الحلال والحرام في الإسلام

284
لام س لا ا ي ف رام ح لل وا لا ح ل ا اب ت لك ا ا ر هذ ب ت ع ي ، وً ا اب ت ك ن ي ر+ ش ع ي عل ذ ب ز ي ما اوي رض لق ا ها ي ف ف ل< ا ي لت وله ا ص< ه وا ق ف ل ا له س سل ن م ء ر ج اب ت لك ا ا هذ" " ه ي ه ق ف ل ا ب ه ا مذ ل ن’ ا م ي ه ق ف ب ه مذ ب ذ ت ق ت لص دون’ ا ا خ اب ت ك ي ف لام س لا ا ي ف) رام ح لل وا لا ح لا( اب ت+ ش ع م ج ي ف ول< لا ا ه ي ف ع ت ت ا ما ل راص عب لا ن’ ا م ه وج م ار+ ب< ا ما م ع م ج ل ا ا هذ ب ام ق+ ث ي حذ ل م وا ي ذ ق ل ا ي ف ف ل< ؤ م ل ق بس ي م ل ق ي م لا س لا م ا ل عا ل ا ي ف ذة< ساب ل ا ث ل ما د ك ع ي ؤر ب ل ر وا+ ش لن ا وق س ي ف ول< لا ؤ ا ه اب ت لك ا ا ن’ هذ ا ق لك ن’ د م م غ ر ل ا ذ، ب ت ل ق ت ل ذ ا ت ف ن م ق ل ط ن م ر ج ج ه ب ن م. ءاب صا ح لام وا ا رق< لا ا ى ل و< لا ا عه ت لط ا ذمه ق م ذمه ق م ف ل< ؤ م ل ا ى ل و< لا ا عه ت لط ا ذمه ق م اب ق ي ر ع ي م ي ح ر ل ن’ ا م ج ر ل له ا م الس ي له مذ ل ج ل ن’ ا ارة ق غ ت س ي ه و ي ي ع ت س ي و مذة ج ن، له ل ص م لا ق له هذة ال ب ن م ا . ت ل ما ع< ا اب< ت سي ن م ا و ت س ق ي< رو ا و+ س ن م له ال ب ؤد غ ي، له ي ال ضل وله ، س ذة ور ت ع مذا ج م ن< هذ ا+ ش< له ، وا ك ري+ شه وخذة لا ل ال لا< له ا ان’ لا هذ ا+ ش< له . وا ذ هادي ح ن ن ل ق ل ل ص ي ن م و ن’. ي وم الذ ي ى ل ه ا هذي ب ذي ت ه ن’ ا م ه و ي ح ص له و« ي ا عل ه و ي عل م سل و

Upload: petoeah

Post on 26-Jul-2015

235 views

Category:

Documents


22 download

DESCRIPTION

Dr. Yusuf Qardawy book about Halal and Haram in Islam.

TRANSCRIPT

Page 1: الحلال والحرام في الإسلام

الحالل والحرام فياإلسالم

هذا الكتاب جزء من سلسلة "الفقه وأصوله" التي ألف فيها القرضاوي ما يزيد على عشرين كتابا3، ويعتبر هذا الكتاب األول في جمع شتات )الحالل

والحرام (في اإلسالم في كتاب خاص دون التقيد بمذهب فقهي من المذاهب الفقهية السائدة في العالم اإلسالمي فلم يسبق لمؤلف في القديم والحديث قام بهذا الجمع مما أثار موجة من اإلعتراض لما اتبع فيه من نهج حر منطلق من قيد التقليد، بالرغم من ذلك فإن هذا الكتاب هو األول في سوق النشر

والتوزيع كما دلت األرقام واإلحصاءات .

مقدمة الطبعة األولى

المؤلف مقدمة مقدمة الطبعة األولى تعريفات

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم  

، نعوذ بالله من شورو أنفسنا ومن ، نحمده ونستعينه ونستغفره إن الحمد لله سيئات أعمالنا . من يهده الله فال مضل له ومن يضلل فلن تجد هادي له .

وأشهد ان ال إله أال الله وحده ال شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

وبعد ،

فهذه هي الطبعة السادسة من هذا الكتاب ، الذي أسأل الله أن ينفع به مؤلفه وناشره وقارئه . وإن "يكيفوا" سولكهم وفقا ألحكامه ، غير مبالين باألفكار

الدخيلة ، والمذاهب المستوردة .

ويزيد من قيمة هذا اإلقبال أن جهودا جبارة تبذل ، وأمواال طائلة ترصد ، وطاقات هائلة تجمد ،من القوى المعادية لإلسالم على اختالف أهدافها

وطرائقها ، وتعدد ألوانها وأسمائها ، للصد عن سبيل هذا الدين ، وتعويق الدعوة إليه، وقطع الطريف على دعاته ، وإثارة الشبهات واألكاذيب من حوله ، وتشويه عقيدته وشريعته وحضارته وتاريخه ، يريدون أن ترتد الشعوب المسلمة عن دينها ، كما ارتد كثير من حكامها الذين اتخذوا القرآن مهجورا ، واتخذوا غير

اإلسالم منهجا ، وغير محمد صلى الله عليه وسلم إماما .

فإذا أخفقت هذه المحاوالت الجهنمية المخططة المدعومة فينا هدفت إليه من تكفير الجماهير المسلمة ، وراج -مع هذا كله- الكتاب اإلسالمي ، بل ظل هو

Page 2: الحلال والحرام في الإسلام

الكتاب األول في سوق النشر والتوزيع ، كما تدل األرقام واإلحصاءات ، على حين تظهر كتب كثيرة موجهة ، تنفق عليها دول ومؤسسات كبيرة عشرات

األلوف ومئاتها ، فال تنفق لها سوق ، وال تجد لها قبوال ، فهذا ما نسر له ونحمدالله تعالى عليه .

أجل ، إنها نعمة الله يجب أن نتلقاها بالحمد والشكر . فإن معناها أن جماهيرنا المسلمة ال تزال بخير ، وأنما الفساد واالنحراف في القيادات العميلة الفروضة

عليها . وهي قيادات مصيرها حتما إلى الزوال .

ومما يسرني كذلك أن جماعة من إخواننا الباكستانيين واألتراك بعثوا إلي يستاذنونني في ترجمة الكتاب على األوردية والتركية ، فلم أتردد في اإلذن لهم

. فإن اختالف اللغات ال يجوز أن يقف مانعا دون التبادل الفكري بين المسلمين ، الذي هو إحدى الخطوات الالزمة في طريق الوحدة اإلسالمية

المنشودة .

وقد تميزت هذه الطبعة بأن جعل المكتب اإلسالمي أرقام األحاديث واألثار التي عني بتخريجها المحدث الشيخ ناصر الدين األلباني على هامش الكتاب ، ليسهل

الرجوع إليها بعد طبع التخريج . فجزى الله الشيخ األلباني وصاحب المكتباإلسالمي خيرا عن عملهما .

فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا الله . ) ربنا ال تزغقلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (.

يوسف القرضاوي                                                                            

مقدمة الطبعة األولى

بسم الله الرحمن الرحيم

أبلغتني اإلدارة العامة للثقافة اإلسالمية باألزهر الشريف، رغبة مشيخة الجامع األزهر أن ساهم في مشروع علمي يتضمن تأليف كتب أو كتيبات مبسطة، تترجم إلى اللغة اإلنجليزية، للتعريف باإلسالم وتعاليمه في أوروبا وأمريكا

تبصرة للمسلمين هناك، ودعوة لغير المسلمين.

والحق أن مشروع هذه الكتب والكتيبات مشروع نبيل الهدف، جليل الشأن، وكان من الواجب أن يتحقق منذ زمن بعيد. فالمسلمون في أوروبا وأمريكا ال

يعرفون من اإلسالم إال أقل القليل، وهذا القليل لم يسلم من المسخ والتشويه ومن وقت قريب كتب إلينا صديق أزهري مبعوث إلى والية من الواليات المتحدة يقول: إن معظم المسلمين في هذه الوالية يتكسبون من فتح البارات والتجارة

في الخمور، وال يشعرون أن ذلك من أكبر المحرمات في اإلسالم.

ويقول: إن الرجال المسلمين يتزوجون بمسيحيات ويهوديات -ربما بوثنيات-ويتركون بنات المسلمين يتعرضن للكساد، ويفعلون ويفعلون.

وإذا كان هذا شأن المسلمين فما بالك بغير المسلمين؟ إنهم ال يعرفون إال صورة دميمة الوجه، شائهة الخلقة عن اإلسالم ورسول اإلسالم، وأتباع اإلسالم.

صورة تعمل الدعايات التبشيرية واالستعمارية المسمومة على تثبيتها وزيادة تشويهها، باذلة في ذلك كل جهد، سالكة كل سبيل. في الوقت الذي نحن فيه

Page 3: الحلال والحرام في الإسلام

عن هذا غافلون وفي غمرة ساهون.

أما وقد آن األوان للبدء في هذا المشروع، وتحقيق هذا األمل الذي توجبه الدعوة إلى اإلسالم، وتلح في القيام به، فإنها لخطوة مباركة جديرة أن نحيي القائمين على رعايتها وتنفيذها في األزهر وخارجه، طالبين منهم المزيد من

هذه العناية، راجين لهم دوام التوفيق.

هذا وقد كان الموضوع الذي عهدت إلي إدارة الثقافة أن أكتب فيه هو: )الحالل والحرام في اإلسالم( وأوصت في كتبها إلي أن يراعى في الكتابة التبسيط،

وسهولة اإلقناع، والمقارنة مع األديان والثقافات األخرى.

وربما موضوع )الحالل والحرام( سهال ألول وهلة، ولكنه في الواقع صعب المرتقى، فلم يسبق لمؤلف في القديم أو الحديث أن جمع شتات هذا الموضوع

في كتاب خاص. ولكن الدارس يجد أجزاءه موزعة في أبواب الفقه اإلسالميكلها، وبين ثنايا كتب التفسير والحديث النبوي.

ثم إن موضوعا كهذا يضطر الكاتب إلى أن يحدد موقفه من أمور كثيرة اختلففي حكمها علماؤنا القدامى، واضطربت فيها وفي تعليلها آراء المحدثين.

وترجيح رأي على غيره في مسائل الحالل والحرام يحتاج إلى أناة وطول بحثومراجعة، بعد أن يتجرد الباحث لله في طلب الحق، جهد اإلنسان.

وقد رأيت معظم الباحثين العصريين في اإلسالم والمتحدثين عنه يكادونينقسمون إلى فريقين:

فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية، وراعهم هذا الصنم الكبير، فتعبدوا له، وقدموا إليه القرابين ووقفوا أمامه خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، هؤالء

الذين اتخذوا مبادىء الغرب وتقاليده قضية مسلمة ال تعارض وال تناقش، فإن وافقها اإلسالم في شيء هللوا وكبروا، وإن عارضها في شيء وقفوا يحاولون

التوفيق والتقريب، أو االعتذار والتبرير، أو التأويل والتحريف، كأن اإلسالم مفروض عليه أن يخضع لمدنية الغرب وفلسفته وتقاليده. ذلك ما نلمسه في

حديثهم عما حرم اإلسالم من مثل: التماثيل واليانصيب والفوائد الربوية والخلوة باألجنبية، وتمرد المرأة على أنوثتها، وتحلي الرجل بالذهب والحرير …

)الخ( ما نعرف. وفي حديثهم عما أحل اإلسالم من مثل: الطالق وعدد الزوجات.. كأن الحالل في نظرهم ما أحله الغرب والحرام ما حرمه الغرب. ونسوا أن اإلسالم كلمة الله، وكلمة الله هي العليا دائما، فهو يتبع وال يتبع،

ويعلو وال يعلى، وكيف يتبع الرب العبد، أم كيف يخضع الخالق ألهواء المخلوقين؟ )ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات واألرض ومن فيهن(

. )قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق.71المؤمنون: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن ال يهدي إال أن يهدى؟ فما لكم كيف

.35تحكمون( يونس:

هذا فريق. والفريق الثاني جمد على آراء معينة في مسائل الحالل والحرام. تبعا لنص أو عبارة في كتاب، وظن ذلك هو اإلسالم، فلم يتزحزح عن رأيه قيد

شعرة، ولم يحاول أن يمتحن أدلة مذهبه أو رأيه، ويوزنها بأدلة اآلخرينويستخلص الحق بعد الموازنة والتمحيص.

فإذا سئل عن حكم الموسيقى أو الغناء أو الشطرنج أو تعليم المرأة أو إبداء

Page 4: الحلال والحرام في الإسلام

وجهها وكفيها أو نحو ذلك من المسائل، كان أقرب شيء إلى لسانه أو قلمه كلمة )حرام( ونسي هذا الفريق أدب السلف الصالح في هذا، حيث لم يكونوا

يطلقون الحرام إال على ما علم تحريمه قطعا. وما عدا ذلك قالوا: فيه نكره، أوال نحب، أو نحو هذه العبارات.

وقد حاولت أال أكون واحدا من الفريقين.

فلم أرض لديني أن أتخذ الغرب معبودا لي، بعد أن رضيت بالله ربا، وباإلسالمدينا، وبمحمد رسوال.

ولم أرض لعقلي أن أقلد مذهبا معينا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب، فإن المقلد -كما قال ابن الجوزي- )على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد

إبطال منفعة العقل، ألنه خلق للتأمل والتدبر. وقبيح بمن أعطي شمعةيستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة(.

أجل، لم أحاول أن أقيد نفسي بمذهب فقهي من المذاهب السائدة في العالم اإلسالمي ذلك أن الحق ال يشتمل عليه مذهب واحد. وأئمة هذه المذاهب

المتبوعة لم يدعوا ألنفسهم العصمة، وإنما هم مجتهدون في تعرف الحق، فإنأخطؤوا فلهم أجر، وأن أصابوا فلهم أجران.

قال اإلمام مالك: )كل أحد يؤخذ من كالمه ويترك إال النبي صلى الله عليه وسلم(. وقال اإلمام الشافعي: )رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ

يحتمل الصواب(.

وغير الئق بعالم مسلم يملك وسائل الموازنة والترجيح أن يكون أسير مذهب واحد، أو خاضعا لرأي فقيه معين. بل الواجب أن يكون أسير الحجة والدليل. فما صح دليله وقويت حجته، فهو أولى باإلتباع. وما ضعف سنده، ووهت حجته، فهو

مرفوض مهما يكن من قال به، وقديما قال اإلمام علي رضي الله عنه: )التعرف الحق بالرجال، بل أعرف الحق تعرف أهله(.

وقد حاولت أن أراعي ما طلبته إدارة الثقافة قدر ما استطعت، فعنيت بالتدليل والتعليل والموازنة، مستعينا بأحدث األفكار العلمية والمعارف العصرية. وقد

كان جانب اإلسالم والحمد لله مشرقا وضاء يحمل الدليل الناصع، على أنه دين.138اإلنسانية العام الخالد )صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة( البقرة:

والحالل والحرام معروف في كل أمة من قديم، وإن اختلفوا في مقدار المحرمات وفي نوعها، وفي أسبابها، وكان الكثير منها مرتبطا بالمعتقدات

والخرافات واألساطير.

ثم جاءت األديان السماوية الكبرى بتشريعات ووصايا عن الحالل والحرام ارتفعت باإلنسان من مستوى الخرافات واألساطير والحياة القبلية إلى مستوى إنساني كريم، ولكنها كانت في بعض ما أحلت وحرمت مناسبة لعصرها وبيئتها،

متطورة بتطور اإلنسان، وتغير األحوال واألزمان. فكان في اليهودية مثال محرمات مؤقتة عاقب الله بها بني إسرائيل على بغيهم، فلم تكن تشريعا قصد به الخلود ولهذا ذكر القرآن قول المسيح لبني إسرائيل: )ومصدقا لما بين يدي

.50من التوراة وألحل لكم بعض الذي حرم عليكم(. آل عمران:

فلما جاء اإلسالم كانت البشرية قد بلغت أشدها، وصلحت ألن ينزل الله عليها

Page 5: الحلال والحرام في الإسلام

رسالته األخيرة، فختم تشريعه للبشر بشريعة اإلسالم الخالدة. وفي هذا نقرأ قوله سبحانه بعد أن ذكر ما حرم من األطعمة في سورة المائدة )اليوم أكملت

.3لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا( المائدة:

وفكرة اإلسالم في الحالل والحرام فكرة بسيطة واضحة. إنها جزء من األمانة الكبيرة التي أبت السماوات واألرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها

اإلنسان. أمانة التكاليف اإللهية واحتمال مسؤولية الخالفة في األرض، تلك المسؤولية التي على أساسها يثاب اإلنسان ويعاقب، ومن أجلها منح العقل

واإلرادة وبعثت له الرسل، وأنزلت الكتب، فليس له أن يسأل: لم كان الحالل والحرام؟ ولم أترك طليق العنان؟ فهذا من تتمة االبتالء الذي خص به المكلفون وتميز به هذا النوع من مخلوقات الله الذي ليس روحا خالصة كالملك، وال شهوة خالصة كالبهيمة، وإنما هو شيء وسط، يستطيع أن يرتقي فيكون كالمالئكة، أو

خيرا وأفضل، وأن يهبط فيكون كاألنعام أو أضل سبيال.

ومن جهة أخرى فإن الحالل والحرام يدور في فلك التشريع اإلسالمي العام وهو تشريع قائم على أساس تحقيق الخير للبشر، ودفع الحرج والعنت عنهم، وإرادة اليسر بهم. يقوم على درء المفسدة وجلب المصلحة، مصلحة اإلنسان

كله، جسمه وروحه وعقله، ومصلحة الجماعة كلها، أغنياء وفقراء وحكاما ومحكومين، ورجاال ونساء، ومصلحة النوع اإلنساني كله، بمختلف أجناسه

وألوانه، وفي شتى أقطاره وبلدانه، وفي كل عصوره وأجياله.

فقد جاء هذا الدين رحمة إلهية شاملة لعباد الله في آخر طور من أطوار اإلنسانية. وأعلن ذلك لرسوله فقال:)وما أرسلناك إال رحمة للعالمين( األنبياء

. وقال رسوله: )إنما أنا رحمة مهداة( 107

وكان من آثار هذه الرحمة أن وضع الله عن هذه األمة الخاتمة كل آصار التعنت والتشديد، وأوزار اإلباحية والتحلل، التي أدخلها الوثنيون والكتابيون على

الحياة، فحرموا الطيبات وأحلوا الخبائث قال تعالى: )ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي األمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة واإلنجيل، ويأمرهم

بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث،.156ويضع عنهم إصرهم واألغالل التي كانت عليهم( األعراف:

وكان دستور اإلسالم في الحالل والحرام يتمثل في هاتين اآليتين اللتين صدرنا بهما هذا الكتاب )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(

. )قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واإلثم،32األعراف: والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على

.33الله ما ال تعلمون( األعراف:

وبعد فأعتقد أن أهمية موضوع الحالل والحرام تجعل هذا الكتاب على صغره يسد فراغا في مكتبة المسلم الحديثة ويحل مشكالت كثيرة تعرض المسلم في

حياته الشخصية واألسرية والعامة ويجيب على أسئلته الكثيرة: ماذا يحل لي؟وماذا يحرم علي؟ وما حكمة تحريم هذا، وإباحة ذاك؟

وال يسعني في ختام هذه المقدمة إال أن أشكر لمشيخة األزهر وإدارة الثقافةاإلسالمية ما أولياني من ثقة باختياري للكتابة في هذا الموضوع البكر.

Page 6: الحلال والحرام في الإسلام

وأرجو أن أكون بما كتبت قد أديت ضريبة الثقة، وحققت الغرض المنشود.

والله تعالى أسأل أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يرزقنا السداد في القول والعمل،ويجنبنا شطط الفكر والقلم، وأن يهيء لنا من أمرنا رشدا، إنه سميع الدعاء.

هـ1380صفر الخير م1960آب

يوسف القرضاوي

تعريفات

الحالل: هو المباح الذي انحلت عنده عقدة الحظر، وأذن الشارع في فعله.

الحرام: هو األمر الذي نهى الشارع عن فعله نهيا جازما، بحيث يتعرض من خالف النهي لعقوبة الله في اآلخرة، وقد يتعرض لعقوبة شرعية في الدنيا

أيضا.

المكروه: إذا نهى الشارع عن شيء ولكنه لم يشدد في النهي عنه فهذا الشيء يسمى )المكروه( وهو أقل من الحرام في رتبته وليس على مرتكبه عقوبة

كعقوبة الحرام، غير أن التمادي فيه، واالستهتار به من شأنه أن يجرىء صاحبهعلى الحرام.

مقدمة كان أمر الحالل والحرام كغيره من األمور التي ضل فيها أهل الجاهلية ضالال بعيدا، واضطربوا في شأنها اضطرابا فاحشا فأحلوا الحرام الخبيث، وحرموا

الحالل الطيب، يستوي في ذلك الوثنيون وأهل الملل الكتابية. وكان هذا الضالل يمثل االنحراف والتطرف في أقصى اليمين، أو االنحراف

والتطرف في أقصى اليسار. ففي أقصى اليمين وجدت البرهمية الهندية القاسية، والرهبانية المسيحية

العاتية، وغيرها من المذاهب التي تقوم على تعذيب الجسد، وتحريم الطيبات من الرزق، وزينة الله التي أخرج لعباده. وقد بلغت الرهبانية المسيحية ذروة عتوها في القرون الوسطى، وبلغ تحريم الطيبات أشده عند هؤالء الرهبان الذين كانوا يعدون باأللوف، حتى جعل بعضهم غسل الرجلين إثما، ودخول

الحمام شيئا يجلب األسف والحسرة. وفي أقصى اليسار وجد مذهب )مزدك( الذي ظهر في فارس، ينادي باإلباحة المطلقة، ويطلق العنان للناس ليأخذوا كل شيء، ويستبيحوا كل شيء، حتى

األعراض والحرمات المقدسة عند الناس. وكانت أمة العرب في الجاهلية مثال واضحا على اختالل مقاييس التحليل

والتحريم بالنسبة لألشياء واألعمال، فاستباحوا شرب الخمر وأكل الربا أضعافا مضاعفة، ومضارة النساء وعضلهن، و… وأكثر من ذلك أن شياطين اإلنس

والجن زينوا لكثير منهم قتل أوالدهم وفلذات أكبادهم، فأطاعوهم. وخالفوا نوازع األبوة في صدورهم كما قال تعالى: )وكذلك زين لكثير من المشركين

.137قتل أوالدهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم( سورة األنعام: وقد سلك هؤالء الشركاء من سدنة األوثان وأشباههم مسالك عدة في تزيين

هذا القتل لآلباء، فمنها: اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع، ومنها: خشية العار

Page 7: الحلال والحرام في الإسلام

واالحتراز منه إذا كان المولود بنتا، ومنها: التقرب إلى اآللهة بنحر األوالد،وتقديمها قربانا إليها.

ومن العجب أن هؤالء الذين استحلوا قتل أوالدهم ذبحا أو وأدا حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات من حرث وأنعام، واألعجب أنهم جعلوا هذا من

أحكام الدين، فنسبوه إلى الله تعالى حكما وديانة، فرد الله عليهم هذه النسبة المفتراة )وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ال يطعمها إال من نشاء -بزعمهم-

وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام ال يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، سيجزيهم.138بما كانوا يفترون( سورة األنعام:

وقد بين القرآن ضاللة هؤالء الذين أحلوا ما يجب أن يحرم، وحرموا ما ينبغي أن يحل، فقال: )قد خسر الذين قتلوا أوالدهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم

.140الله افتراء على الله. قد ضلوا وما كانوا مهتدين( سورة األنعام: جاء اإلسالم فوجد هذا الضالل واالنحراف في التحريم والتحليل، فكان أول ما

صنعه إلصالح هذا الجانب الخطير من التشريع أن وضع جملة من المبادئ التشريعية، جعلها الركائز التي يقوم عليها الحالل والحرام، فرد األمور إلى

نصابها، وأقام الموازين القسط، وأعاد العدل والتوازن فيما يحل وما يحرم. وبذلك كانت أمة اإلسالم بين الضالين والمنحرفين -يمينا أو شماال- أمة وسطا،

كما وصفها الله الذي جعلها، خير أمة أخرجت للناس.

كتاب الحالل والحرام في اإلسالممقدمة الطبعة األولى

الباب األول - مبادئ اإلسالم في شأن الحالل والحرام

التحايل على الحرام حرامالنية الحسنة ال تبرر الحرام

اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرامال محاباة وال تفرقة في المحرمات

الضرورات تبيح المحظوراتمقدمة

األصل في األشياء اإلباحةالتحليل والتحريم حق الله وحده

تحريم الحالل وتحليل الحرام قرين الشرك باللهالتحريم يتبع الخبث والضرر

في الحالل ما يغني عن الحرام

Page 8: الحلال والحرام في الإسلام

ما أدى إلى الحرام فهو حرامالباب الثاني - الحالل والحرام في الحياة الشخصية للمسلم

في األطعمة واألشربة

مقدمةالذكاة الشرعية

الصـيدالخمر

المخدراتفي الملبس والزينة

مقدمةالذهب.. والحرير

لباس المرأة المسلمةتغيير خلق الله

في البيت

مقدمةالذهـب.. والفضة

التماثيلالصور الفوتوغرافية

اقتناء الكالبفي الكسب واالحتراف

مقدمةالزراعــة

التجارةالصناعات والحرف

االشتغال بالوظائفقاعدة عامة في مسائل الكسب

الباب الثالث - الحالل والحرام في الزواج وحياة األسرة

في مجال الغريزةفي الزواج

في العالقة بين الزوجينفي تحديد النسل

في الطالقبين الوالدين واألوالد

الباب الرابع :الحالل والحرام في الحياة العامة للمسلم

في المعتقدات والتقاليدفي المعامالت

بيع األشياء المحرمة حرامبيع الغرر محظورالتالعب باألسعار

المحتكر ملعونالتدخل المفتعل في حرية السوق

السمسرة حاللاالستغالل والخداع التجاري حرام

من غشنا فليس مناكثرة الحلف

تطفيف الكيل والميزانشراء المنهوب والمسروق مشاركة للناهب والسارق

تحريم الرباحكمة تحريم الربامؤكل الربا وكاتبه

الرسول يستعيذ بالله من الدينالبيع ألجل مع زيادة الثمن

السلمتعاون العمل ورأس المال

Page 9: الحلال والحرام في الإسلام

اشتراك أصحاب رؤوس األموالشركات التأمين

هل هي مؤسسات تعاونيةتعديالت

نظام التأمين اإلسالمياستغالل األرض الزراعية

المزارعة على األرضالمزارعة الفاسدة

إجارة األرض بالنقودالقياس يقتضي منع اإلجارة بالنقد

الشركة في تربية الحيوانفي اللهو والترفيه

في العالقات االجتماعيةعالقة المسلم بغير المسلم

الخاتمة

التحايل على الحرام حرام وكما حرم اإلسالم كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة، حرم

التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية، والحيل الشيطانية. وقد نعى على اليهود ما صنعوه من استباحة ما حرم الله بالحيل، وقال عليه السالم: "ال

ترتكبوا ما ارتكب اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"

وذلك أن اليهود حرم الله عليهم الصيد في السبت، فاحتالوا على هذا المحرم، بأن حفروا الخنادق يوم الجمعة، لتقع فيها الحيتان يوم السبت، فيأخذوها يوم

األحد. وهذا عند المحتالين جائز، وعند فقهاء اإلسالم حرام، ألن المقصود الكفعما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة.

ومن الحيل اآلثمة تسمية الشيء بغير اسمه، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته. وال ريب أنه ال عبرة بتغيير االسم إذا بقي المسمى وال بتغيير الصورة إذا بقيت

الحقيقة.

فإذا اخترع الناس صورا يتحايلون بها على أكل الربا الخبيث أو استحدثوا أسماء للخمر يستحلون بها شربها، فإن اإلثم في الربا أو الخمر باق الزم. وفي

الحديث: "ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها".

"يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع".

ومن غرائب عصرنا أن يسمى الرقص الخليع )فنا( والخمور )مشروبات روحية(والربا )فائدة( وهكذا.

النية الحسنة ال تبرر الحرام واإلسالم يقدر البواعث الكريمة، والقصد الشريف والنية الطيبة، في تشريعاته

وتوجيهاته كلها، والنبي يقول "إنما األعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وبالنية الطيبة تستحيل المباحات والعادات إلى طاعات و قربات إلى الله فمن

Page 10: الحلال والحرام في الإسلام

تناول غذاءه بنية حفظ الحياة، وتقوية الجسد، ليستطيع القيام بواجبه نحو ربهوأمته، كان طعامه وشرابه عبادة قربة.

ومن أتى شهوته مع زوجه بقصد ابتغاء الولد أو إعفاف نفسه وأهله كان ذلك عبادة تستحق المثوبة، وفي ذلك يقول النبي عليه السالم "وفي بضع أحدكم

صدقة. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته يا رسول الله ويكون له فيها أجر؟ قال: أليسإن وضعها في حرام كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حالل كان له أجر".

"ومن طلب الدنيا حالال تعففا عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفا علىجاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر".

وهكذا كل عمل مباح يقوم به المؤمن، يدخل فيه عنصر النية، فتحيله إلى عبادة. أما الحرام فهو حرام مهما حسنت نية فاعله، وشرف قصده، ومهما كان

هدفه نبيال، وال يرضى اإلسالم أبدا أن يتخذ الحرام وسيلة إلى غاية محمودة، ألن اإلسالم يحرص على شرف الغاية وطهر الوسيلة معا. وال تقر شريعته بحال

مبدأ )الغاية تبرر الوسيلة( أو مبدأ )الوصول إلى الحق بالخوض في الكثير منالباطل( بل توجب الوصول إلى الحق عن طريق الحق وحده.

فمن جمع ماال من ربا أو سحت أو لهو حرام أو قمار أو أي عمل محظور، ليبني .. لم يشفع له نبل مقصده، فيرفعبه مسجدا أو يقيم مشروعا خيريا، أو.. أو

عنه وزر الحرام، فإن الحرام في اإلسالم ال يؤثر فيه المقاصد والنيات.

هذا ما علمه لنا رسول الله حين قال: "إن الله طيب ال يقبل إال طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: )يا أيها الرسل كلوا من الطيبات

. وقال: )يا أيها الذين51واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم( سورة المؤمنون: . ثم ذكر الرجل يطيل172آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم( سورة البقرة:

السفر أشعث أغبر )ساعيا للحج والعمرة ونحوهما( يمد يديه إلى السماء "يا رب يا رب" ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى

يستجاب لذلك؟!".

ويقول: "من ماال من حرام ثم تصدق به، لم يكن فيه أجر، وكان إصره عليه". ويقول: "ال يكسب عبد ماال حراما، فيتصدق به فيقبل منه، وال ينفق منه فيبارك

له فيه، وال يتركه خلف ظهره إال كان زاده إلى النار. إن الله تعالى ال يمحوالسيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. إن الخبيث ال يمحو الخبيث".

اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام ومن رحمة الله تعالى بالناس أنه لم يدعهم في غمة من أمر الحالل و الحرام، بل بين الحالل وفصل الحرام، كما قال تعالى: )وقد فصل لكم ما حرم عليكم(

. 119سورة األنعام:

فأما الحالل البين فال حرج في فعله. وأما الحرام البين فال رخصة في إتيانه -في حالة االختيار.

وهناك منطقة بين الحالل البين والحرام البين، هي منطقة الشبهات التي يلتبس فيها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس، إما الشتباه األدلة عليه، وإما

لالشتباه في تطبيق النص على هذه الواقعة أو هذا الشيء بالذات.

Page 11: الحلال والحرام في الإسلام

وقد جعل اإلسالم من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات، حتى ال يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف. وهو نوع من سد الذرائع الذي تحدثنا

عنه. ثم هو كذلك لون من التربية البعيدة النظر، الخبيرة بحقيقة الحياةواإلنسان.

وأصل هذا المبدأ قول الرسول عليه الصالة والسالم: "الحالل بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات، ال يدري كثير من الناس: أمن الحالل هي أم من

الحرام؟ فمن تركها استبراءا لدينه وعرضه فقد سلم، ومن واقع شيئا منها يوشك أن يواقع الحرام، كما أن من يرعى حول الحمى )وهو مكان محدود

يحجزه السلطان لترعى فيه أنعامه وحدها ويحجر على غيرها أن تنال منه شيئا(أوشك أن يواقعه. أال وإن لكل ملك حمى. أال وإن حمى الله محارمه".

ال محاباة وال تفرقة في المحرمات الحرام في شريعة اإلسالم يتسم بالشمول واالطراد، فليس هناك شيء حرام

على العجمي حالل للعربي وليس هناك شيء محظور على األسود مباح لألبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لطبقة أو طائفة من الناس تقترف باسمه ما طوع لها الهوى باسم أنهم كهنة أو أحبار أو ملوك أو نبالء. بل ليس للمسلم

خصوصية تجعل الحرام على غيره حالال له. كال، إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فيما أحل الله بشريعته فهو حالل للناس كافة، وما حرم فهو حرام

على الجميع إلى يوم القيامة.

السرقة مثال حرام، سواء أكان السارق مسلما أم غير مسلم، وسواء أكان المسروق منه مسلما أو غير مسلم، والجزاء الزم للسارق أيا كان نسبه أو مركزه، وهذا ما صنعه الرسول وما أعلنه "وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت

محمد لقطعت يدها".

ولقد حدث في زمن الرسول أن ارتكبت سرقة حامت فيها الشبهة حول يهودي ومسلم، واستطاع بعض أقرباء المسلم أن يثيروا الغبار حول اليهودي ببعض

القرائن ويبعدوا التهمة عن صاحبهم المسلم -وهو في الواقع مرتكب السرقة- حتى هم النبي أن يخاصم عنه، اعتقادا ببراءته فنزل الوحي اإللهي يفضح

الخونة، ويبرئ اليهودي، ويعاتب الرسول، ويضع الحق في نصابه، وذلك قوله سبحانه: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله وال تكن

للخائنين خصيما. واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما. وال تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله ال يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس وال يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما ال يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم هؤالء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله

.109، 105عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيال؟( سورة النساء:

لقد زعمت اليهودية المحرفة أن الربا حرام على اليهودي إذا أقرض أخاه اليهودي أما غير اليهودي فال بأس بإقراضه بالربا، هكذا يقول سفر تثنية

( "أال تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما33:19االشتراع )( لألجنبي تقرض بربا، ولكن ألخيك ال تقرض بربا.." 20يقرض بربا )

وقد حكى القرآن عنهم مثل هذه النزعة، حيث استباحوا الخيانة مع غير أبناء جنسهم وملتهم، ولم يروا في ذلك حرجا وال إثما. وفي ذلك يقول القرآن:

)ومنهم من إن تأمنه بدينار ال يؤده إليك ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا:

Page 12: الحلال والحرام في الإسلام

ليس علينا في األميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون( سورة آل . نعم يقولون على الله الكذب، ألن شريعته ال تفرق بين قوم وقوم،75عمران:

وقد حرم الخيانة على لسان رسله وأنبيائه.

ويؤسفنا أن هذه النزعة اإلسرائيلية نزعة همجية بدائية، ال تليق أن تنسب إلى دين سماوي، فإن األخالق الفاضلة بل األخالق الحقة هي التي تتسم باإلطالق

والشمول، فال تحل لهذا ما تحرم على ذاك. والفرق بيننا وبين البدائيين إنما هو اتساع الدائرة الخلقية ال في وجودها وعدمها، فاألمانة مثال كانت عندهم خصلة

محمودة، ولكنها خاصة بأبناء القبيلة بعضهم مع بعض، فإذا خرج األمر عن نطاقالقبيلة أو العشيرة جازت الخيانة بل استحبت أو وجبت.

قال صاحب )قصة الحضارة(: )إن كل الجماعات البشرية تقريبا تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأن سائر الجماعات أحط منها، فالهنود األمريكيون يعدون

أنفسهم شعب الله المختار، خلقهم "الروح األعظم" خاصة ليكونوا مثاال يرتفع إليه البشر. وقبيلة من القبائل الهندية تطلق على نفسها )الناس الذين ال ناس

سواهم( وأخرى تطلق على نفسها )الناس بين الناس( وقال الكاربيون )نحن وحدنا الناس( … ونتيجة ذلك أن اإلنسان البدائي لم يكن يدور في خلده أن

يعامل القبائل األخرى ملتزما نفس القيود الخلقية التي يلتزم في معاملته لبني قبيلته، فهو صراحة يرى أن وظيفة األخالق هي تقوية جماعته، وشد أزرها تجاه سائر الجماعات، فاألوامر الخلقية والمحرمات ال تنطبق إال على أهل قبيلته، أما

اآلخرون فما لم يكونوا ضيوفه، فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحدالمستطاع(.

الضرورات تبيح المحظورات ضيق اإلسالم دائرة المحرمات، ولكن بعد ذلك شدد في أمر الحرام، وسد الطرق

المفضية إليه، ظاهرة أو خفية، فما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أعان على الحرام فهو حرام، وما احتيل به على الحرام فهو حرام. إلى آخر ما ذكرناه من مبادئ وتوجيهات. بيد أن اإلسالم لم يغفل عن ضرورات الحياة وضعف اإلنسان

أمامها، فقدر الضرورة القاهرة، وقدر الضعف البشري وأباح للمسلم -عندضغط الضرورة- أن يتناول من المحرمات ما يدفع عنه الضرورة ويقيه الهالك.

ولهذا قال الله تعالى -بعد أن ذكر محرمات الطعام من الميتة والدم ولحم الخنزير- )فمن اضطر غير باغ وال عاد فال إثم عليه إن الله غفور رحيم( سورة

. وكرر هذا المعنى في أربع سور من القرآن كلما ذكر محرمات173البقرة: الطعام. ومن هذه اآليات وأمثالها قرر فقهاء اإلسالم مبدأ هاما هو: )إن

الضرورات تبيح المحظورات(.

ولكن المالحظ أن اآليات قيدت المضطر أن يكون )غير باغ وال عاد( وفسر هذا بأن يكون غير باغ للذة طالب لها، وال عاد حد الضرورة متجاوز في التشبع. من

هذا القيد أخذ الفقهاء مبدأ آخر هو: )الضرورة تقدر بقدرها( فاإلنسان وإن خضع لداعي الضرورة ال ينبغي أن يستسلم لها، ويلقي إليها بزمام نفسه، بل يجب أن يظل مشدودا إلى األصل الحالل باحثا عنه، حتى ال يستمرئ الحرام أو

يستسهله بدافع الضرورة.

واإلسالم بإباحته المحظورات عند الضرورات إنما يساير في ذلك روحه العامة، وقواعده الكلية، تلك هي روح الميسر الذي ال يشوبه عسر والتخفيف الذي وضع

Page 13: الحلال والحرام في الإسلام

به عن األمة اآلصار واألغالل التي كانت من قبلها من األمم. وصدق الله العظيم . )ما يريد الله185)يريد الله بكم اليسر وال يريد بكم العسر( سورة البقرة:

ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون( . )يريد الله أن يخفف عنكم وخلق اإلنسان ضعيفا( سورة6سورة المائدة:

.28النساء:

األصل في األشياء اإلباحة كان أول مبدأ قرره اإلسالم: أن األصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع، هو

الحل واإلباحة، وال حرام إال ما ورد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه، فإذا لم يكن النص صحيحا -كبعض األحاديث الضعيفة- أو لم يكن صريحا في الداللة

على الحرمة، بقي األمر على أصل اإلباحة.

وقد استدل علماء اإلسالم على أن األصل في األشياء والمنافع اإلباحة، بآيات القرآن الواضحة من مثل قوله تعالى: )هو الذي خلق لكم ما في األرض جميعا(

، )وسخر لكم ما في السموات واألرض جميعا منه( سورة29سورة البقرة: ، )ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في األرض وأسبغ13الجاثية:

.20عليكم نعمه ظاهرة وباطنة( سورة لقمان:

وما كان الله سبحانه ليخلق هذه األشياء ويسخرها لإلنسان ويمن عليه بها، ثميحرمه منها بتحريمها عليه، وكيف وقد خلقها له، وسخرها له، وأنعم بها عليه؟

وإنما حرم جزئيات منها لسبب وحكمة سنذكرها بعد.

ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة اإلسالم ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحالل اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجيء نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل

اإلباحة، وفي دائرة العفو اإللهي.

وفي هذا ورد الحديث "ما أحل الله في كتابه فهو حالل، وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا،

.64وتال )وما كان ربك نسيا(" سورة مريم:

وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحالل ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في

كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم" فلم يشأ عليه السالم أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة

الحالل والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ماعداه حالال طيبا.

وقال رسول الله: "إن الله فرض فرائض فال تضيعوها، وحد حدودا فال تعتدوها، وحرم أشياء فال تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فال تبحثوا

عنها".

وأحب أن أنبه هنا على أن أصل اإلباحة ال يقتصر على األشياء واألعيان، بل يشمل األفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها "العادات أو المعامالت" فاألصل فيها عدم التحريم وعدم التقيد إال ما حرمه

الشارع وألزم به. وقوله تعالى: )وقد فصل لكم ما حرم عليكم( سورة األنعام

Page 14: الحلال والحرام في الإسلام

، عام في األشياء واألفعال.119

وهذا بخالف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي ال يؤخذ إال عن طريق الوحي. وفيها جاء الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"،

وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: أال يعبد إال الله وأال يعبد الله إال بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده -كائنا من كان- فهي ضاللة ترد عليه. ألن

الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.

وأما العادات أو المعامالت فليس الشارع منشئا لها. بل الناس هم الذين أنشؤوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدال ومهذبا، ومقرا في بعض

األحيان ما خال عن الفساد والضرر منها.

قال شيخ اإلسالم ابن تيمية: "إن تصرفات العباد من األقوال واألفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول

الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها ال يثبت األمر بها إال بالشرع.

وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. األصل فيه عدم الحظر. فال يحظر منه إال ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك ألن األمر

والنهي هما شرع الله، والعبادة ال بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنهمأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟

ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن األصل في العبادات التوقيف فال يشرع منها إال ما شرعه الله وإال دخلنا في معنى قوله تعالى: )أم

.21لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله( سورة الشورى:

والعادات األصل فيها العفو، فال يحظر منها إال ما حرمه، وإال دخلنا في معنى قوله: )قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحالال( سورة

.59يونس:

وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة واإلجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم -كاألكل والشرب

واللباس- فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات باآلداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما ال بد منه، وكرهت ما ال ينبغي واستحبت ما فيه

مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.

وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة -وإن كان بعض

ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها- وما لم تحد الشريعة، فيبقون فيه علىاإلطالق األصلي".

ومما يدل على هذا األصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد اللهقال: )كنا نعزل، والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن(.

فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور وال منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع. وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله

عنهم. وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة: أال تشرع عبادة إال بشرع الله، والتحرم عادة إال بتحريم الله.

Page 15: الحلال والحرام في الإسلام

التحليل والتحريم حق الله وحده المبدأ الثاني: أن اإلسالم حدد السلطة التي تملك التحليل والتحريم فانتزعها من أيدي الخلق، أيا كانت درجتهم في دين الله أو دنيا الناس، وجعلها من حق

الرب تعالى وحده. فال أحبار او رهبان، وال ملوك أو سالطين، يملكون أن يحرموا شيئا تحريما مؤبدا على عباد الله. ومن فعل ذلك منهم فقد تجاوز حده واعتدى

على حق الربوية في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله واعتبر اتباعه هذا شركا )أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم

.21يأذن به الله( سورة الشورى:

وقد نعى القرآن على أهل الكتاب )اليهود والنصارى( الذين وضعوا سلطة التحليل والتحريم في أيدي أحبارهم ورهبانهم، فقال تعالى في سورة التوبة:

)اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إال. 31ليعبدوا إلها واحدا، ال إله إال هو، سبحانه عما يشركون( سورة التوبة:

وقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي -وكان قد دان بالنصرانية قبل اإلسالم- فلما سمع النبي هذه اآلية، قال: يا رسول الله! إنهم لم يعبدوهم. فقال: )بلى، إنهم

حرموا عليهم الحالل، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم(.

وفي رواية أن النبي عليه السالم قال تفسيرا لهذه اآلية: )أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا

حرموه(.

وال زال النصارى يزعمون أن المسيح أعطى تالمذته -عند صعوده إلى السماء- )الحق18:18تفويضا بأن يحللوا ويحرموا كما يشاؤون، كما جاء في إنجيل متى

أقول لكم، كل ما تربطونه على األرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على األرض يكون محلوال في السماء(. كما نعى على المشركين الذين

حرموا وحللوا بغير إذن من الله.

قال تعالى: )قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحالال، قل.59الله أذن لكم أم على الله تفترون( سورة يونس:

وقال سبحانه )وال تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حالل وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب ال يفلحون( سورة

.116النحل:

ومن هذه اآليات البينات، واألحاديث الواضحات عرف فقهاء اإلسالم معرفة يقينية أن الله وحده هو صاحب الحق في أن يحل ويحرم، في كتابه أو على لسان رسوله وأن مهمتهم ال تعدوا بيان حكم الله فيما أحل وما حرم )وقد

. وليست مهمتهم التشريع الديني119فصل لكم ما حرم عليكم( سورة األنعام: للناس فيما يجوز لهم وما ال يجوز. وكانوا -مع إمامتهم واجتهادهم- يهربون من

الفتيا، ويحيل بعضهم على بعض، خشية أن يقعوا -خطأ- في تحليل حرام أوتحريم حالل.

روى اإلمام الشافعي في كتابه )األم( عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حالل وهذا حرام إال ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بال تفسير. حدثنا ابن

Page 16: الحلال والحرام في الإسلام

السائب عن الربيع ابن خيثم -وكان من أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه! أو يقول: إن الله حرم هذا، فيقول الله: كذبت، لم أحرمه ولم أنه عنه". وحدثنا

بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا البأس به، فأما أن نقول: هذا حالل وهذا حرام فما أعظم هذا!!

هذا ما نقله أبو يوسف عن السلف الصالح، ونقله عنه الشافعي وأقره عليه، كما نقل ابن مفلح عن شيخ اإلسالم ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إال

على ما علم تحريمه قطعا.

وهكذا نجد إماما كأحمد بن حنبل يسأل عن األمر فيقول: أكرهه أو ال يعجبني،أو ال أحبه، أو ال أستحسنه.

ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر األئمة رضي الله عنهم.

تحريم الحالل وتحليل الحرام قرين الشرك بالله وإذا كان اإلسالم قد نعى على من يحرمون ويحللون جميعا، فإنه قد اختص

المحرمين بحملة أشد وأعنف، نظرا لما في هذا االتجاه من حجر على البشر وتضييق لما وسع الله عليهم بغير موجب، ولموافقة هذا االتجاه لنزعات بعض المتدينين المتنطعين. وقد حارب النبي نزعة التنطع والتشدد هذه بكل سالح،

وذم المتنطعين وأخبر بهلكتهم إذ يقول: "أال هلك المتنطعون، أال هلكالمتنطعون، أال هلك المتنطعون".

وأعلن عن رسالته فقال "بعثت بالحنيفية السمحة" فهي حنيفية في العقيدة والتوحيد، سمحة في جانب العمل والتشريع. وضد األمرين الشرك وتحريم

الحالل وهما اللذان ذكرهما النبي فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم،

وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا".

فتحريم الحالل، قرين الشرك، ولهذا شدد القرآن النكير على مشركي العرب في شركهم وأوثانهم وفي تحريمهم على أنفسهم من الطيبات من أنواع

الحرث واألنعام ما لم يأذن به الله، ومن ذلك تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فقد كانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، شقوا

أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها آللهتهم، ال تنحر وال يحمل عليها، وال تطرد عن ماء أو مرعى، وسموها )البحيرة( أي مشقوقة األذن، وكان الرجل إذا قدم من

سفر، أو برأ من مرض أو نحو ذلك سيب ناقته وخاللها، وجعلها كالبحيرة، وتسمى )السائبة(. وكانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهي

آللهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر آللهتهم، وتسمى )الوصيلة( وكان الفحل إذا لقح ولده ولده قالوا: قد حمى ظهره، فال

يركب وال يحمل عليه.. الخ، ويسمى )الحامي( وفي تفسير هذه األربعة، أقوالكثيرة تدور حول هذا المحور.

أنكر القرآن عليهم هذا التحريم، ولم يجعل لهم عذرا في تقليد آبائهم في هذا الضالل )وما جعل الله من بحيرة وال سائبة وال وصيلة وال حام، ولكن الذين

كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم ال يعقلون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم ال

Page 17: الحلال والحرام في الإسلام

.104، 103يعلمون شيئا وال يهتدون ( سورة المائدة:

وفي سورة األنعام مناقشة تفصيلية لما زعموا تحريمه من األنعام من إبل وبقر وضأن ومعز، ساقها القرآن في أسلوب تهكمي ساخر ولكنه مفحم )ثمانية

أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، قل الذكرين حرم أن األنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام األنثيين؟ نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين، ومن اإلبل اثنين

،143ومن البقر اثنين، قل آلذكرين حرم أن األنثيين؟( اآلية، سورة األنعام:144.

وفي سورة األعراف مناقشة أخرى ينكر الله فيها على المحرمين، ويبين فيهاأصول المحرمات الدائمة.

)قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق؟… قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن واإلثم والبغي يغير الحق وأن تشركوا

بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما ال تعلمون( سورة األعراف:32 ،33.

وهذه المناقشات في السور المكية التي تعنى دائما بإثبات العقيدة والتوحيد واآلخرة، تدلنا على أن هذا األمر -في نظر القرآن- ليس من الفروع والجزئيات،

وإنما هو من األصول والكليات.

وفي المدينة ظهر بين أفراد المسلمين من يميل إلى التشدد والتزمت وتحريم الطيبات على نفسه، فأنزل الله تعالى من اآليات المحكمة ما يقفهم عند حدود

الله، ويردهم إلى صراط اإلسالم المستقيم )يا أيها الذين آمنوا ال تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وال تعتدوا، إن الله ال يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم

.88-87الله حالال طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون( سورة المائدة:

التحريم يتبع الخبث والضرر من حق الله تعالى -لكونه خالقا للناس ومنعما عليهم بنعم ال تحصى- أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء -كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما

يشاء- وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا، فهذا حق ربوبيته لهم، ومقتضى عبوديتهم له. ولكنه تعالى رحمة منه بعباده، جعل التحليل والتحريم لعلل

معقولة، راجعة لمصلحة البشر أنفسهم، فلم يحل سبحانه إال طيبا، ولم يحرمإال خبيثا.

صحيح أنه تعالى قد حرم على أمة اليهود بعض أصناف من الطيبات، غير أن ذلك كان عقوبة لهم على بغيهم وانتهاكهم حرمات الله، كما قال تعالى: )وعلى

الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إال ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا

.146لصادقون( سورة األنعام:

وقد بين الله صورا من هذا البغي في سورة أخرى فقال تعالى: )فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا.وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل( سورة النساء:

160،161.

Page 18: الحلال والحرام في الإسلام

فلما بعث الله خاتم رسله بالدين العام الخالد، كان من رحمته تعالى بالبشرية - بعد أن نضجت وبلغت رشدها- أن يرفع عنها إصر التحريم الذي كان تأديبا موقتا لشعب عات، صلب الرقبة -كما وصفته التوراة- وكان عنوان الرسالة المحمدية

عند أهل الكتاب -كما ذكر القرآن- أنهم: )يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة واإلنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم

عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم واألغالل التي كانت عليهم( سورة األعراف:157.

وشرع الله لتكفير الخطيئة في اإلسالم أمورا أخرى غير تحريم الطيبات، فهناك التوبة النصوح التي تمحو الذنب كما يمحو الماء الوسخ، وهناك الحسنات الالتي

يذهبن السيئات، وهناك الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهناك المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر في

الشتاء إذا يبس.

وبذلك أصبح معروفا في اإلسالم أن التحريم يتبع الخبث والضرر، فما كان خالص الضرر فهو حرام، وما كان خالص النفع فهو حالل، وما كان ضرره أكبر

من نفعه فهو حرام، وما كان نفعه أكبر فهو حالل، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في شأن الخمر والميسر )يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم

.219ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما( سورة البقرة:

كما أصبح من األجوبة الصريحة -إذا سئل عن الحالل في اإلسالم- أنه )الطيبات( أي: األشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة، ويستحسنها الناس في

مجموعهم استحسانا غير ناشئ من أثر العادة، قال تعالى: )يسألونك ماذا أحل.4لهم؟ قل: أحل لكم الطيبات( سورة المائدة:

.5وقال: )اليوم أحل لكم الطيبات( سورة المائدة:

وليس من الالزم أن يكون المسلم على علم تفصيلي بالخبث أو الضرر الذي حرم الله من أجله شيئا من األشياء، فقد يخفى عليه ما يظهر لغيره، وقد ال ينكشف خبث الشيء في عصره، ويتجلى في عصر الحق، وعلى المؤمن أن

يقول دائما: )سمعنا وأطعنا(.

أال ترى أن الله حرم لحم الخنزير، فلم يفهم المسلم من علة لتحريمه غير أنه مستقذر، ثم تقدم الزمن فكشف العلم فيه من الديدان والجراثيم القتالة ما

فيه؟ ولو لم يكشف العلم شيئا في الخنزير أو كشف ما هو أكثر من ذلك فإنالمسلم سيظل على عقيدته بأنه )رجس(.

ومثل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا المالعن الثالث )أي التي تجلب على فاعلها اللعنة من الله والناس(: البراز في الموارد، وقارعة الطريق،

والظل } فلم يعرف أحد في القرون األولى إال أنها مستقذرة، يعافها الذوق السليم، واألدب العام، فلما تقدم الكشف العلمي عرفنا أن هذه )المالعن

الثالثة( من أخطر األشياء على الصحة العامة، وهي المصدر األول النتشار عدوىاألمراض الطفيلية الخطيرة كاالنكلستوما والبلهارسيا.

وهكذا كلما نفذت أشعة العلم، واتسع نطاق الكشف تجلت لنا مزايا اإلسالم في حالله وحرامه، وفي تشريعاته كلها. وكيف ال وهو تشريع عليم حكيم رحيم

بعباده )والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله ألعنتكم، إن الله عزيز.220حكيم( سورة البقرة:

Page 19: الحلال والحرام في الإسلام

في الحالل ما يغني عن الحرام ومن محاسن اإلسالم ومما جاء به من تيسير على الناس أنه ما حرم شيئا

عليهم إال عوضهم خيرا منه مما يسد مسده، ويغني عنه، كما بين ذلك ابن القيمرحمه الله.

حرم عليهم االستقسام باألزالم وعوضهم عنه دعاء االستخارة.

وحرم عليهم الربا وعوضهم التجارة الرابحة.

وحرم عليهم القمار، وأعاضهم عنه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدينبالخيل واإلبل والسهام

وحرم عليهم الحرير، وأعاضهم عنه أنواع المالبس الفاخرة من الصوف والكتانوالقطن.

وحرم عليهم الزنا واللواط، وأعاضهم عنهما بالزواج الحالل

حرم عليهم شرب المسكرات، وأعاضهم عنه باألشربة اللذيذة النافعة للروحوالبدن.

وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.

وهكذا إذا تتبعنا أحكام اإلسالم كلها، وجدنا أن الله جل شأنه لم يضيق على عباده في جانب إال وسع عليهم في جانب آخر من جنسه، فإنه سبحانه ال يريد بعباده عنتا وال عسرا وال إرهاقا، بل يريد اليسر والخير والهداية والرحمة، كما قال تعالى: )يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن

تميلوا ميال عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق اإلنسان ضعيفا(. سورة.28، 26النساء:

ما أدى إلى الحرام فهو حرام ومن المبادىء التي قررها اإلسالم أنه إذا حرم شيئا حرم ما يفضي إليه من

وسائل وسد الذرائع الموصلة إليه.

فإذا حرم الزنا مثال حرم كل مقدماته ودواعيه، من تبرج جاهلي، وخلوة آثمة،واختالط عابث، وصورة عارية، وأدب مكشوف، وغناء فاحش… الخ.

ومن هنا قرر الفقهاء هذه القاعدة: )ما أدى إلى الحرام فهو حرام(.

ويشبه هذا ما قرره اإلسالم من أن إثم الحرام ال يقتصر على فاعله المباشر وحده، بل يوسع الدائرة، فتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي، كل

يناله من اإلثم على قدر مشاركته. ففي الخمر يلعن النبي عليه السالم شاربهاوعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها … كما سنذكره بعد.

Page 20: الحلال والحرام في الإسلام

وفي الربا يلعن آكله ومؤكله )معطي الربا( وكاتبه وشاهديه.

وهكذا كل ما أعان على الحرام فهو حرام، وكل من أعان على محرم فهوشريك في اإلثم.

