محاضرات في

السياسة الشرعية

تأليفأ.د / عبد الله بن إبراهيم الناصر

األستاذ بقسم الثقافة اإلسالمية – كلية التربية – جامعةالملك سعود

بسم الله الرحمن الرحيمالمقدمة

2 الحمد لله رب العالمين، والصالة والسالم على أشرف

األنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...وبعد..

فيعتبر علم السياسة الشرعية من أشرف العلوم الشرعية وأعظمها مكانة، حيث أنه هو سياج الشريعة ومدار حفظها وصيانتها مما قد ينسب إليها وليس منها، وفي المقابل هو

مكان جلب المحاسن والمصالح التي تستقيم مع منهج اإلسالم وروحه، كما أنه يمثل أحد وجهي الحكم الشرعي،

وهو الوجه الذي يتسم بالمرونة والقابلية للتطور حسب الزمان والمكان والمجتمعات البشرية، في مقابل الوجه اآلخر الذي يمثله الحكم الشرعي الثابت بالنص المتسم

بالثبات. وهذا من أعظم معجزات التشريع اإلسالمي الحكيم؛ حيث فرق بين القسمين، وجعل لكل قسم موضوعه المناسب،

مراعيا االختالف بين األصول والفروع، والمعتقداتوالشرائع، والعبادات والمعامالت.

ولذا نجد أن النصوص في القران الكريم كثيرة ومتعددة في تأكيد العمل بهذا العلم ووجوب جعله نبراسا لألئمة

والحكام ومن يتبعهم من ساسة الرعية. وانطالقا من هذا التوجيه القرآني نص النظام األساسي للحكم )الصادر

هـ(27/8/1412 وتاريخ: 90بالمرسوم الملكي رقـم: أ / في المملكة العربية السعودية؛ في المادة الخامسة والخمسين منه على أن: )يقوم الملك بسياسة األمة

سياسة شرعية طبقا ألحكام اإلسالم، ويشرف على تطبيق الشريعة اإلسالمية، واألنظمة، والسياسة العامة للدولة،

وحماية البالد والدفاع عنها(. وسوف استعرض في هذه المباحث التي أكتبها لطالب

3 العلم في قسم الثقافة اإلسالمية بكلية التربية بجامعة

الملك سعود؛ بعض مباحث هذا العلم التي ينبغي أن يلم بها الباحث لتتضح لديه الخريطة الذهنية لهذا العلم الهام ،

وهي كالتالي: المقدمة :

الفصل األول : مدخل إلى علم السياسة الشرعيةالمبحث األول : تعريف السياسة الشرعية.

المبحث الثــاني : العالقــة بين السياســة الشــرعية والعلــوم.المشابهة

المبحث الثالث : أهمية العمل بالسياسة الشرعية .المبحث الرابع : أركان السياسة الشرعية.

الفصل الثاني: أقسام السياسة الش--رعية وأدلته--اوشروطها ومصادرها.

: أقسام السياسة الشرعية.المبحث األول المبحث الثــاني : أدلــة اعتبــار السياســة الشــرعية ووجــوب

العمل بها.المبحث الثالث : شروط السياسة الشرعية.المبحث الرابع : مصادر السياسة الشرعية.

الفصل الثالث: تطبيق--ات السياس--ة الش--رعية فيالعهدين النبوي والراشدي

المبحث األول : السياسة الشرعية في العهد النبوي.المبحث الثاني : السياسة الشرعية في العهد الراشدي

الفص--ل الراب--ع: نم--اذج من تطبيق--ات السياس--ةالشرعية في أبواب الفقه

المبحث األول : السياسة الشرعية في العبادات.المبحث الثاني : السياسة الشرعية في النكاح.

4المبحث الثالث : السياسة الشرعية في النظام المالي.

المبحث الرابع : السياسة الشرعية في الجنايات.ــامس: ــ ــرعية في األحكــــامالمبحث الخ ــ ــة الش ــ السياس

.السلطانية

والله أسأل أن ينفع به الطالب ، وأن يجعله في ميزاني يومألقاه.

أ.د / عبد الله بن إبراهيم الناصر

أستاذ الشريعة اإلسالمية بجامعة الملك سعود

5

الفصل األولمدخل إلى علم السياسة الشرعية

6المبحث األول

.تعريف السياسة الشرعية

تعريف السياسة لغة:

السياسة لغة مشتقة من الفعل ساس يسوس سياسة، وتطلق على إطالقات كثيرة ترجع إلى معاني: "القيام على

الشيء وتدبيره والتصرف فيه بما يصلحه". يقال: ساس األمر سياسة، إذا عالجه وبذل جهده في

إصالحه. وساس الرعية، إذا ولي حكمها وقام فيه باألمر.1والنهي وتصرف في شؤونها بما يصلحها

وعلى هذا فإن الكلمة عربية صريحة، فقد وردت في الشعر الجاهلي، قالت حرقة بنت النعمان بن المنذر

متحسرة على أيام العز التي كانت تتمتع بها في ظل حكمأبيها:

فبينا نسوس الناس واألمر أمرنا إذا نحنفيهم سوقة نتنصف

فأف لدنــــيا ال يدوم نعيمــها تقلب2تارات بنا وتصــرف

كما أنها وردت في السنة المطهرة، فمن ذلك ما جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: )كانت بنو إسرائيل

معجم مقاييس اللغة مادة:)سوس(، ولسان العرب مادة) سوس(. - 1-ـ 2 ومعنى األبيـات:)بينـا نسـتخدم النـاس، ونـدبر،2/53ديوان الحماسة

أمورهم، وطاعتنا واجبة عليهم، وأحكامنا نافذة، تقلبت األمــور، واتضــعت األحوال، وصرنا سوقة تخدم الناس(، شرح ديــوان الحماســة للمــرزوقي

1/370األصفهاني

7 ، فبنو إسرائيل3تسوسهم األنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي(

كان أنبيائهم يقومون على إدارة أمرهم وشأنهم، أي يسوسونهم. وهذا بخالف اإلسالم الذي يتولى أمر

المسلمين فيه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بشر منالرعية يسوسونهم بما يصلحهم.

:تعريف السياسة الشرعية اصطالحا

فت السياسة الشرعية في االصطالح الشرعي الفقهي عربتعاريف متعددة نذكر بعضا منها:

ه(: حيث844تعريف عالء الدين الطرابلس--ي ) ت ــذلك أنعرفه---ا بأنه---ا: ) ش---رع مغلظ ــد بـ (. ويقصـ

السياسة الشــرعية إنمــا تكــون بتغليــظ العقوبــات بــالتعزيزونحوه وذلك حسما لمادة الفساد.

يؤخذ على هذا التعريف أنه قصر السياسةنقد التعريف: الشرعية على جزء من أجزائها وهو التأديب والعقاب

للمخالف، كما أنه قصرها على جانب من جوانب الحياة وهو الجانب الجنائي أو ما يسمي بفقه العقوبات،

والسياسة الشرعية أعم من ذلك بكثير، فهي تدخل فيجميع الجوانب وال تخص جانبا بعينه.

ه(: حيث عرف970تعريف ابن نجيم الحنفي )ت السياسة الشرعية بأنها: ) فعل شيء من الحاكم

لمصلحة يراها وإن لم يرد بهذا الفعل دليل فالسياسة الشرعية حسب هذا المفهوم تصرفجزئي (.

من الحاكم وفق مصلحة يراها أنها مناسبة لرعيته وإن لميرد دليل خاص من القرآن أو السنة على هذا التصرف.

" . 3455 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 3

8ه ( رحمه الله513تعريف ابن عقيل الحنبلي ) ت

حيث عرف السياسة الشرعية بأنها: ) ما كان فعال يكون معه الناس أقرب إلى الصالح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسوله صلى الله عليه

وهو قريب من تعريف ابنوسلم وال نزل به وحي (.نجيم السابق.

نقد التعريفين السابقين:

يؤخذ على التعريفين السابقين أنهما يشمالن تصرفات ولي األمر التي صدر بشأنها من الشارع ، فمثال الحاكم

حينما يأمر برجم الزاني أو قطع يد السارق أو قتل المرتد فإنما يطبق نصا، وعلى هذا يكون تطبيق النص من قبل

ولي األمر داخل في مفهوم السياسة الشرعية حسب هذين التعريفين، وهذا محل نظر، وذلك أن السياسة

تنقسم إلى قسمين: سياسة تنفيذية، ويقصد بها: سياسة ولى األمر في تطبيق النصوص الشرعية على الواقع

كاألمثلة السابقة وهذه ال مجال لالجتهاد في تطبيقها من عدمه، فهي متعلقة بالنص وراجعة إلى تطبيقه فالذي يظهر

أنها ال تدخل ضمن مفهوم السياسة الشرعية. وسياسة تنظيمية: وهي المتعلقة باألمور والتوجهات التي

تصدر من ولي األمر فيما لم يرد فيه نص، ويقصد بها إصالح المجتمع وتنظيم سلوك أفراده، وهي المقصودة

بالسياسة الشرعية، وعلى هذا فإن تعريف زين الدين ابن نجيم السابق إذا قيد بعبارة: )بما لم يرد فيه نص (، كان

التعريف صحيحا، بأن أصبح: ) فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها في شؤون أمته مما لم يرد به دليل جزئي(،

وكذا الشأن في تعريف ابن عقيل.

9:التعريف المختار للسياسة الشرعية

"تصرف ولي األمر بشؤون رعيته فيما لم يرد فيه نص خاص، وذلك بما يصلح شؤونهم وفق

قواعد الشريعة ومقاصدها".

شرح التعريف:

: يقصد بالتصرف:" الفعل الصادر من المسئول")تصرف(سواء كان هذا الفعل مكتوبا أو غير مكتوب عاما أو خاصا.

) من ولي األمر ( ه الله أمرا : ولى األمر هو" كل من وال� على الرعية"، وعلى رأسهم رئيس الدولة ونائبه والوزير

واألمير ومدير الجامعة بل ومدرس المادة أيضا، فكل هؤالء يعتبرون من والة األمر فهم رعاة على رعاياهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ) أال كلكم راع ومسئول عن

، وولي األمر له أن يأمر وينهى ويلزم ويمنع في1رعيته( األمور التي لم يرد عليها نص خاص، بالوجوب أو الحرمة أو

غيرها من األحكام التكلفية أو الوضعية. : قيد في التعريف يخرج تصرفه في)بشؤون رعيته (

خاصة نفسه فليست من السياسة الشرعية إذ البد فيالسياسة من سائس ومسوس.

: قيد في التعريف أخرج) فيما لم يرد به نص خاص ( السياسة التنفيذية، والتي تقوم على تنفيذ النص الثابت

بالداللة الصريحة من القران والسنة. : قيد في التعريف يفيد وجوب )فيما يصلح شؤونهم (

أن يكون تصرف ولي األمر ألجل مصلحة رعيته وحفظ قوامهم من جلب المصالح والخيرات لهم ودرء المفاسد

".7138 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1

10 والشرور عنهم، فإذا كان تصرفه لغير المصلحة بل ألمر

يضرهم فليس من السياسة الشرعية، ومرد هذا األمر إلى قاعدة: ) تصرف ولي األمر منوط بالمصلحة (، فإن لم يكن

كذلك فال اعتبار لتصرفه كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: )السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب

وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فال سمع عليه.1وال طاعة(

: يلزم في )وفق قواعد الشريعة ومقاصدها( التصرف حتى يكون منسوبا إلى شريعة السماء أن يكون

قائما على إحدى القواعد الشرعية المنصوص عليها أو المستفادة من عموم النصوص الشرعية، كما يلزم أيضا أن

يكون محققا إلحدى مقاصد الشريعة من حفظ الدين أوالنفس أو العقل أو العرض أو المال وما يتبعها من مقاصد.

" وقــال: "حــديث1707 - أخرجــه الترمــذي في ســننه ، حــديث رقم " 1حسن صحيح" .

11السلطة التشريعية والتنظيمية

: وهذه مصدرها النص؛ ويقصد بالنصالسلطة التشريعية " الكتاب، والسنة، وإجماع األمة، والقياس" ، واإلجماع

والقياس راجعان إلى الكتاب والسنة، وهذه المصادر األربعة مرجعها إلى الله سبحانه قال تعالى: } أال له الخلق

وقال في موضع آخر: } وأن احكم بينهم بما أنزل1واألمر{�بع أهواءهم { �ه وال تت ، وقال: } وما كان لمؤمن وال2الل

�ه ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من مؤمنة إذا قضى اللموك فيما3أمرهم { �ى يحك ك ال يؤمنون حت ؛ وقال: }فال ورب

شجر بينهم ثم� ال يجدوا في أنفسهم حرجا مم�ا قضيتموا تسليما { . وحذر سبحانه وتعالى من اتباع طريقة4ويسل

�ة الجاهلين وقوانينهم ونظمهم فقال: } أفحكم الجاهلي ، ووصف5يبغون ومن أحسن من الل�ه حكما لقوم يوقنون {

عز وجل من لم يحكم بشريعته بأنه كافر وظالم وفاسق. وهذا يدل على عظم ذنب من لم يحكم بما أنزل الله

وأهمية التحاكم إلى شريعته في كل ميادين الحياة، فجميع النظم والقوانين في الدول اإلسالمية يجب أن تكون عائدة

في مجملها إلى التشريع الذي مصدره الكتاب والسنة.

ويقصد بها ما يسنه ولى األمر فيالسلطة التنظيمية : الدولة اإلسالمية، أو يلزم به المجتمع المسلم نفسه، من أنظمة تضبط أمرهم وتحقق مصالحهم. فنجد أن التنظيم

قائم على التشريع ومرتبط به ومتفرع عنه، وإذا كان مصدر ". 54 - سورة األعراف "1 ". 49 - سورة المائدة "2".36 - سورة األحزاب "3 " . 65 - سورة النساء " 4 " . 50 - سورة المائدة " 5

12 التشريع هو النص فإن مصدر التنظيم هو المصلحة ويقصد بها: "المصلحة المرسلة وما يتبعها من أدلة كاالستحسان

وفتح الذريعة وسدها والعرف". ويخرج بذلك المصلحة المنصوص عليها، أي التي نص الشارع على اعتبارها فهذه تابعة للقسم األول، مثال ذلك االنتشار والسعي في طلب الرزق بعد أداء العبادة، قال تعالى: } فإذا قضيت الص�الة

، كما تخرج المصلحة الملغاة وهي1فانتشروا في األرض { التي ألغت الشريعة اعتبارها مثل: أكل الربا وشرب الخمر ولعب القمار، قال الله تعالى بشأن الخمر: } وإثمهما أكبر

.2من نفعهما { أن تسن الدولة أنظمةومن األمثلة على التنظيم:

للمرور والتجارة والصحة والتعليم بأقسامه وطريقة االستفادة من الثروة واالستفادة من األموال العامة وتنظيم العمل في الدولة ورسم أصول العالقات الدولية مع الدول األخرى وتنظيم المباني والعقارات وغير ذلك من األنظمة

التي تخدم المجتمع. وهذه األنظمة يجب أن تكون بمجملها راجعة إلى قواعد

عامة أقرتها الشريعة اإلسالمية، أي أن هذه األنظمة تقوم – في غالب أحكامها وإجراءاتها- على المصلحة الشرعية،

والمصلحة الشرعية راجعة إلى دليل النص من حيثعمومها وكلياتها، فمثال:

"الوقوف عند إشارة المرور": حكمه الوجوب، ومصدر الوجوب: طاعة ولي األمر، وطاعة ولي األمر في هذه

الحالة معتبرة ألنه يقصد بهذا التنظيم ضبط السير والمحافظة على أرواح الناس وأموالهم، أي أنه محقق

لمصلحة ودارء لمفسدة، ومن ثم� نجد أن مصدر اإللزام في " . 10 - سورة الجمعة " 1 " .219 - سورة البقرة " 2

13 هذه الحالة عائد إلى قاعدة عامة نص الله عليها بقوله: } يا

سول وأولي األمر �ه وأطيعوا الر� �ذين آمنوا أطيعوا الل ها ال أيسول إن �ه والر� منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الل�ه واليوم اآلخر ذلك خير وأحسن تأويال { ،1كنتم تؤمنون بالل

كما أنه محقق شيء لمقصد شرعي معلوم من الدينبالضرورة وهو: حفظ النفوس، وحفظ األموال.

وهذا القسم هو محل دراستنا بدليله "المصلحة " واألدلة المتفرعة عنه وهي االستحسان، وسد الذريعة، والعرف،

وإن كان الدليالن اآلخران لهما ارتباط أيضا بالنص؛ حيث إن سد الذريعة هو إجراء يتخذ في حالة أن يكون الحكم أو

التصرف يؤدي إلى المفسدة فيمنع اإلقدام عليه، وكذلك العرف نجد أنه مرتبط بالنص ألن كثيرا من األحكام

الشرعية خاصة في المعامالت ترجع ضوابطها إلى ماتعارف عليه الناس كالنفقة وسعر ومهر المثل ونحو ذلك.

أكتب تعريفا للسياسة الشرعية من واقع مافهمت

" .59 - سورة النساء " 1

14

المبحث الثاني العالقة بين السياسة الشرعية والعلوم

المشابهة

وال: العالقة بين السياسة الشرعية والنظام:أ

:يطلق النظام لغة على الترتيب وااللتصاقتعريف النظام وترابط الشيء ببعض، يقال نظمت الكالم نظما أي رتبته

. أما تعريف النظام في1ونسقته فأصبح مترابطا ببعض االصطالح: فيطلق النظام في اإلصالح باعتبارين:

موضوعي وشكلي:- االعتبار الموضوعي:1

ويقصد بالنظام حسب هذا االعتبار: "مجموعة القواعد واألحكام التي تنظم جانبا معينا من الحياة ويصطلح

المجتمع على وجوب احترامها وتنفيذها"؛ مثال: النظام االجتماعي، والنظام األسري، والنظام االقتصادي، والنظام

السياسي، وهكذا. فنجد أن المجتمع قد تعارف على وجوب االلتزام بهذه

القواعد واألحكام المتعلقة بهذا الجانب سواء كان مصدرهذا االلتزام سماوي أم بشري.

- اعتبار شكلي:2

- لسان العرب البن منظور ، مادة : " نظم " . 1

15 ويقصد بالنظام حسب هذا االعتبار: " ما يسنه ولى األمر

من قواعد وإجراءات تنظم جانبا معينا بقصد تنظيم سلوكاألفراد والمجتمع فيه".

وعلى هذا نجد أن المفهوم الشكلي أخص من المفهوم الموضوعي للنظام، فالمفهوم الشكلي يلزم أن يكون

النظام مكتوبا و من قبل سلطة عليا، ومن األمثلة على ذلك: نظام التوظيف، ونظام الخدمات الصحية، ونظام

البنوك، ونظام السجل المدني، ونظام التعليم العالي وغيرذلك من األنظمة التي تصدرها الدولة ممثلة في رئيسها.

وجه العالقة بين السياسة الشرعية و النظام:

16

17ثانيا: العالقة بين السياسة الشرعية والفقه:

يعرف العلماء الفقه بأنه: ) العلم باألحكام الشرعية ، واألدلة التفصيلية1العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية(

للحكم الشرعي هي: الكتاب والسنة واإلجماع والقياس، فإذا ورد الحكم الشرعي عن طريقها كان حكما شرعيا ثابتا

ال يتغير وال يتبدل بتبدل الزمان والمكان، غير أن هناك مصادر أخرى للحكم الشرعي غير هذه المصادر األربعة

وهي المصلحة المرسلة واالستحسان والعرف وسد الذرائع، فهذه األدلة األربعة تابعة من حيث رجوعها إلى

األدلة األربعة األولى، ولذا يفرق األصوليون بينهما فيقولون األدلة األصلية لألربعة األولى، واألدلة التبعية لألدلة األخيرة وما يلحق بها، فاألدلة التبعية تبين الحكم الشرعي فيما ال

نص فيه ومرجعها إلى األدلة األصلية فهي ترجع إلى القواعد العامة للشريعة اإلسالمية، أو مقاصد رعتها

الشريعة اإلسالمية. وقد اختلف الفقهاء في األدلة األربعة األخيرة، هل هي تابعة

لألربعة األولى أم مستقلة عنها؟. فذهب جمهورهم إلى أنها تابعة وليست مستقلة، ولذلك تسمي األدلة التبعية فالمصلحة المرسلة لو لم يرد النص

على اعتبار العمل بها في القرآن الكريم والسنة المطهرة لم تعتبر دليال ولعدت من التشريع الذي لم يأذن به الله،

وكذلك الشأن في بقية األدلة التبعية "االستحسان،والعرف، وسد الذريعة".

ويري بعض أهل العلم أن هذه األدلة مستقلة بذاتها وليست تابعة، وكل دليل فيها مستقل وغير مرتبط باألدلة األصلية

.1/28 - اإلبهاج في شرح المنهاج للسبكي 1

18إال من جانب االعتبار فقط دون الموافقة.

والذي يظهر رجحانه هو قول الجمهور وهو أن األدلةاألربعة األخيرة تابعة لألدلة األصلية.

وعلى هذا فالعالقة بين السياسة الشرعية والفقه متفرعة عن هذا الخالف، فالذي يري أن الفقه هو كل حكم دل عليه دليل سواء من األدلة األصلية أو التبعية فإنه أدخل السياسة في الفقه، والذي يرى أن األدلة التبعية مستقلة جعل الفقه

مرتبط باألدلة األصلية والسياسة الشرعية مرتبطة باألدلةالتبعية.

والخالف في هذه المسألة اصطالحي وليس له ثمرةحقيقية.

ومن األمثلة على ذلك: وجوب الصالة فهو حكم فقهي ثابت، عدة المتوفى عنها زوجها قبل الدخول عليها حكم

فقهي ثابت باإلجماع، الوقوف عند اإلشارة حكم سياسي شرعي ثابت بدليل المصلحة المرسلة وسد الذريعة،

االلتزام بحمل الدفاتر التجارية للتجار حكم سياسي شرعيثابت بدليل المصلحة.

ثالثا: العالقة بين السياسة الشرعية وعلم النظام:السياسي

19المبحث الثالث

أهمية العمل بالسياسة الشرعية البن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه المهم في علم

السياسة الشرعية "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" بيان جيد في موضوع األخذ بالسياسة الشرعية

:1المعتدلة نسوقه فيما يلي ) وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك،

ومعترك صعب:،فرطت فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق

وجرؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة ال تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على

أنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق

للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله أنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من

شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما

على اآلخر، فلما رأى والة األمور ذلك، وأن الناس ال يستقيم أمرهم إال بأمر وراء ما فهمه هؤالء من الشريعة، أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويال، وفسادا عريضا،

فتفاقم األمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك

المهالك.وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من

ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله.

.13 الطرق الحكمية ص-11

20وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله

به رسوله، وأنزل به كتبه. فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به

األرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طريق العدل وأماراته وأعالمه

بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منه وأقوى داللة، وأبين إمارة، فال يجعله منها وال يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصودة إقامة

العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج به العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة

له، فال يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه،

ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه األمارات والعالمات، فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة، وعاقب في تهمة لما ظهرت عالمات الريبة على المتهم، فمن أطلق كل متهم

وحل�فه وخلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في األرض وكثرة سرقاته، وقال: ال آخذه إال بشاهدي عدل، فقوله

مخالف للسياسة الشرعية (.

تعليقك على هذا النص من خالل الواقع المعاصر

21

22المبحث الرابع

أركان السياسة الشرعية. للسياسة الشرعية ثالثة أطراف هم أركانها: السائس،

والمسوس، والمساس به.الركن األول )السائس(:

وهو المسئول الذي يتولى المنصب سواء كان المنصب عاما أو خاصا، لقوله صلى الله عليه وسلم: )كلكم راع ومسئول عن رعيته، فاإلمام راع ومسئول عن رعيته،

والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته ، قال: فسمعت

هؤالء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: والرجل في مال أبيه راع ومسئول

.1عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته( ويتبين من ذلك أن كل شخص تحت يده رعية فإنه سائسلها يجب عليه أن يسوسها وفق أصول الشرع ومقاصده.

