الذي هو مدرستي " الكتاب"أكبر علم الحساب، وكثيرا من ت فيه قليال منسرد األولى وقد

ولكن أعظم . علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والبالغةلمت وأتقنت هو قراءة القرآن الكريم، وأصول ما درست وتع

وهذا سوف يفيدني كثيرا في علوم الشعر . التجويد والترتيلوالموسيقا والمسرح الغنائي.

انتفاعا ليس " الكتاب"وإذا كنت قد انتفعت بتعليم شيخي في من العلم والفن ما ال يوجد كثيرا فإن مكتبة والدي منحتني

فهنا كتب دينية إسالمية فقهية . شيخنا المبجل" كتاب"في كثيرة تقبع إلى جانبها كتب في التعاليم المسيحية، خاصة . الكتاب المقدس الذي يتجاور على الدوام مع القرآن الكريم

غات اليونانية والعربية والتركية والفارسية وهنا كتب في اللوهنا أجد . تمتلئ باألدب والفن والحساب والشعر والموسيقا

صحبة ال يمكن لي أن أجدهم في الحياة ألنهم أموات، أحيإغير ر وكتب النوادر واألمالنهمفي دواوين الشع ي اء

-١٧-

وهنا كتب . لمقامات والحكايات الخرافية واألسطوريةواالجاحظ وابن المقفع وأبي حيان التوحيدي والمتنبي وأبي

وهنا أجد أرباب الموسيقا العربية . تمام وزهير بن أبي سلمى -إسحق الموصلي وابنه إبراهيم: اإلسالمية من أمثال

زرياب-هدين المب األمير إبراهيم -الفارابي -الكندي . .وأجد غير ذلك من هؤالء المبدعين العظام

لقد قرأت ذلك كله بينما كان والدي منشغال بأعماله السياسية واالقتصادية، وبفتاواه وتنظيمه للقوانين الكنسية

سامراته مع رجال العلم والمعرفة واألدب والفن الجديدة، وممفهوأشر مهأكثر وما كان صوالدين في حم!

-١٨-

-١٩-

املعلمون الثالثة

يوسف شاهين وحبيب -حين كبرنا قليال نحن الثالثة

في كانت األنوال اليدوية التي نعمل عليها -سالمة وأنا نا في مكان واحد كبير فإذا بنا نتذاكرعمصناعة األقمشة تج وتتقارب ،فنتبادل المعلومات واألفكار وحفظناه ما تعلمناه

. أرواحنا وتصفو أذهانناوها نحن اآلن قد نهلنا من العلوم والفنون ما أفادنا وجعلنا

كثير دونعرا وفنا وأدبا معروفين مشهورين في حمص شمن الشباب أمثالنا، فانفتحت أمامنا أبواب المدارس الغسانية األرثوذكسية لنعلم فيها األطفال الصغار وفق أصول حديثة،

. معلما للغة العربية والنحو" يوسف شاهين"فصار صديقي

-٢٠-

الصرف وإدارة " حبيب سالمة"آلخر وتولى صديقي ا .أما أنا فقد صرت معلما للرياضيات والموسيقا. المدرسة

متكامال ألننا آمنا بأن ال عملقد كان تعليمنا كمجموعةالفن أداة فعالة في توجيه األطفال أخالقيا ودينيا وعلميا

أنني أملك صوتا جميال قويا هادرا حباني وإنسانيا، خاصة وقد أتقنت أصول الموسيقا العربية ومقاماتها . اهللا به

وما لي ال أملك ذلك وقد أتقنت . وأوزانها وأصول إيقاعاتها أصول فنون تجويد القرآن - كصديقي حبيب سالمة-كثيرا

ولعل هذا هو ! الشيخ؟" تابك"الكريم أيام دراستي في يفتتن بي حين تعرفت إليه في " أبا خليل القباني"ما جعل

فضمني إلى فرقته " مدحت باشا"دمشق في عهد والية الموسيقا العربية من ه أساطينلدي كان نشدا وقدغنيا ومم

" محمد الشاويش"لمغنين أمثال الحاج العازفين والممثلين واصيالحم .

ة كانت قدنا التعليميجهود ل بفخر أنأسج أن أستطيعلقد حققنا . جعلت من حمص مقصدا لطالب العلم والمعرفة

-٢١-

مستويات تعليمية عظيمة وخطيرة، فكثر طالبنا، وكثرت نا الغنائية والمسرحية فأشرقت شمس العلم والمعرفة نشاطات

.في أجمل أثوابهاولما قامت لجنة البعثة الفرنسية بزيارة إلى حمص عام

م لالطالع على مستوى التعليم فاجأها ما وصلنا إليه ١٩١٢يروت تعليميا فأعلنت أن حمص تحتل المركز الثاني بعد ب

.التي احتلت المركز األول األدب والشعر - وأنا المعلم الشاب- لم يكن يشغلني

بسوالرياضيات والموسيقا وح . بل كانت روحي تميل نحو به عن الذي كنا نسمع التمثيل المسرحي"أبي خليل القباني " وعما كنا نسمع به في دمشق وما أنجز من عروض باهرة،

عن مؤلفي حمص وفنانيها الذين تتلمذوا على يدي القباني في محمد الخالد "و" الشيخ عبد الهادي الوفائي"دمشق أمثال