Page 21: الحلال والحرام في الإسلام

لباب الثاني - الحالل والحرام في الحياةاالشخصية للمسلم

في األطعمة واألشربة

مقدمة من قديم في   اختالف األمم   شان األطعمة

عند البراهمة   ذبح الحيوان وأكله

الحيوانات المحرمة عند اليهودوالنصارى

  الجاهلية   عند عرب

تحريم الميتة وحكمته اإلسالم يبيح الطيبات  لحم الخنزير تحريم الدم المسفوح  

أنواع من الميتة ا ما أهل لغير الله بهما ذبح على النصبحكمة تحريم هذه األنواع

السمك والجراد مستثنى منالميتة

االنتفاع بجلود الميتة وعظمها وشعرها

ضرورة الدواءحالة الضرورة مستثناة الفرد ليس بمضطر إذا كان

في المجتمع ما يدفع ضرورته

  

األمم من قديم في شأن األطعمة اختالف

اختلفت األمم والشعوب من قديم في أمر ما يأكلون وما يشربون، ما يجوزلهم، وما ال يجوز، وبخاصة في األطعمة الحيوانية.

أما األطعمة واألشربة النباتية فلم يعرف للبشر خالف كثير في شأنها. ولم يحرم اإلسالم منها إال ما صار خمرا سواء اتخذ من عنب أو تمر أو شعير أو أي

مادة أخرى ما دامت قد تخمرت.

وكذلك حرم ما يحدث الخدر والفتور وكل ما يضر الجسد، كما سنبين بعد. وأمااألطعمة الحيوانية فهي التي اختلف فيها الملل والجماعات اختالفا شاسعا3.

الحيوان وأكله عند البراهمةذبح

هناك جماعات كالبراهمة وبعض المتفلسفين حرموا على أنفسهم ذبح الحيوان وأكله، وعاشوا على األغذية النباتية، قالوا: إن في ذبح الحيوان قسوة من

اإلنسان على كائن حي مثله ليس له أن يحرمه من حق الحياة.

لكنا عرفنا من التأمل في الكائنات أن خلق هذه الحيوانات ليس غاية في نفسه، فإنها لم تؤت العقل واإلرادة، ورأينا وضعها الطبيعي أن تسخر لخدمة

Page 22: الحلال والحرام في الإسلام

اإلنسان، وليس بغريب أن ينتفع اإلنسان بلحمها ذبيحة، كما انتفع بتسخيرهاصحيحة.

وعرفنا كذلك من سنة الله في الخليقة أن النوع األدنى يضحى به في مصلحة النوع األعلى منه، فالنبات األخضر المترعرع يقطع من أجل غذاء الحيوان،

والحيوان يذبح ألجل غذاء اإلنسان، بل اإلنسان الفرد يقاتل ويقتل في مصلحةالمجموع … وهكذا.

على أن امتناع اإلنسان عن ذبح الحيوان لن يحميه من الموت والهالك، فهو إن لم يفترس بعضه بعضا سيموت حتف أنفه -وقد يكون ذلك أشد عليه ألما من

شفرة حادة تعجل به.

المحرمة عند اليهود والنصارىالحيوانات

وفي الديانات الكتابية حرم الله على اليهود كثيرا جدا من الحيوانات البريةوالبحرية، تكفل ببيانها الفصل الحادي عشر من سفر الالويين من التوراة.

وقد ذكر القرآن بعض ما حرم الله على اليهود، وعلة التحريم -كما ذكرنا من قبل- أنه كان عقوبة حرمان من الله لهم على ظلمهم وخطاياهم: )وعلى الذين

هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إال ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا

.146لصادقون( سورة األنعام:

هذا شأن اليهود، وكان المفروض أن يكون النصارى تبعا لهم في هذا، فقدأعلن اإلنجيل أن المسيح عليه السالم ما جاء لينقض الناموس، بل جاء ليكمله.

لكنهم هنا نقضوا الناموس واستباحوا ما حرم عليهم في التوراة -مما لم ينسخه اإلنجيل- واتبعوا مقدسهم بولس في إباحة جميع الطعام والشراب، إال

ما ذبح لألصنام إذا قيل للمسيحي: إنه مذبوح لوثن.

وعلل بولس ذلك أن كل شيء طاهر للطاهرين، وأن ما يدخل الفم ال ينجسالفم، وإنما ينجسه ما يخرج منه.

وقد استباحوا بذلك أكل لحم الخنزير رغم أنه محرم بنص التوراة إلى اليوم.

عرب الجاهليةعند

وأما العرب في الجاهلية، فقد حرموا بعض الحيوانات تقذرا، وحرموا بعضهاتعبدا، وتقربا لألصنام، واتباعا لألوهام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام -

التي ذكرنا تفسيرها من قبل- وفي مقابل هذا استباحوا كثيرا من الخبائثكالميتة والدم المسفوح.

يبيح الطيباتاإلسالم

جاء اإلسالم والناس على هذه الحال في أمر الطعام الحيواني، بين مسرف في التناول، ومتطرف في الترك، فوجه نداء إلى الناس كافة في كتابه: )يا أيها

الناس كلوا مما في األرض حالال طيبا وال تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو.168مبين( سورة البقرة:

Page 23: الحلال والحرام في الإسلام

ناداهم بوصفهم )ناسا( أن يأكلوا من طيبات تلك المائدة الكبيرة التي أعدها لهم -وهي األرض التي خلق لهم ما فيها جميعا- وأال يتبعوا مسالك الشيطان

وطرقه التي زين بها لبعض الناس أن يحرموا ما أحل الله، فحرمهم منالطيبات، وأرداهم في مهاوي الضالل.

ثم وجه نداء إلى المؤمنين خاصة فقال:

)يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن

اضطر غير باغ وال عاد فال إثم عليه، إن الله غفور رحيم( سورة البقرة:172.173.

وفي هذا النداء الخاص للمؤمنين أمرهم سبحانه أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم وأن يؤدوا حق النعمة بشكر المنعم جل شأنه. ثم بين أنه تعالى لم يحرم عليهم

إال هذه األصناف األربعة المذكورة في اآلية، والتي ورد ذكرها في آيات أخر، أصرحها في الداللة على حصر المحرمات في هذه األربعة قوله تعالى في سورة األنعام: )قل ال أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إال أن

يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير -فإنه رجس- أو فسقا أهل لغير الله.145به فمن اضطر غير باغ وال عاد فإن ربك غفور رحيم( سورة األنعام:

وفي سورة المائدة ذكر القرآن هذه المحرمات بتفصيل أكثر فقال تعالى: )حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إال ما ذكيتم، وما ذبح على

.3النصب( سورة المائدة:

وال تنافي بين هذه اآلية التي جعلت المحرمات عشرة واآليات السابقة التي جعلتها أربعة، إال أن هذه اآلية فصلت اآليات األخرى، فإن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، كلها في معنى الميتة، فهي تفصيل لها.

كما أن ما ذبح على النصب في حكم ما أهل لغير الله به، فكالهما من بابواحد. فالمحرمات أربعة باإلجمال، عشرة بالتفصيل.

الميتة وحكمتهتحريم

أول ما ذكرته األيات من محرمات األطعمة هو: )الميتة( وهي ما مات حتف أنفه من الحيوان والطير. أي: ما مات بدون عمل من اإلنسان يقصد به تذكيته أو

صيده.

وقد يتساءل الذهن العصري عن الحكمة في تحريم الميتة على اإلنسان، وإلقائها دون أن ينتفع بأكلها، ونجيب على ذلك بأن في تحريمها حكما جلية

منها:

-أ- أن الطبع السليم يعافها ويستقذرها، والعقالء في مجموعهم يعدون أكلها مهانة تنافي كرامة اإلنسان، ولذا نرى أهل الملل الكتابية جميعا يحرمونها، وال

يأكلون إال المذكى وإن اختلفت طريقة التذكية.

-ب- أن يتعود المسلم القصد واإلرادة في أموره كلها، فال يحرز شيئا أو ينال ثمرة إال بعد أن يوجه إليه نيته وقصده وسعيه، ذلك أن معنى التذكية -التي

تخرج الحيوان عن كونه ميتة- إنما هو: القصد إلى إزهاق روح الحيوان ألجلأكله. وكأن الله تعالى لم يرض لإلنسان أن يأكل ما لم يقصده ولم يفكر فيه -

Page 24: الحلال والحرام في الإسلام

كما هو الشأن في الميتة- فأما المذكى والمصيد فإنهما ال يؤخذان إال بقصدوسعي وعمل.

-ج- إن ما مات حتف أنفه يغلب أن يكون قد مات لعلة مزمنة أو طارئة أو أكل نبات سام أو نحو ذلك. وكل ذلك ال يؤمن ضرره. ومثل هذا إذا مات من شدة

الضعف وانحالل الطبيعة.

-د- إن الله تعالى بتحريم الميتة علينا -نحن بني اإلنسان- قد أتاح بذلك فرصة للحيوانات والطيور، للتغذى منها، رحمة منه تعالى بها، ألنها أمم أمثالنا كما نطق القرآن. وهذا أوضح ما يكون في الفلوات واألماكن التي ال توارى فيها

ميتة الحيوان.

-هـ- أن يحرص اإلنسان على ما يملكه من الحيوان فال يدعه فريسة للمرضوالضعف حتى يموت فيتلف عليه. بل يسارع بعالجه، أو يعجل بإراحته.

المسفوحالدم تحريم

وثاني هذه المحرمات هو: الدم المسفوح، أي: السائل. سئل ابن عباس عن الطحال، فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. والسر في تحريمه أنه مستقذر يعافه الطبع اإلنساني النظيف، كما أنه مظنة

للضرر كالميتة.

وكان أهل الجاهلية إذا جاع أحدهم يأخذ شيئا محددا من عظم ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيوانه فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه. وفي هذا يقول

األعشى:

وإياك والميتات ال تقربنهاوال تأخذن عظما حديدا فتفصدا

ولما كان في هذا الفصد إيذاء للحيوان وإضعاف له حرمه الله تعالى.

الخنزيرلحم

وثالثهما: لحم الخنزير، فإن الطباع السليمة تستخبثه، وترغب عنه، ألن أشهى غذائه القاذورات والنجاسات، وقد أثبت الطب الحديث أن أكله ضار في جميع األقاليم وال سيما الحارة. كما ثبت بالتجارب العلمية أن أكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة وغيرها من الديدان. ومن يدري، لعل العلم يكشف لنا في الغد من أسرار هذا التحريم أكثر مما عرفنا اليوم، وصدق الله العظيم إذ

.157وصف رسوله بقوله )ويحرم عليهم الخبائث( األعراف:

ومن الباحثين من يقول: إن المداومة على أكل لحم الخنزير تورث ضعف الغيرةعلى الحرمات.

أهل لغير الله بهما

Page 25: الحلال والحرام في الإسلام

ورابع المحرمات: ما أهل لغير الله به. أي: ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله كاألصنام، فقد كان الوثنيون إذا ذبحوا ذكروا على ذبيحتهم أسماء أصنامهم

كالالت والعزى، فهذا تقرب إلى غير الله، وتعبد بغير اسمه العظيم. فعلة التحريم هنا علة دينية محضة، لحماية التوحيد، وتطهير العقائد، ومحاربة الشرك

ومظاهر الوثنية في كل مجال من مجاالتها.

إن الله الذي خلق اإلنسان، وسخر له ما في األرض، وذلل له الحيوان، أباح له إزهاق روحه في مصلحته إذا ذكر اسمه تعالى عند ذبحه، وذكر اسم الله حينئذ إعالن بأنه إنما يصنع هذا الصنيع بهذا الكائن الحي بإذن من الله ورضاه، فإذا ذكر اسم غير الله عند ذبحه فقد أبطل هذا اإلذن واستحق أن يحرم من هذا

الحيوان المذبوح.

من الميتةأنواع

هذه األربعة المذكورة هي المحرمات إجماال, وقد فصلتها آية المائدة في عشرةكما ذكرنا في أنواع الميتة التي فصلتها:

المنخنقة: وهي التي تموت اختناقا، بأن يلتف وثاقها على عنقها أو تدخلرأسها في مضيق أو نحو ذلك.

الموقوذة: وهي التي تضرب بالعصا ونحوها حتى تموت.

المتردية: وهي التي تتردى من مكان عال فتموت ومثلها التي تتردى في بئر.

النطيحة: وهي التي تنطحها أخرى فتموت.

ما أكل السبع: وهي التي أكل السبع -الحيوان المفترس- جزءا منها فماتت.

وقد ذكر الله بعد هذه األنواع الخمسة قوله تعالى )إال ما ذكيتم( أي ما أدركتم من هذه الحيوانات وفيه حياة فذكيتموه. أي: أحللتموه بالذبح ونحوه كما

سنتحدث بعد.

ويكفي في صحة إدراك ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة.. وهي

تحرك يدا أو رجال فكلها. وعن الضحاك: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا فحرمه الله في اإلسالم إال ما ذكي منه، فما أدركفتحرك منه رجل أو ذنب أو طرف

)عين( فذكى فهو حالل.

األنواعهذه حكمة تحريم

والحكمة في تحريم هذه األنواع من الميتة ما ذكرنا في تحريم الميت حتف أنفه ما عدا توقع الضرر، إذ ال يظهر ههنا. وتتأكد الحكمة األخيرة هنا أيضا، فإن

الشارع الحكيم يعلم الناس العناية بالحيوان والرأفة به والمحافظة عليه، فال ينبغي أن يهمل حتى ينخنق أو يتردى من مكان عال أو نترك الحيوانات تتناطح

حتى يقتل بعضها بعضا، وال يجوز أن يعذب الحيوان بالضرب حتى يموت موقوذا، كما يفعل ذلك بعض قساة الرعاة -وبخاصة األجراء منهم- وكما

يحرشون بين البهائم فيغرون الثورين أو الكبشين بالتناطح حتى يهلكا أويوشكا.

Page 26: الحلال والحرام في الإسلام

ومن هنا نص العلماء على تحريم النطيحة وإن جرحها القرن، وخرج منها الدم ولو من مذبحها، ألن المقصود -كما يلوح لي- هو عقوبة من ترك هذه الحيوانات

تتناطح حتى يقتل بعضها بعضا فحرمت عليه جزاء وفاقا.

وأما تحريم ما أكل السبع ففيه -أول ما فيه- تكريم لإلنسان، وتنزيه له أن يأكل فضالت السباع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو

البعير أو البقرة فحرم الله ذلك على المؤمنين.

النصبعلى ما ذبح

وعاشر المحرمات بالتفصيل هو: ما ذبح على النصب. والنصب هو الشيءالمنصوب من أصنام أو حجارة تقام أمارة للطاغوت وهو ما عبد من دون الله - وكانت حول الكعبة- وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها أو عندها بقصد التقرب

إلى آلهتهم وأوثانهم.

فهذا منجنس ما أهل لغير الله به، ألن في كليهما تعظيم الطاغوت، والفرق بينهما أن ما أهل لغير الله به قد يكون ذبح لصنم من األصنام بعيدا عنه وعن النصب، وإنما ذكر عليه اسم الطاغوت. أما ما ذبح على النصب فال بد أن يذبح

على تلك الحجارة أو عندها، وال يلزم أن يتلفظ باسم غير الله عليه.

ولما كانت هذه النصب حول الكعبة، وقد يتوهم متوهم أن في الذبح عليها تعظيما للبيت الحرام، أزال القرآن هذا الوهم ونص على تحريمها نصا صريحا

وإن كان مفهوما مما أهل لغير الله به.

والجراد مستثنى من الميتةالسمك

وقد استثنت الشريعة اإلسالمية من الميتة المحرمة السمك والحيتان ونحوهما من حيوانات الماء. فحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر: "قال

هو الطهور ماؤه الحل ميتته".

. قال عمر: صيده96وقال تعالى: )أحل لكم صيد البحر وطعامه( سورة المائدة:ما اصطيد منه طعامه ما رمي به. وقال ابن عباس أيضا: طعامه ميتته.

وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية من أصحابه، فوجدوا حوتا كبيرا قد جزر عنه البحر -أي ميتا- فأكلوا منه

بضعة وعشرين يوما، ثم قدموا إلى المدينة، فأخبروا الرسول عليه السالم فقال: "كلوا رزقا أخرجه الله لكم، أطعمونا إن كان معكم" فأتاه بعضهم بشيء

فأكله.

ومثل ميتة البحر الجراد، فقد رخص رسول الله في أكله ميتا، ألن ذكاته غير ممكنة. قال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: "غزونا مع رسول الله صلى الله

عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد".

بجلود الميتة وعظمها وشعرهااالنتفاع

Page 27: الحلال والحرام في الإسلام

وتحريم الميتة إنما يعني تحريم أكلها. فأما االنتفاع بجلدها أو قرونها أو عظمها أو شعرها فال بأس به، بل هو أمر مطلوب، ألنه مال يمكن االستفادة

منه فال تجوز إضاعته.

عن ابن عباس قال: تصدق على موالة لميمونة -أم المؤمنين- بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هال أخذتم إهابها -جلدها-

فدبغتموه فانتفعتم به؟" فقالوا: إنها ميتة! فقال صلى الله عليه وسلم: "إنماحرم أكلها".

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم السبيل إلى تطهير جلد الميتة، وهو الدباغ، وقال في حديث "دباغ األديم -الجلد- ذكاته" أي: إن الدباغ في التطهير

بمنزلة الذكاة في إحالل الشاة ونحوها. وفي رواية: "أيما إرهاب دبغ فقدطهر".

وهو عام يشمل كل جلد ولو كان جلد كلب أو خنزير. وبذلك قال أهل الظاهر،وحكي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ورجحه الشوكاني.

وعن سودة أم المؤمنين قالت: "ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها -جلدها- ثم ما زلناننتبذ فيه -أي: نضع فيه التمر ليحلو الماء- حتى صار شنا، أي: قربة خرقة".

الضرورة مستثناةحالة

كل هذه المحرمات المذكورة إنما هي في حالة االختيار.

أما الضرورة فلها حكمها -كما ذكرنا من قبل- وقد قال تعالى: )وقد فصل لكم . وقال تعالى -بعد أن119ما حرم عليكم إال ما اضطررتم إليه( سورة األنعام:

ذكر تحريم الميتة والدم وما بعدهما- )فمن اضطر غير باغ وال عاد فال إثم عليه.173إن الله غفور رحيم( سورة البقرة:

والضرورة المتفق عليها هي ضرورة الغذاء، بأن يعضه الجوع -وقد حده بعض الفقهاء بأن يمر عليه يوم وليلة- وال يجد ما يأكله إال هذه األطعمة المحرمة،

فله أن يتناول منها ما يدفع به الضرورة ويتقي الهالك. وقال اإلمام مالك: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها. وقال غيره: ال يأكل منها إال ما يمسك

الرمق… ولعل هذا هو الظاهر من قوله تعالى: )غير باغ وال عاد( أي غير باغ )طالب( للشهوة، وال عاد )متجاوز( حد الضرورة. وضرورة الجوع قد نص عليها القرآن نصا صريحا بقوله: )فمن اضطر في مخمصة غير متجانف إلثم فإن الله

"و المخمصة: المجاعة".3غفور رحيم( سورة المائدة:

الدواءضرورة

وأما ضرورة الدواء -بأن يتوقف برؤه على تناول شيء من هذه المحرمات- فقد اختلف في اعتبارها الفقهاء.. فمنهم من لم يعتبر التداوي ضرورة قاهرة

كالغذاء، واستند كذلك إلى حديث "إن الله لم يجعل شفائكم فيما حرم عليكم".

ومنهم من اعتبر هذه الضرورة وجعل الدواء كالغذاء، فكالهما الزم للحياة في أصلها أو دوامها، وقد استدل هذا الفريق -على إباحة هذه المحرمات للتداوي- بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف

Page 28: الحلال والحرام في الإسلام

والزبير بن العوام رضي الله عنهما لحكة -جرب- كانت بهما. مع نهيه عن لبسالحرير، ووعيده عليه.

وربما كان هذا القول أقرب إلى روح اإلسالم الذي يحافظ على الحياة اإلنسانيةفي كل تشريعاته ووصاياه.

ولكن الرخصة في تناول الدواء المشتمل على محرم مشروطة بشروط:

أن يكون هناك خطر حقيقي على صحة اإلنسان إذا لم يتناول هذا الدواء.

أال يوجد دواء غيره من الحالل يقوم مقامه أو يغني عنه.

أن يصف ذلك طبيب مسلم ثقة في خبرته وفي دينه معا.

على أنا نقول مما نعرفه من الواقع التطبيقي، ومن تقرير ثقات األطباء: أن ال ضرورة طبية تحتم تناول شيء من هذه المحرمات -كدواء- ولكننا نقرر المبدأ

احتياطا لمسلم قد يكون في مكان ال يوجد فيه إال هذه المحرمات.

إذا كان في المجتمع ما يدفعالفرد ليس بمضطر ضرورته

وليس من شرط الضرورة أال يجد اإلنسان طعاما في ملكه هو فحسب، بل اليكون مضطرا لتناول هذه األطعمة المحرمة، إذا كان في أفراد مجتمعه -

مسلمهم أو ذميهم- من يملك من فضل الطعام ما يدفع به الضرورة عنه. فإن المجتمع اإلسالمي متكامل متكافل كأجزاء الجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص

يشد بعضه بعضا.

ومن اللفتات القيمة لفقهاء اإلسالم في التكافل االجتماعي ما قرره اإلمام ابن حزم إذ قال: "ال يحل لمسلم اضطر، أن يأكل ميتة أو لحم خنزير، وهو يجد طعاما -فيه فضل عن صاحبه- لمسلم أو ذمي، ألن فرضا على صاحب الطعام

إطعام الجائع.. فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة وال لحم الخنزير. وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود -أي: القصاص- وإن قتل

المانع، فإلى لعنة الله، ألنه منع حقا. وهو طائفة باغية. قال تعالى: )فإن بغت إحداهما على األخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله( سورة

. ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق. وبهذا قاتل أبو بكر9الحجرات:الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة.

الذكاة الشرعيةالمحرم من الحيوانات البريةالحيوانات البحرية حالل كلها

شروط الذكاة الشرعيةاشتراط الذكاة إلباحة الحيوانات المستأنسةحكمة التسمية عند الذبحسر هذه الذكاة وحكمتها

ما يذبح للكنائس واألعياد(ذبائح أهل الكتاب )اليهود والنصارىذبيحة المجوسي ومن ماثلهما ذكوه بطريق الصعق الكهربائي ونحوه

قاعدة: ما غاب عنا ال نسأل عنه

Page 29: الحلال والحرام في الإسلام

 

الحيوانات البحرية حالل كلها

الحيوانات من حيث مسكنها ومستقرها نوعان: بحرية وبرية.

فالبحرية -ونعني ما يسكن جوف الماء وال يعيش إال فيه- كلها حالل، كيفما وجدت، سواء أخذت من الماء حية أو ميتة، طفت أو لم تطف يستوي في ذلك السمك والحيتان، وما يسمى كلب البحر أو خنزير البحر أو غير ذلك، وال عبرة

بمن أخذها وصادها، مسلما أو غير مسلم، فقد وسع الله على عباده بإباحة كل ما في البحر، دون أن يحرم نوعا معينا، أو يشترط ذكاة له كغيره، بل ترك

لإلنسان أن يجهز على ما يحتاج إلى اإلجهاز منه بما يستطيع متجنبا التعذيب ماأمكنه.

قال تعالى ممتنا على عباده: )وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا( . وقال: )أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم14سورة النحل:اآلية

، أي: المسافرين.96وللسيارة( سورة المائدة:

فعم سبحانه وتعالى ولم يخص شيئا من أشياء )وما كان ربك نسيا(.

البريةالمحرم من الحيوانات

وأما الحيوانات البرية فلم يصرح القرآن بتحريم شيء منها إال لحم الخنزير خاصة -والميتة والدم وما أهل لغير الله به من أي حيوان- كما تقدم في اآلياتالتي جاءت بصيغة محددة حاصرة للمحرمات في أربعة إجماال وعشرة تفصيال.

ولكن القرآن الكريم قال عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: )ويحل لهم.157الطيبات ويحرم عليهم الخبائث( سورة األعراف:

والخبائث هي التي يستقذرها الذوق الحسي العام للناس في مجموعهم وإنأساغها أفراد منهم.

ومن ذلك أنه "نهى عليه السالم عن أكل لحوم الحمر األهلية يوم خيبر".

ومن ذلك ما روي في الصحيحين أنه "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكلذي مخلب من الطير".

والمراد بالسباع ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا كاألسد والنمر والذئب ونحوها. والمراد بذي المخلب من الطير ما كان له ظفر جارح كالنسر والبازي

والصقر والحدأة.

ومذهب ابن عباس رضي الله عنه ال حرام إال األربعة المذكورة في القرآن وكأنه يرى أن أحاديث النهي عن السباع وغيرها تفيد الكراهة ال التحريم، أو لعلها لم تبلغه. قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا،

فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه فأحل حالله وحرم حرامه، فما أحل فهو حالل، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتال: )قل ال أجد فيما أوحي إلي

Page 30: الحلال والحرام في الإسلام

.145محرما على طاعم …( سورة األنعام:

وبهذه األية كان يرى ابن عباس أن لحم الحمر اإلنسية حالل.

وإلى مذهب ابن عباس ينزع اإلمام مالك، حيث لم يقل بحرمة السباع ونحوها،واكتفى بكراهتها.

ومن المقرر أن الذكاة الشرعية ال تأثير لها في الحيوانات المحرمة من حيثإباحة أكلها، إال أنها تؤثر في تطهير الجلد دون اشتراط الدباغ.

المستأنسةاشتراط الذكاة إلباحة الحيوانات

وما أبيح أكله من الحيوانات البرية نوعان:

نوع مقدور عليه متمكن منه، كاألنعام من إبل وبقر وغنم، وغيرها منالحيوانات المستأنسة والدواجن والطيور التي تربى في المنازل ونحوها.

ونوع غير مقدور عليه وال يتمكن منه.

أما النوع األول فقد اشترط اإلسالم إلباحته أن يذكى تذكية شرعية.

الذكاة الشرعيةشروط

آكال ما لم يذكر اسم الله عليه. وفي صحيح البخاري عن عائشة أن قوما حديثي عهد بجاهلية قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن قوما يأتوننا باللحمان ال

ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا؟ أنأكل منها أم ال؟ فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "اذكروا اسم الله وكلوا"".

هذه الذكاة وحكمتهاسر

والسر في هذه الذكاة -كما يلوح لنا- هو إزهاق روح الحيوان بأقصر طريق يريحه بغير تعذيب. لهذا اشترطت اآللة المحددة وهي أسرع أثرا واشترط الذبح

في الحلق -وهو أقرب المواضع لمفارقة الحياة بسهولة- ونهي عن الذبح بالسن والظفر، ألن الذبح بهما تعذيب للحيوان، وال يقع بهما غالبا إال الخنق،

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحداد الشفرة وإراحة الذبيحة "إن الله كتب اإلحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا

الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".

ومن هذا اإلحسان ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحدالشفار، وأن توارى عن البهائم وقال: "إذا ذبح أحدكم فليجهز" أي: فليتم.

Page 31: الحلال والحرام في الإسلام

وعن ابن عباس أن رجال أضجع شاة وهو يحد شفرته. فقال النبي صلى اللهعليه وسلم: "أتريد أن تميتها موتات ؟ هال أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟"

وراى عمر رجال يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك !! قدها إلى الموتقودا جميال.

وهكذا نجد الفكرة العامة في هذا الباب هي الرفق بالحيوان األعجم وإراحتهمن العذاب ما استطاع اإلنسان إلى ذلك سبيال.

وقد كان أهل الجاهلية يجبون أسنمة اإلبل -وهي حية- ويقطعون أليات الغنم وكان في ذلك تعذيب لهذه الحيوانات، ففوت النبي صلى الله عليه وسلم

مقصودهم وحرم عليهم االنتفاع بهذه األجزاء، فقال: "ما قطع من البهيمةوهي حية فهو ميتة".

عند الذبحالتسمية حكمة

أما طلب التسمية عند الذكاة فإن لها سرا لطيفا ينبغي التنبه له وااللتفات إليه. في من جهة مضادة لما كان يصنع الوثنيون وأهل الجاهلية من ذكر أسماء

آلهتهم المزعومة عند الذبح، وإذا كان المشرك يذكر في هذا الموضع اسمصنمه فكيف ال يذكر المؤمن اسم ربه؟

ومن جهة ثانية، فإن هذه الحيوانات تشترك مع اإلنسان في أنها مخلوقة لله، وأنها كائنات حية ذات روح.. فلماذا يتسلط اإلنسان عليها، ويزهق أرواحها، إال

أن يكون ذلك بإذن من خالقه، الذي خلق له ما في األرض جميعا؟ وذكر اسم الله هنا هو إعالن بهذا اإلذن اإللهي. كأن اإلنسان يقول: إنني ال أفعل ذلك عدوانا على هذه الكائنات، وال استضعافا لتلك المخلوقات، ولكن باسم الله

أذبح، وباسم الله أصيد ، وباسم الله آكل.

والنصارى(اليهود ذبائح أهل الكتاب )

رأينا كيف شدد اإلسالم في أمر الذبح واهتم به، ألن مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل جعلوا الذبائح من أمور العبادات بل من شؤون العقيدة وأصول الدين، فصاروا يتعبدون بذبح الذبائح آللهتهم، فيذبحون على النصب عندها أو

يهلون باسمها عند الذبح، وحرم ما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به.

ولما كان أهل الكتاب أهل توحيد في األصل، ثم سرت إليهم نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين الذين لم يتخلصوا تماما من أدران شركهم القديم، وكان هذا مظنة ألن يفهم بعض المسلمين أن معاملة أهل الكتاب في

ذلك كأهل األوثان -رخص الله تعالى في مؤاكلة أهل الكتاب كما رخص في مصاهرتهم- فقال تعالى في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن:

)اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل.5لهم( سورة المائدة:

Page 32: الحلال والحرام في الإسلام

ومعنى هذه اآلية إجماال: اليوم أحل لكم الطيبات، فال بحيرة وال سائبة وال وصيلة وال حام. وطعام الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى حل لكم

بمقتضى األصل، لم يحرمه الله عليكم قط، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها أو صادوه، ولكم أن تطعموهم

مما تذكون وتصطادون.

وإنما شدد اإلسالم مع مشركي العرب، وتساهل مع أهل الكتاب، ألنهم أقرب إلى المؤمنين، العترافهم بالوحي والنبوة وأصول الدين في الجملة. وقد شرعت لنا موادتهم بمؤاكلتهم ومصاهرتهم وحسن معاشرتهم ألنهم إذا

عاشرونا وعرفوا اإلسالم في بيئته ومن أهله، على حقيقته، علما وعمال وخلقا، ظهر لهم أن ديننا هو دينهم في أسمى معانيه، وأكمل صوره، وأنقى صحائفه،

مبرأ من البدع واألباطيل والوثنيات.

وكلمة )طعام الذين أوتوا الكتاب( كلمة عامة تشمل كل طعام لهم: ذبائحهم وحبوبهم وغيرها، فكل ذلك حالل لنا، ما لم يكن محرما لعينه كالميتة والدم

المسفوح ولحم الخنزير، فهذه ال يجوز أكلها باإلجماع سواء أكانت طعام كتابيأو مسلم.

بقي هنا إيضاح عدة مسائل يهم المسلمين معرفتها:

واألعيادللكنائس ما يذبح

إذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله عند الذبح كالمسيح والعزير، فإن ذبيحته حالل. وأما إذا سمع منه تسمية غير الله، فمن الفقهاء من يحرم ذبيحته

تلك ألنها مما أهل لغير الله به.

وبعضهم يقول: أباح الله لنا طعامهم وهو أعلم بما يقولون.

وسئل أبو الدرداء رضي الله عنه عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها )جرجس( أهدوه لها: أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء للسائل: اللهم عفوا، إنما هم أهل

كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم. وأمره بأكله.

وسئل اإلمام مالك فيما ذبحه أهل الكتاب ألعيادهم وكنائسهم فقال: أكرهه وال أحرمه. وإنما كرهه من باب الورع خشية أن يكون داخال فيما أهل لغير الله به،

ولم يحرمه ألن معنى ما أهل به عنده -بالنسبة ألهل الكتاب- إنما هو فيما ذبحوه آللهتهم مما يتقربون به إليها وال يأكلونه فأما ما يذبحونه ويأكلونه فهو

من طعامهم وقد قال تعالى: )وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم(.

بطريق الصعق الكهربائي ونحوهما ذكوه

المسألة الثانية: هل يشترط أن تكون تذكيتهم مثل تذكيتنا: بمحدد في الحلق ؟ اشترط ذلك أكثر العلماء، والذي أفتى به جماعة من المالكية أن ذلك ليس

Page 33: الحلال والحرام في الإسلام

بشرط.

قال القاضي ابن العربي في تفسير آية المائدة: "هذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله، وهو الحالل

المطلق، وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل االعتراضات عن الخواطر الفاسدة، التي توجب االعتراضات وتحوج إلى تطويل القول. ولقد

سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما ؟ فقلت: تؤكل، ألنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه

ذكاة عندنا، ولكن أباح الله لنا طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم، فإنه حالل لنا إال ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا نساءهم

أزواجا، فيحل لنا وطؤهن، فكيف ال نأكل ذبائحهم، واألكل دون الوطء في الحلوالحرمة؟"

هذا ماقرره ابن العربي. وقال في موضع ثان: "ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس )أي بغير قصد التذكية( ميتة حرام". وال تنافي بين

القولين، فإن المراد: أن ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله، وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحية، وما ال يرونه مذكى عندهم ال يحل لنا. والمفهوم المشترك

للذكاة: هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله.

وهذا هو مذهب جماعة المالكية.

وعلى ضوء ما ذكرناه نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة، مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي

ونحوه. فما داموا يعتبرون هذا حالال مذكى فهو حل لنا، وفق عموم اآلية. أما اللحوم المستوردة من بالد شيوعية: فال يجوز تناولها بحال، ألنهم ليسوا أهل

كتاب وهم يكفرون باألديان كلها، ويجحدون بالله ورساالته جميعا.

ومن ماثلهذبيحة المجوسي

اختلف العلماء في ذبيحة المجوس، فاألكثرون يمنعون من أكلها ألنهممشركون.

وقال آخرون: هي حالل، ألن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سنوا بهم سنةأهل الكتاب". وقد قبل الجزية من مجوس هجر.

وقال ابن حزم في باب التذكية من كتابه )المحلى(: "وإنهم أهل كتاب فحكمهمكحكم أهل الكتاب في كل ذلك".

والصابئون عند أبي حنيفة أهل كتاب أيضا.

: ما غاب عنا ال نسأل عنهقاعدة

وليس على المسلم أن يسأل عما غاب عنه: كيف كانت تذكيته ؟ وهل استوفت

Page 34: الحلال والحرام في الإسلام

شروطها أم ال ؟ وهل ذكر اسم الله على الذبيحة أم لم يذكر ؟ بل كل ما غابعنا مما ذكاه مسلم -ولو جاهال أو فاسقا- أو كتابي، فحالل أكله.

وقد ذكرنا من قبل حديث البخاري أن قوما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن قوما يأتوننا باللحم ال ندري أذكروا اسم الله عليه أم ال ؟ فقال عليه

السالم: "سموا الله عليه أنتم وكلوا".

قال العلماء في هذا الحديث: هذا دليل على أن األفعال والتصرفات تحمل علىحال الصحة والسالمة، حتى يقوم دليل على الفساد والبطالن.

الصـيدما يتعلق بالصائدمقدمة

ما يكون به الصيدما يتعلق بالمصيدالصيد بالكالب ونحوهاالصيد بالسالح الجارح

إذا وجد الصيد ميتا بعد الرمية 

مقدمة

كان كثيرا من العرب وغيرهم من األمم يعيشون على الصيد، لذلك عني به القرآن والسنة وخصص الفقهاء له أبوابا مستقلة، فصلوا فيها ما يحل منه وما

يحرم، وما يجب فيه وما يستحب.

ذلك أن هناك كثيرا من الحيوانات والطيور المستطاب لحمها، ال يتمكن اإلنسان منها وال يقدر عليها، ألنها غير مستأنسة له، فلم يشترط اإلسالم فيها ما اشترط في الحيوانات اإلنسية من الذكاة في الحلق أو اللبة، واكتفى في

تذكيتها بما يسهل في مثلها تخفيفا على اإلنسان وتوسعة عليه، وأقر الناس في هذا األمر على ما هدتهم إليه الفطرة والحاجة، وإنما أدخل عليه تنظيمات

واشتراطات تخضعه لعقيدة اإلسالم ونظامه، وتصبغه -ككل شؤون المسلم- بالصبغة اإلسالمية. وهذه االشتراطات منها ما يتعلق بالصائد، ومنها ما يتعلق

بالمصيد، ومنها ما يتعلق بما يكون به الصيد.

هذا كله في صيد البر، أما صيد البحر فقد تقدم أن الله أحله جملة دون قيد.96)أحل لكم صيد البحر وطعامه( سورة المائدة:

بالصائديتعلق ما

أما الصائد لصيد البر فيشترط فيه ما يشترط في الذابح: بأن يكون مسلما، أومن أهل الكتاب، أو من هو في حكم أهل الكتاب كالمجوس والصابئين.

ومن التوجيهات التي علمها اإلسالم للصائد: أال يكون عابثا بصيده، فيزهق هذا األرواح، دون قصد منه إلى أكلها أو االنتفاع بها. وفي الحديث: "من قتل

عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة، يقول: يا رب، إن فالنا قتلني عبثا ولم

Page 35: الحلال والحرام في الإسلام

يقتلني منفعة".

وفي الحديث اآلخر: "ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إال سأله الله عنها يوم القيامة !! قيل: يا رسول الله، وما حقها ؟ قال: أن يذبحها

فيأكلها، وال يقطع رأسها فيرمي به".

هذا ويشترط في الصائد أيضا أال يكون محرما بحج أو عمرة، فإن المسلم في فترة اإلحرام يكون في مرحلة سالم كامل وأمن شامل، يمتد نطاقه حتى

يشمل ما حوله من حيوان في األرض أو طير في السماء حتى ولو كان الصيد أمامه تناله يده أو رمحه، ولكنه االبتالء والتربية التي تكون المؤمن القوي

الصابر. وفي ذلك يقول الله: )يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله

.95عذاب أليم. يا أيها الذين آمنوا ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم( سورة المائدة: . )غير محلي الصيد96)وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما( سورة المائدة:

.1وأنتم حرم( سورة المائدة:

بالمصيدما يتعلق

وأما الشروط التي تتعلق بالمصيد، فأن يكون حيوانا مما ال يقدر اإلنسان على تذكيته في الحلق واللبة، فإن قدر على تذكيته في ذلك فال بد منها وال يلجأ إلى

غيرها، ألنها األصل.

وكذلك لو رماه بسهمه أو سلط عليه كلبه ثم أدركه وفيه حياة مستقرة فعليه أن يحله بالذبح المعتاد في الحلق، فإن كان به حياة غير مستقرة، فإن ذبحه

فحسن، وإن تركه يموت من نفسه فال إثم عليه وفي )الصحيحين(: "وإذاأرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه".

الصيدما يكون به

وأما ما يكون به الصيد فنوعان:

-أ- اآللة الجارحة كالسهم والسيف والرمح كما أشارت اآلية )تناله أيديكم. 94ورماحكم( سورة المائدة:

-ب- الحيوان الجارح الذي يقبل التعليم كالكلب والفهد من سباع البهائم، والباز والصقر من سباع الطير. قال تعالى: )قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من

. 4الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله( سورة المائدة:

الجارحبالسالح الصيد

Page 36: الحلال والحرام في الإسلام

والصيد باآللة يشترط فيها أمران:

أوال: أن تنفذ في الجسد بحيث يكون قتلها بالنفاذ والخدش ال بالثقل. وقد سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرمي بالمعراض

الصيد فأصيبه ! قال: "إذا رميت بالمعراض فخزق -أي: نفذ في الجسد- فكل،وما أصاب بعرضه فال تأكل" والحديث متفق عليه.

وقد دل الحديث على أن المعتبر هو الخزق وإن كان القتل بمثقل، وعلى هذا يحل ما صيد برصاص البنادق والمسدسات ونحوها، فإنها تنفذ في الجسم أشد

من نفاذ السهم والرمح والسيف.

أما ما رواه أحمد من حديث "ال تأكل من البندقة إال ما ذكيت" وما رواه البخاري من قول ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة. فالبندقة هنا هي التي

تتخذ من طين فييبس فيرمى بها، فهي شيء غير البندقة تماما.

ومثل البندقة ما صيد بحصى الخذف، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخذف -الرمي بحصاة ونحوها- وقال: "إنها ال تصيد صيدا وال تنكأ عدوا، لكنها

تكسر السن، وتفقأ العين".

ثانيا: أن يذكر اسم الله على اآللة عند الرمي والضرب بها كما علم النبي صلىالله عليه وسلم عدي بن حاتم. وأحاديثه هي األصل في هذا الباب.

ونحوهابالكالب الصيد

فإذا كان الصيد بكلب أو باز مثال فالمطلوب فيه:

أوال: أن يكون معلما.

ثانيا: أن يصيد الصيد ألجل صاحبه، وتبعبير القرآن: أن يمسك على صاحبه العلى نفسه.

ثالثا: أن يذكر اسم الله عليه عند إرساله.

وأصل هذه الشروط هو ما نطقت به اآلية الكريمة )سيألونك ماذا أحل لهم ؟ قل: أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم

. 4الله، فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه( سورة المائدة:

وحد التعليم معروف، وهو قدرة صاحب الكلب على التحكم فيه وتوجيهه بحيث يدعوه فيجيب، ويغريه بالصيد فيندفع وراءه. ويزجره فينزجر -على خالف بين

الفقهاء في اشتراط بعض هذه األشياء- المهم أن يتحقق التعليم وهو أمريدرك بالعرف.

وحد اإلمساك على صاحبه أال يأكل منه. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد، فال تأكل، فإنما أمسك على نفسه، فإذا أرسلته فقتل

ولم يأكل فكل فإنما أمسكه على صاحبه".

Page 37: الحلال والحرام في الإسلام

ومن الفقهاء من فرق بين سباع البهائم كالكالب وسباع الطير كالصقر، فأباحما أكل منه الطير دون ما أكل منه الكلب.

والحكمة في هذين الشرطين تعليم الكلب ونحوه، ثم أمساكه على صاحبه هو السمو باإلنسان، وتنزيهه أن يأكل فضالت الكالب، وفرائس السباع مما يمكن

أن يتساهل فيه ضعفاء النفوس، فأما إذا كان الكلب معلما، وأمسك على صاحبه، فشأنه في تلك الحالة شأن اآللة التي يستعملها الصائد كالنبال

والرماح.

وذكر اسم الله عند إرسال الكلب كذكره عند قذف السهم أو وخز الرمح أوضرب السيف. وقد أمرت اآلية به ههنا )واذكروا اسم الله عليه( سورة المائدة:

. كما جاءت به األحاديث الصحيحة المتفق عليها، كحديث عدي بن حاتم.4

ومما يدل على هذا الشرط أنه لو شارك كلبه كلب آخر فإن صيدهما ال يحل. فحين سأل عدي النبي صلى الله عليه وسلم قائال: إني أرسل كلبي أجد معه كلبا، ال أدري أيها أخذه ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فال تأكل؛ فإنما

سميت على كلبك ولم تسم على غيره".

فإذا نسي التسمية عند الرمي أو اإلرسال فقد وضع الله عن هذه األمةالمؤاخذة بالنسيان والخطأ، وليتدارك ذلك عند األكل كما مر في الذبح.

وقد بينا عند الكالم على الذبح الحكمة في طلب التسمية باسم الله، وما قيلهناك يقال هنا أيضا.

بعد الرميةميتا إذا وجد الصيد

يحدث أحيانا أن يرمي الصائد سهمه فيصيب الصيد، ثم يغيب عنه فيجده بعد ذلك ميتا، وربما كان ذلك ميتا، وربما كان ذلك بعد أيام. وفي هذه الحالة يكون

الصيد حالال بشروط:

أال يقع في الماء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رميت سهمك. فإن وجدته قد قتل فكل، إال أن تجده قد وقع في ماء فإنك ال تدري: الماء قتله

أم سهمك؟".

أال يجد فيه أثرا لغير سهمه يعلم أنه سبب قتله.

فعن عدي بن حاتم: قلت: يا رسول الله "أرمي الصيد فأجد فيه سهمي منالغد؟" فقال: "إذا علمت أن سهمك قتله، ولم تر فيه أثر سبع فكل".

أال يصل الصيد إلى درجة النتن، فإن الطباع السليمة تستخبث المنتن وتشمئزمنه، فضال عما يتوقع من ضرره.

وفي )صحيح مسلم( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألبي ثعلبة الخشني:"إذا رميت سهمك فغاب -أي الصيد- ثالثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن".

Page 38: الحلال والحرام في الإسلام

الخمركل مسكر خمرمقدمة

االتجار بالخمرقليل ما أسكر كثيرهمقاطعة مجالس الخمرالمسلم ال يهدي خمراالخمر داء وليست دواء

 

مقدمة

الخمر هي تلك المادة الكحولية التي تحدث اإلسكار.

ومن توضيح الواضح أن نذكر ضررها على الفرد في عقله وجسمه، ودينه ودنياه. أو نبين خطرها على األسرة من حيث رعايتها والقيام على شؤونها

زوجة أو أوالدا. أو نشرح تهديدها للجماعات والشعوب في كيانها الروحيوالمادي والخلقي.

وبحق ما قاله أحد الباحثين: إن اإلنسان لم يصب بضربة أشد من ضربة الخمر، ولو عمل إحصاء عام عمن في مستشفيات العالم من المصابين بالجنون

واألمراض العضالة بسبب الخمر، وعمن انتحر أو قتل غيره بسبب الخمر، وعمن يشكو في العالم من آالم عصبية ومعدية ومعوية بسبب الخمر، وعمن أورد

نفسه موارد اإلفالس بسبب الخمر، وعمن تجرد من أمالكه بيعا أو غشا بسبب الخمر… لو عمل إحصاء بذلك أو ببعضه لبلغ حدا هائال نجد كل نصح بإزائه

صغيرا.

وقد كان العرب في جاهليتهم مولعين بشربها والمنادمة عليها؛ ظهر ذلك في لغتهم فجعلوا لها نحوا من مائة اسم، وفي شعرهم فوصفوها وأقداحها

ومجالسها وأنواعها.

فلما جاء اإلسالم أخذهم بمنهج تربوي حكيم، فتدرج معهم في تحريمها؛ فمنعهم أوال من الصالة وهم سكارى، ثم بين لهم أن إثمها أكبر من نفعها، ثم أنزل سبحانه اآلية الجامعة القاطعة في سورة المائدة )يا أيها الذين آمنوا إنما

الخمر والميسر واألنصاب واألزالم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر

والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصالة فهل أنتم منتهون( سورة المائدة.90،91اآليتين:

وفي هاتين اآليتين أكد الله تحريم الخمر والميسر القمار-تأكيدا بليغا، إذ قرنهما باألنصاب واألزالم، وجعلهما من عمل الشيطان، وإنما عمله الفحشاء

والمنكر. وطلب اجتنابهما وجعل هذا االجتناب سبيال إلى الفالح. وذكر من أضرارهما االجتماعية، تقطيع الصالت وإيقاع العداوة والبغضاء ومن أضرارهما

الروحية الصد عن الواجبات الدينية من ذكر الله والصالة. ثم طلب االنتهاءعنهما بأبلغ عبارة )فهل أنتم منتهون(.

وكان جواب المؤمنين على هذا البيان الحاسم قد انتهينا يا رب، قد انتهينا يا

Page 39: الحلال والحرام في الإسلام

رب.

وصنع المؤمنون العجب بعد نزول هذه اآلية، فكان الرجل في يده الكأس قد شرب منها بعضا وبقي بعض فحين تبلغه اآلية ينزع الكأس من فيه ويفرغها

على التراب.

وقد آمن كثير من الحكومات بأضرار الخمر على األفراد واألسر واألوطان، ومنهم من حاولوا أن يمنعوها بقوة القانون والسلطان -كأمريكا- ففشلوا،

على حين نجح اإلسالم وحده في محاربتها والقضاء عليها.

وقد اختلف رجال الكنيسة في موقف المسيحية من الخمر، واستندوا إلى أن في اإلنجيل نصا يقول: قليل من الخمر يصلح المعدة. ولو صح هذا الكالم وكان قليل الخمر يصلح المعدة حقا لوجب االمتناع عن هذا القليل، ألن قليل الخمر

إنما يجر إلى كثيرها والكأس األولى يغري بأخرى وأخرى حتى اإلدمان.

هذا على حين كان موقف اإلسالم صريحا صارما من الخمر وكل ما يعين علىشربها.

خمرمسكر كل

وكان أول ما أعلنه النبي في ذلك أنه لم ينظر إلى المادة التي تتخذ منها الخمر، وإنما نظر إلى األثر الذي تحدثه وهو اإلسكار، فما كان فيه قوة اإلسكار

فهو الخمر مهما وضع الناس لها من ألقاب وأسماء، ومهما تكن المادة التيصنعت منها -وعلى هذا البيرة وما شابهها حرام.

وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشربة تصنع من العسل أو من الذرة والشعير تنبذ حتى تشتد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع

الكلم فأجاب بجواب جامع: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام".

وأعلن عمر على الناس من فوق منبر الرسول عليه السالم: الخمر ما خامرالعقل.

ما أسكر كثيرهقليل

يسع ستة

ثم كان اإلسالم حاسما مرة أخرى حين لم ينظر إلى القدر المشروب من الخمر قل أو كثر، فيكفي أن تنزلق قدم اإلنسان في هذه السبيل، فيمضي وينحدر، ال

يلوي على شيء.

لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أسكر فقليله حرام"، "ما أسكرالفرق منه فملء الكف منه حرام" والفرق: مكيال عشر رطال.

Page 40: الحلال والحرام في الإسلام

بالخمراالتجار

ولم يكتف النبي عليه السالم بتحريم شرب الخمر قليلها وكثيرها، بل حرم االتجار بها، ولو مع غير المسلمين، فال يحل لمسلم أن يعمل مستوردا أو

مصدرا للخمر، أو صاحب محل لبيع الخمر، أو عامال في هذا المحل.

ومن أجل ذلك "لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة؛ عاصرها ومعتصرها -أي طالب عصرها- وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها،

وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له".

ولما نزلت آية المائدة السابقة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه اآلية ، وعنده منها شيء، فال يشرب وال يبع" قال راوي

الحديث: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها.

وعلى طريقة اإلسالم في سد الذرائع إلى الحرام، حرم على المسلم أن يبيع العنب لمن يعرف أنه سيعصره خمرا. وفي الحديث: "من حبس العنب أيام

القطاف، حتى يبيعه من يهودي -أي: ليهودي- أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا -أي: ولو كان مسلما- فقد تقحم النار على بصيرة".

ال يهدي خمراالمسلم

وإذا كان بيع الخمر وأكل ثمنها حراما على المسلم، فإن إهداءها بغير عوض، ولغير مسلم من يهودي أو نصراني أو غيره حرام أيضا؛ فما ينبغي للمسلم أن تكون الخمر هدية منه، وال هدية إليه، فهو طيب ال يهدى إال طيبا وال يقبل إال

طيبا.

وقد روي أن رجال أراد أن يهدي للنبي عليه الصالة والسالم رواية خمر، فأخبرهالنبي أن الله حرمها، فقال الرجل:

أفال أبيعها ؟

فقال النبي: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها".

فقال الرجل: أفال أكارم بها اليهود؟

فقال النبي: "إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود".

فقال الرجل: فكيف أصنع بها؟

فقال النبيصلى الله عليه وسلم: "شنها على البطحاء".

Page 41: الحلال والحرام في الإسلام

مجالس الخمرمقاطعة

وعلى هذه السنة أمر المسلم أن يقاطع مجالس الخمر، ومجالسة شاربيها. فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"من كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فال يقعد على مائدة تدار عليها الخمر".

إن المسلم مأمور أن يغير المنكر إذا رآه، فإذا لم يستطع أن يزيله، فليزل هوعنه، ولينأ عن موطنه وأهله.

ومما روي عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه كان يجلد شاربي الخمر ومن شهد مجالسهم، وإن لم يشرب معهم. ورووا أنه رفع إليه قوم شربوا الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فالنا، وقد كان صائما، فقال: به

ابدؤوا. أما سمعتم قول الله تعالى: )وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فال تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره

.140إنكم إذا مثلهم( سورة النساء:

وليست دواءداء الخمر

بكل هذه النصوص الواضحة كان اإلسالم حاسما كل الحسم في محاربة الخمر وإبعاد المسلم عنها، وإقامة الحواجز بينه وبينها، فلم يفتح أي منفذ -وإن ضاق

وصغر- لتناولها أو مالبستها.

ولم يبح للمسلم شربها ولو القليل منها، وال مالبستها ببيع أو شراء أو إهداء أو صناعة، وال إدخالها في متجره أو في بيته، وال إحضارها في حفالت األفراح وغير األفراح، وال تقديمها لضيف غير مسلم، وال أن تدخل في أي طعام أو

شراب.

بقي هنا جانب قد يسأل عنه بعض الناس وهو استعمال الخمر كدواء. وهذا ما أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فقد سأل رجل عن الخمر، فنهاه

عنها، فقال الرجل: إنما أصنعها للدواء. قال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بدواء ولكنه داء" وقال عليه السالم: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء

دواء، فتداووا، وال تتداووا بحرام".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه في شأن المسكر: "إن الله لم يجعل شفاءكمفيما حرم عليكم".

وال عجب أن يحرم اإلسالم التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات، فإن تحريم الشيء -كما قال اإلمام ابن القيم- يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي

اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه ومالبسته، وهذا ضد مقصود الشارع.

وقال: وأيضا، فإن في إباحة التداوي به -وال سيما إذا كانت النفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، وبخاصة إذا عرفت النفوس أنه نافع لها،

ومزيل ألسقامها، جالب لشفائها.

وأيضا فإن في هذا الدواء المحرم من األدواء ما يزيد على ما يظن فيه من

Page 42: الحلال والحرام في الإسلام

الشفاء.

وقد تنبه ابن القيم رحمه الله إلى جانب نفسي هام فقال: إن من شرط الشفاء الدواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء. ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين

اعتقاد منفعتها وبركتها، وحسن ظنه بها وتلقيه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيمانا كان أكره لها، وأسوأ اعتقاد فيها، وكان طبعه أكره شيء

لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء ال دوا.

ومع هذا فإن للضرورة حكمها في نظر الشريعة، فلو فرض أن الخمر أو ما خلط بها تعينت دواء لمرض يخشى منه على حياة اإلنسان بحيث ال يغني عنها دواء آخر -وما أظن ذلك يقع- ووصف ذلك طبيب مسلم ماهر في طبه، غيور على دينه، فإن قواعد الشريعة القائمة على اليسر، ودفع الحرج، ال تمنع من

ذلك، على أن يكون في أضيق الحدود الممكنة )فمن اضطر غير باغ وال عاد فإن.145ربك غفور رحيم( سورة األنعام:

المخدرات 

مقدمةكل ما يضر فأكله أو شربه حرام

مقدمة

)الخمر ما خامر العقل( كلمة نيرة قالها عمر بن الخطاب من فوق منبر النبي صلى الله عليه وسلم يحدد بها مفهوم الخمر، حتى ال تكثر أسئلة السائلين وال شبهات المشتبهين. فكل ما البس العقل وأخرجه عن طبيعته المميزة المدركة

الحاكمة فهو خمر حرام حرمه الله ورسوله إلى يوم القيامة.

ومن ذلك تلك المواد التي تعرف باسم "المخدرات" مثل الحشيش والكوكايين واألفيون ونحوها، مما عرف أثرها عند متعاطيها أنها تؤثر في حكم العقل على

األشياء واألحداث، فيرى البعيد قريبا، والقريب بعيدا، ويذهل عن الواقع، ويتخيل ما ليس بواقع، ويسبح في بحر األحالم واألوهام، وهذا ما يسعى إليه

متناولوها حتى ينسوا أنفسهم ودينهم ودنياهم ويهيموا في أودية الخيال.

وهذا غير ما تحدثه من فتور في الجسد، وخدر في األعصاب، وهبوط في الصحة وفوق ذلك ما تحدثه من خور النفس، وتميع الخلق، وتحلل اإلرادة،

وضعف الشعور بالواجب، مما يجعل هؤالء المدمنين لتلك السموم أعضاء غيرصالحة في جسم المجتمع.

فضال عما وراء ذلك كله من إتالف للمال، وخراب للبيوت، بما ينفق على تلك المواد من أموال طائلة، ربما دفعها المدمن من قوت أوالده، وربما انحرف إلى

طريق غير شريف يجلب منه ثمنها.

وإذا ذكرنا أن "التحريم يتبع الخبث والضرر" تبين لنا أن حرمة هذه الخبائث التي ثبت ضررها الصحي والنفسي والخلقي واالجتماعي واالقتصادي مما ال

شك فيه.