والسائس قد يكون هو رئيس الدولة أي الحاكم أو الملك، و قد يكون أميرا على إقليم من أقاليمها، أو وزيرا على

مرفق من مرافقها، أو أقل من ذلك كمدير الجامعة وعميد الكلية، بل إن شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه الله أشار إلى أن المدرس أيضا يكون سائسا للرعية ، كما ذكر في كتابه

.2القيم قي شأن معلم الخطوط ونجد أن السائس تختلف درجته قوة وضعفا حسب سلطته

وواليته، فكلما كانت سلطته أكثر وواليته أكبر كانت " . 2558 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1 .14 - السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية ص 2

23 مسؤوليته أعظم فكان عليه أن يسوس الرعية السياسة

المناسبة لهم.

الركن الثاني )المسوس(: ويقصد بالمسوس: الرعية التي تحت السائس، فإن كان

السائس هو الحاكم فالرعية هم الشعب، وإن كان السائس هو األمير في اإلقليم فالمسوس هم الرعية الذين تحت

واليته في هذا اإلقليم، وإن كان السائس هو مدير الجامعة فالمسوس هم أعضاء الجامعة ومنسوبوها وطالبها، وإن كان السائس هو المفتي فالمسوس هو المستفتي سواء

كانت الفتوى عامة أو خاصة، وإن كان السائس هو القاضيفالمسوس هم الخصوم المتداعون عنده.

وعلى المسوس طاعة سائسه، وهذا من األمور المجمع عليها والتي دلت عليها النصوص من الكتاب والسنة، قالسول �ه وأطيعوا الر� �ذين آمنوا أطيعوا الل ها ال تعالى: } يا أي

، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن1وأولي األمر منكم { رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )من أطاعني فقد

أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري.2فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني (

:حدود الطاعة

- أن تكون أوامر السائس متفقة مع األحكام1 المنصوص عليها والقواعد التي أقرتها الشريعة

اإلسالمية وبأن ال تكون مخالفة لشيء منها وهذا " .59 - سورة النساء " 1 " .7137 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 2

24 عبد. وقد دل على هذا الحد حديث هو الضابط األول

الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه )على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبوسلم قال:

وكره، إال أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فال سمع وال.1طاعة(

وعن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وأمر عليهم رجال، فأوقد نارا، وقال: ادخلوها،

فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن

يدخلوها: ) لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة ( وقال لآلخرين: ) ال طاعة في المعصية، إنما الطاعة في

.2المعروف ( والذي يقوم هذا الحد: هم أهل العلم واالختصاص

الشرعي، فيحكمون على هذا التصرف بأنه مخالف وليس له أصل شرعي ينبني عليه، وعلى اآلخر بأن له مستنده

من أحكام الشريعة وقواعدها ومقاصدها. واألصل في تصرفات السائس أن تكون موافقة وغير

مخالفة إن ثبت العكس، فعلى العلماء أن يبينا هذهالمخالفة حتى يعلم بها الرعية.

- أن تكون أوامر السائس محققة للمصلحة2 العامة، فإن كان أمره متعلق بمصلحة خاصة

للسائس، أو أنه ال يحقق مصلحة بتاتا، فحينئذ ال ، ومرد هذا أيضا إلى قاعدة فقهية فيتجب الطاعة

السياسة الشرعية هي: ) تصرف اإلمام على رعيته منوطبالمصلحة ( وهي قاعدة متفق على اعتبارها.

" .1839 - أخرجه مسلم في صحيحه ، حديث رقم " 1 " .7275 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم "2

25 وهذا الحد يقومه أهل الحل والعقد وأهل الخبرة

واالختصاص، كل بحسبه، فهم الذين يقدرون المصلحة ويبينون وجه مخالفة التصرف لها، وأنه ال يحققها بل قد

تترتب عليه مفاسد أعظم، أو أن هناك مصلحة أخرى أولى وأقوى منه، وفي الحالة األولى وهي: "إذا كان أمر السائس�ن ال يحقق مصلحة أو كان يترتب عليه مفسدة أعظم "، وبي أهل الخبرة واالختصاص ذلك واتفقوا عليه، فإن طاعة ولي

األمر في هذه الحالة تكون غير واجبة.

(: الركن الثالث )المساس به وهي األحكام واألوامر والنواهي التي تصدر من السائس

تجاه رعيته. وهذه األوامر قــد تصــدر بشــكل رســمي ومكتــوب، وقــد ال

تكون كذلك وإنما تكون أمرا مباشر من ولي األمر. ومن األمثلة على هذا الركن في العصر الحديث: األنظمة

واللوائح والقرارات ونحو ذلك من األوامر والتوجيهاتالمتعلقة بالسياسة الشرعية.

والمساس به هو محل الدراسة في علم السياسةالشرعية.

26

الفصل الثاني أقسام السياسة الشرعية وأدلتها وشروطها

ومصادرها.

27المبحث األول

أقسام السياسة الشرعيةتنقسم السياسة الشرعية إلى قسمين رئيسين:

القسم األول: السياسة الشرعية فيما ال نص فيه:

وهذا القسم هو أكثر السياسة الشرعية، حيث أن محلها الحقيقي في األمور التي لم ترد النصوص فيها، فالشارع

الحكيم ترك أمورا لالجتهاد حتى ينظر أصحاب الشأن فيها،ويقررون ما يحقق مصالح رعيتهم ويدرأ المفاسد عنهم.

واألمور التي ال نص فيها كثيرة، بل هي أكثر أقسام الشريعة، خاصة في األحكام السلطانية والمعامالت

البشرية. ومن الجوانب التي يكثر فيها هذا القسم:

.الجانب السياسي: ويشمل نظام الحكم والعالقات الدوليةالجانب المالي: ويشمل األنظمة المالية المتعلقة بتنظيم

إيراد بيت المال ومصارفه.الجانب االقتصادي: ويشمل األنظمة االقتصادية المتعلقة

برسم سياسة الدولة االقتصادية، وتحقيق العدل في توزيعالثروة والتعامل المالي بين أفراد المجتمع.

الجانب اإلداري: ويشمل أنظمة التوظيف والخدمة المدنية ونحوها.

الجانب القضائي: ويشمل األنظمة القضائية كأنظمة المرافعات والمحاماة والتحكيم واإلثبات ونحوها.

الجانب الجنائي: األنظمة العقابية خاصة على الجرائم التي

28ال حد فيها كالتزوير والتزييف والرشوة.

الجانب التعليمي: ويشمل أنظمة التعليم بأقسامه المتعددة.

القسم الثاني: السياسة الشرعية فيما ورد بهنص:

لما كانت السياسة الشرعية قائمة على دليل المصلحة فإن عالقتها بما ورد به نص ليست وطيدة إذ يجب تطبيق

ما ورد به النص حسب ما ورد بقدر االستطاعة، قال تعالى:�ه نفسا إال� وسعها { ف الل �ه1} ال يكل ف الل وقال: } ال يكل

فعلى ولي األمر أن يجتهد في تطبيق2نفسا إال� ما آتاها { النص على رعيته بقدر االستطاعة وال يجوز ترك العمل

بالنص إال في حاالت خاصة كحالة الضرورة وعموم البلوى ونحوها من الحاالت التي ذكرها أهل العلم مع ضرورة

الـتأكد من تحققها وتطبيق ضوابطها. غير أن السياسة الشرعية تدخل على النص في حاالت

خاصة بينها أهل العلم ومن هذه الحاالت ما يلي:إذا قصد المكلف في تطبيقه للنص مفسدة، أو كان تطبيقه

للنص في ظل ظروف معينة يترتب عليها مفسدة، فإن من حق ولى األمر أن يتدخل في منع هذا الفعل، وهذا ما

يسمي بدليل: سد الذريعة. فهذا الدليل يقصد به منع الوسائل المباحة وما في حكمها

التي قد تؤدى إلى مفاسد.

" .286 - سورة البقيرة " 1 " .7 - سورة الطالق "2

29�ذين يدعون من دون وا ال مثال ذلك: قال تعالى: } وال تسب

�ه عدوا بغير علم { وا الل ، فالحكم الشرعي هو1الل�ه فيسب جواز سب آلهة المشركين كما ورد القرآن بذلك: } أفرأيتم

�الثة األخرى { ى * ومناة الث ت والعز� ، فلما كان سب2الال� األصنام أمام المشركين يترتب عليه مفسدة وهو سب

الخالق عز وجل منع من ذلك. وكذلك األمر في كل مسألة مباحة من حيث األصل يترتب

على استعمالها مفسدة فإنه ينبغي على ولي األمر أن يتدخل ويمنعها وإن كان أصل اإلباحة وارد بالنص، فمنع

سنة" إال بشروط خاصة،21السفر لمن هم أقل من " ومنع حمل السالح إال بترخيص خاص به، وتحريم وتجريم قطع إشارة المرور ونحو ذلك كله داخل ضمن هذا المبدأ

الذي هو سد الذريعة.إذا ترتب على تطبيق القاعدة الشرعية مشقة عامة على

المجتمع، فيجوز لولي األمر حاكما أو مفتيا أو قاضيا أو من سواهما، االستثناء من هذه القاعدة بالضوابط التي ذكرها

أهل العلم. وهذا ما يسمي بدليل "االستحسان". ومن األمثلة عليه أن األصل عدم جواز التسعير فال يجوز

لولي األمر أن يسعر السلعة والبضائع ويستثني من ذلك إذا زادت األسعار بسبب راجع إلى التجار أو نحو ذلك فإنه يجوز لولي األمر أن يسعر خاصة في السلع الضرورية

والحاجية كاألغذية والمواد االستهالكية. ثالثا: إذا كان الحكم الشرعي ليس محدودا بحد معين وإنما الذي يحدده هو العرف فيكون مرجع تطبيقه إلى االستقراء واألعراف فيجوز لولي األمر أن يحدد هذا العرف ويلزم به،

".108 - سورة األنعام "1 ".20 - سورة النجم "2

30مثال ذلك النفقة والمهر.

31المبحث الثاني

أدلة اعتبار السياسة الشرعية ووجوبالعمل بها

يجب العمل بالسياسة الشرعية فيما ال نص فيه وال يجوز بحال من األحوال أن يخرج ولي األمر عنها وقد دلت األدلة

من القرآن والسنة وإجماع األمة والمعقول على ذلك.

أوال: األدلة من القرآن على وجوب العملبالسياسة الشرعية:

النصوص التي تبين أن مرجع الحكم لله سبحانه في كل �ه { أمر من أمور الحياة قال تعالي: } ،1إن الحكم إال� لل

.2وقال: } أال له الخلق واألمر{:النصوص التي أمرت بالحكم بما أنزل الله ومنها

قوله تعالى: } وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين�ه يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الل

�بع أهواءهم عم�ا جاءك من الحق لكل جعلنا منكم وال تت�ه لجعلكم أم�ة واحدة ولكن شرعة ومنهاجا ولو شاء الل

�ه مرجعكم ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى اللئكم بما كنتم فيه تختلفون * وأن احكم بينهم بما جميعا فينب

�بع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض �ه وال تت أنزل الل�ه أن يصيبهم �ما يريد الل �وا فاعلم أن �ه إليك فإن تول ما أنزل الل

�اس لفاسقون * أفحكم ببعض ذنوبهم وإن� كثيرا من الن

".57 - سورة األنعام "1 " .54 - سورة األعراف " 2

32�ه حكما لقوم يوقنون{ �ة يبغون ومن أحسن من الل .1الجاهلي وجه الداللة من هذه النصوص: أنها وردت مطلقة فتشمل

ما ورد به نص خاص به وما لم يرد به نص خاص.قوله تعالى: } وإذا جاءهم أمر من األمن أو الخوف أذاعوا

سول وإلى أولي األمر منهم لعلمه به ولو ردوه إلى الر��ذين يستنبطونه منهم ولوال فضل الل�ه عليكم ورحمته ال

يطان إال� قليال { �بعتم الش� .2الت وجه الداللة من اآلية: في قوله تعالى: )يستنبطونه( حيث أن األمر إذا كان منصوصا ال يحتاج إلى االجتهاد الذي هو االستنباط، مما يدل على أن اآلية وردت فيما ال نص فيه، فهو الذي يحتاج إلى شيء من االجتهاد واالستنباط، وهذا

نطاق السياسة الشرعية ومجالها.ه وأطيعوا� �ذين آمنوا أطيعوا الل ها ال قوله تعالى: } يا أي

سول وأولي األمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الر�سول إن كنتم تؤمنون بالل�ه واليوم اآلخر ذلك إلى الل�ه والر�

.3خير وأحسن تأويال{وجه الداللة من اآلية في موضعين:

oقوله : } أولي األمر منكم { حيث تجب طاعة أولى األمر وهم الساسة للرعية.

oقوله: } فردوه إلى الله والرسول{: فيظهر أن التنازع في الشيء إنما يكون فيما لم يرد النص عليه بعينه، ألن ما

ورد النص عليه بعينه سبق األمر بوجوب الطاعة فيه في قوله تعالى: }أطيعوا الله وأطيعوا الرسول {، وهذا يدل

" .50 ، 49 ، 48 - سورة المائدة ، اآليان " 1 " .83 - سورة النساء " 2 " .59 - سورة النساء " 3

33 على وجوب العمل بالمنصوص، وأال نعمل باألهواء واآلراء

المجردة.األدلة التي وردت في القرآن بخصوص األدلة التبعية من

المصلحة المرسلة والعرف وسد الذرائع واالستحسان فهيأدلة على وجوب العمل بالسياسة الشرعية.

ثانيا: األدلة من السنة على وجوب العملبالسياسة الشرعية:

السنة القولية: وردت نصوص كثيرة عن النبي صلى الله م الخروج عليه عليه وسلم توجب طاعة ولي األمر وتحرحتى في أصعب األحوال، وقد سبق ذكر شيء من ذلك.

كما وردت نصوص أخرى تلزم بالطاعة حتى وإن كان األمير فاقد لبعض الشروط التي تراعى عند التولية،

كالحرية واالختيار وكمال الحواس واألطراف والقرشية ونحو ذلك، ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى

اسمعوا وأطيعوا، وإن استعملقال: ) الله عليه وسلم وحديث عوف بن، 1عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة(

مالك األشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم.

وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم. وتلعنونهم ويلعنونكم قالوا قلنا: يا

رسول الله! أفال ننابذهم عند ذلك؟ قال: ال. ما أقاموا فيكم الصالة. ال ما أقاموا فيكم الصالة. أال من ولى عليه وال،

فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية.2الله، وال ينزعن يدا من طاعة(

".693 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1 " .1855 - اخرجه مسلم في صحيحه ، حديث رقم " 2

34 وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ) دعانا

النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا،

علينا، وأن ال ننازع األمر أهله، إال أنوعسرنا ويسرنا وأثرة .3تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان(

فهذا األحاديث وغيرها تفيد وجوب طاعة ولي األمر معصيته حتى وإن كان ظالما أو فاقدا لبعضوتحريم

شروط اإلمامة الكمالية. والسياسة الشرعية إنما هي أوامر وتصرفات تصدر من ولي األمر بهدف إصالح أمر الرعية

ودرء المفاسد عنهم فيجب على رعيته طاعته وتنفيذأوامره.

السنة الفعلية: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من األفعال التي تعتبر من باب التنظيم وليست من باب

التشريع، وسنقف على شيء من ذلك بإذن الله.

ثالثا: األدلة من اإلجماع على وجوب تطبيق العملبالسياسة الشرعية.

أجمع العلماء على وجوب تحكيم شرع الله في جميع مناحي الحياة سواء العامة منها أو الخاصة، ومن ذلك

تطبيق السياسة الشرعية فيما ال نص فيه وأنه يلزم ولي األمر أن يضع التنظيمات المناسبة التي تحقق المصلحة

وتدرأ المفسدة ويحصل بها االستقرار االجتماعي واألمني.

حكم سن األنظمة في الدولة اإلسالمية

".7056 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 3

35 قدمنا بأنه يجب على ولى األمر بأن يسوس رعيته سياسة

شرعية، وأن يحكم بهم فيما لم يرد فيه نص وفقا لمايحقق مقاصد الشارع جال وعال.

كما يلزمه أن يضع األنظمة والقوانين التي تضبط أمن البالدوتحقق العدل بين العباد.

ويختلف حكم سن النظام بحسب أهمية هذا التنظيم، ونستطيع أن نقول أنه تتوارد عليه األحكام التكليفية

الخمسة:فإن كان عدم وجوده يترتب عليه أضرارا كبيرة داخل

المجتمع وجب على اإلمام أن يبادر إلى وضعه، وال يجوز لهأن يتأخر في ذلك.

ومن أمثلته:

وإن كان من األمور التي تساعد على استقرار المجتمع وهي من الوسائل في تحقيق المصالح ودرء المفاسد فهو

من األمور المستحبة التي ينبغي لإلمام أن يضعها.

36ومن أمثلته

وإن كان من األمور التي قد تضيق على كثير من الناس في أعمالهم وأرزاقهم كان سن هذا النظام مكروها.

ومن أمثلته

وإن كان من األمور التي تستوي فيها المصالح والمفاسد إال أن المصالح للتنظيم قد تغلب في حاالت كان سنه مباحا.

ومن أمثلته

37

:ويحرم سن النظام في حاالت منها

ــادق-1 ــور في الفن ــة الفج ــور، أو ممارس ــات الخم تنظيم خانــين، أو ــة، أو حفالت االختالط بين الجنسـ ــاكن الخاصـ واألمـ

تقنين الفائدة في البنوك.ه أكثر من ترك ذلك.-2 كون المفاسد التي تترتب على سن

س: إذا احت--وى النظ--ام على مخالف--ة ش--رعية في بعض م--واده، فه--ل يج--وز العم--ل ببقي--ة نص--وص

النظام وتعتبر شرعية؟

:مسئولية سن التنظيم

تختلف مسؤولية ولي األمر بحسب صالحياته المخولة لهنظاما، وكذا بحسب قدرته وعلمه.

فإذا اعترضت ولى األمر واقعة ليس لها حكم في كتاب الله وال السنة المطهرة ولم يرد عليها إجماع بخصوصها ولم يوجد لها أصل تقاس عليه فإن ولى األمر في هذه

الحالة ال يعدو أن يكون أحد شخصين:مجتهد وقادر على مقايسة هذه الواقعة بما يناسبها من

38 األحكام الشرعية، فإنه يجب عليه االجتهاد في هذه الحالة وإن استعان بمن يستشيره ويأخذ برأيه فال بأس، بل يعتبر

ذلك من األمور المستحبة.غير مجتهد، فعليه في هذه الحالة استشارة أهل العلم

الشرعي ويتأكد األمر إذا كانت الواقعة لها مساس باألحكامالشرعية.

39المبحث الثالث

شروط السياسة الشرعية إن الحكم الذي يستنبط للواقعة التي لم يرد بحكمها نص ال

يعتبر سياسة شرعية إال إذا توفر فيه ثالثة شروط: - الشرط األول: أن يكون قائما على أصل من

أصول الشريعة الكلية، ومحققا ألحد مقاصدها:

ونعني بأصول الشريعة الكلية – أو العامة-: قواعدها األساسية التي يبنى عليها الكثير من األحكام، وتعتبر أصال

ودليال لها، مثل: المصلحة المرسلة، و سد الذرائع، والعرف، واالستحسان، والشورى، ورفع الحرج، ونفي الضرر،

والعدالة، والحرية، والرجوع في معضالت األمور إلى أهل الذكر والرأي والخبرة. . . إلى غير ذلك من القواعد العامة

التي ال يشذ عنها قانون يراد به إصالح األمة. كما نعني بمقاصد الشريعة: ما تهدف وتقصد إليه في

جميع أحكامها التي جاءت بها، من جلب المصالح للفرد والمجتمع، ودرء المفاسد والضرر عنهما، وهذه المصالح

هي المعروفة باسم: المصالح الضرورية، أو المقاصد الضرورية، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل،

وحفظ النسل، وحفظ المال، وزاد بعض المتأخرين من العلماء مقصدا سادسا، هو حفظ العرض الذي شرع

لحمايته حد القذف. فمهما تنوعت الشرائع فإنها ترمي بأحكامها إلى المحافظة

على هذه المقاصد، وقد جاء اإلسالم بأحكام تحفظ كيانهاوتكفل بقاءها، وتدفع عنها ما يفسدها أو يضعفها.

فكل حكم بني على قاعدة من هذه القواعد المذكورة، أو

40 ما يماثلها من القواعد التي اعتبرها الشارع أساسا الستنباط األحكام، أو استهدف هذه الروح في أي مقصد

من المقاصد الخمسة فإنه يعتبر سياسة شرعية، وذلك ألن هذه القواعد قواعد محكمة، ثبتت بأكثر من نص، ال تقبل التغيير وال التبديل، وال تختلف باختالف األمم، والعصور،

واألماكن، والمجتمعات، وألن تحقيق هذه المقاصد الخمسة هو الغرض الذي من أجله أنزلت الشرائع، فكانت من جنس

ما جاءت به الشرائع. وقد يقال: كيف توصف هذه األحكام بكونها شرعية مع عدم

ورود نص خاص بها من كتب أو سنة أو إجماع أو قياس؟ والجواب: أن األصول والقواعد التي تقوم عليها هذه األحكام قد اعتبرها الشارع حجة في إثبات األحكام،

واعترف بصالحيتها أساسا لبناء األحكام عليها، بأكثر من نص من نصوص الكتاب والسنة، وحسبك ما قاله العالمة

ابن القيم في أعالم الموقعين: " إن قاعدة سد الذرائع ثبت.1اعتبارها بتسع وتسعين وجها من الكتاب والسنة "

ونضرب بعض األمثلة ألحكام بعض الوقائع التي لم يرد بحكمها نص، والتي اعتبرت من السياسة الشرعية، لكونها

قائمة على إحدى القواعد ومحققة لمقصد أو أكثر منالمقاصد الشرعية، فيما يلي: -

النظم التي تلزم أفراد األمة بالتطعيم للوقاية من األمراض الوبائية كالكوليرا وغيرها، ونظم الحجر الصحي، التي تلزم

القادمين إلى البالد بالبقاء في مكان خاص تحت إشراف األطباء، حتى يتبين خلوهم من األمراض، فيسمح لهم

بدخول البالد، أو عدم خلوهم وظهور المرض بهم فيمنعون من الدخول إليها، تعتبر من السياسة الشرعية، ألنها تتفق

.3/15- إعالم الموقعين 11

41 مع مقصد من مقاصد الشريعة اإلسالمية وهو المحافظة

على النفس وإبعاد األمراض والعلل عنها، وإن لم يرد بهذهالنظم واألحكام نص تفصيلي خاص.

النظم التي تؤدب من يتعرض للنساء في الطرقات بالمضايقة واإليذاء، والتي تؤدب المتبرجات من النساء في

الطرقات، والتي تؤدب من يقف من الرجال والنساء في مواقف التهم والريب والشبهات، بأنواع من العقوبات،

تعتبر من السياسة الشرعية، وإن لم يرد بها نص جزئي خاص، ألنها تتفق مع مقصد من مقاصد الشريعة اإلسالمية

وهو صيانة األعراض والمحافظة عليها، وإن لم يرد بهذهالنظم نص تفصيلي خاص.

نظام وضع رجال الشرطة في الطرقات للمحافظة على األمن، وتنفيذ أوامر الحكومة، ونظام اتخاذ جوازات السفر

عند دخول البالد والخروج منها، ونظام هويات الشخصية داخل البالد، تعتبر من السياسة الشرعية وإن لم يرد بهذه النظم نص خاص، ألنها تتفق مع غرض تستهدفه الشريعة،

وهو تحقيق األمن للدولة واألفراد، وقطع دابر الفسادوالمفسدين.