. وغيرهما" الشلبي وكان عمري آنذاك ثمانية وعشرين - م١٨٨٨في عام

في دمشق قد " القباني"وكان . مص عينت معلما في ح- عاما

-٢٢-

بدأ يفرض فنه العظيم على المجتمع الدمشقي المحافظ داحرا عروض ة " كركوز وعيواظ"بذلكوقيتهافتة بألفاظها السالم

وقد تناهى إلينا كيف استطاع . البذيئة وموضوعاتها المبتذلةتقطاب الجمهور الكبير إلى مسرحه يوميا وهو القباني اس

إسالمية -يقدم لهم الحكايات الجميلة في موضوعات عربية ت الناسبجمة أعجترإنسانية عربية وأجنبية م ومضامينجميعا، خاصة ما كان فيها من رقص وغناء وألحان جميلة

.مطربةمدحت "د تعرفت بالقباني عن طريق الوالي كنت قاوإذ -١٨٧٨في دمشق أثناء عملي فيها ما بين عامي " باشا

، فقد نهلت من أخالقه وإنسانيته ١م، وهي فترة واليته١٨٧٩وتنوره ورغبته في تطوير بني وطنه وهو الشيخ الجليل قبل

ه اللذين كانا لي خير معين في عملي المسرحي في علمه وفنصحم .

وكانت مدة واليته سنة وثمانية . ١٨٧٨تولى مدحت باشا دمشق عام ) ١(

وبذلك يكون عمر داود قسطنطين الخوري ما بين . أشهر وعشرة أيام . عاما١٩ إلى ١٨

-٢٣-

ولما كان الشيخ القباني فنانا محترفا يسافر كثيرا لتقديم فنه في الدول العربية فقد بقيت هاويا ولم أسافر معه إلى

من أو إلى شيكاغو في أمريكا كما فعل كثير ،رأعضاء مص .فرقته

". يوسف شاهين"كان صنيع القباني مشجعا لي ولصديقي وقد جعلنا ذلك نكتب مسرحيات ونلحنها وندرب عليها طالبنا

لقد كتبت ولحنت . لنقدمها على مسرح الغسانية األرثوذكسية :مشاهد أذكر منهاكثيرا من المسرحيات والفصول وال

. مثال العفاف في رواية األميرة جنفياف -١

.اليتيمة المسكوبية -٢

.الصدف المدهشة -٣

.عمر بن الخطاب والمرأة العجوز -٤

.االبن الضال -٥

.جابر عثرات الكرام -٦

.السامري الشفيق -٧

-٢٤-

.)١(العشر العذارى -٨فكان عام ...." مثال العفاف"أما أول عرض لمسرحية

إضافة إلى ذلك فقد كتبت قصائد شعر تعليمية . ٢م١٨٩١وقد آمنت بالقومية العربية أيما إيمان وأنا . ووطنية وقومية

ولماذا ال أكون عربيا رغم أصلي . الذي أتكلم لغتها وأتقنها : صلى اهللا عليه وسلممحمد النبي اليوناني وقد حفظت حديث

)واحد وأباكم واحد كمرب إن ها الناسيا أي . آلدم كلكمال فضل لعربي . إن أكرمكم عند اهللا أتقاكم. وآدم من تراب

. )على أعجمي إال بالتقوىكله فقد التراتيل إضافة إلى ذلك نت كثيرا منت ولحكتب

الكنسية كي ينشدها ويرتلها أطفال جوقة المدرسة في .الصلوات واألعياد والمناسبات الدينية واالجتماعية

لألسف لم يتضمن كتاب أعماله الكاملة سوى خمس مسرحيات هي ) ١(

.ئمة المذكورةفي القا) ٥ إلى ١(المرقمة من

الجندي ولكن أدهم. هذا ما ورد في رأس عنوان المسرحية ضمن اآلثار الكاملة) ٢(ويؤرخ شاكر مصطفى بالعام نفسه مضيفا إليها . ١٨٩٠يؤرخ لعرضها عام

.ويضع عالمة استفهام حول هذا التاريخ" اليتيمة المسكوبية"مسرحية

-٢٥-

ا وفنيا؟ إنهبي أدبي أثر نم هدحو القباني هل كان ولكنا سألته لنفسي، خاصة حين يهجم علي المعجبون سؤال لطالم

كل عرض مسرحي ختبئ خلف الكواليس بعدللتهنئة وأنا ميقدمه طالبنا ، فأذهب إلى بيتي فرحا حيث أبشر أم أوالدي

ذات الصوت الجميل الرخيم " كرياكي الخوري"السيدة وهي التي كنت قد اقترنت بها في تموز من عام بالنجاح .م١٨٩٢

وتحفظ عني ألحان . كانت زوجتي ترعاني أحسن رعايةمسرحياتي وتراتيلي وتنشدها أمامي مفتونة بها، فأفتتن أنا كان عقلي أن غمما افتتان بصوتها الجميل الساحر رأي

أهو عربي أم . الناس عن هوية إبداعيمنشغال بسؤالـم ال أكون كذلك : غير أن جوابي كان دائما... يوناني أم؟ ل

وأنا ابن ثقافتين وحضارتين عريقتين هما اليونانية والعربية اإلسالمية؟

أبي ولم ال أكون مبدعا وقد قرأت نفائس الكتب في مكتبةم ال أكون ومجادالته مع أصدقائه؟ ولوسمعت حواراته