Page 43: الحلال والحرام في الإسلام

وعلى هذه الحرمة أجمع فقهاء اإلسالم الذين ظهرت في أزمنتهم هذه الخبائث. وفي طليعتهم شيخ اإلسالم ابن تيمية الذي قال: هذه الحشيشة

الصلبة حرام سواء سكر منها أم لم يسكر… إنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة

والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة )فقدان الغيرة( ما هو من الشراب

المسكر. وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار. وعلى تناول القليل والكثير منهاحد الشرب -ثمانون سوطا أو أربعون-.

ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر وشر منه من بعض الوجوه، ويعاقب على ذلك كما يعاقب هذا. قال: "وقاعدة الشريعة أن

ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، وما ال تشتهيه كالميتة ففيه التعزير؛ والحشيشة مما يشتهيها آكلوها، ويمتنعون عن تركها،ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك".

أو شربه حرامفأكله كل ما يضر

وهنا قاعدة عامة مقررة في شريعة اإلسالم، وهي أنه ال يحل للمسلم أن يتناول من األطعمة أو األشربة شيئا يقتله بسرعة أو ببطء -كالسهم بأنواعه- أو

يضره ويؤذيه، وال أن يكثر من طعام أو شراب يمرض اإلكثار منه، فإن المسلم ليس ملك نفسه، وإنما هو ملك دينه وأمته. وحياته وصحته وماله، ونعم الله

كلها عليه وديعة عنده، وال يحل له التفريط فيها. قال تعالى: )وال تقتلوا . وقال: )وال تلقوا بأيديكم29أنفسكم إن الله كان بكم رحيما( سورة النساء:

.195إلى التهلكة( سورة البقرة:

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ال ضرر وال ضرار".

ووفقا لهذا المبدأ نقول: إن تناول التبغ )الدخان( ما دام قد ثبت أنه يضر بمتناوله فهو حرام. وخاصة إذا قرر ذلك طبيب مختص بالنسبة لشخص معين. ولو لم يثبت ضرره الصحي لكان إضاعة للمال فيما ال ينفع في الدين أو الدنيا وقد "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال". ويتأكد النهي إذا

كان محتاجا إلى ما ينفقه من مال لنفسه أو عياله.

Page 44: الحلال والحرام في الإسلام

في الملبس والزينةمقدمة

دين النظافة والتجملالغرض من الملبس في نظر اإلسالم 

من الملبس في نظر اإلسالمالغرض

أباح اإلسالم للمسلم، بل طلب إليه أن يكون حسن الهيئة، كريم المظهر، جميلالهندام متمتعا بما خلق الله من زينة وثياب ورياش.

الغرض من الملبس في نظر اإلسالم أمران؛ ستر العورة، والزينة. ولهذا امتن الله على بني اإلنسان عامة بما هيأ لهم بتدبيره من لباس ورياش فقال تعالى:

.26)يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا( سورة األعراف:

فمن فرط في أحد هذين األمرين: الستر أو التزين، فقد انحرف عن صراط اإلسالم إلى سبل الشيطان. وهذا سر النداءين اللذين وجههما الله إلى بني

آدم -بعد النداء السابق- يحذرهم فيهما من العري، وترك الزينة، اتباعا لخطوات الشيطان. قال تعالى: )يا بني آدم ال يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من

. وقال سبحانه:27الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما( سورة األعراف: )يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا وال تسرفوا( سورة

. 31األعراف:

وقد أوجب اإلسالم على المسلم أن يستر عورته التي يستحي اإلنسان المتمدين بفطرته من كشفها، حتى يتميز عن الحيوان العاري. بل دعاه إلى

هذا التستر وإن كان منفردا بعيدا عن الناس، حتى يصير االحتشام له ديناوخلقا.

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: )احفظ عورتك إال من زوجتك أو ما ملكت يمينك(. قلت: يا

رسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ )أي في السفر ونحوه( قال: )فإن استطعت أن ال يراها أحد فال يرينها(. فقلت: فإذا كان أحدنا خاليا )أي

منفردا(؟ قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحي منه".

النظافة والتجملدين

وقبل أن يعنى اإلسالم بالزينة وحسن الهيئة وجه عناية أكبر إلى النظافة،فإنها األساس لكل زينة حسنة، وكل مظهر جميل.

وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "تنظفوا فإن اإلسالم نظيف".

)النظافة تدعو إلى اإليمان، واإليمان مع صاحبه في الجنة(.

وحث عليه السالم على نظافة الثياب، ونظافة األبدان، ونظافة البيوت، ونظافة

Page 45: الحلال والحرام في الإسلام

الطرق، وعني خاصة بنظافة األسنان، ونظافة األيدي، ونظافة الرأس.

وليس هذا عجبا في دين جعل الطهارة مفتاحا ألولى عباداته وهي الصالة؛ فال تقبل صالة من مسلم حتى يكون بدنه نظيفا، وثوبه نظيفا، والمكان الذي يصلي فيه نظيفا، وذلك غير النظافة المفروضة على الجسد كله، أو علىاألجزاء المتعرضة لألتربة منه، المعروفة في اإلسالم بالغسل والوضوء.

وإذا كانت البيئة العربية بما يكتنفها من بداوة وصحراء قد تغري أهلها أو الكثيرين منهم بإهمال شأن النظافة والتجمل، فإن النبي عليه السالم ظل

يتعهدهم بتوجيهاته اليقظة، ونصائحه الواعية، حتى ارتقى بهم من البداوة إلىالحضارة، ومن البذاذة المزرية إلى التجمل المعتدل.

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه الرسول -كأنه يأمره بإصالح شعره- ففعل، ثم رجع. فقال النبي صلى الله عليه

وسلم: "أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟".

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجال رأسه أشعث، فقال: "أما وجد هذا مايسكن به شعره؟ ".

ورأى آخر عليه ثياب وسخة، فقال: "أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه؟".

وجاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل وعليه ثوب دون. فقال له: "ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: من كل المال قد أعطاني الله تعالى. قال:

فإذا آتاك الله ماال، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته".

وأكد الحث على النظافة والتجمل في مواطن االجتماع مثل الجمعة والعيدين فقال: "ما على أحدكم -إن وجد سعة- أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي

مهنته".

الذهب.. والحرير 

حكمة اإلباحة للنساءالذهب والحرير الخالص حرام على الرجال 

 حكمة تحريمها على الرجال  

 

حرام على الرجالالخالص الذهب والحرير

وإذا كان اإلسالم قد أباح الزينة بل طلبها، واستنكر تحريمها )قل من حرم زينة . فإنه حرم على32الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق( سورة األعراف:

الرجال نوعين من الزينة -على حين أحلهما لإلناث-.

أولهما: التحلي بالذهب.

ثانيهما: لبس الحرير الخالص.

Page 46: الحلال والحرام في الإسلام

فعن علي كرم الله وجهه قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله في شماله، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور

أمتي".

وعن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ال تلبسوا الحرير،فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في اآلخرة".

وقال صلى الله عليه وسلم في حلة من الحرير: "إنما هذه لباس من ال أخالقله".

ورأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه وطرحه، وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده" فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله: خذ خاتمك

انتفع به. قال: ال والله، ال آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومثل الخاتم ما نراه عند المترفين من قلم ذهب، ساعة الذهب، قداحة )والعة(الذهب، علبة الذهب للسجاير، والفم الذهب … الخ.

أما التختم بالفضة فقد أباحه عليه السالم للرجال. روى البخاري عن ابن عمر قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق )فضة( وكان في يده، ثم كان بعد في يد أبي بكر؛ ثم كان بعد في يد عمر، ثم كان بعد في يد

عثمان حتى وقع في بئر أريس.

أما المعادن األخرى كالحديد وغيره فلم يرد نص صحيح يحرمها بل ورد في صحيح البخاري أن الرسول قال للرجل الذي أراد تزوج المرأة الواهبة نفسها:

"التمس ولو خاتما من حديد"، وبه استدل البخاري على حل خاتم الحديد.

ورخص في لبس الحرير إذا كان لحاجة صحية، فقد أذن عليه الصالة والسالم بلبسه لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما، لحكة كانت

بهما.

على الرجالتحريمها حكمة

وقد قصد اإلسالم بتحريم هذين األمرين على الرجال هدفا تربويا أخالقيا نبيال؛ فإن اإلسالم -وهو دين الجهاد والقوة- يحب أن يصون رجولة الرجل من مظاهر الضعف والتكسر واالنحالل. والرجل الذي ميزه الله بتركيب عضوي، غير تركيبالمرأة، ال يليق به أن ينافس الغانيات في جر الذيول، والمباهاة بالحلي والحلل.

ثم هناك هدف اجتماعي وراء هذا التحريم.

فتحريم الذهب والحرير جزء من برنامج اإلسالم في حربه للترف عامة، فالترف في نظر القرآن قرين لالنحالل الذي ينذر بهالك األمم، وهو مظهر للظلم

االجتماعي، حيث تتختم القلة المترفة على حساب أكثرية بائسة. وهو بعد ذلك عدو لكل رسالة حق وخير وإصالح. والقرآن يقول: )وإذا أردنا أن نهلك قرية

أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا( سورة . )وما أرسلنا في قرية من نذير إال قال مترفوها إنا بما أرسلتم به16اإلسراء:

Page 47: الحلال والحرام في الإسلام

.34كافرون( سورة سبأ:

وتطبيقا لروح القرآن حرم النبي عليه السالم كل مظاهر الترف في حياة المسلم، فكما حرم الذهب والحرير على الرجال، حرم على الرجال والنساء

جميعا استعمال أواني الذهب والفضة -كما سيأتي-.

وبعد هذا وذاك، هناك اعتبار اقتصادي له وزنه كذلك، فإن الذهب هو الرصيدالعالمي للنقد، فال ينبغي استعماله في مثل األواني أو حلي الرجال.

للنساءاإلباحة حكمة

وإنما استثنى النساء من هذا الحكم، مراعاة لجانب المرأة ومقتضى أنوثتها وما فطرت عليه من حب الزينة، على أال يكون همها من زينتها إغراء الرجال،

وإثارة الشهوات. وفي الحديث "إيما امرأة استعرضت فمرت على قوم ليجدواريحها فهي زانية، وكل عين زانية".

وقال تعالى محذرا للنساء: )وال يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن(.31سورة النور:

لباس المرأة المسلمةثياب الشهرة واالختيالمقدمة

 تشبه المرأة بالرجل والرجل بالمرأة      

مقدمة

وقد حرم اإلسالم على المرأة أن تلبس من الثياب ما يصف وما يشف عما تحته من الجسد، ومثله ما يحدد أجزاء البدن، وبخاصة مواضع الفتنة منه، والثديين

والخصر واأللية ونحوها.

وفي الصحيح عن أبي هريرة، قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها

الناس )إشارة إلى الحكام الظلمة إعداء الشعوب(، ونساء كاسيات عاريات مميالت مائالت رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، ال يدخلن الجنة، وال يجدن

ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".

وإنما جعلن "كاسيات" ألن الثياب عليهن، ومع هذا فهن "عاريات" ألن ثيابهن ال تؤدي وظيفة الستر، لرقتها وشفافيتها، فتصف ما تحتها، كأكثر مالبس النساء

في هذا العصر.

والبخت نوع من اإلبل، عظام األسنمة، شبه رؤوسهن بها، لما رفعن من

Page 48: الحلال والحرام في الإسلام

شعورهن على أوساط رؤوسهن، كأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينظر من وراء الغيب إلى هذا الزمان، الذي أصبح فيه لتصفيف شعور النساء وتجميلها

وتنويع أشكالها محالت خاصة "كوافير" يشرف عليها غالبا رجال يتقاضون على عملهم أبهظ األجور، وليس ذلك فحسب، فكثير من النساء ال يكتفين بما

وهبهن الله من شعر طبيعي، فيلجأن إلى شراء شعر صناعي تصله المرأةبشعرها، وليبدو أكثر نعومة ولمعانا وجماال، ولتكون هي أكثر جاذبية وإغراء.

والعجيب في أمر هذا الحديث أنه ربط بين االستبداد السياسي واالنحالل الخلقي وهذا ما يصدقه الواقع، فأن المستبدين يشغلون الشعوب عادة، بمايقوي الشهوات، ويلهي الناس بالمتاع الشخصي عن مراقبة القضايا العامة.

المرأة بالرجل والرجل بالمرأةتشبه

وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن من المحظور على المرأة أن تلبس لبسة الرجل، ومن المحظور على الرجل أن يلبس لبسة المرأة. ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. ويدخل في ذلك المتشبه في

الكالم والحركة والمشية واللبس غيرها.

إن شر ما تصاب به الحياة، وتبتلى به الجماعة، هو الخروج على الفطرة، والفسوق عن أمر الطبيعة، والطبيعة فيها رجل، وفيها امرأة، ولكل منهما

خصائصه، فإذا تخنث الرجل، واسترجلت المرأة، فذلك هو االضطراب واالنحالل.

وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم ممن لعنوا في الدنيا واآلخرة، وأمنت المالئكة على لعنهم، رجال جعله الله ذكرا فأنث نفسه نفسه وتشبه بالنساء،

وامرأة جعلها الله أنثى، فتذكرت، وتشبهت بالرجال.

ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن لبس المعصفر من الثياب. روى مسلم في "صحيحه" عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله

عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي )نوع من الحرير( … وعنلباس المعصفر".

وروي أيضا عن ابن عمرو قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليثوبين معصفريين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فال تلبسها ".

الشهرة واالختيالثياب

والضابط العام للتمتع بالطيبات كلها من مأكل أو مشرب أو ملبس: أال يكونفي تناولها إسراف وال اختيال.

واإلسراف هو مجاوزة الحد في التمتع بالحالل، واالختيال أمر يتصل بالنية والقلب أكثر من اتصاله بالظاهر، فهو قصد المباهاة والتعاظم واالفتخار على

.23الناس )والله ال يحب كل مختال فخور( سورة الحديد:

Page 49: الحلال والحرام في الإسلام

وقال عليه السالم: "من جر ثوبه خيالء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".

ولكي يتجنب المسلم مظنة االختيال، نهى النبي عن ثياب "الشهرة" التي من شأنها أن تثير الفخر والمكاثرة والمباهاة بين الناس بالمظاهر الفارغة. وفي

الحديث: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة".

وقد سأل رجل ابن عمر: ماذا ألبس من الثياب؟ فقال: ما ال يزدريك فيه السفهاء -يعني لتفاهته وسوء منظره- وال يعيبك به الحكماء -يعني لتجاوزه حد

االعتدال-.

تغيير خلق الله

الغلو في الزينة بتغيير خلقالله

تحريم الوشم وتحديد األسنان وجراحاتالتجميل

وصل الشعرترقيق الحواجبإعفاء اللحىصبغ الشيب

      

الغلو في الزينة بتغيير خلق الله

وقد رفض اإلسالم الغلو في الزينة إلى الحد الذي يفضي إلى تغيير خلق الله، الذي اعتبره القرآن من وحي الشيطان، الذي قال عن أتباعه: )وآلمرنهم

.119فليغيرن خلق الله( سورة النساء:

وتحديد األسنان وجراحات التجميلالوشم تحريم

ومن ذلك وشم األبدان، ووشر األسنان، وقد "لعن الرسول عليه الصالةوالسالم الواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة".

أما الوشم ففيه تشويه للوجه واليدين بهذا اللون األزرق والنقش القبيح، وقد أفرط بعض العرب فيه -وبخاصة النساء- فنقشوا به معظم البدن. هذا إلى أن

بعض أهل الملل كانوا يتخذون منه صورا لمعبوداتهم وشعائرهم، كما نرىالنصارى يرسمون به الصليب على أيديهم وصدورهم.

أضف إلى هذه المفاسد ما فيه من ألم وعذاب بوخز اإلبر في بدن الموشوم.

كل ذلك جلب اللعنة على من تعمل هذا الشيء )الواشمة( ومن تطلب ذلكلنفسها )المستوشمة(.

وأما وشر األسنان، أي تحديدها وتقصيرها، فقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة التي تقوم بهذا العمل )الواشرة(، والمرأة التي تطلب أن يعمل

Page 50: الحلال والحرام في الإسلام

ذلك بها )المستوشرة(. ولو فعل رجل ذلك، الستحق اللعنة من باب أولى.

وكما حرم الرسول وشر األسنان حرم التفلج، "ولعن المتفلجات للحسن،المغيرات خلق الله".

والمتفلجة هي التي تصنع الفلج أو تطلبه، والفلج: انفراج ما بين األسنان، ومن النساء من يخلقها الله كذلك، ومنهن من ليست كذلك، فتلجأ إلى برد ما

بين األسنان المتالصقة خلقة، لتصير متفلجة صناعة، وهو تدليس على الناس،وغلو في التزين تأباه طبيعة اإلسالم.

وبهذه األحاديث الصحيحة نعرف الحكم الشرعي فيما يعرف اليوم باسم "جراحات التجميل" التي روجتها حضارة الجسد والشهوات -أعني الحضارة

الغربية المادية المعاصرة- فترى المرأة أو الرجل ينفق المئات أو اآلالف، لكي تعدل شكل أنفها، أو ثدييها أو غير ذلك. فكل هذا يدخل فيمن لعن الله

ورسوله، لما فيه من تعذيب لإلنسان، وتغيير لخلقة الله، بغير ضرورة تلجئ لمثل هذا العمل إال أن يكون اإلسراف في العناية بالمظهر، واالهتمام بالصورة

ال بالحقيقة، وبالجسد ال بالروح.

"أما إذا كان في اإلنسان عيب شاذ يلفت النظر كالزوائد التي تسبب له ألما حسيا أو نفسانيا كلما حل بمجلس، أو نزل بمكان، فال بأس أن يعالجه، ما دام يبغي إزالة الحرج الذي يلقاه، وينغص عليه حياته، فإن الله لم يجعل علينا في

الدين من حرج".

ولعل مما يؤيد ذلك أن الحديث لعن "المتفلجات للحسن" فيفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك ال لغرض إال لطلب الحسن والجمال الكاذب، فلو

احتاجت إليه إلزالة ألم أو ضرر، لم يكن في ذلك بأس. والله أعلم.

الحواجبترقيق

ومن الغلو في الزينة التي حرمها اإلسالم النمص، والمراد إزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النامصة

والمتنمصة". والنامصة، التي تفعله، والمتنمصة التي تطلبه.

وتتأكد حرمة النمص إذا كان شعارا للخليعات من النساء.

قال بعض علماء الحنابلة: يجوز الحف )يقال: حفت المرأة وجهها: أي زينته بإزالة شعره( والتحمير والنقش والتطريف إذا كان بإذن الزوج ألنه من الزينة، وشدد النووي فلم يجز الحف، واعتبره من النمص المحرم. ويرد عليه ما ذكره

أبو داود في السنن: أن النامصة هي التي تنقش الحاجب حتى ترقه. فلم يدخلفيه حف الوجه وإزالة ما فيه من شعر.

وأخرج الطبري عن امرأة أبي إسحاق أنها دخلت على عائشة، وكانت شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك األذى

ما استطعت.

Page 51: الحلال والحرام في الإسلام

الشعروصل

ومن المحظور في زينة المرأة كذلك، أن تصل شعرها بشعر آخر، سواء أكانشعرا حقيقيا أم صناعيا، كالذي يسمى اآلن "الباروكة".

فقد روى البخاري عن غيره عن عائشة وأختها أسماء وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة"

والواصلة هي التي تقوم بوصل الشعر بنفسها أو بغيرها، والمستوصلة التيتطلب ذلك.

ودخول الرجل في هذا التحريم من باب أولى، سواء أكان واصال كالذي يسمونه"كوافير" أو مستوصال كالمخنثين من الشباب )كالذي يسمونهم الخنافس(.

ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في محاربة هذا النوع من التدليس، حتى إنه لم يجز لمن تساقط شعرها نتيجة المرض أن يوصل به شعر آخر، ولو كانت

عروسا ستزف إلى زوجها.

روى البخاري عن عائشة أن جارية من األنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لعن

الله الواصلة والمستوصلة".

وعن أسماء قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي أصابتها الحصبة، فامرق شعرها، وإني زوجتها، أفأصل فيه ؟

فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة".

وعن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها، فخطبنا، فأخرج كبة من شعر. قال: "ما كنت أرى أحدا يفعل هذا غير اليهود، إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور، يعني الواصلة في الشعر". وفي رواية أنه

قال ألهل المدينة: أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلمينهى عن مثل هذه ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم".

وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العمل "زورا" يومئ إلى حكمة تحريمه، فهو ضرب من الغش والتزييف والتمويه، واإلسالم يكره الغش، ويبرأ

من الغاش في كل معاملة، مادية كانت أو معنوية، "من غشنا فليس منا".

قال الخطابي: إنما ورد الوعيد الشديد في هذه األشياء، لما فيها من الغش والخداع، ولو رخص في شيء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغش، ولما فيها من تغيير الخلقة، وإلى ذلك اإلشارة في حديث ابن مسعود

بقوله "المغيرات خلق الله".

والذي دلت عليه األحاديث إنما هو وصل الشعر بالشعر، طبيعيا كان أو صناعيا، فهو الذي يحمل معنى التزوير والتدليس، فأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر

من خرقة أو خيوط و نحوها، فال يدخل في النهي.

وفي هذا جاء عن سعيد بن جبير قال: "ال بأس بالقرامل". والمراد به هنا: خيوط من حرير أو من صوف تعمل ضفائر، تصل به المرأة شعرها، وبجوازها

Page 52: الحلال والحرام في الإسلام

قال اإلمام أحمد.

الشيبصبغ

ومما يتعلق بموضوع الزينة صبغ الشيب في الرأس أو اللحية، فقد ورد أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يمتنعون عن صبغ الشيب وتغييره، ظنا منهم أن

التجمل والتزيين ينافي التعبد والتدين، كما هو شأن الرهبان والمتزهدين المغالين في الدين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تقليد القوم،

واتباع طريقتهم، لتكون للمسلمين دائما شخصيتهم المتميزة المستقلة في المظهر والمخبر. روى البخاري عن أبي هريرة انه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اليهود والنصارى ال يصبغون فخالفوهم". وهذا األمر لالستحباب كما يدل

عليه فعل الصحابة، فقد صبغ بعضهم كأبي بكر وعمر، وترك بعضهم مثل عليوأبي بن كعب وأنس.

ولكن بأي شيء يكون الصبغ؟ أيكون بالسواد وغيره من األلوان، أم يجتنب السواد؟ أما الشيخ الكبير الذي عم الشيب رأسه ولحيته، فال يليق به أن يصبغ

بالسواد بعد أن بلغ من الكبر عتيا. ولهذا حين جاء أبو بكر الصديق بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه

وسلم ورأى رأسه كأنها الثغامة بياضا. قال: "غيروا هذا )أي الشيب( وجنبوهالسواد". والثغامة نبات شديد البياض زهره وثمره.

وأما من لم يكن في مثل حال أبي قحافة وسنه فال إثم عليه إذا صبغ بالسواد، وفي هذا قال الزهري: "كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه جديدا، فلما نغض

الوجه واألسنان تركناه".

وقد رخص في الصبغ بالسواد طائفة من السلف منهم من الصحابة: سعد بنأبي وقاص، وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغيرهم.

ومن العلماء من لم يرخص فيه إال في الجهاد، إلرهاب األعداء، إذا رأوا جنوداإلسالم كلهم في مظهر الشباب.

وفي الحديث الذي رواه أبو ذر: "إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم". والكتم: نبات باليمن تخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، أما صبغ الحناء

فأحمر.

وروي من حديث أنس قال: "اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمربالحناء بحتا".

اللحىإعفاء

ومما يتصل بموضوعنا إعفاء اللحى. فقد روى فيه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب". وتوفيرها هو إعفاؤها كما في رواية أخرى )أي تركها وإبقاؤها(.

Page 53: الحلال والحرام في الإسلام

وقد بين الحديث علة هذا األمر وهو مخالفة المشركين، والمراد بهم المجوس عباد النار، فقد كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها. وإنما أمر

الرسول بمخالفتهم، ليربي المسلمين على استقالل الشخصية، والتميز في المعنى والصورة، والمخبر والمظهر، فضال عما في حلق اللحية من تمرد على

الفطرة، وتشبه بالنساء، إذ اللحية من تمام الرجولة، ودالئلها المميزة.

وليس المراد بإعفائها أال يأخذ منها شيئا أصال، فذلك قد يؤدي إلى طولها طوال فاحشا، يتأذى به صاحبها، بل يأخذ من طولها وعرضها، كما روي ذلك في حديث

عن الترمذي، وكما كان يفعل السلف، قال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، )أي تقصيرها وتسويتها(، وأما األخذ من طولها وعرضها إذا عظمت

فحسن.

وقال أبو شامة: "وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشهر مما نقل عنالمجوس أنهم كانوا يقصونها".

أقول: بل أصبح الجمهور األعظم من المسلمين يحلقون لحاهم، تقليدا ألعداء دينهم ومستعمري بالدهم من النصارى واليهود، كما يولع المغلوب دائما بتقليد الغالب، غافلين عن أمر الرسول بمخالفة الكفار، ونهيه عن التشبه بهم، فإن

من "تشبه بقوم فهو منهم".

نص كثير من الفقهاء على تحريم حلق اللحية مستدلين بأمر الرسول بإعفائها.واألصل في األمر الوجوب، وخاصة أنه علل بمخالفة الكفار، ومخالفتهم واجبة.

ولم ينقل عن أحد من السلف أنه ترك هذا الواجب قط. وبعضعلماء العصر يبيحون حلقها تأثرا بالواقع، وإذعانا لما عمت به البلوى ولكنهم يقولون: إن إعفاء اللحية من األفعال العادية للرسول وليست من أمور الشرع التي يتعبد

بها. والحق أن إعفاء اللحية لم يثبت بفعل الرسول وحده بل بأمره الصريح المعلل بمخالفة الكفار. وقد قرر ابن تيمية بحق أن مخالفتهم أمر مقصود

للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة ومواالة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس

والتجربة. قال: وقد دل الكتاب والسنة واإلجماع على األمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط

علق الحكم به ودار التحريم عليه، فمشابهتهم في ذلك الظاهر سبب لمشابهتهم في األخالق واألفعال المذمومة، بل في نفس االعتقادات، وتأثير

ذلك ال ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد ال يظهر، وقد يتعسر أويتعذر زواله، وكل ما كان سببا إلى الفساد فالشارع يحرمه.

وبهذا نرى أن في حلق اللحية ثالثة أقول: قول بالتحريم وهو الذي ذكره ابن تيمية وغيره. وقول بالكراهة وهو الذي ذكر في الفتح عن عياض ولم يذكر غيره. وقول باإلباحة وهو الذي يقول به بعض علماء العصر. ولعل أوسطها

أقربها وأعدلها -وهو القول بالكراهة- فإن األمر ال يدل على الوجوب جزما وإن علل بمخالفة الكفار، وأقرب مثل على ذلك هو األمر بصبغ الشيب مخالفة

لليهود والنصارى، فإن بعض الصحابة لم يصبغوا، فدل على أن األمرلالستحباب.

صحيح أنه لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية، ولعل ذلك ألنه لم تكن بهمحاجة لحلقها وهي عادتهم.

Page 54: الحلال والحرام في الإسلام
Page 55: الحلال والحرام في الإسلام

البيت فيمقدمة

مظاهر الترف والوثنية 

مقدمة المسكن أو البيت هو الذي يكن المرء من عوادي الطبيعة، ويشعر فيه

الخصوصية والحرية من كثير من قيود المجتمع، فيستريح فيه الجسد، وتسكن إليه النفس، ولذا قال الله تعالى في معرض االمتنان على عباده: )والله جعل

.80لكم من بيوتكم سكنا( سورة النحل:

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب سعة الدار، ويعد ذلك من عناصر السعادة الدنيوية فيقول: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن

الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنئ".

وكان يدعو كثيرا بهذه الدعوات: "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي" فقيل له: ما أكثر ما تدعو بهذه الدعوات يا رسول الله !

فقال: "هل تركن من شيء؟".

كما حث عليه السالم على نظافة البيوت لتكون مظهرا من مظاهر اإلسالم دين النظافة، وعنوانا يتميز به المسلم عن غيره ممن جعل دينهم القذارة من

وسائل القربة إلى الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود،

فنظفوا أفنيتكم وال تشبهوا باليهود". واألفنية جمع فناء، وهو بهو البيتوساحته.

الترف والوثنيةمظاهر

وال حرج على المسلم أن يجمل بيته بألوان الزهور، وأنواع النقش والزينة.32الحالل )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده( األعراف:

نعم ال حرج على المسلم في أن يعشق الجمال في بيته، وفي ثوبه ونعله، وكل ما يتصل به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ال يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه

حسنا ونعله حسنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال".

وفي رواية: أن رجال جميال أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب الجمال، وقد أعطيت منه ما ترى، حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل.

أفمن الكبر ذلك يا رسول الله ؟ قال: "ال، ولكن الكبر بطر الحق وغمصالناس".

Page 56: الحلال والحرام في الإسلام

وبطر الحق: رده، ورفض الخضوع له. وغمص الناس: احتقارهم.

بيد أن اإلسالم يكره الغلو في كل شيء. والنبي صلوات الله عليه لم يرض للمسلم أن يشتمل بيته على مظاهر الترف والسرف التي نعى عليها القرآن،

أو مظاهر الوثنية التي حاربها دين التوحيد بكل سالح.

الذهـب.. والفضةآنية الذهب والفضة

من أجل ذلك حرم اإلسالم اتخاذ أواني الذهب والفضة ومفارش الحرير الخالص في البيت المسلم، وتهدد النبي عليه السالم من ينحرف عن هذا الطريق

بالوعيد الشديد. روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها: "إنالذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم".

وروى البخاري عن حذيفة قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه، وقال: هو لهم )أي للكفار( في الدنيا ولنا في اآلخرة". وما حرم

استعماله حرم اتخاذه تحفة وزينة.

وهذا التحريم لألواني والمفارش ونحوها تحريم على الرجال والنساء جميعا، فإن حكمة التشريع هنا هو تطهير البيت نفسه من مواد الترف الممقوت. وما

أروع ما قاله ابن قدامة: "يستوي في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث، وألن على تحريمها السرف والخيالء وكسر قلوب الفقراء، وهذا معنى يشمل

الفريقين. وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى التزين لألزواج، فتختص اإلباحة به دون غيره. فإن قيل: لو كانت العلة ما ذكرتم لحرمت آنية الياقوت ونحوه

مما هو أرفع من األثمان )الذهب والفضة(. وقلنا: تلك ال يعرفها الفقراء، فال تنكسر قلوبهم باتخاذ األغنياء لها بعد معرفتهم بها، وألن قلتها في نفسها

تمنع اتخاذها فيستغنى بذلك عن تحريمها بخالف األثمان".

على أن االعتبار االقتصادي الذي أشرنا إليه في حكمة تحريم الذهب على الرجال أشد وضوحا هنا، وأكثر بروزا. فإن الذهب والفضة هما الرصيد العالمي

للنقود التي جعلها الله معيارا لقيمة األموال، وحاكما يتوسط بينها بالعدل، وييسر تبادلها للناس. وقد هدى الله الناس إلى استعمالها نعمة منه عليهم،

ليتداولوها بينهم ال ليحبسوها في بيوتهم في صورة نقود مكنوزة، أو يعطلوهافي شكل أواني وأدوات للزينة.

وما أجمل ما قال اإلمام الغزالي في هذا المعنى في كتاب الشكر من اإلحياء: "كل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة، فقد كفر النعمة،

وكان أسوأ حاال ممن كنز؛ ألن مثال هذا من استسخر حاكم البلد في الحياكة والكنس، واألعمال التي يقوم بها أخساء الناس، والحبس أهون منه، وذلك أن

الخزف والحديد والرصاص والنحاس، تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات أن تتبدد، وإنما األواني لحفظ المائعات، وال يكفي الخزف والحديد في

المقصود الذي أريد به النقود. فمن لم ينكشف له هذا )يعني بالتفكير والمعرفة( انكشف له بالترجمة اإللهية، وقيل له: )من شرب في آنية من ذهب

أو فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم(".

وال يظن ظان أن في هذا التحريم تضييقا على المسلم في بيته، فإن في

Page 57: الحلال والحرام في الإسلام

الحالل الطيب مندوحة واسعة، وما أجمل أواني القيشاني والزجاج والخزف والنحاس وسائر المعادن الكثيرة! وما أجمل المفارش والوسائد من القطن

والكتان وغيرهما من المواد!

التماثيل 

الحكمة في تحريم التماثيلاإلسالم يحرم التماثيلنهج اإلسالم في تخليد العظماءالتماثيل الناقصة والمشوهة

صور اللوحات والنقوش )أي الصور غير المجسمة(الرخصة في لعب األطفال امتهان الصورة يجعلها حالال

  

يحرم التماثيلاإلسالم

وحرم اإلسالم في البيت اإلسالمي أن يشتمل على التماثيل، وأعني بها الصور المجسمة غير الممتهنة، وجعل وجود هذه التماثيل في بيت سببا في أن تفر عنه المالئكة، وهم مظهر رحمة الله ورضاه تعالى. قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: "إن المالئكة ال تدخل بيتا فيه تماثيل )أو تصاوير(".

قال العلماء: إنما لم تدخل المالئكة البيت الذي فيه الصورة، ألن متخذها قد تشبه بالكفار؛ ألنهم يتخذون الصور في بيوتهم ويعظمونها، فكرهت المالئكة

ذلك، فلم تدخل بيته هجرا له.

وحرم اإلسالم على المسلم أن يشتغل بصناعة التماثيل، وإن كان يعملها لغير مسلمين، قال عليه السالم: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين

يصورون هذه الصور". وفي رواية: "الذين يضاهون بخلق الله".

وأخبر عليه السالم أن "من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا". ومعنى هذا أنه يطلب إليه أ ن يجعل فيها حياة حقيقية.

وهذا التكليف إنما هو للتعجيز والتقريع.

في تحريم التماثيلالحكمة

-أ- ومن أسرار هذا التحريم -وليس هو العلة الوحيدة كما يظن بعض الناس- حماية التوحيد، والبعد عن مشابهة الوثنيين في تصاويرهم وأوثانهم التي

يصنعونها بأيديهم، ثم يقدسونها ويقفون أمامها خاشعين.

إن حساسية اإلسالم لصيانة التوحيد من كل شبهة للوثنية قد بلغت أشدها،

Page 58: الحلال والحرام في الإسلام

واإلسالم على حق في هذا االحتياط وتلك الحساسية؛ فقد انتهى األمر بأمم اتخذوا لموتاهم وصالحيهم صورا يذكرونهم بها، ثم طال عليهم األمد فقدسوها

شيئا فشيئا، حتى اتخذت آلهة تعبد من دون الله؛ ترجى وتخشى وتلتمس منعندها البركات، كما حدث لقوم ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر.

وال عجب في دين كان من قواعد شريعته سد الذرائع إلى الفساد أن يسد كل المنافذ التي يتسرب منها إلى العقول والقلوب شرك جلي أو خفي، أو

مشابهة للوثنيين وأهل الغلو من األديان. وال سيما أنه ال يشرع لجيل أو جيلين، وإنما يشرع للبشرية كلها في شتى بقاعها، وإلى أن تقوم الساعة. وما يستبعد

في بيئة قد يقبل في أخرى، وما يعتبر مستحيال في عصر قد يصبح حقيقةواقعة في عصر آخر قريب أو بعيد.

-ب- ومن أسرار التحريم بالنسبة للصانع )المثال( أن ذلك المصور أو المثال الذي ينحت تمثاال، يملؤه الغرور، حتى لكأنما أنشأ خلقا من عدم، أو أبدع كائنا حيا من تراب. وقد حدثوا أن أحدهم نحت تمثاال، مكث نحته دهرا طويال، فلما

أكمله وقف أمامه معجبا مبهورا أمام تقاسيمه وتقاطيعه حتى إنه خاطبه فينشوة من الغرور والفخر: تكلم.. تكلم !!

ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". وفي الحديث عن الله

تعالى "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة!!".

-جـ-ثم إن الذين ينطلقون في هذا الفن إلى مداه ال يقفون عند حد، فيصورون النساء عاريات أو شبه عاريات، ويصورون مظاهر الوثنية وشعائر األديان

األخرى، كالصليب والوثن وغير ذلك مما ال يجوز أن يقبله المسلم.

-د-وفضال عن ذلك، فقد كانت التماثيل -وال تزال- من مظاهر أرباب الترف والتنعم، يملؤون بها قصورهم، ويزينون بها حجراتهم، ويتفننون في صنعها من

معادن مختلفة.وليس بعيدا على دين يحارب الترف في كل مظاهره وألوانه -من ذهب وفضة وحرير- أن يحرم كذلك التماثيل في بيت المسلم.

اإلسالم في تخليد العظماءنهج

ولعل قائال يقول: أليس من الوفاء أن ترد األمة بعض الجميل لعظمائها الذين كتبوا بأعمالهم صفحات مجيدة في تاريخها، فتقيم لهم تماثيل مادية تذكر

األجيال الالحقة بما كان لهم من فضل، وما بنوه من مجد. فإن ذاكرة الشعوبكثيرا ما تنسى، واختالف النهار والليل ينسي؟

والجواب أن اإلسالم يكره الغلو في تعظيم األشخاص -مهما بلغت مرتبتهم- أحياء كانوا أو أمواتا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ال تطروني كما

أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله".

وأرادوا أن يقفوا إذا رأوه تحية له، وتعظيما لشأنه، فنهاهم عن ذلك وقال: "التقوموا كما تقوم األعاجم يعظم بعضها بعضا".

وحذر أمته أن يغلوا في شأنه بعد وفاته فقال: "ال تجعلوا قبري عيدا". ودعا ربه

Page 59: الحلال والحرام في الإسلام

فقال: "اللهم ال تجعل قبري وثنا يعبد".

وجاء أناس إليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم، وال يستهوينكم الشيطان. أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق

منزلتي التي أنزلني الله عز وجل".

ودين هذا موقفه من تعظيم البشر ال يرضى أن يقام لبعض الناس أنصاب كأنهااألصنام، تنفق عليها األلوف، ليشير الناس إليهم بالتعظيم والتبجيل.

وما أكثر ما يدخل أدعياء العظمة، والمزورون على التاريخ من هذا الباب المفتوح لكل من يقدر، أو يقدر أتباعه وأذنابه على إقامة هذا النصب الزائف.

وبذلك يضللون الشعوب عن العظماء األصالء.

إن الخلود الحقيقي الذي يتطلع إليه المؤمنون هو الخلود عند الله، الذي يعلم السر وأخفى، والذي ال يضل وال ينسى. وما أكثر العظماء الذين كتبوا في

سجل الخلود عنده وهم جنود مجهولون عند الخلق، ذلك ألنه تعالى يحب األبراراألتقياء األخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفقدوا.

وإن كان البد من الخلود عند الناس، فلن يكون بإقامة تماثيل لمن يراد تخليدهم من العظماء. والطريقة الفذة التي يرضاها اإلسالم هي تخليدهم في القلوب

واألفكار، وعلى األلسنة، بما قدموا من خير وعمل، وما تركوا وراءهم من مآثرصالحات، تكون لهم لسان صدق في اآلخرين.

وماخلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وقادة اإلسالم، وأئمته األعالم، بصورة مادية وال تماثيل حجرية نحتت لهم. كال؛ إنما هي مناقب ومآثر

يتناقلها الخلف عن السلف واألبناء عن اآلباء محفورة في الصدر، مذكورة باأللسنة، تعطر المجالس والندوات وتمأل العقول والقلوب، بال صورة وال

تمثال.

في لعب األطفالالرخصة

وإذا كان هناك نوع من التماثيل ال يظهر فيه قصد التعظيم، وال الترف، وال يلزم منه شيء من المحذورات السابقة، فاإلسالم ال يضيق به صدرا، وال يرى به

بأسا.

وذلك كلعب األوالد الصغار التي تصنع على شكل عرائس أو قطط أو غير ذلك من السباع والحيوانات فإن هذه الصور تمتهن باللعب وعبث األوالد بها. قالت أم المؤمنين عائشة: "كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

وكان يأتيني صواحب لي، فكن ينقمعن )يختفين( خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله يسر لمجيئهن إلي. فيلعبن معي". وفي

رواية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوما: "ما هذا؟" قالت: بناتي. قال: "ما هذا الذي في وسطهن؟" قالت: فرس. قال: "ما هذا الذي عليه؟"

قالت: جناحان. قال: "فرس له جناحان؟" قالت: أو ما سمعت أنه كان لسليمان بن داود خيل لها أجنحة؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. والبنات المذكورة في الحديث هي العرائس التي يلعب بها الجواري

Page 60: الحلال والحرام في الإسلام

والولدان، وكانت السيدة عائشة حديثة السن في أول زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشوكاني: في هذا الحديث دليل على أنه يجوز

تمكين الصغار من اللعب بالتماثيل. وقد روي عن مالك أنه كره للرجل أن يشتري لبنته ذلك. وقال القاضي عياض: إن اللعب بالبنات للبنات الصغار

رخصة.

ومثل لعب األطفال التماثيل التي تصنع من الحلوى وتباع في األعياد ونحوهاثم ال تلبث أن تؤكل.

والمشوهةالناقصة التماثيل

ورد في الحديث أن جبريل عليه السالم امتنع عن دخول بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لوجود تمثال على باب بيته، ولم يدخل في اليوم التالي حتى قال

له: "مر برأس التمثال فليقطع حتى يصير كهيئة الشجرة".

وقد استدل فريق من العلماء بهذا الحديث، على أن المحرم من الصور هو ماكان كامال، أما ما فقد عضوا ال تمكنه الحياة بدونه، فهو مباح.

ولكن النظر الصحيح الصادق فيما طلبه جبريل من قطع رأس التمثال حتى يصير كهيئة الشجرة؛ يدلنا على أن العبرة ليست بتأثير العضو الناقص في حياة الصورة أو موتها بدونه، وإنما العبرة في تشويهها بحيث ال يبقى منظرها موحيا

بتعظيمها بعد نقص هذا الجزء منها.

وال ريب أننا إذا تأملنا وأنصفنا نحكم بأن التماثيل النصفية التي تقام في الميادين، تخليدا لبعض الملوك والعظماء، أشد في الحرمة من التماثيل

الصغيرة الكاملة التي تتخذ للزينة في البيوت

)أي الصور غير المجسمة(والنقوش صور اللوحات

ذلك هو الموقف اإلسالم من الصور المجسمة التي نطلق عليها عرفا)التماثيل(.

ولكن ما الحكم في الصور واللوحات الفنية التي ترسم على المسطحاتكالورق والثياب والستور والجدران والبسط والنقوذ ونحوها؟.

والجواب أن حكمها ال يتبين إال إذا نظرنا في الصورة نفسها ألي شيء هي؟ وفي وضعها أين توضع وكيف تستعمل؟ وفي قصد مصورها ماذا قصد من

تصويرها؟

فإن كانت الصورة الفنية لما يعبد من دون الله -كالمسيح عند النصارى، والبقرة عند الهندوس- وما شابه ذلك، فإن من صورها لهذا الغرض وبهذا

القصد ال يكون إال كافرا ناشرا للكفر والضالل. وفي مثله جاء الوعيد الشديد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة

Page 61: الحلال والحرام في الإسلام

المصورون".

قال الطبري: "إن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصد له؛ فإنه يكفر بذلك، وأما من ال يقصد ذلك فإنه يكون عاصيا بتصويره

فقط".

ومثل ذلك من علق هذه الصور تقديسا لها فهذا عمل ال يصدر من مسلم، إال إذاطرح اإلسالم وراء ظهره.

وقريب من ذلك من صور ما ال يعبد، قاصدا بتصويره مضاهاة خلق الله، أي مدعيا أنه يخلق ويبدع كما يخلق الله جل وعال، فهو بهذا القصد يخرج من دين

التوحيد، وفي مثل هذا جاء الحديث "إن أشد الناس عذابا الذين مضاهون بخلق الله" وهذا أمر يتعلق بنية المصور وحده. ولعل مما يؤيد هذا الحديث عن الله تعالى "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة أو ذرة" فالتعبير

بقوله: "ذهب يخلق كخلقي" يدل على القصد إلى المضاهاة ومنازعة األلوهيةخصائصها من الخلق واإلبداع.. وتحدي الله تعالى لهم أن يخلقوا حبة أو ذرة -

أي غلة- يشير إلى أنهم في فعلهم قصدوا هذا المعنى. ولهذا يجزيهم على رؤوس األشهاد يوم القيامة حين يقال لهم: أحيوا ما خلقتم ! وتكليف المصور

منهم أن ينفخ الروح في صورته، وليس بنافخ فيها أبدا.

ومما يحرم تصويره واقتناؤه: الصور التي يقدس أصحابها تقديسا دينيا أو يعظمون تعظيما دنيويا، فاألولى كصور األنبياء والمالئكة والصالحين، مثل

إبراهيم وإسحاق وموسى ومريم وجبريل وغيرهم، وهذه تروج عند النصارى،وقد قلدهم بعض المبتدعة من المسلمين فصوروا عليا وفاطمة وغيرهما.

والثانية كصور الملوك والزعماء والفنانين في عصرنا، وهذه أقل إثما من تلك، ولكن يتأكد اإلثم فيها إذا كان أصحابها من الكفرة أو الظلمة أو الفساق، كالحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والزعماء الذين يدعون إلى غير

رسالة الله، والفنانين الذين يمجدون الباطل، ويشيعون الفاحشة والميوعة فياألمة.

ويبدو أن كثيرا من الصور في عصر النبوة وما بعده، كانت من النوع الذي يقدس ويعظم، إذ كانت في الغالب من صنع الروم والفرس -أي النصارى والمجوس- فلم تكن تخلو من تأثير عقيدتهم وتقديسهم لرؤساء دينهم أو

دولتهم. وقد روى مسلم عن أبي الضحى قال: كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال لي مسروق: هذه تماثيل كسرى؟ فقلت: "ال، هذه تماثيل مريم" كأن مسروقا ظن أن التصوير من مجوس، وكانوا يصورون صور ملوكهم حتى

في األواني، فظهر أن التصوير كان من نصراني.. وفي هذه القصة قال مسروق: سمعت عبد الله -يعني ابن مسعود- يقول: سمعت النبي صلى الله

عليه وسلم يقول: "إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون".

وأما ما عدا ذلك من الصور واللوحات.. فإن كانت لغير ذي روح كصور النبات والشجر والبحار والسفن والجبال والشمس والقمر والكواكب ونحوها من

المناظر الطبيعية -لنبات أو جماد- فال جناح على من صورها أو اقتناها وهذا الجدال فيه.

وإن كانت الصورة لذي روح، وليس فيها ما تقدم من المحذورات أي لم تكن مما يقدس ويعظم ولم يقصد فيها مضاهاة خلق الله، فالذي أراه أنها ال تحرم

Page 62: الحلال والحرام في الإسلام

أيضا وفي ذلك جاءت جملة من األحاديث الصحاح.

روى مسلم في )صحيحه( عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد، عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: "إن المالئكة ال تدخل بيتا فيه صورة". قال بسر: ثم اشتكى زيد بعد، فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة قال: فقلت لعبيد الله الخوالني ربيب

ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم )وكان معه(: ألم يخبرنا زيد عن الصوريوم األول؟! فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: "إال رقما في ثوب؟".

وروى الترمذي بسنده عن عتبة أنه دخل على أبي طلحة األنصاري يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف )صحابيا آخر( قال: فدعا أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته )النمط: ثوب أو بساط فيه نقوش وصور( فقال له سهل: لم تنزعه؟ قال: ألن

فيه تصاوير، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قد علمت. قال سهل: أو لم يقل: "إال ما كان رقما في ثوب؟" فقال أبو طلحة: "بلى، ولكنه أطيب

لنفسي" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

أال يدل هذان الحديثان على أن الصور المحرمة إنما هي المجسمة التي نطلقعليها )التماثيل(؟.

أما الصور التي ترسم في لوحات، أو تنقش على الثياب والبسط والجدرانونحوها، فليس هناك نص صحيح صريح سليم من المعارضة يدل على حرمتها.

نعم هناك أحاديث صحيحة أظهر فيها النبي صلى الله عليه وسلم كراهيته فقطلهذا النوع من التصاوير؛ لما فيه م مشابهة المترفين وعشاق المتاع األدنى.

روى مسلم عن زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة األنصاري قال: سمعت رسول الله يقول: "ال تدخل المالئكة بيتا فيه كلب وال تماثيل" قال: فأتيت

عائشة فقلت: إن هذا يخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ال تدخل المالئكة بيتا فيه كلب وال تماثيل" فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه

وسلم ذكر ذلك؟ فقالت: "ال … ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل: رأيته خرج في غزاته، فأخذت نمطا، فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط عرفت

الكراهية في وجهه، فجذبه، )النمط( حتى هتكه أو قطعه وقال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين !!" قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما

ليفا، فلم يعب ذلك علي".

وال يؤخذ من الحديث أكثر من الكراهة التنزيهية لكسوة الحيطان ونحوها بالستائر ذات التصاوير. قال النووي: وليس في الحديث ما يقتضي التحريم؛ ألن حقيقة اللفظ: أن الله لم يأمرنا بذلك. وهذا يقتضي أنه ليس بواجب وال

مندوب، وال يقتضي التحريم.

ومثل هذا ما رواه مسلم أيضا عن عائشة، قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"حولي هذا، فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا".

فلم يأمرها عليه السالم بقطعه، وإنما أمرها بتحويله من مكانه في مواجهة الداخل إلى البيت، وذلك كراهية منه عليه السالم أن يرى في مواجهته هذه

األشياء التي تذكر عادة بالدنيا وزخارفها. وال سيما أنه عليه السالم كان يصلي السنن والنوافل كلها في البيت، ومثل هذه األنماط واألستار ذات التصاوير

Page 63: الحلال والحرام في الإسلام

والتماثيل من شأنها أن تشغل القلب عن التزام الخشوع واإلقبال الكامل على مناجاة الله سبحانه. وقد روى البخاري عن أنس قال: كان قرام )ستر( لعائشة

سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطيه عني،فإنه ال تزال تصاويره تعرض لي في صالتي".

بهذا يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر في بيته وجود ستر فيهتمثال طائر، ووجود قرام فيه تصاوير.

ومن أجل هذه األحاديث وأمثالها قال بعض السلف: "إنما ينهى عما كان له ظل)أي المجسم( وال بأس بالصور التي ليس لها ظل".

ومما يؤيد هذا الرأي ما جاء في الحديث عن الله تعالى "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة". فإن خلق الله تعالى -كما هو

مشاهد- ليس رسما على سطح، بل هو خلق صور مجسمة ذات جرم، كما قال.6تعالى: )هو الذي يصوركم في األرحام كيف يشاء( آل عمران:

وال يعكر على هذا المذهب إال حديث عائشة -في إحدى روايات الشيخين- أنها اشترت نمرقة )وسادة( فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه

وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فقالت: يا رسول الله: أتوب إلى الله وإلى رسوله. ماذا أذنبت؟ فقال: "ما بال هذه النمرقة؟"

فقالت: اشتريتها لك تقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". ثم قال: "إن البيت الذي فيه الصور ال تدخله المالئكة" وزاد مسلم في رواية عن عائشة قالت: فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت، تعني أنها شقت

النمرقة فجعلتها مرفقتين.

ولكن هذا الحديث يعارضه جملة أمور:

أنه قد روي بروايات مختلفة ظاهرة التعارض، بعضها يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استعمل الستر الذي فيه الصورة بعد أن قطع وعملت منه الوسادة،

وبعضها يدل على أنه لم يستعمله أصال.

أن بعض رواياته يدل على الكراهة فقط، وأن الكراهة إنما هي لستر الجدار بالصور، وذلك نوع ترف ال يرضاه. ولهذا قال -في رواية مسلم التي ذكرناها

من قبل- "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين".

حديث مسلم عن عائشة نفسها في الستر الذي فيه تمثال طائر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: "حولي هذا فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا" ال يدل

على الحرمة مطلقا.

أنه معارض بحديث.. القرام. الذي كان في بيت عائشة أيضا وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإماطته عنه؛ ألن تصاويره تعرض له في صالته، قال الحافظ: "وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة في النمرقة، فهذا يدل على أنه أقره وصلى وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من

رؤيته لصورته حالة الصالة ولم يتعرض لخصوص كونها صورة".

وجمع الحافظ بينهما بأن األول كانت تصاويره من ذات األرواح وهذا كانت تصاويره من غير الحيوان.. ولكن يعكر على هذا الجمع حديث القرام الذي كان

Page 64: الحلال والحرام في الإسلام

فيه تمثال طائر.

أنه معارض بحديث أبي طلحة األنصاري الذي استثنى ما كان رقما في ثوب وقد قال القرطبي: "يجمع بينها بأن يحمل حديث عائشة على الكراهة، وحديث أبي

طلحة على مطلق الجواز، وهو ال ينافي الكراهة" واستحسنه الحافظ ابن حجر.

أن راوي حديث النمرقة عن عائشة -وهو ابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر- كان يجيز اتخاذ الصور التي ال ظل لها.. فعن ابن عون قال: دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس

والعنقاء.

قال الحافظ: يحتمل أنه تمسك بعموم قوله "إال رقما في ثوب" وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبا من

كونه مصورا، ومن كونه ساترا للجدار. ويؤيده رواية "إن الله لم يأمرنا أن نكسوالحجارة والطين".

والقاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو راوي حديث النمرقة، فلوال أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز

استعمالها.

ولكن هناك احتمال قد يبدو من هذه األحاديث الواردة في شأن الصور والمصورين هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم شدد في أمرها أول األمر،

لقرب عهدهم بالشرك وعبادة األوثان، وتقديس الصور والتماثيل، فلما استقرت عقيدة التوحيد في النفوس ورسخت جذورها في القلوب والعقول،

رخص في الصور التي ال جسم لها، وإنما هي نقوش ورسوم، وإال لم يرض بوجود ستر أو أقرام في بيته فيه صورة أو تمثال. ولم يستثن التصاوير التي

ترقم وتنقش في الثياب، ومثل الثياب والورق والجدران وغيرها.

قال الطحاوي من أئمة الحنفية: "إنما نهى الشارع أوال عن الصور كلها، وإن كانت رقما؛ ألنهم كانوا حديثي عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جلة، ثم لما

تقرر نهيه عن ذلك أباح ما كان رقما في ثوب، للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح ما يمتهن ألنه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن، وبقي النهي فيما ال

يمتهن".

حالاليجعلها امتهان الصورة

هذا وكل تغيير في الصورة يجعلها أبعد عن التعظيم وأدنى إلى االمتهان، ينقلها من دائرة الكراهة إلى دائرة االباحة. وقد جاء في الحديث أن جبريل عليه السالم. استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادخل. قال:

كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟! فإن كنت ال بد فاعال، فاقطع رأسها،أو اقطعها وسائد، أو اجعلها بسطا".

ولهذا حين رأت عائشة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة للنمرقة ذات التصاوير جعلتها مرفقتين لما في ذلك من امتهانهما، والبعد بهما عن

أدنى شبهة لتعظيم الصورة.

Page 65: الحلال والحرام في الإسلام

وقد جاء عن السلف استعمال الصورة الممتهنة، ولم يروا فيها حرجا، فعن عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل؛ الطير والرجال، وقال عكرمة:

كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، وال يرون بأسا بما وطئته األقداموكانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسادة التي توطأ ذل لها.

الصور الفوتوغرافية 

موضوع الصورةمقدمةخالصةألحكام الصوروالمصورين

  

مقدمة

ومما ال خفاء فيه أن كل ما ورد في التصوير والصور، إنما يعني الصور التيتنحت أو ترسم على حسب ما ذكرنا.

أما الصور الشمسية -التي تؤخذ بآلة الفوتوغرافيا- فهي شيء مستحدث لم يكن في عصر الرسول، وال سلف المسلمين، فهل ينطبق عليه ما ورد في

التصوير والمصورين؟.

أما الذين يقصرون التحريم على التماثيل )المجسمة( فال يرون شيئا في هذهالصور، وخصوصا إذا لم تكن كاملة.

وأما على رأي اآلخرين فهل تقاس هذه الصور الشمسية على تلك التي تبدعهاريشة الرسام؟ أم أن العلة التي نصت عليها األحاديث في عذاب المصورين - وهي أنهم يضاهون خلق الله- ال تتحقق هنا في الصور الفوتوغرافية؟ وحيث

عدمت العلة عدم المعلول كما يقول األصوليون؟.

إن الواضح هنا ما أفتى به المغفور له الشيخ محمد بخيت مفتى مصر أن أخذ الصورة بالفوتوغرافيا -الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسائط المعلومة ألرباب هذه الصناعة- ليس من التصوير المنهي عنه في شيء؛ ألن التصوير

المنهي عنه هو إيجاد صورة لم تكن موجودة وال مصنوعة من قبل، يضاهي بهاحيوانا خلقه الله تعالى، وليس هذا المعنى موجودا في أخذ الصورة بتلك اآللة.