النظام الذي يلزم المماطل الممتنع عن دفع الحق الذي عليه، بدفع ما أنفقه صاحب الحق في سبيل اقتضاء حقه

بواسطة القضاء، من أجور االنتقال والمحامين والكتاب وإكرام الشهود وغير ذلك، فوق إلزامه بأداء الحق الذي

عليه يعتبر من السياسة الشرعية، وإن لم يرد بذلك نص خاص، ألنه مبني على قاعدة من قواعد الشريعة، وهي

معاقبة الظالم الممتنع عن أداء الحق مع القدرة على أدائهإلى صاحبه، تحقيقا للعدالة، ورفعا للظلم.

العقوبات التي توضع زيادة على العقوبات المقدرة – إن

42 اقتضت المصلحة ذلك – كزيادة عشرين جلدة على الحد المقرر لجريمة السكر لمن وجد يشرب الخمر في نهار رمضان على قارعة الطريق في مكة؛ أو زيادة التغريب

على الجلد – في رأي فقهاء الحنفية – والتي توضع لجرائم لم يقدر لها الشرع عقوبات معينة، تعتبر سياسة شرعية،

ألنها تحقق هدفا من أهداف الشريعة، وهو القضاء على الفساد في المجتمع بردع من لم تردعه العقوبات المقدرة،

أو استخف بالعقوبات التعزيرية البسيطة التي قدرها ولياألمر من قبل.

أضف من عندك أمثلة أخرى

الشرط الثاني: أن تكون السياسة معتدلة، فالإفراط وال تفريط:

قدمنا أن السياسة الشرعية عبارة عن أحكام وتصرفات، طريقها الرأي واالجتهاد، وهدفها والغرض منها: تحقيق

المصالح العامة لألمة، واالستجابة لمطالب الحياةالمتجددة.

لكن هذه السياسة ال تتحقق إال إذا كانت في حدود االعتدال، أي أنها وسط بين التفريط واإلفراط، ألنها إذا

43 مالت إلى أحدهما كانت مذمومة ظالمة، وحينئذ تخرج عن

نطاق السياسة الشرعية التي تتوخى العدل في أحكامهاإلى السياسة الظالمة التي تتنافى مع شريعة اإلسالم.

والتفريط في العمل بالسياسة معناه: عدم أحكامها االلتجاء إليها أو التقليل منه وعدم تطبيق

فيما يجد من وقائع لم يرد بحكمها نص أو إجماع أو قياس، أو التي من شأنها أن تتغير وتتبدل تبعا لتغير المصالح

والظروف، ومعنى هذا: أن تبقى هذه الوقائع بدون أحكام، وهذا وصف للشريعة بالقصور والجمود وعدم تلبيتها

لمطالب الحياة المتجددة.

فمن التفريط في األخذ بالسياسة:

أن يقصر القاضي نظره في إثبات الدعاوى والتهم على الشهادة، واإلقرار، والنكوث عن اليمين، وال يأخذ بالقرائن

واألمارات وداللة األحوال، مع أنها قد تكون في الداللة علىالحق والعدل أقوى من أحد هذه األدلة الثالثة.

فإن من يرى قتيال يتخبط في دمه، ورجال يقوم على رأسه أو يعدو يريد الهرب، وفي يده سكين تقطر دما، ال يكاد

يتردد في أنه هو القاتل، وبخاصة إذا كان معروفا من قبل بعداوته للقتيل، وحينئذ فمن الجمود والتهاون في تحقيق

مقاصد الشريعة عدم األخذ بهذه القرائن واألمارات فيمكن صاحب السكين من اإلفالت من العقوبة بناء على إنكاره

القتل وعدم وجود شهود يشهدون به.من يرى رجال من وجهاء القوم عري الرأس، وليس ذلك

44 من عادته، وآخر يعدو أمامه وعلى رأسه عمامة، وفي يده عمامة أخرى، فإنه ال يكاد يشك في أن صاحب العمامتين

قد غصب إحداهما من صاحبه، وإذا ال يصح أن يخلي سبيله اعتمادا على إنكاره الغصب وعدم وجود الشهود بالخطف

والغصب، واتكاال على القاعدة الفقهية التي تقول: إذا تنازع اثنان في متاع وهو في يد أحدهما وال دليل ألحدهما، حكم به لمن في يده المتاع، فإن إخالء سبيله يكون من الجمود

وعدم الفقه، ألن القرائن هنا ناطقة بأن صاحب اليد هوالغاصب الظالم.

ومن يرى رجال يترنح على قارعة الطريق، تفوح من فمه رائحة الخمر، أو تقيأها، يكاد يجزم بأنه شربها، ومن الخطأ

إطالق سراحه بناء على أنه لم يقر بالشرب، أو لم يشهد بهعليه الشهود.

وكذلك من الخطأ إطالق سبيل المتهم بالسرقة مع وجود المسروق في يده أو في منزله، وإطالق من وجدت حامال وليس لها زوج أو سيد، إذا لم يقرا بالسرقة أو بالزنا، ألن

القرائن هنا واضحة في ثبوت السرقة والزنا، ولذلك لم يتوقف عمر – رضي الله عنه – في إثبات هذه الجرائم على شهادة أو إقرار، وإنما حكم فيها بالعقوبة المقررة

للسرقة والزنا وشرب الخمر، اعتمادا على القرائن وداللةالحال.

االعتماد على إقرار المدعى عليه أو المتهم في جريمة بأنه لم يرتكبها مع قيام القرائن واألمارات التي توجب شبهة

في هذا اإلقرار. ولهذا لم يعتبر الفقهاء، صحة إقرار المريض مرض الموت

بشيء من ماله لوارثه، ألن قرينة الحال تدل على أنه قصد بهذا اإلقرار التحايل لتفضيل هذا الوارث على غيره من

45 الورثة. ويدل لذلك أيضا ما جاء في صحيح البخاري من

حكومة سليمان عليه السالم في حادثة الولد الذي تنازعته امرأتان، وقد حكم به داود عليه السالم للكبرى ألنه كان

في يدها، وكان ولدها قد اختطفه الذئب، فادعت أن الذي أخذه الذئب هو ولد األخرى، فلم يطمئن سليمان عليه السالم لهذا الحكم، وقال: ائتوني بسكين أشقه بينهما،

فسمحت الكبرى بذلك، وقالت الصغرى: ال، يرحمك الله هو. 1ابنها، فقضى للصغرى

فلم يعتبر سليمان إقرار الصغرى التي اعترفت بالولد للكبرى، نظرا إلى داللة القرينة والحال، فقد استدل برضى الكبرى بشق الولد، وعدم رضى الصغرى بذلك شفقة على

الولد على أن الصغرى أمه، على الرغم من إقرارها بأنهليس لها وإنما هو للكبرى.

فهذه القرائن واألمارات يجب التعويل عليها والحكم بما تدل عليه، من باب السياسة الشرعية، ما لم يكن هناك

دليل آخر أقوى منها يدل على خالف ما دلت عليه.

واإلفراط في األخذ بالسياسة معناه: أن يتجاوز ويستقر بهالعمل بها حدود ما تقتضيه المصلحة،

العدل والنظام، وهذا التجاوز يجب أن يتنزه عنه والة األمورفي تدبيرهم شؤون األمة.

ومن اإلفراط في السياسة:

أن يتجاوز ولي األمر حدود عقوبة المجرم إلى عقوبة أهله " .6769 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1

46 وأقاربه، أو يقبض على أقارب المتهم فيحبسهم ليحملهبذلك على اإلقرار بالجريمة إذ ال تزر وازرة وزر أخرى.

أن يحبس المتهم الذي لم يعرف بسوء السلوك بمجرد االتهام الذي لم تقم عليه بينة حتى يظهر وجه الحق في

تهمته، فإن ذلك ظلم يفتح أبواب شرور كثيرة، ففيه تعذيب لألبرياء الذين لم يرتكبوا جرما، وفيه إغراء ألهل الشر

والفساد على إيذاء من يريدون التنكيل بهم من العلماء والشرفاء، فيتهمونهم بتهم باطلة، ليودعوا في السجون،

ويكتفون بذلك، إرضاء لنزعة الشر في نفوسهم.أن يفرض ولي األمر عند حاجة الدولة إلى المال لإلنفاق

منه على المرافق العامة -عندما ال تفي الموارد المالية المقررة في الكتاب والسنة بتلبية حاجات هذه المرافق – ضرائب على جميع األفراد بالتساوي ال فرق بين الموسر

والمعسر، ألن مساواة المعسر بالموسر ظلم تأباه شريعة اإلسالم، ولذلك كان من السياسة العادلة ما فعله الخليفة "

المنصور" بالعدول عن خراج الوظيفة الذي كان مضروبا على أرض العراق إلى خراج المقاسمة، لما وجد أن الخارج

من األرض ال يفي بأداء خراج الوظيفة.أن يصرف ولي األمر المال المخصص في ميزانية الدولة

إلصالح الطرق وصيانتها ونظافتها على الطرق التي يسكنها كبار رجال الدولة ووجهائها، ويحرم منها طرق الفقراء

وعامة الشعب، فإن هذه التفرقة ظلم يرتكبه ولي األمر ويخرج به عن دائرة السياسة العادلة إلى نطاق السياسة

الظالمة. وهذا ما نراه ويراه فقهاء السياسة الشرعية من اعتبار

االعتدال شرطا في الحكم السياسي الشرعي، بمعنى أنه يجب أن يكون وسطا بين التفريط واإلفراط على الوجه

47الذي بيناه.

أضف من عندك أمثلة أخرى

48السياسة العادلة والسياسة الظالمة:

ونستخلص مما تقدم أن السياسة العادلة هي: األحكام والتصرفات التي تعنى بإسعاد األمة، وتهدف إلى تحقيق

مصالحها في الوقائع المتجددة، وفقا لقواعد الشريعة العامة، غير متأثرة باألهواء والشهوات، وغير متجاوزة حدود

المصالح الحقيقية لألفراد والجماعات. وأن السياسة الظالمة هي: التي تميل مع األغراض المختلفة، وتسير تبعا لألهواء والشهوات. فتستخدم

لمصلحة فرد أو جماعة بدون نظر إلى ما يلحق باقي الجماعة منن ضرر أو أذى، والتي تقصر في األخذ بما

تقتضيه المصلحة أو تسرف في أحكامها بالتجاوز عن حدودالمصلحة الحقيقية.

الشرط الثالث: أال يخالف الحكم دليال من األدلةالتفصيلية التي تثبت شريعة عامة دائمة.

ويتحقق هذا الشرط بأحد أمرين: -

األول: عدم وجود دليل تفصيلي خاص في الواقعة وحينئذ ال توجدأو الحادثة التي هي محل الحكم،

مخالفة أصال لنص أو إجماع أو قياس، فيعتبر الحكم المستنبط من باب السياسة الشرعية لعدم المخالفة. ومن

أجل ذلك: -لم يكن ما فعله أبو بكر – رضي الله عنه – من جمع القرآن

في مصحف واحد مخالفا للشرع، بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بهذا الجمع، وال نهى عنه، وإنما

اعتبر هذا الجمع من أبي بكر من باب السياسة الشرعية،

49 ألنه لم يخالف نصا من النصوص يمنع من جمعه، وهو مع

ذلك متفق مع ما جاءت به الشريعة من وجوب المحافظة�ا على القرآن، كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى: }إنا ن

�ا له لحافظون { لنا الذكر وإن .1نحن نز�ولم يكن ما فعله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من

إنشاء الدواوين وترتيبها وتنظيمها، مخالفا للشرع، بل اعتبر ذلك سياسة شرعية، ألنه لم يخالف نصا أو إجماعا يمنع من

اتخاذ الدواوين، وهو مع ذلك متفق مع غرض تهدف إليه الشرعية، وهو ضبط المصالح وتنظيم األعمال، لتسير أمور الدولة وشؤونها سيرا منتظما منضبطا تتحقق به المصلحة

العامة لألفراد والجماعات.ولم يكن ما فعله عثمان – رضي الله عنه – من إحداث

يوم الجمعة إلعالم الناس2أذان جديد على " الزوراء" بالصالة – حين كثروا في أيامه – مخالفا للشرع، بل اعتبر

سياسة شرعية، ألنه لم يخالف نصا أو إجماعا يمنع من إنشاء هذا األذان، ومع هذا فإنه يتفق مع غرض من أغراض

الشرع، وهو جمع الناس لصالة الجمعة.– ولم يكن ما فعله علي بن أبي طالب – رضي الله عنه

من التفريق بين الشهود وسماع كل شاهد على حدة في مجلس القضاء مخالفا للشرع، وإنما اعتبر ذلك سياسة

شرعية يسير عليها القاضي إن رأى أن هذا التفريق يؤدي إلى استخالص الحق، ألنه لم يخالف نصا أو إجماعا يمنع

من التفريق بين الشهود، وهو مع ذلك متفق مع مبدأ تحرص الشريعة على تحقيقه، وهو الوصول إلى الحق بأي

طريق، تحقيقا للعدالة، ورفعا للظلم.

" . 9 - سورة الحجر " 1 - مكان عال بالمدينة المنورة .22

50 الثاني: وجود دليل تفصيلي خاص في الواقعة

بأن علميخالف الحكم مخالفة ظاهرية ال حقيقية، أن ما دل عليه الدليل التفصيلي لم يقصد بالحكم أن يكون شريعة دائمة، بل قصد به أن يكون شريعة مؤقتة، بأن كان

مقيدا بوقت معين أو بسبب خاص أو حالة خاصة، أو مرتبطا بمصلحة معينة، أو كان معلال بعلة غائبة، أو مجاريا

لعرف موجود وقت نزول التشريع. فإذا وجد هذا الدليل فإن الحكم المخالف له إذا وجد ما يقتضيه عند انتهاء الوقت، أو تغير األسباب واألحوال، أو

انتهاء المصلحة، أو انتهاء العلة إلى غايتها، أو حدوث ظرف جديد طارئ، ال يعتبر مخالفا ألدلة الشرع وأحكام اإلسالم مخالفة حقيقية في الواقع ونفس األمر، وإنما هي مخالفة ظاهرية فقط، دل عليها تغير ما تقيد به النص من وقت أو

سبب أو حالل أو مصلحة أو علة أو غيرها. ولعدم المخالفة الحقيقية حينئذ يعتبر الحكم من باب

السياسة الشرعية إذا وجد ما يقتضيه ومن أجل ذلك: ال يعتبر عمر – رضي الله عنه – حين حرم المؤلفة قلوبهم

سهمهم بالنص مخالفا لهذا النص، الذي قرر لهم هذا�ما الص�دقات السهم في مال الزكاة، وهو قوله تعالى: } إن

.1للفقراء والمساكين والعاملين ... االية{ ألن عمر فهم أن الله تعالى لم يقرر لهم هذا السهم على

أنه شريعة عامة يعمل بها في كل زمان ومكان، وإنما قرره بسبب ضعف المسلمين في أول نشأة اإلسالم وحاجتهم إلى من يعضدهم وينصرهم، وحاجتهم إلى أن يكف بعض الناس عنهم شرهم، وال يؤلبون غيرهم عليهم، فإذا قوي

أمر المسلمين، وأصبحوا في عزة ومنعة زال المعنى الذي ".60 – سورة التوبة "11

51 من أجله وجب ذلك السهم، وأصبح لإلمام الحق في أن

يصرفه إلى ما هو أجدى للمسلمين وأنفع، وفي ذلك يقول عمر – رضي الله عنه-: ) إن الله أعز اإلسالم وأغنى عنكم،

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( وفي رواية: ) فإنثبتم وإال بيننا وبينكم السيف (.

وقد اعتبر هذا سياسة شرعية من عمر على الرغم من أنه خالف النص، حيث منع إعطاء السهم إلى أربابه وحوله إلى

مصرف أولى وأنفع، ألن هذه المخالفة مخالفة ظاهرية وكأن عدم الحكم المعلل بعلة عند زوال العلة عمل بالنص،

.1وليس مخالفا له، كما تقرر ذلك لدى األصوليين لكن إسقاط عمر سهم المؤلفة قلوبهم ال يعتبر سياسة شرعية إال إذا كان عمر قد فهم أن اإلعطاء معلل بعلة

غائبة انتهت إلى غايتها وزالت إلى األبد، فيزول الحكم وهو اإلعطاء إلى األبد، ويكون قد منع الحكم وهو اإلعطاء بسبب انتهاء العلة إلى غايتها، وهذا الفهم محتمل من

القصة، وبه أخذ األئمة الثالثة. ولكن القصة تحتمل فهما آخر، وهو أن العلة التي بني عليها

الحكم علة باعثة يدور الحكم معها وجودا وعدما، وعلى ذلك يوجد اإلعطاء إذا عادت العلة وهي الضعف، ويكون

عمر حينئذ قد أوقف العطاء ولم يبطله، وبهذا أخذ الحنابلة، ويخرج الموضوع عن دائرة السياسة الشرعية، وهو

الراجح، ألنه ال يوجد في القصة ما يرجح أن العلة غائية،واألصل في العلة أن تكون بمعنى الباعث.

وكذلك ليس من المخالفة لنصوص الشريعة ما فعله عثمان – رضي الله عنه – بضوال اإلبل، حين أمر بإمساكها

وتعريفها، فإن جاء صاحبها وعرفها أخذها، وإال بيعت وحفظ .2/14 -حاشية فتح القدير للكمال بن الهمام 12

52 ثمنها ببيت المال إلى أن يظهر صاحبها، مع أن الرسول عليه الصالة والسالم منع إمساكها، حيث قال لمن سأله

عن ضالة اإلبل: )وما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد ألن أمر1الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها(

عثمان بإمساكها وتعريفها، ثم بيعها وحفظ ثمنها وإن كان فيه مخالفة ألمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتركها حتى يلقاها ربها، إال أن هذه المخالفة مخالفة ظاهرية ال حقيقية،

ألن منع الرسول صلى الله عليه وسلم من إمساكها كان لعدم الخشية عليها من الضياع، إذ األيدي لم تكن تمتد إليها بسبب مراقبة الناس ربهم، ولعدم الخشية عليها من الموت

والهالك، ألن معها سقاؤها وحذاءها، وأمر عثمان – رضي الله عنه – باإلمساك كان بسبب الخشية عليها من الضياع، حيث رأى أن الحال قد تبدل، وامتدت األيدي إليها، فالمنع

من اإلمساك كان للمصلحة، واألمر باإلمساك كان أيضا للمصلحة، فلم تكن هناك مخالفة حقيقية في الواقع ونفس

. 2األمروكذلك ال يكون من المخالفة للشريعة أن تفرض الدولة

على أهل اليسار والغنى ضرائب فوق ما هو مقرر في الكتاب والسنة من الزكاة والعشر والخراج والعشور

وغيرها، متى كان لألمة حاجات ال تفي بسدها الضرائب المقدرة في الكتاب والسنة، ألنه ال يوجد في نصوص

الشريعة ما يمنع من ذلك، والنصوص التي قررت الضرائب في الشرعية لم تقررها على سبيل الحصر، حتى يكون

هناك مخالفة حقيقية لها بفرض ضرائب جديدة زيادة عليها، ففرض الضرائب حينئذ نظام اقتضته مصلحة األمة لسد

حاجاتها الضرورية، وليس فيه مخالفة حقيقية لنص أو إجماع أو قياس، فيكون فرض هذه الضرائب حينئذ من باب

" . 91 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1 .5/292،287 - نيل األوطار 2

53السياسة الشرعية.

أمثلة على عدم تحقق الشرط:

أما إذا لم يتحقق الشرط المذكور، بأن خالف الحكم النص أو اإلجماع أو القياس مخالفة حقيقية، فإن الحكم حينئذ ال

يكون من باب السياسة الشرعية، وإنما هو من بابالسياسة الوضعية التي ال عالقة لها بشريعة الله.

وبناء على ذلك ال يعتبر من السياسة الشرعية ما يلي: القول بإباحة ربا االستغالل، وهو ما كان رأس ماله مقترنا

باالستغالل في المشروعات التجارية أو الصناعية أو الزراعية، بحجة أن المقترض من البنك أو غيره سيربح من هذه المشروعات ربحا كثيرا، فيجب أن يحصل منه صاحب القرض على نسبة محددة، تحقيقا للعدالة، وأنه بهذا يشبه

القراض – المضاربة – في الشريعة اإلسالمية. ونقول ردا على هذا: إن هذا القول ال يعتبر من السياسة

الشرعية، لمخلفته نصوص الربا الواردة بتحريمه في الكتاب والسنة مخالفة حقيقية، فإن هذه النصوص تحرم

الربا بجميع أنواعه، سواء كان ربا استغالل أو ربا استهالك، وهو ما يكون االقتراض فيه مقصودا به سد الحاجات

الضرورية للمقترض، من طعام ولباس ومسكن ودواء، وغيرها، وسواء كان المقترض فردا عاديا أو كانت حكومة

ممثلة في ولي األمر الذي يكون على رأس الدولة، ألنه ليس في حاجة إلى االقتراض الربوي ألن له من السلطة

ما يمكنه من فرض الضرائب العادلة التي تسد حاجات الدولة ومصالحها، وذلك ألن النصوص الواردة بتحريم الربا وردت مطلقة غير مقيدة بنوع خاص، وعامة غير مخصوصة

54 بنوع معين من الربا، فالقول بإباحة ربا االستغالل مخالف لهذه النصوص مخالفة حقيقية، وبناء عليه ال يعتبر القول

بإباحة ربا االستغالل من باب السياسة الشرعية، وإنما هو من باب سياسة البشر الوضعية، التي تدعو إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولقد قرر أكثر علماء االقتصاد وأساتذته أن

الربا بجميع أنواعه أكبر ضربه توجه إلى اقتصاديات األمم والشعوب، ولذلك حرمته كثير من الدول التي كانت تطبق النظام االشتراكي قبل أن تنسلخ من تطبيقه، وهذه إشارة

فقط إلى بطالن هذا القول.القول بإباحة خروج النساء إلى الطرقات متبرجات

كاشفات، كما تفعل النساء األجنبيات من غير المسلمين، بل ومن بعض المسلمات في بعض البالد اإلسالمية بحجة

أن خروجهن على هذا الوجه من أسباب تمدن الشعوب وحضارتها ورقيها، وأنه يجب أن تخرج المرأة المسلمة من دائرة التخلف الذي تعيش فيه إلى مجاراة النساء الغربيات

حتى نجاري العصر الذي نعيش فيه. نقول ال يعتبر هذا القول من باب السياسة الشرعية، ألنه

يخالف النصوص الواردة في القرآن والسنة بتحريم التبرج مخالفة حقيقية، فضال عما أجمع عليه العقالء من أن تبرج

النساء ليس من أسباب الرقي المادي لدول الغرب والشرق، وأنه لم يكن في يوم من األيام سببا من أسباب

التمدن والحضارة، بل كان سببا من أسباب الدمار واالنهيار الخلقي للشعوب واألمم، والتاريخ شاهد صدق وعدل على

ذلك.،القول بجواز تولية المرأة الواليات العامة في الدولة

كالرئاسة العليا، والوزارة، وإمارة األقاليم والبلدان، والقضاء، وقيادة الجيوش وغيرها بحجة أنها مثل الرجل في

55 الكفاءة والمقدرة، وأنه ال يصح أن يبقى نصف األمة عاطال ال ينتفع به، وأن المصلحة في االنتفاع به في إدارة شؤون

الدولة وسائر مرافقها. فنقول: ال يعتبر هذا القول من باب السياسة الشرعية، ألنه

يخالف النص المتفق على صحته وهو ما رواه البخاري وغيره عن أبي بكر- رضي الله عنه-، أن النبي صلى الله

1عليه وسلم قال: ) لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ( مخالفة حقيقية، وألن االختالف بين وظيفتي الرجل والمرأة

في الحياة، المترتب على التفاوت الخلقي بينهما، يجعل المرأة غير قادرة على القيام بأعباء هذه الواليات المهمة في الدولة على الوجه األكمل الذي يحقق الغاية المرجوة

منه، وقد أطلنا الكالم على فساد هذا القول في محاضراتنافي نظام القضاء في اإلسالم.