-٢٦-

موسيقيا بارعا وقد أتقنت تجويد القرآن الكريم وتلقيت دروسا في الموسيقا؟ وهل كان القباني يقبل بي مغنيا في فرقته

وأوزانها وأصول العريقة لو لم أكن متقنا للمقامات العربية إيقاعاتها وأساليب غنائها؟

لكن األكثر أهمية كان أنني ولدت في حمص مدينة الشعر دعينبراء المذات الهواء العليل واألرض . والشع صإنها حم

وحيث عاصيها وميماسها . الخصبة الموارة بالخير العميم وسحر وقبلة للشعراء والفنانين واألدباء الذين كانت فتنة

عقولهم أعظم بكثير مما قاله ياقوت الحموي عن خفة عقول لقد عشت حياة . الحمامصة التي هي أشبه بهوائها الدائم

.األدب والفن والشعر وحولي عشرات من أولئك المبدعين ها العبقريشاعر ذكروال ي صحم ذكري أن يستطيع نم

قيق األكبرالر"غبانر السالم بن عبد- الجن ديك صيالحم" يتنفس دون أن من صحم غادري أن مكنهي ن؟ وم

" أمين الجندي"شعر شاعرها وصوفيها األعظم الشيخ : الموشح األنيق الجميل؟صاحب

-٢٧-

ـدوكعنـي أبـف عالـي كييا غز شتتوا شملي وهجـري عـودوك؟

فن قد ابتكر الشيخ الجندي ينسى أن مكنه أني نبل مفأدهش الناس فإذا بها تسير بينهم غناء شعبيا باهرا؟ " القدود"

:الجميل؟" قـده"ترى هل ننسى عن سواها أشغلتني يـتيمتنهيمتنـي

:الصوفي المدهش" قـده"أو ــاح الــصبر وهــى منــي يــا ص

ــي ــأى عن ــروح ن ــقيق ال وشأمين "أن يتناسى الدور النضالي للشيخ ومن يسمح لنفسه

العداء للدولة العثمانية وفسادها، فإذا به وهو يناصب" الجندي رين " باشابراهيم ا"ينضوي تحت لواء القائد المصمحمد "اب

والي مصر، ليصبح شاعره األكبر، وليغدو " علي باشا مطاردا من الدولة العثمانية؟

وينسى ذكر صحم يتجاوز أن يستطيع نشاعرها وم صديقي »أبي الخير الجندي«ارع الشيخ ـورجل السياسة الب

-٢٨-

-٢٩-

الذي لم تلده أمي؟ أخي الذي تولى وظائف خطيرة في وأخي حوران ودير الزور ، وكان ممثل )١(الدولة فكان متصرف

روحه على أن أجمل ما في . حمص في البرلمان السوري :فهل أنسى موشحه الجميل؟. كان شعره وموشحاته وقدودهـــواه دار ته ــن دار م

ــب دار بالح ـــن إن تك

عــاذلي دعنــي وشــأني

هائمــا فـــي كــل دار أطلعــت شــمس المحيــا

في الدجى شـبه الثريـا

ـ افي المحيـا فاسقني ص

مــن لمــى ذات الخمــار نسيب : ومن يستطيع أن ينسى شعراء حمص األفذاذ أمثال

- نظير زيتون- عبد المسيح الحداد- ندرة الحداد-عريضة نصر - سلوى أطلس سالمة- داود شكور-حسني غراب

بس وغيرهم الكثير؟ أنا سليل هؤالء المبدعين وق-سمعانمهم وأعظمهعاءة، فما أرولتهم الوضشع من!

عشر القرن التاسع في النصف الثاني من صحم تكن لمدمشق في المسرح الغنائي متأخرة عن . ا منهبل كانت تشبه

.محافظ= متصرف ) ١(

-٣٠-

فقد كان هواة . حيث أساليب العرض المسرحي الفنيةالمسرح من مهعروض مونيقد والمخرجين الكتاب والممثلين

في ساحات وحدائق البيوت الدمشقية والحمصية حيث تختلط الورود واألزاهير واألشجار بأصوات الممثلين عطور ف للفنوأنفاس الجمهور المندهش المتله والمطربين

.واإلبداعإحدى تلك " سليمان صافي"ة في حمص كانت حديق

المسارح التي قدمت فيها مسرحيات مؤلفة من شخصيات والدرويش والعفريت والفتاة كثيرة منها الملك والوزير

كثير ذلك وغير العروس . البنات " سليمان صافي"وكان ثياب ممثليه الفتيان لبسي

لكن هذا المسرح البسيط لم يستمر . ائيةليقوموا باألدوار النسألن هذا الرائد المسرحي الحمصي تعرض لهجوم بعض في دمشق، ما جعله القباني ضكما تعر تينالناس المتزم

كي المسرح رجهعائلة ي نللنقد أو األذى وهو اب ضال يتعر !م١٨٧٠كان ذلك في حدود عام . مشهورة بتدينها

-٣١-

على دروب الوطنية

كانت حمص في نهاية القرن التاسع عشر تفور وتغلي حماسا ووطنية وعروبة إبان االحتالل العثماني لسورية