هذا وإن كان هناك من يجنح إلى التشدد في الصور كلها، وكراهيتها بكل أنواعها، حتى الفوتوغرافية منها، فال شك أنه يرخص فيما توجبه الضرورة أو تقتضيه الحاجة والمصلحة منها، كصور البطاقات الشخصية، وجوازات السفر، وصور المشبوهين، والصور التي تتخذ وسيلة لإليضاح ونحوها، مما ال تتحقق

فيه شبهة القصد إلى التعظيم أو الخوف على العقيدة. فإن الحاجة إلى اتخاذ هذه الصور أشد وأهم من الحاجة إلى اتخاذ )النقش( في الثياب الذي استثناه

النبي صلى الله عليه وسلم.

Page 66: الحلال والحرام في الإسلام

الصورةموضوع

هذا، ومن المقرر أن لموضوع الصورة أثرا في الحكم بالحرمة أو غيرها. وال يخالف مسلم في تحريم الصورة إذا كان موضوعها مخالفا لعقائد اإلسالم، أو شرائعه وآدابه، فتصوير النساء عاريات، أو شبه عاريات، وإبراز مواضع األنوثة

والفتنة منهن، ورسمهن أو تصويرهن في أوضاع مثيرة للشهوات، موقظة للغرائز الدنيا، كما نرى ذلك واضحا في بعض المجالت والصحف، ودور

)السينما( كل ذلك مما ال شك في حرمته وحرمة تصويره، وحرمة نشره على الناس، وحرمة اقتنائه واتخاذه في البيوت أو المكاتب والمحالت، وتعليقه على

الجدران، وحرمة القصد إلى رؤيته ومشاهدته.

ومثل هذا صور الكفار والظلمة والفساق، الذين يجب على المسلم أن يعاديهم لله ويبغضهم في الله، فال يحل لمسلم أن يصور أو يقتني صورة لزعيم ملحد ينكر وجود الله، أو وثني يشرك مع الله البقر أو النار أو غيرها، أو يهودي أو

نصراني يجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مدع لإلسالم وهو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يشيع الفاحشة والفساد في المجتمع، كالممثلين والممثالت

والمطربين والمطربات.

ومثل هذا، الصور التي تعبر عن الوثنية أو شعائر بعض األديان التي ال يرضاها اإلسالم كاألصنام والصلبان وما شابهها. ولعل كثيرا من البسط والستور

والنمارق التي كانت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على هذا النوع من التصاوير والتهاويل. وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه

وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إال نقضه. والتصاليب: صورالصليب.

وروى ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الفتح لما رأى الصور التي في البيت الحرام لم يدخل حتى أمر فمحيت. وال شك أنها كانت

صورا تعبر عن وثنية مشركي مكة، وضاللهم القديم.

وعن علي بن أبي طالب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فال يدع بها وثنا إال كسره، وال قبرا إال سواه،

وال صورة إال لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله . قال: فهاب أهل المدينة.. وانطلق الرجل ثم رجع فقال: يا رسول الله . لم أدع بها وثنا إال كسرته، وال

قبرا إال سويته، وال صورة إال لطختها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عاد إلى شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله

عليه وسلم".

فماذا عسى أن تكون هذه الصورة التي أمر الرسول بتلطيخها وطمسها إال أن تكون مظهرا من مظاهر الوثنية الجاهلية، التي حرص الرسول على تنظيفالمدينة من آثارها. ولهذا جعل العودة إلى شيء منها كفرا بما أنزل الله !!.

ألحكام الصور والمصورينخالصة

Page 67: الحلال والحرام في الإسلام

ونستطيع أن نجمل أحكام الصور والمصورين في الخالصة التالية:

-أ- أشد أنواع الصور في الحرمة واإلثم صور ما يعبد من دون الله -كالمسيحعند النصارى- فهذه تؤدي بمصورها إلى الكفر إن كان عارفا بذلك قاصدا له.

والمجسم في هذه الصور أشد إثما ونكرا. وكل من روج هذه الصور أو عظمهابوجه من الوجوه داخل في هذا اإلثم بقدر مشاركته.

-ب- ويليه في اإلثم من صور ما ال يعبد، ولكنه قصد مضاهاة خلق الله. أي ادعى أنه يبدع ويخلق كما يخلق الله، فهو بهذا يكفر. وهذا أمر يتعلق بنية المصور

وحده.

-ج-ودون ذلك الصور المجسمة لما ال يعبد، ولكنها مما يعظم كصور الملوك والقادة والزعماء وغيرهم ممن يزعمون تخليدهم بإقامة التماثيل لهم، ونصبها

في الميادين ونحوها. ويستوي في ذلك أن يكون التمثال كامال أو نصفيا.

-د- ودونها الصور المجسمة لكل ذي روح مما ال يقدس وال يعظم، فإنه متفق على حرمته يستثنى من ذلك ما يمتهن، كلعب األطفال، ومثلها ما يؤكل من

تماثيل الحلوى.

-هـ- وبعدها الصور غير المجسمة -اللوحات الفنية- التي يعظم أصحابها، كصور الحكام والزعماء وغيرهم، وخاصة إذا نصبت وعلقت. وتتأكد الحرمة إذا كان

هؤالء من الظلمة والفسقة والملحدين، فإن تعظيمهم هدم لإلسالم.

-و- ودون ذلك أن تكون الصورة غير المجسمة لذي روح ال يعظم، ولكن تعد من مظاهر الترف والتنعم، كأن تستر بها الجدر ونحوها، فهذا من المكروهات

فحسب.

-ز- أما صور غير ذي الروح من الشجر والنخيل والبحار والسفن والجبال ونحوها من المناظر الطبيعية، فال جناح على من صورها أو اقتناها، ما لم

تشغل عن طاعة أو تؤد إلى ترف فتكره.

-ح- وأما الصور الشمسية )الفوتوغرافية( فاألصل فيها اإلباحة، ما لم يشتمل موضوع الصورة على محرم، كتقديس صاحبها تقديسا دينيا، أو تعظيمه تعظيما دنيويا، وخاصة إذا كان المعظم من أهل الكفر والفساق كالوثنيين والشيوعيين

والفنانين المنحرفين.

-ط- وأخيرا … إن التماثيل والصور المحرمة إذا شوهت أو امتهنت، انتقلت من دائرة الحرمة إلى دائرة الحل، كصور البسط التي تدوسها األقدام والنعال

ونحوها.

اقتناء الكالب 

كالب الصيد والحراسة مباحةاقتناء الكالب لغير حاجة

Page 68: الحلال والحرام في الإسلام

 رأي العلم الحديث في اقتناء الكالب 

الكالب لغير حاجةاقتناء  

ومما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه اقتناء الكالب في البيوت لغير حاجة. وقد رأينا بعض هؤالء المترفين، ينفقون على الكالب، ويبخلون على بني

اإلنسان، ورأينا منهم من ال يكتفي بإنفاق ماله على تدليل كلبه، بل يفرغعاطفته فيه، على حين يجفو قريبه، وينسى جاره وأخاه.

كما أن في وجود الكالب ببيت المسلم مظنة لنجاسة األواني ونحوها مما يلغ فيه الكلب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء

أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب".

وقال بعض العلماء في حكمة المنع من اقتناء الكلب: إنه ينبح الضيف، ويروعالسائل، ويؤذي المارة.

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل عليه السالم فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت، إال أنه كان على الباب تماثيل، وكان

في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل منه

وسادتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج".

وهذا المنع إنما هو للكالب التي تقتنى لغير حاجة وال منفعة.

والحراسة مباحةالصيد كالب

أما الكالب التي تقتنى لحاجة ككالب الصيد، أو كالب الحراسة للزرع أو الماشية أو نحوها، فهي مستثناة من هذا الحكم. وفي الحديث المتفق عليه قال

الرسول صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبا، إال كلب صيد أو زرع أو ماشية،انتقص من أجره كل يوم قيراط".

وقد استدل بعض الفقهاء من هذا الحديث على أن المنع من اتخاذ الكالب إنما هو منع كراهة ال منع تحريم، ألن الحرام يمتنع اتخاذه على كل حال، سواء نقص

األجر أم ال.

والنهي عن اقتناء الكالب في البيوت ليس معناه القسوة عليها أو الحكم بإعدامها؛ فقد قال عليه الصالة والسالم: "لوال أن الكالب أمة من األمم ألمرت

بقتلها".

وهو عليه السالم يشير بهذا الحديث إلى هذا المعنى الكبير، والحقيقة الجليلة التي نبه عليها القرآن الكريم إذ قال: )وما من دابة في األرض وال طائر يطير

.38بجناحيه إال أمم أمثالكم( سورة األنعام:

وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه قصة الرجل الذي وجد في الصحراء كلبا يلهث يأكل الثرى من العطش، فذهب إلى البئر ونزع خفه فمألها

Page 69: الحلال والحرام في الإسلام

ماء حتى روي الكلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فشكر الله له، فغفرله".

 

العلم الحديث في اقتناء الكالبرأي

هذا، وربما وجدنا في ديارنا أناسا من عشاق الغرب يزعمون ألنفسهم الرقة الحانية واإلنسانية العالية، والعطف على كل كائن حي، وينكرون على اإلسالم أن يحذر من هذا الحيوان الوديع األليف األمين. فإلى هؤالء نسوق هذا المقال

العلمي القيم، الذي كتبه عالم ألماني متخصص في مجلة ألمانية بين فيه بجالءاألخطار التي تنشأ عن اقتناء الكالب أو االقتراب منها:

"إن ازدياد شغف الناس باقتناء الكالب في السنوات األخيرة يضطرنا إلى لفت نظر الرأي العام إلى األخطار التي تنجم عن ذلك، خصوصا أن الحال لم تقتصر

على مجرد اقتنائها، بل قد تعدت ذلك إلى مداعبتها وتقبيلها والسماح لها بلحس أيدي الصغار والكبار بل كثيرا ما تترك تلعق فضالت الطعام من الصحون

المعدة لحفظ مأكل اإلنسان ومشربه.

ومع أن في كل ما ذكر من العادات عيوبا ينبو عنها الذوق السليم وال ترتضيها اآلداب، هذا فضال عن أنها ال تتفق مع قواعد الصحة والنظافة، إال أننا نغض

النظر عنها من هذه الوجهة لخروجها عن مجرى الحديث في هذا المقالالعلمي، تاركين تقديرها للتربية الخلقية وتهذيب النفس.

أما من الوجهة الطبية -وهي التي تهمنا في هذا البحث- األخطار التي تهدد صحة اإلنسان وحياته بسبب اقتناء الكالب ومداعبتها ليست مما يستهان بها،

فإن كثيرا من الناس قد دفع ثمنا غاليا لطيشه، إذ كانت الدودة الشريطية بالكالب سببا في األدواء المزمنة المستعصية، بل كثيرا ما أودت بحياة

المصابين بأمراضها.

وهذه الدودة هي عبارة عن إحدى الطفيليات الشريطية الشكل، وتسمى دودة الكلب الشريطية، وتظهر في اإلنسان على شكل بثرة، وكذلك في المواشي

خصوصا في الخنازير، ولكنها ال توجد تامة النمو إال في الكالب، وكذلك في بنات آوى والذئاب، ويندر وجودها في القطط. وتختلف عن الديدان الشريطية

األخرى بأنها صغيرة الحجم جدا حتى أنها تكاد ال ترى، ولم يعرف شيء عنحياتها إال في السنوات األخيرة.." إلى أن قال:

"وألطوار نشوء دودة الكلب الشريطية خواص فريدة في علم الحيوان فمن البويضة الواحدة تنشأ رؤوس ديدان شريطية عديدة بالقرحات الناتجة عنها، كما أنه يمكن أن ينتج عن البويضات المتشابهة بثرات مختلفة اختالفا تاما، هذا إلى

أن رؤوس الديدان المتولدة من القروح تتحول إلى ديدان شريطية كاملة التكوين بالغة النمو بمصران الكالب، وال ينشأ عنها باإلنسان والحيوان سوى

بثرات وقروح جديدة تختلف اختالفا كليا عن الدودة الشريطية. وال تتعدى القرحة في الماشية حجم التفاحة إال فيما ندر، ومع ذلك يالحظ أن وزن الكبد

يزداد ازدياد بالغا قد يصل من خمسة إلى عشرة أضعاف وزنه العادي، وأما في اإلنسان فإنها تصل إلى حجم قبضة اليد أو رأس الطفل الصغير وتمتلئ سائال

Page 70: الحلال والحرام في الإسلام

رطال.20 إلى 10أصفر وتزن من

وأغلب ما توجد في اإلنسان في الكبد، وتظهر فيه بأشكال عديدة متباينة، إال أنها كثيرا ما تنتقل إلى الرئة والعضالت والطحال والكلى وإلى تجويف

الجمجمة، ويتغير شكلها وتكوينها تغيرا كبيرا، حتى إنه كثيرا ما اختلط تمييزهاعلى المختصين إلى عهد قريب.

وعلى كل حال فإن هذه القرحة أينما وجدت خطر أكيد على صحة المصاب بها وحياته، ومما يزيد الطين بلة أن توصلنا إلى معرفة أطوار تاريخ حياتها، وطرق نشأتها وتكوينها، لم يساعدنا حتى اآلن على االهتداء إلى طرق عالجها، إال أنه

في بعض األحيان قد تموت هذه الطفيليات من تلقاء نفسها، وقد يكون السبب في ذلك هو أن مواد يفرزها الجسم تعمل على إبادة هذه الطفيليات. وقد ثبت

أخيرا أن جسم اإلنسان يفرز في مثل هذه األحوال مواد مضادة بفعل هذه الطفيليات إلبادتها وإبطال عمل سمومها. ولكن مما يدعو لألسف الشديد أن الحاالت التي تموت فيها هذه الطفيليات دون أن تترك أثرا أو تحدث أضرارا

نادرة بالنسبة للحاالت األخرى، وهذا فضال عن أن محاربتها بالطرق الكيميائية لم تأت بأية فائدة، وطالما ال يلتجئ المصاب إلى أسلحة الجراحين ال ينقذه من

الوبال أي طريق من طرق العالج األخرى.

وهذه األسباب مجتمعة تضطرنا التخاذ جميع الوسائل المستطاعة لمكافحة هذاالمرض العضال ووقاية اإلنسان من أخطاره الفجائية.

وقد ثبت لألستاذ الدكتور )نوللر( من تشريح الجثث بألمانيا أن اإلصابات اآلدمية ( في المائة بكثير، وأما أكثر البلدان األجنبية1بقروح دودة الكلب التقل عن )

تلوثا بهذه الدودة فهي المناطق الشمالية باألراضي الواطئة ودالماسيا وبالد القرم وأسلندة وجنوب شرق أستراليا وفي إقليم فريزلذ بهولندة حيث

تستخدم الكالب في الجر ظهرت اإلصابة بالدودة الشريطية فيما ال يقل عن ) ( في المائة من43( في المائة من الكالب كما وجد في إسلندة أن بين كل )12

األهالي شخصا مصابا بقروحها، فإذا ما أضفنا الخسارة التي تصيب غذاء اإلنسان بوجود هذه الدودة الشريطية، فإنه ما من أحد يتردد في أن إبادتها من

ألزم الواجبات، وقاية للصحة العامة، وحرصا على غذاء الشعب، خصوصا أنالنواحي التي سلمت حتى اآلن مهددة من حين آلخر بأن يسري إليها الوباء.

وقد يكون من أنجع الطرق في مكافحتها هو أن نجتهد في حصر هذه الدودة في الكالب وحبسها عن االنتشار، وذلك لعدم استطاعتنا في الواقع منع اقتناء

الكالب بتاتا3.

وال ينبغي إغفال معالجة الكالب التي يثبت إصابتها المعالجة الالزمة في مثل هذه األحوال بطرد الدودة الكامنة بمصرانها، ويستحسن تكرار هذه العملية من

حين آلخر لكالب الرعاة وكالب الحراسة.

ويمكن لإلنسان وقاية لصحته وحرصا على حياته أن يراعي بدقة زائدة االبتعاد الكلي عن مداعبة الكالب، فال يسمح لها باالقتراب منه؛ كما ينبغي تربية

األطفال على االحتراس من االختالط بالكالب، فال تترك تلعق أيديهم، وال يسمح لها باإلقامة بأماكن نزهة األطفال ولهوهم؛ فإنه مما يدعو لألسف الشديد أن

نرى عددا كبيرا من الكالب خصوصا في ميادين رياضة األطفال. هذا إلى برازها المبعثر في كل أركانها؛ كما ينبغي إعداد أوان خاصة إلطعام الكالب، فال تترك

تلعق في الصحون التي يستعملها اإلنسان، وال يسمح لها بدخول متاجر

Page 71: الحلال والحرام في الإسلام

المأكوالت واألسواق العمومية أو المطاعم.. إلى آخره، وعلى العموم يجب أخذالحيطة التامة بإبعادها عن كل ما له مساس بمأكل اإلنسان أو مشربه إهـ".

وبعد: فقد رأيت كيف نهى محمد صلى الله عليه وسلم عن مخالطة الكالب، وحذر من ولوغها في أواني الطعام والشراب، وحذر من اقتنائها لغير ضرورة؟

كيف اتفقت تعاليم محمد العربي األمي وأحدث ما وصل إليه العلم المعاصر والطب الحديث؟.. إننا ال يسعنا إال أن نقول ما قاله القرآن: )وما ينطق عن

.4و3الهوى. إن هو إال وحي يوحى( سورة النجم:

في الكسبواالحتراف

مقدمة

متى تباح المسألةقعود القادر عن العمل حرامالكرامة في العمل

 

القادرعن العمل حرامقعود  

وال يحل للمسلم أن يكسل عن طلب رزقه، باسم التفرغ للعبادة، أو التوكلعلى الله، فإن السماء ال تمطر ذهبا وال فضة.

كما ال يحل له أن يعتمد على صدقة يمنحها، وهو يملك من أسباب القوة ما يسعى به على نفسه، ويغني به أهله ومن يعول. وفي ذلك يقول نبي اإلسالمصلى الله عليه وسلم: "ال تحل الصدقة لغني، وال لذي مرة )أي قوة( سوي".

ومن أشد ما قاومه النبي عليه الصالة والسالم، وحرمه على المسلم، أن يلجأ إلى سؤال الناس، فيريق ماء وجهه، ويخدش مروءته وكرامته من غير ضرورة

تلجئه إلى السؤال. قال عليه السالم: "الذي يسأل من غير حاجة كمثل الذي يلتقط الجمر". وقال: "من سأل الناس ليثري به مال كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقلل، ومن شاء فليكثر".

والرضف هو: الحجارة المحماة.

وقال: "ال تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليست في وجهه مزعة لحم". بمثل هذه القوارع الشديدة صان النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم كرامته،

Page 72: الحلال والحرام في الإسلام

وعوده التعفف، واالعتماد على النفس، والبعد عن تكفف الناس.

تباح المسألةمتى

ولكن الرسول صلوات الله عليه يقدر للضرورة والحاجة قدرها، فمن اضطر تحت ضغط الحاجة إلى السؤال وطلب المعونة من الحكومة أو األفراد فال جناح

عليه قال: "إنما المسائل كدوح يكدح الرجل بها وجهه، فمن شاء أبقى علىوجهه، ومن شاء ترك، إال أن يسأل ذا سلطان أو في أمر ال يجد منه بدا".

روى مسلم في )صحيحه( عن أبي بشر قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: "أقم

حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة ال تحل إال ألحد ثالثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل

أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثالثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فالنا

فاقة! فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش… فما سواهن منالمسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا".

الحمالة: ما يتحمله المصلح بين فئتين في ماله ليرتفع بينهم القتال ونحوه.

الجائحة: اآلفة تصيب اإلنسان في ماله.

القوام: ما يقوم به حال اإلنسان من مال غيره.

الحجا: العقل والرأي.

في العملالكرامة

وينفي النبي صلى الله عليه وسلم فكرة احتقار بعض الناس لبعض المهن واألعمال، ويعلم أصحابه أن الكرامة كل الكرامة في العمل أي عمل، وأن

الهوان والضعة في االعتماد على معونة الناس يقول: "ألن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها. فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو

منعوه".

فللمسلم أن يكتسب عن طريق الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو في أي حرفة من الحرف أو وظيفة من الوظائف، ما دامت ال تقوم على حرام، أو تعين على

حرام، أو تقترن بحرام.

الزراعــةالزراعة المحرمةاالكتساب عن طريق الزراعة

Page 73: الحلال والحرام في الإسلام

 

عن طريق الزراعةاالكتساب

في القرآن الكريم يذكر الله تعالى -في معرض التفضل واالمتنان علىاإلنسان- األصول التي ال بد منها لقيام الزراعة.

فاألرض هيأها الله لإلنبات واإلنتاج، فجعلها ذلوال، وجعلها بساطا، وهي لذلك نعمة للخلق يجب أن يذكروها ويشكروها )والله جعل لكم األرض بساطا.

)واألرض وضعها لألنام. فيها19،20لتسلكوا منها سبال فجاجا( سورة نوح: فاكهة والنخل ذات األكمام. والحب ذو العصف والريحان. فبأي آالء ربكما

.13-10تكذبان( سورة الرحمن:

والماء يسره الله تعالى، ينزله مطرا أو يجريه أنهارا، فيحيي به األرض بعد موتها: )وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه

. )فلينظر اإلنسان إلى طعامه.99خضرا نخرج منه حبا متراكبا( سورة األنعام: أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا األرض شقا. فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا(

.28-24سورة عبس:

والرياح يرسلها الله مبشرات، فتسوق السحاب، وتلقح النبات؛ وفي ذلك كله يقول الله تعالى: )واألرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل

شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شيء إال عندنا خزائنه وما ننزله إال بقدر معلوم. وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من

. وفي كل22-19السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين( سورة الحجر:هذه اآليات تنبيه إلهي لإلنسان إلى نعمة الزراعة وتيسير وسائلها له.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرعزرعا، فيأكل منه طير وال إنسان إال كان له به صدقة".

وقال: "ما من مسلم يغرس غرسا إال كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منهله صدقة، وال يرزؤه أحد إال كان له صدقة إلى يوم القيامة".

ومقتضى الحديث أن الثواب مستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكوال منه، أو منتفعا به ولو مات غارسه أو زارعه.. ولو انتقل ملكه إلى ملك غيره. قال

العلماء: في سعة كرم الله أن يثيب على ما بعد الحياة، كما كان يثيب على ذلك في الحياة، في ستة؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو

غرس، أو زرع، أو رباط )وهو اإلقامة على الثغور والحدود لحراستها مناألعداء(.

وقد روي أن رجال مر بأبي الدرداء رضي الله عنه وهو يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، وهذه ال تثمر إال في كذا وكذا عاما..؟ فقال أبو

الدرداء: ما علي أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري؟ وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول بأذني هاتين: "من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر، فإن له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل". واستدل

بعض العلماء بهذه األحاديث وأمثالها على أن الزراعة أفضل المكاسب، وقالآخرون: بل الصناعة وعمل اليد أفضل، وقال غيرهم: بل التجارة.

وقال بعض المحققين: ينبغي أن يختلف ذلك باختالف األحوال، فحيث احتيج

Page 74: الحلال والحرام في الإسلام

إلى األقوات أكثر تكون الزراعة أفضل، للتوسعة على الناس. وحيث احتيج إلى المتجر النقطاع الطرق مثال تكون التجارة أفضل، وحيث احتيج إلى الصنائع

تكون أفضل".

وهذا التفصيل األخير يوافق أفضل ما انتهى إليه االقتصاد الحديث.

المحرمةالزراعة

كل نبات حرم اإلسالم تناوله. أو ال يعرف له استعمال إال في الضرر، فزراعتهحرام كالحشيش ونحوه.

ومثل ذلك التبغ )الدخان(، إن قلنا تناوله حرام -كما هو الراجح- فزراعته حرام،وإن قلنا مكروه فمكروه.

وليس عذرا للمسلم أن يزرع الشيء المحرم ليبيعه لغير المسلمين، فإن المسلم ال يروج الحرام أبدا، كما ال يحل له أن يربي الخنازير مثال ليبيعها

للنصارى. وقد رأينا كيف حرم اإلسالم بيع العنب الحالل لمن يعلم أنه يتخذهخمرا3.

التجارةموقف الكنيسة من التجارةاالكتساب عن طريق التجارة

التجارة المحرمة 

االكتساب عن طريق التجارة

دعا اإلسالم في نصوص قرآنه، وفي سنة رسوله دعوة قوية إلى التجارة، والعناية بها، وأغرى بالرحلة والسفر من أجلها، وسماه )ابتغاء من فضل الله(، وقرن الله تعالى ذكر الضاربين في األرض للتجارة بالمجاهدين في سبيل الله قال: )وآخرون يضربون في األرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في

.20سبيل الله( سورة المزمل:

وفي القرآن يمتن الله تعالى على الناس بتهيئته لهم سبل التجارة الداخلية والخارجية بالمواصالت البحرية التي ال تزال أعظم وسائل النقل للتجارة

العالمية، فيقول تعالى ممتنا بتسخير البحر وإجراء السفن التجارية فيه: )وترى . ويقرن12الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون( سورة فاطر:

ذلك أحيانا بإرسال الرياح: )ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم منرحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون( سورة الروم:

. ويكرر القرآن ذلك تذكيرا بالنعمة، وتنبيها على االنتفاع بها، حتى إن46 القرآن ليجعل من آيات الله الدالة على وجوده وقدرته وحكمته الفلك: )التي

. )ومن آياته الجوار في164تجري في البحر بما ينفع الناس( سورة البقرة:

Page 75: الحلال والحرام في الإسلام

. 32البحر كاألعالم( سورة الشورى:

وقد امتن الله على أهل مكة بما هيأ لهم من أسباب جعلت بلدهم مركزا تجاريا ممتازا في جزيرة العرب: )أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل

. وبهذا تحققت دعوة إبراهيم: )ربنا57شيء رزقا من لدنه( سورة القصص: إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصالة،

فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون(.37سورة إبراهيم:

وامتن الله على قريش إذ يسر لهم رحلتين تجاريتين في كل عام؛ رحلة إلى اليمن في الشتاء، ورحلة إلى الشام في الصيف، يسيرون فيهما آمنين بفضل

سدانتهم للبيت )الكعبة( فليشكروا هذه النعمة بعبادة الله وحده، رب البيت وصاحب الفضل عليهم: )إليالف قريش إيالفهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا

رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف( سورة قريش.

وقد هيأ اإلسالم للمسلمين فرصة التبادل التجاري فيما بين أقطارهم وشعوبهم على نطاق عالمي واسع في كل عام، وذلك في الموسم السنوي

اإلسالمي العالمي؛ موسم الحج إلى بيت الله الحرام، حين يأتون: )رجاال وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله(

.28-27سورة الحج:

ومن هذه المنافع -وال شك- التجارة، وقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يتحرجون من التجارة في موسم الحج يخشون أن يكون في هذا ما يشوب

إخالص نيتهم، أو يكدر صفاء عبادتهم، فنزل القرآن يقول في صراحة وجالء:.19)ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضال من ربكم( سورة البقرة:

وقد امتدح القرآن رواد المساجد المسبحين لله بالغدو واآلصال بأنهم )رجال ال .37تلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر الله وإقام الصالة وإيتاء الزكاة( سورة النور:

فالمؤمنون في نظر القرآن ليسوا أحالس مساجد، وال دراويش تكايا، وال رهبان أديرة، إنما هم رجال أعمال، وميزتهم أن أعمالهم الدنيوية ال تشغلهم عن

واجباتهم الدينية.

هذا بعض ما جاء في القرآن عن التجارة.

أما في السنة، فقد حث نبي اإلسالم على التجارة، وعني بأمرها، وإرساءقواعدها بقوله وفعله وتقريره.

ففي أقواله الحكيمة نسمع هذه األحاديث:

"التاجر األمين الصدوق مع الشهداء يوم القيامة".

"التاجر الصدوق األمين مع النبيين والصديقين والشهداء".

وال نعجب إذا جعل النبي التاجر الصدوق بمنزلة المجاهد، والشهيد في سبيل الله؛ فقد أثبتت لنا تجارب الحياة، أن الجهاد ليس في ميدان القتال وحده، بل

في ميدان االقتصاد أيضا.

وإنما وعد التجار بهذه المنزلة الرفيعة عند الله، وهذه المثوبة الجزيلة في

Page 76: الحلال والحرام في الإسلام

اآلخرة؛ ألن التجارة في الغالب تغري بالطمع، واكتساب الربح من أي طريق، والمال يلد المال، والربح يغري بربح أكثر. فمن وقف عند حدود الصدق

واألمانة، فهو مجاهد انتصر في معركة الهوى، وحق له منزلة المجاهدين.

كما أن من شأن التجارة أن تغرق أهلها في دوامة من األرقام، وحساب رأس المال واألرباح، حتى إننا نجد في عهد الرسول قافلة تحضر بتجارة والنبي

يخطب، فما إن سمع القوم بها حتى شغلوا عنه وانصرفوا إليها، فنزل قوله تعالى يعاتبهم: )وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند

.11الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين( سورة الجمعة:

فمن استطاع أن يبقى في هذه الدوامة قوي اليقين، عامر القلب بخشية الله، رطب اللسان بذكر الله، كان جديرا أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم من

النبيين والصديقين والشهداء.

ويكفينا من فعله عليه السالم في شأن التجارة أنه كما عني بالجانب الروحي فأقام مسجده بالمدينة على تقوى من الله ورضوان، ليكون جامعا للعبادة،

وجامعة للعلم، ودارا للدعوة، ومركزا للدولة … عني بالجانب االقتصادي فأقام سوقا إسالمية صرفا، ال سلطان لليهود عليها، كما كانت سوق بني قينقاع من

قبل. وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أوضاعها، وظل يرعاها بتعاليمه وتوجيهاته، فال غش، وال تطفيف، وال احتكار، وال تناجش. إلى غير ذلك مما سنذكره عند حديثنا عن )المعامالت( في فصل )الحالل والحرام في الحياة

العامة للمسلم(.

وفي سير أصحاب رسول الله نجد منهم التجار البارعين كما نجد الصناعوالزراع وسائر أهل الحرف واألعمال.

فهذا رسول الله بين أظهرهم تتنزل عليه آيات الله، ويناجيهم بكلمة السماء، ويغدو عليه الروح األمين ويروح بوحي الله؛ وكلهم حب لهذا النبي وإخالص

وتجرد، يتمنى كل امرئ منهم أال يفارقه طرفة عين. ومع هذا نجد أصحابه كل في عمله؛ هذا يضرب في األرض لتجارة. وهذا يعمل في نخيله وزرعه. وذاك

يسعى في حرفته وصنعته. ومن فاته من تعليم الرسول شيء سأل عنه إخوانهما استطاع. وقد أمروا أن يبلغ الشاهد الغائب.

فاألنصار في الغالب كانوا أهل زرع ونخيل، والمهاجرون في الغالب كانوا أهلتجارة وصفق في األسواق.

وهذا عبد الرحمن بن عوف المهاجر يعرض عليه أخوه في الله سعد بن الربيع األنصاري أن يشاطره ماله وداريه، ويختار إحدى زوجتيه فيطلقها له فيلقى

هذا اإليثار النبيل بعفاف نبيل آخر. ويقول لسعد: بارك الله لك في مالك وأهلك، ال حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: نعم سوق

بني قينقاع. فغدا إليه عبد الرحمن بإقط -جبن- وسمن وباع واشترى. ثم تابعالغدو إلى السوق حتى صار من أكبر أثرياء المسلمين، ومات عن ثروة ضخمة.

وهذا أبو بكر الصديق ظل يتاجر ويسعى، حتى يوم بايعه المسلمون خليفة، كانيريد أن يذهب إلى السوق.

وهذا عمر قال عن نفسه: ألهاني الصفق باألسواق عن سماع حديث النبي

Page 77: الحلال والحرام في الإسلام

صلى الله عليه وسلم وهذا عثمان… وهؤالء كثيرون.

موقف الكنيسة من التجارة

وهكذا سار المجتمع اإلسالمي مقبال على دنياه في ظل دينه، يتاجر ويبيع، ولكن ال تلهيه تجارة وال بيع عن ذكر الله. على حين كانت الجماهير في القرون

الوسطى بمعظم الممالك والدول األوروبية المسيحية يترددون في مقابلة غامضة بين فكرة التخليص أو الخالص، أي: خالص النفس من الخطيئة التي

تنغمس فيها إن هي عارضت آراء )األكليروس( ونشطت إلى الحرف والتجارة هذا من ناحية، وبين المجازفة بالتردي في اللعنة التي تحل بالناس إذا هم

جرؤوا على مجابهة تعاليم اآلباء من رجال الدين، واشتغلوا بالحرف والصناعات، وبالتجارة. ولم تكن الخطيئة مجرد سيئة ال يجزى مقترفها إال بقدر ما اقترف

من ذنب، ولكنها كانت -كما قيل آنئذ للناس- خطيئة أبدية ولعنة مقيمة، فياألرض وفي السماء، في الحياة األولى وفي الحياة اآلخرة.

هي في حقيقتهاBusinessويقول القديس أوغسطين: "إن ممارسة األعمال خطيئة، ألنها تصرف النفس عن الحق، وهو الله".

ويقول آخر: إن الشخص الذي يشتري شيئا ليعود فيبيعه على حالته، وبغير تعديل يجريه عليه، فإن هذا الشخص األخير يدخل في زمرة المشترين

والبائعين المبعدين عن حظيرة المعبد وقدسيته.

وهذه األقوال ال تخرج عن كونها امتدادا منطقيا لتعاليم القديس بولس الذي قرر بأنه: "من حيث إن المسيحي ال ينبغي له أن ينازع أخاه المسيحي نزاعا

قضائيا، فإنه يتعين أال تكون بين المسيحين تجارة ناشطة"

التجارة المحرمة

أما اإلسالم فلم يحرم من التجارة إال ما كان مشتمال على ظلم أو غش أواستغالل أو ترويج لشيء ينهي عنه اإلسالم.

فالتجارة بالخمور أو المخدرات أو الخنازير أو األصنام أو التماثيل، أو نحو ذلك مما يحرم اإلسالم تناوله أو تداوله أو االنتفاع به تجارة محرمة ال يرضى عنها

اإلسالم، وكل كسب يجيء من طريقها إنما هو سحت خبيث. وكل لحم نبت من هذا السحت فالنار أولى له. وال يشفع لمن يتاجر بهذه المحرمات أن يكون

صدوقا أو أمينا، فإن أساس تجارته نفسه منكر يحاربه اإلسالم وال يقره بحال.

ومن كانت تجارته في الذهب أو الحرير فال حرج عليه، إذ هما حالل لإلناث؛ إالأن يتاجر في شيء ال يستعمل إال للرجال.

فإذا كانت التجارة في شيء مباح فقد بقي على التاجر أمور يجب أن يحذرها،حتى ال يبعث يوم القيامة في زمرة الفجار وإن الفجار لفي جحيم.

Page 78: الحلال والحرام في الإسلام

خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون فقال: "يا معشر التجار.." فاستجابوا لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم

إليه. فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إال من اتقى الله وبروصدق".

وعن واثلة بن األسقع قال: كان رسول الله يخرج إلينا -وكنا تجارا- وكانيقول: "يا معشر التجار إياكم والكذب".

فليحذر التاجر الكذب، فإنه آفة التجار. والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار. وليحذر كثرة الحلف بعامة، واليمين الكاذبة بخاصة، فإن النبيصلى الله عليه وسلم ذكر: "ثالثة ال ينظر الله إليهم يوم القيامة وال

يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ أحدهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب".

وعن أبي سعيد قال: مر أعرابي بشاة فقلت: تبيعها بثالثة دراهم؟ فقال: ال والله. ثم باعها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "باع

آخرته بدنياه".

وليحذر الغش فإن الغاش خارج عن أمة اإلسالم.

وليحذر من التطفيف في الكيل أو الوزن )ويل للمطففين(.

وليحذر من االحتكار حتى ال يبرأ الله ورسوله منه.

وليحذر من الربا فإن الله يمحقه، وفي الحديث: "درهم ربا يأكله الرجل وهويعلم أشد من ستة وثالثين زينة".

الصناعات والحرفصناعات وحرف يحاربها اإلسالممقدمةالرقص والفنون الجنسيةالبغاء

صناعة المسكرات والمخدراتصناعة التماثيل والصلبان ونحوها 

مقدمة

رغب اإلسالم في الزراعة ونوه بفضلها، وأشاد بمثوبة أهلها… ولكنه كره ألمته أن تحصر نشاطها وجهدها في الزراعة، كما تنحصر قوقعة البحر في صدفتها،

وأبى اإلسالم على أبنائه أن يكتفوا بالزرع وحده ويتبعوا أذناب البقر وكفى، فهذا نقص في كفاية األمة يعرضها للخطر. وال غرو أن أعلن الرسول صلى

الله عليه وسلم أن ذلك مصدر شر وبالء وذل يحيق باألمة وهو ما صدقه الزمن أعظم تصديق. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة -صورة من صور التحايل على أكل الربا- وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛

Page 79: الحلال والحرام في الإسلام

سلط الله عليكم ذال ال ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".

إذن، فال بد مع الزراعة من الصناعات والحرف األخرى، التي تكتمل بها عناصر الحياة الطيبة، ومقومات األمة العزيزة الحرة، والدولة القوية الغنية. وهذه

الحرف والصناعات ليست عمال مباحا في شريعة اإلسالم فحسب، بل هي -كما قرر أئمته وعلماؤه- فرض كفاية في دين المسلمين. بمعنى أن الجماعة

اإلسالمية ال بد أن يتوافر في أهلها من كل ذي علم وحرفة وصناعة من يكفي حاجتها، ويقوم بشأنها. فإذا حدث نقص في جانب من جوانب العلم أو الصناعة،

لم يوجد من يقوم به، أثمت الجماعة كلها، وبخاصة أولو األمر، وأهل الحلوالعقد فيها.

قال اإلمام الغزالي: "أما فرض الكفاية فهو كل علم ال يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء األبدان، وكالحساب فأنه

ضروري في المعامالت وقسمة الوصايا والمواريث، وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خال البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى،

وسقط الفرض عن اآلخرين؛ فال تعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات، كالفالحة

والحياكة )النسيج( والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خال البلد من الحجام لسارع الهالك إليهم بتعريضهم أنفسهم للهالك، فإن الذي أنزل الداء،

أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد األسباب لتعاطيه فال يجوز التعرضللهالك بإهماله".

وقد أشار القرآن إلى كثير من الصناعات ذكرها على أنها نعمة من فضله،-10كقوله عن داود: )وألنا له الحديد. أن اعمل سابغات وقدر في السرد( سبأ:

. )وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون(11.80األنبياء:

وقوله عن سليمان: )وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. يعملون له ما يشاء منمحاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا( سبأ:

12-13.

وقوله عن ذي القرنين وإقامة سده العالي: )قال: ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين

الصدفين قال: انفخوا حتى إذا جعله نارا قال: آتوني أفرغ عليه قطرا. فما.97-95اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا( سورة الكهف:

وذكر قصة نوح وصنعه للسفينة، وأشار إلى نوع ضخم من السفن يجري في -أي الجبال-.32البحار كالجبال )ومن آياته الجوار في البحر كاألعالم( الشورى:

وذكر في كثير من سوره صناعة الصيد بكل صوره وأنواعه، من صيد األسماك وحيوان البحر، وصيد الحيوانات البرية، وصناعة الغوص الستخراج اللؤلؤ

والمرجان ونحوهما.

وفوق ذلك كله نبه القرآن على قيمة الحديد تنبيها لم يسبقه به كتاب دين أو دنيا، فبعد أن ذكر تعالى إرساله الرسل لخلقه وإنزاله الكتب عليهم قال:

. وال عجب أن25)وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس( سورة الحديد:

Page 80: الحلال والحرام في الإسلام

سميت السورة التي فيها هذه اآلية سورة )الحديد(.

وكل صناعة أو حرفة تسد حاجة في المجتمع أو تجلب له نفعا حقيقيا فهيعمل صالح إذا نصح فيها صاحبها وأتقنها كما أمره اإلسالم.

وقد مجد اإلسالم حرفا كان الناس ينظرون إليها نظرة فيها كثير من التحقير واالزدراء، فعمل كرعي الغنم ال يعبأ الناس بصاحبه في العادة، وال ينظرون إليه

نظرة إجالل أو تكريم، ولكنه عليه السالم يقول: "ما بعث الله نبيا إال رعى الغنم" قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط ألهل مكة" محمد رسول الله وخاتم النبيين كان يرعى الغنم، وأكثر من ذلك أنها لم

تكن غنمه، بل يرعاها بأجر معين لبعض أهل مكة، ويذكر هذا ألتباعه ليعلمهم أنالفخر للعاملين ال للمترفين والعاطلين.

وقد قص القرآن علينا قصة سيدنا موسى وهو يعمل أجيرا عند شيخ كبير استأجره ثماني سنين على أن يزوجه إحدى ابنتيه وكان عنده نعم العامل، ونعم

العامل، ونعم األجير، وصدقت فيه فراسة ابنة الشيخ حين )قالت إحداهما يا . وقد26أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي األمين( سورة القصص:

روى ابن عباس أن داود "كان زرادا، )يصنع الزرد والدروع( وكان آدم حراثا،وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا".

فليهنأ المسلم بحرفته، فما من نبي إال عمل في حرفة. وفي )الصحيح(: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان

يأكل من عمل يده".

اإلسالميحاربها صناعات وحرف

غير أن هناك صناعات وحرفا يحرم اإلسالم على أبنائه االشتغال بها لما فيهامن إضرار بالمجتمع في عقيدته أو في أخالقه أو أعراضه أو مقوماته األدبية.

البغاء

فالبغاء مثال حرفة تبيحها أكثر بالد الغرب، وتعطى بها إذنا وترخيصا، يجعل صاحبته ضمن أصحاب الحرف، ويعطيها حقوقهم، على حين يرفض اإلسالم ذلك

كل الرفض، وال يجيز لحرة وال ألمة أن تتكسب بفرجها.

وقد كان بعض أهل الجاهلية يفرضون ضريبة يومية على األمة، عليها أن تؤديها لسيدها، بأي طريق اكتسبتها، وكانت كثيرا ما تلجأ إلى احتراف الزنا لتدفع ما ضرب عليها. وكان بعضهم يكرهن على ذلك إكراها، طلبا لعرض دنيوي تافه، وكسب قذر رخيص. فلما جاء اإلسالم ارتفع بأبنائه وبناته عن الهوان، ونزل

قول الله تعالى: )وال تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض.33الحياة الدنيا( سورة النور:

وروى ابن عباس أن عبد الله بن أبي -رأس المنافقين- جاء إلى رسول الله

Page 81: الحلال والحرام في الإسلام

صلى الله عليه وسلم ومعه جارية من أجمل النساء تسمى )معاذة( فقال: يا رسول الله هذه أليتام فالن؛ أفال تأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها؟ فقال

عليه السالم: "ال".

وبذلك منع النبي هذا االحتراف الدنس، أيا كان الدافع إليه، وأهدر كل ما يمكن أن يقال من الحاجة أو الضرورة أو نبل الغاية، ليبقى المجتمع اإلسالمي طاهرا

من هذه الخبائث الموبقات.

والفنون الجنسيةالرقص

وكذلك ال يقبل اإلسالم احتراف الرقص الجنسي المثير، وال أي عمل من األعمال التي تثير الغريزة كالغناء الخليع، والتمثيل الماجن، وكل عبث من هذا

النوع، وإن سماه بعض الناس "فنا" وعده قوم "تقدما" إلى غير ذلك منالعبارات المضللة.

إن اإلسالم حرم كل عالقة جنسية تقوم على غير الزواج، وحرم كل قول أو عمل يفتح نافذة إلى عالقة محرمة. وهذا سر نهي القرآن عن الزنا بهذا التعبير

. فلم32المعجز: )وال تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيال( سورة اإلسراء:يكتف بالنهي عن الزنا، بل نهى عن القرب منه.

وكل ما ذكرناه، وما يعرفه الناس من مثيرات، إنما هو قرب من هذه الفاحشة،بل إغراء بها، وتحريض عليها. أال ساء ما يفعلون.

ونحوهاوالصلبان صناعة التماثيل

وإذا كان اإلسالم -كما ذكرنا- يحرم اتخاذ التماثيل، فإنه يحرم صناعتها أكثر مناتخاذها.

وقد روى البخاري عن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس، إني رجل إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: ال أحدثك إال ما سمعت من رسول الله صلى

الله عليه وسلم. سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا". فربا الرجل ربوة شديدة -يعني انتفخ من الغيظ

والضيق- فقال ابن عباس: "ويحك، إن أبيت إال أن تصنع، فعليك بهذا الشجر،وكل شيء ليس فيه روح".

ومثل ذلك صناعة األصنام أو الصلبان أو ما ماثلها.

أما تصوير اللوحات والتصوير الفوتوغرافي فقد قدمنا أن األقرب إلى روح الشريعة فيهما هو اإلباحة -أو على األكثر الكراهة- وهذا ما لم يشتمل موضوع

الصورة نفسها على محرم في اإلسالم كإبراز مواضع الفتنة من األنثى وتصوير رجل يقبل امرأة ونحوها. ومثل ذلك الصور التي تعظم وتقدس كصور المالئكة

Page 82: الحلال والحرام في الإسلام

واألنبياء ونحوها.

والمخدراتالمسكرات صناعة

وقد علمنا مما تقدم أن اإلسالم يحرم كل مشاركة في ترويج الخمر، صناعة أو توزيعا، أو تناوال. وكل من فعل ذلك فهو ملعون على لسان رسول الله صلى

الله عليه وسلم.

والمخدرات من حشيش وأفيون وغيرهما مثل المسكرات في حرمة تداولها وتوزيعها وصنعها. وكذلك يأبى اإلسالم على المسلم أن يشتغل بأي صناعة أو

حرفة تقوم على عمل شيء حرام أو ترويج أمر حرام.

االشتغال بالوظائف 

الوظائف المحرمةمقدمة

مقدمة

وللمسلم أن يكسب رزقه عن طريق الوظيفة، سواء أكان تابعا للحكومة أم لهيئة أم لشخص، ما دام قادرا على تحمل تبعات عمله، وأداء واجباته. وال يجوز لمسلم أن يرشح نفسه لعمل ليس أهال له، وخاصة إذا كان من مناصب الحكم،

أو القضاء.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: "ويل لألمراء. ويل للعرفاء )الرؤساء( ويل لألمناء )الحفظة على األموال( ليتمنين

أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا، يدلون بين السماء واألرض، وأنهملم يلوا عمال".

وعن أبي ذر: قلت: يا رسول الله. أال تستعملني؟ )أي في منصب( قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة

خزي وندامة، إال من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".

وقال عليه السالم: "القضاة ثالثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار،

ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار".

واألولى بالمسلم أال يحرص على تلك المناصب الكبيرة، ويسعى وراءها ولو كان لها كفءا فإن من اتخذ المنصب ربا اتخذه المنصب عبدا، ومن وجه كل همه إلى

مظاهر األرض حرم توفيق السماء.

وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن. ال تسأل اإلمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها،

Page 83: الحلال والحرام في الإسلام

وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها".

وعن أنس أنه عليه السالم قال: "من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلىنفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده".

وهذا ما لم يعلم من نفسه أنه ال يسد الفراغ غيره، وإذا لم يقدم نفسه تعطلت المصالح، واضطرب حبل األمور. وقد قص علينا القرآن قصة يوسف الصديق

وفيها أنه قال للملك: )اجعلني على خزائن األرض إني حفيظ عليم( سورة.55يوسف:

هذا هو أدب اإلسالم في طلب الوظائف السياسية ونحوها.

المحرمةالوظائف

وما قلناه من إباحة االشتغال بالوظيفة إنما مقيد بأال يكون في وظيفته ضرر للمسلمين، فال يحل لمسلم أن يعمل ضابطا أو جنديا في جيش يحارب

المسلمين، وال يحل له أن يعمل في مؤسسة أو مصنع ينتج أسلحة لحرب المسلمين، وال يجوز له أن يشتغل موظفا في هيئة تناوئ اإلسالم وتحارب

أهله.

وكذلك من اشتغل بوظيفة من شأنها اإلعانة على ظلم أو حرام فهي حرام كمن يشتغل في عمل ربوي أو في محل للخمر، أو مرقص، أو في ملهى أو

نحو ذلك. وال يعفى هؤالء جميعا من اإلثم أنهم ال يباشرون الحرام وال يقترفونه، فقد قدمنا أن من مبادئ اإلسالم أن اإلعانة على اإلثم إثم، ومن أجل ذلك لعن النبيصلى الله عليه وسلم كاتب الربا وشاهديه كما لعن آكله،

ولعن عصر الخمر وساقيها كما لعن شاربها.

وكل هذا ما لم تكن هناك ضرورة قاهرة تلجئ المسلم إلى طلب قوته من مثل هذه األعمال، فإن وجدت فإنها تقدر بقدرها مع كراهيته للعمل، ودوام بحثه

عن غيره حتى ييسر الله له كسبا حالال بعيدا عن أوزار الحرام.

والمسلم ينأى بنفسه دائما عن مواطن الشبهات التي يرق فيها الدين ويضعففيها اليقين، مهما كان فيها من كسب ثمين، ومال وفير.

قال عليه السالم: "دع ما يريبك إلى ما ال يريبك".

وقال: "ال يبلغ عبد درجة المتقين، حتى يدع ما ال بأس به حذرا مما به بأس".

قاعدة عامة في مسائل الكسب والقاعدة العامة في الكسب "أن اإلسالم ال يبيح ألبنائه أن يكتسبوا المال كيفما

شاؤوا، وبأي طرق أرادوا. بل هو يفرق لهم بين الطرق المشروعة وغير المشروعة الكتساب المعاش، نظرا إلى المصلحة الجماعية، وهذا التفريق يقوم

على المبدأ الكلي القائل بأن جميع الطرق الكتساب المال التي ال يحصل

Page 84: الحلال والحرام في الإسلام

المنفعة فيها لفرد إال بخسارة غيره، غير مشروعة، وأن الطرق التي يتبادلفيها األفراد المنفعة فيما بينهم بالتراضي والعدل مشروعة.

وهذا المبدأ يبينه قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا ال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إال أن تكون تجارة عن تراض منكم وال تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم

و29رحيما. ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا( سورة النساء: . فقد شرطت هذه اآلية مشروعة التجارة بأمرين:30

األول: أن تكون هذه التجارة عن تراض بين الفريقين.

الثاني: أال تكون منفعة فريق قائمة على خسارة الفريق الثاني.

وذلك ما يوضحه )وال تقتلوا أنفسكم( من هذه اآلية، وقد فسره المفسرون على معنيين ينطبق كل منهما على هذا المقام. فالمعنى األول: أن ال يقتل

بعضكم بعضا. والمعنى الثاني: أن ال تقتلوا أنفسكم بأيديكم. فمؤدى هذه اآلية على كل حال: أن كل من يضر غيره لمنفعته الشخصية فكأنه ينزف دمه وال

يفتح طريق الهالك إال على نفسه في نهاية األمر. فالسرقة، واالرتشاء، والقمار، والغرر، والخديعة، والتدليس، والربا، وكثير غيرها من طرق الكسب

يوجد فيها كل من هذين السببين لعدم المشروعية. وإذا كان يوجد في بعضها شرط التراضي،فإنه يعوزه الشرط الذي يتضمنه قوله تعالى: )وال تقتلوا

أنفسكم(.

Page 85: الحلال والحرام في الإسلام

الباب الثالث - الحالل والحرام فيالزواج وحياة األسرة

في مجال الغريزة موقف اإلنسان أمام الغريزة الجنسية وال تقربوا الزنى الخلوة باألجنبية حرام النظر إلى الجنس اآلخر بشهوة تحريم النظر إلى العورات حدود إباحة النظر إلى الرجل أو المرأة ما يجوز إبداؤه من زينة المرأة وما ال يجوز عورة النساء دخول المرأة الحمامات العامة التبرج حرام ما يخرج المرأة عن حد التبرج خدمة المرأة ضيوف زوجها الشذوذ الجنسي من كبائر المحرمات حكم االستمناء

خلق الله اإلنسان ليستخلفه في األرض ويستعمره فيها. ولن يتم هذا إال إذا بقي هذا النوع، واستمرت حياته على األرض يزرع ويصنع ويبني ويعمر، ويؤدي

حق الله عليه، ولكي يتم ذلك ركب الله في اإلنسان مجموعة من الغرائزوالدوافع النفسية، تسوقه، بسلطانها إلى ما يضمن بقاءه فردا، وبقاءه نوعا.

وكان من هذا غريزة البحث عن الطعام التي بإشباعها يبقى شخصه.

والغريزة الجنسية التي باالستجابة لها يبقى نوعه. وهي غريزة قوية عاتية فياإلنسان، ومن شأنها أن تطلب متنفسا تؤدي فيه دورها، وتشبع نهمها.

موقف اإلنسان أمام الغريزة الجنسية

فإما أن يطلق لها العنان تسبح أين شاءت وكيف شاءت، بال حدود توقفها، وال روادع تردعها، من دين أو خلق أو عرف. كما هو الشأن في المذاهب اإلباحية التي ال تؤمن بالدين، وال بالفضيلة. وفي هذا الموقف انحطاط باإلنسان إلى

مرتبة الحيوان. وإفساد للفرد واألسرة، وللجماعة كلها. وإما أن يصادمها ويكبتها. كما هو الشأن في مذاهب التقشف والحرمان والتشاؤم كالمانوية والرهبانية ونحوهما. وفي هذا الموقف وأد للغريزة،

وتعطيل لعملها، ومنافاة لحكمة من ركبها في اإلنسان وفطره عليها، ومصادمةلسنة الحياة التي تستخدم هذه الغرائز لتستمر في سيرها.

وإما أن يضع لها حدودا تنطلق في داخلها، وضمن إطارها، دون كبت مرذول، وال انطالق مجنون. كما هو الشأن في األديان السماوية، التي حرمت السفاح،

وشرعت النكاح -الزواج- وخصوصا اإلسالم الذي اعترف بالغريزة، فيسر سبيلها من الحالل، ونهى عن التبتل واعتزال النساء، كما حرم الزنى وملحقاته

Page 86: الحلال والحرام في الإسلام

ومقدماته أشد التحريم.

وهذا الموقف هو العدل والوسط.. فلوال شرع الزواج ما أدت الغريزة دورها في استمرار بقاء اإلنسان.. ولوال تحريم السفاح وإيجاب اختصاص الرجل

بامرأة ما نشأت األسرة التي تتكون في ظاللها العواطف االجتماعية الراقية من مودة ورحمة وحنان وحب وإيثار، ولوال األسرة ما نشأ المجتمع وال أخذ

طريقه إلى الرقي والكمال.

تقربوا الزنىوال

وال عجب إذا رأينا األديان السماوية كلها مجمعة على تحريم الزنى ومحاربته. وآخرها اإلسالم الذي شدد النهي عنه والتحذير منه لما يؤدي إليه من اختالط

األنساب، والجناية على النسل، وانحالل األسر، وتفكك الروابط، وانتشار األمراض )السارية( وطغيان الشهوات وانهيار األخالق، وصدق الله )وال تقربوا

. واإلسالم -كما عرفنا-32الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيال( سورة اإلسراء: إذا حرم شيئا سد الطرق الموصلة إليه، وحرم كل ما يفضي إليه من وسائل

ومقدمات.

فما كان من شأنه أن يستثير الغرائز الهاجعة، ويفتح منافذ الفتنة على الرجل أو المرأة، ويغري بالفاحشة أو يقرب منها أو ييسر سبيلها فإن اإلسالم ينهي

عنه ويحرمه سدا للذريعة ودرءا للمفسدة.

باألجنبية حرامالخلوة

ومن هذه الوسائل التي حرمها اإلسالم: خلوة الرجل بالمرأة األجنبية عنه. وهي التي ال تكون زوجة له وال إحدى قريباته التي يحرم عليه زواجها حرمة مؤبدة،

كاألم واألخت والعمة والخالة -كما سنذكر بعد-.

وليس هذا فقدانا للثقة بهما أو بأحدهما، ولكنه تحصين لهما من وساوس السوء، وهواجس الشر، التي من شأنها أن تحوك في صدريهما، عند التقاء

فحولة الرجل بأنوثة المرأة، وال ثالث بينهما. وفي هذا قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فال يخلون بامرأة ليس معها

ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان".

وفي تفسير قوله تعالى في شأن نساء النبي: )وإذا سألتموهن متاعا .53فاسألوهن من وراء حجاب؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن( سورة األحزاب:

يقول اإلمام القرطبي: "يريد: من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي أن ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة أقوى في

الحماية. وهذا يدل على أنه ال ينبغي ألحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من التحل له، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته".

ويحذر الرسول هنا تحذير خاصا من خلوة المرأة بأحمائها )أقارب زوجها( كأخيه وابن عمه؛ لما يحدث عادة من تساهل في ذلك بين األقارب، قد يجر أحيانا إلى

عواقب وخيمة، ألن الخلوة بالقريب أشد خطرا من غيره، والفتنة به أمتن،

Page 87: الحلال والحرام في الإسلام

لتمكنه من الدخول إلى المرأة من غير نكير عليه، بخالف األجنبي.