".4425 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم "1

56المبحث الرابع

مصادر السياسة الشرعية تقوم السياسة الشرعية على مصادر بدونها ال يعتبر العمل

شرعيا وهذه المصادر يقصد بها الدليل الذي قام عليه جواز العمل بهذا الحكم السياسي، فالسياسة الشرعية البد أن

تكون قائمة على مصدر شرعي من رجوعها إلى قاعدة عامة منصوص عليها، أو مقصد عام أو خاص للحكم

الشرعي، أو دليل تبعي، وسنبين هذه األقسام: القسم األول: القواعد العامة التي نصت عليها

الشريعة اإلسالمية:

نص القرآن والسنة على مجموعة من القواعد الشرعية العامة التي ال تتعلق بذاتها وإنما تتعلق بأمر عام ومن هذهالقواعد تستفاد األحكام الشرعية المتعلقة بسياسة الدولة.

ومن ذلك القواعد التالية::قاعدة العدل

هذه القاعدة ورد النص عليها في القرآن الكريم قال تعالى�ه يأمر بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي القربى { ،1} إ إن� الل

وقال:2وقال: } وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى {�كم شنآن قوم على أال� تعدلوا اعدلوا هو أقرب } وال يجرمن

�قوى { ، وقاعدة العدل عليها مدار السياسة في الدولة3للت اإلسالمية فيجب على والتها عند إحداث أي تنظيم أو قرار

أن يراعوا العمل بهذه القاعدة من جميع جوانبها فبدونذلك ال يعتبر العمل مشروعا.

" .90 - سورة النحل "1 " .152 - سورة األنعام " 2".8 - سورة المائدة "3

57 وقاعدة العدل لها وسائل متعددة فمن أهم أسباب تحقيق

القاعدة: : فاألصل أن الناس سواسية في األحكامالمساواةأ-

والحقوق والواجبات وااللتزامات وال يجوز خرق ذلك إال إذاكان تابعة لقاعدة أخرى ترتبط بقاعدة العدل.

وتعني قاعدة المساواة المتفرعة من قاعدة العدل أن يساوى بين أصحاب الحقوق الواحدة حينما تكون موجبات

استحقاقهم متساوية، أما إذا لم تكن كذلك فإن العمل بالمساواة يعتبر ظلم وخروج عن قاعدة العدل، فمثال حينما يتساوى المتقدمان على الدراسة في الصفات فإنه ال يقدم

أحدهما على اآلخر إال بسبب يوجبه ولكن إذا كان أحدهما تقديره أفضل من اآلخر ومؤهالته أقوى فيلزم تقديمه في

هذه الحالة وتكون المساواة بينهما في ذلك ظلم. : فمن العدل أنمراعاة أصحاب الحقوق الخاصةب-

يراعي أهل الحقوق الخاصة وال يساوون بغيرهم من أهلالحقوق العامة.

:قاعدة رفع الحرج

يقول الله جل وعال: } وما جعل عليكم في الدين من�ه نفسا إال� وسعها {1حرج { ف الل .2، ويقول تعالى: } ال يكل

ويقصد بقاعدة رفع الحرج أن يراعي السائس الرفق برعيته ورفع المشقة والعنت عنهم فال يكلفهم ما ال

يطيقون جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )اللهم، من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم،

فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، " .78 - سورة الحج "1 " .186 - سورة البقرة " 2

58.1فارفق به(

:قاعدة نفي الضرر وهذه القاعدة يقصــد بهــا أنــه ال يجــوز لشــخص لــه حــق أن يعتدي بهذا الحق على غيره بل له أن يستخدمه بنفسه دون تعد وفي حالة تعديه على غيره تأتي هــذه القاعــدة فتعمــل،

، ففي سنن أبي داوود: )كــانتوقد ورد النص على اعتبارها ألبي لبابــة عــذق في حائــط رجــل فكلمــه فقــال: إنــك تطــأ حائطي إلى عذقك فأنا أعطيــك مثلـه في حائطـك فأخرجــه عني فــأبى عليــه فكلم النــبي صــلى اللــه عليــه وســلم فيــه فقال: يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فضـمها إلى مالـك واكفـف عن صاحبك ما يكره« فقال: مــا أنــا بفاعــل، قــال: فــاذهب فأخرج له عذقا مثل عذقه إلى حائطه، ثم اضرب فوق ذلك بجدار، فإنه ال ضــرر في اإلســالم وال ضـرار( قـال أبــو داود:

، و الحــديث2والعذق بالفتح النخلة والعذق بالكســر الكناسةمرسل وله شواهد.

:قاعدة تحريم اإلفساد في األرض

وردت النصوص على هذه القاعدة في القران والسنة، ومن ،3ذلك قوله: } وال تفسدوا في األرض بعد إصالحها {

�ما وقوله: } وإذا قيل لهم ال تفسدوا في األرض قالوا إن.4نحن مصلحون {

فهذه النصوص تدل على تحريم كل ما من شأنه أن يكون إفسادا في األرض سواء كان صغيرا أو كبيرا مقصودا أو

غير مقصود من جماعة أو من فرد. فمثال رمي المخلفات في الطرق والحدائق العامة من

اإلفساد في األرض. " .1828 - أخرجه مسلم في صحيحه ، حديث رقم " 1 " .407 - أخرجه أبو داود في المراسيل ، حديث رقم " 2".56 - سورة األعراف "3 " . 11 - سورة البقرة " 4

59 فعلى ولي األمر أن يراعي في سياسته هذه القاعدة وله أن يحرم بعض األعمال التي ينطبق عليها وصف اإلفساد

ويضع العقوبة الزاجرة لكل مخالفة بحسبها.

:قاعدة مراعاة الضعفاء

أمرت الشريعة اإلسالمية بمراعاة الضعفاء في التعامل وحرمت استغاللهم بغير حق، ومن الضعفاء األيتام قال

�ما �ذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إن تعالى: } إ إن� ال ، وقال:1يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا {

ب وال } وآتوا اليتامى أموالهم وال تتبد�لوا الخبيث بالط�ي�ه كان حوبا كبيرا { .2تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إن

فالله حرم االعتداء على أموال اليتامى رغم أن تحريم االعتداء عام على الضعفاء وعلى غيرهم إال أن االعتداء

عليهم أو على أموالهم أشد حرمه. فعلى السائس أن يراعي الضعفاء في المجتمع وال

يساويهم بغيرهم من األقوياء واألغنياء ونحوهم. قواعد عامة أخرى تستفاد من نصوص القران

والسنة

" .10 - سورة النساء " 1" .2 - سورة النساء "2

60

القسم الثاني: المقاصد العامة والخاصة التيرعتها الشريعة اإلسالمية في أحكامها:

اتفقت الشريعة اإلسالمية على رعاية الضرورات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية على رعايتها والعناية بها

وهي:حفظ الدين: أي حفظ ما يعتقده المسلم ويؤمن به وكذلك

األعمال التي هي الصلة بين العبد وربه ) العبادات (، وحفظ الدين يكون بتشريع ما من شأنه أن يصفي معتقدات اإلنسان ويجعلها نقية من الشوائب وهي

)الشركيات(، وكذلك بتشريع األعمال التي يتقرب بها إلىالله جل وعال كالصالة والصيام ونحو ذلك.

حفظ النفس: وذلك بتشريع األحكام التي يؤدي إعمالها إلى حفظ النفوس من الهالك والتلف الكلى أو الجزئي.

حفظ العقل: وذلك بتشريع األحكام المتعلقة بحفظ العقل من الزوال كتحريم تناول المسكرات والمخدرات، والنقص

كالعلوم التي ال نفع فيها أو تضر عالمها.حفظ العرض: ذلك بتشريع األحكام التي يترتب على

المحافظة عليها صيانة أعراض الناس، وقد يطلق بعض أهل العلم على هذا النوع حفظ النسل ومنهم من يجعله

مستقال.

61حفظ المال: وذلك بتشريع األحكام التي من شأنها

المحافظة على أموال الناس وعدم االعتداء عليها. والشريعة راعت هذه المقاصد الخمس من

جانبين:

وذلك بتشريع األحكامالجانب األول: جانب الوجودالتي تؤدي إلى وجودها.

وذلك بتشريع األحكام التيالجانب الثاني: جانب العدمتحافظ عليها من الزوال واالندثار

وتختلف درجة الحفظ إلى ثالث درجات:

سواء من الجانب الوجود أوالضرورياتالدرجة األولى: العدم، مثال ذلك، األمر بالصالة، األمر بالشهادتين، النهي

عن الشرك، الذبح لغير الله. وهي أقل من درجةلحاجيات، الدرجة الثانية: ا

الضروريات، ومن األمثلة عليها: وجوب صالة العيدين،الصلوات ذوات األسباب.

وهي أقل الدرجات الثالثة ومنالتحسيناتالدرجة الثالثة: األمثلة عليها:

استحباب نوافل العبادات كالسنن الرواتب ونحو ذلك.

62

63فقه الموازنات:

يراعى عند التعارض بين المقاصد ما يلي:.الدرجة، فتقدم الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسيناتالنوع، فيقدم حفظ الدين ثم النفس ثم الفعل ثم العرض

ثم المال..العدم، فيقدم العدم على الوجود، وذلك في حال التساوي

القسم الثالث: األدلة التبعية:

64 يقصد باألدلة التبعية: األدلة التي تتبع المصادر األصلية

"القرآن، والسنة " وتشمل دليل المصلحة المرسلة ودليلاالستحسان ودليل سد الذريعة ودليل العرف.

أوال: المصلحة المرسلة:

تنقسم المصلحة إلى ثالثة أقسام: المصلحة المعتبرة: وهي التي ورد النص على إعمالها وهذه-1

من قبيل النص وليس من قبيل المصلحة. المصلحة الملغاة: وهي المصلحة التي قد يبدو نفعها إال أنها-2

في حقيقة األمر مفسدة، حيث أن الشارع نص على عدم اعتبارها مثال ذلك: تحريم الخمر، قال تعالى: } يسألونك

�اس عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنوإثمهما أكبر من نفعهما {.

المصلحة المرسلة: وهي التي لم يرد فيها نص ال في-3 اعتبارها وال في إلغائها وإعمالها يؤدى إلى تحقيق مقصد

من مقاصد الشرع. فهي مصلحة لم يرد فيها دليل معين على اعتبارها أو

إلغائها، ولكن يحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة، وعدم ورود دليل معين على اعتبار المصلحة

ال ينفي أن يوجد دليل عام على اعتبار جنس المصلحة، فإن ورود مثل هذا الدليل ال يخرجها عن كونها مصلحة مرسلة،

ومعنى كونها مرسلة أنها مطلقة عن دليل اعتبارها أوإلغائها.

حجية العمل بالمصلحة المرسلة:

65 ذهب جمهور العلماء إلى حجية العمل بالمصالح المرسلة،

أي بناء الحكم عليها واعتبارها أصال تثبت بها األحكامالسياسية الشرعية إذا توفرت فيها الشروط اآلتية: -

- أن يتحقق من بناء الحكم عليها جلب مصلحة أو درء1 مفسدة، مثل: تسعير ولي األمر أثمان السلع إذا تغالى التجار في أثمانها، فإن ذلك يكبح جماح الجشع ويدفع

الحرج عن العامة حتما، فإذا كان جلب المصلحة أو دفع المفسدة متوهما فإن هذه المصلحة ال تصلح لبناء األحكام

عليها. - أن تكون المصلحة التي يبنى الحكم عليها كلية ال جزئية،2

أي أنه البد أن تشمل أكبر عدد من الناس تجلب لهم النفع وتدفع عنهم الضرر، فلو أفادت فردا خاصا أو جماعة خاصة،

فإنها ال تصلح لبناء الحكم عليها. - أال تعارض المصلحة حكما أو قاعدة تثبت بالنص أو3

اإلجماع، فإفتاء غني أفطر في رمضان بأنه ال كفارة في إفطاره إال صوم شهرين متتابعين - ألن المقصود من

الكفارة الزجر والغني ال ينزجر باإلعتاق لسهولة ذلك عليه وإنما ينزجر بالصوم - تعتبر فتوى غير صحيحة، ألن هذه

المصلحة شهد لها النص باإللغاء.:أألدلة على اعتبار المصلحة المرسلة

استدل الجمهور على حجية العمل بالمصالح المرسلة وبناءاألحكام عليها بما يلي:

- أن الصحابة – رضوان الله عليهم - قد أثر عنهم الكثير1 من األحكام التي بنوها على المصلحة دون غيرها، من غير أن يوجد لها شاهد باالعتبار، كجمع الصحف المتفرقة في

مصحف واحد في عهد أبي بكر، وإبقاء عمر األرض

66 المفتوحة في أيدي أهلها مع فرضه الخراج عليها، ليكون موردا دائما للدولة تنفق منه على مرافق الدولة، وجمع

عثمان الناس على مصحف واحد وتحريق ما عداه، وقضائه بتوريث الزوجة التي طلقها زوجها في مرض الموت من

تركته، وقضاء علي بتضمين الصناع، وغير ذلك من الوقائع التي بنى فيها الخلفاء الراشدون الحكم على المصلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم يخالف منهم أحد،

فكان ذلك إجماعا على حجية العمل بالمصلحة المرسلة. وال عبرة بمخالفة الظاهرية في قولهم بعدم حجيتها، أنهم

وجدوا بعد انعقاد عصر اإلجماع على حجيتها، وال قولهم بأن اعتبارها قد يغري الحكام والوالة باستخدامها طبقا ألهوائهم

وشهواتهم، ألنه ال مجال لهذا القول بعد تحقق الشروط التي ذكرناها آنفا في المصلحة المرسلة التي تعتبر حجة

في بناء األحكام عليها. - أن الوقائع متجددة غير متناهية، والنصوص متناهية، فلو2

لم يقبل بحجيتها وبناء األحكام عليها لضاقت الشريعة عن الوفاء بمصالح البشر، ووقفت جامدة ال تساير األزمنة

واألمكنة والبيئات واألحوال، مع أنها خاتمة الشرائع وأنهافي غاية الكمال والتمام.

:أثر المصالح المرسلة في سياسة األمة

والمصالح المرسلة طريق مهم من طرق مسايرة السياسة للحياة في مطالبها المتجددة، وحاجاتها المتعددة، فعن

طريق بناء األحكام عليها يمكن الوصول إلى تنظيم الشؤون اإلدارية العامة، ومصالح المجتمع، كفرض

الضرائب على أهل اليسار والغنى، وإذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لإلنفاق على المصالح العامة، كتجهيز الجيوش، وبناء الجسور والقناطر، وإنشاء المدارس،

67 والمصانع، والمستشفيات، واستحداث النظم واألوضاع التي تحفظ كيان الدولة وأمنها، وفرض العقوبات على المخالفين

بحسب ما تقتضيه المصلحة، وإحداث المؤسساتوالوظائف حسب الحاجة إليها.

لكن يجب التنبيه إلى شيء مهم، وهو أن تقدير المصالح والمفاسد يجب أن يوزن بالموازين الشرعية الدقيقة، ال

بموازين األهواء والمطامع والشهوات والمصالح الخاصة، فإن التقدير بذلك يخرج األحكام عن دائرة السياسة

الشرعية، بل عن الشريعة كلها إلى دائرة األحكاموالقوانين الوضعية.

المصدر الثاني: سد الذرائع:

الذريعة في اللغة: الوسيلة التي يتوصل بها إلى الشيء، والمراد بها هنا: ما يتوصل به إلى الشيء الممنوع

المشتمل على مفسدة، ومعنى سد الذريعة: المنع منها،والحيلولة بينها وبين ما تفضي إليه.

ولما كان بين " المقدمة" و " الذريعة" نوع من الشبه، وهو اإليصال واإلفضاء، لذلك كان من المناسب أن نذكر كلمة

في الفرق بينهما، ونسبة إحداهما إلى األخرى، فنقول: إنالفرق بينهما يتبين مما يلي: -

،مقدمة الشيء هي: األمر الذي يتوقف عليه وجود الشيء فالمالحظ فيها هو: توقف حصول المقصود عليها، مثل: الوضوء، فإنه مقدمة يتوقف عليه وجود الصالة، فالمدار

في المقدمة على حصول المقصود منها. أما الذريعة فهي ما تفضي إلى المقصود، سواء توقف

68 المقصود عليها أو ال، فقوله تعالى: }وال يضربن بأرجلهن�

ذريعة، ألن ضرب المرأة1ليعلم ما يخفين من زينتهن� { ذات الخالخيل األرض برجلها من شأنه أن يجر إلى اإلطالع إليها واالفتنان بها، لكن ال يتوقف حصول االفتنان بها على

ضربها األرض برجلها لجواز االفتنان بها بغير ذلك، كخروجها متبرجة متعطرة فال يكون ضرب األرض برجلها ذات

الخالخيل مقدمة، لعدم انطباق حقيقة المقدمة، على هذاالضرب.

أنه ال خالف بين العلماء في أن المقدمة تتبع ما يتوقف عليها، فإن كان واجبا كانت واجبة. وإذا كان مندوبا كانت مندوبة، وإن كان حراما كانت حراما، وإنما الخالف بينهم

في الدليل الذي يدل على ما يتوقف عليها هل يدل عليها أوال؟

أما سد الذريعة فليس كل أنواعه محل اتفاق، بل بعضهامتفق على سده، وبعضها مختلف في سده بين العلماء

�ذين وا ال فمن باب سد الذرائع: قوله تعالى: } وال تسب�ه عدوا بغير علم { وا الل �ه فيسب .2يدعون من دون الل

فإن سب المشركين إله العالمين ال يتوقف حصوله على سب المؤمنين آلهة المشركين وأصنامهم، ولكن سب

المؤمنين هذه المعبودات واألصنام ذريعة تجر أن يسبالمشركون إله الناس أجمعين.

وقد تتحقق مقدمة المفسدة من غير أن يكون فيها معنى الذريعة المفضية إليها، وذلك كالسفر لقتل إنسان معين

يتوقف ارتكابه على السفر وقطع المسافة، ولكن السفرليس من شأنه اإلفضاء إلى ارتكاب القتل.

" .31 - سورة النور " 1 " . 108 - سورة األنعام " 2

69 وقد تجتمع المقدمة والذريعة في شيء واحد، كما في شرب الخمر المفضي إلى السكر، والزنا المفضي إلى

اختالط األنساب وفساد الفراش، فكل منهما مقدمةللمفسدة، وذريعة إليها.

ويتبين مما تقدم أن النسبة بين المقدمة والذريعة هي العموم والخصوص الوجهي، يجتمعان في الزنا وشرب الخمر، وتنفرد المقدمة في السفر الرتكاب المعصية،

وتنفرد الذريعة في سب المؤمنين آلهة المشركين، وضربالمرأة األرض برجلها ذات الخالخيل.

:أقسام سد الذرائع

للعلماء تقسيمات متعددة لدليل سد الذرائع منها تقسيم األمام القرافي رحمه الله حيث قسمها إلى ثالثة أقسام

هي:ما أجمع العلماء على سده، كسب األصنام عند من يعلم أنه

يسب الله تعالى حينئذ، وحفر اآلبار في طريق المسلمينإذا علم أو ظن وقوعهم فيها.

ما أجمع العلماء على عدم سده، كزراعة العنب خشية أن يتخذ من عصيره الخمر، والتجاور في البيوت خشية الوقوع في الزنا، فهذا ونحوه من الذرائع البعيدة التي اتفقوا على

عدم سدها ومنعهاما هو مختلف فيه هل يسد أم ال؟

ومن ذلك: بيوع اآلجال، وذلك مثل أن يبيع البائع سلعة

70 بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يشتريها البائع من المشتري

بخمسة نقدا.

:أثر سد الذرائع في سياسة األمة

سد الذرائع من أعظم القواعد واألصول التي تساير بها السياسة الشرعية ما يجد من وقائع وحوادث ال نص فيها،

فإن ولي األمر في األمة إذا رأى شيئا من المباحات قد اتخذه الناس – عن قصد – وسيلة إلى مفسدة، أو أنه

بسبب فساد المجتمع أصبح يفضي إلى مفسدة أرجح مما يفضي إليه من مصلحة، كان له أن يمنعه ويسد بابه،

ويكون هذا المنع من الشريعة، لبنائه على قاعدة شرعية، هي قاعدة سد الذرائع، التي أثبت ابن القيم شرعيتها

بتسعة وتسعين وجها من الكتاب والسنة. فلولي األمر أن يمنع بيع السالح أيام الفتن، لما تجر إليه

من مفاسد االعتداء على األنفس واألموال، وله منع استيراد البضائع األجنبية لما يجره االستيراد من كساد

البضائع الوطنية، وله منع استئجار الدور والحوانيت التييغلب استعمال األعمال الضارة فيها، لما تجره من الفساد.

المصدر الثالث: االستحسان:

:لعل أجمع تعريف ألنواع االستحسان تعريف أبيتعريفه العدول فيالحسن الكرخي من فقهاء الحنفية وهو: "

مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى "، ألن هذا التعريف يصور أصدقخالفه لوجه هو أقوى

تصوير معنى االستحسان، ويرشد إلى الفرق بينه وبين

71 المصلحة المرسلة، فإنه ينبه إلى أن االستحسان يقتضي أن يكون للمسألة التي يحكم به فيها نظائر محكوم فيها

على خالف ذلك، أما المصلحة المرسلة فليس لمحلها نظائر محكوم فيها على خالف ما تقتضيه المصلحة في ذلك

المحل.

أنواع االستحسان الداخلة في السياسة الشرعية:

ويتحقق في كل قياس-االستحسان بالضرورة: -1 يترك العمل به للضرورة وعموم البلوى، وذلك كالحكم

بطهارة مياه اآلبار في الصحراء، على الرغم مما يقع فيها من بعر الحيوان أو روثه، على خالف الحكم في آبار المدن والقرى، وذلك نظرا للضرورة، وهي عدم إمكان التحرز عن

وقوع هذه النجاسات في آبار الصحراء إال بحرج ومشقة، ألن الريح تلقي بهذه النجاسات في هذه اآلبار دون أنيحول بينها وبين الوقوع فيها حائل من مبان أو أشجار.

-االستحسان بالعرف: -2

ويتمثل في كل عرف جاء مخالفا لقياس أو قاعدة، ومثال ذلك الحكم بجواز وقف المنقول الذي جرى بوقفه العرف،

كوقف الكتب، وآالت الحرب من خيل وسالح، مع أن القاعدة في الوقف هي التأبيد، وهو إنما يتحقق في العقار

دون المنقول، لكن لما جرى عرف الناس بذلك وفي منعهممنه حرج ومشقة أجيز وقفه استحسانا.

-االستحسان بالمصلحة المرسلة: -3

ويتحقق في كل مسألة عدل فيها عن مقتضى القياس إلى حكم آخر للمصلحة الراجحة، وذلك مثل األجير المشترك

72 فإنه ال يضمن ما تحت يده من أموال الناس، ألنه أمين، واألمين ال يضمن إال بالتعدي والتقصير، لكن قضى علي

رضي الله عنه بضمانه وهو ما ذهب إليه كثير من العلماء، نظرا للمصلحة وهي المحافظة على أموال الناس من

الضياع، وهي مصلحة راجحة ألنها مقصد من مقاصدالشريعة.