وكان الشعر الوطني والقومي . ن الدول العربيةوغيرها مسالحا يقوي عزائم المناضلين الوطنيين والشرفاء من الناس،

واإلنساني العاطفي دانيجر الوإلى جانب الشع . ذلك كان وقدو يجد طريقه إلى النشر في الصحافة الحمصية النشيطة، أ .في محافلها وفوق منابرها األدبية وأنديتها السياسية السرية

أما أنا الذي كنت منغمرا في هذه األحداث الفنية واألدبية فلم أتأخر عن مشاركة رفاقي وأصدقاء دربي في محاربة

-٣٢-

الجهل والفساد وبث روح الحماسة والوطنية في أرواح ناشئة بأناشيد حماسية وأخالقية لمحاربة اآلثار الشنيعة التي ال

.خلفتها الدولة العثمانية والتركية فيما بعد في نفوس الناس ة وقدة والقومية الوطنيشريكا في القضي ال أكون ـم ول

بة والعربية عبر هواء العرو- في حمص العدية-تنسمت هنالغتها وقرآنها وأدبها وثقافتها وحضارتها رغم أصولي

! اليونانية؟ :لقد كنت عربيا يجهر على الدوام قائال

رام أولـي الحميـة بني العرب الك وأربـــاب الوفـــا واألريحيـــة

ـ م فـي الـورى خيـر ا ألنت ارمألكــ ــد والمكــارم وأرب اب المحام

ــاتم ــدة وح ــن زائ عم ــنكم فم ومــنكم كـــل ذي نفــس أبيـــة

ــ الع ــشر عــا م ــابرأال ي رب األكــ ــا أه ــاخروي ــآثر والمف ل الم

-٣٣-

رهلكم لغة حـوت أسـمى الجـوا ــ ــظب ــى غنيــ در اللف ة والمعن

ـ رم لغتـي وجنـسي فإن لـم أحت أضــع قــوميتي وجــالل غرســي

ـ ا لغـة الجتك نفـسي فيدود فـد ـ يب حـرومي يـا حيـاة العةفـد

قبيل الحرب العالمية األولى توليت رئاسة تحرير جريدة فأفس صراء والكتابحمت فيها صفحات لألدباء والشعح .

ولعلني ال أنسى تلك األيام الشريفة في مقاومة االحتالل جمعية "العثماني، وال أنسى أولئك الرجال األفاضل في

اإلصالح العربي "والقومي يقودون النضال الوطني وهم! نسى رجل المقاومة والحرية ترى هل تستطيع ذاكرتي أن ت

واالستقالل الشيخ الشهيد"الحميد الزهراوي سلم؟" عبدالم ! الشهيد الشاب أنسى تلميذه النجيب أن رفيق رزق "وهل أستطيع

المسيحي الذي هجر الطب ليدرس الحقوق بناء على " سلوم ! والشهادة؟مقاومةرغبة شيخه ويلتحق به في دروب ال

-٣٤-

متينة من دون " اإلصالح العربي"كانت عالقتي بجمعية وكانت الدولة العثمانية، ومن ثم التركية، . إعالن صريح

تمارس أقسى أنواع التعذيب والتقتيل ونفي العائالت العربية .السورية إلى األناضول

لشيخ الزهراوي والشاب الجميل رفيق رزق ولما استشهد ا السفاح التركي عام جمال باشا وقد أعدمتهما حكومة -سلوم

كان ال بد لي من التواري عن األنظار وأخذ -م١٩١٦الحذر وضبط النفس وإيقاف إصدار جريدة حمص لفترة

ي ذلك أنني كنت من أصدقاء آل الجندي وقد حتم عل. مؤقتةالوطنيين كما أسلفت سابقا، وما زالت لدي اتصاالت برجال بالبندقية واألدب والفن المناضلين الحركة الوطنية من

.والصحافة

م ودخلت ١٩١٤حين قامت الحرب العالمية األولى عام ينة انقطعت عن التدريس وعن تركيا هذه الحرب اللع

ولم أعد إلى مهنتي المقدسة ألنني انهمكت في . الصحافةالتجارة التي كنت بارعا فيها، خاصة وأنني أستاذ بارع في

-٣٥-

وهذا ما نشرته وعلمته . أصول مسك الدفاتر والمحاسبة .بعدللتجار والصناعيين فيما

أفتخر أيما افتخار وأنا أنظر فأرى تالمذتي قد أصبحوا ينوكتابا وطني راءشع . أرى أعمالي كثيرا حين دعوأس

. المسرحية تفرح الناس وتهديهم إلى طريق الخير والصالح وتغمرني السعادة وأنا أرى الجمعيات الخيرية المسيحية

واإلسالمية تستفيد من عائدات عروضي وعروض أصدقائي المسرحية التي نقدمها على مسارح حمص لتصرفها على

. الفقراء والمحتاجين كساء وطعاما ودواء وتعليما كنت أفخر بما فعلت فإن فخري األبدي كان لما أنعمته اإذ ة"علية الفلسطينية اإلمبراطوريا " الجمعيوضتني عمس وقد

وقد كانت هذه الجمعية تدير المدارس . عامال في إدارتهاولهذا أهدتني الحكومة الروسية . األرثوذكسية في بالد الشام