ومثل ذلك أقارب الزوجة من غير محارمها كابن عمها وابن خالها وابن خالتها،فال يجوز ألحد منهم الخلوة بها.

قال عليه الصالة والسالم: "إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من األنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو ؟ قال: الحمو الموت". وحمو المرأة:

أقارب زوجها.

يعني أن في هذه الخلوة الخطر والهالك؛ هالك الدين إذا وقعت المعصية، وهالك المرأة بفراق زوجها إذا حملته الغيرة على تطليقها، وهالك الروابط

االجتماعية إذا ساء ظن األقارب بعضهم ببعض.

وليس مثار هذا الخطر هو الغريزة البشرية، وما تجلبه من خواطر وانفعاالت فحسب، بل يضاف لذلك الخوف على كيان األسرة ومعيشة الزوجين

وأسرارهما أن تتطاول إليها ألسنة الثرثارين والفضوليين أو هواة تخريب البيوت. وفي ذلك يقول ابن األثير: )الحمو الموت( هذه كلمة تقولها العرب، كما تقول )األسد الموت( و )السلطان النار( أي لقاؤهما مثل الموت والنار،

يعني أن خلوة الحمو معها أشد من خلوة غيره من الغرباء، ألنه ربما حسن لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج، من التماس ما ليس في وسعه، أو سوء عشرة، أو غير ذلك. وألن الزوج ال يؤثر أن يطلع الحمو على باطن حاله،

بدخول بيته.

إلى الجنس اآلخر بشهوةالنظر

ومما حرمه اإلسالم -في مجال الغريزة الجنسية- إطالة النظر من الرجل إلى المرأة ومن المرأة إلى الرجل. فإن العين مفتاح القلب، والنظر رسول الفتنة،

وبريد الزنى. وقديما قال الشاعر:

كل الحوادث مبداها من النظرومعظم النار من مستصغر الشرر

وحديثا قال آخر:

نظرة فابتسامة فسالمفكالم فموعد فلقاء

لهذا وجه الله أمره إلى المؤمنين والمؤمنات جميعا بالغض من األبصار، مقترنا بأمره بحفظ الفروج: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم،

ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن وال يبدين زينتهن إال ما ظهر منها وليضربن

بخمرهن على جيوبهن، وال يبدين زينتهن إال لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو

نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي اإلربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء وال يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من

.31-30زينتهن..( سورة النور:

وفي هاتين اآليتين عدة توجيهات إلهية منها توجيهان يشترك فيهما الرجال

Page 88: الحلال والحرام في الإسلام

والنساء جميعا وهما الغض من البصر، وحفظ الفرج، والباقي موجه إلى النساءخاصة.

ويالحظ أن اآليتين أمرتا بالغض من البصر ال بغض البصر، ولم تقل: "ويحفظوا من فروجهم" كما قالت )يغضوا من أبصارهم( فإن الفرج مأمور بحفظه جملة

دون تسامح في شيء منه. أما البصر فقد سمح الله للناس بشيء منه رفعاللحرج، ورعاية للمصلحة كما سنرى.

فالغض من البصر ليس معناه إقفال العين عن النظر، وال إطراق الرأس إلى األرض، فليس هذا بمراد وال مستطاع. كما أن الغض من الصوت في قوله

، ليس معناهإغالق الشفتين عن19تعالى: )واغضض من صوتك( سورة لقمان: الكالم، وإنما معنى الغض من البصر خفضه، وعدم إرساله طليق العنان يلتهم

الغاديات والرائحات أو الغادين والرائحين. فإذا نظر إلى الجنس اآلخر لم يغلغلالنظر إلى محاسنه، ولم يطل االلتفات إليه والتحديق به.

ولهذا قال الرسول عليه السالم لعلي بن أبي طالب: "يا علي! ال تتبع النظرةالنظرة؛ فإنما لك األولى وليست لك اآلخرة".

وقد جعل النبي عليه السالم النظرات الجائعة الشرهة من أحد الجنسين إلى اآلخر زنى للعين، فقال: "العينان تزنيان وزناهما النظر". وإنما سماه )زنى(

ألنه ضرب من التلذذ واإلشباع للغريزة الجنسية بغير الطريق المشروع.

ويطابق هذا ما جاء في اإلنجيل عن المسيح عليه السالم: "لقد كان من قبلكميقولون ال تزن وأنا أقول لكم: من نظر بعينه فقد زنى".

إن هذا النظر المتلذذ الجائع ليس خطرا على خلق العفاف فحسب، بل هو خطرعلى استقرار الفكر، وطمأنينة القلب الذي يصاب بالشرود واالضطراب.

قال الشاعر:

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدالقلبك يوما أتعبتك المناظر

عليه وال عن بعضه أنت صابر رأيت الذي ال كله أنت قادر

تحريم النظر إلى العورات

ومما يجب غض البصر عنه العورات، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر إلى العورات، ولو كان من رجل إلى رجل، أو من امرأة إلى امرأة بشهوة

أم بغير شهوة، قال: "ال ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وال تنظر المرأة إلى عورة المرأة وال يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، وال المرأة إلى

المرأة في الثوب الواحد".

وعورة الرجل التي ال يجوز النظر إليها من رجل أو امرأة تتحدد فيما بين السرة والركبة، كما ورد في الحديث. ويرى بعض األئمة كابن حزم وبعض المالكية أن

الفخذ ليس بعورة.

وعورة المرأة بالنسبة للرجل األجنبي عنها هي جميع بدنها ما عدا وجهها

Page 89: الحلال والحرام في الإسلام

وكفيها، أما عورتها بالنسبة لمن كان ذا محرم منها كأبيها وأخيها فسيأتيالحديث عنها عند الكالم على إبداء الزينة.

وما ال يجوز النظر إليه من العورات ال يجوز أن يمس باليد أو بجزء من البدن. وكل ما ذكرنا تحريمه من العورات -نظرا أو لمسا- مشروط بعدم الضرورة أو

الحاجة، فإذا وجدت كما في حالة اإلسعاف أو العالج فقد زالت الحرمة. وكل ما ذكرنا من جواز النظر مشروط بأمن الفتنة والشهوة، فإن وجدت فقد زالت

اإلباحة سدا للذريعة.

إباحة النظر إلى الرجل أو المرأةحدود

ومما ذكرنا يتبين أن نظر المرأة إلى ما ليس بعورة من الرجل -أي ما فوق السرة وتحت الركبة- مباح ما لم تصحبه شهوة أو تخف منه فتنة وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون

بحرابهم في المسجد النبوي، وظلت تنظر إليهم حتى سئمت هي فانصرفت.

ومثل هذا نظر الرجل إلى ما ليس بعورة من المرأة -أي إلى وجهها وكفيها-فهو مباح ما لم تصحبه شهوة أو تخف منه فتنة.

فعن عائشة أن أسماء بنت أبي بكر -أختها- دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في لباس رقيق يشف عن جسمها، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم

عنها وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إال هذاوهذا" -وأشار إلى وجهه وكفيه-.

وفي الحديث ضعف ولكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفينعند أمن الفتنة.

وخالصة القول: أن النظرة البريئة إلى غير عورة من الرجل أو المرأة حالل مالم تتخذ صفة التكرار والتحديق الذي يصحبه -غالبا- التلذذ وخوف الفتنة.

ومن سماحة اإلسالم أنه عفا عن النظرة الخاطفة، التي تقع من اإلنسان فجأة حين يرى ما ال تباح له رؤيته، فعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول

اللهصلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فقال: "اصرف بصرك" يعني: التعاود النظر مرة ثانية.

ما يجوز إبداؤه من زينة المرأة وما ال يجوز

هذا ما يتعلق بالغض من األبصار، الذي أمرت به اآليتان الرجال والنساء. أماالتوجيهات اإللهية للنساء في اآلية الثانية فهي قوله تعالى:

.31-أ- )وال يبدين زينتهن إال ما ظهر منها( سورة النور:

زينة المرأة: كل ما يزينها ويجملها، سواء أكانت زينة خلقية كالوجه والشعر

Page 90: الحلال والحرام في الإسلام

ومحاسن الجسم، أم مكتسبة كالثياب والحلي واألصباغ ونحوها. وفي هذه اآلية الكريمة أمر الله النساء بإخفاء زينتهن، ونهاهن عن إبدائها، ولم يستثن )إال ما

ظهر منها(.

وقد اختلف العلماء في تحديد معنى )ما ظهر منها( وقدره؛ أيكون معناه: ما ظهر بحكم الضرورة من غير قصد كأن كشفته الريح مثال، أو يكون معناه: ما

جرت به العادة والجبلة على ظهوره واألصل فيه الظهور؟

إن المأثور عن أكثر السلف يدل على الرأي الثاني.

فقد اشتهر عن ابن عباس أنه قال في تفسير )ما ظهر منها( الكحل والخاتم،وروي مثله عن أنس.

وإباحة الكحل والخاتم يلزم منها إظهار موضعيهما كذلك وهما الوجه والكفان.وهذا ما جاء صراحة عن سعيد بن جبير وعطاء واألوزاعي وغيرهم.

وعن عائشة وقتادة وغيرهما إضافة السوارين إلى ما ظهر من الزينة. وهذا يعني استثناء بعض الذارع من الزينة المنهي عن إبدائها، واختلف في تحديده

من قدر قبضة إلى نصف الذارع.

وبإزاء هذا التوسع ضيق آخرون كعبد الله بن مسعود والنخعي، ففسروا ما ظهرمن الزينة بالرداء ونحوه من الثياب الظاهرة. وهي التي ال يمكن إخفاؤها.

والذي أرجحه أن يقصر )ما ظهر منها( على الوجه والكفين وما يعتاد لهما من الزينة المعقولة بال غلو وال إسراف كالخاتم لليد والكحل للعين كما صرح به

جماعة من الصحابة والتابعين.

وهذا بخالف األصباغ والمساحيق التي تستعملها المرأة في عصرنا للخدين والشفتين واألظافر ونحوها، فإنها من الغلو المستنكر، والذي ال يجوز أن

يستعمل إال داخل البيت. أما ما عليه النساء اليوم من اتخاذ هذه الزينة عند الخروج من البيت لجذب انتباه الرجال فهو حرام. وأما تفسير )ما ظهر منها(

بالثياب والرداء الخارجي فغير مقبول؛ ألنه أمر طبيعي ال يتصور النهي عنه حتى يستثنى، ومثل ذلك تفسيرها بما كشفته الريح ونحوه من أحوال

الضرورة؛ ألن هذا مما ال حيلة فيه، سواء استثنى أم لم يستثن. والذي يتبادر إلى الذهن من االستثناء أنه رخصة وتخفيف للمرأة المؤمنة في إبداء شيء

يمكن إخفاؤه، ومعقول أن يكون هو الوجه والكفين.

وإنما سومح في الوجه والكفين، ألن سترهما فيه حرج على المرأة، وخاصة إذا كانت تحتاج إلى الخروج المشروع، كأرملة تسعى على أوالدها، أو فقيرة تعمل

في مساعدة زوجها، فإن فرض النقاب عليها، وتكليفها تغطية كفيها في كلذلك مما يعوقها، ويشق عليها.

قال القرطبي: لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصالة والحج، صلح أن يكون االستثناء راجعا إليها. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعليها ثياب رقاق- فإعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن

Page 91: الحلال والحرام في الإسلام

يرى منها إال هذا وهذا".وأشار إلى وجهه وكفيه.

وفي قوله تعالى: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم( ما يشير إلى أن وجوه النساء لم تكن مغطاة، ولو كانت المرأة مستورة الجسم والوجه جميعا، ما كان

هناك مجال لألمر بالغض من األبصار، إذ ليس ثمة ما يبصر حتى يغض عنه.

ومع هذا فاألكمل للمرأة المسلمة أن تجتهد في إخفاء زينتها، حتى الوجه نفسه ما استطاعت، وذلك النتشار الفساد، وكثرة الفسوق في عصرنا، ويتأكد

ذلك إذا كانت جميلة يخشى االفتتان بها.

.31-ب- )وليضربن بخمرهن على جيوبهن( سورة النور:

الخمر: جمع خمار وهو غطاء الرأس.

الجيوب: جمع جيب وهو فتحة الصدر من الثوب.

والواجب على المرأة المسلمة أن تغطي رأسها بخمارها، وأن تستر به -أو بأي شيء آخر- صدرها ونحرها وعنقها حتى ال ينكشف شيء من هذه المفاتن

لنظرات المتطلعين من الغادين والرائحين.

.31-ج- )وال يبدين زينتهن إال لبعولتهن أو آبائهن( سورة النور:

وهذا توجيه يتضمن نهي النساء المؤمنات عن كشف الزينة الخفية -كزينة األذن والشعر والعنق والصدر والساق- أمام الرجال األجانب الذين رخص لها أمامهم

في إبداء الوجه والكفين )ما ظهر منها(.

وقد استثنى من هذا النهي اثنا عشر صنفا من الناس:

بعولتهن: أي أزواجهن، فللرجل أن يرى من زوجته ما يشاء، وكذلك.1المرأة. وفي الحديث: "احفظ عورتك إال من زوجتك".

آباؤهن، ويدخل فيهم األجداد من قبل األب واألم. .2آباء أزواجهن، فقد أصبح لهم حكم اآلباء بالنسبة إليهن. .3أبناؤهن، ومثلهم أبناء ذريتهن من الذكور واإلناث. .4 أبناء أزواجهن، لضرورة االختالط الحاصل، وألنها بمنزلة أمهم في البيت..5إخوانهن، سواء أكانوا أشقاء أو من األب أو من األم. .6بنو إخوانهن، لما بين الرجل وعمته من حرمة أبدية. .7بنو أخواتهن، لما بين الرجل وخالته من حرمة أبدية. .8 نساؤهن: أي النساء المتصالت بهن نسبا أو دينا. أما المرأة غير المسلمة.9

فال يجوز لها أن ترى من زينة المسلمة إال ما يراه الرجل -على الصحيح-. ما ملكت أيمانهن: أي عبيدهن وجواريهن ألن اإلسالم جعلهم كأعضاء في.10

األسرة. وخصه بعض األئمة باإلماء دون الذكور. التابعون غير أولي اإلربة من الرجال، وهم األجراء واألتباع الذين ال.11

شهوة لهم في النساء لسبب بدني أو عقلي. المهم أن يتوافر هذان الوصفان: التبعية للبيت الذي يدخلون على نسائه، وفقدان الشهوة

الجنسية. الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. وهم الصغار الذين لم يثر.12

في أنفسهم الشعور الجنسي، فإذا لوحظ عليهم ظهور هذا الشعور لم

Page 92: الحلال والحرام في الإسلام

يبح للمرأة أن تبدي أمامهم زينتها الخفية -وإن كانوا دون البلوغ-.

ولم تذكر اآلية األعمام واألخوال ألنهم بمنزلة اآلباء عرفا. وفي الحديث "عمالرجل صنو أبيه".

النساءعورة

ومما تقدم نعلم أن كل ما يجوز للمرأة إبداؤه من جسدها فهو عورة يجبسترها، ويحرم كشفها.

فعورتها بالنسبة للرجال األجانب عنها وكذلك النساء غير المسلمات جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، على ما اخترناه، إذ أبيح كشفهما -كما قال الرازي-

للحاجة في المعاملة واألخذ والعطاء، فأمرن بستر ما ال تؤدي الضرورة إلى كشفه، ورخص لهن في كشف ما اعتيد كشفه، وأدت الضرورة إلى إظهاره، إذ

كانت شرائع اإلسالم حنيفية سمحة. قال الرازي: ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري، ال جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة. أما القدم فليس

ظهورها بضروري فال جرم اختلفوا هل هي عورة أم ال؟.

وعورتها بالنسبة لألصناف االثني عشر المذكورين في آية النور تتحدد فيما عدا مواضع الزينة الباطنة من مثل األذن والعنق والشعر والصدر والذراعين

والساقين، فإن إبداء هذه الزينة لهؤالء األصناف قد أباحته اآلية.

وماعدا ذلك من مثل الظهر والبطن والسوءتين والفخذين، فال يجوز إبداؤهالمرأة أو لرجل إال للزوج.

وهذا الذي يفهم من اآلية أقرب مما ذهب إليه بعض األئمة؛ أن عورة المرأة بالنظر إلى المحارم ما بين السرة والركبة فقط. وكذلك عورتها بالنسبة إلى

المرأة بل الذي تدل عليه اآلية أدنى إلى ما قاله بعض العلماء: إن عورتها للمحرم ما ال يبدو منها عند المهنة. فما كان يبدو منها عند عملها في البيت

عادة فللمحارم أن ينظروا إليه.

ولهذا أمر الله نساء المؤمنين أن يستترن عند خروجهن بجلباب سابغ كاس، يتميزن به عمن سواهن من الكافرات والفاجرات، وفي هذا أمر الله نبيه أن

يؤذن في األمة بهذا البالغ اإللهي العام: )يا أيها النبي قل ألزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جالبيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فال يؤذين(

. والجالبيب جمع جلباب، وهو ثوب واسع كالمالءة تستتر به المرأة.59األحزاب:

وكان بعض نساء الجاهلية إذا خرجن من بيوتهن كشفن عن بعض محاسنهن، من مثل النحر والعنق والشعر، فيتبعهن الفساق والعابثون. فنزلت اآلية

الكريمة تأمر المرأة المؤمنة بإرخاء بعض جلبابها عليها، حتى ال ينكشف شيء من تلك المفاتن من جسدها، وبهذا يعرف من مظهرها أنها عفيفة مؤمنة، فال

يتعرض لها ماجن أو منافق بإيذاء.

فالواضح من تعليل اآلية أن هذا األمر خوف على النساء من أذى الفساق، ومعاينة المجان، وليس خوفا منهن وال فقدانا للثقة بهن -كما يدعي بعضهم-

فإن المرأة المتبرجة بزينتها وثيابها، أو المتكسرة في مشيتها، أو الطرية في حديثها، تغري الرجال بها دائما، وتطمع العابثين فيها، وهذا مصداق اآلية

Page 93: الحلال والحرام في الإسلام

.32الكريمة )فال تخضعن بالقول، فيطمع الذي في قلبه مرض( األحزاب:

وقد شدد اإلسالم في أمر التستر والتصون للمرأة المسلمة. ولم يرخص في ذلك إال شيئا يسيرا خفف به عن عجائز النساء. قال تعالى: )والقواعد من

النساء الالتي ال يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات.60بزينة، وأن يستعففن خير لهن، والله سميع عليم( النور:

والمراد بالقواعد النساء الالتي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن فال يطمعن في الزواج، وال يرغبن في الرجال، كما ال يرغب فيهن الرجال. فهؤالء قد

خفف الله عنهن، ولم يجعل عليهن حرجا أن يضعن من بعض الثياب الخارجيةالظاهرة كالملحفة والمالءة والعباءة والطرحة ونحوها.

وقد قيد القرآن هذه الرخصة بقوله: )غير متبرجات بزينة( أي غير قاصداتبوضع هذه الثياب التبرج، ولكن التخفف إذا احتجن إليه.

ومع هذه الرخصة، فاألفضل واألولى أن يتعففن عن ذلك، طلبا لألكمل، وبعداعن كل شبهة )وأن يستعففن خير لهن(.

المرأة الحمامات العامةدخول

ومن أجل عناية اإلسالم بحفظ العورات وسترها، حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول المرأة الحمامات العامة، وتعرية جسدها أمام غيرها من النساء، الالئي يحلو لهن أن يتخذن من األوصاف البدنية لهذه وتلك حديث

المجالس، ومضغة األفواه.

كما حذر عليه السالم من دخول الرجل الحمام إال بمئزر يستره عن أعين اآلخرين. فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من

كان يؤمن بالله واليوم اآلخر، فال يدخل الحمام إال بمئزر، ومن كان يؤمن باللهواليوم اآلخر فال يدخل حليلته الحمام".

وعن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عندخول الحمامات ثم رخص للرجال أن يدخلوها بالمآزر".

واستثنى من ذلك المرأة يوصف لها دخول الحمام لعالج مرض ألم بها أو نفاس ونحوه. فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن

الحمامات: "فال يدخلها الرجال إال بمئزر. وامنعوها النساء، إال مريضة أو نفساء". وفي إسناد الحديث شيء من الضعف، ولكن قواعد الشرع في

الترخيص للمريض والتيسير عليه في العبادات والواجبات تقويه وتعضده. كما يشهد له األصل المشهور أن ما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة والمصلحة.

ويؤيده أيضا ما رواه الحاكم عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا بيتا يقال له الحمام قالوا: يا رسول الله! إنه يذهب الدرن

وينفع المريض. قال: فمن دخل فليستتر".

فإن دخلت المرأة الحمام بغير عذر ولغير حاجة فقد ارتكبت حراما، واستحقت وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو المليح الهذلي رضي الله

عنه أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة رضي الله

Page 94: الحلال والحرام في الإسلام

عنها فقالت: أنتن الالتي تدخلن نساءكن الحمامات؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إال هتكت

الستر بينها وبين ربها".

وعن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نزعت ثيابها في غيربيتها خرق الله عنها ستره".

وإذا كان هذا تشديد اإلسالم في دخول النساء الحمام وهو بيت جدران أربعة ال يدخله إال النساء، فليت شعري ما الحكم في أولئك الخالعات الخليعات الالتي يبدين عوراتهن للرجال الغادين والرائحين، ويعرضن أجسادهن على شواطئ

البحار )البالجات( لألعين الجائعة، والغرائز الشرهة؟.

أما أنهن قد هتكن كل ستر بينهن وبين الرحمن، ورجالهن شركاء في اإلثمألنهم رعاة مسئولون، لو كانوا يعلمون!.

حرامالتبرج

للمرأة المسلمة خلق يميزها عن المرأة الكافرة أو المرأة الجاهلية؛ فخلقالمرأة المسلمة هو التصون واالحتشام والعفاف والحياء.

أما المرأة الجاهلية فخلقها هو: التبرج واإلغراء.

ومعنى التبرج: التكشف والظهور للعيون، ومنه )بروج مشيدة( وبروج السماء.. وذلك الرتفاعها وظهورها للناظرين. وقال الزمخشري: حقيقة التبرج: تكلف

إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارج: ال غطاء عليها .. إال أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال، بإبداء زينتها، وإظهار محاسنها، فأضاف الزمخشري

إلى المعنى عنصرا جديدا هو التكلف والقصد إلى إظهار ما يجب إخفاؤه من الزينة. وقد يكون هذا الذي يجب إخفاؤه موضعا في الجسم أو حركة لعضو منه، أو طريقة في الكالم أو المشي، أو حلية مما يتزين به النساء أو يلبسنه، أو غير

ذلك.

وللتبرج صور ومظاهر عرفها الناس قديما وحديثا، وقد ذكر المفسرون بعضها في تفسير قوله تعالى لنساء النبي: )وقرن في بيوتكن وال تبرجن تبرج

.33الجاهلية األولى( سورة األحزاب:

قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال.

وقال قتادة: كان لهن مشية تكسر وتغنج.

وقال مقاتل: التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها، وال تشده، فيداري قالئدهاوقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها.

هذه صورة من تبرج الجاهلية القديمة؛ االختالط بالرجال.. التكسر في المشي، لبس الخمار ونحوه على هيئة يبدو معها بعض محاسن البدن وزينته. وقد رمتنا

جاهلية هذا العصر بصور وألوان من التبرج، يعد معها تبرج الجاهلية األولى

Page 95: الحلال والحرام في الإسلام

ضربا من التصون واالحتشام.

المرأة عن حد التبرجما يخرج

والذي يخرج المرأة المسلمة عن حد التبرج ويسمها بأدب اإلسالم أن تلتزماآلداب التالية:

)أ( غض البصر: فإن أثمن زينة للمرأة هو الحياء، وأبرز عنوان للحياء هو غضالبصر قال تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن(.

)ب( عدم االختالط بالرجال اختالط تالصق وتماس، كما يحدث ذلك في دور السينما ومدرجات الجامعات وقاعات المحاضرات ومركبات النقل ونحوها في

هذا الزمان. وقد روى معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة

ال تحل له". المخيط: ما يخاط به كاإلبرة والمسلة ونحوهما.

)ج( أن تكون مالبسها موافقة ألدب الشرع اإلسالمي. واللباس الشرعي هوالذي يجمع األوصاف التالية:

أن يغطي جميع الجسم. عدا ما استثناه القرآن في )ما ظهر منها( وأرجحاألقوال أنه الوجه والكفان.

أال يشف ويصف ما تحته. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من أهلالنار نساء كاسيات عاريات مائالت مميالت … ال يدخلن الجنة وال يجدن ريحها"

ومعنى كاسيات عاريات: أن ثيابهن ال تؤدي وظيفة الستر فتصف ما تحتهالرقتها وشفافيتها.

دخلت نسوة من بني تميم على عائشة -رضي الله عنها- وعليهن ثياب رقاق،فقالت عائشة: "إن كنتن مؤمنات فليس هذا بثياب المؤمنات".

وأدخلت عليها امرأة عروس عليها خمار رقيق شفاف فقالت: لم تؤمن بسورة)النور( امرأة تلبس هذا.

أال يحدد أجزاء الجسم، ويبرز مفاتنه، وإن لم يكن رقيقا شفافا، كتلك الثياب التي رمتنا بها حضارة الجسد والشهوة -أعني الحضارة الغربية- التي يتسابق مصممو األزياء فيها في تفصيل الثياب التي تبرز النهود والخصور واألرداف

ونحوها، بصورة تهيج الغرائز وتثير الشهوات الدنيا، فالبساتها كاسيات عارياتأيضا، وهي أشد إغراء وفتنة من الثياب الرقيقة الشفافة.

أال يكون مما يختص بلبسه الرجال كالبنطلون في عصرنا، وذلك ألن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، كما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ونهى المرأة أن تلبس لبسة الرجل، والرجل أن يلبس لبسة

المرأة.

أال يكون لباسا اختص بلبسه الكافرات من اليهوديات والنصرانيات والوثنيات،

Page 96: الحلال والحرام في الإسلام

فإن قصد التشبه بهؤالء محظور في اإلسالم الذي يريد لرجاله ونسائه التميز واالستقالل في المظهر والمخبر، ولهذا أمر بمخالفة الكفار في أمور كثيرة.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم".

)د( أن تلتزم الوقار واالستقامة في مشيتها وفي حديثها وتتجنب اإلثارة في سائر حركات جسمها ووجهها؛ فإن التكسر والميوعة من شأن الفاجرات ال من خلق المسلمات. قال تعالى: )فال تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض(

. 32سورة األحزاب:

)هـ( أال تتعمد جذب انتباه الرجال إلى ما خفي من زينتها بالعطور أو الرنين أونحو ذلك. قال تعالى: )وال يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن(.

فقد كانت المرأة في الجاهلية حين تمر بالناس تضرب برجلها، ليسمع قعقعة خلخالها فنهى القرآن عن ذلك، لما فيه من إثارة لخيال الرجال ذوي النزعات

الشهوانية، ولداللته على نية سيئة لدى المرأة في لفت أنظار الرجال إليهازينتها.

ومثل هذا في الحكم ما تستعمله من ألوان الطيب والعطور ذات الروائح الفائحة، لتستثير الغرائز، وتجذب إليها انتباه الرجال، وفي الحديث: "المرأة إذا

استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني: زانية".

ومن هنا نعلم أن اإلسالم لم يفرض على المرأة -كما يقال- أن تظل حبيسة البيت، ال تخرج منه إال إلى القبر، بل أباح لها الخروج للصالة وطلب وقضاء

الحاجات، وكل غرض ديني أو دنيوي مشروع. كما كان يفعل ذلك نساء الصحابة ومن بعدهم من خير القرون. وكان منهن من يخرج للمشاركة في القتال

والغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء والقواد. وقد قال عليه الصالة والسالم لزوجه سودة: "قد أذن الله لكن أن تخرجن

لحوائجكن".

وقال: "إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فال يمنعها". وفي حديث آخر: "التمنعوا إماء الله مساجد الله".

وقد ذهب بعض العلماء المتشددين إلى أن المرأة يحرم عليها أن تنظر إلى أي جزء من الرجل، مستدلين بما رواه الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي

صلى الله عليه وسلم قال لها ولميمونة، وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم: "احتجبا" فقالتا: إنه أعمى. قال: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟" ولكن

المحققين قالوا: إن هذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل؛ ألن راويه عن أمسلمة نبهان موالها وهو ممن ال يحتج بحديثه.

وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السالم تغليظ على أزواجه لحرمتهن، كما غلظ عليهن أمر الحجاب؛ كما أشار إليه أبو داود وغيره من األئمة .. ويبقى

معنى الحديث الصحيح الثابت، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تقضي عدتها في بيت أم شريك ثم استدرك فقال: "تلك امرأة

يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل إعمى، تضعين ثيابك واليراك".

Page 97: الحلال والحرام في الإسلام

المرأة ضيوف زوجهاخدمة

وأوضح من ذلك أن للمرأة أن تقوم بخدمة ضيوف زوجها في حضرته، ما دامت متأدبة بأدب اإلسالم في ملبسها وزينتها وكالمها ومشيها، ومن الطبيعي أن يروها وتراهم في هذه الحال، وال جناح في ذلك إذا كانت الفتنة مأمونة من

جانبها وجانبهم.

وروى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد األنصاري قال: "لما أعرس أبو أسيد الساعدي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما

وال قدم إليهم إال امرأته أم أسيد؛ بلت تمرات في تور )إناء( من حجارة، من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته له -أي مرسته

بيدها- فسقته، تتحفه بذلك".

ففي هذا الحديث -كما قال شيخ اإلسالم ابن حجر-: جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه .. وال يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها

من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك. فإذا لم تراع المرأة ما يجب عليها من الستر -كأكثر نساء هذا الزمن- فإن ظهورها للرجال يصير

حراما.

الجنسي من كبائر المحرماتالشذوذ

بقي أن نعرف فيما يختص بتنظيم الغريزة الجنسية في اإلسالم، أنه كما حرم الزنى وحرم الوسائل المفضية إليه. حرم كذلك هذا الشذوذ الجنسي الذي

يعرف )بعمل قوم لوط( أو )اللواط(.

فهذا العمل الخبيث انتكاس في الفطرة، وانغماس في حمأة القذارة، وإفسادللرجولة، وجناية على حق األنوثة.

وانتشار هذه الخطيئة القذرة في جماعة، يفسد عليهم حياتهم ويجعلهم عبيدا لها، وينسيهم كل خلق وعرف وذوق. وحسبنا في هذا ما ذكره القرآن الكريم

عن قوم لوط الذين ابتكروا هذه الفاحشة القذرة، وكانوا يدعون نساءهم الطيبة الحالل، ليأتوا تلك الشهوة الخبيثة الحرام. ولهذا قال لهم نبيهم:

)أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؟! بل أنتم . ودمغهم القرآن -على لسان لوط- بالعدوان165،166قوم عادون( الشعراء:

والجهل واإلسراف والفساد واإلجرام.

ومن أغرب مواقف هؤالء القوم التي ظهر فيها اعوجاج فطرتهم، وفقدان رشدهم، وانحطاط أخالقهم، وفساد أذواقهم، موقفهم من ضيوف لوط الذين كانوا مالئكة عذاب أرسلهم الله في صورة البشر ابتالء ألولئك القوم وتسجيال

لذلك الموقف عليهم وهو الذي حكاه القرآن: )ولما جاءت رسلنا لوط سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب. وجاءه قومه يهرعون إليه، ومن قبل

كانوا يعملون السيئات قال: يا قوم هؤالء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله وال تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد. قال: لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد.

Page 98: الحلال والحرام في الإسلام

.81-77قالوا: يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك …( هود:

وقد اختلف فقهاء اإلسالم في عقوبة من ارتكب هذه الفاحشة: أيحدان حد الزاني؟ أم يقتل الفاعل والمفعول به؟ وبأي وسيلة يقتالن؟ أبالسيف؟ أن

بالنار؟ أن إلقاء من فوق جدار؟.

وهذا التشديد الذي قد يبدو قاسيا إنما هو تطهير للمجتمع اإلسالمي من هذهالجراثيم الفاسدة الضارة التي ال يتولد عنها إال الهالك واإلهالك.

 

االستمناءحكم

وقد يثور دم الغريزة في الشاب فليجأ إلى يده يستخرج بها المني من جسدهليريح أعصابه، يهدئ من ثورة الغريزة وهو ما يعرف اليوم )بالعادة السرية(.

وقد حرمها أكثر العلماء، واستدل اإلمام بقوله تعالى: )والذين هم لفروجهم حافظون. إال على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن

. والمستمني بيده قد ابتغى7-5ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون( المؤمنون:لشهوته شيئا وراء ذلك.

وروي عن اإلمام أحمد بن حنبل أنه اعتبر المني فضلة من فضالت الجسم، فجاز إخراجه كالفصد وهذا ما ذهب إليه وأيده ابن حزم. وقيد فقهاء الحنابلة

الجواز بأمرين: األول خشية الوقوع في الزنى … والثاني عدم استطاعةالزواج.

ويمكن أن نأخذ برأي اإلمام أحمد في حاالت ثوران الغريزة وخشية الوقوع في الحرام؛ كشاب يتعلم أو يعمل غريبا عن وطنه، وأسباب اإلغراء أمامه كثيرة،

ويخشى على نفسه العنت، فال حرج عليه أن يلجأ إلى هذه الوسيلة يطفئ بهاثوران الغريزة، على أال يسرف فيها ويتخذها ديدنا.

وأفضل من ذلك ما أرشد إليه الرسول الكريم الشاب المسلم الذي يعجز عن الزواج؛ أن يستعين بكثرة الصوم، الذي يربي اإلرادة، ويعلم الصبر، ويقوي ملكة

التقوى ومراقبة الله تعالى في نفس المسلم وذلك حين قال:"يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج،

ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" كما رواه البخاري.

في الزواجال رهبانية في اإلسالم النظر إلى المخطوبة الخطبة المحرمة البكر تستأذن وال تجبر المحرمات من النساء

Page 99: الحلال والحرام في الإسلام

المحرمات بالرضاع المحرمات بالمصاهرة الجمع بين األختين المتزوجات المشركات زواج الكتابيات زواج المسلمة من غير المسلم الزانيات زواج المتعة الزواج بأكثر من واحدة العدل شرط في إباحة التعدد الحكمة في إباحة التعدد

 

ال رهبانية في اإلسالم

وقف اإلسالم دون إرخاء العنان لغريزة الجنس لتنطلق بغير حدود وال قيود.ولذلك حرم الزنى وما يفضي إليه وما يلحق به.

ولكنه إلى جانب ذلك قاوم النزعة المضادة لذلكذلك دعا إلى الزواج، ونهىعن التبتل.. نزعة مصادمة الغريزة وكبتها، ومن أجل والخصاء.

فال يحل للمسلم أن يعرض عن الزواج مع القدرة عليه بدعوى التبتل لله، أوالتفرغ للعبادة والترهب واالنقطاع عن الدنيا.

وقد لمح النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أصحابه شيئا من النزوع إلى هذه الوجهة الرهبانية، فأعلن أن هذا انحراف عن نهج اإلسالم، وإعراض

عن سنته عليه الصالة والسالم، وبذلك طارد تلك األفكار النصرانية من البيئة اإلسالمية. فعن أبي قالبة قال: أراد أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا. فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: "إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد؛ وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم

فأولئك بقاياهم في األديار والصوامع، فاعبدوا الله وال تشركوا به، وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم".قال ونزلت فيهم اآلية: )يا أيها

الذين آمنوا ال تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وال تعتدوا إن الله ال يحب.87المعتدين( سورة المائدة:

وعن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت اآلية السابقة والتي

بعدها.

وروى البخاري وغيره أن رهطا من الصحابة ذهبوا إلى بيوت النبي صلى اللهعليه وسلم يسألون أزواجه عن عبادته، فلما أخبروه بها كأنهم تقالوها -

أي: اعتبروها قليلة- ثم قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا

فأصوم الدهر فال أفطر، وقال الثاني: وأنا أقوم الليل فال أنام، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فال أتزوج أبدا. فلما بلغ ذلك النبي صلى الله

عليه وسلم بين لهم خطأهم وعوج طريقهم وقال لهم: "إنما أنا أعلمكم

Page 100: الحلال والحرام في الإسلام

بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء.فمن رغب عن سنتي فليس مني".

وقال سعد بن أبي وقاص: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمانبن مظعون التبتل ولو أذن له الختصينا".

ووجه عليه السالم نداءه إلى الشباب عامة فقال: "يا معشر الشباب!مناستطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج".

ومن هنا قال بعض العلماء: إن الزواج فريضة على المسلم ال يحل له تركهما دام قادرا عليه. وقيده غيرهم بمن كان تائقا إليه، خائفا على نفسه.

وال يليق بالمسلم أن يصد نفسه عن الزواج خشية ضيق الرزق عليه أو ثقل المسئولية على عاتقه وعليه أن يحاول ويسعى وينتظر فضل الله

ومعونته التي وعد بها المتزوجين الذين يرغبون في العفاف واإلحصان. قال تعالى: )وأنكحوا األيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن

. وقال رسول الله32يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله( سورة النور: صلى الله عليه وسلم: "ثالثة حق على الله عونهم: الناكح الذي يريد

العفاف. والمكاتب الذي يريد األداء -أي العبد الذي يريد أن يحرر رقبتهببذل مقدار من المال يكاتب عليه سيده- والغازي في سبيل الله".

النظر إلى المخطوبة

لخطبة امرأة معينة أن ينظر إليها قبل البدء في خطوات الزواج، ليقدم عليه على بصيرة وبينة. وال يمضي في الطريق معصوب العينين، حتى يكون

بمنجاة من الوقوع في الخطأ والتورط فيما يكره.

هذا إلى أن العين رسول القلب، وقد يكون التقاء العين بالعين سبيال اللتقاءالقلوب، وائتالف األرواح.

روى مسلم عن أبي هريرة قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من األنصار فقال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: "أنظرت إليها؟ فقال: ال. قال: فاذهب فانظر إليها، فإن فيأعين األنصار شيئا".

وروى المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها؛ فإنه أحرى امرأة من األنصار أن يؤدم بينكما" فإتى أبويها، فأخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرها ذلك.. فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها فقالت: إن كان رسول الله صلى

الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر… قال المغيرة: فنظرت إليهافتزوجتها".

ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة وال للرجل اآلخر المقدار الذي تباح لهما رؤيته من المخطوبة. وقال بعض العلماء: هو الوجه والكفان. ولكن الوجه والكفين تجوز رؤيتها -بدون شهوة- في غير الخطبة، وما

دام ظرف الخطبة مستثنى فال بد أن يجوز له أن يرى منها أكثر مما يجوز

Page 101: الحلال والحرام في الإسلام

في الظروف المعتادة األخرى. وقد جاء في الحديث: "إذا خطب أحدكمالمرأة فقدر أن ينظر منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".

وقد تطرف بعض العلماء في الترخيص بالقدر الذي يرى، وتطرف آخرون في التشديد والتضييق، والخير في التوسط واالعتدال. وقد حدده بعض

الباحثين بأن للخاطب في عصرنا الحالي أن يراها في المالبس التي تظهر بها ألبيها وأخيها ومحارمها بال حرج، قال: بل له -في نطاق الحديث الشريف- أن يصحبها مع أبيها أو أحد محارمها -وهي بزيها

الشرعي- إلى ما اعتادت أن تذهب إليه من الزيارات واألماكن المباحة لينظر عقلها وذوقها ومالمح شخصيتها، فإنه داخل في مفهوم البعضية التي تضمنها قوله عليه السالم "فقدر أن ينظر منها بعض ما يدعوه إلى

زواجها".

وله أن ينظر إليها بعلمها وعلم أهلها، كما أن ينظر إليها دون أن تعلم هي أو يعلم أحد من أهلها ما دام ذلك بنية الخطبة. وقد قال جابر بن عبد الله

عن امرأته: كنت أتخبأ لها تحت شجرة ألراها.

ومن حديث المغيرة الذي ذكرناه نعلم أنه ال يباح لألب المسلم أن يمنع ابنته أن يراها من يريد خطبتها صادقا، باسم التقاليد، فإن الواجب أن تخضع

التقاليد للشريعة، ال أن تخضع شريعة الله لتقاليد الناس.

كما ال يحل لألب وال للخاطب وال للمخطوبة أن يتوسعوا في الرخصة فيلقوا الحبل على الغارب للفتى والفتاة -باسم الخطبة- يذهبان إلى المالهي

والمتنزهات واألسواق بغير حضور أحد من المحارم، كما يفعل اليومعشاق الحضارة الغربية والتقاليد الغربية.

إن التطرف إلى اليمين أو اليسار أمر تأباه طبيعة اإلسالم.

الخطبة المحرمة

وال يحل للمسلم أن يتقدم لخطبة امرأة مطلقة أو متوفى عنها زوجها في عدتها؛ ألن وقت العدة حرم للزوجية السابقة، فال يجوز االعتداء عليه. وله أن يفهم المرأة المتوفى عنها زوجها -وهي في العدة- رغبته في زواجها بالتعريض والتلميح ال باإلظهار والتصريح قال تعالى: )وال جناح

.235فيما عرضتم به من خطبة النساء( سورة البقرة:

ويحرم عليه أن يخطب على خطبة أخيه، إذا كان قد وصل إلى اتفاق مع الطرف اآلخر. ذلك أن الخاطب قبله قد اكتسب حقا يجب أن يصان، رعاية للعالقة وحسن المودة بين الناس، وبعدا بالمسلم عن سلوك

ينافي المروءة، ويشبه االختطاف والعدوان. فإذا صرف الخاطب األولنظره عن الخطبة، أو أذن بنفسه للخاطب الثاني فال حرج حينئذ عليه.

روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن أخو المؤمن فال يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، وال يخطب على خطبة أخيه". وروى البخاري عنه أنه قال: "ال يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى

Page 102: الحلال والحرام في الإسلام

يترك الخاطب قبله أو يأذن له".

البكر تستأذن وال تجبر

والفتاة هي صاحبة الشأن األول في زواجها، فال يجوز ألبيها أو وليها أن يهمل رأيها أو يغفل رضاها. قال عليه الصالة والسالم: "الثيب أحق

بنفسها من وليها. والبكر تستأذن في نفسها. وإذنها صماتها". وجاءت فتاة إلى النبيصلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أباها زوجها من ابن أخيه

وهي له كارهة فجعل النبيصلى الله عليه وسلم األمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس لآلباء من األمر شيء. وال يحل لألب أن يؤخر زواج ابنته إذا خطبها كفء ذو دين وخلق قالصلى الله عليه وسلم: "ثالث ال يؤخرن؛ الصالة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، واأليم إذا وجدت لها كفءا". وقال: "إذا أتاكم من ترضون دينه

وخلقه فزوجوه إال تفعلوه تكن فتنة في األرض وفساد كبير".

المحرمات من النساء

ويحرم على المسلم أن يتزوج واحدة من النساء اآلتي ذكرهن:

زوجة األب -سواء طلقها أو مات عنها- وكان هذا الزواج جائزا في الجاهلية فأبطله اإلسالم. ألن زوجة األب لها منزلة األم بعد زواجها بأبيه، فكان من الحكمة تحريمها عليه رعاية لحرمة األب. ثم إن تحريمها عليه على

التأبيد يقطع طمعه فيها وطعمها فيه فتستقر العالئق بينهما علىأساس من االحترام والهيبة.

األم، ومثلها الجدة وإن علت من قبل األب أو األم.

البنت، ومثلها بنت ابنه أو ابنته مهما امتدت الفروع.

األخت: شقيقة كانت أو ألب أو ألم.

العمة: أخت األب شقيقة أو ألب أو ألم.

الخالة: أخت األم شقيقة أو ألب أو ألم.

بنات األخ.

بنات األخت.

وهؤالء النسوة القريبات هن الالتي يطلق عليهن في اإلسالم اسم )المحارم( ألنهن محرمات على المسلم حرمة أبدية ال تحل في وقت من األوقات، وال بحال من األحوال كما يسمى الرجل )محرما( بالنسبة إليهن

Page 103: الحلال والحرام في الإسلام

أيضا. والحكمة في تحريم زواج هؤالء القريبات ظاهرة.

)أ( فاإلنسان الراقي تنبو فطرته عن االشتهاء الجنسي لمثل أمه أو أخته أو بنته، بل إن من الحيوانات من يأبى ذلك، وشعور المرء نحو خالته وعمته

كشعوره نحو أمه، والعم والخال كذلك بمنزلة الوالد.

)ب( إن الشريعة لو لم تجئ بقطع الطمع فيهن لكان الخطر متوقعا علىالعالقة بين الرجل وبينهن، لوجود الخلوة وشدة االختالط.

)ج( إن بين الرجل وبين هؤالء القريبات عاطفة قائمة مستقرة تتمثل في االحترام والتكريم أو الحنان والعطف. فكان األولى أن يتوجه بعاطفة

حبه إلى األجنبيات عنه عن طريق المصاهرة، فتحدث صالت جديدة، وتتسع دائرة المحبة والمودة بين الناس )وجعل بينكم مودة ورحمة(

.21سورة الروم:

)د( إن هذه العاطفة الفطرية بين الرجل وقريباته الالتي ذكرنا، والقائمة على الحنان أو التوقير، يجب إبقاؤها حارة قوية، لتكون ركيزة العالقة

الدائمة بينهم، وأساس الرعاية والمحبة والوالء. وتعريض مثل هذه العاطفة أو الصلة للزواج وما يحدث فيه من شجار وخالف قد يؤدي إلى

البينونة واالنفصال، مما يتنافى وما يراد لتلك العواطف من استقرارولتلك الصالت من ثبات ودوام.

)هـ( إن النسل من هؤالء القريبات يغلب أن يكون ضاويا ضعيفا، وإذا كان في فصيلة الشخص عيوب جسمية أو عقلية فمن شأنه أن يركزها في

النسل.

)و( إن المرأة في حاجة إلى من يخاصم عنها، ويحمي مصالحها عند زوجها،وخاصة إذا اضطربت العالئق بينهما فكيف إذا كان حاميها هو خصمها؟

بالرضاعالمحرمات

ويحرم على المسلم أن يتزوج المرأة التي أرضعته في صغره، فقد    .9 صارت بإرضاعها إياه في حكم األم، وقد أسهم لبنها في إنبات لحمه

وتكوين عظمه، وأحدث هذا الرضاع عاطفة بنوة وأمومة بينه وبينها، وقد تختفي هذه العاطفة ولكنها تكمن في العقل الباطن )الالشعور( لتظهر

فيما بعد عند المقتضى. وقد اشترط لتأثير هذا الرضاع أن يكون في الصغر أي: قبل تمام سنتين

للرضيع، وهو الزمن الذي يكون اللبن فيه الغذاء األول. وأن ال يقل عدد الرضعات عن خمس مشبعات، والرضعة المشبعة هي

التي يدع الطفل فيها الثدي من تلقاء نفسه لشعوره بالشبع.وتحديد الرضعات بخمس هو أرجح وأوسط ما جاءت به الروايات.

األخوات من الرضاعة: كما أن المرأة صارت بالرضاع أما للرضيع    .10 فكذلك بناتها صرن له أخوات من الرضاعة، وكذلك أخواتها صرن له

خاالت من الرضاعة وهكذا سائر أقاربها. وفي الحديث النبوي: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". فكما يحرم من النسب العمة والخالة وبنت

Page 104: الحلال والحرام في الإسلام

األخ وبنت األخت، فكذلك يحرم هؤالء من الرضاع.

بالمصاهرةالمحرمات

ومن المحرمات: أم الزوجة. وهذه يحرمها اإلسالم بمجرد العقد على  .11ابنتها ولو لم يدخل بها، ألنها تصبح للرجل لمنزلة أمه.

الربيبة: وهي بنت الزوجة التي دخل بها، فإن لم يكن دخل باألم،  .12فال جناح عليه أن يتزوج البنت.

حليلة االبن: ومعنى االبن: هو االبن من الصلب ال االبن المتبنى.  .13 فقد أبطل اإلسالم شرعية نظام التبني وما يترتب عليه لما فيه من

مخالفة للحقيقة والواقع، مما يؤدي إلى تحريم الحالل، وتحليل الحرام. قال تعالى: )وما جعل أدعياءكم أبناءكم؛ ذلكم قولكم بأفواهكم( سورة

. أي هو مجرد قول باللسان، ال يغير الواقع، وال يجعل الغريب4األحزاب:قريبا.

وحرمة هؤالء الثالث إنما جاءت لعلة طارئة هي المصاهرة، وما ترتبعليها من صالت وثيقة بين المتصاهرين اقتضت هذا التحريم.

الجمع بين األختين

ومما حرمه اإلسالم على المسلم -وكان مشروعا في الجاهلية- الجمع بين األختين؛ فإن رابطة الحب األخوي الذي يحرص اإلسالم على دوامه بينهما

ينافيها أن تكون إحداهما ضرة لألخرى. وقد صرح القرآن بتحريم الجمع بين األختين وأضاف الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك قوله: "ال يجمع بين المرأة وعمتها وال بين المرأة

وخالتها" كما في )الصحيحين( وغيرهما. قال: "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" واإلسالم يؤكد صلة األرحام فكيف يشرع ما يؤدي

لتقطيعها؟!

المتزوجات

والمرأة المتزوجة ما دامت في عصمة زوجها ال يحل لها الزواج بآخر. ولكيتحل لزوج آخر ال بد من شرطين:

)أ( أن تزول يد الزوج عنها بموت أو طالق.

)ب( أن تستوفي العدة التي أمر الله بها، وجعلها وفاء للزوجية السابقةوسياجا لها. ومدة هذه العدة للحامل أن تضع حملها قصر الزمن أو طال.

وللمتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ليال.

وللمطلقة ثالث حيضات. وإنما جعلت ثالثا، للتأكد من ضمان براءة الرحم،

Page 105: الحلال والحرام في الإسلام

خشية أن يكون قد علق به حمل من ماء الزوج السابق. فال بد من هذا االحتياط منعا الختالط األنساب. وهذا لغير الصغيرة أو كبيرة السن التي

انقطع عنها الحيض. أما هما فعدتهما ثالثة أشهر.

قال تعالى: )والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثالثة قروء, وال يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم اآلخر( سورة

. وقال )والالئى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم228البقرة: فعدتهن ثالثة أشهر، والالئى لم يحضن وأوالت األحمال أجلهن أن يضعن

. وقال: )والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا4حملهن( سورة الطالق:.234يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا( سورة البقرة:

وهذه األصناف الخمسة عشر من محرمات النساء ذكرها القرآن الكريم في آيات ثالث من سورة قال عز وجل: )وال تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء

إال ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيال. حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخاالتكم وبنات األخ وبنات األخت،

وأمهاتكم الالتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، وربائبكم الالتي في حجوركم من نسائكم الالتي دخلتم بهن فإن لم

تكونوا دخلتم بهن فال جناح عليكم، وحالئل أبنائكم الذين من أصالبكم، وأن تجمعوا بين األختين إال ما قد سلف، إن الله كان غفورا رحيما.

. وأما تحريم الجمع بين24-22والمحصنات من النساء..( سورة النساء:المرأة وعمتها وخالتها فقد جاءت به السنة الشريفة

المشركات

ومن المحرمات: المشركة، وهي التي تعبد األوثان كمشركات العرب ومنشابههن.

قال تعالى: )وال تنكحوا المشركات حتى يؤمن، وألمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، وال تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من

مشرك ولو أعجبكم. أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة.221والمغفرة بإذنه( سورة البقرة:

بينت اآلية أنه ال يجوز للمسلم أن يتزوج مشركة، كما ال يجوز للمسلمة أن تتزوج مشركا لالختالف الشاسع بين الدينين فهؤالء يدعون إلى الجنة

وأولئك يدعون إلى النار. هؤالء مؤمنون بالله وبالنبوة وباآلخرة، وأولئكمشركون بالله منكرون للنبوة جاحدون باآلخرة.

والزواج سكينة ومودة فكيف يلتقي هذان الطرفان المتباعدان؟.

زواج الكتابيات

أما الكتابيات من اليهود والنصارى، فقد أجاز القرآن الزواج منهن، تبعا لنظرته ألهل الكتاب، ومعاملته الخاصة لهم، واعتبارهم أهل دين سماوي

Page 106: الحلال والحرام في الإسلام

وإن حرفوا فيه وبدلوا. فكما أباح مؤاكلتهم أباح مصاهرتهم بزواج المسلم من نسائهم. قال تعالى: )وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين

أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجوهن محصنين غير مسافحين وال.5متخذي أخدان( سورة المائدة:

وهذا لون من التسامح اإلسالمي الذي قل أن يوجد له نظير في األديان والملل األخرى، فرغم رميه ألهل الكتاب بالكفر والضالل أباح للمسلم أن تكون الكتابية -وهي على دينها- زوجته وربة بيته، وسكن نفسه، وموضع

سره، وأم أوالده. ومع أنه يقول في شأن الزوجية وأسرارها: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة(

.21سورة الروم:

وهنا تنبيه ال بد أن نتوجه إليه: إن المسلمة المتدينة الحريصة على دينها أفضل للمسلم من مجرد مسلمة ورثت اإلسالم عن أبويها، والرسول

صلوات الله عليه يعلمنا ذلك فيقول: "اظفر بذات الدين تربت يداك" فإذا علمنا ذلك تبين لنا أن المسلمة -أيا كانت- أفضل للمسلم من أي امرأة

كتابية.

ثم إذا كان المسلم يخشى من مثل هذه الزوجة على عقيدة أوالده أوتوجيههم فالواجب أن يستبرىء لدينه ويجتنب هذا الخطر.

وإذا كان عدد المسلمين قليال في بلد -كجالية من الجاليات مثال- فالراجح هنا أن يحرم على رجالهم زواجهم بغير المسلمات، ألن زواجهم بغيرهن في

هذا الحال، مع حرمة زواج المسلمات من اآلخرين، قضاء على بنات المسلمين أو على فئة غير قليلة منهن بالكساد والبوار، وفي هذا ضرر

محقق على المجتمع المسلم. وهو ضرر يمكن أن يزال بتقييد هذا المباحوتعليقه إلى حين.

المسلمة من غير المسلمزواج

ويحرم على المسلمة أن تتزوج غير مسلم، كتابيا أو غير كتابي، وال يحل لها ذلك بحال وقد ذكرنا قوله تعالى: )وال تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا(

. وقال في شأن المؤمنات المهاجرات: )فإن علمتوهن221سورة البقرة: مؤمنات فال ترجعونهن إلى الكفار؛ ال هن حل لهم وال هم يحلون لهن(

. ولم يرد نص باستثناء أهل الكتاب من هذا الحكم،10سورة الممتحنة:فالحرمة مجمع عليها بين المسلمين.

وإنما أجاز اإلسالم للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية ولم يجز للمسلمة أن تتزوج بأحدهما؛ ألن الرجل هو رب البيت والقوام على المرأة

والمسؤول عنها. واإلسالم قد ضمن للزوجة الكتابية -في ظل الزوج المسلم- حرية عقيدتها، وصان لها -بتشريعاته وإرشاداته- حقوقها

وحرمتها. ولكن دينا آخر -كالنصرانية أو اليهودية- لم يضمن للزوجة المخالفة في الدين أي حرية، ولم يصن لها حقها.. فكيف يغامر اإلسالم

بمستقبل بناته، ويرمي بهن في أيدي من ال يرقبون في دينهن إال وال

Page 107: الحلال والحرام في الإسلام

ذمة؟!

وأساس هذا أن الزوج ال بد أن يحترم عقيدة زوجته ضمانا لحسن العشرة بينهما، والمسلم يؤمن بأصل اليهودية والنصرانية دينين سماويين -بغض

النظر عما حرف منهما- ويؤمن بالتوراة واإلنجيل كتابين من عند الله، ويؤمن بموسى وعيسى رسولين من عند الله من أولي العزم من

الرسل. فالمرأة الكتابية تعيش في كنف رجل يحترم أصل دينها وكتابها ونبيها، بل ال يتحقق إيمانه إال بذلك. أما اليهودي أو النصراني فال يعترف

أدنى اعتراف باإلسالم، وال بكتاب اإلسالم، وال برسول اإلسالم. فكيف يمكن أن تعيش في ظله امرأة مسلمة يطالبها دينها بشعائر وعبادات،

وفروض وواجبات، ويشرع لها أشياء ويحرم عليها أشياء؟.

أال إنه من المستحيل أن تبقى للمسلمة حرمة عقيدتها، وتتمكن من رعايةدينها، والرجل القوام عليها يجحده كل الجحود!!.

ومن هنا كان اإلسالم منطقيا مع نفسه حين حرم على الرجل المسلم أن يتزوج وثنية مشركة؛ ألن اإلسالم ينكر الشرك والوثنية كل اإلنكار فكيف

يتحقق بينهما السكون والمودة والرحمة؟

إن الجمع بينهما يشبه ما قاله الشاعر العربي قديما:

أيها المنكح الثريا سهيالعمرك الله، كيف يلتقيان؟

هي شامية إذا ما استقلتوسهيل إذا استقل يماني!!