- :حجية االستحسان

ذهب فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة إلى حجية االستحسان واعتبار العمل به، فقد نقل عن اإلمام محمد

بن الحسن صاحب أبي حنيفة قوله: " إن العالم باالستحسان مع باقي األدلة يسعه االجتهاد في كل شيء

من أموره"، ونقل عن اإلمام مالك قوله: " إن االستحسان تسعة أعشار العلم"، وخالف في ذلك اإلمام الشافعي فقد

نقل عنه قوله: "من استحسن فقد شرع". استدل الفريق األول بأن: اضطراد العمل بالقياس أو تعميم

الحكم في بعض الوقائع قد يؤدي إلى تفويت مصلحة الناس واإلضرار بهم، فمن العدل والحكمة والتيسير

ومراعاة مصلحة الناس والرحمة بهم الحد من غلو القياس، بأن يفتح للمجتهد باب للعدول عن حكم القياس أو الحكم

صلحة ويدفع المفسدة بما7الكلي إلى حكم آخر يحقق الم يتفق مع أغراض الشرع الشريف، وما هذا الباب إال

االستحسان. وقد ثبت أن الشرع الحكيم عدل في بعض الوقائع عن

موجب القياس أو عن تعميم الحكم، جلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة، كما في إجازة عقد السلم، فإن القياس يقتضي

73 عدم جوازه، ألن المعقود عليه معدوم، وبيع المعدوم ال

يجوز، لقوله عليه الصالة والسالم لحكيم بن حزام: ) ال تبع لكن الشارع أجازه لمصلحة الناس،1ما ليس عندك (

ويرشد إلى ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ) من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل

، وكذلك عدل الشارع عن تعميم الحكم في تحريم2معلوم ( الميتة والدم ولحم الخنزير فأباحها عند االضطرار، وما

العدول عن موجب القياس أو العموم إلى حكم آخر جلباللمصلحة ودرءا للمفسدة إال االستحسان.

واستدل القائلون بعدم حجية االستحسان بمايلي:

أن الشارع الحكيم بين األحكام في القرآن أو السنة، وما لم-1 يبينه فيهما فقد ترك األمر فيه إلى استنتاجه من القياس عليهما، قال تعالى: } إن تنازعتم في شيء فردوه إلى

سول { �ه والر� . فإن كان االستحسان من الكتاب أو3الل السنة فال داعي إليه، وإن كان خارجا عنهما فالواجب

طرحه وعدم االلتفات إليه. - االستحسان ال ضابط له، وال توجد له مقاييس يقاس بها2

الحق من الباطل، فلو أخذ به الختلفت األحكام في المسألةالواحدة، وهذا يتنافى مع شريعة اإلسالم الواضحة السمحة.

والظاهر أن منشأ االختالف بين الفريقين هو عدم االتفاق على معناه، فالذين أنكروه يريدون به الحكم بالتشهي

واألهواء، والذين يرون حجيته يريدون به: العدول عن دليل " .3503 - أخرجه أبو داود في سننه ، حديث رقم " 1 " .1311 - أخرجه الترمذي في سننه حديث رقم " 2 " .59 - سورة النساء " 3

74 ظاهر أو عن حكم كلي لدليل اقتضى هذا العدول، وال

يريدون به التشريع بالهوى والتشهي، وهو بهذا المعنى ال يسع أحد أن ينكر حجيته، وما نقل عن الشافعي أنه قال: " من استحسن فقد شرع " فمعناه أن من استحسن بالهوى فقد شرع، ويحتمل أنه أراد بهذه العبارة: أن من استحسن فقد صار بمنزلة نبي ذي شريعة، والعبارة بهذا المعنى تفيد

مدح المستحسن،. والذي يدفعنا إلى القول بأن الشافعي – رحمه الله – ال

ينكر حجية االستحسان أنه روي عنه أنه قال: استحسن في المتعة أن تكون ثالثين درهما، واستحسن في ثبوت الشفعة

للشفيع إلى ثالثة أيام، وقال في السارق: إذا أخرج يده اليسرى فقطعت: القياس أن تقطع يده اليمنى، واستحسن

أال تقطع، وهذا منه قول باالستحسان في مقابل القياس. ويتضح مما ذكرنا أن االستحسان بمعناه االصطالحي الذي

اخترناه ال يخالف أحد في حجيته، وأن محل اإلنكار هواالستحسان المبني على الهوى والتشهي.

:أثر االستحسان في السياسة الشرعية

إن تطبيق هذه األنواع األخيرة من االستحسان ال يتحقق إال عندما يؤدي تطبيق القياس أو القاعدة الكلية إلى حرج أو

مشقة في بعض المسائل، فيكون الحل فيها هو العدول عن مقتضى القياس أو القاعدة الكلية إلى قاعدة أخرى ترفع هذا الحرج وتدفع هذه المشقة، وفي الغالب تكون

هذه القاعدة إحدى هذه القواعد الثالثة: الضرورة، والعرف، والمصلحة. وهو ما يعرف باالستحسان،

وبهذا يعتبر االستحسان وسيلة كبرى من وسائل مجاراة السياسة الشرعية لحاجات الناس المتجددة، عندما

75 يصادفهم أمر يقتضي تطبيق القياس أو القاعدة عليه وقوع

الناس في الحرج والمشقة، فيؤدي االستحسان بهذه األنواع الثالثة إلى رفع الحرج ودفع المشقة التي هي سمة

من سمات التشريع في الشريعة اإلسالمية.

المصدر الرابع: العرف

:العرف هو: ما اعتاده الناس وألفوه من قول أوتعريفه فعل، تكرر مرة بعد أخرى، حتى تمكن أثره من نفوسهم،واطمأنت إليه طباعهم، وصارت تتلقاه عقولهم بالقبول. وليس المراد بالناس في التعريف جميعهم، وإنما المراد

جمهورهم، كما أن المراد بالجمهور: أصحاب العقول الرشيدة والطباع السليمة، فما استحدثه بعض الناس في أوروبا من إنشاء مدن للعراة وتعارفوا اإلقامة فيها عراة،

ليس من العرف الذي نقصده، ألن كشف العورة قبيح فيالعادات ال تقبله العقول الرشيدة والطباع السليمة.

والبد في تكون العرف من تكرار الفعل أو القول عدة مرات، حتى ينطبع أثره في النفوس وتطمئن إليه الطباع،

فالعرف ال يثبت بمرة أو مرتين، خالفا لمن زعم ذلك.:أقسام العرف باعتبار الصحة والفساد

ينقسم العرف باعتبار إقرار الشارع له وعدمه إلى ثالثةأقسام: صحيح، وفاسد، ومسكوت عنه.

: هو ما أقره الشارع بورود نص يفيدالعرف الصحيح اعتباره، كتشريع تزويج األيامى باألكفاء من الرجال،

وتشريع وجوب الدية على العاقلة، والثابت بهذا العرف يعتبر من األحكام الفقهية، وال عالقة له باألحكام السياسية

76لورود النصوص به. : هو ما خالف النص، كتعارف بعضالعرف الفاسد

المجتمعات بالتعامل بالربا، وتقديم الخمور في الحفالت الرسمية، وخروج النساء متبرجات كاسيات عاريات في

مدن بعض البالد اإلسالمية، فإن هذه األعراف خارجة عننطاق السياسة الشرعية، بل عن دائرة اإلسالم.

: وهو العرف الذي لم يرد نصالعرف المسكوت عنه باعتباره أو إلغائه، وهذا العرف هو المعتبر في باب

السياسة الشرعية، الذي تبنى عليه أحكامها. وقد اعتبر جمهور الفقهاء في المذاهب المختلفة هذا

العرف، واعتبروه أصال تبنى عليه األحكام، إذا كان مطردا أو غالبا، ووردت عنهم بشأنه عبارات، جرت مجرى المبادئ

العادة محكمة،العامة، والقواعد الكلية، مثل قولهم: والثابت بالعرف كالثابت بالنص، والمعروف عرفا

كالمشروط شرطا.

:أقسام العرف

:ينقسيم العرف إلى قولي وفعلي، وعام وخاص : كتعارف الناس إطالق لفظ الولد علىالعرف القولي

الذكر دون األنثى، مع أن اللغة تشمل االثنين: وإطالق لفظ الطعام على خصوص البر، وإطالق لفظ الدابة على

خصوص الفرس، مع أن لفظ الدابة اسم لكل ما يدب علىوجه األرض.

: كتعارف الناس على البيع بالتعاطي منالعرف الفعلي غير استخدام صيغة لفظية، وتعجيل األجرة قبل استيفاء

77المنفعة، وتقسيم المهر إلى معجل ومؤجل.

: الذي اتفق جميع الناس على العمل به فيالعرف العام جميع البالد في زمن من األزمان، وليس من الضروري في

حقيقته أن يشمل األزمنة السابقة أيضا، كتعارف الناس على دخول حمام السوق نظير أجر معين، بدون تقدير

كمية المياه التي يستهلكها المستحم، وال المدة التي يمكثها في الحمام، مع أنه البد في عقد اإلجارة من بيان مدة

المنفعة، وقدر الماء المستهلك. : الذي اتفق الناس على العمل به في بلدالعرف الخاص

من البالد، أو إقليم من األقاليم، أو طائفة من الطوائف، كتعارف أهل مصر على أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته

قبل الزفاف يعتبر هدية وليس جزءا من المهر.

:أدلة اعتبار العرف

- قوله تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن1 الجاهلين " فقد قال المفسرون في معنى األمر بالعرف:

األمر بما هو معروف للناس مما ال ينكره الشرع. - ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال2

لهند امرأة أبي سفيان – عندما شكت إليه شح زوجها أبي ،1سفيان وبخله: ) خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف(

وسواء كان هذا القول الكريم قضاء أو فتيا، فقد أباح لها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من مال زوجها ما

جرى العرف بمثله وما ألفه الناس في هذا المجال. - ما روي عن عبد الله بن مسعود موقوفا من قوله: ) ما3

".5364 - أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم "1

78.1رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن (

- أن الناس قد ألفت ما تعارفوا عليه، وفي نزع الناس4 عما ألفوه واعتادوا حرج ومشقة والحرج والمشقة

مدفوعان بقوله تعالى: } وما جعل عليكم في الدين من .2حرج {

- أن المتتبع لمذاهب األئمة المجتهدين يجد بها الكثير من5 األحكام التي بنيت على العرف، فاإلمام مالك من قواعد

مذهبه اعتبار عمل أهل المدينة، وهو عرف عملي. واإلمام الشافعي عدل عن بعض األحكام التي قال بها في

بغداد عندما استقر في مصر، بسبب ما رآه من اختالف األعراف والعادات بين البلدين، واصطلح على تسمية آرائه

األولى بالمذهب القديم، وتسمية آرائه الثانية بالمذهبالجديد.

والحنفية يعتبرون العرف من أكبر قواعد االستنباط عندهم، فإذا اختلف المتبايعان وال بينة ألحدهما، فالقول عندهم لمن

يشهد له العرف، وإذا اختلف الزوجان على المقدم والمؤخر في المهر فالحكم عرف البلد في ذلك، ومن حلف

ال يأكل لحما فأكل سمكا حكموا بعدم حنثه بناء على أن العرف ال يسمي السمك لحما، ومن حلف ال يضع قدمه في

دار فالن حنث بدخوله محموال أو راكبا، ولم يحنث بوضع قدمه فقط، بناء على أن العرف في هذه العبارة يراد به

الدخول ال وضع القدم. ومن أجل اعتبار العرف نجد كثيرا من متأخري الفقهاء

يخالفون أئمتهم المتقدمين في بعض المسائل فقد أفتى المتأخرون من فقهاء الحنفية بجواز أخذ األجرة على تعليم

" 3602 - أخرجه الطبراني في المعجم األوسط ، حديث رقم " 1 " .78 - سورة الحج " 2

79 القرآن، والقيام بالطاعات، كاألذان واإلمامة، على خالف ما

كان يراه فقهاء الحنفية القدامى باعتبار أن الطاعات ال يجوز أخذ األجر عليها، وكانت وجهة المتأخرين في إجازة

أخذ األجر على تعليم القرآن: أنهم رأوا أن معلمي القرآن قد انقطعت عنهم المرتبات التي كانت تدفع إليهم من بيت

المال في الزمن الماضي، وأصبح العرف في زمن المتأخرين يقضي بعدم إعطائهم شيئا من بيت المال.

بسبب خراب بيت المال أحيانا، وخراب ذمم القائمين عليه وانحرافهم أحيانا أخرى، فأقدم المتأخرون على الفتوى

بجواز أخذ األجرة على تعليمه، خوفا من انصراف المعلمين إلى كسب معاشهم عن طريق آخر، فيضيع القرآن بسبب

ذلك. ومثل هذا الخالف هو الذي قال الفقهاء فيه: إنه اختالف عصر وزمان، وليس اختالف حجة وبرهان، ولذا يعتبر كل

منها صحيحا في عصره الذي وقع فيه، على الرغم من االختالف الواقع في المسألة الواحدة، ألنه – كما ذكرنا –

ليس مبنيا على اختالف الحجج واألدلة، بل على تغير العرفبتغير الزمان.

أثر هذه المصادر في قيام السياسة الشرعية:

هذه أهم األصول واألسس التي تقوم عليها السياسة الشرعية، وبها يستطيع الحكام ووالة األمور أن يسوسوا بها

األمة فيما ال نص على حكمه من الوقائع المتجددة، وأن يواجهوا بها المشاكل المتعددة التي تصادفهم، فيجدون في

ظلها الحلول التي تمكنهم من سياسة األمة سياسة صالحة، إذ هي أسس تستند إلى األدلة الشرعية – كما قدمنا – ولها من المرونة ما يحقق مصلحة الحكام والمحكومين في كل

80 وقت، من غير أن يشعروا بالحاجة إلى قوانين أخرى من

صنع البشر، إذا روعي في تطبيق هذه األسس وبناء األحكام عليها ما قرره الفقهاء لها من شروط وأحكام

شرعية. ونختم كلمتنا عن األصول التي تقوم عليها السياسة

الشرعية باإلشارة إلى أن الفقهاء قصدوا بأحكام السياسة الشرعية: التوسعة على الحكام، نظرا إلى أنهم قد ابتلوا

بالتطبيق الفعلي لألحكام الشرعية على األفراد والجماعات، ومن ابتلى بهذه األمور قد تصادفه عقبات

كثيرة ال سبيل إلى حلها إال بالتوسعة عليه في ظل الشريعة، بما تضمنته من أصول عامة، وقواعد كلية تحقق المصلحة والرفاهية لألفراد والجماعات، يرشد إلى ذلك أن الترجيح في مسائل القضاء وتوابعه في الفقه الحنفي لرأي

اإلمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ألنه ابتلي بتولي القضاء، وشغل به زمنا طويال، وذلك ألن التطبيق العملي تتولد منه مشاكل تتطلب حلوال في ظل الشريعة، وهذه الحلول تقتضي الخروج عن الدائرة النظرية إلى ما هو

أوسع وأرحب منها، طبقا لروح الشريعة وقواعدها الكلية، وهذا هو ما تكفلت به السياسة الشرعية، التي تغنينا هي

واألحكام الفقهية عن االلتجاء إلى القوانين الوضعية، بسبب ما في السياسة والفقه من كمال، يحقق مصالح العباد، ورفاهية العالم وسعادته، وصدق الله إذ يقول: } اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم

فالحمد لله تعالى على نعمة اإلسالم وكفى1اإلسالم دينا {بها نعمة.

" . 3 - سورة المائدة " 1

81

الفصل الثالث

تطبيقات السياسة الشرعية في العهدين النبويوالراشدي

المبحث األولالسياسة الشرعية في العهدين النبوي

تنقسم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من جانب عالقتهابالتشريع من عدمه إلى أربعة أقسام رئيسة.

82 القسم األول: أفعاله صلى الله عليه وسلم

الجبلية:

كنومه وأكله وشربه ومشيه وكونه صلى الله عليه وسلم وقف في هذا المكان، أو ذهب إلى مكان وقضي فيه حاجته ونحو ذلك من األمور التي كان يفعلها صلى الله عليه وسلم بصفته بشرا وليس على وجه التعبد، فهذه األفعال ال تعتبر تشريعا وال يلزم إتباعها ألنها أمور متعلقة بصفته بشرا له

خصوصيته الحسية والجسدية فيها. ولذا نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا ذلك فلم

يكونوا يتعقبون النبي صلى الله عليه وسلم في هذه األفعال على وجه التعبد، من ذلك حديث امتناعه صلى الله عليه وسلم من أكل الضب لما قدم إليه، فعن عبد الله بن

أن خالد بن الوليد، الذي يقال لهعباس رضي الله عنهما: سيف الله، أخبره: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه

وسلم على ميمونة، وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبا محنوذا، قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من

نجد، فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قلما يقدم يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له،

فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى

الله عليه وسلم ما قدمتن له، هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: ) ال، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه (. قال

خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم.1ينظر إلي (

" .5391 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1

83 فامتناعه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليس دليال على

�ن وإنما ألجل أن نفس النبي لم تقبله. تحريمه كما بي إال أنه يجوز إتباع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الجبلية

إذا كان من قبيل محبته صلى الله عليه وسلم بقوة�بع أن االستنان بسنته وإتباع منهجه شريطة أال يتصور المت ذلك من الواجبات أو المستحبات وكان عبد الله بن عمر

رضي الله عنه يستن ببعض أفعاله الجبلية.

القسم الثاني: أفعال النبي صلى الله عليه وسلمالبالغية:

أي ما فعله صلى الله عليه وسلم بصفته مبلغا، قال تعالى:ك{ غ ما أنزل إليك من رب سول بل ها الر� ، فأفعاله1} ا أي

صلى الله عليه وسلم بصفته مبلغا رسالة ربه في العبادات والمعامالت واألحكام والحدود والجنايات ونحوها يجب

التأسي بها واالستنان بسنته ألنها من التشريع، والتشريع كل ما أمر الله به في كتابه أو على لسان رسوله صلى

الله عليه وسلم قوال أو فعال أو تقريرا وهذا القسم هو األصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فلو شككنا

في فعل من أفعاله هل هو من باب األفعال الجبلية أم من باب األفعال السياسية أو غير ذلك ولم يدل دليل على

تحديده فإن األصل أنه شرع من عند الله يلزم العمل به.

القسم الثالث: ما فعله صلى الله عليه وسلم

" . 67 - سورة المائدة " 1

84بصفته مفتيا:

فالرسول إذا سئل عن مسألة ثم أفتى السائل عنها فإنه صلى الله عليه وسلم يكون قد أنزل الحكم الشرعي على سؤال هذا المستفتي مراعيا في ذلك حاله وما تؤول إليه األفعال، مثال ذلك الرجل الذي أتي النبي صلى الله عليه

وسلم يريد الجهاد معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ) ، أي أن برهما1أحي والداك، قال: نعم، قال ففيهما فجاهد (

هو الجهاد بالنسبة لك، فالرسول صلى الله عليه وسلم�ق الحكم الشرعي على هذه الواقعة التي كانت أمامه طب مراعيا في ذلك حال المستفتي حيث أن والديه في حاجة

إليه فرأي النبي صلى الله عليه وسلم أن لزومهما لهورعايتهما خير له من الخروج معه وأعظم أجرا.

وأفعاله صلى الله عليه وسلم على وجه الفتوى هي من باب التشريع إال أنه يراعي فيها األحوال والقرائن التي

صحبت الفتوى في حال المستفتي وزمان ومكان الفتوى.

القسم الرابع: أفعاله صلى الله عليه وسلمبصفته قاضيا:

فالرسول صلى الله عليه وسلم تولي مهمة القضاء في الخصومات بين الناس والقضاء مرحلة فوق مرحلة اإلفتاء

فهو: تنزيل الحكم الشرعي على الواقعة على وجه اإللزام، وأفعاله صلى الله عليه وسلم بصفته قاضيا هي من باب

التشريع أيضا إال أنه يراعي فيها ما روعي في الفتوى تمامابتمام.

قالت: قالت هند أم معاوية لرسول ومثاله حديث عائشة " .3004 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1

85 الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرا؟. قال: ) خذي أنت وبنوك

.1ما يكفيك بالمعروف ( وقد اختلف أهل العلم في بيانه هل هو على وجه الفتوى أو

على وجه القضاء فمن قال إنه على وجه الفتوى أجاز للمرأة ومن في حكمها أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها على الوجه المتعارف عليه شريطة أن يفتيها مفت بذلك،

ومن قال إن تصرفه صلى الله عليه وسلم على وجه القضاء اشترط لصحة أخذها من مال زوجها أن يقضي

القاضي بذلك بعد أن ترفع الخصومة إليه. القسم الخامس: أفعاله صلى الله عليه وسلم

بصفته حاكما:

وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة وأرسى قواعد الدولة اإلسالمية وتولى زمام األمور فيها كان هو الحاكم لها يصدر أوامره بصفته إماما للمسلمين

مراعيا في ذلك مصلحة رعيته الذين يسوسهم، وأفعاله من هذا القبيل كثيرة وقد تختلط بأفعاله من قبل التبليغ إال أن العلماء وضعوا قواعد يتبين بها تصرفه السياسي من غيره

ولعل من أهم هذه القواعد ما يلي: النظر إلى طبيعة األمر والتصرف وموضعه، فإذا كان-1

موضعه في أمور السياسة وإدارة الدولة والحرب ونحو ذلك فإنها من قبيل أفعاله السياسية، أما غير ذلك فإن

األصل أن تكون من قبيل التشريع. أن تدل قرينه على صرف هذا الفعل من التشريع إلى-2

السياسة أيا كانت هذه القرينة. - سبق تخريجه .1

86

أمثلة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية:

- امتناعه عن قتل المنافقين وخاصة رأس الكفر عبد الله1 بن أبي بن سلول مع علمه صلى الله عليه وسلم أنه منافق

فلم يقدم على قتله مبررا ذلك بقوله لعمر رضي الله عنه يتحدث الناس أنحينما طلب منه اإلذن بقتله: )دعه، ال

.1محمدا يقتل أصحابه ( -قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها2

ألم تري أن قومك بنوا الكعبة واقتصروابعد فتح مكة: ) عن قواعد إبراهيم. فقلت: يا رسول الله، أال تردها على ،2قواعد إبراهيم؟ قال: لوال حدثان قومك بالكفر لفعلت( فالرسول صلى الله عليه وسلم امتنع من هدم الكعبة

وبنائها على قواعد إبراهيم - كما يعلم - مراعاة لحال أهل مكة الذين لم يتمكن اإليمان في قلوبهم، ولذا صلى الله عليه وسلم ترك هدمها وأبقاها كما كانت خشية من كالم

الناس فيه، أي راعى مآالت األفعال. -حديث عبد الله بن واقد السعدي: نهى رسول الله صلى3

الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثالث. قال عبدالله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق.

سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة األضحى، زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ادخروا ثالثا. ثم

تصدقوا بما بقي ( فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله! " .4905 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1" .1583أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقنم " - 2

87 إن الناس يتخذون األسقية من ضحاياهم ويجملون منها

الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك؟ ( قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثالث. فقال: ) إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت. فكلوا

.1وادخروا وتصدقوا (

أضف أمثلة من عندك وخرج لها في كتب الحدي

وتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القسم ليست على وجه التعبد وإنما على وجه السياسة، فال تلزم

بها الدول أو األفراد، فكونه صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عشر سنوات اقتضتها طبيعة العقد وظروف

المصلحة في وقته صلى الله عليه وسلم ال يدل على أنالعهد مع الكفار مدته عشر سنوات ال تزيد وال تنقص.

والرسول صلى الله عليه وسلم في هذه األفعال ال يخطئ خطأ واضحا بينا وإنما قد يفعل خالف األولى فيصو�ب من

" . 1971 - أخرجه مسلم في صحيحه ، حديث رقم " 1

88 الله عز وجل، ومثال ذلك قصة األعمى ونزول سورة

، وقصة أسرى بدر، وقصة أمره صلى الله1}عبس وتولى { عليه وسلم زيد بن حارثة بأن يبقي زوجته معه وقصة

التحريم.