الذي هو من أرفع " القديس فالديمير"م وسام ١٩٠٧عام . التي تمنح للمبدعين في شتى المجاالتاألوسمة

غير أن أعظم ما في حياتي كان ذاك التآخي العظيم بيني

-٣٦-

وبين أدباء حمص وفنانيها وشعرائها، ال يفرق بيننا دين وال ولقد جمع بيت آل الجندي هؤالء جميعا . مذهب وال سياسة

.م والمعرفة وحب الوطنتحت قبة العلصاحب " أبو الخير الجندي"ولما كان صديقي وأخي

:مروءة ونخوة وشهامة فقد قلت فيه مررت على المروءة وهـي تزهـو

لـم ازدهـاؤك يـا فتـاة؟ : فقلت كيــف ال أزهــو وأهلــي: فقالــت

والحيـاة؟ بنو الجنـدي نـصيري اآلخر ت صديقيحدم بل لقد" سليمان مصطفى بن

نديالج " م قويرجال ضعيفا فقيرا على خص رالذي نص :جبار، معبرا بذلك عن نبله وعدالته ورجولته فقلت فيه

إن تطلب العدل المبين المـصطفى ده مجسما في مـصطفى فاسأل تج

ــه ــن أبنائ ــطفاه اهللا م ــد اص فقــى ــوره ال ينطف ــدل ن ع ــراس نب

-٣٧-

محمد بن سليمان "ولم ال أمدح هذا الرجل النبيل وهو أخو ، وهو الذي "أبي خليل القباني"صديق نابغة زمانه " الجندي

قامة عنده في بيته في حمص بعد نكبة دعاه مع عائلته لإلاحتراق مسرحه في دمشق، وقد أمن له العمل، وعرفه على فناني حمص وأدبائها ومبدعيها، وهو الذي رعى أسرة

!القباني لسنتين بعد مغادرته حمص إلى مصر؟

-٣٨-

-٣٩-

ازيلمن حمص إىل الرب

. عاش العالم كله رعبا لم يعش مثله في العصور القديمة. لقد دمرت الحرب العالمية األولى آالف المدن والقرى

وأحرقت ماليين الهكتارات . وقتلت ماليين كثيرة من الناس .من األراضي وماليين األطنان من المحاصيل الزراعية

وشردت ما ال يحصى من النساء واألطفال والشيوخ فجاعت وكان أن نالنا نحن في سورية مصائب . البشرية وعطشت

كثيرة من تلك الحرب اللعينة التي دخلتها تركيا فسرقت أموالنا ومواشينا وشبابنا ليحاربوا من أجلها، وأرسلتهم إلى

.ال فلم يرجع منهم إال القليل القليلخطوط القت

-٤٠-

غير أن حياتنا المعاشية كانت قد وصلت إلى حد الفقر فإذا بعالم آخر ينفتح في البعيد البعيد أمام . والجوع

والخائفين والجائعين ركوب . المقهورين من ال بد وكاناضي النائية حيث البرازيل البحار للوصول إلى تلك األر

وإذا كان بعض المهاجرين قد . واألرجنتين وغيرهما كثيررحل إلى الواليات المتحدة األمريكية فإن الحال كان واحدا حيث الفقر والتشرد والجوع والعمل المضني والنوم على

!األرصفة

يبحثون عن مستقبلهم وهكذا هاجر أوالدي إلى البرازيل .ومستقبل أبنائهم، وهم يأملون بأن يعيشوا في أمان وسالم

نعيش آالمنا وأحزاننا اليومية على فقد - أنا وزوجتي-كناأوالدنا رغم كثرة األصحاب واألصدقاء واألقرباء، حتى

لنلحق بأوالدنا شاءت األقدار أن نقرر السفر إلى البرازيلونتمتع بأحفادنا، ونجتمع بأولئك األدباء والشعراء والكتاب

ا بحثا عن اللقمة والحرية فعاشوا نالمهاجرين الذين سبقوبهموتحاب بهمتقار غمر شكلوا نواد. غرباء م كانوا قدولكنه

-٤١-

جمعيات خيرية خوفا من الضياع اجتماعية ومنتديات أدبية و . والغربة

م جمعنا حقائبنا وتهيأنا للسفر فإذا ١٩٢٦في عام باألصدقاء يقيمون لنا حفالت وداع مهيبة كان أجملها حفل

النسائية صاحبة المستشفى الخيري في " جمعية نور العفاف"صخدمت . حم هذه المستشفى بعقلي وقلبي وكنت قد

وروحي، ما جعلها في هذا الحفل تهديني وساما ذهبيا على .تلك الخدمات

لم تكن أمواج البحار أقل قسوة وإرهابا من قنابل المدافع . ورصاص البنادق، وال أقل من خطر الموت جوعا وعطشا

كبيرة، والزمن طويل أعيا فالمسافة بين سورية والبرازيل س"الشاعر الجاهليقال" امرأ القي قبلي حين:

بكل مغار الفتل شدت بيذبل لك من ليل كأن نجومه فيا

ههنا فوق األمواج العالية يندمج الليل بالنهار وليس حولنا مجهول الذي يحاصرنا من كل جانب، فإذا إال الماء المالح وال

بركاب الباخرة يصلون هللا كل على طريقته، على أمل

-٤٢-

الوصول بالسالمة إلى بر األمان، والنجاة من أنياب أسماك وربما خوفا من ظلمات األعماق . القرش المفترسة المتوحشة