الزانيات

والمراد بالزانيات هنا البغايا الالتي يجاهرن بالزنى ويتكسبن به. وقد روي أن مرثد بن أبي مرثد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بغيا كانت له بها عالقة في الجاهلية -واسمها عناق- فأعرض النبي صلى الله

عليه وسلم عنه حتى نزل قوله تعالى: )الزاني ال ينكح إال زانية أو مشركة والزانية ال ينكحها إال زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين(

. فتال النبي صلى الله عليه وسلم عليه اآلية وقال له: "ال3سورة النور:تنكحها".

ذلك أن الله تعالى إنما أباح زواج المحصنات من المؤمنات والمحصناتمن الذين أوتوا الكتاب -كما مر- والمحصنات هن

العفيفات. وكذلك أحل للرجال الزواج بشرط أن يكونوا )محصنين غير . فمن لم يقبل هذا الحكم من كتاب الله ولم24مسافحين( سورة النساء:

يلتزمه فهو مشرك، ال يرضى بنكاحه إال من هو مشرك مثله. ومن أقر بهذا الحكم وقبله والتزمه، ولكنه خالفه ونكح ما حرم عليه النكاح فيكون

زانيا. وهذه اآلية ذكرت بعد آية الجلد في سورة النور: )الزانية والزاني فاجلدوا

. فهذه عقوبة بدنية،2كل واحد منهما مائة جلدة… اآلية( سورة النور: وتلك عقوبة أدبية فإن تحريم زواج الزاني والزانية يشبه التجريد من شرف المواطن أو إسقاط الجنسية أو الحرمان من حقوق معينة في

العرف الحديث.

Page 108: الحلال والحرام في الإسلام

قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين معنى اآلية السابقة:

"وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة، ومقتضى العقل فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا

زوج بغي، فإن الله فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا: زوج قحبة فحرم الله على المسلم أن يكون

كذلك". "ومما يوضح هذا التحريم.. أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش

الزوج وفساد النسب الذي جعله الله بين الناس لتمام مصالحهم، وعده من جملة نعمه عليهم، فالزنى يفضي إلى اختالط المياه واشتباه

األنساب، فمن محاسن هذه الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوبوتستبرىء )أي: تعرف براءة رحمها بأن تحيض حيضة على األقل(".

وأيضا فإن الزانية خبيثة… والله سبحانه وتعالى جعل النكاح سببا للمودة والرحمة، والمودة خالص الحب فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب زوجا

له؟ والزوج سمي زوجا من االزدواج وهو االشتباه، فالزوجان: االثنان المتشابهان، والمنافرة تامة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا، فال يحصل معها االزدواج والتراحم والتواد. وصدق الله إذ يقول: )الخبيثات للخبيثين

والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات( سورة.26النور:

المتعةزواج

والزواج في اإلسالم عقد متين وميثاق غليظ، يقوم على نية العشرة المؤبدة من الطرفين لتتحقق ثمرته النفسية التي ذكرها القرآن -من

السكن النفسي والمودة والرحمة- وغايته النوعية العمرانية من استمرار التناسل وامتداد بقاء النوع اإلنساني )والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا

.72وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة( سورة النحل:

أما زواج المتعة، وهو ارتباط الرجل بامرأة لمدة يحددانها لقاء أجر معين، فال يتحقق فيه المعنى الذي أشرنا إليه. وقد أجازه الرسول صلى الله

عليه وسلم قبل أن يستقر التشريع في اإلسالم. أجازه في السفروالغزوات، ثم نهى عنه وحرمه على التأبيد.

وكان السر في إباحته أوال أن القوم كانوا في مرحلة يصح أن نسميها )فترة انتقال( من الجاهلية إلى اإلسالم؛ وكان الزنى في الجاهلية ميسرا

منتشرا. فلما كان اإلسالم، واقتضاهم أن يسافروا للغزو والجهاد شق عليهم البعد عن نسائهم مشقة شديدة، وكانوا بين أقوياء اإليمان

وضعفاء؛ فأما الضعفاء، فخيف عليهم أن يتورطوا في الزنى، أقبح بهفاحشة وساء سبيال.

وأما األقوياء فعزموا على أن يخصوا أنفسهم أو يجبوا مذاكيرهم كما قال ابن مسعود: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا: أال نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل".

وبهذا كانت إباحة المتعة رخصة لحل مشكلة الفريقين من الضعفاء

Page 109: الحلال والحرام في الإسلام

واألقوياء، وخطوة في سير التشريع إلى الحياة الزوجية الكاملة، التي تتحقق فيها كل أغراض الزواج من إحصان واستقرار وتناسل، ومودة

ورحمة، واتساع دائرة العشيرة بالمصاهرة.

وكما تدرج القرآن بهم في تحريم الخمر وتحريم الربا -وقد كان لهما انتشار وسلطان في الجاهلية- تدرج النبي صلى الله عليه وسلم بهم كذلك في تحريم الفروج. فأجاز عند الضرورة المتعة ثم حرم النبي صلى الله عليه

وسلم هذا النوع من الزواج. كما روى ذلك عنه علي، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ومن ذلك ما أخرجه مسلم في )صحيحه( عن

سبرة الجهني "أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فأذن لهم في متعة النساء. قال: فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى

الله عليه وسلم"، وفي لفظ من حديثه: "وإن الله حرم ذلك إلى يومالقيامة".

ولكن هل هذا التحريم بات كزواج األمهات والبنات أو هو تحريم مثل تحريمالميتة والدم ولحم الخنزير، فيباح عند الضرورة وخوف العنت؟

الذي رآه عامة الصحابة أنه تحريم بات حاسم ال رخصة فيه بعد استقرار التشريع. وخالفهم ابن عباس فرأى أنها تباح للضرورة. فقد سأله سائل

عن متعة النساء فرخص له فقال له مولى له: إنما ذلك في الحالالشديد، وفي النساء قلة أو نحوه؟ قال ابن عباس: نعم.

ثم لما تبين البن عباس رضي الله عنه أن الناس توسعوا فيها ولم يقتصرواعلى موضع الضرورة، أمسك عن فتياه ورجع عنها.

بأكثر من واحدةالزواج

اإلسالم دين يالئم الفطرة، ويعالج الواقع، بما يهذبه ويبعد به عن اإلفراط والتفريط. وهذا ما نشاهده جليا في موقفه من تعدد الزوجات. فإنه

العتبارات إنسانية هامة، فردية واجتماعية، أباح للمسلم أن يتزوج بأكثرمن واحدة.

وقد كان كثير من األمم والملل قبل اإلسالم، يبيحون التزوج بالجم الغفير من النساء قد يبلغ العشرات، وقد يصل إلى المائة والمئات، دون

اشتراط لشرط، وال تقييد بقيد. فلما جاء اإلسالم وضع لتعدد الزوجاتقيدا وشرطا.

فأما القيد فجعل الحد األقصى للزوجات أربعا. وقد أسلم غيالن الثقفي وتحته عشرة نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعا وفارق سائرهن". وكذلك من أسلم عن ثمانية وعن خمسة نهاه

الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمسك منهن إال أربعا.

أما زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بتسع نسوة فكان هذا شيئا خصهالله به لحاجة الدعوة في حياته، وحاجة األمة إليهن بعد وفاته.

Page 110: الحلال والحرام في الإسلام

العدل شرط في إباحة التعدد

وأما الشرط الذي اشترطه اإلسالم لتعدد الزوجات فهو ثقة المسلم في نفسه أن يعدل بين زوجتيه أو زوجاته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والنفقة، فمن لم يثق في نفسه بالقدرة على أداء هذه الحقوق بالعدل والسوية حرم عليه أن يتزوج بأكثر من واحدة قال

. وقال عليه الصالة3تعالى: )فإن خفتم أال تعدلوا فواحدة( النساء: والسالم: "من كانت له امرأتان يميل إلحداهما على األخرى جاء يوم

القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائال".

والميل الذي حذر منه هذا الحديث هو الجور على حقوقها، ال مجرد الميل القلبي، فإن هذا داخل في العدل الذي ال يستطاع، والذي عفا الله عنه وسامح في شأنه، قال سبحانه وتعالى: )ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين

. ولهذا كان رسول129النساء ولو حرصتم فال تميلوا كل الميل( النساء: الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك.. فال تؤاخذني فيما تملك وال أملك" يعني بما ال يملكه أمر

القلب والميل العاطفي إلى إحداهن خاصة.

وكان إذا أراد سفرا حكم بينهن بالقرعة، فأيتهن خرج سهمها سافر بها.وإنما فعل ذلك دفعا لوخز الصدور، وترضية للجميع.

في إباحة التعددالحكمة

إن اإلسالم هو كلمة الله األخيرة التي ختم بها الرساالت، لهذا جاء بشريعةعامة خالدة تتسع لألقطار كلها، ولألعصار قاطبة، وللناس جميعا.

إنه ال يشرع للحضري ويغفل البدوي، وال لألقاليم الباردة، وينسى الحارة،وال لعصر خاص مهمال بقية العصور واألجيال.

إنه يقدر ضرورة األفراد وضرورة الجماعات، ويقدر حاجاتهم ومصالحهمجميعا.

فمن الناس من يكون قوي الرغبة في النسل رزق بزوجة ال تنجب، لعقم أو مرض أو غيره. أفال يكون أكرم لها وأفضل له أن يتزوج عليها من تحقق

له رغبته مع بقاء األولى وضمان حقوقها؟

ومن الرجال من يكون قوي الغريزة ثائر الشهوة، ولكنه رزق بزوجة قليلة الرغبة في الرجال، أو ذات مرض، أو تطول عندها فترة الحيض، أو نحو ذلك، والرجل ال يستطيع الصبر كثيرا عن النساء، أفال يباح له أن يتزوج

بأخرى حليلة بدل أن يبحث عنها خليلة؟

وقد يكون عدد النساء أكثر من عدد الرجال -وخاصة في أعقاب الحروب التي تلتهم صفوة الرجال والشباب- وهنا تكون مصلحة المجتمع ومصلحة

Page 111: الحلال والحرام في الإسلام

النساء أنفسهن أن يكن ضرائر ال أن يعشن العمر كله عوانس محرومات من الحياة الزوجية وما فيها من سكون ومودة وإحصان، ومن نعمة

األمومة، ونداء الفطرة في حناياهن يدعو إليها.

إنها إحدى طرائق ثالث أمام هؤالء الزائدات عن عدد الرجال القادرين علىالزواج:

فإما أن يقضين العمر كله في مرارة الحرمان.

وإما أن يرخى لهن العنان ليعشن أدوات لهو لعبث الرجال الحرام!

وإما أن يباح لهن الزواج برجل متزوج قادر على النفقة واإلحسان. وال ريب أن هذه الطريقة األخيرة هي الحل العادل، والبلسم الشافي،

وذلك هو ما حكم به اإلسالم: )ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون(50سورة المائدة:

هذا هو تعدد الزوجات الذي أنكره الغرب المسيحي على المسلمين، وشنع عليهم، على حين أباح لرجاله تعدد العشيقات الخليالت، بال قيد وال

حساب، وال اعتراف بأي التزام قانوني أو أدبي، نحو المرأة أو الذرية التي تأتي ثمرة لهذا التعدد الالديني والالأخالقي فأي الفريقين أقوم

قيال وأهدى سبيال؟

 

في العالقة بين الزوجين 

اتقاء الدبر                                    في العالقة الحسية بين الزوجين

حفظ أسرار الزوجية اهتم القرآن بإبراز الغايات الروحية من الزواج، وجعلها الدعائم التي يقوم عليها بناء الحياة الزوجية، وهي تتمثل في سكون النفس من اضطرابها

الجنسي الفطري بالحب بين الزوجين، وتوسيع دائرة المودة واأللفة بين العشيرتين بالمصاهرة، واكتمال عاطفة الحنان والرحمة اإلنسانية، وانتشارها بين الوالدين إلى األوالد. وإلى هذه المعاني يرشد قوله

تعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل.21بينكم مودة ورحمة إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون( سورة الروم:

الحسية بين الزوجينفي العالقة

ولكن القرآن مع هذا لم يغفل الجانب الحسي والعالقة الجسدية بين الزوج وزوجته، وهدى فيها إلى أقوم السبل التي تؤدي حق الفطرة والغريزة،

وتتجنب -مع ذلك- األذى واالنحراف.

فقد روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال

Page 112: الحلال والحرام في الإسلام

حيضها، والنصارى كانوا يجامعونهن، وال يبالون بالحيض، وإن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم

يجالسوها على الفراش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس.

لهذا توجه بعض المسلمين بالسؤال إلى النبي صلى الله عليه وسلم عما يحل لهم وما يحرم عليهم في مخالطة الحائض فنزلت اآلية الكريمة:

)ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض وال تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله

.222يحب التوابين ويحب المتطهرين( سورة البقرة:

وقد فهم ناس من األعراب أن معنى اعتزالهن في المحيض أال يساكنوهن فبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم المراد من اآلية وقال: إنما أمرتكم

أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم آمركم بإخراجهن من البيوت كفعل األعاجم، فلما سمع اليهود ذلك قالوا: هذا الرجل يريد أال يدع شيئا من

أمرنا إال خالفنا فيه.

فال بأس على المسلم إذا أن يستمتع بامرأته بعيدا عن موضع األذى. وبهذا وقف اإلسالم -كشأنه دائما- موقفا وسطا بين المتطرفين في مباعدة الحائض إلى حد اإلخراج من البيت، والمتطرفين في المخالطة إلى حد

االتصال الحسي.

وقد كشف الطب الحديث ما في إفرازات الحيض من مواد سامة تضر بالجسم إذا بقيت فيه، كما كشف سر األمر باعتزال جماع النساء في

الحيض. فإن األعضاء التناسلية تكون في حالة احتقان، واألعصاب تكون في حالة اضطراب بسبب إفرازات الغدد الداخلية، فاالختالط الجنسي

يضرها، وربما منع نزول الحيض، كما يسبب كثيرا من االضطرابالعصبي.. وقد يكون سببا في التهاب األعضاء التناسلية.

الدبراتقاء

ونزل في شأن العالقة الحسية قوله تعالى: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا ألنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم مالقوه وبشر

.223المؤمنين( سورة البقرة:

ولنزول هذه اآلية سبب وحكمة ذكرها عالمة الهند ولي الله الدهلوي قال: كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي. وكان األنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم، وكانوا يقولون: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت هذه اآلية -فأتوا

حرثكم أنى شئتم- أي أقبل وأدبر ما كان في صمام واحد -وهو القبل موضع الحرث- وذلك ألنه ال شيء في ذلك تتعلق به المصلحة المدنية

والملية. واإلنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه، وإنما كان ذلك منتعمقات اليهود، فكان من حقه أن ينسخ.

فليس من شأن الدين أن يحدد للرجل هيئات المباشرة وكيفيتها، إنما الذي يهم الدين أن يتقي الزوج الله ويعلم أنه مالقيه، فيتجنب الدبر، ألنه موضع أذى وقذر وفيه شبه باللواط الخبيث، فكان من حق الدين أن

Page 113: الحلال والحرام في الإسلام

ينهى عنه. ولذا قال عليه السالم: "ال تأتوا النساء في أدبارهن" وقال في الذي يأتي امرأته في دبرها: "هي اللوطية الصغرى" وسألته امرأة

من األنصار عن وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها، فتال عليها قوله تعالى: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم( صماما واحدا وسأله عمر فقال: يا رسول الله! هلكت. قال: وما أهلكك؟ قال: حولت رحلي البارحة -كناية عن الوطء من الدبر في القبل- فلم يرد عليه شيئا حتى

نزلت اآلية السابقة، فقال له: أقبل وأدبر، واتق الحيضة والدبر.

أسرار الزوجيةحفظ

أثنى القرآن على الزوجات الصالحات بأنهن )قانتات حافظات للغيب بما . ومن جملة الغيب الذي ينبغي أن يحفظ ما34حفظ الله( سورة النساء:

كان بين الزوجة وزوجها من عالقة خاصة، فال يصح أن تكون حديثا في المجالس أو سمرا في الندوات مع األصدقاء أو الصديقات، وفي الحديث

الشريف: "إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضيإلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها".

وعن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم أقبل علينا بوجهه فقال: مجالسكم، هل منكم الرجل إذا أتى أهله أغلق

بابه وأرخى ستره، ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وفعلت بأهلي كذا؟! فسكتوا.. فأقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث؟ فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت ليراها رسول الله صلى

الله عليه وسلم ويسمع كالمها فقالت: إي والله… إنهم يتحدثون، وإنهن ليتحدثن فقال عليه السالم: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟. إن مثل

من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة فقضىحاجته منها والناس ينظرون إليه".

وكفى بهذا التشبيه تنفيرا للمسلم من ارتكاب هذه الحماقة، وذلكاإلسفاف. فليس يرضى مسلم لنفسه أن يكون شيطانا أو كالشيطان!!.

في تحديد النسلمسوغات تنظيم النسلتنظيم النسل

 إسقاط الحمل 

تنظيم النسل

ال ريب أن بقاء النوع اإلنساني من أول أغراض الزواج أو هو أولها. وبقاء النوع إنما يكون بدوام التناسل. وقد حبب اإلسالم في كثرة النسل،

وبارك األوالد ذكورا وإناثا ولكنه رخص للمسلم في تنظيم النسل إذا دعت إلى ذلك دواع معقولة وضرورات معتبرة, وقد كانت الوسيلة

Page 114: الحلال والحرام في الإسلام

الشائعة التي يلجأ إليها الناس لمنع النسل أو تقليله -في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم- هي العزل )وهو قذف النطفة خارج الرحم عند

اإلحساس بنزولها( وقد كان الصحابة يفعلون ذلك في عهد النبوة والوحي كما روي في الصحيحين عن جابر: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وفي صحيح مسلم قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلم ينهنا".

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي جارية وأنا أعزل منها، وإني أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجل. وإن اليهود تحدث: أن العزل الموؤودة الصغرى!! فقال عليه السالم: "كذبت

اليهود، ولو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه". ومراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الزوج -مع العزل- قد تفلت منه قطرة تكون

سببا للحمل وهو ال يدري.

وفي مجلس عمر تذاكروا العزل فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموؤودة الصغرى. فقال علي: ال تكون موؤودة حتى تمر عليها األطوار السبعة؛

حتى تكون ساللة من طين ثم تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماثم تكسى لحما ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك.

مسوغات تنظيم النسل

ومن أول هذه الضرورات: الخشية على حياة األم أو صحتها من الحمل أو الوضع، إذا عرف بتجربة أو أخبار طبيب ثقة. قال تعالى: )وال تلقوا

، وقال: )وال تقتلوا أنفسكم إن195بأيديكم إلى التهلكة( سورة البقرة:.29الله كان بكم رحيما( سورة النساء:

ومنها الخشية في وقوع حرج دنيوي قد يفضي به إلى حرج في دينه، فيقبل الحرام، ويرتكب المحظور من أجل األوالد، قال تعالى: )يريد الله بكم

. )وما يريد الله ليجعل185اليسر وال يريد بكم العسر( سورة البقرة:. 6عليكم من حرج( سورة المائدة:

ومن ذلك الخشية على األوالد أن تسوء صحبتهم أو تضطرب تربيتهم. وفي )صحيح مسلم( عن أسامة بن زيد أن رجال جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول

الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها -أو قال- على أوالدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو

كان ضارا لضر فارس والروم.

وكأنه عليه السالم رأى أن هذه الحاالت الفردية ال تضر األمة في مجموعها بدليل أنها لم تضر األمة في مجموعها بدليل أنها لم تضر فارس والروم

-وهما أقوى دول األرض حينذاك.

ومن الضرورات المعتبرة شرعا الخشية على الرضيع من حمل جديد ووليد جديد، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الوطء في حالة الرضاع

وطء الغيلة أو الغيل لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد،

Page 115: الحلال والحرام في الإسلام

وإنما سماه غيال أو غيلة؛ ألنه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتلسرا.

وكان عليه الصالة والسالم يجتهد ألمته فيأمر بما يصلحها، وينهاها عما يضرها. وكان من اجتهاده ألمته أن قال: "ال تقتلوا أوالدكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره" ولكنه عليه السالم لم يؤكد النهي إلى

درجة التحريم.. ذلك ألنه نظر إلى األمم القوية في عصره فوجدها تصنع هذا الصنيع وال يضرهم -فالضرر إذا غير مطرد- هذا مع خشيته العنت

على األزواج لو جزم بالنهي عن وطء المرضعات. ومدة الرضاع قد تمتد إلى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة. لذلك كله قال: "لقد هممت

أن أنهى عن الغيلة ثم رأيت فارس والروم يفعلونه وال يضر أوالدهمشيئا".

قال ابن القيم رحمه الله في بيان الصلة بين هذا الحديث والحديث السابق - التقتلوا أوالدكم سرا-: "أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحد

الجانبين أنه -أي الغيل- يفعل في الوليد مثل ما يفعل من يصرع الفارس عن فرسه كأنه يدعثره ويصرعه، وذلك يوجب نوع أذى ولكنه ليس بقتل

للولد وإهالك له، وإن كان قد يترتب عليه نوع أذى للطفل، فأرشدهم إلى تركه ولكنه لم ينه عنه -أي نهي تحريم- ثم عزم على النهي سدا

لذريعة األذى الذي ينال الرضيع، فرأى أن سد هذه الذريعة ال يقاوم المفسدة التي تترتب على اإلمساك عن وطء النساء مدة الرضاع، وال سيما من الشباب وأرباب الشهوة التي ال يكسرها إال مواقعة نسائهم،

فرأى أن هذه المصلحة أرجح من مفسدة سد الذريعة. فنظر ورأى األمتين -اللتين هما من أكثر األمم وأشدها بأسا- يفعلونه وال يتقونه مع

قوتهم وشدتهم فأمسك عن النهي عنه".

وقد استحدث في عصرنا من الوسائل التي تمنع الحمل ما يحقق المصلحة التي هدف إليها الرسول صلى الله عليه وسلم -هي حماية الرضيع من

الضرر- مع تجنب المفسدة األخرى -وهي االمتناع عن النساء مدة الرضاعوما في ذلك من مشقة.

وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقرر أن المدة المثلى في نظر اإلسالم بين كلولدين هي ثالثون أو ثالثة وثالثون شهرا لمن أراد أن يتم الرضاعة.

وقرر اإلمام أحمد وغيره أن ذلك يباح إذا أذنت به الزوجة؛ ألن لها حقا في الولد، وحقا في االستمتاع. وروي عن عمر أنه نهى عن العزل إال بإذن

الزوجة. وهي لفتة بارعة من لفتات اإلسالم إلى حق المرأة في عصر لميكن يعترف لها بحقوق.

إسقاط الحمل

وإذا كان اإلسالم قد أباح للمسلم أن يمنع الحمل لضرورات تقتضي ذلكفلم يبح له أن يجني هذا الحمل بعد أن يوجد فعال.

واتفق الفقهاء على أن إسقاطه بعد نفخ الروح فيه، حرام وجريمة، ال يحل للمسلم أن يفعله ألنه جناية على حي، متكامل الخلق، ظاهر الحياة،

Page 116: الحلال والحرام في الإسلام

قالوا: ولذلك وجبت في إسقاطه الدية إن نزل حيا ثم مات، وعقوبةمالية أقل منها إن نزل ميتا.

ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه -بعد تحقق حياته هكذا- يؤدي ال محالة إلى موت األم، فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمر

بارتكاب أخف الضررين فإذا كان في بقائه موت األم، وكان ال منقذ لها سوى إسقاطه، كان إسقاطه في تلك الحالة متعينا، وال يضحي بها في سبيل إنقاذه؛ ألنها أصله، وقد استقرت حياتها، ولها حظ مستقل في

الحياة، ولها حقوق وعليها حقوق، وهي بعد هذا وذاك عماد األسرة. وليس من المعقول أن نضحي بها في سبيل الحياة لجنين لم تستقل

حياته، ولم يحصل على شيء من الحقوق والواجبات.

وقال اإلمام الغزالي يفرق بين منع الحمل وإسقاطه: "وليس هذا -أي: منع الحمل- كاإلجهاض والوأد؛ ألن جناية على موجود حاصل. والوجود له مراتب. وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة مغلقة، كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة،

ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد االنفصالحيا".

في الطالقفي حقوق المعاشرة بين الزوجين

على كل من الزوجين أن يصبر علىصاحبه

هنا فقط يباح الطالقعند النشوز والشقاقالطالق في الديانة اليهوديةالطالق قبل اإلسالم

الطالق في الديانة المسيحية اختالف المذاهب المسيحية في شأن

الطالقكفر فريد في بابهنتيجة تزمت المسيحية في الطالق

المسيحية كانت عالجا مؤقتا ال شريعةعامة

قيود اإلسالم للحد من الطالق

الحلف بالطالق حرامطالق المرأة وهي حائض حرام المطلقة تبقى في بيت الزوجية مدة

العدةالطالق مرة بعد مرة

إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ال يجوز منع المطلقة عن الزواج بمن

ترضىمضارة الزوجة حرامحق الزوجة الكارهة

الحلف على هجر الزوجة حرام

في حقوق المعاشرة بين الزوجين

والزواج -كما أسلفنا- عهد وثيق ربط الله به بين رجل وامرأة، أصبح كل منهما يسمى بعده )زوجا( بعد أن كان )فردا( هو في العدد فرد، وفي ميزان الحقيقة

)زوج( ألنه يمثل اآلخر، ويحمل في حناياه آالمه وآماله معا.

وقد صور القرآن الكريم مبلغ قوة هذا الرباط بين الزوجين فقال: )هن لباس . وهو تعبير يوحي بمعاني االندماج187لكم وأنتم لباس لهن( سورة البقرة:

والستر والحماية والزينة يحققها كل منهما لصاحبه.

Page 117: الحلال والحرام في الإسلام

ولهذا كان على كل من الزوجين حقوق لصاحبه ال بد أن يرعاها، وال يجوز له أن يفرط فيها. وهي حقوق متكافئة إال فيما خصت الفطرة به الرجال كما قال

تعالى: )ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة( سورة. وهي درجة القوامة والمسؤولية.228البقرة:

وقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ماحق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، وال تضرب

الوجه، وال تقبح، وال تهجر إال في البيت".

فال يحل للزوج المسلم أن يهمل النفقة على زوجته وكسوتها، وفي الحديثالنبوي: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت".

وال يحل له أن يضرب وجه زوجته لما فيه من إهانة لكرامة اإلنسان ومن خطرعلى هذا العضو الذي يجمع محاسن الجسم.

وإذا جاز للمسلم عند الضرورة أن يؤدب زوجته الناشزة المتمردة فال يجوز لهأن يضربها ضربا مبرحا أو ضربا يصيب وجهها أو مقاتلها.

كما ال يحل للمسلم أن يقبح زوجته، بأن يؤذيها بلسانه، ويسمعها ما تكرهويقول لها: قبحك الله وما يشابهها من عبارات.

وفي حق الزوج على الزوجة قال صلى الله عليه وسلم: "ال يحل المرأة تؤمنبالله أن تأذن في بيت زوجها وهو كاره،

وال تخرج وهو كاره،وال تطيع فيه أحدا،وال تعتزل فراشه،

وال تضربه )إذا كانت أقوى منه جسدا( فإن كان هو أظلم فلتأته حتى ترتضيه، فإن قبل منها فبها نعمت وقبل الله عذرها، وأفلج )أي: أظهر( حجتها، وإن هو

لم يرض فقد أبلغت عند الله عذرها".

من الزوجين أن يصبر على صاحبهعلى كل

ويجب على المسلم أن يصبر على زوجته إذا رأى منها بعض ما ال يعجبه من تصرفها، ويعرف لها ضعفها بوصفها أنثى، فوق نقصها كإنسان، ويعرف لها

حسناتها بجانب أخطائها، ومزاياها إلى جوار عيوبها. وفي الحديث: "ال يفرك - أي: ال يبغض- مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها غيره". وقال تعالى:

)وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله.19فيه خيرا كثيرا( سورة النساء:

وكما أوجب اإلسالم على الزوج االحتمال والصبر على ما يكره من زوجته أمرت الزوجة هي األخرى أن تعمل على استرضاء زوجها بما عندها من قدرة وسحر،

وحذرها أن تبيت وزوجها غاضب.

وفي الحديث: "ثالثة ال ترتفع صالتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان

Page 118: الحلال والحرام في الإسلام

)متخاصمان(".

والشقاقالنشوز عند

وبما أن الرجل هو سيد البيت ورب األسرة، بحكم تكوينه واستعداده ووضعه في الحياة، وبذله للمهر، ووجوب النفقة عليه، فال يحل للمرأة أن تخرج عن طاعته

وتتمرد عن سلطانه، فتفسد الشركة، وتضطرب سفينة البيت أو تغرق ما دام الربان لها.

وإذا الحظ الزوج على زوجته مظاهر النشوز والعصيان له، والترفع عليه، فعليه أن يحاول إصالحها بكل ما يقدر عليه مبتدئا بالكلمة الطيبة والوعظ المؤثر

واإلرشاد الحكيم.

فإن لم تجد هذه الوسيلة هجرها في مضجعها، محاوال أن يستثير فيها غريزةاألنثى لعلها تنقاد له ويعود الصفاء.

فإن لم تجد هذه وال تلك جرب التأديب باليد مجتنبا الضرب المبرح مبتعدا عن الوجه، وهو عالج يجدي في بعض النساء في بعض األحوال بقدر معين. وليس

معنى الضرب هنا أن يكون بسوط أو خشبة، وإنما هو من نوع ما قاله عليه السالم لخادم عنده أغضبته في عمل: "لوال القصاص يوم القيامة ألوجعتك بهذا

السواك".

وقد نفر عليه السالم من الضرب وقال: "عالم يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد ولعله أن يجامعها في آخر اليوم". وقال في شأن من يضربون نساءهم: "ال

تجدون أولئك خياركم".

قال اإلمام الحافظ ابن حجر: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: لن يضرب خياركم" داللة على أن ضربهن مباح في الجملة، ومحل ذلك أن يضربها تأديبا إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل ومهما أمكن الوصول إلى الغرض باإليهام ال يعدل إلى الفعل، لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن العشرة، المطلوبة في الزوجية، إال

إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله، وقد أخرج النسائي في الباب حديث عائشة: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له وال خادما قط، وال

ضرب بيده شيئا قط إال في سبيل الله أو تنتهك حرمات الله فينتقم الله".

فإن لم ينفع هذا كله، وخيف اتساع الشقة بينهما تدخل المجتمع اإلسالمي وأهل الرأي والخير فيه يحاولون اإلصالح، فيبعثون حكما من أهله، وحكما من أهلها من أهل الخير والصالح، عسى أن تصدق نيتهما في لم الشعث وإصالح

الفاسد فيوفق الله بينهما.

وفي هذا كله قال تعالى: )والالتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فال تبغوا عليهن سبيال إن الله كان عليا

كبيرا، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا.34،35إصالحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا( سورة النساء:

Page 119: الحلال والحرام في الإسلام

فقط يباح الطالقهنا

وهنا -بعد أن فشلت تلك التجارب كلها، وخابت تلك الوسائل جميعا، يباح للزوج أن يلجأ إلى وسيلة أخيرة شرعها اإلسالم، استجابة لنداء الواقع، وتلبية لداعي

الضرورة، وحال لمشكالت ال يحلها إال الفراق بالمعروف.. تلك هي وسيلة)الطالق(.

أجاز اإلسالم اللجوء إلى هذه الوسيلة على كره، ولم يندب إليها وال استحبها،بل قال عليه السالم: "أبغض الحالل إلى الله الطالق".

"ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطالق". والتعبير بأنه حالل مبغوض إلى الله يشعر بأنه رخصة شرعت للضرورة، حين تسوء العشرة، وتستحكم النفرة بين الزوجين، ويتعذر عليهما أن يقيما حدود الله وحقوق الزوجية وقد قيل: إن لم

يكن وفاق ففراق. وقال تعالى: )وإن يتفرقا يغن الله كال من سعته( سورة.130النساء:

الطالق قبل اإلسالم

وليس اإلسالم هو الدين الفذ الذي أباح الطالق، فقبل اإلسالم كان الطالق شائعا في العالم كله -إذا استثنينا أمة أو أمتين- وكان الرجل يغضب على

المرأة فيطردها من داره محقا أو مبطال، دون أن تملك المرأة له دفعا، أو تأخذمنه عوضا، أو تجد لنفسها عنده حقا.

ولما نبه ذكر األمة اليونانية وازدهرت حضارتها كان الطالق شائعا فيها بال قيدوال شرط.

وكان الطالق لدى الرومانيين معتبرا من كيان الزواج نفسه، حتى إن القضاةكانوا يحكمون ببطالن الزواج إن اشترط كال الطرفين عدم الطالق فيه.

وكان الزواج الديني لدى األجيال األولى للرومانيين يحرم الطالق، ولكنه في الوقت نفسه يمنح الزوج على امرأته سلطانا ال حد له. فيبيح له أن يقتلها في

بعض األحوال ثم رجعت ديانتهم فأباحت الطالق كما كان مباحا أمام القانونالمدني.

اليهوديةالطالق في الديانة

أما الديانة اليهودية، فقد حسنت من حالة الزوجة، ولكنها أباحت الطالق وتوسعت في إباحته. وكان الزوج يجبر شرعا على أن يطلق امرأته إن ثبتت

عليها جريمة الفسق، حتى ولو غفر لها تلك الجريمة، وكان القانون يجبره أيضاعلى أن يطلق امرأته إن لبثت معه عشر سنين ولم تأته بذرية.

Page 120: الحلال والحرام في الإسلام

المسيحيةالديانة الطالق في

والمسيحية هي الديانة التي شذت عما ذكرنا من ديانات، وخالفت الديانة اليهودية نفسها وأعلن اإلنجيل على لسان المسيح تحريم الطالق، وتحريم زواج

: "قد قيل: من طلق امرأته31،32 :5المطلقين والمطلقات ففي إنجيل متى فليدفع إليها كتاب طالق. أما أنا فأقول لكم: من طلق امرأته إال لعلة الزنى

:11،12: 10فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى. وفي إنجيل مرقس من طلق امرأته وتزوج بأخرى يزني عليها. وإذا طلقت المرأة زوجها، وتزوجت

بآخر، ارتكبت جريمة الزنى".

وقد علل اإلنجيل هذا التحريم القاسي بأن "ما جمعه الله ال يصح أن يفرقهاإلنسان".

وهذه الجملة صحيحة المعنى، ولكن جعلها علة لتحريم الطالق هو الشيء الغريب فإن معنى أن الله جمع بين الزوجين؛ أنه أذن بهذا الزواج وشرعه،

فصح أن ينسب الجمع إلى الله، وإن كان اإلنسان هو المباشر لعقد الزواج. فإذا أذن الله في الطالق وشرعه ألسباب ومسوغات تقتضيه، فإن التفريق حينئذ

يكون من الله أيضا، وإن كان اإلنسان هو الذي يباشر التفريق. وبهذا يتضح أن اإلنسان ال يكون مفرقا ما جمعه الله، وإنما المجمع والمفرق هو الله جل شأنه، أليس الله هو الذي فرق بينهما بسبب الزنى؟ فلماذا ال يفرق بينهما بسبب آخر

يوجب الفراق.

اختالف المذاهب المسيحية في شأن الطالق

ورغم أن اإلنجيل استثنى من تحريم الطالق ما إذا كان السبب )علة الزنى( فإن أتباع المذهب الكاثوليكي يؤولون هذا االستثناء، ويقولون: "ليس المعنى هنا أن للقاعدة شذوذا، أو أن هناك من القضايا ما يسمح فيه بالطالق. فال طالق البتة في شريعة المسيح والكالم هنا )في قوله إال لعلة الزنى( عن عقد فاسخ في ذاته، فليس له من شريعة العقد وصحته إال الظواهر، إنه زنى ليس إال. ففي

هذه الحالة يحل للرجل، ال بل يجب عليه أن يترك المرأة".

أما أتباع المذهب البروتستانتي؛ فيجيزون الطالق في أحوال معينة منها حالة زنى الزوجة وخيانتها لزوجها وبعض حاالت أخرى زادوها على نص اإلنجيل،

ولكنهم وإن أجازوا الطالق لهذا السبب أو ذاك، يحرمون على المطلقوالمطلقة أن ينعما بحياة زوجية بعد ذلك.

وأتباع المذهب األرثوذكسي قد أجازت مجامعهم الملية في مصر الطالق إذا زنت الزوجة كما نص اإلنجيل، وأجازوه ألسباب أخرى، منها العقم لمدة ثالث

سنين والمرض المعدي والخصام الطويل الذي ال يرجى فيه صلح. وهذه أسباب خارجة على ما في اإلنجيل، ومن أجل ذلك أنكر المحافظون من رجال هذا

المذهب اتجاه اآلخرين إلى إباحة الطالق لهذه األسباب، كما أنكروا إباحة الزواج للمطلق أو المطلقة بحال من األحوال. وعلى هذا األساس رفضت إحدى

المحاكم المصرية المسيحية دعوى زوجة مسيحية تطلب الطالق من زوجها ألنه

Page 121: الحلال والحرام في الإسلام

معسر، وقالت المحكمة في حكمها: "إنه من العجيب أن بعض القوامين على الدين من رجال الكنيسة وأعضاء المجلس الملي العام، قد سايروا التطور

الزمني، فاستجابوا لرغبات ضعيفي اإليمان، فأباحوا الطالق ألسباب ال سند لها من اإلنجيل.. وحكم الشريعة المسيحية قاطع في أن الطالق غير جائز إال لعلةالزنى. وترتب على زواج أحد المطلقين بأنه زواج مدنس، بل هو الزنى بعينه".

تزمت المسيحية في الطالقنتيجة

ولقد كان من نتيجة هذا التزمت الغريب من المسيحية في أمر الطالق، وإهدار الطبيعة اإلنسانية والمقتضيات الحيوية التي توجب االنفصال في بعض األحيان- كان من نتيجة ذلك تمرد المسيحيين على دينهم ومروقهم من وصايا أناجيلهم،

كما يمرق السهم من الرمية. ولم يستطيعوا إال أن "يفرقوا ما جمعه الله"! فاصطنع أهل الغرب المسيحي قوانين مدنية تبيح لهم الخروج من هذا السجن

المؤبد، ولكن كثيرا منهم كاألمريكان أسرفوا وأطلقوا العنان في إباحة الطالق -كأنهم يتحدون اإلنجيل- وبذلك يوقعونه ألتفه األسباب وأصبح عقالؤهم يشكون

من هذه الفوضى التي أصابت هذه الرابطة المقدسة، والتي تهدد الحياة الزوجية ونظام األسرة باالنهيار، حتى أعلن أحد قضاة الطالق المشهورين

هناك، أن الحياة الزوجية ستزول من بالدهم وتحل محلها اإلباحة والفوضى في العالقة بين النساء والرجال في زمن قريب، وهي اآلن كشركة تجارية ينقضها

الشريكان ألوهى األسباب، خالفا لهداية جميع األديان، إذ ال دين وال حبيربطهما، بل الشهوات والتنقل في وسائل المسرات.

فريد في بابهكفر

"وهذه الظاهرة وهي السير في األحوال الشخصية وفق قانون مدني، يختلف عن تعاليم الدين، ال تكاد توجد في غير شعوب الغرب المسيحي، فجميع أهل

الملل والنحل األخرى حتى البرهميون والبوذيون والوثنيون والمجوس، يسيرون في أحوالهم الشخصية وفق تعاليم دياناتهم. وقد نجد من بينهم من

استحدث في األحوال العينية قوانين مدنية تختلف عن تعاليم دينه. ولكننا ال نجد من بينهم من استحدث قوانين مدنية في األحوال الشخصية -أي في شؤون

الزواج والطالق وما إلى ذلك- وأمكن لهذه الملل والنحل أن تساير الحياة العملية، وتجاري طبيعة البشر في هذه الشؤون. والمسيحيون وحدهم هم

الذين كفروا بدينهم من الناحية العملية في األحوال الشخصية على العموم، وفي شؤون الطالق على الخصوص؛ ألنهم هم أنفسهم قد وجدوا أن تعاليمه في هذا الصدد تنكر الواقع، وتتجاهل طبيعة اإلنسان وال تصلح للتطبيق في

الحياة".

مؤقتا ال شريعة عامةعالجا المسيحية كانت

وإن صح ما جاء في اإلنجيل بشأن الطالق، ولم يكن هذا من التغيير الذي أصاب األناجيل في قرونها األولى.. فال شك أن الذي يتأمل في األناجيل -حتى

Page 122: الحلال والحرام في الإسلام

بوضعها الحاضر- يتبين له أن المسيح عليه السالم، لم يكن يقصد إلى وضع شريعة عامة خالدة للناس جميعا. وإنما جاء ليقاوم تجاوز اليهود حدودهم فيما

رخص الله لهم فيه، كما صنعوا في أمر الطالق. فقد جاء في الفصل التاسع عشر من إنجيل متى أن المسيح حين انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم

اليهودية إلى عبر األردن، دنا إليه الفريسيون ليجربوه قائلين: هل يحل لإلنسان أن يطلق زوجته ألجل كل علة؟ )أي سبب(، فأجابهم قائال: أما قرأتم أن الذي خلق اإلنسان في البدء ذكرا وأنثى خلقهم، وقال: لذلك يترك الرجل أباه وأمه

ويلزم امرأته، فيصيران كالهما جسدا واحدا، فليسا هما اثنين بعد، ولكنهما جسد واحد، وما جمعه الله فال يفرقه اإلنسان، فقالوا له: فلماذا أوصى موسى أن تعطى )أي المرأة( كتاب طالق وتخلي؟ فقال لهم: إن موسى ألجل قساوة قلوبكم أذن لكن أن تطلقوا نساءكم، ولم يكن من البدء هكذا. وأنا أقول لكم:

من طلق امرأته إال لعلة زنى، وأخذ أخرى فقد زنى ومن تزوج مطلقة فقد زنى. فقال تالميذه: إن كانت هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدر له أال يتزوج

(.10-1 :19)متى

فالواضح من هذا الحوار أن المسيح إنما أراد أن يحد من غلو اليهود في استعمال اإلذن في الطالق الذي أعطاهم موسى، فعاقبهم بتحريم الطالق

عليهم، إال إذا زنت المرأة، فهو عالج مؤقت لفترة مؤقتة حتى تأتي الشريعةالعامة الخالدة ببعثة محمد.

وليس من المعقول أن المسيح يريد هذا شرعا أبديا لكل الناس، فإن حواريه وأخلص تالميذه أنفسهم أعلنوا استثقالهم لهذا الحكم العنيف وقالوا: "إن كان

هذا شأن الرجل مع امرأته فأجدر له أال يتزوج" فإن مجرد الزواج من امرأة يجعلها في عنقه غال ال يمكن االنفكاك عنه بحال. مهما امتأل قلبه من البغض

لها والضيق بها والسخط عليها، ومهما تنافرت طباعهما واتجاهاتهما.

وقديما قال الحكيم: إن من أعظم الباليا مصاحبة من ال يوافقك وال يفارقك.

وقال الشاعر العربي:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرىعدوا له ما من صداقته بد

اإلسالم للحد من الطالققيود

هذا وقد وضعت الشريعة اإلسالمية الغراء قيودا عديدة في سبيل الطالق حتىينحصر في أضيق نطاق مستطاع.

فالطالق بغير ضرورة تقتضيه، وبغير استنفاد الوسائل األخرى التي ذكرناها طالق محرم محظور في اإلسالم؛ ألنه -كما قال بعض الفقهاء- ضرر بنفسه

وبزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه فكان حراما كإتالفالمال، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ال ضرر وال ضرار".

وأما ما يصنعه الذواقون المطالقون، فهذا شيء ال يحبه الله وال رسوله، قال عليه السالم: "ال أحب الذواقين من الرجال والذواقات من النساء". وقال: "إن

الله ال يحب الذواقين وال الذواقات".

Page 123: الحلال والحرام في الإسلام

وقال عبد الله بن عباس: إنما الطالق عن وطر.

وهي حائض حرامالمرأة طالق

وإذا وجد الوطر والحاجة التي تسوغ الطالق، فليس مباحا للمسلم أن يسارعإليه في أي وقت شاء، بل ال بد من تخير الوقت المناسب.

والوقت المناسب -كما حددته الشريعة- أن تكون المرأة طاهرا، ليس بها حيض وال نفاس، وأال يكون قد جامعها في هذا الطهر خاصة، إال إذا كانت حامال قد

استبان حملها.

ذلك أن حالة الحيض -ومثله النفاس- توجب اعتزال الزوج لزوجته، فربما كان حرمانه أو توتر أعصابه، هو الدافع إلى الطالق، لهذا أمر أن ينتظر حين ينتهي

الحيض ثم تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها.

ويحرم عليه أن يطلقها في وقت الحيض كما يحرم عليه أيضا أن يطلقها وهي طاهر بعد أن يكون قد اتصل بها، فمن يدري لعلها علقت منه في هذه المرة،

ولعله لو علم بحملها لغير رأيه في فراقها، ورضي العشرة معها من أجلالجنين الذي في بطنها.

فإذا كانت طاهرا لم يمسسها، أو كانت حامال قد استبان حملها، عرف أن الدافع له إلى الطالق إنما هو النفرة المستحكمة، فال حرج عليه حينئذ أن

يطلقها. وفي )الصحيح( أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "مره فليراجعها ثم إن شاء طلقها وهي طاهر قبل أن يمس، فذلك الطالق للعدة، كما أمر الله تعالى في قوله تعالى:

)يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن( أي مستقبالت عدتهن،وذلك في حالة الطهر".

وفي رواية: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حامال".

ولكن هل ينفذ الطالق ويقع، أم ال يقع؟

المشهور أنه يقع ويكون المطلق آثما.

وقال طائفة من الفقهاء: ال يقع؛ ألنه طالق لم يشرعه الله تعالى البتة، والأذن فيه فليس من شرعه؛ فكيف يقال بنفوذه وصحته؟

وقد روى أبو داود بسند صحيح أن ابن عمر سئل: "كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا؟ فقص على السائل قصته حين طلق وهي حائض، وأن رسول

الله صلى الله عليه وسلم ردها عليه ولم يرها شيئا".

Page 124: الحلال والحرام في الإسلام

بالطالق حرامالحلف

وال يجوز للمسلم أن يجعل من الطالق يمينا يحلف به على فعل هذا أو تركذاك، أو يهدد زوجته؛ إن فعلت كذا فهي طالق.

فإن لليمين في اإلسالم صيغة خاصة لم يأذن في غيرها، وهي الحلف بالله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك".

"من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت".

تبقى في بيت الزوجية مدة العدةالمطلقة

المطلقة في بيتها -أي بيت الزوجية- مدة والواجب في شريعة اإلسالم أن تبقى العدة، ويحرم عليها أن تخرج من البيت، كما يحرم على الزوج أن يخرجها منه بغير حق، وذلك أن للزوج -طوال مدة العدة- أن يراجعها ويردها إلى حظيرة

الزوجية مرة أخرى -إذا كان هذا هو الطالق األول أو الثاني- وفي وجودها في البيت قريبا منه إثارة لعواطفه وتذكير له أن يفكر في األمر مرة ومرة قبل أن يبلغ الكتاب أجله، وتنتهي أشهر العدة التي أمرت أن تتربصها استبراء للرحم، ورعاية ليحق الزوج وحرمة الزوجية، والقلوب تتغير، واألفكار تتجدد، والغاضب

قد يرضى، والثائر قد يهدأ، والكاره قد يحب.

وفي ذلك يقول الله تعالى في شأن المطلقات: )واتقوا الله ربكم ال تخرجوهن من بيوتهن وال يخرجن إال أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله ومن يتعد

حدود الله فقد ظلم نفسه، ال تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا( سورة.1الطالق:

وإن كان ال بد من الفراق بين الزوجين، فالمطلوب منهما أن يكون بمعروف وإحسان بال إيذاء وال افتراء وال إضاعة للحقوق. قال تعالى: )فأمسكوهن

. وقال: )فإمساك بمعروف أو تسريح2بمعروف أو فارقوهن بمعروف( الطالق: . وقال: )وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين(229بإحسان( البقرة:

.241سورة البقرة:

بعد مرةمرة الطالق

وقد منح اإلسالم للمسلم ثالث تطليقات في ثالث مرات، على أن يطلقها كل مرة في طهر لم يجامعها فيه طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن

بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، أمكن أن يردها إليه بعقد جديد، وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج

غيره.

فإن أعادها إلى عصمته بعد الطلقة األولى، ثم حدث بينهما النفور والشقاق مرة ثانية وعجزت الوسائل األخرى عن تصفية الجو بينهما، فله أن يطلقها

للمرة الثانية -على الطريقة التي ذكرناها- وله أيضا أن يراجعها في العدة بغير

Page 125: الحلال والحرام في الإسلام

عقد أو يعيدها بعد العدة بعقد جديد.

فإذا عاد فطلقها للمرة الثالثة كان هذا دليال واضحا على أن النفرة بينهما مستحكمة، والوفاق بينهما غير مستطاع. لهذا لم يجز له بعد التطليقة الثالثة أن يردها إليه، وال تحل له بعد ذلك حتى تنكح زوجا غيره زواجا شرعيا صحيحا

مقصودا لذاته ال لمجرد تحليلها للزوج األول.

ومن هذا نرى أن المسلم الذي يجمع هذه المرات الثالث في مرة واحدة أو لفظة واحدة قد ضاد الله فيما شرعه، وانحرف عن صراط اإلسالم المستقيم. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثالث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟"

حتى قام رجل فقال: يا رسول الله أال أقتله.

بمعروف أو تسريح بإحسانإمساك

وإذا طلق الزوج زوجته وبلغت األجل المحدد لها -أي قاربت عدتها أن تنقضي-كان على الزوج أحد أمرين:

إما أن يمسكها بمعروف. ومعنى ذلك يرجعها بقصد اإلحسان واإلصالح، ال بقصدالمشاكسة واإلضرار.

وإما أن يسرحها ويفارقها بمعروف، بأن يتركها حتى تنقضي عدتها ويتم االنفصال بينهما بال تشويش وال مضارة، وال مشاحة فيما ألحدهما على اآلخر

من حقوق.

وال يحل له أن يراجعها قبيل انقضاء عدتها منه، قاصدا إيذاءها بإطالة العدة عليها، وحرمانها من التزوج بغيره أطول مدة يستطيعها. وهكذا كان يفعل أهل

الجاهلية.

وقد حرم الله هذه المضارة للمرأة في محكم كتابه، بأسلوب ترعد منه الصدور وتجل القلوب. قال تعالى: )وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن

بمعروف أو سرحوهن بمعروف.. وال تمسكوهن ضرارا لتعتدوا.. ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه… وال تتخذوا آيات الله هزوا… واذكروا نعمة الله عليكم وما

أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به. واتقوا الله… واعلموا أن الله بكل.231شيء عليم( سورة البقرة:

وبالتأمل في هذه اآلية الكريمة نجدها قد اشتملت على سبع فقرات، فيها تحذير بعد تحذير، وتذكير يتلوه تذكير، ووعيد على إثر وعيد، وكفى بذلك ذكرى

لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

منع المطلقة عن الزواج بمن ترضىيجوز ال

لزوجها أو وليها أو أحد غيرهما أن يعضلها عن وإذا انقضت عدة المطلقة. فال

Page 126: الحلال والحرام في الإسلام

يحل الزواج بمن تريد، وال يعترض طريق رغبتها ما دام الخاطب والمخطوبة قدتراضيا بينهما بالطريق المعروف شرعا وعرفا.

فما يصنعه بعض المطلقين من محاولة لفرض سيطرته على مطلقته، وتهديدهاأو تهديد أهلها إذا تزوجت بعده، إنما هو من عمل الجاهلية الجهالء.

ومثل هذا وقوف أهل المرأة وأوليائها في سبيل رجوعها إلى مطلقها إذا أراد مراجعتها، وتراضيا معا أن يتراجعا بالمعروف، ويرتقا ما كان بينهما من فتوق

، كما قال الله تعالى.128)والصلح خير( سورة النساء:

وفي هذه المعاني جاءت اآلية: )وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فال تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف. ذلك يوعظ به من كان منكم

يؤمن بالله واليوم اآلخر. ذلكم أزكى لكم وأطهر. والله يعلم وأنتم ال تعلمون(.232البقرة:

الكارهةحق الزوجة

وللمرأة إذا كرهت زوجها ولم تعد تطيق عشرته أن تفدي نفسها منه، وتشتري حريتها برد ما كان دفع لها من مهر وهدايا أو أقل منها أو أكثر حسب

تراضيهما، واألولى أن يأخذ منها أكثر مما بذل لها من قبل. قال تعالى: )فإن.229خفتم أال يقيما حدود الله فال جناح عليهما فيما افتدت به( سورة البقرة:

وقد جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق وال دين، ولكني ال أطيقه

بغضا، فسألها عما أخذت منه فقالت: حديقة، فقال لها: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت: "اقبل الحديقة

وطلقها تطليقة".

ويحرم على الزوجة أن تسارع إلى طلب الطالق من زوجها بغير ما بأس من جهته، وال داع مقبول يؤدي إلى التفريق بينهما. قال عليه السالم: "أيما امرأة

سألت زوجها الطالق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة".

الزوجة حراممضارة

وال يحل للزوج أن يضار زوجته ويسيء عشرتها لتفتدي نفسها منه برد ما آتاها من المال كله أو بعضه، ما لم تأت بفاحشة مبينة. وفي ذلك يقول الله تعالى: )وال تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إال أن يأتين بفاحشة مبينة( سورة

.19النساء:

ويحرم عليه إذا كان هو الكاره الراغب في فراقها طموحا إلى غيرها أن يأخذ منها شيئا كما قال سبحانه: )وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن

قنطارا فال تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا، وكيف تأخذونه وقد

Page 127: الحلال والحرام في الإسلام

.21-20أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا؟( النساء:

الزوجة حرامهجر الحلف على

ومن روائع اإلسالم في رعاية حق المرأة تحريمه على الزوج أن يغاضب زوجته فيهجر فراشها، ويمتنع عن قربانها مدة ال تحتمل أنوثتها. فإذا أكد هذا الهجر

بيمين منه أال يقربها )ال يجامعها( أعطي مهلة أربعة أشهر، عسى أن تهدأ فيها نفسها، وتسكن ثائرة غضبه ويراجع ضميره. فإذا عاد إلى رشده واتصل بها

قبل انقضاء األشهر األربع أو في آخرها، فإن الله يغفر له ما فرط منه، ويفتحله باب التوبة الفسيح. وعليه أن يكفر عن يمينه.

وإذا مضت هذه المدة ولم يرجع عن عزمه، ويتحلل من يمينه، فإن امرأته تطلقمنه جزاء وفاقا على ما أهمل في حقها.

ومن الفقهاء من يطلقها عليه بمضي المدة المذكورة بغير انتظار لقضاء قاضأو حكم حاكم.

ومنهم من يشترط رفع األمر إلى الحاكم بعد مضي المدة، فيخيره بين مراجعةنفسه وإرضاء زوجه وبين الطالق، وليختر لنفسه ما يحلو.

وهذا الحلف على عدم قربان الزوجة هو المعروف في الشريعة باسم )اإليالء( وفيه جاء قول الله تعالى: )للذين يؤلون من نسائهم -أي يحلفون على البعد

عنهن- تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطالق.226،227فإن الله سميع عليم( سورة البقرة:

وإنما حددت المهلة بأربعة أشهر، لتكون فرصة كافية ليراجع الرجل فيها نفسه ويثوب إلى رشده، وألنها في العادة أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها. وفي هذا يروي المفسرون قصة عمر رضي الله عنه حين كان يعس بالليل فسمع امرأة

تنشد:

لقد طال هذا الليل واسود جانبه وأرقني أال خليل أالعبه

لحرك من هذا السرير جوانبه فوالله، لوال الله تخشى عواقبه وقد بحث عمر عن قصتها فعرف أن زوجها غائب في كتائب المجاهدين من زمن طويل، فسأل ابنته حفصة: ما أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ قالت:

أربعة أشهر.

وعندئذ عزم أمير المؤمنين أال يغيب زوجا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر.

بين الوالدين

Page 128: الحلال والحرام في الإسلام

واألوالد 

ال تقتلوا أوالدكماإلسالم يحفظ األنسابالتسوية بينهم في العطاءال يجوز لألب أن ينكر نسب ابنه

التبني حرام في اإلسالم الوقوف في الميراث عند حدود

الله إبطال التبني بالتشريع العملي بعد

التشريع القوليعقوق الوالدين من الكبائر

التبني بمعنى التربية والرعاية التسبب في سب الوالدين من

الكبائر

التلقيح الصناعي التطوع للجهاد بغير إذن الوالدين

ال يجوزالوالدان المشركانانتساب الولد إلى غير أبيه يوجب اللعنة

 

 

اإلسالم يحفظ األنساب

الولد سر أبيه، وحامل خصائصه، وهو في حياته قرة عينه، وهو بعد مماته امتداد لوجوده، ومظهر لخلوده. يرث منه المالمح والسمات، والخصائص والمميزات،

يرث الحسن منها والقبيح، والجيد والرديء. وهو بضعة من قلبه، وفلذة منكبده.