" .1 - سورة عبس " 1

89المبحث الثاني

السياسة الشرعية في العهد الراشديأوال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

سار أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خالفته على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسي حيث نف�ذ األوامر التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم

يستجد في وقته أمورا كثيرة تستدعي النظر والتأمل كما حصل بعد ذلك في عهد عمر من بعده، وذلك لقلة سنوات عهده، وكان من أهم األمور السياسية العارضة في عهده

التي ترتبط بموضوع السياسة الشرعية:- قتال مانعي الزكاة:1

ذلك أن العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد جزء منهم عن اإلسالم واتبعوا المشعوذين وقسم لم يرتد

وإنما منعوا من إعطاء الزكاة للدولة اإلسالمية ممثلة بحاكمها أبو بكر الصديق وقد اختلف الصحابة في قتالهم

فمنهم من رأي أنهم ال يقاتلون ألنهم يشهدون أن ال إله إال الله ويقيمون الصالة فقد عصموا دمائهم، ومنهم من رأي قتالهم، وكان أبو بكر الصديق على رأس من يرون القتال استدالال بأنهم قد سلموا الزكاة لرسول الله فيلزمهم أن يسلموها لخليفته فإذا تركوا ذلك جاز للدولة أن تقاتلهم

ألنهم لن يقيموا بحق )ال إله إال الله (، ثم أجمع أمرهم علىقتالهم

- جمع القرآن الكريم في مصحف واحد: وبيان ذلك: أن2 رسول الله لم يجمع القرآن في مصحف واحد وإنما كان متفرقا في الصدور وفي الصحف وفي الجلود واألحجار

90 ونحوها من وسائل الكتابة في ذلك الزمان فلما كثر القتل

في موقعة اليمامة خشي عمر رضي الله عنه أن يذهب القراء الذين حفظوا القرآن فال يوجد أحد يتقن حفظه ثم أشار على أبي بكر الصديق أن يجمع القرآن في مصحف

واحد وقد امتنع في بداية األمر بسبب أن هذا الفعل لم يفعله رسول الله غير أن الفاروق أقنعه بأن في ذلك خير

فالمصلحة تقتضي هذا الجمع، وبعد تداول الرأي بينهما رأي أبو بكر ما أشار به عمر وكلف لجنة تقوم بجمع القرآن في

مصحف واحد، فوجه كون هذا العمل من السياسة الشرعية أنه فعل لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم

إال أن المصلحة تقتضيه وكان العمل به جائز ومشروع.

ثانيا: عمر رضي الله عنه:

يعتبر عهد الفاروق هو أوسع العهود تطبيقا للسياسة الشرعية واألمثلة عليها كثيرة في عهده وسنعرض لبعضها

حسب أقسام السياسة الشرعية::السياسة الشرعية فيما لو يرد فيه نص

واألمثلة التي قام بها الفاروق رضي الله عنه في هذا القسم كثيرة، من أهمها تدوين الدواوين،، وتأتي الفكرة أنه لما كثرت موارد بيت المال فكر رضي الله عنه في وسيلة مناسبة لترتيب هذه الموارد وتدوينها ثم توزيعها على أهل االستحقاق فأخبر رضي الله عنه أن الفرس يدونون هذه

الموارد ثم يوزعونها على حسب االستحقاق فراقت له الفكرة وأمر بإنشاء الديوان وتعيين الموظفين فيه لتدوينالدواوين وجعله على قسمين: ديوان العطاء، ديوان الجند.

وفعله رضي الله عنه من األمور الجديدة التي لم يفعلها

91 الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرد بشأنها نص خاص

فكان هذا الفعل من السياسة الشرعية، وهذا يدل على أنه ال مانع من أخذ األنظمة من الدول األخرى الكافرة إذا

كانت غير معارضة للنصوص الشرعية.السياسة الشرعية فيما ورد فيه النص: واألمثلة في عهد

عمر رضي الله عنه كثيرة على هذا القسم أيضا منها: صالة التراويح، والخراج، وعدم قطع يد السارق عام المجاعة،

ومنع المسلمين من الزواج بالكتابيات، وعدم إعطاء المؤلفة قلوبهم الذين كان يعطيهم رسول الله صلى الله

عليه وسلم نصيبهم، وجعل الطالق بالثالث أي ثالث طالقات، وأمر الناس اإلفراد بالحج، ونفيه نصر بن الحجاج

وابن عمه إلى البصرة وسنقتصر على مثالين: - صالة التراويح: صلى رسول الله صالة التراويح وصلى1

معه بعض الصحابة ثم صلى في اليوم الثاني فلما كان اليوم الثالث وعلم أهل المدينة بها حضروا إلى مسجد

النبي صلى الله عليه وسلم إال أنه لم يخرج لهم خشية أن تفرض عليهم فترك الصحابة رضي الله عنهم صالة التراويح

جماعة، فلما كان زمن عمر رضي الله عنه دخل على المصلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بعد صالة

العشاء وإذا بكل شخص منهم يصلى وحده فرأى أن يجمعهم على إمام واحد فدعى بأبي بن كعب وأمره أن

يؤمهم وأن يصلى بهم مثني مثني أي يرتاحوا بين التسليم والتسليم فلما رآهم يصلون جماعة قال: ) نعم البدعة

، والمقصود من هذه المقولة أن هذا األمر الجديد1هذه ( الذي رأيناه أمر جيد وأنسب من سابقه وهو أن كل شخص

يصلى وحده، ووجه كون صالة التراويح من السياسة الشرعية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الصالة

" . 2010 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1

92 بعد أن بدأها خشية أن تفرض فلما زالت العلة بوفاته صلى

الله عليه وسلم وانقطع الوحي رأي عمر أن المصلحة تقتضي جمع الناس على إمام واحد بدل أن يصلى كل فرد

على حده فكان هذا األمر من السياسة الشرعية. - الخراج: بعد أن فتحت العراق والشام ومصر طالب2

الفاتحون أن تقسم أراضيها بينهم مستدلين بما نصت عليه�ما غنمتم من شيء آية األنفال، قال تعالى: } واعلموا أن

سول ولذي القربى واليتامى �ه خمسه وللر� فأن� لل�ه وما أنزلنا على بيل إن كنتم آمنتم بالل والمساكين وابن الس��ه على كل شيء عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والل

، فيخرج الخمس ويوزع الباقي على الفاتحين، إال1قدير { أن عمر أراد أن يتمهل في هذا واستشار الصحابة في ذلك

مبينا أن الذي يقسم هو المنقول أما العقار من األراضي والبساتين فإنها موكلة لرأي ولى األمر فقد يقسمها وقد ال يقسمها، وذلك ألن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في خيبر ولم يقسم في الفتح، وقد عارض بالل ومن كان معهم عمر في هذا الرأي وطالبوا أن يقسم الجميع، وبعد

مشاورة أهل الحل والعقد وتداول الرأي معهم اقتنعوا بوجهة نظر عمر رضي الله عنه، فلم يقسم وإنما أبقى

األراضي بأيدي أصحابها وفرض عليها الخراج يصرف في حاجات الدولة ونفقاتها. ووجه هذا الفعل من السياسة

الشرعية أن مفهوم النص في القسمة، إال أن عمر رضي الله عنه رأي أن هذا النص يستثني منه األراضي بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان األنسب في شأنها عدم

القسمة وهو الذي تقتضيه المصلحة ألمور منها: أ- أن قسمة األراضي على الفاتحين تشغلهم بالزراعة

ويتركون الجهاد الذي هو سنام اإلسالم. " . 41 - سورة األنفال " 1

93 ب- أن نزع األراضي من أصحابها بإعطائها لغيرهم يسبب

المشكلة معهم ويكونوا عالة على الدولة اإلسالمية. جـ- أنها إذا وزعت األراضي على الفاتحين سيتضرر بيت

المال ويتضرر من يأتي بعد هذا الجيل من األجيال القادمة. د- أن أهل األرض أدرى بزراعتها بخالف المجاهدين فهم ال يجيدون الزراعة وبهذه األسباب تركها عمر رضي الله عنه

بأيديهم وفرض عليهم الخراج حسب الحاجة.

ثالثا: في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:

-جمع عثمان رضي الله عن--ه الق--رآن على ح--رف1 عن أنس بن مالك: أن حذيفــة بن اليمــان قــدم على: واحد

ــة وأذربيجــان عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرميني مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختالفهم في القــراءة، فقــال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هــذه األمــة قبــل أن يختلفــوا في الكتــاب اختالف اليهــود والنصــارى، فأرســل عثمان إلى حفصــة أن أرســلي إلينــا بالصــحف ننســخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصــة إلى عثمــان،ــاص، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن الع وعبـــد الـــرحمن بن الحـــارث بن هشـــام فنســـخوها فيــة: إذا ــيين الثالث ــط القرش ــان للره ــال عثم ــاحف. وق المص اختلفتم أنتم وزيد بن ثــابت في شــيء من القــرآن فــاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حــتى إذا نســخوا الصــحف في المصــاحف، رد عثمــان الصــحف إلى حفصــة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بمــا ســواه

. فكــان1من القرآن في كــل صــحيفة أو مصــحف أن يحــرق " . 4987 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 1

94 السبب الحامل لعثمان رضي الله عنه على جمع القرآن معــر ــد أبي بك ــحف في عه ــا في ص ــا مرتب ــان مجموع ــه ك أن الصديق إنما هو اختالف قراء المسلمين في القراءة اختالفا أوشك أن يؤدي بهم إلى أخطر فتنة في كتــاب اللــه تعــالى، وهو أصل الشريعة ودعامــة الــدين، فــرأى عثمــان أن جمــع األمة على مصــحف واحــد أســلم وأبعــد عن وقــوع مفســدة اختالف الناس في الكتــاب وتفــرقهم وتنــازعهم، بــل وربمــا تكفـير بعضـهم بعضـا، الـتي هي أعظم من مصـلحة التـورع بإبقاء الحــال على مــا هــو عليــه في عهــد صــلى اللــه عليــه

.1وسلم" : روى مالك عن ابن شهاب قولــه: )كــانت ضوال اإلبل-2

ــلة، ال ــاب إبال مرس ــر بن الخط ــل في زمن عم ــوال اإلب ض يمســها أحــد، حــتى إذا كــان زمــان عثمــان بن عفــان أمــر

وكــان2بتعريفها، ثم تبــاع، فــإذا جــاء صــاحبها أعطي ثمنهــا( توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بترك ضــوال اإلبــل حــتى يأتي مالكها فيأخــذها فهي مكتفيــه بنفســها فقــال: )مــا لــك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكــل الشــجر حــتى

. وقد التزم الصحابة بهذا التوجيه حــتى خالفــه3يلقاها ربها ( عثمــان رضــي اللــه عنــه، ولكن أخالق النــاس تغــيرت وبــدأ بعضهم يمد يده على ضوال اإلبل، فرأى عثمان رضــي اللــه عنه أن تركهـا على حالهـا يعرضـها للضـياع فـأمر بالتقاطهـا وتعريفهــا ثم بيعهــا فــان جــاء صــاحبها أعطي ثمنهــا ليقطــع الطريق على ضعاف النفوس وليحقق مصلحه حفظ حقـوق

اآلخرين. -زيادة عثمان رض--ي الل--ه عن--ه األذان األول ي--وم3

.26 - األدلة على اعتبار المصالح والمفاسد في الفتاوى واألحكام ص1 " .2810 - أخرجه مالك في الموطأ ، حديث رقم " 2 " . 91 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 3

95 عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعةالجمعة:

أوله إذا جلس اإلمام على المنبر، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضــي اللــه عنهمــا، فلمــا كــان

على1عثمان رضي الله عنه وكثر النــاس زاد النــداء الثــالث فقــد رأى عثمــان رضــي اللــه عنــه أن يــزاد هــذا3"2الزوراء

ــد أن ــة بع ــالة الجمع ــرب وقت ص ــاس بق ــه الن األذان لتنبي اتسعت رقعة المدينة، وأصبح كثير من المســلمين يســكنون

بعيدا عن المسجد.ــاستوسيع وإعادة بن--اء المس--جد النب--وي: -4 كلم الن

عثمان بن عفان أول ما تولى الخالفــة أن يزيــد في مســجدــاس في الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان يضــيق بالن صالة الجمعــة بســبب امتــداد الفتح وزيــادة ســكان المدينــة زيادة عظيمة، فاستشار عثمــان أهــل الــرأي فــأجمعوا علىــاس هدم المسجد وبنائه وتوسيعه، فصلى عثمان الظهر بالنــاس، ــا الن ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيه إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله وأزيد فيه وأشــهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ) من

وكــان لي فيــه4بنى مسـجدا بــنى اللـه لــه بيتــا في الجنــة ( سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب كان قــد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحســن النــاس يومئــذ

.5ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه كان عثمان: -اإلنفاق على المؤذنين من بيت المال5

- باعتبار األذان واإلقامة ،فإذا حذفنا اإلقامة صار ثانيا ،ينظر فتح البــاري 1(3/394)

ــ 2 الزوراء :موضع بالمدينة عند السوق ،وقيــل أرفــع دار بالمدينــة قــريب-(3/394السوق )ينظر: فتح الباري :

" .912 أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم "- 3 " .450 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 4. 5/267، تاريخ الطبري 7/60- البداية والنهاية 5

96أول من رزق المــؤذنين من بيت المـال، فعن إســحاق بن

عبـــد اللـــه بن أبي فـــروة قـــال: )أول من رزق المـــؤذنين وقــد جعــل عثمــان رضــي اللــه عنــه على األذان1عثمــان (

.2جعالة وال يستأجر استئجارا عثمان بن عفــان رضــي-أول من أجاز الغزو البحري6

كان معاوية بن أبي سفيان وهــو أمــير الشــام يلحالله عنه: على عمــر بن الخطــاب في غــزو البحــر، ويصــف لــه قــرب الروم من حمص ويقــول: إن قريــة من قــرى حمص يســمع أهلها نباح كالبهم وصياح دجاجهم، حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمــر، فكتب عمــر إلى عمــرو بن العــاص: صــف لي البحــر وراكبه، فإن نفســي تنــازعني إليــه، فكتب إليــه عمــرو: إني رأيت خلقا كبيرا يركبــه خلــق صــغير، إن ركن خــرق القلب، وإن تحــرك أزاغ العقــول، يــزداد فيــه اليقين قلــة، والشــك كثرة، هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق، فلماــاب عمــرو بن العــاص كتب إلى قــرأ عمــر بن الخطــاب كت معاوية: ال والذي بعث محمدا بالحق، ال أحمــل فيــه مســلما أبدا، وتالله لمســلم أحب إلي� ممــا حــوت الــروم، فإيــاك أن تعــرض لي، وقــد تقــدمت إليــك، وقــد علمت مــا لقي العالء

(3)مني، ولم أتقدم إليه في ذلك.

فلما تولى الخالفة عثمان عاود معاوية الحديث وألح به على عثمان، فرد عليه عثمان قائال: "إني قد شهدت ما رد عليك عمر -رحمه الله- حين استأذنته في غزو البحر"، ثم كتب إليه معاوية مرة أخرى يهون عليه ركوب البحر إلى

قبرص فكتب إليه: "فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذونا كما اشترط عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه .4وإال فال"

" .1857 - أخرجه عبد الرزاق في المصنف ، حديث رقم " 1.14 - موسوعة فقه عثمان بن عفان ،قلعجي ص 2. 5/258 - تاريخ الطبري 3. 2/538 - اإلدارة العسكرية في الدولة اإلسالمية،سليمان بن صالح 4

97 أيضا بقوله: )ال تنتخب الناس وال تقرع بينهم، خيرهم فمن

، فلما قرأ معاوية كتاب1اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه( عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص، فكتب ألهل

السواحل يأمرهم بإصالح المراكب وتقريبها إلى ساحل حصن عكا، فقد رمه ليكون ركوب المسلمين منه إلى

.2قبرص -ترك عثمان رضي الله عنه القصر في السفر7

: روي عن الزهري أنه قال: "إن عثمان أتمفي منى الصالة بمنى من أجل األعراب، ألنهم كثروا عامئذ، فصلى

. وجاء في تاريخ3بالناس أربعا ليعلمهم أن الصالة أربع" هـ(صلى عثمان رضي الله عنه29الطبري: "في حج عام )

بالناس بمنى أربعا، فأتى آت عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لك في أخيك؟ قد صلى بالناس أربعا، فصلى عبد

الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج حتى دخل على عثمان، فقال له: ألم تصلى في هذا المكان مع رسول الله صلى

الله عله وسلم ركعتين؟ قال: بلى، قال أفلم تصل مع أبي بكر ركعتين؟ قال: بلى، قال أفلم تصل مع عمر ركعتين؟ قال بلى، قال ألم تصل صدرا من خالفتك ركعتين؟ قال

بلى، قال عثمان رضي الله عنه: فاسمع مني يا أبا محمد أني أخبرت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي إن الصالة للمقيم ركعتان، هذا

إمامكم عثمان يصلي ركعتين. . . فرأيت أن أصلي أربعا.4لخوف ما أخاف على الناس. . . . "

فعثمان رضي الله عنه ترك قصر الصالة في الحج مع أنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وذلك

. 5/260 - تاريخ الطبري 1 .2/538 - اإلدارة العسكرية في الدولة اإلسالمية 2 " .1964 أخرجه أبو داود في سننه ، حديث رقم " -3 .2/606 - تاريخ األمم والملوك 4

98 خشية أن يكون ذلك ذريعة للعامة إلى اعتقاد أن الصالة

ركعتان في جميع األوقات والظروف، والسيما أن األعراب يظنون أن الفريضة على كل حال في سفر وحضر ركعتان

فأراد أن يصحح اعتقادهم فأتم ولم يقصر، فعثمان رضي الله عنه قدم تصحيح فهم األعراب وان صالة الحضر أربع

ركعات على تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهيالقصر في السفر للحاجة والمصلحة في ذلك.

طلق-توريث المرأة المطلقة في مرض الموت: 8ثها عثمان منه عبد الرحمن بن عوف زوجته وهو مريض فور� بعد انقضاء مدة عدتها، وقد روى أن شريحا كتب إلى عمر

بن الخطاب في رجل طلق امرأته ثالثا وهو مريض، فأجابثها ما دامت في عدتها، فإن انقضت عدتها فال عمر: أن ور

ميراث لها. فبعد أن اتفقا على أن طالق المريض مرض الموت ال يزيل

الزوجية كسبب موجب لإلرث، جعل عمر حدا لذلك وهو العدة، بينما لم يجعل عثمان حدا لذلك، وقال: ترث مطلقها

سواء مات في العدة أو بعدها، وليس في المسألة نص يرجع إليه، والباعث على الحكم هو معاملة الزوج بنقيض

قصده؛ ألن الزوج بطالقه في مرض الموت يعتبر فارا من.1توريث زوجته

. نشأة الفقه االجتهادي،118تاريخ التشريع اإلسالمي للخضري، ص - 1 .142 . االجتهاد في الفقه اإلسالمي، ص27السايس، ص

99

في عهد علي -رضي الله عنه - رابعا:

جرت عادة الخلفاء الراشدين أن تبدأ خالفتهم بإلقاء خطبة جليــة توضح منهجهم في الحكم وسياستهم مع الرعية حيث قــال علي:ــذوا " إن الله عز وجل أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر، فخ بالخير ودعوا الشر، الفرائض أدوها إلى الله ــ سبحانه ــــ يؤدكم إلى الجنة أن الله حرم حرما غير مجهولة وفضل حرمة المســلم على الحرم كلها. . . والمســلم من ســلم المســلمون من لســانه ويــده إال بــالحق. . . أنكم مســئولون حــتى عن البقــاع والبهــائم،

ولمــا كــانت بيعــة علي1أطيعوا اللــه عــز وجــل وال تعصــوه. . . ( جاءت بعد فتنة مقتل الخليفة عثمان ــ رضي اللــه عنــه ـــــ فقــد دعا المسلمين إلى الخير ونبذ الشر وأن حرمة المسلم فوق كلــة حــول جــانب العقيــدة، الحرمــات. وقــد جــاءت محــاور الخطب

والعبادة، واألخالق، ومقاصد الشريعة اإلسالمية.ــاء على السياســة ومن تطبيقا علي رضي الله عنه التي ســنها بن

لشرعية، األمثلة التالية:أوال: في المؤسسة المالية:

أن علي رضي الله عنه رجع إلى ما كان عليه أبو بكر-1 الصديق في التسوية في العطاء فلم يفضل أحدا على أحد،

.2فأعطى الموالي كما أعطى السادة جعل الخراج موكوال إلى الوالة أنفسهم، وقد اشتهر عن-2

علي رضي الله عنه تشديده في مراقبة عماله في جميع النواحي، وكان الخراج والشؤون المالية من األمور المهمة التي

.458،459/ 5تاريخ الطبري - 1-ـ 2 ( .سيرة أمير المؤمـنين علي3/11ينظر : االستيعاب ، ابن عبد البر )

.243بن أبي طالب ، الصالبي ، ص

100 كان يدقق فيها أمير المؤمنين، فكان يبعث العيون واألرصاد

.1ليعلم أحوالهم.2فصل مال الدولة عن مال الحاكم-3 استرداد األرض التي أقطعها عثمان، فقد جعلها مردودة في-4

.3بيت المالثانيا: في المعامالت: تضمين الصناع:

روى البيهقي: ) أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- ضمن.4الغسال والصباغ وقال: ال يصلح الناس إال ذاك (

األصل: أال يضمن الصانع لضياع أو تلف ما في يديه من أموال الناس، ألنه أمين عليها، لما ثبت في السنة من قوله ــ صلى

. وقد كان هذا5الله عليه وسلم ــــ {ال ضمان على مؤتمن } األصل يصلح لألحوال والظروف التي يغلب فيها على الناس

االستقامة وحفظ األمانة، وأما مع تغير األخالق، وظهور اإلهمال والتقصير؛ فالبد من عالج يتفق مع قواعد اإلسالم في صيانة

.6األموال والمحافظة عليهاثالثا: سياسته الشرعية في القضاء:

عدم نقضه لألحكام الصادرة قبله: حرصا على استقرار-1 األمور فإن عليا رضي الله عنه كان يرى أنه ال يحق للقاضي أن

.7ينقض حكما أصدره قاض آخر

.243ينظر :سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ص - 1-ـــ 2 ينظـــر :السياســـة الماليـــة للخليفـــة علي بن أبي طـــالب ، قطب

.31إبراهيم ،ص.113ينظر :السياسة المالية للخليفة علي بن أبي طالب ، ص - 3 " .11664 - أخرجه البيهقي في الكبرى حديث رقم " 4".2961 - أخرجه الدار قطني في سننه، حديث رقم " 5.539سد الذرائع في الشريعة اإلسالمية ، ص - 6 . 251سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ص - 7

101 ظهور بداية المحاماة: كان علي يوكل أخاه عقيال في-2

المخاصمة، ثم وكل عبد الله بن جعفر عنه أمام القضاء وكان.1يقول: ما قضي لوكيلي فلي، وما قضي على وكيلي فعلي

رابعا: في التعزير:

: وكان أكثر ما يعزر به، ومن ذلك جلده- الجلد دون الحد1 للنجاشي الشاعر الذي شرب الخمر وأفطر في رمضان، فجلده

ثمانين جلدة عن شرب الخمر ثم حبسه. ثم أخرجه من الغد فجلده عشرين، فقال له: ) إنما جلدتك هذه العشرين لجرأتك

.2على الله، وإفطارك في رمضان ( : لجأ علي رضي الله عنه إلى التشهير بالعاصي -التشهير2

وتعريف الناس به، كما فعل بشاهد الزور، وفي ذلك مصلحة.3للمجتمع، لئال يستشهد فتضيع الحقوق