دها في كل طرفة عينالتي كانت تهنا أمواجاهللا . د عين ولكن !كانت ترعانا، فما أجلها وأعظمها من رحمة

ومن . عاصمتها" سان باولو"لم أكن أعرف البرازيل، وال أين لي أن أعرفهما وأنا الذي أزورهما ألول مرة مرغما؟

بي أوالدي وأحفادي أحاط.. في سان باولو.. هناوأحاطت بي ورود وأزهار وشبان وصبايا . وأصدقائي

وصولي سالما، فإذا بي أجد وشيوخ وكهول كانوا ينتظروننفسي في احتفاالت جميلة نظمتها الجالية السورية،

وإذا الشعراء والكتاب واألدباء . والحمصية، ترحيبا بيقونني بحب ومودة كي أسهم معهم في خدمة الجالية يل

.خاصة، أدبيا وفنيا وتجارياعامة، والحمصية السورية

الناس سعدتقديم عمل ي عن أتوان بفخر ألنني لم أشعروهكذا انخرطت في العمل مع المؤسسات الخيرية . ويفرحهم

معيات األدبية، فأقمنا الحفالت الموسيقية والغنائية، والج

-٤٣-

تهجوأخر نتهولح تها كنت كتبنا عروضا مسرحية ممموقدومالي ال أعرضها وكل الذين . في حمص مسقط رأسي

غربة يقيمون هنا حمصيون، أو سوريون، سبقوني إلى بالد ال آملين حياة كريمة حرة؟

كرمني أصدقائي حين طلبوا مني .. في سان باولو.. هنااليتيمة "أن أترأس النادي الحمصي، فقدمنا معا مسرحية

.التي درت على الجمعية الخيرية أمواال كثيرة" المسكوبية. اب المرير في اختيار الممثلينمع ذلك لن أنسى ذاك العذ

هنا -لكن األكثر مرارة هو اختيار الممثالت، ألن الفتياتوكيف . لم يكن يجدن اللغة العربية لألسف-في سان باولو

يعرفن لغة عروبتهن وقد ولدن في الغربة والمهجر؟ ولهذا دال ب كان تدريب الجميع على النطق السليم للغة األم من

ة منمد ة، فإذا بنا بعداللغة البورتغالي تقنوني الذين مهوالزمن نتفاهم من خالل لغتنا العربية، وإذا بنا نقدم عروضا

على مسرحية جميلة بهرت الناس، وحفزت الشباب والفتياتحضور األمسيات الشعرية للشعراء السوريين والعرب، وإذا

-٤٤-

اللبناني يمدح " رشيد سليم الخوري" الكبير القرويبالشاعر عروضي المسرحية، ويمدحني مذكرا إياي بتلك المرابع

:الجميلة في حمص حيث يقولـ ي أمـا مـن بـائح يا جيرة العاص

ــوادي؟ ــال ذاك ال مج ــسر ــنكم ب م

كان العمل المتواصل يأخذني من نفسي وأصدقائي وأنا مع إخواني المهاجرين لهمبما أع سعيد . فأبناؤنا الصغار

كل وقتهم نوعسي اآلباء ألن وأجدادهم لغة آبائهم يجهلونوراء وال يعرفون ،هذا الشقاء دركونال ي هموأوالد ،أرزاقهم

شيئا عن وطنهم سوى االسم الذي يتردد أمامهم سريعا فال معناه ركوندي . عرفوا عاصيي لم وهم ذلك دركونوكيف ي

حمص وال ميماسها، ولم يعرفوا جناتها الوارفة، ولم يعيشوا اتها المتآخية، ولم يسيروا آمنين مطمئنين ال خوف عليهم حي

في شوارعها ودروب حاراتها التي يتساكن حزنوني وال همفيها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب عائلة واحدة في

األفراح واألحزان؟

-٤٥-

ان، باب هل مر أحد هؤالء في دروب حارة بستان الديوالدريب، باب تدمر، بني السباعي، باب السباع، باب هود،

باب التركمان، باب المسدود؟ ا من أوالدهم؟ وهل دخل أحدهم دار جاره فرحبوا به ولد

وهل سمعت أذنا أحد منهم في الصباح الباكر أذان الفجر من مئذنة جامع ما ليتلوها ناقوس كنيسة حنون وهما الرقيق

وان الناسعدالة"يعلى الص يعلى الفالح... ح ي؟ "ح !وهل؟ آآآآه... وهل

كل شيء سريع، غريب، عابر، .. في البرازيل... هناوحيد .يأتي وليل يذهب حبالصبح و. هنا ص المساء وما بين

ولكن الشيوخ . ال رائحة إال رائحة العرق والتعب واأللموحدهم يستعيدون روائح أشجار األكاسيا والزيزفون والياسمين والقرنفل والفل وغيرها مما كان مزروعا في

.حدائق بيوتهم الحمصيةدال ب كله كان ذلك يا للغربةمعدالعمل تح ال . من وكان

بد من الموسيقا والغناء واإلنشاد لتسعد األرواح باألنغام

-٤٦-

السماوية الصافية تطلقها حناجر خلقت لتسبح اهللا العظيم في :كل حين، فامتألت كنيستنا بأشعاري وألحاني