لهذا حرم الله الزنى، وفرض الزواج، حتى يصون األنساب، وال تختلط المياه، ويعرف الولد من أبوه، ويعرف الوالد من بناته وبنوه؟ فبالزواج تختص المرأة

برجلها ويحرم عليها أن تخونه، أو تسقي زرعه بماء غيره. وبذلك يكون كل من تلدهم في فراش الزوجية أوالد زوجها. بدون أن يحتاج ذلك إلى اعتراف أوإعالن من األب أو دعوى من األم فالولد للفراش كما قال رسول اإلسالم.

لألب أن ينكر نسب ابنهال يجوز

ومن هنا ال يحل للزوج أن ينكر نسب ولد ولدته زوجه في فراشه أي في حالة قيام زوجية صحيحة بينهما. فإن إنكاره هذا يلحق أكبر الضرر، وأقبح العار

بالزوجة والولد فال يباح له اإلقدام عليه لشك عارض أو وهم طارئ أو إشاعة خبيثة. أما إذا جزم بأن امرأته خانته بأدلة تجمعت لديه، وقرائن ال يستطيع أن يدفعها عن نفسه، فإن شريعة اإلسالم لم ترض أن تدعه يربي من يعتقد أنه ليس بابن له، ويورث من ال يرثه في رأيه، أو على األقل يكون فريسة للشك

طول حياته. وقد جعلت الشريعة له مخرجا من ذلك بما عرف في الفقه باسم )اللعان( فمن تأكد أو ظن ظنا راجحا أن زوجته قد لوثت فراشه بماء غيره

وجاءت بولد منه وليس له بينة على ذلك، فله أن يرفع ذلك إلى القاضي ويجري القاضي بينهما المالعنة التي فصلها القرآن الكريم في سورة النور: )والذين

يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إال أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات

Page 129: الحلال والحرام في الإسلام

بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب

. ثم يفرق بينهما إلى األبد،9-6الله عليها إن كان من الصادقين( سورة النور:ويلحق الولد بأمه.

حرام في اإلسالمالتبني

وإذا كان األب ال يجوز له أن ينكر نسب من ولد في فراشه، فإنه ال يحل له كذلك أن يتبنى من ليس بابن له من صلبه. وقد كان العرب في الجاهلية

كغيرهم من األمم في التاريخ يلحقون بانسابهم وأسرهم من شاؤوا عن طريق التبني، فللرجل أن يضيف إلى بنوته من يختاره من الفتيان، ويعلن ذلك فيصبح

واحدا من أبنائه وأسرته له ما لهم وعليه ما عليهم ويحمل بذلك اسم األسرة ويكون له حقوقها. ولم يكن يمنع هذا التبني أن يكون للفتى المتبنى أب معلوم

ونسب معروف.

جاء اإلسالم فوجد هذا التبني منتشرا في المجتمع العربي، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كان قد تبنى زيد بن حارثة في الجاهلية، وهو فتى

عربي سبي صغيرا في غارة من غارات العرب في الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوجته ولما

عرف أبوه وعمه مكانه، وطلباه من النبي صلى الله عليه وسلم، خيره النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إال أن اختار رسول الله صلى الله عليه

وسلم على أبيه وعمه، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه وأشهد على ذلك القوم. وعرف منذ ذلك الحين باسم )زيد بن محمد( وكان أول من آمن به

من الموالي.

ماذا كان رأي اإلسالم في هذا النظام الجاهلي؟

لقد رأى بحق أن التبني تزوير على الطبيعة والواقع، تزوير يجعل شخصا غريبا عن أسرة فردا منها، يخلو بنسائها على أنهن محارمه وهن عنه غريبات فال

زوجة الرجل المتبني أمه وال أخته، وال عمته.. إنما هو أجنبي عن الجميع.

ويرث هذا االبن المدعى من الرجل أو المرأة على أنه ابنهما، ويحجب ذوي القربى األصالء المستحقين. وما أكثر ما يحقد األقارب الحقيقيون على هذا

الدخيل الذي عدا عليهم فاغتصب حقوقهم، وحال بينهم وبين ما كانوا يرجون من ميراث. وما أكثر ما يثور هذا الحقد، ويؤرث نار الفتن، ويقطع األواصر

واألرحام!!

لهذا أبطل القرآن هذا النظام الجاهلي، وحرمه تحريما باتا، وألغى آثاره كلها، قال تعالى: )وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول

الحق وهو يهدي السبيل. ادعوهم آلبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا.4،5آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم( سورة األحزاب:

ولنتأمل هذه الكلمة القرآنية الناصعة )وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكمبأفواهكم( أي أن التبني إنما هو كلمة فارغة ليس وراءها حقيقة خارجية.

إن الكالم باللسان ال يبدل الحقائق، وال يغير الواقع، وال يجعل الغريب قريبا،

Page 130: الحلال والحرام في الإسلام

وال األجنبي أصيال، وال الدعي ولدا، الكالم بالفم ال يجري في عروق المتبنى، دم المتبني وال يخلق في صدر الرجل حنان األبوة، وال في قلب الغالم عواطف

البنوة، وال يورثه خصائص الفضيلة، وال مالمح األسرة الجسمية والعقليةوالنفسية.

وقد ألغى اإلسالم كل اآلثار التي كانت تترتب على هذا النظام من إرث وتحريمللزواج من حليلة المتبنى.

ففي اإلرث لم يجعل القرآن لغير صلة الدم والزوجية والقرابة الحقيقية قيمة وسببا في الميراث: )وأولو األرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله( آخر

سورة األنفال.

وفي الزواج أعلن القرآن أن من المحرمات حالئل األبناء الحقيقيين ال األدعياء . فيباح للرجل أن يتزوج24)وحالئل أبنائكم الذين من أصالبكم( سورة النساء:

حليلة متبناه ألنها امرأة إنسان غريب عنه في الواقع، فال بأس أن يتزوجها إذاطلقها اآلخر.

التبني بالتشريع العملي بعد التشريع القوليإبطال

ولم يكن هذا األمر سهال على الناس، فقد كان التبني نظاما اجتماعيا عميق الجذور في حياة العرب. فشاءت حكمة الله أال يكتفي في هدمه وإهدار آثاره

بالقول وحده بل بالقول والعمل جميعا.

واختارت الحكمة اإللهية لهذه المهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، ليزيل كل شك، ويدفع كل حرج عن المؤمنين في إباحة زواج مطلقات

أدعيائهم، وأن يوقنوا أن الحالل ما أحل الله والحرام ما حرم الله. وكان زيد بن حارثة الذي عرفنا أنه كان يقال له زيد بن محمد قد تزوج زينب بنت جحش، ابنة

عمة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اضطربت بينهما العالئق وكثرت شكوى زيد من زوجته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يعلم -بما نفث الله في

روعه- أن زيدا مطلقها، وأنه متزوجها بعده ولكن الضعف البشري غلب عليه في بعض اللحظات فخشي مواجهة الناس فكان يقول لزيد كلما شكا له: أمسك

عليك زوجك واتق الله.

وهنا نزل القرآن يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه يشد أزره في مواجهة المجتمع، بتحطيم بقايا هذا النظام القديم والتقليد الراسخ،

الذي يحرم على الرجل أن يتزوج امرأة متبناه الغريب عنه. قال تعالى: )وإذ تقول للذي أنعم الله عليه )باإليمان( وأنعمت عليه )بالعتق، وهو زيد(: أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله

أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيال يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعوال( سورة

. ثم مضى القرآن يحامي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في37األحزاب: هذا العمل ويؤكد إباحته ويرفع الحرج عنه: )ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا.

الذين يبلغون رساالت الله ويخشونه وال يخشون أحدا إال الله وكفى بالله حسيبا. ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان

Page 131: الحلال والحرام في الإسلام

.40-38الله بكل شيء عليما( األحزاب:

التربية والرعايةبمعنى التبني

ذلك هو التبني الذي أبطله اإلسالم؛ هو الذي يضم فيه الرجل طفال إلى نفسه، يعلم أنه ولد غيره، ومع هذا يلحقه بنسبه وأسرته، ويثبت له كل أحكام البنوة

وآثارها من إباحة اختالط وحرمة زواج واستحقاق ميراث.

وهنالك نوع يظنه الناس تبنيا وليس هو بالتبني الذي حرمه اإلسالم. وذلك أن يضم الرجل إليه طفال يتيما أو لقيطا، ويجعله كابنه في الحنو عليه والعناية به والتربية له، فيحضنه ويطعمه ويكسوه ويعلمه ويعامله كأنه ابنه من صلبه، ومع هذا لم ينسبه لنفسه ولم يثبت له أحكام البنوة المذكورة. فهذا أمر محمود في

دين الله، يستحق صاحبه عليه المثوبة في الجنة وقد قال عليه السالم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما"

واللقيط في معنى اليتيم. وهو بعد ذلك أولى من يطلق عليه )ابن السبيل(الذي أمر برعايته اإلسالم.

وإذا لم يكن للرجل ذرية وأراد أن ينفح هذا الولد بشيء من ماله، فله أن يهبهما شاء في حياته، وأن يوصي له في حدود الثلث من التركة قبل وفاته.

الصناعيالتلقيح

وإذا كان اإلسالم قد حمى األنساب بتحريم الزنى وتحريم التبني، وبذلك تصفو األسرة من العناصر الغريبة عنها. فإنه يحرم ما يعرف )بالتلقيح الصناعي( إذا

كان التلقيح بغير نطفة الزوج بل يكون في هذه الحالة -كما قال األستاذ األكبر الشيخ شلتون- "جريمة منكرة وإثما عظيما، يلتقي مع )الزنى( في إطار واحد؛

جوهرهما واحد، ونتيجتهما واحدة وهي وضع ماء رجل أجنبي قصدا في حرث ليس بينه وبين ذلك الرجل عقد ارتباط بزوجية شرعية يظلها القانون الطبيعي،

والشريعة السماوية، ولوال قصور في صورة الجريمة، لكان حكم التلقيح فيتلك الحالة، هو حكم الزنى الذي حددته الشرائع اإللهية، ونزلت به كتب السماء.

وإذا كان التلقيح البشري بغير ماء الزوج على هذا الوضع وبتلك المنزلة كان دون شك أفظع جرما، وأشد نكرا من التبني.. فإن ولد التلقيح يجمع بين نتيجة التبني المذكور، وهي إدخال عنصر غريب في النسب، وبين خسة أخرى وهي

التقاؤه مع الزنى في إطار واحد تنبو عنه الشرائع والقوانين، وينبو عنه المستوى اإلنساني الفاضل، وينزلق به إلى المستوى الحيواني الذي ال شعور

فيه لألفراد برباط المجتمعات الكريمة".

الولد إلى غير أبيه يوجب اللعنةانتساب

وكما حرم اإلسالم على األب أن ينكر نسب ولده بغير حق، حرم على الولد أن

Page 132: الحلال والحرام في الإسلام

ينتسب لغير نسبه، ويدعى إلى غير أبيه، وعد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من المنكرات الشنعاء التي تستوجب لعنة الخالق والخلق. روى ذلك من فوق المنبر علي رضي الله عنه من صحيفة كانت عنده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها يقول: "من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه،

فعليه لعنة الله والمالئكة والناس أجمعين، ال يقبل الله منه يوم القيامة صرفاوال عدال" أي توبة وال فدية.

وعن سعد بن أبي وقاص، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ادعى إلىغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام".

أوالدكمتقتلوا ال

بعد أن حفظ اإلسالم األنساب على هذا النحو، أوجب لكل من الولد والوالد حقوقا على اآلخر، تقتضيها الوالدية والبنوة. وحرم على كل منهما أمورا

تقتضيها صيانة هذه الحقوق ورعايتها.

فللولد حق الحياة. وليس ألبيه وال أمه أن يعتديا على حياته بالقتل أو الوأد -كما كان يصنع بعض العرب في الجاهلية- والبنت واالبن في ذلك سواء قال تعالى:

)وال تقتلوا أوالدكم خشية إمالق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئا.8،9. )وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت( التكوير:31كبيرا( اإلسراء:

ومهما يكن الدافع إلى هذا المنكر -اقتصاديا كخشية الفقر وضيق الرزق أو غير اقتصادي كخشية العار إذا كان المولود بنتا- فإن اإلسالم يحرم هذا العمل

الوحشي أشد التحريم، ألنه قتل وقطيعة رحم، وعدوان على نفس ضعيفة. ولذلك سئل عليه السالم: أي الذنب أعظم؟ فقال: "أن تجعل لله ندا وهو

خلقك!" قيل: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك".

وقد بايع النبي النساء -كالرجال- على تحريم هذه الجريمة واالنتهاء عنها )أن ال .12يشركن بالله وال يسرقن وال يزنين وال يقتلن أوالدهن( سورة الممتحنة:

ومن حق الولد على أبيه أن يحسن تسميته. فال ينبغي أن يسميه باسم يتأذى معه إذا كبر ويحرم عليه أن يسميه بعبد غير الله، كعبد النبي وعبد المسيح،

ونحوه.

وللولد حق الرعاية، والتربية والنفقة، فال يجوز إهماله أو إضاعته.

قال عليه السالم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى

يسأل الرجل عن أهل بيته".

بينهم في العطاءالتسوية

ويجب على األب أن يسوي بين أوالده في العطية حتى يكونوا له في البر سواء، ويحرم عليه أن يؤثر بعضهم بمنحة أو عطاء بغير مسوغ وال حاجة، فيوغر

Page 133: الحلال والحرام في الإسلام

صدور اآلخرين، ويوقد بينهم نار العداوة والبغضاء. واألم واألب في ذلك.

قال عليه السالم: "اعدلوا بين أبنائكم. اعدلوا بين أبنائكم. اعدلوا بين أبنائكم" وقصة هذا الحديث أن امرأة بشير بن سعد األنصاري طلبت إليه أن يخص ولدها

النعمان بن بشير بمنحة مالية -كحديقة أو عبد- وأرادت توثيق هذه الهبة فطلبت منه أن يشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه فقال: يا رسول الله، إن ابنة فالن -زوجته- سألتني أن أنحل ابنها غالمي -عبدي- فقال

صلى الله عليه وسلم: "أله إخوة؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: ال. قال: فليس يصلح هذا، وإنني ال أشهد إال على حق" "ال

تشهدني على جور. إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم كما لك عليهم منالحق أن يبروك" "اتقوا الله واعدلوا في أوالدكم".

وعن اإلمام أحمد أن التفاضل يجوز إن كان له سبب كأن يحتاج الولد لزمانة)عاهة به( أو نحو ذلك دون الباقين.

في الميراث عند حدود اللهالوقوف

ومثل ذلك الميراث، فال يحل لوالد أن يحرم بعض أوالده من الميراث: ال يحل لهأن يحرم اإلناث أو يحرم أوالد زوجة غير محظية عنده.

كما ال يحل لقريب أن يحرم قريبه المستحق من الميراث بحيلة يصطنعها، فإن الميراث نظام قرره الله بعلمه وعدله وحكمته، وأعطى به كل ذي حق حقه، وأمر الناس أن يقفوا فيه عند ما حدده وشرعه. فمن خالف هذا النظام في

تقسيمه وتحديده فقد اتهم ربه.

وقد ذكر الله شؤون الميراث في ثالث آيات من القرآن قال في ختام اآلية األولى: )آباؤكم وأبناؤكم، ال تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله، إن

.11الله كان عليما حكيما( سورة النساء:

وقال في ختام اآلية الثانية: )غير مضار، وصية من الله والله عليم حليم. تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها األنهار خالدين

فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا.12،13فيها وله عذاب مهين( سورة النساء:

وقال تعالى في ختام اآلية األخيرة من الميراث: )يبين الله لكم أن تضلوا واللهبكل شيء عليم( آخر سورة النساء.

فمن خالف عما شرع الله في الميراث فقد ضل عن الحق الذي بينه الله، وتعدى حدود الله عز وجل، فلينتظر وعيد الله )نارا خالدا فيها وله عذاب

مهين(.

الوالدين من الكبائرعقوق

Page 134: الحلال والحرام في الإسلام

وللوالدين على الولد حقوق تتمثل في البر والطاعة واإلكرام. وهو ما تنادي به الفطرة ويوجبه الوفاء والعرفان بالجميل. ويتأكد ذلك في حق األم، فإنها قاست من آالم الحمل والوضع واإلرضاع والتربية ما قاست. قال تعالى:

)ووصينا اإلنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها، وحمله وفصاله.16ثالثون شهرا( سورة األحقاف:

وجاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟

قال: أبوك".

وجعل النبي عليه السالم عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وجعل مرتبته بعد الشرك بالله تعالى -كما هو صنيع القرآن- ففي )الصحيحين(: "أال أنبئكم بأكبر الكبائر ثالثا. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: اإلشراك بالله، وعقوق الوالدين،

وكان متكئا فجلس فقال: أال وقول الزور وشهادة الزور".

وقال عليه السالم: "ثالثة ال يدخلون الجنة؛ العاق لوالديه، والديوث، والرجلة)المتشبهة بالرجال(".

وقال: "كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إال عقوق الوالدينفإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات".

وأكد الوصية بالوالدين حين يبلغان الكبر، فتهن قوتهما، وتشتد حاجتهما إلى مزيد من العناية بشؤونهما، والرعاية لمشاعرهما المرهفة. وفي ذلك يقول القرآن: ) وقضى ربك أال تعبدوا إال إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك

الكبر أحدهما أو كالهما فال تقل لهما أف وال تنهرهما وقل لهما قوال كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا(

.23،24سورة اإلسراء:

وقد ورد في اآلثار تعقيبا على هذه اآليات: لو علم الله في العقوق شيئا أدنىمن أف لحرمه.

في سب الوالدين من الكبائرالتسبب

وأكثر من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل تسبب الولد فيلعن أبويه من المحرمات، بل من كبائر الذنوب.

قال: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" فاستغرب القوم أن يلعن رجل عاقل مؤمن والديه وهما سبب حياته، فقالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟

فقال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".

فكيف بمن يسبهما في وجههما؟!.

Page 135: الحلال والحرام في الإسلام

للجهاد بغير إذن الوالدين ال يجوزالتطوع

ولحرص اإلسالم على رضا الوالدين حرم على الولد أن يتطوع للجهاد بغير إذن من أبويه، مع ما للجهاد في سبيل الله من منزلة في اإلسالم ال تعدلها منزلة

قائم الليل، وال صائم النهار.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما

فجاهد" أي اجعل ميدان جهادك برهما ورعايتهما. وفي رواية عنه قال: "أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد

أبتغي األجر من الله. قال له فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كالهما حي. قال: أفتبغي األجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" وعنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان. فقال: ارجع إليهما فأضحكهما

كما أبكيتهما".

وعن أبي سعيد أن رجال من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي. قال: أأذنا لك؟ قال: ال. قال:

فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإال فبرهما".

المشركانالوالدان

ومن أروع ما جاء به اإلسالم في معاملة الوالدين أنه حرم عقوقهما ولو كانا مشركين كافرين، بل ولو كانا مبالغين في شركهما، داعيين إليه بحيث يحاوالن

ويجاهدان أن يفتنا ابنهما المسلم عن دينه. وفي ذلك يقول تعالى: )أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم

فال تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي.14،15مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون( سورة لقمان:

فقد أمر المسلم في هاتين اآليتين أال يطيعهما فيما يحاوالنه ويأمران به، إذ ال طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأي معصية أكبر من الشرك بالله؟ ولكنه أمر

أن يصاحبهما في الدنيا معروفا، غير متأثر بموقفهما من إيمانه، بل متبعا سبيل من أناب إلى الله من المؤمنين األبرار، تاركا الحكم بينه وبينهما إلى

أحكم الحاكمين يوم ال يجزي والد عن ولده، وال مولود هو جاز عن والده شيئا،وهذه قمة من التسامح لم يبلغها دين من األديان.

Page 136: الحلال والحرام في الإسلام

الباب الرابع :الحالل والحرام فيالحياة العامة للمسلم

في المعتقدات والتقاليدالتطير )التشاؤم( احترام سنن الله في الكون

حرب على تقاليد الجاهلية حرب على األوهام والخرافات ال عصبية في اإلسالم تصديق الكهان كفر ال اعتداد باألنساب واأللوان االستقسام باألزالم

النياحة على الموتى السحر تعليق التمائم )الحجب(

العقيدة السليمة هي أساس المجتمع اإلسالمي، والتوحيد هو جوهر هذه العقيدة، وروح اإلسالم كله. وحماية هذه العقيدة وهذا التوحيد الخالص، هو أول ما يسعى إليه اإلسالم في تشريعه وفي إرشاده. ومحاربة المعتقدات الجاهلية التي أشاعتها الوثنية الضالة أمر ال بد منه لتطهير المجتمع المسلم من شوائب

الشرك وبقايا الضالل؟؟.

 

سنن الله في الكون احترام

وكان من أول العقائد التي غرسها اإلسالم في نفوس أبنائه أن هذا الكون الكبير الذي يعيش اإلنسان فوق أرضه وتحت سمائه، ال يسير جزافا أو يمشي على غير هدى، كما أنه ال يسير وفق هوى أحد من الخلق، فإن أهواءهم -مع

عماها وضاللها- متضاربة متنافرة )ولو ابتع الحق أهواءهم لفسدت السموات.71واألرض ومن فيهن( سورة المؤمنون:

ولكن هذا الكون مربوط بقوانين مطردة، وسنن ثابتة، ال تتبدل وال تتحول كما أعلن القرآن ذلك في غير آية )فلن تجد لسنة الله تبديال ولن تجد لسنة الله

.43تحويال( سورة فاطر:

وقد تعلم المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيهم، أن يحترموا هذه السنن الكونية، ويطلبوا المسببات من أسبابها التي ربطها الله بها، ويعرضوا عما

يقال عن األسباب الخفية المزعومة التي يلجأ إليها ويروجها عادة سدنةالمعابد، ومحترفوا الدجل، والمتاجرون باألديان.

على األوهام والخرافات حرب

وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد في المجتمع طائفة من الدجالين تعرف باسم )الكهان( أو )العرافين( الذين يدعون معرفة الغيوب الماضية أو

المستقبلية، عن طريق اتصالهم بالجن أو غير ذلك، فأعلن الرسول صلى الله

Page 137: الحلال والحرام في الإسلام

عليه وسلم الحرب على هذا الدجال الذي ال يقوم على علم وال هدى وال كتابمنير.

وتال عليهم ما أوحى الله به: )قل ال يعلم من في السموات واألرض الغيب إال. فال المالئكة وال الجن، وال البشر يعلمون الغيب.65الله( النمل:

وأعلن عليه السالم بأمر ربه: )ولو كنت أعلم الغيب الستكثرت من الخير وما.188مسني السوء، إن أنا إال نذير وبشير لقوم يؤمنون( سورة األعراف:

وأخبر تعالى عن جن سليمان: )أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب.14المهين( سورة سبأ:

فمن ادعى معرفة الغيب الحقيقي، فهو كاذب على الله وعلى الحقيقة وعلى الناس. وقد جاء بعض الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فظنوا أنه ممن يزعمون االطالع على الغيب، فخبؤوا له شيئا في أيديهم، وقالوا له: أخبرنا ما هو؟ فقال لهم في صراحة: "إني لست بكاهن، وإن الكاهن والكهانة والكهان

في النار".

الكهان كفر تصديق

ولم تقتصر حملة اإلسالم على الكهان والدجالين وحدهم، بل أشرك معهم في اإلثم من يجيئونهم ويسألونهم ويصدقونهم في أوهامهم وتضليلهم. قال عليه

الصالة والسالم: "من أتى عرافا فسأله عن شيء، فصدقه بما قال، لم تقبل لهصالة أربعين يوما".

وقال: "من أتى كاهنا فصدقه بما قال، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". ذلك أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أن الغيب لله

وحده، وأن محمدا ال يعلم الغيب، وال غيره من باب أولى: )قل ال أقول لكم عندي خزائن الله وال أعلم الغيب، وال أقول لكم إني ملك، إن اتبع إال ما يوحى

.50إلي( سورة األنعام:

فإذا عرف المسلم هذا من قرآنه صريحا واضحا، ثم صدق أن بعض الخلق يكشفون أستار القدر، ويعلمون ما يكنه صدر الغيب من أسرار، فقد كفر بما

أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

باألزالم االستقسام

وللحكمة التي ذكرناها حرم اإلسالم االستقسام باألزالم.

واألزالم -وتسمى القداح- هي سهام كانت لدى العرب في الجاهلية مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي. والثالث غفل من الكتابة؛

فإذا أرادوا سفرا أو زواجا أو نحو ذلك، أتوا إلى بيت األصنام -وفيه األزالم- فاستقسموها أي طلبوا علم ما قسم لهم من السفر والغزو ونحوه، فإن خرج

Page 138: الحلال والحرام في الإسلام

السهم اآلمر أقدموا على األمر، وإن خرج السهم الناهي أحجموا وأمسكوا عنه،وإن خرج الغفل أجالوها مرة أو مرات أخرى، حتى يخرج اآلمر أو الناهي.

ويشبه هذا في مجتمعنا ضرب الرمل والودع، وفتح الكتاب والكوتشينة وقراءةالفنجان، وكل ما كان من هذا القبيل، حرام منكر في اإلسالم.

قال تعالى بعد أن ذكر ما حرم على عباده من األطعمة: )وأن تستقسموا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ال3باألزالم ذلكم فسق( سورة المائدة:

ينال الدرجات العلى من تكهن أو استقسم )أي باألزالم( أو رجع من سفرتطيرا".

السحر

ومن ذلك أن اإلسالم قاوم السحر والسحرة، وقال القرآن فيمن يتعلمون.102السحر: )ويتعلمون ما يضرهم وال ينفعهم( سورة البقرة:

وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم السحر من كبائر الذنوب الموبقات، التي تهلك األمم قبل األفراد، وتردي أصحابها في الدنيا قبل اآلخرة. قال: "اجتنبوا

السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إال بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي

يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافالت المؤمنات".

وقد اعتبر بعض فقهاء اإلسالم السحر كفرا، أو مؤديا إلى الكفر، وذهب بعضهمإلى وجوب قتل الساحر تطهيرا للمجتمع من شره.

وعلمنا القرآن االستعاذة من شر أرباب السحر: )ومن شر النفاثات في العقد( . والنفث في العقد من طرائق السحرة وخواصهم، وفي4سورة الفلق:

الحديث: "من نفث في عقدة فقد سحر ومن سحر فقد أشرك".

وكما حرم اإلسالم على المسلم الذهاب إلى العرافين لسؤالهم عن الغيوب واألسرار حرم عليه أن يلجأ إلى السحر أو السحرة لعالج مرض ابتلي به، أو حل

مشكلة استعصت عليه، فهذا ما برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، قال: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر

له".

ويقول ابن مسعود "من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فسأله فصدقه بما يقول،فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم".

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ال يدخل الجنة مدمن خمر، وال مؤمنبسحر، وال قاطع رحم".

فالحرمة هنا ليست على الساحر وحده وإنما هي تشمل كل مؤمن بسحرهمشجع له، مصدق لما يقول.

وتشتد الحرمة وتفحش إذا كان السحر يستعمل في أغراض هي نفسها محرمة، كالتفريق بين المرء وزوجه، واإلضرار البدني، وغير ذلك مما يعرف في بيئة

Page 139: الحلال والحرام في الإسلام

السحارين.

التمائم )الحجب( تعليق

ومن هذا الباب تعليق التمائم والودع ونحوها، على اعتقاد أنها تشفي من المرض أو تقي منه، وال زال في القرن العشرين من يعلق على بابه حذاء

فرس، وال زال بعض المضللين إلى اليوم في كثير من بالد الدنيا يستغلون جهل الدهماء، ويكتبون لهم حجبا وتمائم، يخطون فيها خطوطا وطالسم، ويتلون

عليها أقساما وعزائم، ويزعمون أنها تحرس حاملها من اعتداء الجن، أو مسالعفاريت، أو شر العين والحسد، إلى آخر ما يزعمون.

وللوقاية والعالج طرق معروفة شرعها اإلسالم، وأنكر على من تركها واتجهإلى طرق الدجاجلة المضلين.

قال عليه السالم: "تداووا فإن الذي خلق الداء خلق الدواء".

وقال: "إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي هذه الثالثة: شربة عسل، أوشرط محجم، أو كية بنار".

وهذه األنواع الثالثة تشمل بروحها وبالقياس عليها في عصرنا، ما يتناول من الدواء بطريق الفم، والتداوي بطريق العملية الجراحية، والتداوي بطريق الكي،

ومنه العالج بالكهرباء.

أما تعليق خرزة أو ودعة حجاب، أو قراءة بعض الرقى المطلسمة، للعالج أوالوقاية، فهو جهل وضالل يصادم سنن الله، وينافي توحيده.

عن عقبة بن عامر أنه جاء في ركب عشرة إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم، فبايع تسعة، وأمسك عن رجل منهم، فقالوا: ما شأنه؟

فقال: إن في عضده تميمة! فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من

علق فقد أشرك".

وفي حديث آخر قال: "من علق تميمة فال أتم الله له، ومن علق ودعة فال أودعالله له".

وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة أراه قال -من صفر-، فقال: ويحك ما هذه؟ فقال: من الواهنة؟

قال: أما إنها ال تزيدك إال وهنا، انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحتأبدا".

وقد أثرت هذه التعاليم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعوابأنفسهم عن قبول هذه األضاليل، وتصديق تلك األباطيل.

عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن حكيم وبه حمرة، فقلت: أال تعلق تميمة؟ فقال: نعوذ بالله من ذلك. وفي رواية: الموت أقرب من ذلك. قال

Page 140: الحلال والحرام في الإسلام

رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من علق شيئا وكل إليه".

وعن ابن مسعود أنه دخل على امرأته وفي عنقها شيء معقود، فجذبه فقطعه، ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى

والتمائم والتولة شرك". قالوا: يا أبا عبد الرحمن؛ هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن. وهو لون

من ألوان السحر.

قال العلماء: المنهي عنه من الرقى ما كان بغير لسان العرب فال يدرى ما هو، ولعله قد يدخله سحر أو كفر، فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى، فإنه مستحب، والرقية حينئذ دعاء ورجاء إلى الله ال عالج ودواء. وقد

كانت رقى أهل الجاهلية ممزوجة بالسحر والشرك أو الطالسم، التي ليس لهامعنى مفهوم.

وقد روي أن ابن مسعود رضي الله عنه نهى امرأته عن مثل هذه الرقى الجاهلية فقالت له: فإني خرجت يوما فأبصرني فالن فدمعت عيني التي تليه

)أي أنه أصابها بعين حاسدة شريرة( فإذا رقيتها سكنت دمعتها، وإذا تركتها دمعت، فقال ابن مسعود لها: ذلك الشيطان إذا أطعتيه تركك، وإذا عصيته طعن

بإصبعه في عينك، ولكن لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيرا لك، وأجدر أن تشفي: تنضحين في عينك الماء، وتقولين: "أذهب الباس رب الناس، إشف أنت الشافي، ال شفاء إال شفاؤك، شفاء ال يغادر

سقما".

)التشاؤم( التطير

والتطير أو التشاؤم ببعض األشياء، من أمكنة وأزمنة وأشخاص وغير ذلك من األوهام التي راجت سوقها -وال تزال رائجة- عند كثير من الجماعات واألفراد،

.47وقديما قال قوم صالح له: )اطيرنا بك وبمن معك( سورة النمل:

وكان فرعون وقومه إذا أصابتهم سيئة: )يطيروا بموسى ومن معه( سورة . وكثيرا ما قال الكفار الضالون، حينما ينزل بهم بالء الله131األعراف:

.18لدعاتهم ورسل الله إليهم: )إنا تطيرنا بهم( سورة يس:

. أي سبب شؤمكم19وكان جواب هؤالء المرسلين: )طائركم معكم( سورة يس:مصاحب لكم، وهو كفركم وعنادكم، وعتوكم على الله ورسله.

وكان لعرب الجاهلية في هذا الجانب سبح طويل، واعتقادات شتى، حتى جاءاإلسالم فأبطلها، وردهم إلى النهج العقلي القويم.

ونظم النبي صلى الله عليه وسلم التطير مع الكهانة والسحر في سلك واحد وقال: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر

له".

وقال صلى الله عليه وسلم: "العيافة والطيرة والطرق من الجبت".

Page 141: الحلال والحرام في الإسلام

العيافة: الخط في الرمل، وهو ضرب من التكهن ال زال حتى اليوم.

الطرق: الضرب بالحصى، وهو نوع من التكهن أيضا.

الجبت: ما عبد دون الله تعالى.

إن هذا التطير أمر قائم على غير أساس من العلم أو الواقع الصحيح، إنما هو انسياق وراء الضعف، وتصديق للوهم، وإال فما معنى أن يصدق إنسان عاقل،

أن النحس في شخص معين، أو مكان معين، أو ينزعج من صوت طائر أو حركةعين، أو سماع كلمة؟!

وإذا كان في الطبع اإلنساني شيء من الضعف يسول لإلنسان أن يتشاءم من بعض األشياء ألسباب خاصة، فإن عليه أال يستسلم لهذا الضعف ويتمادى فيه،

وخاصة إذا وصل إلى مرحلة العمل والتنفيذ.

وقد روي في ذلك حديث مرفوع: "ثالثة ال يسلم منهن أحد: الظن، والطيرة، والحسد، فإذا ظننت فال تحقق، وإذا تطيرت فال ترجع، وإذا حسدت فال تبغ".

وبذلك تكون هذه األمور الثالثة مجرد خواطر وأحاديث نفس ال أثر لها في السلوك العملي وقد عفا الله عنها. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك".

قال ابن مسعود: "وما منا إال.. ولكن يذهبه الله بالتوكل" يعني ابن مسعود: ما منا أحد إال وقد وقع في قلبه شيء من ذلك، ولكن الله يذهب ذلك عن قلب من

يتوكل عليه وال يثبت على ذلك الخاطر.

الجاهلية حرب على تقاليد

وكما شن اإلسالم حمالته على معتقدات الجاهلية وأوهامها، لما لها من خطر على العقل والخلق والسلوك، شن غارات مثلها على تقاليد الجاهلية التي

كانت تقوم على العصبية والكبرياء والفخر وتمجيد القبيلة.

في اإلسالم عصبية ال

وكان أول ما صنعه اإلسالم في ذلك أن أهال التراب على العصبية بكل صورها، وحرم على المسلمين أن يحيوا أي نزعة من نزعاتها أو يدعوا إليها، وأعلن

النبي صلى الله عليه وسلم براءته ممن يفعل ذلك قال:

"ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا منمات على عصبية".

فال امتياز للون معين من البشرة، وال لجنس خاص من الناس، وال لرقعة من األرض، وال يحل لمسلم أن يتعصب للون على لون، وال لقوم على قوم، وال

Page 142: الحلال والحرام في الإسلام

إلقليم على إقليم.

وال يحل لمن يؤمن بالله واليوم اآلخر أن ينتصر لقومه في الحق والباطلوالعدل والجور.

عن واثلة بن األسقع قال: "قلت: يا رسول؛ ما العصبية؟ قال: أن تعين قومكعلى الظلم".

وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على . )وال يجرمنكم شنآن قوم135أنفسكم أو الوالدين واألقربين( سورة النساء:

.8على أال تعدلوا( سورة المائدة:

وعدل النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم هذه الكلمة التي كانت شائعة في الجاهلية، ومأخوذة على ظاهرها "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". ولما قالها

صلى الله عليه وسلم ألصحابه بعد أن رسخ في قلوبهم اإليمان -مريدا بها معنى آخر- عجبوا ودهشوا، وقالوا: يا رسول الله: هذا ننصره مظلوما فكيف

ننصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم فذلك نصر له".

ومن هنا نعلم أن كل دعوة بين المسلمين إلى عصبية إقليمية كدعوة )الوطنية( أو إلى عصبية عنصرية، كدعوة )القومية( إنما هي دعوة جاهلية يبرأ منها

اإلسالم ورسوله وكتابه.

فاإلسالم ال يعترف بأي والء لغير عقيدته، وال بأي رابطة غير أخوته وال بأي فواصل تميز بين الناس غير اإليمان والكفر. فالكافر المعادي لإلسالم عدو للمسلم ولو كان جاره في وطنه، أو أحد بني قومه، بل ولو كان أخاه ألبيه

وأمه. قال تعالى: )ال تجد قوما يؤمنون بالله واليوم اآلخر يوادون من حاد الله .21ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم( المجادلة:

وقال: )يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر.23على اإليمان( سورة التوبة:

باألنساب واأللوان اعتداد ال

روى البخاري أن أبا ذر وبالال الحبشي رضي الله عنهما -وكالهما من السابقين األولين- تغاضبا تسابا، وفي ثورة الغضب قال أبو ذر لبالل: يا ابن السوداء! فشكاه بالل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي إلبي ذر: أعيرته

بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!

وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "انظر فإنك لست بخير منأحمر وال أسود؛ إال أن تفضله بتقوى الله".

وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب".

وبهذا حرم اإلسالم على المسلم أن يسير مع هوى الجاهلية في التفاخر باألنساب واألحساب، والتعاظم باآلباء واألجداد، وقول بعضهم لبعض: أنا ابن

فالن، وأنا من نسل كذا، وأنت من ساللة كذا، أنا من البيض وأنت من السود، أنا

Page 143: الحلال والحرام في الإسلام

عربي وأنت أعجمي.

وما قيمة األنساب والسالالت إذا كان الناس جميعا ينتمون إلى أصل واحد ولوفرض أن لألنساب قيمة فما فضل اإلنسان أو ذنبه إن ولد من هذا األب أو ذاك؟

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد،كلكم بنو آدم .. ليس ألحد على أحد فضل إال بدين أو تقوى.. ".

"الناس آلدم وحواء… إن الله ال يسألكم عن أحسابكم وال أنسابكم يوم القيامة،إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

وصب النبي صلى الله عليه وسلم جام غضبه على المتفاخرين باآلباء واألجداد في عبارات صارمة قارعة، فقال: "لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا

إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه. إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها باآلباء، إنما هو مؤمن تقي،

وفاجر شقي. الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب".

وفي هذا الحديث ذكرى للذين يعتزون بأجدادهم القدماء من الفراعنة واألكاسرة وغيرهم من عرب الجاهلية وعجمها الذين ليسوا إال فحم جهنم كما

قال رسول الله.

وفي حجة الوداع حيث اآلالف يستمعون إلى رسول اإلسالم في أوسط أيام التشريق في الشهر الحرام والبلد الحرام ألقى النبي صلى الله عليه وسلم

خطبة الوداع، فكان من المبادئ التي أعلنها: "يا أيها الناس إن ربكم واحد، إال ال فضل لعربي على عجمي، وال لعجمي على عربي، وال ألحمر على أسود، وال

أسود على أحمر إال بالتقوى )إن أكرمكم عند الله أتقاكم(".

على الموتى النياحة

ومن التقاليد التي حاربها اإلسالم تقاليد الجاهلية في الموت وما يتصل به مننياحة وعويل، وغلو في إظهار الحزن والجزع.

وقد علم اإلسالم أتباعه أن الموت إنما هو رحلة من دار إلى دار، فليس فناء مطلقا. وال عدما صرفا، وأن الجزع ال يحيي ميتا، وال يرد قضاء قضى الله به.

فعلى المؤمن أن يتقبل الموت كما يتقبل كل مصيبة تصيبه صابرا محتسبا، آخذا العبرة آمال في لقاء أبدي في الدار اآلخرة، مرددا قول القرآن: )إنا لله

.156وإنا إليه راجعون( سورة البقرة:

أما صنيع أهل الجاهلية فهو منكر حرام برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى

الجاهلية".

وال يحل للمسلم أن يلبس من شارات الحداد أو يترك التزين أو يغير الزي والهيئة المعتادة، إظهارا للجزع والحزن؛ إال ما كان من زوجة على زوجها فإنها

يجب أن تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، وفاء لحق الزوجية، وللرباط المقدس الذي جمع بينهما، حتى ال تكون معرضا للزينة، ومتعلقا ألبصار الخطاب في مدة

Page 144: الحلال والحرام في الإسلام

العدة، التي اعتبرها اإلسالم امتدادا للزوجية السابقة في كثير من الحقوق،وسياجا لها.

أما إذا كان الميت غير الزوج -كاألب واإلبن واألخ- فال يحل للمرأة الحداد عليه أكثر من ثالث ليال. روى البخاري عن زينب بنت أبي سلمة أنها روت عن أم

حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب، وعن زينب بنت جحش حين توفي أخوها، وأن كال منهما دعت بطيب لمست منه ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله

عليه وسلم يقول: ال يحل المرأة تؤمن بالله واليوم اآلخر أن تحد على ميتفوق ثالث ليال، إال على زوج، أربعة أشهر وعشرا".

وهذا اإلحداد على الزوج واجب ال تساهل فيه ولقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ال، مرتين أو ثالثا، كل ذلك

يقول ال. وهو يدل على حرمة التزين والتجمل طوال المدة المفروضة.

وأما الحزن من غير جزع، والبكاء من غير عويل، فذلك من األمور الفطرية التي ال إثم فيها. وسمع عمر بعض النسوة يبكين على خالد بن الوليد، فأراد بعض الرجال منعهن، فقال له: دعهن يبكين على أبي سليمان، ما لم يكن نقع أو

لقلقة.

والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت.

في المعامالتبيع األشياء المحرمة حرام

خلق الله الناس على حالة يحتاج فيها بعضهم إلى بعض، فليس يملك كل فرد كل ما يهمه ويكفيه، بل يملك هذا بعض ما يستغني عنه، ويحتاج إلى بعض ما

يستغني عنه اآلخرون، فألهمهم الله أن يتبادلوا السلع والمنافع بالبيع والشراءوسائر هذه المعامالت حتى تستقيم الحياة، ويسير دوالبها بالخير واإلنتاج.

وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وللعرب أنواع من البيع والشراء والمبادالت، فأقرهم على بعضها، مما ال يتنافى ومبادئ الشريعة التي جاء بها.

ونهاهم عن البعض اآلخر مما ال يتفق وأهدافها وتوجيهاتها. وهذا النهي يدور على معان منها: اإلعانة على المعصية والغرر واالستغالل، والظلم ألحد

المتعاقدين، ونحو ذلك.

بيع األشياء المحرمة حرام

)أ( فما جرت العادة بأن يقتنى لمعصية حظرها اإلسالم، أو يكون االنتفاع المقصود به عند الناس نوعا من المعصية، فبيعه واالتجار به حرام، كالخنزير

والخمر واألطعمة واألشربة المحرمة بعامة، واألصنام والصلبان والتماثيل ونحوها، ذلك أن في إجازة بيعها واالتجار فيها تنويها بتلك المعاصي، وحمال

Page 145: الحلال والحرام في الإسلام

للناس عليها أو تسهيال لهم في اتخاذها، وتقريبا لهم منا. وفي تحريم بيعها واقتنائها إهمال لها وإخمال لذكرها، وإبعاد للناس عن مباشرتها. ولذا قال عليه السالم: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير واألصنام".

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه".

بيع الغرر محظور )ب( وكل عقد للبيع فيه ثغرة للتنازع، بسبب جهالة في المبيع أو غرر يؤدي إلى الخصومة بين الطرفين أو غبن أحدهما لآلخر، فقد نهى عنه النبي صلى

الله عليه وسلم سدا للذريعة.

وفي هذا جاء النهي عن بيع ما في صلب الفحل أو بطن الناقة أو الطير في الهواء أو السمك في الماء، وعن كل ما فيه غرر )أي جهالة وعدم تحديد

للمعقود عليه(.

ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد الناس في زمنه يبيعون الثمار في الحقول أو الحدائق قبل أن يبدو صالحها. وبعد تعاقدهم يحدث أن تصيبها آفة سماوية، فتهلك الثمار، ويختصم البائع والمشتري؛ يقول البائع: قد بعت وتم البيع، ويقول المشتري: إنما بعت لي ثمرا ولم أجده، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صالحها، إال أن يشترط القطع في

الحال، ونهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. وقال: أرأيت إذا منعالله الثمرة، ثم يستحل أحدكم مال أخيه؟!.

وليس كل غرر ممنوعا، فإن بعض ما يباع ال يخلو من غرر، كالذي يشتري دارا مثال ال يستطيع أن يطلع على أساسها وداخل حيطانها.. ولكن الممنوع هو الغرر الفاحش الذي يؤدي إلى الخصومة والنزاع أو إلى أكل أموال الناس

بالباطل.

فإذا كان الغرر يسيرا -ومرد ذلك إلى العرف- لم يحرم البيع، وذلك كبيع المغيبات في األرض كالجزر والفجل والبصل ونحوها، وكبيع المقاتي )مزارع

القثاء والبطيخ ونحوها( كما هو مذهب مالك الذي يجيز بيع كل ما تدعو إليهالحاجة ويقل غرره بحيث يحتمل في العقود.

التالعب باألسعار )ج( واإلسالم يحب أن يطلق الحرية للسوق، ويتركها للقوانين الطبيعية تؤدي فيها دورها، وفقا للعرض والطلب. ومن أجل ذلك نرى أن الرسول صلى الله

عليه وسلم حين غال السعر في عهده، فقالوا: يا رسول الله سعر لنا. قال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني ألرجو أن ألقى الله وليس أحد

منكم يطالبني بمظلمة في دم وال مال".

ونبي اإلسالم يعلن بهذا الحديث أن التدخل في حرية األفراد بدون ضرورةمظلمة يجب أن يلقى الله بريئا من تبعتها.

ولكن إذا تدخلت في السوق عوامل غير طبيعية كاحتكار بعض التجار وتالعبهم باألسعار فمصلحة المجموع هنا مقدمة على حرية األفراد، فيباح التسعير

Page 146: الحلال والحرام في الإسلام

استجابة لضرورة المجتمع أو حاجته، ووقاية له من المستغلين الجشعين،معاملة لهم بنقيض مقصودهم كما تقرر القواعد واألصول.

فليس معنى الحديث السابق حظر كل تسعير، ولو كان من ورائه رفع ضرر أو منع ظلم فاحش، بل قرر المحققون من العلماء أن التسعير منه ما هو ظلم

محرم، ومنه ما هو عدل جائز.

فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن ال يرضونه، أومنعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام.

وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو

جائز، بل واجب.

وفي القسم األول جاء الحديث المذكور. فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء أو

لكثرة الخلق )إشارة إلى قانون العرض والطلب( فهذا إلى الله، فإلزام الناسأن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.

أما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها -مع ضرورة الناس إليها- إال بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، وال معنى

للتسعير إال إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير هنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم اللهبه.

المحتكر ملعون ورغم أن اإلسالم يكفل الحرية لألفراد في البيع والشراء والتنافس الفطري،

فإنه ينكر أشد اإلنكار أن تدفع بعض الناس أنانيتهم الفردية وطمعهم الشخصي إلى التضخم المالي على حساب غيرهم، واإلثراء ولو من أقوات الشعب

وضرورياته.

ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن االحتكار بعبارات شديدةزاجرة. فقال:"من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ الله منه".

وقال صلى الله عليه وسلم: "ال يحتكر إال خاطئ". وليست كلمة خاطئ هذه كلمة هينة. إنها الكلمة التي دمغ بها القرآن الجبابرة العتاة فرعون وهامان

وجنودهما فقال )إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين( سورة القصص:8.

وقد أبان النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسية المحتكر وأنانيته البشعةفقال: "بئس العبد المحتكر؛ إن سمع برخص ساءه، وإن سمع بغالء فرح".

وقال: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون".

وذلك ألن انتفاع التاجر يكون بأحد وجهين: أن يخزن السلعة ليبيعها بثمن غال، عندما يبحث الناس عنها فال يجدونها، فيأتي المحتاج الشديد الحاجة فيبذل فيها

Page 147: الحلال والحرام في الإسلام

ما يطلب منه وإن فحش وجاوز الحد.

والوجه اآلخر أن يجلب السلعة فيبيعها بربح يسير، ثم يأتي بتجارة أخرى عن قريب فيربح، ثم يجلب أخرى ويربح قليال وهكذا، وهذا االنتفاع أوفق بالمصلحة

المدنية، وأكثر بركة، وصاحبه مرزوق كما بشره رسول الله صلى الله عليهوسلم.

ومن األحاديث الهامة في شأن االحتكار والتالعب باألسعار ما رواه معقل بن يسار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أثقله المرض فأتاه عبيد

الله بن زياد )الوالي األموي( يعوده فقال له: هل تعلم يا معقل أني سفكت دما حراما؟ قال: ال أعلم. قال: هل علمت أني دخلت في شيء من أسعار

المسلمين؟ قال: ما علمت. ثم قال معقل: أجلسوني فأجلسوه ثم قال: إسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم

مرة وال مرتين؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن

يقعده بعظم من النار يوم القيامة" قال: أنت سمعت من رسول الله صلى اللهعليه وسلم؟ قال: غير مرة وال مرتين.

ومن نصوص هذه األحاديث وفحواها استنبط العلماء أن تحريم االحتكار مشروطبأمرين: أولهما: أن يكون ذلك في بلد يضر االحتكار بأهله في ذلك الوقت.

وثانيهما: أن يكون قصده بذلك إغالء األسعار على الناس، ليضاعف ربحه هو.

التدخل المفتعل في حرية السوق ومما يلحق باالحتكار ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الحاضر

للبادي )الحاضر هو ساكن المدينة، والبادي هو ساكن البادية( وصورة هذا -كما قال العلماء- أن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة أليه، ليبيعه بسعر يومه، فيأتيه

ابن المدينة، فيقول له: خل متاعك عندي حتى أبيعه لك على المهلة بثمن غال،ولو باع البادي بنفسه ألرخص ونفع البلدين، وانتفع هو أيضا.

وكانت هذه صورة كثيرة الشيوع في مجتمعهم إذ ذاك، قال أنس: "نهينا أن يبيع حاضر لباد، ولو كان أخاه ألبيه وأمه" وبذلك تعلموا أن المصلحة العامة فوق

الروابط الخاصة.

وقال صلى الله عليه وسلم: "ال يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهممن بعض".

وهذه الكلمة النبوية الموجزة: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" تضع مبدأ هاما في الميدان التجاري؛ أن تترك السوق وأسعارها ومبادالتها للتنافس

الفطري، والعوامل الطبيعية دون تدخل مفتعل من بعض األفراد.

وقد سئل ابن عباس عن معنى "ال بيع حاضر لباد" فقال: ال يكون له سمسارا". ومعنى هذا أنه إذا دله على السعر ونصح له وعرفه بأحوال السوق من غير أن يأخذ أجرا كشأن السماسرة فهذا ال بأس به، ألنه ينصحه لله والنصيحة جزء من

الدين بل هي الدين كله كما في الحديث الصحيح: "الدين النصيحة" وفي

Page 148: الحلال والحرام في الإسلام

الحديث اآلخر: "إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له".

أما السمسار، فالغالب أن حرصه على أجره قد ينسيه رعاية المصلحة العامةفي مثل هذه المعاملة.

السمسرة حالل وأما السمسرة في غير هذا الموطن فال حرج فيها، ألنها نوع من الداللة

والتوسط بين البائع والمشتري، وكثيرا ما تسهل لهما أو ألحدهما كثيرا منالسلع والمنافع.

وقد أصبحت )الوساطة( التجارية في عصرنا ألزم من أي وقت مضى، لتعقد المعامالت التجارية، ما بين استيراد وتصدير، وتجار جملة، وتجار تجزئة، وأصبح

السماسرة يؤدون دورا مهما.

وال بأس أن يأخذ السمسار أجره نقودا معينة أو عمولة بنسبة معينة من الربحأو ما يتفقون عليه.

قال البخاري في صحيحه: لم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسا. وقال ابن عباس: ال بأس بأن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك. وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فال بأس به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند

شروطهم".االستغالل والخداع التجاري حرام

ولمنع التدخل المفتعل أيضا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش.

والنجش -كما فسره ابن عمر- أن تعطي في السلعة أكثر من ثمنها، وليس فينفسك اشتراء، ليقتدي بك غيرك. وكثيرا ما يكون عن اتفاق لخداع اآلخرين.

ولكي تكون المعاملة بعيدة عن كل صورة لالستغالل التجاري، وتلبيس األسعار، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنتلقي السلع قبل الوصول إلى السوق؛

ففي ذلك وقف للسلعة عن مجالها الحيوي الذي يتمثل فيه السعر المناسب لها، حسب العرض والطلب الحقيقيين، وقد يغبن صاحب السلعة إذا لم يكن

لديه علم بالسعر في السوق، ولذلك جعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيارإذا ورد السوق.

من غشنا فليس منا واإلسالم يحرم الغش والخداع بكل صورة من الصور، في كل بيع وشراء وفي

سائر أنواع المعامالت اإلنسانية. والمسلم مطالب بالتزام الصدق في كلشؤونه، والنصيحة في الدين أغلى من كل كسب دنيوي.

قال عليه الصالة والسالم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بوركلهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما".

Page 149: الحلال والحرام في الإسلام

وقال: "ال يحل ألحد يبيع إال بين ما فيه، وال يحل لمن يعلم ذلك إال بينه".

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاما )حبوبا( فأعجبه، فأدخل يده فيه، فرأى بلال، فقال: ما هذا يا صاحب المطعم؟ فقال: أصابته

السماء )أي المطر(، فقال صلى الله عليه وسلم: فهال جعلته فوق الطعام حتىيراه الناس؟! من غشنا فليس منا".

وفي رواية: أنه مر بطعام وقد حسنه صاحبه، فوضع يده فيه، فإذا طعام رديء،فقال: "بع هذا على حدة، وهذا على حدة، من غشنا فليس منها".

وكذلك كان سلف المسلمين يفعلون؛ يبينون ما في المبيع من عيب واليكتمون، ويصدقون وال يكذبون، وينصحون وال يغشون.

باع ابن سيرين شاة فقال للمشتري: أبرأ لك من عيب فيها؛ إنها تقلب العلفبرجلها.

وباع الحسن بن صالح جارية، فقال للمشتري: إنها تنخمت مرة عندنا دما. مرةواحدة، ومع هذا يأبى ضميره المؤمن إال أن يذكرها له، وإن نقص الثمن.

كثرة الحلف وتشتد الحرمة إذا أيد غشه بيمين كاذبة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم

التجار عن كثرة الحلف بعامة وعن الحلف الكاذب بخاصة. وقال: "الحلف منفقةللسلعة ممحقة للبركة".

وإنما كره إكثار الحلف في البيع؛ ألنه مظنة لتغرير المتعاملين أوال، وسببلزوال تعظيم اسم الله من القلب ثانيا.

تطفيف الكيل والميزانومن ألوان الغش تطفيف المكيال والميزان.

وقد اهتم القرآن بهذا الجانب من المعاملة، وجعله من وصاياه العشر في آخر سورة األنعام: )وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، ال نكلف نفسا إال وسعها(

. وقال تعالى: )وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم152األنعام: . وقال تعالى: )ويل للمطففين الذين إذا35ذلك خير وأحسن تأويال( اإلسراء:

اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أال يظن أولئكأنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين( سورة المطففين:

1-6.

وعلى المسلم أن يتحرى العدل في ذلك ما استطاع، فإن العدل الحقيقي قلمايتصور، ومن هنا قال القرآن عقب األمر باإليفاء: )ال نكلف نفسا إال وسعها(.

وقد قص القرآن علينا نبأ قوم جاروا في معامالتهم، وانحرفوا عن القسط في الكيل والوزن، وبخسوا الناس أشياءهم، فأرسل الله إليهم رسوال يردهم إلى

Page 150: الحلال والحرام في الإسلام

صراط العدل واإلصالح كما يردهم إلى التوحيد.

أولئك هم قوم شعيب الذين صاح فيهم داعيا ومنذرا: )أوفوا الكيل وال تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، وال تبخسوا الناس أشياءهم وال

.183-181تعثوا في األرض مفسدين( الشعراء:

وهذه المعاملة مثال لما يجب أن يكون عليه المسلم في حياته وعالقاته ومعامالته كلها؛ فال يجوز له أن يكيل بكيلين أو يزن بميزانين؛ ميزان شخصي، وميزان عام، ميزان له ولمن يحب، وميزان للناس عامة؛ ففي حق نفسه ومن

يتبعه يستوفي ويتزيد، وفي اآلخرين يخسر وينتقص.شراء المنهوب والمسروق مشاركة للناهب والسارق

ومن الصور التي حرمها اإلسالم ليحارب بها الجريمة، ويحاصر المجرم في أضيق دائرة أنه لم يحل للمسلم أن يشتري شيئا يعلم أنه مغصوب أو مسروق

أو مأخوذ من صاحبه بغير حق؛ ألنه إذا فعل يعين الغاصب أو السارق أو المعتدي، على غصبه وسرقته وعدوانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى سرقة )أي مسروقا( وهو يعلم أنها سرقة، فقد اشترك في إثمها

وعارها".

وال يدفع اإلثم عنه طول أمد المسروق والناهب، فإن طول الزمن في شريعة اإلسالم ال يجعل الحرام حالال، وال يسقط حق المالك األصلي بالتقادم، كما

تقرر ذلك بعض القوانين الوضعية.