: كان علي يعاقب بالحبس أحيانا ومن ذلك حبسهالحبس - 3.4للنجاشي الشاعر، الذي شرب الخمر، وأفطر في رمضان

: كان علي رضي الله عنه يقيد الدعار،التقييد في الحبس -4.5بالحبس بقيود لها أقفال، ويوكل بهم من يحلها لهم وقت الصالة

قد يصل التعزير عند علي رضي الله عنه إلى - القتل: 5 القتل، إذا كانت الجريمة قد تعاظمت، وكان لها أثر بالغ األهمية،

كوضع األحاديث على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لذا-ــ 1 . ســيرة أمــير المؤمــنين علي بن70أصول المحاكمات الشرعية ،ص

.251أبي طالب ، ص " .13556 - أإخرجه عبد الرزاق في المصنف ، حديث رقم " 2 .148موسوعة فقه علي بن أبي طالب ، ص - 3 " .28624 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ، حديث رقم " 4-ــ 5 . سيرة أمير المؤمــنين154موسوعة فقه علي بن أبي طالب ، ص

.279علي بن أبي طالب ، ص

102 فقد كان يقول: ) من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

.1يضرب عنقه ( أثر عن علي رضي الله- إتالف أداة الجريمة وما يتبعها: 6

عنه بأنه نظر إلى قرية فقال: ما هذه القرية؟ قالوا قرية تدعى زرارة يلحم فيها ويباع فيها الخمر، فأتاها بالنيران فقال:

.2) أضرموها فيها، فإن الخبيث يأكل بعضه بعضا، فاحترقت ( فقد أحرق علي في هذه القرية الخمر وما يتبعه من مواد

.3وأدوات تستخدم لصناعته

خامسا: والية الشرطة:

كانت وظيفة الشرطة إحدى الوظائف المعروفة في الدولة، وكان لعلي أصحاب شرطة، وقد بنى سجنا بالكوفة سماه "

نافعا" لم يكن مستوثق البناء، فكان المسجونون يخرجون منه فهدمه وبنى بدال منه سجنا آخرا سماه مخيسا. وقد أجرى على

أهل السجون ما يقوتهم من طعامهم وأدمهم وكسوتهم في.4الشتاء والصيف

سادسا: سياسته الشرعية مع موظفي الدولة:

ـ النهي عن الجمع بين اإلمارة والتجارة: قال رضي الله1 عنه ألحد موظفيه يوصيه برعيته: " إذا قدمت عليهم فال تبعن لهم كسوة شتاء، وال صيف، وال رزقا يأكلونه، وال دابة يعملون

.5عليها "

" .9708 - أإخرجه عبد الرزاق في المصنف، حديث رقم " 1 .273/ 1 - األموال البن زنجويه 2.280سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ص - 3 . سيرة أمير108والية الشرطة في اإلسالم ، د. نمر الحميداني ، ص - 4

.242المؤمنين علي بن أبي طالب ، ص.236 . األموال ، ألبي عبيدة ، ص 16الخراج ، ألبي يوسف ص - 5

103 - إعطاء الموظفين ما يغنيهم من األرزاق واألموال: أرسل2

علي رضي الله عنه إلى أحد موظفيه يبين له كيفية اختيار الموظفين، وحقوقهم، ومحاسبتهم فقال: ". . . ثم أسبغ عليهم األرزاق فإن في ذلك قوة لهم على استصالح أنفسهم، وأغنى

.1لهم عن تناول ما تحت أيديهم. . . " - التوظيف يتم عبر الضوابط وليس عبر الروابط3

الشخصية..2 - المشاركة في صنع القرار4

امتنع علي رضي الله عنه عنسابعا: توزيع السلطات: تسليم جميع السلطات بيد شخص واحد، فكان مبدأه توزيع

السلطات وتحديد الصالحيات فقد نصب ابن عباس واليا على البصرة، ونصب زياد على الخراج وبيت المال، ولم يكتف بهذا

بل أمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع، وهذا قمة الضبط اإلداري فزياد يطيع ابن عباس في إطار واليته على البصرة وابن

.3عباس يطيع زياد في إطار عمله في بيت المال والخراج ظهرثامنا: سياسته الشرعية مع العصاة في االعتقاد:

في عهد علي رضي الله عنه بعض أهل البدع كالخوارج والزنادقة، ولقد سلك في دعوة هذه األصناف ونحوهم من أهل

المعاصي أساليب متعددة منها: ومع بيان المعتقد الصحيح بيان المعتقد الصحيح: 1

لصاحب البدعة فإنه أيضا يبين للناس فساد معتقدات أهل البدع لئال يغتر بهم الناس، ومن ذلك لما خرج علي لقتال الخوارج، لقيه في مسيره منجم، أشار عليه أن يسير في وقت النهار، وقال له: إن سرت في غير ذلك الوقت لقيت أنت وأصحابك

.59اإلدارة اإلسالمية في عز العرب ، ص - 1.330ـــ 329سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ص - 2.318سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ص - 3

104 ضررا شديد. فخالفه، وسار في الوقت الذي نهاه عن السير

فيه، ثم قال علي: لو سرنا في الساعة التي أمرنا المنجم لقال.1الجهال: سار في الساعة التي أمره بها المنجم

: سلك علي رضي الله عنه مع الخوارج -المناظرة2 أسلوب المناظرة وتفنيد المزاعم، ورد الدليل بالدليل. وتحقق

لعلي النجاح الكبير في مناظرته للخوارج، حيث رجع منهم أربعة آالف وفي رواية ألفان وقد أحسن في االختيار لمن سوف يقوم

بالمناظرة مع الخصوم، فاختار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو حبر األمة وترجمان القرآن فهو أولى الناس

.2بمناظرتهم ألنه أدرى الناس بالقرآن وبتأويله : لما أصر القوم على ضاللهم، ولم - التهديد والوعيد3

تجد مع بعضهم المناظرات المتعددة، والنداءات المتكررة والرسائل المتنوعة من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه،

كان البد من أخذهم بالحزم، فكان التهديد والوعيد لهم من علي.3رضي الله عنه

: قرر علي رضي الله عنه منهجه مع الخوارج-القتال4 في بداية ظهورهم بقوله: ) أن لكم عندي ثالث خالل ما كنتم

معنا: لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، وال نمنعكم.4فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، وال نقاتلكم حتى تقاتلونا (

إال أن الخوارج مصرون على ضاللهم وفسادهم، حتى عاثوا في األرض فسادا وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل واستحلوا

المحارم. حتى خافهم الناس، فأشاروا على علي رضي الله عنه

.7/288، البداية والنهاية ، ابن كثير 119،120/ 3تاريخ الطبري - 1-ــ 2 منهج علي بن أبي طالب في الدعوة إلى اللــه ، ســليمان العيــد، ص

.337 ـــ 330.339المرجع السابق ، ص - 3 " .37930 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف حديث رقم " 4

105.1بالمسير وقتالهم واجتمع الرأي على هذا

حرقهم في األخاديد وهو يعلم سنة - حرق الزنادقة: "5 رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكافر، ولكن لما رأى أمرا عظيما جعل عقوبته من أعظم العقوبات؛ ليزجر الناس عن

مثله، ولذلك قال:

2لما رأيت األمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا "

.7/288 . البداية والنهاية ، 3/119تاريخ الطبري - 1 .1/27الطرق الحكمية ، ابن القيم - 2

106

الفصل الرابع

نماذج من تطبيقات السياسة الشرعية في أبوابالفقه

المبحث األولالسياسة الشرعية في العبادات.

يقصد بالعبادة حسب مفهومها الخاص: وهو : "ما أمر الله بفعله على وجه التعبد " كالصالة والصوم والزكاة والحج

والجهاد واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتطهروالعقيقة واألضحية وغير ذلك.

107 واألصل في العبادات أنها توقيفية بمعني أن مصدر التشريع

بشأنها ليس هو العقل والنظر واالجتهاد وإنما هو النقل، فالنص هو المصدر الوحيد للعبادات، وعلى ذلك فال يجوز

أن يعبد الله إال بما شرع الله لعباده إما بتحديده في القرآن�يل { ، أو بفعله من1كقوله تعالى: } ثم� أتموا الصيام إلى الل

قبل النبي صلى الله عليه وسلم. واألدلة على هذا األصل كثيرة منها قوله صلى الله عليه

، أي2وسلم: )من عمل عمال ليس عليه أمرنا فهو رد ( مردود على صاحبه غير مقبول، ومن األدلة الخاصة على بعض العبادات قوله صلى الله عليه وسلم بشأن الصالة:

، وقوله صلى الله عليه وسلم3) صلوا كما رأيتموني أصلى( بشأن الحج: )خذوا عني مناسككم (، وقوله صلى الله عليه

وسلم: ) أال وإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضاللة وكل.4ضاللة في النار (

وعلى هذا فإن األصل أن السياسة الشرعية ال ترد على ذات العبادة ومضمونها، ووجه ذلك أن السياسة الشرعية

قائمة على دليل المصلحة والعبادات مبناها على النصوليس على المصلحة.

غير أنه في حاالت معينة قد ترد السياسة الشرعية علىالعبادات وذلك في حالتين هما:

الحالة األولى: إذا فوض أمر العبادة إلى ولياألمر:

يفوض الشارع الحكيم بعض متعلقات العبادة لولى األمر " .187 - سورة البقرة " 1 " .2697 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 2 " .631 - أخرجه البخاري في صحيحه ، حديث رقم " 3 " .1578 - أخرجه النسائي في السن ، حديث رقم " 4

108 فيكون هو المسئول عن تنظيمها وضبطها بدءا من اإلذن بها حتى االنتهاء واالنصراف منها، شريطة أن يكون ولى

األمر متمثال للنصوص التي وردت بشأن هذه العبادة.ومن األمثلة على ذلك:

- صالة االستسقاء: فإذا أحتاج الناس إلى المطر وأصابهم الجدب فإنهم يستأذنون ولي األمر إلقامة صالة االستسقاء

وعليه أن يراعي حالهم ويأذن لهم إذا وجد أن الحاجةمتحققة.

- الجهاد في سبيل الله: فجهاد الطلب إنما يكون تحت راية ولي األمر وهو الذي يأذن ببدئه ويقود الجيوش أو يوكل من

يتولى ذلك كما أنه هو المسئول عن رجوع الجيش.الحالة الثانية: وسائل العبادات:

تنقسم األحكام المتعلقة بالعبادة إلى أحكام مقاصدووسائل

فأحكام المقاصد تقصد بذاتها ويتعين اإلتيان بها وهذه التدخلها السياسة الشرعية، كصفة الصالة وأركانها وواجباتها.

وأحكام وسائل: وهي األحكام التي شرعتها الشريعة اإلسالمية لإلتيان باألحكام األولى، فهذا النوع من األحكام

قد تدخله السياسة الشرعية ألنه متعلق بوسيلة العبادةوليس بذاتها.

ومن األمثلة على ذلك:

فعل عثمان رضي الله عنه حينما أضاف أذانا أوال يوم الجمعة على الزوراء وهو مكان مرتفع في المدينة، حيث إنه رضي الله عنه لما رأي الناس يتكاسلون عن التبكير

109 لصالة الجمعة أمر باستحداث أذان أول قبل األذان المباشر للخطبة في مكان مرتفع في المدينة حتى إذا سمعه الناستركوا أعمالهم وتجارتهم وانصرفوا استعدادا لصالة الجمعة.

ففعله رضي الله عنه ليس معارضا لنص شرعي كما أنه ليس ابتداعا في الدين ألن األذان من أحكام الوسائل ال من

أحكام المقاصد.بناء المنارات ورفعها، والمقصد من ذلك هو جعلها عالمة

للمساجد ورفع األذان عليها حتى يصل إلى أقصى الحيالذي فيه المسجد.

تحديد الوقت بين األذان واإلقامة كما هو حاصل في أنظمة أكثر الدول اإلسالمية.

تقييد عدد مرات الحج: فتكرار الحج أمر مستحب أمرت به الشريعة، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنها قال: قال

تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهماصلى الله عليه وسلم: ).1( ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد

وعلى هذا فإنه يستحب اإلكثار من الحج ولكن لما تيسر أمر الحج في هذا الزمن وكثرت الطرق من بحرية وجوية

وبرية وكثر الحجاج مما جعل المشاعر ال تستوعب أعدادهم رأي والة األمر في العالم اإلسالمي تقييد هذا المستحب

بخمس سنين فمن حج فإنه ال يرخص له مرة أخرى إال بعد مضي خمس سنوات إال إذا كان مرافقا لمحرم وهذا القرار

يعتبر من السياسة الشرعية يجب العمل به وهو قرار مشروع ال يجوز الطعن في مشروعيته بحجة مخالفة النص

بل يجب األخذ به قدر االستطاعة، ولعل لهذا التصرف من قبل والة األمر في هذا الزمان مثال مشابه إال أنه على

" .2630 - أخرجه النسائي في سننه ، حديث رقم " 1

110 العكس منه وذلك في زمن عمر بن الخطاب حينما أمر

الناس بأن يفردوا في الحج ونهاهم عن التمتع وذلك بقصد أال تبقي مكة خالية من الناس بعد أشهر الحج فيأتي إليها

المعتمرون من كل مكان أما لو اعتمروا مع الحج فإن ذلكسيكون مدعاة إلى تكاسلهم وضمهم العمرة مع الحج.

111المبحث الثاني

السياسة الشرعية في النكاح�ن الشارع الحكيم جل� األحكام المتعلقة بالنكاح وتوابعه بي

كالخطبة والمهر والحقوق الزوجية وفرقه كالطالق والخلع والفسخ، ولعل السبب في ذلك أن هذه األحكام ثابتة ال

تتغير فبين الشارع أحكامها على وجه التفصيل، إال أنه ترك مجاال لولي األمر ليتخذ الحكم المناسب في بعض مسائل

النكاح وأكثر ما يرد ذلك في تقييد المباح الذي هو مكنة من الشارع لولي األمر في تقييد المباحات إذا تحقق من هذا

التقييد مصلحة أو ترتب عليه درء مفسدة. ومن األمثلة على دخول السياسة الشرعية في النكاح:

النهي عن نكاح الكتابيات، فقد أجازت الشريعة اإلسالمية بات النكاح بالكتابيات قال تعالى: } اليوم أحل� لكم الط�ي�ذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم وطعام ال�ذين أوتوا والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من ال الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن� أجورهن� محصنين غير

�خذي أخدان { ، فلما أتى عهد عمر رضي1مسافحين وال مت الله عنه وكثر الزواج من الكتابيات رأي رضي الله عنه أن

ترك ذلك قد يؤدي إلى اإلضرار بأمن الدولة واستقرارها كما أنه قد يسبب العزوف عن نكاح المسلمات، فمنع الصحابة ومن رآه تزوج منهم من النكاح منهن وطلب

الطالق ممن نكح، وفعله رضي الله عنه ليس على وجه التشريع وإنما على وجه التنظيم حيث قيد النكاح من

الكتابيات وهو تحقيقا لمصلحة ودرء لمفسدة، وعلى هذا فإن الحكم يبقي على أصله من جواز نكاح الكتابيات إال إذا

رأي ولى األمر مفسدة تترتب على ذلك فله أن يقيد هذا " .5 - سورة المائدة " 1

112الحكم إلى حين زوال المفسدة.

تقييد نكاح المواطن بمواطنة: يجوز من حيث األصل أن يتزوج المسلم بما يشاء من النساء سواء تابعة كانت لدولته

أو تحمل جنسية أخرى، ولكن رأت كثير من الدول تقييد هذه الحرية بوضع الضوابط والشروط لمن يرغب في

الزواج من خارج البلد، ففي المملكة العربية السعودية يجب أن يكون الزوجين سعوديان وفي حالة رغبة السعودي

في الزواج من دولة أخرى فإنه البد أن تتوفر فيه شروط معينة وضعها نظام خاص لذلك، وذلك ألن في ترك من

شاء أن يتزوج من الخارج سواء على المستوى األسري أو الدولة مع الدولة األخرى فيه أضرارا كثيرة، وكذلك لعزوف السعودي عن الزواج من بنات البلد ألن الزواج في الخارج

يتكلف مبالغ أقل من الزواج في الداخل.توثيق عقد النكاح: لم يرد في القرآن وال في السنة نص

يلزم بكتابة عقد النكاح، فعقد النكاح قد يكون شفويا وهذا هو األكثر ويجوز أن يكون كتابة إال أن والة األمر في الدول

اإلسالمية راعوا ضرورة توثيق عقد النكاح حتى ال تكون مدعاة إلى التالعب، ويعتبر هذا القيد شرطا إضافيا من

والة األمر يجب العمل به وال يجوز التساهل وإهماله، وقديتحمل المهمل التبعات المترتبة على اإلهمال.

الطالق: جعل الشارع الحكيم الطالق بيد الرجل ولم يشترط أن ترضي بذلك المرأة أو يسجل في الجهات

المختصة فما دام الرجل قد طلق فإنه يحصل الطالق ولو لم ترض المرأة ولم تسجل في جهات معينة، ومن هنا يأتي

السؤال هل يجوز تقييد هذا الحق وجعل الطالق ال يكون صحيحا إال بعد تدوينه في جهات معينة كوزارة العدل؟ ،

113فهل يعتبر هذا التقييد داخال في السياسة الشرعية؟.

والجواب أنه ال حاجة لهذا التقييد فالشارع قد جعل الحق في هذا األمر للزوج وحمله المسئولية، لذلك يبقي الحق له

وال يجوز تقييده أو إضافة شرط آخر لصحة الطالق كالقيد في سجالت وزارة العدل ألن ذلك فيه شيء من االعتداء على حق الزوج وهو مخالف لمنطوق اآليات التي جعلت

الطالق من مسئولية الزوج، فإذا كان الزوج غير أهل للطالق بأن كان يستعجل مثال فإن الشريعة قد قبلت

زواجه فكذلك الطالق متعلق به، وكان الواجب عليه أن يتثبت ال أن يستعجل فإذا استعجل تحمل نتيجة استعجاله،

ولذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )ثالث جدهن ، مما يعني أن1جد، وهزلهن جد: النكاح، والطالق، والرجعة(

أمر النكاح والطالق من مسئولية الزوج وكان الواجب عليهأن يكون كفأ لهذه المسئولية.

" .2194 - أخرجه أبو داود في سننه ، حديث رقم " 1

114

115المبحث الثالث

السياسة الشرعية في النظام المالي تقوم السياسة الماليــة في الدولــة اإلســالمية على ثالثــة

أركان:إيرادات عامة تفرضها الدولة..1نفقات عامة توجهها الدولة لمصلحة الرعية..2إدارة الدولة إليراداتها ونفقاتها العامة..3

كانت اإليرادات العامــة في عهــدأوال: اإليرادات العامة: الرسول صلى الله عليه وســلم تقــوم على: الزكــاة وخمســه المســلمون من أمــوال الغنائم وخراج األرض وما تطوع ب للجهاد في سبيل الله، وفي عهــد عمــر بن الخطــاب رضــي الله عنه تحقق للدولة ايراد جديــد كــالخراج وفــرض عشــور

التجارة، وفيما يلي تفصيل لهذه اإليرادات:ــتف--رض الزك--اة على الخي--ل والرقي--ق: .1 فرض

الزكاة بالقرآن الكريم، فحــدد النــبي صــلى اللــه عليــه وسلم تفاصيلها فأوضح فئاتهــا واألمــوال الخاضــعة لهــاــا ــاء منه ــاالت اإلعف ــدود وح ــتحقاقها وح ــروط اس وش ومواعيد أدائهــا وطــرق تحصــيلها وعقوبــات المتخلفينــاء الخلفـــاء الراشـــدون من بعـــده عن ســـدادها، وجـــالقرآن وبســنن فــالتزموا في أمــور الزكــاة بمــا ورد ب رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي عهـد أبي بكــر أراد بعض المرتدين أن يوقفوا مسار فريضة الزكاة بدعوى أنها إنما كانت تؤدى للرسول صــلى اللــه عليــه وســلمــال فوقع خالف بين الصحابة رضوان الله عليهم في قت ما نعي الزكاة إلى أن أجمع أمرهم على قتــالهم، فلمــا

116 انتصر أبي بكــر عليهم لم يكن أمــام عمــر إال البت في مشاكل التطبيق الــتي كــانت تأتيــه فيفــتي بعلمــة، من أمثلة ذلك: أن عمر رضــي اللــه عنــه أخــذ زكــاة وكــان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعفى من زكــاة الخيــل والرقيق، وقد يكون إعفاء النبي صلى الله عليه وسلم من ذلــك حينمــا كــانت الخيــول قليلــة وكــانت جيــوش المسـلمين في حاجــة إلى الفرســان، فلمــا كــان الفتح وأقبلت الدنيا وكــثر المــال، جعــل المســلمون يتخــذون الخيــل تجــارة ومــاال وبــذلك يســتحق عليهــا الزكــاة إذا

توفرت شروطها.ــاد وأحــلتقسيم خمس الغنائم: .2 ــه الجه فــرض الل

ــوزع عليهم بعــد الله لهم الغنائم ينالونها من األعداء وت النصــر على أســاس أربعــة أخمــاس للفــاتحين وخمس لبيت المال ليوزعــه رئيس الدولــة طبقــا آليــة الخمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمســاكين وابنــه وســلم ــه علي ــبي صــلى الل الســبيل. وقــد ألحــق الن بالغنــائم الركــاز وهــو مــا يوجــد في بــاطن األرض من المعادن فإذا غنمها المســلم وجب فيهــا الخمس لــبيتــه المال وسار الخلفاء على هدي رسول الله صــلى الل

عليه وسلم وأفتوا به.ــة في الســنةتحديد مقدار الجزي--ة: .3 فرضــت الجزي

التاسعة من الهجرة حين نزلت سورة التوبة: :} قاتلواــا ــون م م �ه وال باليوم اآلخر وال يحر �ذين ال يؤمنون بالل ال�ذين ــق من ال ـدينون دين الح ـ وله وال ي ــ �ه ورس م الل ــر� حـد وهم ــ ـة عن ي ــ ـوا الجزي �ى يعطــ ـاب حت ــ ـوا الكت ــ أوت

، فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى1صاغرون{ الملوك وغيرهم من أهل الكتاب يدعوهم إلى اإلســالم

" .29 - سورة التوية "1

117 فإن أبوا فالجزية، فإن اســتجابوا ألداء الجزيــة أصــبحوا في ذمـــــة المســـــلمين لهم األمـــــان على أرواحهمــه وأعراضهم وأموالهم. وقد أعفى النبي صلى الله علي وسلم من الجزية األعمى والشيخ الكبير الذي ال شيء له فلم تكن فئات الجزية واحدة فقد اختلفت في عهــد الخلفاء الراشدين فجعلها عمر بن الخطــاب على ثالثــاب ــات طبقــا لدرجــة يســار الرجــال من أهــل الكت فئ

درهمـا24 درهمـا على الشـخص العـادي، 12فجعلهـا درهما على الغني.40على المتوسط،

ــرائب على األرضالخ--راج: .4 ــع من الض ــا يوض ــو م هالزراعية للدولة بعد الفتح وبقي عليها أصحابها.