فم األطفال، ثم عمنضالر

بيحغي التسنببالتخـشع ي

ــدع ــادر، ومبــ ــه قــ إللــ مـيمـود العان والجسر اإلحدصم

يا إله العرش يا رب الجالل

يا كمال الكل يا كل الكمال

ــال ــصلي بابته ــو ون ــك نجث ل ي الحونؤد ظـيمالع والـشكر ـدم

وإذا كنا نحمد اهللا دائما على نعمه علينا في غربتنا هناك . هناك وراء البحار ومهجرنا فإن قلوبنا ما تزال معلقة

حيث سورية التي صارت في المهجر على كل شفة ولسان ي ماألطفال والشباب وه معامن نشدون: اكمــوري ــوا س يــوا حيح

ـــم ــي حياك بر ــاكم يح

ــاكم ـــزة علي ــشأ ع ــي من ه

ــة ــيكم الحيـ ــي روح رقـ هـ

-٤٧-

-٤٨-

حيوا فردوس الميمـاس

ــزة واإلينــاس روض الع

ــاس ــري كالمـ ــا تجـ ومياهـــضية ــت دروع فـ ــن تحـ مـ

حيوا العربيـة والعربـا

بل حيوا النخوة واألدبـا

ــا ــيقا والطربـ ــوا الموسـ حيـــ ــة وفنـ ــشعر الدريـ ون الـغير أن الغصة تأخذني دائما ألن حنيني إلى سورية،

صةخاصوحم طاقتي وصبري، أكبر من . الحنين وألنيذكر باألم واألب واإلخوة واألصدقاء ورفاق النضال رلساني وسال حب جله الشهداء واألحياء فقد والكفاح منقلمي ألكتب قصيدة في حنيني إلى حمص أعارض فيها

ت بها بصوتها المكلثوم شد هش وأدائها العظيمقصيدة ألمد .وأشواقي ساكبا فيها حنيني صحم وها أنذا أخاطب:

واكة بهــت صــبابمــا لــي فتنــــت ــك واع ــواكوزالل مائ الل ه

-٤٩-

ضك طـائعوس رودعاصيك في فر ـ ي يمنـاك منه يفـيض الـيمن ف

ســمصــبحا أراك وكــل شــيء با في حين طرف غمـام أفقـك بـاك

مي ههذا د تـهنحدمـاك م مـن و داك أن يكــون فــفمــن المــروءة

أنا إن أكن عنك ابتعدت فـإن فـي ــي و ــقلب ــوانحي مث ج نــي واكب

ــ ــإن ــشوقاي أحــن إل ى ربــاك ت يا حمـص ال أنـساك وإلى المدى

لك في جناني يا جنـاني عطفـة ـ راكأحيي بها طـول المـدى ذك

ترى هل نكحل أعيننا بمرأى سورية مرة أخرى؟ وهل تكون لي فسحة في تراب حمص تتسع لجسدي كي أموت

. ن بقضاء اهللا وقدرهفي راحة وسعادة؟ ال أدري وأنا المؤم

-٥٠-

ولكن الذي أعلمه أنني ما قصرت في خير، وال في خدمة اجتماعية أو دينية أو فنية أو أدبية، حتى صارت أناشيدي وتراتيلي تنشد وترتل في كل األعياد الخالصية، وفي نهاية

. ي العربي كلهكل قداس في العالم األرثوذكس

-٥١-

واشتعل الرأس شيبا

ما زلت أحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم وأتفكر في

لكنني ال أدري كيف . معانيها، وبالغتها، وسمو موسيقاهاقال رب إني وهن العظم (لهج لساني بترديد اآلية الكريمة

.)١()ني واشتعل الرأس شيبامت توإذ أدركت أنني على سرير الشيخوخة والمرض تلف

وإذ بي أرى جسدا . إلى المرآة فإذا شعر أبيض كبياض الثلجناحال، عليال، ال يقوى على النهوض فكيف يقوى على

وقد كنت أدركت ذلك من - ؟ فأدركمقارعة ما بقي من أيام

. ١٩/ ٤. سورة مريم: مالقرآن الكري) ١(

-٥٢-

لحظتها غمرني . حقيقة الفناء التي ال مفر منها- قبل في عقلي الذي تفتح تقرى في جسدي واسركامل س خاءتراسكأنه زهرة ربيعية، وأشرقت ببالي اآلية اإلنجيلية المقدسة

اهللا التي تعلن اء( أنيأح وات بل إلهأم إله ما كان . مفهنويحي ه١()جميعا عند(.

إذن لقد تخلصت من جسدي وها إنني أدخل في طهارتي الروحية، وها لساني ينطق بالشعر فأوصي أوالدي

بة قبري ليعلى شاهد يكتبوا ذلك رة وأصدقائي بأنقى عبلآلخرين:

يبقى على مر الزمن تفنى الجسوم ورسمها اهللا والذكـر الحسن فابرر فليس يدوم إال

وتسرح بي الذاكرة فإذا بالشاعر القروي يقف أمامي وكأنه " لمسكوبيةاليتيمة ا"ليكسوني بمديحه بعد عرض مسرحية

الكته جسدي وقد طويلة فأبصر سنين بعد إلي نظر نونالس

- ١ط . لبنان. جمعية الكتاب المقدس. ٣٨. لوقا: الكتاب المقدس) ١(١٩٩٣.

-٥٣-

-٥٤-

. وأنهكته، فملت نحو الغروب حيث تعود كل روح إلى بارئها :وها إني أذكر ما أذكر ألن شعر القروي يعزيني ويطربني

ـ ن بـائح يا جيرة العاصي أمـا م منكم بـسر جمـال ذاك الـوادي؟

ــت بالب بالبلنــ هاج ــه ــمل ا فك ــي ــادع ــؤاد ص ــم ف ــسح وك ن ت

الحسن واإلحـسان فيـه تـساوقا ــواد ــار فــي األع كتــساوق األوت

ــوثر ــرى، وبك ــاد ج بأكب ــر نه صـدى األرواح واألجـساد فروى

ــ ــة ك ــل نابغ ــن ك ــم هأن دماغــر عــ تفجقــ مــب و ادن كوك

ــت ــشاعر األس ــذيكال اذ داود الــ عب ــه اآلداب ــت ب ادراجــس د ك

ــع ــاش عــيقا م ــل وموس ر وتمثيــدم واهللا ــاذا بال ــادي، م اغ الع

-٥٥-

سهاشممودع نونت السلو وقد نحو األصيل تريـك فجـر جهـاد

ــ ــا الج اطاهتع وحــالفر س ةدود ـ فه مـوفـاد واليـة األحدامم ١(ي(

كان ني؟ الحق أنهثيني وهو يمدحري ويالقر ترى هل كان

ني البشر كلهم، وهذا ما مثلي مؤمنا بالنهاية المحتومة على ب :أسعدني وعزاني رغم أنني تمنيت الموت من دون ألم

فلتكن موتتي بغير عذاب م يكن من الموت بدإذا ل

:أو فهذا العيش كل الويل فيه هـأال موت يباع فأشتري

م من عذابات المرض واآلالم والغربة أشهد غالربلكنني وأشهد أنهم أكرموني . ني عشت حياة عظيمةأمام اهللا أن

لم أجد هذه األبيات في ديوان القروي الصادر عن اتحاد الكتاب العرب ) ١(

وقد أثبت األبيات من كتاب اآلثار . في جزأين١٩٨٣في دمشق عام .الكاملة

-٥٦-

فهل . وأشهد أنني ما عملت عمال إال لوجه اهللا. وأسعدوني يغفر اهللا لي وهو الغفور الرحيم؟

ا مسجى على وأن. حولي اآلن أبنائي وأحفادي وأصدقائيف الكليل العليل بينهمأعرف هذا وال . سريري أنقل الطر

أعرف ذاك، والكل ينظر إلي والدمعة تحرق عيونهم، وأنا .بينهم سعيد، فرح بوجودهم، حزين على حزنهم

م١٩٣٩السادس عشر من شهر شباط عام كان ذلك في إلى حمامة بيضاء وحلقت فوق تابوتي ألرى حين تحولت

يرفعون جثماني فوق . آالفا من البشر يسيرون حولي أن العظيم، تاركا لهم يرب وجه بي ألالقي أياديهم، ماضينيرثوني ما استطاعوا، وأن يبكوا ما قدروا، وأن يفرحوا

.ذكر الحسنويسعدوا كلما تذكروني الالصالح كأنني كنت عبد يا رب فاشهد . يا رب واشهد

وهاأنذا . أنني أديت مهمتي في أهلي وإخواني كما شرعت لنا .أنام نومتي األبدية قرير العين هانيها* * *

-٥٧-

املراجع

القرآن الكريم -١

-١ ط- لبنان- المقدسجمعية الكتاب: الكتاب المقدس -٢ .م١٩٩٣

. ١٩٥٨ دمشق -١ج . أدهم الجندي:أعالم األدب والفن -٣ .مطبعة االتحاد

شاكر . األعمال الكاملة:المعلم داود قسطنطين الخوري -٤ دار اليقظة -وزارة الثقافة واإلرشاد القومي. مصطفى

. ١٩٦٤. دمشق. العربية للتأليف والطباعة والنشر

مطابع . هيثم يحيى الخواجة:حركة المسرح في حمص -٥ .١٩٨٦. حمص. سورية. الروضة النموذجية

. دمشق. وزارة الثقافة. رضا صافي:على جناح الذكرى -٦ .١٩٨٦. ٤ج

-٥٨-

دار . ٣ط . جورج صيدح:أدبنا وأدباؤنا في المهجر -٧ .١٩٦٤. بيروت. العلم للماليين

. دار المعارف. الدكتور عيسى الناعوري:أدب المهجر -٨ .١٩٧٧ -٣ط . مصر

-٥٩-

الصفحة

٧ ..................األصدقاء الثالثة: الفصل األول ١٣ .....................عربي يوناني: الفصل الثاني

١٩ ...................المعلمون الثالثة: لثالثاالفصل ٣١ ...............على دروب الوطنية: الفصل الرابع

٣٩ ...........من حمص إلى البرازيل: الفصل الخامس ٥١ ...............واشتعل الرأس شيبا: الفصل السادس

٥٧ ............................................المراجع

-٦٠-

م٢٠١٣/ الطبعة األوىل نسخة ٢٠٠٠عدد الطبع