في عهد الرسول صــلى اللـه عليــه وسـلم نصـره اللـه على يهود خيبر وآلت أرضهم للمسلمين فقسمها صلى الله عليه وسلم بين المقــاتلين من المســلمين ودفعهــا إلى أهل خيبر ال ليمتلكوها ولكن ليعملوا فيهــا ويــؤدون

النصف من الزرع والثمر كخراج. وفي عهد عمر بن الخطــاب رضــي اللــه عنــه انتصــرــائم ــيرة وحصــلوا على غن المســلمون في فتوحــات كثــه كثيرة. منها أراضي زراعية، فرأى عمر رضي الله عن عدم تقسيمها واعتبرهــا ملكــا عامــا للدولــة اإلســالمية ويفـــرض الخـــراج عليهـــا لإلنفـــاق من حصـــيلته علىــدت متطلبات الدولة الجديدة كحراسة ثغورها التي امت

واتسعت بعد الفتح. هي ضريبة فرضها عمر بن الخطابعشور التجارة: .5

رضي الله عنه على التجار غير المسلمين الذي يمرون بالدولـة اإلسـالمية، ويسـتدل على أول العمـل بهــا في اإلســالم إلى مكاتبــة أبي موســى األشــعري إلى عمــر

118 رضي اللــه عنــه: " إن تجــارا من قبلنــا من المســلمينــأتون أرض الحــرب فيأخــذون منهم العشــر "، فكتب يــار ــذون من تج ــا يأخ ــذ أنت منهم كم ــر: " خ ــه عم إلي المسلمين، وخــذ من أهــل الذمــة نصــف العشــر، ومنــع ــا – أي رب ــا درهم ــل أربعين درهم ــلمين من ك المس العشــر - وليس فيمــا دون المــائتين – من الــدراهم –

– وهم قوم من أهل الحرب1شيء ". وكتب أهل منبج – إلى عمــر: " دعنــا نــدخل أرضــك تجــارا وتعشــرنا "، فشاور عمر الصحابة فأشاروا عليه به، فكانوا أول من

عشر من أهل الحرب. :النفقات العامــة للدولــة اإلســالميةالنفقات العامة

إما أن تكون مخصصا لهــا بعض المــوارد العامــة وهي:ــون االنفاق من الزكاة ومن خمس الغنائم ، وإما أن تك عامة تمول من باقي المــوارد العامــة للدولــة، ونوضــح

فيما يلي هذه األنواع: سياس----ة توزي----ع الزك----اة على األص----ناف-

بين الله سبحانه وتعالى مصــارف الزكــاةالثمانية: اكين دقات للفقــراء والمســ �مــا الصــ� في آيــة: } إنــاب ق ـوبهم وفي الر ـ ــة قل �ف ــا والمؤل ــاملين عليه والع

بيل { �ه وابن الســ� بيل الل ، فقــد2والغــارمين وفي ســ عمــل النــبي صـلى اللــه عليــه بهــذا فأعــان الفقــراءــا ــف منه والمساكين وأثاب العاملين على الزكاة وألــارمين ــان الغ ــد وأع ــق العبي ــوب لإلســالم وأعت القل وأنفق منها في سبيل اللــه وعلى ابن الســبيل. وقــد سار الخلفاء الراشدين على هدي النــبي صــلى اللــه

- هي مدينة قديمة افتتحت صلحا، صالح عليها عمرو بن العاص من قبل1ــبة. ــدة خص ــرات األعظم، وهي بل ــراح وهي على الف ــدة بن الج أبي عبي

.207/ 1البلدان لليعقوبي " .60 - سورة التوبة " 2

119 عليــه وســلم في وجــوه اإلنفــاق من الزكــاة، إال أن عمــر رضــي اللــه عنــه رأى أن ال محــل لإلنفــاق من الزكــاة على ســهم المؤلفــة قلــوبهم بعــد أن قــويت الدولة اإلسالمية في عهده وأصبحت في غــير حاجــة للتأليف. واقترض عثمان رضي الله عنــه من أمــوال الزكاة لينفق على فتوحــات اإلســالم على أن يردهــا حين ميسرة، وفي عهده أيضا زاد غنى األغنياء فقام أبي ذر الغفــاري رضــي اللــه عنــه بمطالبــة األغنيــاءــاة ــوق الزك ــوالهم ف ــراء من أم ــاق على الفق باإلنف

المفروضة. كان صلىسياسة اإلنفاق من خمس الغنائم: -

الله عليه وسلم يأخــذ الخمس لــبيت المــال ويعطي المحاربين أربعة أخمــاس الغنيمــة فيجعــل للفــارس سهمين وللراجل سهما واحدا وفي غزوة حنين جعل للفارس ثالثة أســهم وللراجــل ســهما واحــدا، وكــانــوا ــة : } واعلم يقســم الخمس بين المــذكورين لآليول ســ ه وللر� �ه خمســ ــأن� لل يء ف ــا غنمتم من شــ �م أن

بيل{ ــ� .1ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن الس وقد سار الخلفاء الراشدون على ما كان يسير عليه رسول الله صــلى اللــه عليــه وســلم إال أنهم وجهــوا ســهمه وســهم ذي القــربى لإلنفــاق على الكــراع

والسالح في سبيل الله. السياس--ة في النفق--ات العام--ة الحتياج--ات-

مصدرها اإليرادات العامــة غــير المخصصــةالدولة: ــمل ــارة وتش ــور التج ــراج وعش ــة والخ وهي الجزي اإلنفاق على أجور العاملين بالدولــة الــذين يقومــون بأداء وظائفها وتأدية خــدماتها العامــة واإلنفــاق على

" .41 - سورة األنفال " 1

120 األمــاكن والــدواوين الــتي يعملــون بهــا كمــا تشــمل االنفـــاق على المشـــروعات العامـــة الـــتي تقيمهـــا الدولة. وقد تعددت النفقات العامة واتسعت باتساع الدولة اإلسالمية، فقد بدأت ضــئيلة القــدر في عهــد الرسول صـلى اللـه عليـه وسـلم حـتى أن مسـجدهــني بالمدينة وكان مقر الحكومــة اإلســالمية األولى ب بالجهود الذاتية، ثم زادت نفقات العامة بعد فتناولت في عهد عمــر بن الخطــاب رضــي اللــه عنــه أنواعــا عديــدة كمــرتب أمــير المؤمــنين ومرتبــات العــاملين بالدولة واإلنفاق على مرفق القضاة والمساهمة في أعباء الفتوحات اإلسالمية وتوسعة المســجد الحــرامــة وإنارة المسجد ليال وإنشاء مدينتي البصرة والكوف ومما ســاعد على التوســع في االنفــاق العــام زيــادة الموارد العامة بزيـادة من يــدفعون الجزيـة ويــؤدون

الخراج من أهل البالد المفتوح. كــان الرســول صــلى اللــهثانيا: إدارة المالية العام--ة:

عليه وسلم يدير المالية العامة للدولة، فحدد بعض المــوارد العامــة وخطـط طريــق النفقــات العامــة حينمــا أمــر بــأن الــه في ــ ــوال، ولم يعين أقارب ــ ــفهاء إدارة األم ــ ــولى الس ــ يت المناصـــب العامـــة إال علي بن أبي طـــالب وذلـــك لتقـــواه وكفاءتــه وحكمتــه وعلمــه، كمــا نهى عن هــدايا الــوالة أثنــاء

واليتهم إلى غير ذلك من مقومات اإلدارة المالية الناجحة. وقد سار الخلفــاء الراشــدون من بعــده، إال أن هــذه اإلدارة تطــورت في عهــد عمــر بن الخطــاب لتطــور أمــور الدولــة وزادت مواردها الماليــة وفاضــت، فقــد اســتجدت كثــير من

األمور منها:

121 أنشأ أول جهاز إداري مالي هــو ديــوان الخــراج لحفــظ-

موارد الدولة وتنظيم توزيعهــا، فقــد قــام بتســجيل كــل قبائل جزيــرة العــرب من الرجــال والنســاء واألطفــال، وقال: " ابدؤا بقرابة رسول الله األقرب فاألقرب حــتى

، كما كانت تســجل فيــه1تضعوا عمر حيث وضعه الله " األموال الواردة من الغنــائم والجزيــة والخــراج وتحديــد

وجوه صرفها. فرض عمر رضـي اللـه عنـه لألطفـال الرضـع من بيت-

المــال عنــدما علم أن األمهــات يســارعن في إجبــار أطفالهن على الفطام وأن ذلك يــؤدي إلى التــأثير على الصحة الجسدية والعقلية والنفسية ألطفال المســلمينــذين ســيكونون رجــال اإلســالم في المســتقبل، فلم الــه يتمسك بالقواعد المالية التي ال تفرض لألطفال ولكن طوع القواعد المالية لدواعي المصلحة العامة، وفــرض

لألطفال الرضع. ومن ذلــك أيضــا إعفــاء بعض اليهــود من دفــع الجزيــة،-

كالشيخ اليهودي الذي كان يسأل الناس الفاقة والجزية فوجد عمـر أنـه من غــير العـدل أن يسـأل هـذا الشـيخ الذمي الناس الجزية ليسددها لبيت المال ورأى أن في ذلك مخالفة لــواجب رعايــة الدولــة خصوصــا وقــد قــام الذمي في شبابه بــأداء الجزيــة المســتحقة عليــه لــبيت المال، فآثر عمر تطبيق العدل وأعفى الرجــل من دفــع

الجزية بل أعانه من بيت المال.

.3/278 - تاريخ الطبري 1

122المبحث الرابع

السياسة الشرعية في الجنايات اسم لما يكتب من الشر تسمية بالمصــدر؛ إذالجناية لغة:

هي في األصل مصدر جنى يجــني، ويســمى مكتســب الشــر.1جانيا، والذي وقع الشر عليه

كل فعل محرم من الشرع، سواء كان فيالجناية شرعا: صورته اإليجابية كارتكاب ما نهى عنه الشرع. أو في صورتهــه. . يصــدر عن ــان ب ــان بمــا وجب اإلتي الســلبية كعــدم اإلتي اإلنسان يسمى جناية، سواء وقع هــذا الفعــل على آدمي، أو على أرض أو على دين، أو على غير ذلك ممــا يعــاقب عليــه

الشرع. إال أن أكثر الفقهاء قد تعــارفوا على أن الجنايــة هي التعــدي على اإلنسان بما يوجب قصاصا أو مــاال أو كفــارة، وأمــا مــا

.2عدا ذلك من الجنايات فإنها تسمى حدودا أو تعازير إال أن إطالق الجناية على الجراح أو الدماء ال يشمل ما كان من الجنايات بغير جرح وبغير إسالة دمــاء كالقتــل بالكهربــاء والسم أو الخنق أو المثقل؛ فهو أيضا ال يتالءم مع ما يقابلــهــو من الجنايات وهو الحدود، ألن الحد هو العقوبة والتعزير هــو ذات الفعــل غــير ــرح أو الجنايــة فه ــة، وأمــا الج العقوب المشروع. والذي يترجم والله أعلم هو أن يظــل اإلصــطالحــواع ــل أن ــه ك ــدرج تحت ــه فين ــة على عموم الشــرعي للجناي الجنايات ســواء أوجبت قصاصــا أو مــاال أو كفــارة أو أوجبت

.14/154لسان العرب - 1-ــ 2 الجنايات في الفقــه اإلســالمي دراســة مقارنــة بين الفقــه اإلســالمي

.1/23والقانون

123 .1حدا أو تعزيرا

أوال: ما جاء في الحدود:

ــان المحــاربون جماعــة، فالواحــد منهمحد الحرابة: إذا ك باشر القتل بنفسه، والباقون له أعوان وردء لـه. فــإن عمـر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئــة المحــاربين، والربيئــة هــو النــاظر الــذي يجلس على مكــان عــال، ينظــر لهم من يجيء؛ ألن المباشـــر إنمـــا تمكن من القتـــل بقـــوة الـــردء

.2ومعونته مــا جــاء في المــرأة إذا وجــدتإثبات حد الزنا بالحبل:

حبلى، ولم يكن لها زوج وال سيد، ولم تدع شبهة في الحبل،ــا تحــد وال يلتفت إلى ــاء الراشــدين أنه ــأثور عن الخلف فالمــدين من ــاء الراش ــل الخلف ــا عم ــادرة. فهن ــاالت الن االحتم السياسة الشرعية، فإثبات حــد الزنــا ال يكــون إال بــإقرار أو بأربعة شهود وهنا لم يوجد إال أن وجود الحمــل دليــل قــوي

.3وال يلتفت إلى االحتماالت النادرة، كاحتمال كذبها جــاء عن ابن عبــاس رضــي اللــهتنفيذ عقوبة الل--واط:

عنهما قال قال رسول اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم: ) من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به

. ولم يختلف الصــحابة في قتلــه ولكن تنوعــوا فــروي عن4( الصديق رضي الله عنه أنه أمــر بتحريقــه، وعن غــيره قتلــه

.5بالسيف وقال يرجم وعليه أكثر السلف تشبيها له بالزان

.1/25الجنايات في الفقه اإلسالمي - 1.1/63السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية - 2.1/38المرجع السابق - 3 " .1456 - أخرجه الترمذي في سننه ، حديث رقم "4.1/83السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية - 5

124 فالحديث إنما ورد في قتله دون بيان لكيفيتــه، وتعــيين نــوعــة ــاب السياس ــان من ب ــحابة ك ــل الص ــل من قب معين للقت

الشرعية. ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "حد شرب الخمر:

، وضــرب أبــو1أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعــال أربعينــه ــر في خالفت ــه أربعين، وضــرب عم ــه عن ــر رضــي الل بك ثمانين، وقد كان عمر رضي الله عنه لمــا كــثر الشــرب زاد

. فالجلــد2فيــه النفي وحلــق الــرأس مبالغــة في الزجــر عنه ثابت بالسنة الشريفة، وما فعله عمــر رضــي اللــه عنــه منــاب السياســة ــادة النفي وحلــق الــرأس إنمــا كــان من ب زي

الشرعية وذلك لردع الناس عن هذا الفعل. إن المعاصي التي ليس فيها ثانيا: ما جاء في التعازير:

حد مقدر وال كفارة، كالذي يقبل المـرأة األجنبيــة، أو يباشـرــك فهــؤالء ــا ونحــو ذل ــير زن ــاس بغ بال جمــاع، أو يقــذف الن يعاقبون تعزيرا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي حسب كثرة ذلك

الذنب وقلته وعلى حال حسب المذنب. وليس ألقل التعزير حد معين، بل هو بكــل مــا فيــه إيالمــه ــان بتوبيخ ــزر اإلنس ــد يع ــل فق ــول أو فع ــان من ق لإلنس

واإلغالظ له وهجره ومن أمثلة ذلك.

- أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، قال: قيــل للنــبي1 صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبــد اللــه بن أبي، »فــانطلق إليــه النــبي صلى الله عليه وسلم وركب حمــارا، فــانطلق المســلمون يمشــون معــهــك وهي أرض سبخة« ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقــال: إلي عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجــل من األنصــار منهم: واللــه لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منـك، فغضـب لعبـد الله رجل من قومه، فشتمه، فغضب لكــل واحــد منهمــا أصــحابه، فكــان بينهما ضرب بالجريد واأليدي والنعال، فبلغنا أنها أنــزلت: }وإن طائفتــان

" .2691من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما{ ( حديث رقم " .1/85السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية - 2

125 هجر النبي صلى اللـه عليــه وســلم وأصــحابه. . الثالثــة-1

ــوا الذين خلفوا. . وهم ثالثة من الصحابة كانوا قد تخلف عن غــــزوة تبــــوك ولم يكن لهم عــــذر في تخلفهم فهجرهم النبي صـلى اللـه عليــه وســلم وأمــر أصـحابه

.1بهجرهم زجرا وتوبيخا لهم قد يعزر بعزله عن واليته. فإن عمر بن الخطاب رضي-2

اللــه عنــه بلغــه عن بعض نوابــه أنــه تمثــل بأبيــات في.2الخمر فعزله

إن القصــاص في الجــراح ثالثا: ما جاء في القص--اص: ثابت بالكتاب والسنة واإلجماع بشرط المساواة فــإذا قطــع

يده اليمنى من مفصل فله أن يقطع يده كذلك. لذا فقد قال جماعة من العلماء في مسألة القصاص فيــه أو ــل أن يلطم ــوط مث ــا أو بالس ــد أو بالعص ــرب بالي الض يلكمه، أو يضربه بعصا، ونحو ذلــك أنــه ال قصــاص فيــه، بــل

.3فيه التعزير؛ ألنه ال يمكن المساواة فيه

.5/251أضواء البيان - 1.1/86السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية - 2.1/119السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية - 3

126المبحث الخامس

السياسة الشرعية في األحكامالسلطانية

األحكام السلطانية: لفظ مركب من نعت ومنعوت. الحكم كما جــاء في كتب اللغــة: يفيــد المنــع ومنــه حكمت

.1الرجل تحكيما أي منعته مما أرادــنى التحكم في ــرد بمع ــرآني فلم ي ــا في االســتعمال الق أم الناس وإنما ورد بصيغة الحكم بينهم الفصــل في أمــورهم والبت في قضــاياهم وهــذا يفيــده المصــدر من قولــك حكم

.2يحكم أي قضى القهر وقد سلطه الله عليهم فتسلطالسلطة في اللغة:

.3والسلطان الوالي فلفظ األحكام إذا وصف بالسلطانية أصبح معنــاه: األحكــامــة من التصــرف ــاهرة والشــديدة والتســلطية والمانع 4الق

فالزاوية التي انطلق منها الفقهــاء يتعــارض تعارضــا مطلقــامع المبادئ والقيم التي جاءت بها الشريعة

األحكام السلطانية مصطلح اتخــذه الفقهــاء عنوانــا لدراســةل الفقهــاء باب اإلمامة والوزارة والقضاء واإلمارة وقــد فصــ األحكام الفقهية المتعلقة بالســلطان والشــروط الــتي يجب أن تتوفر فيه، لذلك أطلقوا عليها األحكام الســلطانية؛ ألنهــا

تتعلق بالسلطان في الدولة اإلسالمية .5/1902 - انظر : الصحاح للجوهري 1 - المرجع السابق – فقه األحكام السلطانية .2.3/1133 - انظر : الصحاح 3 - انظر : فقه األحكام السلطانية.4

127 األحكام التي تتعلق بنظام: 5تعريف األحكام السلطانية

الحكم وأصــوله وســلطان الحــاكم على الرعيــة وحقــوقوواجبات كل فريق.

والسياس---ة الش---رعية في األحك---ام الس---لطانيةتتناول ما يأتي :

دور اإلمام في سن األنظمة:أ()

لإلمام سن قوانين إجرائية في الدولة تشمل أمرين هما: إقامة فروض الكفاية المنوطة بالدولــة مثــل إقامــة-1

الجهاد واإلنفاق على ذوي الحاجة.تنظيم المباحات المتعلقة باألمور التالية:-2

رعاية شـؤون الدولـة الخاصـة وذلـك مثــل أن يسـن اإلمــام بوصــفه المســؤول عن مــوظفي الدولــة والجيش قانونــا إجرائيا وأن يحدد تفصيل أعمال مــوظفي الدولــة وأن يضــع

تشكيال معينا للجيش.ــؤدي إلى الضــرر أو ــا ي ــع م ويشــمل تنظيم المباحــات من المحرم ويمثل لمنع الضرر بمنع زواج مرضى اإليدز، ويمثــل لمنع المحرم بما تضعه الدولة من قوانين تحــدد من خاللهــا شروط صناعة األدوية التي يدخل الكحول في تركيبها حتى

ال ينجم عن ذلك تصنيع الخمور المحرم صنعها.

)ب( تنظيم األموال العامة والمرافق العامة:

ــرى الســيول ــات ومج ــادن والغاب ــاجم المع ــل من ــك مث وذلــدكتور5 ــالمي لل ــي اإلس ــتراث السياس ــاء في ال ــأليف الفقه ــاهج ت - من

عبـــــدالعزيز الضـــــويحي موقـــــع الشـــــبكة الفقهيـــــة والرابـــــطhttp://www.feqhweb.com/articles.php?ID=52&IDS=52&do=view&cat=29

128 ومرافــق الجماعــة فلإلمــام أن يســن قانونــا للمــرور يحــدد

.1كيفية السير وتنظيم الشئون اإلدارية

التخطيط للتنمية:ج()

على ولي األمر وضع مخططــات مدروســة تقــود النتــاج من حالة التخلف إلى حالــة التقــدم عن طريــق االســتفادة من

جميع الطاقات البشرية والمادية والموارد الطبيعية. ويقصــد بهــا)د( اإلشراف على ال--ثروات الطبيعي--ة:

النفط والغاز والفوسفات وغير ذلــك من الــثروات الكامنــةفي أعماق األرض والبحر.

ومسؤولية اإلمام والدولة هي رسم سياسة واضحة المعالم تستطيع من خاللها أن تسهم في حمايــة الــثروة الوطنيــة

واالستفادة منها في رفع مستوى دخل الفرد والدولة. )ه( إشراف ولي األم--ر على المؤسس--ات النقدي--ة

والمصرفية األساسية

ــالبنوك ــة ف ــوك التجاري ــة عن البن ــوك المركزي ــف البن تختلــذه المركزية تشرف عليها الدولة إشرافا مباشرا وتقدم ه البنوك المشورة لإلمام وللدولة بالنســبة لمعامالتهــا الماليــةــوك ــا تشــرف على البن ــة كم ــوال العام وتشــرف على األم

التجارية.ــوك و ــ ــة البن ــ ــدخل في سياس ــ ــام أن يت ــ ويجب على اإلم المصارف لتحقيق التنمية االقتصادية وذلك مثــل إيجــاد نــوع من التنظيم المصرفي يحقق أهداف التنمية االقتصــادية من

- انظــر: السياســة الشــرعية وعالقتهـا بالتنميــة االقتصــادية وتطبيقاتهــا1 .442-440 والسياسة الشرعية ألبي عمر السيف 95-87المعاصرة

129 امتصاص المدخرات من اإلفراد و توجيهها نحو المؤسســات االستثمارية عن طريق اعتماد سياسة استثمارية تقوم على المشاركة بين المدخر و المستثمر في األرباح و الخســائر و أن تقوم العالقة بين المــدخر و المســتثمر على أســاس من

.1التوازن في الحقوق و الواجبات

)و( السياس--ة الش--رعية في العالق--ات الخارجي--ةمنها:

بيان فقه السياسة الشرعية المنبثق من أصل عالقة-1 الدولة اإلسالمية بغير المسلمين حيث تقوم العالقة

بين الدولة اإلسالمية بغير المسلمين على أساس مقصدي، هو تبليغهم رسالة اإلسالم )الدعـوة(،

والتعامل معهم وفق ما تمليه األحكام اإلسالمية، التي تراعي بخاصيتها ظروف متغيرات الزمان والمكان

.2والحالإقامة التحالفات والتعهدات السياسية:-2 إيجاد التحالفات والتعهدات بين الدول مما ال ضير فيه-3

وإيجاد منظمات سياسية بين الدول تجمعهم وتوحدهم مثل:من السياسة الشرعية

منظمـــة المـــؤتمر اإلســـالمي: ومن أهـــدافهاأ()تعزيز التعاون والتضامن بين الدول اإلسالمية

مجلس التعاون الخليجي ويعمــل على تطــويرب().3العالقات بين الدول األعضاء

- انظــر: السياســة الشــرعية وعالقتهـا بالتنميــة االقتصــادية وتطبيقاتهــا1 .95-87المعاصرة

- مجـــاالت السياســـة الشـــرعية د. ســـعد العتيـــبي والرابـــط هـــو2http://www.alukah.net/Web/alotaibi/10593/23957/

لمحمــد121 - انظر : أحكام التحــالف السياســي في الفقــه اإلســالمي 3

130 االكتفاء واالستغناء عن اآلخــرين:الــواجب على الحكومــة-4

اإلسالمية أن تسعى لالكتفاء بنفسها ويذل جهدها لتنميــة.1اقتصاد الدولة

ومن السياسة الشرعية توقف وجوب الجهــاد على فئــة من المسلمين دون فئة، إن اقتضته المصـلحة الشـرعية، سـواء

.2كان بقصد جلب نفع يشرع جلبه أو دفع ضرر يجب دفعه

تم بحمد الله

عنيني442-440- انظر : السياسة الشرعية ألبي عمر السيف 1 - مجـــاالت السياســـة الشـــرعية د. ســـعد العتيـــبي والرابـــط هـــو2

http://www.alukah.net/Web/alotaibi/10593/23957/