تحريم الربا أباح اإلسالم استثمار المال عن طريق التجارة. قال الله تعالى: )يا أيها الذين

آمنوا ال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إال أن تكون تجارة عن تراض منكم( سورة.29النساء:

وأثنى على الضاربين في األرض للتجارة فقال: )وآخرون يضربون في األرض.20يبتغون من فضل الله( سورة المزمل:

ولكن اإلسالم سد الطريق على كل من يحاول استثمار ماله عن طريق الربا، فحرم قليله وكثيره، وشنع على اليهود إذ أخذوا الربا وقد نهوا عنه. وكان من

أواخر ما نزل من القرآن قوله تعالى في سورة البقرة: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ال تظلمون وال تظلمون( سورة

.278،279البقرة:

وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم حربه على الربا والمرابين، وبين خطره على المجتمع فقال: "إذا ظهر الربا والزنى في قرية فقد أحلوا بأنفسهم

عذاب الله".

ولم يكن اإلسالم في ذلك بدعا في األديان السماوية؛ ففي الديانة اليهودية جاء في العهد القديم: "إذا افتقر أخوك فاحمله، ال تطلب منه ربحا وال منفعة.." آية

سفر الخروج.22 فصل 24

وفي النصرانية جاء في إنجيل لوقا: "افعلوا الخيرات، وأقرضوا غير منتظرين

Page 151: الحلال والحرام في الإسلام

.6 فصل 25-24عائدتها وإذا كان ثوابكم جزيال"

وإن كان الذي يؤسف له أن يد التحريف قد وصلت إلى العهد القديم فجعلت مفهوم كلمة )أخوك( السالفة، خاصا باليهودي وجاء في سفر تثنية االشتراع:

.19-23"لألجنبي تقرض بربا، ولكن ألخيك ال تقرض بربا"

حكمة تحريم الربا واإلسالم حين شدد في أمر الربا وأكد حرمته، إنما راعى مصلحة البشرية في

أخالقها واجتماعها واقتصادها.

وقد ذكر علماء اإلسالم في حكمة تحريم الربا وجوها معقولة، كشفتالدراسات الحديثة وجاهتها وأكدتها وزادت عليها.

ونكتفي بما ذكره اإلمام الرازي في تفسيره:

أوال: أن الربا يقتضي أخذ مال اإلنسان من غير عوض. ألن من يبيع الدرهم بدرهمين يحصل له زيادة درهم من غير عوض وما اإلنسان متعلق حاجته، وله

حرمة عظيمة، كما في الحديث: "حرمة ما اإلنسان كحرمة دمه" فوجب أن يكونأخذ ماله من غير عوض محرما.

ثانيا: أن االعتماد على الربا يمنع الناس عن االشتغال بالمكاسب وذلك ألن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد، نقدا كان

أو نسيئة، خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فال يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق. ومن

المعلوم أن مصالح العالم ال تنتظم إال بالتجارات والحرف والصناعاتوالعمارات.

)وال شك أن هذه الحكمة مقبولة من الوجهة االقتصادية(

ثالثا: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ ألن الربا إذا حرم طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين، فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة

والمعروف واإلحسان.

)وهذا تعليل مسلم من الجانب األخالقي(.

رابعا: أن الغالب أن المقرض يكون غنيا، والمستقرض يكون فقيرا فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغني من أن يأخذ من الفقير الضعيف ماال زائدا وذلك

غير جائز برحمة الرحيم.

)وهذه نظرة إلى الجانب اال جتماعي(.

ومعنى هذا أن الربا فيه اعتصار الضعيف لمصلحة القوي، ونتيجته أن يزداد الغني غنى والفقير فقرا. مما يفضي إلى تضخم طبقة من المجتمع على

حساب طبقة أو طبقات أخرى مما يخلق األحقاد والضغائن، ويؤرث نار الصراع بين المجتمع بعضه مع بعض، ويؤدي إلى الثورات المتطرفة والمبادئ الهدامة.

Page 152: الحلال والحرام في الإسلام

كما أثبت التاريخ القريب خطر الربا والمرابين على السياسة والحكم واألمنالمحلي والدولي جميعا.

مؤكل الربا وكاتبه آكل الربا هو الدائن صاحب المال الذي يعطيه للمستدين فيسترده بفائدة تزيد

على أصله. وهذا ملعون عند الله والناس بال ريب ولكن اإلسالم -على سنته في التحريم- لم يقصر الجريمة على آكل الربا وحده بل أشرك معه في اإلثم مؤكل

الربا -أي المستدين الذي يعطي الفائدة- وكاتب عقد الربا، وشاهديه.

وفي الحديث: "لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه".

وإذا كانت هناك ضرورة ملحة اقتضت معطي الفائدة أن يلجأ إلى هذا األمر فإناإلثم في هذه الحال يكون على آخذ الربا )الفائدة( وحده.

وهذا بشرط أن تكون هناك ضرورة حقيقية، ال مجرد توسع في الحاجيات.1 أو الكماليات. فالضرورة ما اليمكنه االستغناء عنه إال إذا تعرض للهالك

كالقوت والملبس الواقي والعالج الذي ال بد منه. ثم أن يكون هذا الترخيص بقدر ما يفي بالحاجة دون أن تزيد، فمتى كان.2

يكفيه تسعة جنيهات مثال، فال يحل له أن يستقرض عشرة. ومن ناحية أخرى، عليه أن يستنفد كل طريقة للخروج من مأزقه المادي،.3

وعلى إخوانه المسلمين أن يعينوه على ذلك، فإن لم يجد وسيلة إال هذا،فأقدم عليه غير باغ وال عاد فإن الله غفور رحيم.

وأن يفعل ذلك إن فعله وهو له كاره، وعليه ساخط، حتى يجعل الله له.4مخرجا.

الرسول يستعيذ بالله من الدين ومما ينبغي للمسلم أن يعرفه من أحكام دينه أنه يأمره باالعتدال في حياتهواالقتصاد في معيشته: )وال تسرفوا إنه ال يحب المسرفين( سورة األنعام:

، )وال تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين(31، واألعراف:141.27-26سورة اإلسراء:

وحين طلب القرآن من المؤمنين أن ينفقوا، لم يطلب إليهم إال إنفاق بعض ما رزقوا ال كله، ومن أنفق بعض ما يكتسب فقلما يفتقر، ومن شأن هذا التوسط

واالعتدال أال يحوج المسلم إلى االستدانة وخصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم كرهها للمسلم، فإن الدين في نظر الرجل الحر هم بالليل ومذلة

بالنهار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منه ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". وقال: "أعوذ بالله من الكفر والدين.

فقال رجل: أتعدل الكفر بالدين يا رسول الله؟ قال: نعم".

وكان يقول في صالته كثيرا: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم )الدين( فقيل له: إنك تستعيذ من المغرم كثيرا يا رسول الله. فقال: إن الرجل إذا غرم

)استدان( حدث فكذب ووعد فأخلف".

Page 153: الحلال والحرام في الإسلام

فبين ما في االستدانة من خطر على األخالق نفسها.

وكان ال يصلي على الميت إذا عرف أنه مات وعليه ديون لم يترك وفاءها، تخويفا للناس من هذه العاقبة، حتى أفاء الله عليه من الغنائم واألنفال، فكان

يقوم هو بسدادها.

وقال: "يغفر للشهيد كل شيء إال الدين".

وفي ضوء هذه التوجيهات ال يلجأ المسلم إلى الدين إال للحاجة الشديدة، وهوحين يلجأ إليه ال تفارقه نية الوفاء أبدا.

وفي الحديث: "من أدان أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريدإتالفها أتلفه الله".

فإذا كان المسلم ال يلجأ إلى الدين المباح )أي بغير فائدة( إال نزوال على حكمالضرورة وضغط الحاجة فكيف إذا كان هذا الدين مشروطا بالفوائد الربوية؟!

البيع ألجل مع زيادة الثمن ومما يحسن ذكره هنا أنه يجوز للمسلم أن يشتري ويدفع ثمن الشراء نقدا، كما يجوز له أن يؤخره إلى أجل بالتراضي. وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم

طعاما من يهودي لنفقة أهله إلى أجل، ورهنه درعا من حديد.

فإذا زاد البائع في الثمن من أجل التأجيل، كما يفعله معظم التجار الذي يبيعون بالتقسيط -فمن الفقهاء من حرم هذا النوع من البيع مستندا إلى أنه

زيادة في المال في مقابل الزمن فأشبه الربا.

وأجازه جمهور العلماء ألن األصل اإلباحة، ولم يرد نص بتحريم، وليس مشابها للربا من جميع الوجوه، وللبائع أن يزيد في الثمن العتبارات يراها، ما لم تصل

إلى حد االستغالل الفاحش والظلم البين، وإال صارت حراما.

قال الشوكاني: "قالت الشافعية والحنفية، وزيد بن علي والمؤيد باللهوالجمهور: يجوز لعموم األدلة القاضية بجوازه. وهو الظاهر".

السلم وعلى عكس هذا يجوز للمسلم أن يدفع مقدارا معلوما من المال حاال ليتسلم

في مقابله صفقة بعد أجل معين. وهو المعروف في الفقه اإلسالمي بعقد)السلم(.

وهذا النوع من المعامالت كان سائدا في المدينة، ولكن النبي صلى الله عليهوسلم أدخل عليه تعديالت وشروطا، ليتفق وما تتطلبه الشريعة في المعامالت.

وقال ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين -أي يسلفون ماال في الحال ليحصلوا على الثمار بعد سنة أو سنتين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليسلف

في كيل معلوم إلى أجل معلوم".

وبهذا التحديد في الكيل أو الوزن واألجل يرتفع النزاع والغرر. ومن هذا القبيل

Page 154: الحلال والحرام في الإسلام

أنهم كانوا يسلفون في ثمار نخيل بأعيانها، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر؛إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة فال تثمر شيئا.

والصورة السليمة لهذه المعاملة أن ال يشترط ثمر نخلة بعينها وال قمح أرضبعينها وهكذا بل يشترط الكيل أو الوزن فقط.

فإذا كان هناك استغالل بين لصاحب النخل أو األرض بأن اضطرته الحاجة أنيقبل العقد، فحينئذ يتجه القول بالتحريم.

تعاون العمل ورأس المال ربما قال قائل: إن الله وزع المواهب والحظوظ على الناس بقدر وحكمة،

فكثيرا ما نجد عند إنسان الكفاية والخبرة، وال نجد عنده الكثير من المال، أو ال نجد عنده ماال أصال وبإزائه نجد آخر عنده المال الكثير، مع الخبرة القليلة، أو ال

خبرة له. فلماذا ال يعطي صاحب المال ماله لصاحب الكفاية والخبرة، يعمل فيه ويستثمره، على أن يجزى مقابل ماله بفائدة محددة، وبذلك ينتفع ذو الكفاية بالمال، وينتفع الغني بالكفاية. وبخاصة أن هناك مشروعات كبيرة تحتاج إلى

مساهمة أفراد كثيرين بأموالهم، وفي الناس كثيرون عندهم فضل أموال، وليس عندهم الفراغ أو القدرة على استثمارها. فلماذا ال تستغل هذه األموال

في تلك المشروعات الحيوية الكبيرة يديرها أناس من ذوي الدراية والخبرة.

ونقول: إن شريعة اإلسالم لم تمنع أن يتعاون رأس المال والخبرة أو المال والعمل -كما يقول الفقه اإلسالمي- ولكنها أقامت هذا التعاون على أساس عادل ومنهج سديد، فإذا كان رب المال قد رضيها شركة بينه وبين صاحبه،

فعليه أن يتحمل مسؤولية الشركة بكل نتائجها. ولهذا تشترط الشريعة اإلسالمية في مثل هذه المعاملة التي سماها الفقهاء )المضاربة( أو )القراض( أن يشترك كل من الطرفين المتعاقدين في الربح إذا ربحا، وفي الخسارة إذا خسرا، ونسبة الربح والخسارة تكون وفق اتفاقهما، فلهما أن يجعال ألحدهما النصف أو الثلث أو الربع، أو أدنى من ذلك أو أكثر، ولآلخر الباقي. وإذا يكون

التعاون بين رأس المال والعمل تعاون الشريكين والمتكافلين؛ لكل نصيبه من الغنم قل أو كثر. فإذا ربحا تقاسما الربح كما اشترطا، وإن خسرا كانت

الخسارة من الربح، فإن استغرقت الربح وزادت أخذ من رأس المال بقدرها، وال غرابة في أن يخسر رب المال جزءا من ماله كما خسر شريكه جهده

وعرقه.

ذلك هو قانون اإلسالم في هذه المعاملة. أما أن يفرض لصاحب المال ربح محدد مضمون ال يزيد وال ينقص وإن تضاعف الربح أو تفاقمت الخسارة فهذا

مجافاة للعدل الصريح وتحيز لرأس المال ضد الخبرة والعمل، ومعاندة لقوانين الحياة التي تعطي وتمنع، وتشجيع لحب الكسب المضمون دون عمل وال

مخاطرة, وذلك هو روح الربا الخبيث.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في المزارعة على األرض، أن يجعل في العقد ألحدهما غلة مساحة معينة من األرض، أو مقدار محدد من الخارج،

كقنطار أو قنطارين مثال لما في ذلك من شبه بالمراباة والمقامرة. فقد ال تخرج األرض غير المقدار المشروط أو ال تخرج شيئا فيكون ألحدهما الغنم كله،

وعلى اآلخر الغرم كله. وهذا ما ال ترضاه العدالة.

هذا الشرط المفسد للمزارعة بالنص الصريح، هو في رأيي أصل إلجماع الفقهاء على االشتراط في )المضاربة( أال يحدد نصيب ألحدهما يضمنه على كل

حال، ربحت الصفقة أم خسرت. وتعليلهم فساد المضاربة هنا كتعليلهم فساد

Page 155: الحلال والحرام في الإسلام

المزارعة هناك فهم يقولون هنا: إنه إذا شرط أحدهما دراهم معلومة احتمل أال يربح غيرها فيحصل على جميع الربح، واحتمل أال يربحها.. وقد يربح كثيرا

فيستضر من شرطت له الدراهم.

وهذا تعليل موافق لروح اإلسالم الذي يبني كل معامالته على العدالة المحكمةالواضحة.

أصحاب رؤوس األموالاشتراك

وكما يجوز للمسلم أن يستغل ماله منفردا فيما شاء من عمل مباح، وكما جاز له أن يعطي ماله أو جزءا منه لمن شاء من أهل الدراية والدربة على سبيل

)المضاربة( يجوز له أيضا أن يشترك هو وآخر أو آخرون من أرباب األموال في عمل من األعمال صناعي أو تجاري أو غير ذلك، فمن األعمال والمشروعات ما

يحتاج إلى أكثر من عقل أو أكثر من يد، وأكثر من رأس مال. والمرء قليل بنفسه كثير بغيره، والله تعالى يقول: )وتعاونوا على البر والتقوى( وكل عمل يجلب للفرد أو المجتمع خيرا، أو يدفع عنه شرا فهو بر وتقوى إذا توافرت له

النية الصالحة.

فاإلسالم ال يبيح مثل هذه األعمال المشتركة فحسب، بل هو يباركها ويعد عليها بمعونة الله في الدنيا، ومثوبته في اآلخرة، ما دامت في دائرة ما أحله الله، بعيدة عن الربا والغرر، والظلم والجشع والخيانة بكل صورها. وفي ذلك يقول رسول اإلسالم: "يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا

خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما". ويد الله كناية عن التوفيق والمعونةوالبركة.

ويروي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه يقول: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما" "وجاء

الشيطان".

اشتراك أصحاب رؤوس األموال وكما يجوز للمسلم أن يستغل ماله منفردا فيما شاء من عمل مباح، وكما جاز

له أن يعطي ماله أو جزءا منه لمن شاء من أهل الدراية والدربة على سبيل )المضاربة( يجوز له أيضا أن يشترك هو وآخر أو آخرون من أرباب األموال في عمل من األعمال صناعي أو تجاري أو غير ذلك، فمن األعمال والمشروعات ما

يحتاج إلى أكثر من عقل أو أكثر من يد، وأكثر من رأس مال. والمرء قليل بنفسه كثير بغيره، والله تعالى يقول: )وتعاونوا على البر والتقوى( وكل عمل يجلب للفرد أو المجتمع خيرا، أو يدفع عنه شرا فهو بر وتقوى إذا توافرت له

النية الصالحة.فاإلسالم ال يبيح مثل هذه األعمال المشتركة فحسب، بل هو يباركها ويعد عليها بمعونة الله في الدنيا، ومثوبته في اآلخرة، ما دامت في

دائرة ما أحله الله، بعيدة عن الربا والغرر، والظلم والجشع والخيانة بكل صورها. وفي ذلك يقول رسول اإلسالم: "يد الله على الشريكين ما لم يخن

أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما". ويد الله كناية عن التوفيق والمعونة والبركة.ويروي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه

يقول: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه

Page 156: الحلال والحرام في الإسلام

خرجت من بينهما" "وجاء الشيطان".شركات التأمين

ومن صور المعامالت الجديدة ما يسمى )بشركات التأمين( ومنه ما يكون تأمينا على الحياة، وما يكون تأمينا ضد الحوادث. فما الحكم في هذه الشركات؟ وهل

يقرها اإلسالم؟

وقبل الجواب نود أن نسأل عن طبيعة هذه الشركات ما هي؟ وما عالقة الفردالمؤمن له بالشركة المؤمنة؟

وبعبارة أخرى: هل يعتبر الشخص المؤمن له لدى مؤسسة التأمين شريكاألصحابها؟

لو كانت كذلك لوجب أن يخضع كل مؤمن له فيه للربح والخسارة وفق تعاليماإلسالم.

وفي التأمين ضد الحوادث يدفع المؤمن له مقدارا من المال في العام فإذا قدر سالمة ما أمن عليه )متجر أو مصنع أو سفينة أو غير ذلك( فإن الشركة تستولي على المبلغ كله وال يسترد شيئا منه. وإذا حلت به كارثة عوض بالمقدار المتفق

عليه. وهذا أبعد ما يكون عن طبيعة التجارة واالشتراك التضامني.

ألفين من الجنيهات مثال، ودفع2000وفي التأمين على الحياة إذا أمن بمبلغ أول قسط ثم اخترمته المنية، فإنه يستحق األلفين كاملة غير منقوصة. ولو

كان شريكا في تجارة ما استحق غير قسطه وربحه.

ثم هو لو أخل بالتزامه نحو الشركة، وعجز عن سداد األقساط -بعد دفع بعضها-لضاع عليه ما دفعه أو جزء كبير منه. وهذا أقل ما يقال فيه: إنه شرط فاسد.

وال وزن لما يقال: إن الطرفين -المؤمن له والشركة- قد تراضيا، وهما أدرى بما يصلحهما، فإن آكل الربا ومؤكله متراضيان. والعبي الميسر متراضيان،

ولكن ال عبرة بتراضيهما، ما دامت معاملتهما غير قائمة على أساس من العدالة الواضحة التي ال يشوبها غرر وال تظالم، وال غنم مضمون ألحد الطرفين غير

مضمون للطرف اآلخر. العدالة إذا هي األساس وال ضرر وال ضرار.هل هي مؤسسات تعاونية

وإذا لم يتضح لنا بوجه من الوجوه أن العالقة بين المؤمن له والشركة عالقة الشريك بالشريك فماذا عسى أن تكون طبيعة العالقة بينهما؟ هل هي عالقة

تعاون؟ وهذه الجمعيات إذا مؤسسات تعاونية تقوم على مساهمة مجموعة منالمتبرعين بمقادير من أموالهم يدفعونها بقصد المساعدة بعضهم لبعض؟

ولكن لكي يكون هناك تعاون سليم بين أي جماعة لتساعد أحد أفرادها إذا نزلبه مكروه، يشترط فيما يجمع من مال لتحقيق هذه الغاية أمور:

أن يدفع الفرد نصيبه المفروض عليه في ماله على وجه التبرع، قياما بحقاألخوة، ومن هذا المال المجموع تؤخذ المساعدات المطلوبة للمحتاجين.

إذا أريد استغالل هذا المال المدخر فبالوسائل المشروعة وحدها.

ال يجوز لفرد أن يتبرع بشيء ما على أساس أن يعوض بمبلغ معين إذا حل به حادث، ولكن يعطى من مال الجماعة بقدر ما يعوض خسارته أو بعضها، على حسب ما تسمح به حال الجماعة. التبرع هبة والرجوع فيها حرام، فإذا حدث

Page 157: الحلال والحرام في الإسلام

فليراع حكم الشرع في ذلك.

وهذه الشروط ال تنطبق إال على ما تقوم به بعض النقابات والهيئات عندنا حيث يدفع الشخص اشتراكا شهريا على وجه التبرع، ليس له أن يسترده ويرجع فيه،

وال يشترط مبلغا معينا يمنحه عند حدوث ما يكره.

أما شركات التأمين وخاصة التأمين على الحياة فإن هذه الشروط ال تنطبقعليها بحال.

فاألفراد المؤمن لهم ال يدفعون بقصد التبرع، وال يخطر لهم هذا على بال.

وشركات التأمين جارية على استغالل أموالها في أعمال ربوية محرمة. وال يجوز لمسلم أن يشترك في عمل ربوي. وهذا مما يتفق على منعه المتشددون

والمترخصون.

يأخذ المؤمن له من الشركة -إذا انقضت المدة المشروطة- مجموع األقساطالتي دفعها، وفوقها مبلغ زائد، فهل هو إال ربا؟!

كما أن من مناقضات التأمين لمعنى التعاون أن يعطي الغني القادر أكثر مما يعطي العاجز المحتاج؛ ألن القادر يؤمن بمبلغ أكبر فيعطي عند الوفاة أو

الكارثة نصيبا أكثر. مع أن التعاون يقضي أن يعطى المحتاج أكثر من غيره.

ومن أراد الرجوع في عقده انتقص منه جزء كبير. وهو انتقاص ال مسوغ له فيشرع اإلسالم.

تعديالت على أني أرى أن عقد التأمين ضد الحوادث يمكن أن يعدل إلى صورة قريبة من

المعامالت اإلسالمية. وهو صورة عقد )التبرع بشرط العوض( فالمؤمن له متبرع بما يدفع من مال إلى الشركة على أن يعوض عند النوازل التي تنزل به

بما يعينه ويخفف عنه بلواه. وهذه الصورة من التعامل جائزة في بعضالمذاهب اإلسالمية.

فلو عدل عقد التأمين إليها، وخلت معاملة الشركة من الربويات التجه القول بالجواز. أما التأمين على الحياة فصورته كما أرى تبعد كثيرا عن المعامالت في

اإلسالم.نظام التأمين اإلسالمي

وإذا كنا نرى اإلسالم يعارض شركات التأمين في صورتها الحاضرة ومعامالتها الجارية فليس معنى هذا أنه يحارب فكرة التأمين نفسها. كال إنه يخالف في

المنهج والوسيلة، أما إذا تهيأت وسائل أخرى للتأمين ال تنافي صورة المعامالتاإلسالمية، فاإلسالم يرحب بها.

وعلى كل حال فإن نظام اإلسالم قد أمن أبناءه والمستظلين بظل دولته بطرقه الخاصة -شأنه في كل شرائعه وتوجيهاته- إما عن طريق تكافل أبناء

المجتمع بعضهم مع بعض، وإما عن طريق الحكومة وبيت المال. فهو -أي بيتالمال- شركة التأمين العامة لكل من يستظل بسلطان اإلسالم.

وفي الشريعة اإلسالمية نجد تأمين األفراد عند الحوادث ومعاونتهم على التغلب على الكوارث التي تصيبهم. وقد ذكرنا من قبل أن من األمور التي تبيح للفرد

المسألة أن تصيبه جائحة، فإذا أصابته جائحة حلت له مسألة ولي األمر حتى

Page 158: الحلال والحرام في الإسلام

يعوض ما أصابته أو يخفف عنه بعضه.

كما نجد التأمين للورثة بعد الوفاة في قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بكل مسلم من نفسه من ترك ماال فلورثته. ومن ترك دينا أو ضياعا

)أي أسرة أوالدا صغارا( فإلي وعلي".

ومن أعظم ما شرعه اإلسالم لتأمين أبنائه: سهم )الغارمين( في مصارف الزكاة. فقد جاء عن بعض مفسري السلف في تفسير الغارم: أنه من احترق

بيته أو ذهب السيل بماله أو تجارته أو نحو ذلك.

وأجاز بعض الفقهاء أن يعطى مثل هذا من حصيلة الزكاة ما يعيده إلى حالتهالمالية السابقة وإن بلغ ذلك األلوف.

استغالل األرض الزراعية إذا امتلك المسلم أرضا زراعية بطرقها المشروعة فعليه أن يستغلها أو ينتفع

بها زرعا أو غرسا.

وقد كره اإلسالم تعطيل األرض عن الزراعة؛ لما فيه من إهدار للنعمة وإضاعة للمال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. ولصاحب األرض

في ذلك عدة طرق.

استغاللهاطرائق

أن يقوم بشأنها بنفسه يزرع فيها زرعا، أو يغرس غرسا ويتولى سقيها ورعايتها حتى تؤتي أكلها. وهذا أمر محمود، يوجب لصاحبه مثوبة الله ما انتفع بالزرع أو الغرس إنسان أو طير أو بهيمة، وكان جلة أصحاب رسول الله صلى

الله عليه وسلم من األنصار يزرعون أرضهم ويقومون عليها بأنفسهم. وقدتقدم ذلك.

الثانيةالطريقة

أال يتمكن من زراعتها بنفسه، فيعيرها من يقدر على زراعتها بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وال يأخذ من الزارع شيئا وهذا أمر مطلوب في اإلسالم. وعن

أبي هريرة قال: قال عليه السالم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثهاأخاه، وإال فليدعها".

وذهب بعض السلف إلى ظاهر هذا الحديث وأن استغالل األرض ال يكون إال بأحد هذين: إما أن يزرعها بنفسه، وإما أن يعطيها من يزرعها بغير مقابل وبذلك

تكون رقبة األرض لمن يملكها، وثمرتها لمن يفلحها.

روى ابن حزم بسنده إلى األوزاعي قال: كان عطاء ومكحول ومجاهد والحسن البصري يقولون: ال تصلح األرض البيضاء بالدراهم وال بالدنانير، وال معاملة إال

أن يزرع الرجل أرضه أو يمنحها.

ويرى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن األمر في هذه األحاديث بالمنح ليس للوجوب وإنما هو للندب واالستحباب فقد روى البخاري عن عمرو بن

دينار قال: قلت لطاووس -من أكبر أصحاب ابن عباس-: لو تركت المخابرة !! فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال طاووس: إن علمهم -يعني ابن عباس- أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها

Page 159: الحلال والحرام في الإسلام

وقال: "ألن يمنح أحدكم أخاه -يعني أرضه- خير من أن يأخذ عليها خراجامعلوما".

المزارعة على األرض الطريقة الثالثة: أن يعطيها لمن يزرعها بآلته وبذره وحيوانه على أن يكون له نسبة مئوية محددة مما يخرج من األرض قد تكون نصفا أو ثلثا أو أدنى أو أكثر

وفق اتفاقهما. ويجوز له أن يساعد الزارع بالبذر أو به وباآللة والحيوان.وتسمى هذه الطريقة بالمزارعة أو المساقاة أو المخابرة.

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر" وهذا حديث رواه من الصحابة ابن عمر وابن

عباس وجابر بن عبد الله.

وبهذا الحديث يحتج من أجاز هذا النوع من المزارعة. وقالوا:"هذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه

الراشدون حتى ماتوا ثم أهلوهم من بعدهم، ولم يبق من المدينة أهل بيت إال عمل به. وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده… ومثل هذا مما

ال يجوز أن ينسخ؛ ألن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما شيء عمل به إلى أن مات، ثم عمل به خلفاؤه بعده وأجمعت

الصحابة -رضوان الله عليهم- عليه، وعملوا به، ولم يخالف فيه منهم أحد فكيف يجوز نسخه؟ فإن كان نسخه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف عمل به بعد نسخه؟ وكيف خفي نسخه فلم يبلغ خلفاؤه مع اشتهار قصة خيبر

وعملهم فيها؟ فأين كان راوي النسخ حتى لم يذكروه ولم يخبرهم به؟".

المزارعة الفاسدة وهناك نوع من المزارعة كان شائعا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

فنهى عنه أصحابه لما فيه من الغرر والجهالة التي تفضي إلى النزاع؟ ولما فيهمن مجافاة لروح العدالة الواضحة التي يحرص عليها اإلسالم في كل المجاالت.

فقد كان أصحاب األرض يشترطون على الزارع العامل فيها أن يكون لهم ريع مساحة معينة منها يحددها أو مقدار معين من الغلة مكيل أو موزون، والباقي

للعامل وحده أو لهما مناصفة مثال.

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن العدل يقتضي أن يشتركا في كل ما يخرج منها قل أو كثر، وال يصح أن يكون ألحدهما نصيب معين قد ال تخرج

األرض غيره، فيغنم وحده، ويغرم اآلخر وحده، وقد ال تنتج المساحة المعينة لصاحب األرض مثال فال يأخذ شيئا على حين استفاد الطرف اآلخر وحده. ال بد إذن أن يأخذ كل منهما حظه من الخارج عن األرض بنسبة يتفقان عليها فإن

كثر الخارج أصاب خيره الطرفين، وإن قل كانت قلته على كليهما، وإن لمتخرج شيئا كان الغرم مشتركا وهذا أطيب لنفسيهما جميعا.

روى البخاري عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر أهل األرض -أي في المدينة- مزارع كنا نكري األرض بالناحية منها تسمى لسيد األرض.. فربما يصاب ذلك

وتسلم األرض، وربما تصاب األرض ويسلم ذلك فنهينا..".

وروى مسلم عنه قال: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات )ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء(

Page 160: الحلال والحرام في الإسلام

وإقبال الجداول )أوائل السواقي( وأشياء من الزرع )كذا إردبا مثال( فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كرى إال هذا فلذلك زجر

عنه". وروى البخاري عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تصنعون بمحاقلكم )مزارعكم(؟ قالوا: نؤجرها على الربع وعلى األوسق من

التمر والشعير. قال: ال تفعلوا".

فمعنى هذا أنهم يحددون لهم مكيال معينا يأخذونه من فوق الرؤوس -كما يقال-ثم يقتسمون الباقي مع المزارعين لهذا الربع، وذاك ثالثة األرباع مثال.

ومن هنا نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على تحقيق العدلالكامل في مجتمعه وإبعاد كل ما يجلب النزاع والخصام عن مجتمع المؤمنين.

وقد روى زيد بن ثابت أن رجلين اختصما في أرض إلى النبي صلى الله عليهوسلم فقال: "إن كان هذا شأنكم فال تكروا المزارع".

والواجب على كل من رب األرض والعامل فيها أن يكون سمحا كريما مع صاحبه رفيقا به، فال يغالي صاحب األرض فيما يطلب من الخارج منها، وال يبخس

العامل صاحب األرض أرضه. ولهذا جاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليهوسلم: "لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض".

ولذلك لما قيل لطاووس: يا أبا عبد الرحمن لو تركت هذه المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال: "إني أعينهم

وأعطيهم". فليس كل همه أن يكسب من أرضه، ولو كان ذلك على جوع منيعملون فيها، وإنما هو يعينهم ويعطيهم. وهذا هو المجتمع المسلم.

وربما كان من مالك األرض من يؤثر بقاء األرض معطلة ال زراعة فيها وال غرس، على أن يعطيها من يزرعها بنسبة ال تشبع نهمه وطمعه. ومن أجل ذلك

بعث عمر بن عبد العزيز إلى من يهمهم األمر في خالفته: أن أعطوا األرضعلى الربع والثلث والخمس.. إلى العشر، وال تدعوا األرض خرابا.

إجارة األرض بالنقود الطريقة الرابعة: أن يعطي أرضه لمن يزرعها على أن يكون للمالك أجر نقدي

معلوم )ذهب أو فضة(.

وقد أجاز هذه الطريقة كثير من الفقهاء المشهورين، ومنعها آخرون مستندين إلى ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، من النهي عن كراء األرض، وأن

يؤخذ لها أجر أو حظ، روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيخان بدريان، ورافع بن خديج، وجابر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وابن عمر. كلهم يروي عن

النبي: النهي عن كراء األرض جملة.

استثنى من هذا الكراء صورة المزارعة، لما ثبت من استمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها مع أهل خيبر في حياته، واستمرار األمر بعد وفاته في عهد

خلفائه الراشدين.

والناظر في التطور التشريعي لهذه المسألة يتبين له ما قاله ابن حزم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليهم وهم يكرون مزارعهم -كما روى رافع

وغيره- وقد كانت المزارع بال شك تكرى قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مبعثه. هذا أمر ال يمكن أن يشك فيه ذو عقل، ثم صح من طريق جابر وأبي هريرة وأبي سعيد ورافع وظهير البدري وآخر من البدريين وابن عمر

Page 161: الحلال والحرام في الإسلام

"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء األرض جملة فبطلت اإلباحة بيقين ال شك فيه، فمن ادعى أن المنسوخ )إباحة الكراء( قد رجع، وأن يقين

النسخ قد بطل، فهو كاذب مكذب، قائل ما ال علم له به. وهذا حرام بنص القرآن، إال أن يأتي على ذلك ببرهان وال سبيل إلى وجوده أبدا إال في إعطائها بجزء مسمى مما يخرج منها )كالثلث والربع( فإنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بخيبر بعد النهي بأعوام، وأنه بقي على ذلك إلى أن

مات عليه السالم".

وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف رضي الله عنهم. فكان طاووس فقيه اليمن والتابعي الجليل يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة وال يرى بالثلث

والربع بأسا. ولما احتج عليه بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء األرض قال: "قدم علينا معاذ بن جبل -مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن- فأعطى األرض على الثلث والربع فنحن نعملها إلى اليوم"

فكأنه يرى الكراء المنهي عنه هو الكراء بالذهب والفضة. أما المزارعة فال بأسبها.

وقد روي مثل هذا عن محمد بن سيرين وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أنهما كانا ال يريان بأسا أن يعطي أرضه على أن يعطيه الثلث أو الربع

أو العشر، وال يكون عليه من النفقة شيء. مع ما روي عنهما من النهي عنكراء األرض.

وقد روي عن جماعة آخرين من التابعين النهي عن كراء األرض جملة؛ بالنقد أو بالمزارعة عليها. وال شك أنهم محجوجون في جواز المزارعة بفعل رسول الله

وفعل خلفائه وفعل معاذ في اليمن. وهو ما استقر عليه التشريع العملي للمسلمين، في العصر األول. أما نهيهم عن إجارة األرض بالنقد فهو موافق

للمنقول والمعقول.القياس يقتضي منع اإلجارة بالنقد

إن القياس الصحيح على أصول اإلسالم ونصوصه الصحيحة الصريحة يقتضي أالتجوز إجارة األرض البيضاء بالنقد.

)أ( فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء األرض بجزء معين مما يخرج منها كإردب أو إردبين أو قنطار أو قنطارين تعين لصاحب األرض، ولم يجز المزارعة عليها إال بجزء نسبي كالربع والثلث والنصف -أو بتعبيرنا: بنسبة

مئوية- وذلك ليشتركا في الغنم إن أثمرت األرض ولم يصبها شيء، ويشتركا في الغرم إن أصابتها اآلفات. أما تعيين نصيب أحد المتعاقدين ليكون له الغنم

قطعا واحتمال أال يصيب اآلخر إال العرق والتعب والحسرة فما أشبه هذا بالمراباة والقمار!! فإذا تأملنا في إجارة األرض بالنقد على ضوء هذا فأي فرق

نجده بينها وبين هذا النوع من المزارعة المنهي عنه؟ إن مالك األرض ضامن نصيبه النقدي بإجارة األرض ال محالة، أما المستأجر فهو يقامر بعمله وتعبه وال

يدري أيكسب أم يخسر؟ أتنتج األرض أم ال تنتج؟

)ب( ثم إن من يؤجر شيئا يملكه إلى آخر، فإنما يستحق أجره جزاء على تهيئة هذا الشيء للمستأجر وإعداده لينتفع به، وعوضا عما يصيب هذا الشيء من

االستهالك شيئا فشيئا.

فأي تهيئة قام بها المالك إلعداد األرض للمستأجر؟ إن الله هو الذي هيأ األرض لإلنبات ال المالك. ثم أي استهالك يصيب األرض بالزراعة، واألرض ال تتآكل وال

Page 162: الحلال والحرام في الإسلام

تتخلخل بالزراعة كالمباني واآلالت ونحوها؟

)ج( ثم إن اإلنسان يستأجر الدار فينتفع بسكناها انتفاعا مباشرا ال يحول دونه شيء. ويستأجر اآللة فينتفع بها كذلك. أما األرض فإن االنتفاع بها غير مباشر،

وغير مضمون، فهو حين يستأجرها ال ينتفع بها كالدار بل يسعى ويكدح فيها على أمل االنتفاع بها الذي قد يكون وقد ال يكون. فأي قياس إلجارة األرض

على إجارة الدار ونحوها قياس غير صحيح.

)د( وقد ورد في )الصحيح( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار في الحقول أو الحدائق قبل أن يبدو صالحها، ويعرف أنها سالمة من العاهات واآلفات، وقال في تعليل ذلك: "أرأيتم إذا منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم

مال أخيه؟!".

فإذا كان هذا فيمن باع ثمرة قد بدت ولكن لم تتأكد سالمتها، وقد يصيبها آفة تمنعها من تمام النضج. فكيف بمن أعطى أرضا بيضاء لم يضرب فيها فأسا ولم

يلق فيها بذرا. أليس هذا أولى أن يقال له: أرأيت إذا منع الله الثمرة فبماذاتستحل ما أخيك؟!.

وقد رأيت بعيني حقول القطن تلتهمها اآلفات )الدودة( حتى تركتها حطبا يابسا ال خير فيه. فما كان من أصحاب األرض إال أن طلبوا إجارتهم، وما كان

من المستأجرين إلى أن يخضعوا -تحت سطوة العقود الموقعة والحاجة الملحة-فأين التكافؤ؟ وأين العدل هنا الذي يحرص عليه اإلسالم؟

إن العدل ال يتحقق إال بالمزارعة التي يكون فيها الغنم أو الغرم واقعا علىالطرفين.

ورغم أن شيخ اإلسالم ابن تيمية يرى جواز المؤاجرة، فقد ذكر أن المزارعة هي الموافقة لعدل الشريعة ومبادئها وقال: والمزارعة أحل من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل واألصول -يعني القواعد الشرعية- فإنهما يشتركان في

المغنم والمغرم، بخالف المؤاجرة، فإن صاحب األرض تسلم له األجرة،والمستأجر قد يحصل له زرع وقد ال يحصل.

وقال المحقق ابن القيم معلقا على ظلم األمراء والجند للفالحين في عصره: "لو اعتمد الجند واألمراء مع الفالحين ما شرعه الله ورسوله، وجاءت به السنة،

وفعله الخلفاء الراشدون، ألكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولفتح الله عليهم بركات من السماء واألرض، وكان الذي يحصل لهم من المغل )الريع(

أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان، ولكن يأبى جهلهم وظلمهم إال أن يركبوا الظلم واإلثم فيمنعوا البركة وسعة الرزق، فيجتمع لهم عقوبة اآلخرة، ونزع

البركة في الدنيا!!

فإن قيل: وما الذي شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقهالله؟

قيل: المزارعة العادلة التي يكون المقطع )صاحب األرض( والفالح فيها على حد سواء من العدل، ال يختص أحدهما عن اآلخر بشيء من هذه الرسوم التي ما

أنزل الله بها من سلطان، وهي التي خربت البالد، وأفسدت العباد، ومنعت الغيث، وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند واألمراء ألكل الحرام، وإذا نبت

Page 163: الحلال والحرام في الإسلام

الجسد على الحرام فالنار أولى به.

وهذه المزارعة العادلة هي عمل المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعهد خلفائه الراشدين، وهي عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان،

وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وهي مذهب فقهاء الحديث،

كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن نصر

المروزي، وهي مذهب عامة أئمة المسلمين، كالليث بن سعد، وابن أبي ليلى،وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجالهم عمر عن خيبر، وكان شارطهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم، ال من النبي صلى الله

عليه وسلم.

ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل -كمانصت به السنة- وأن يكون منهما.

وقد ذكر البخاري في صحيحه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عامل الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده، فله الشطر )النصف(، وإن جاؤوا بالبذر

فلهم كذا. أي أكثر من النصف.

وكل الروايات التي جاءت عن المزارعة، لم يعرف في شيء منها أن نصيبالعامل في األرض كان أقل من النصف، بل في بعضها أنه أكثر.

فالذي يستريح إليه القلب أال يقل نصيب العامل عن النصف، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه مع يهود خيبر، فليس من الالئق أن يكون نصيب

الجماد -األرض- أرفع عند القسمة من نصيب اإلنسان.الشركة في تربية الحيوان

وهناك معاملة جارية في بالدنا، وخاصة في الريف، هي االشتراك في تربية الحيوانات والمواشي؛ يدفع أحد الطرفين الثمن كله أو بعضه، ويقوم الطرف

اآلخر باإلشراف والرعاية، ويقتسمان النتاج والربح بعد ذلك.

ولكي نبدي رأينا في هذه الشركة وجب علينا أن نبين ما فيها من صور.

الصورة األولى: االشتراك لغرض تجاري بحت من الطرفين، كاالشتراك فيتربية العجول للتسمين أو تربية األبقار والجواميس إلنتاج اللبن.

والمفروض هنا أن يبذل الطرف األول أي الثمن من جانبه، ويبذل الطرف اآلخر العمل، وهو الرعاية واإلشراف، وما أنفق على األكل والشرب ونحوهما فهو

على الشركة ال على واحد منهما، وعند البيع، تطرح النفقة من ثمن البيع ومابقي من ربح اقتسماه حسب الشروط.

وليس من العدل أن يلزم أحد الطرفين باإلنفاق، مع أنه ال ينتفع بشيء مقابله،مع أن الربح يقتسم بينهما. وهذا واضح.

والصورة الثانية: االشتراك بين الطرف الذي يدفع الثمن، والطرف اآلخر الذي

Page 164: الحلال والحرام في الإسلام

يقوم بالنفقة والرعاية، وينتفع في مقابل ذلك بلبن الماشية أو بعملها فيحرثه وسقيه وزراعته.

وال بأس بهذه الصورة استحسانا إذا كان الحيوان كبيرا ينتفع به فعال بلبن أو يعرف تساويهما، وال نسبة أحدهما إلى اآلخر، وفيه نوع من الغرر. غير أنا

استحسنا جواز ذلك ولم نعتبر هذا الغرر القليل لورود مشابه لذلك في الشريعة. ففي الحديث الصحيح في شأن الرهن إذا كان المرهون حيوانا يمكن

أن يركب أو يحلب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي

يركب ويشرب النفقة". رواه البخاري عن أبي هريرة.

ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الحيوان مقابلركوبه إذا كان ذا ظهر يركب أو مقابل لبنه إذا كان ذا در يحلب.

وإذا جاز هذا في الرهن لحاجة التعامل واستيثاق الناس بعضهم من بعض -مع أن قيمة النفقة على الحيوان قد تكون أقل أو أكثر من قيمة ما ينتفع به من ركوبه أو دره- فال بأس أن نجيز مثل ذلك في شركة الحيوانات التي ذكرناها،

لحاجة الناس أيضا.

وهذا الذي استنتجناه من هذا الحديث رأي خاص لنا، أرجو أن يكون سدادا.

وأما االشتراك في العجول الصغيرة )التي ال ينتفع منها بعمل وال لبن( على أساس أن يكون الثمن من جانب، والنفقة من جانب، فإن قواعد اإلسالم تأبى إباحة ذلك؛ ألن الطرف المنفق يغرم وحده، دون مقابل يعود عليه من عمل أو

لبن. والطرف اآلخر هو المستفيد الغانم على حساب هذا. وليس ذلك من العدلالذي يتحراه اإلسالم في كل صور المعامالت.

فإذا أمكن أن يتقاسما النفقة حتى يأتي أوان االنتفاع، فهذا جائز فيما نرى.

في اللهو والترفيهفي اللهو والترفيه

ألعاب الفروسيةساعة وساعةالصيدالرسول اإلنسان

Page 165: الحلال والحرام في الإسلام

اللعب بالنرد )الطاولة(القلوب تملاللعب بالشطرنجألوان من اللهو الحالل

الغناء والموسيقىمسابقة العدو )الجري على األقدام(القمار قرين الخمرالمصارعة

اليانصيب ضرب من القماراللعب بالسهام )التصويب(دخول السينما اللعب بالحراب )الشيش(

اإلسالم دين واقعي ال يحلق في أجواء الخيال والمثالية الواهمة، ولكنه يقف مع اإلنسان على أرض الحقيقة والواقع. وال يعامل الناس كأنهم مالئكة أولو أجنحةمثنى وثالث ورباع، ولكنه يعاملهم بشرا يأكلون الطعام ويمشون في األسواق.

لذلك لم يفرض على الناس -ولم يفترض فيهم- أن يكون كل كالمهم ذكرا، وكل صمتهم فكرا، وكل سماعهم قرآنا، وكل فراغهم في المسجد. وإنما

اعترف بهم وبفطرتهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها، وقد خلقهم سبحانهيفرحون ويمرحون ويضحكون ويلعبون، كما خلقهم يأكلون ويشربون.

وساعةساعة

ولقد بلغ السمو الروحي ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا ظنوا معه أن الجد الصارم، والتعبد الدائم ال بد أن يكون ديدنهم، وأن عليهم أن

يديروا ظهورهم لكل متع الحياة، وطيبات الدنيا، فال يلهون وال يلعبون، بل تظلأبصارهم وأفكارهم متجهة إلى اآلخرة ومعانيها بعيدة عن الحياة ولهوها.

ولنستمع إلى حديث هذا الصحابي الجليل حنظلة األسيدي -وكان من كتابرسول الله صلى الله عليه وسلم- قال يحدثنا عن نفسه:

لقيني أبو بكر وقال: كيف أنت يا حنظلة؟

قلت: نافق حنظلة .

قال: سبحان الله، ما تقول؟

قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا

)العبنا( األزواج واألوالد والضيعات فنسينا كثيرا .

قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا.

قال حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليهوسل.

قلت: نافق حنظلة يا رسول الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟

قلت: يا رسول الله. نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذاخرجنا من عندك عافسنا األزواج واألوالد والضيعات، ونسينا كثيرا .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده: إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم المالئكة على فرشكم وفي

Page 166: الحلال والحرام في الإسلام

طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة، وكرر هذه الكلمة -ساعة وساعة- ثالثمرات".

اإلنسانالرسول

وكانت حياته صلى الله عليه وسلم مثاال رائعا للحياة اإلنسانية المتكاملة: فهو في خلوته يصلي ويطيل الخشوع والبكاء والقيام حتى تتورم قدماه، وهو في

الحق ال يبالي بأحد في جنب الله، ولكنه مع الحياة والناس بشر سوي يحبالطيبات، ويبش ويبتسم، ويداعب ويمزح، وال يقول إال حقا.

كان صلى الله عليه وسلم يحب السرور وما يجلبه، ويكره الحزن وما يدفع إليه من ديون ومتاعب، ويستعيذ بالله من شره، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من

الهم والحزن".

ومما روي في مزاحه أن امرأة عجوزا جاءته تقول له: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال لها: يا أم فالن إن الجنة ال يدخلها عجوزا. وانزعجت المرأة وبكت -ظنا منها أنها لن تدخل الجنة- فلما رأى ذلك منها بين لها غرضه: إن العجوز لن تدخل الجنة عجوزا، بل ينشئها الله خلقا آخر، فتدخلها شابة بكرا.

وتال عليها قول الله تعالى: )إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا(.37-35الواقعة:

تملالقلوب

وكذلك كان الصحابة الطيبون الطاهرون، يمزحون ويضحكون ويلعبون ويتندرون، معرفة منهم بحظ النفس، وتلبية لنداء الفطرة وتمكينا للقلوب من

حقها في الراحة، واللهو البريء لتكون أقدر على مواصلة السير في طريقالجد. وإنه لطريق طويل.

قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إن القلوب تمل كما تمل األبدانفابتغوا لها طرائف الحكمة.

وقال: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني ألستجم نفسي بالشيء من الباطل،ليكون أعون لها على الحق.

فال بأس على المسلم أن يتفكه ويمزح بما يشرح صدره، وال حرج عليه أن يروح نفسه ونفوس رفقائه بلهو مباح. على أال يجعل ذلك ديدنه وخلقه في كل

أوقاته، ويمأل به صباحه ومساءه، فينشغل به عن الواجبات، ويهزل في موضعالجد. ولذا قيل )أعط الكالم من المزح بقدر ما يعطي الطعام من الملح(.

كما ال ينبغي للمسلم أن يجعل من أقدار الناس وأعراضهم محل مزاحه وتندره قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا ال يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا

Page 167: الحلال والحرام في الإسلام

.11منهم( الحجرات:

وال ينبغي أن يجره كذلك حب إضحاك الناس إلى اتخاذ الكذب وسيلة. وقد حذر من ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: "ويل للذي يحدث

بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له. ويل له".

من اللهو الحاللألوان

وهناك ألوان كثيرة من اللهو، وفنون من اللعب شرعها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ترفيها عنهم، وترويحا لهم، وهي في الوقت نفسه تهيئ

نفوسهم لإلقبال على العبادات والواجبات األخرى، أكثر نشاطا وأشد عزيمة، وهي مع ذلك في كثير منها رياضات تدربهم على معاني القوة، وتعدهم

لميادين الجهاد في سبيل الله. ومن ذلك:

العدو )الجري على األقدام(مسابقة

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون على األقدام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم عليه، وقد رووا أن عليا كرم الله وجهه كان عداء سريع

العدو.

وكان النبي نفسه صلوات الله عليه يسابق زوجته عائشة رضي الله عنهامباسطة لها، وتطييبا لنفسها، وتعليما ألصحابه.

قالت عائشة: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثت حتى إذا أرهقني اللحم )أي سمنت( سابقني فسبقني، فقال: "هذه بتلك" يشير إلى

المرة األولى.

المصارعة

وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم رجال معروفا بقوته يسمى )ركانة( فصرعه النبي أكثر من مرة. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم صارعه

-وكان شديدا- فقال: شاة بشاة. فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عاودني في أخرى، فصرعه النبي، فقال: عاودني، فصرعه النبي الثالثة، فقال

الرجل: ماذا أقول ألهلي؟ شاة أكلها الذئب، وشاة نشزت، فما أقول في الثالثة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك

ونغرمك، خذ غنمك.

وقد استنبط الفقهاء من هذه األحاديث النبوية مشروعية المسابقة على األقدام، سواءا كانت بين الرجال بعضهم مع بعض، أو بينهم وبين النساء

المحارم أو الزوجات كما أخذوا منها أن المسابقة والمصارعة ونحوها ال تنافي الوقار والشرف والعلم والفضل وعلو السن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم

Page 168: الحلال والحرام في الإسلام

حين سابق عائشة كان فوق الخمسين من عمره.

بالسهام )التصويب(اللعب

ومن فنون اللهو المشروعة اللعب بالسهام والحراب:

وكان النبي عليه السالم يمر على أصحابه في حلقات الرمي )التصويب(فيشجعهم ويقول: "ارموا وأنا معكم".

ويرى عليه السالم أن هذا الرمي ليس هواية أو لهوا فحسب، بل هو نزع من القوة التي أمر الله بإعدادها )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة( وقال عليه

السالم في ذلك: "أال إن القوة الرمي، أال إن القوة الرمي، أال إن القوةالرمي". وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالرمي فإنه من خير لهوكم".

غير أنه عليه السالم حذر الالعبين من أن يتخذوا من الدواجن ونحوها غرضالتصويبهم وتدريبهم -وكان ذلك مما اعتاده بعض العرب في الجاهلية-.

وقد رأى عبد الله بن عمر جماعة يفعلون ذلك، فقال: إن النبي صلى الله عليهوسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا.

وإنما لعن من فعل ذلك لما فيه من تعذيب للحيوان وإتالف نفسه فضال عن إضاعة المال وال ينبغي أن يكون لهو اإلنسان ولعبه على حساب غيره من

الكائنات الحية.

ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم، وذلك بتسليط بعضها على بعض، وكان من العرب من يأتون بكبشين أو ثورين يتناطحان حتى يهلكا أو يقاربا الهالك، وهم يتفرجون ويضحكون. قال العلماء: وجه النهي عن التحريش أنه إيالم للحيوانات، وإتعاب لها، دون فائدة إال لمجرد

العبث.

)الشيش(بالحراب اللعب

ومثل اللعب بالسهام: اللعب بالحراب )الشيش(.

وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة أن يلعبوا بها في مسجده الشريف، وأذن لزوجته عائشة أن تنظر إليهم، وهو يقول لهم: "دونكم يا بني

أرفدة". وهي كنية ينادى بها أبناء الحبشة عند العرب.

ويبدو أن عمر -لطبيعته الصارمة- لم يرقه هذا اللهو، وأراد أن يمنعهم، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد روى الصحيحان عن أبي هريرة قال:

بينما الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

Page 169: الحلال والحرام في الإسلام

"دعهم يا عمر".

وإنها لسماحة كريمة من رسول اإلسالم أن يقر مثل هذا اللعب في مسجده المكرم، ليجمع فيه بين الدين والدنيا، وليكون ملتقى المسلمين في جدهم

حين يجدون، وفي لهوهم حين يلهون، على أن هذا ليس لهوا فقط، بل هو لهو ورياضة وتدريب. وقد قال العلماء تعقيبا على هذا الحديث: إن المسجد موضوعألمر جماعة المسلمين، فما كان من األعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه.

فلينظر مسلمو العصور المتأخرة كيف أقفرت مساجدهم من معاني الحياةوالقوة، وبقيت في كثير من حاالتها مقرا للعاطلين؟

وإنه لتوجيه نبوي كريم في معاملة الزوجات وترويح أنفسهن بإتاحة مثل هذا اللهو المباح. قالت عائشة زوج النبي الكريم: "لقد رأيت النبي صلى الله عليه

وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أناالذي أسأمه، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو".

وقالت كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته -وهن اللعب- وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم

إذا دخل ينقمعن )يستخفين هيبة منه( فيسربهن إلى، فيلعبن معي".

الفروسيةألعاب

.8قال الله تعالى: )والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة( سورة النحل:

وقال رسوله الكريم: "الخيل معقود بنواصيها الخير".

وقال عليه الصالة والسالم: "ارموا واركبوا".

وقال: "كل شيء من ذكر الله فهو لهو أو سهو، إال أربع خصال: مشي الرجلبين الغرضين )للرمي( وتأديبه فرسه، ومالعبته أهله، وتعليمه السباحة".

وقال عمر: "علموا أوالدكم السباحة والرماية ومروهم فليثبواعلى ظهور الخيلوثبا".

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل وأعطى السابق. وكل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم تشجيع على السباق وإغراء به، ألنه

كما قلنا -لهو ورياضة وتدريب.

وقيل ألنس: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن على فرس

يقال له سبحة، فسبق الناس، فهش لذلك وأعجبه".

والرهان المباح أن يكون الجعل الذي يبذل من غير المتسابقين أو من أحدهما فقط، فأما إذا بذل كل منهما جعال على أن من سبق منهما أخذ الجعلين معا

فهو القمار المنهي عنه. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الخيل الذي يعد للقمار )فرس الشيطان( وجعل ثمنها وزرا، وعلفها وزرا،

Page 170: الحلال والحرام في الإسلام

وركوبها وزرا.

وقال: الخيل ثالثة؛ فرس للرحمن، وفرس لإلنسان، وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله، وذكر ما شاء

الله )يعني أن كل ذلك له الحسنات(. وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه. وأما فرس اإلنسان فالذي يرتبطه اإلنسان يلتمس بطنها )أي

للنتاج( فهي ستر من فقر.

الصيد

ومن اللهو النافع الذي أقره اإلسالم الصيد، وهو في الواقع متعة ورياضة واكتساب، سواء أكان عن طريق اآللة كالنبال والرماح، أو غير طريق الجوارح كالكالب والصقور. وقد سبق أن تحدثنا عن االشتراطات واآلداب التي طلبها

اإلسالم فيه.

ولم يمنع اإلسالم الصيد إال في حالتين؛ حالة المحرم بالحج والعمرة؛ فإنه في مرحلة سالم كامل، ال يقتل فيها وال يسفك دما كما قال تعالى: )يا أيها الذين

آمنوا ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم( )وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما( سورة.95،96المائدة:

والحالة الثانية: حالة الحرم في مكة فقد جعلها اإلسالم منطقة سالم وأمن لكل كائن حي ينتقل في أرجائها، أو يطير في سمائها، أو ينبت في أرضها

فهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ال يصاد صيدها، وال يقطع شجرها،وال يختلى خالها.

)الطاولة(بالنرد اللعب

وكل لعب فيه قمار فهو حرام. والقمار كل ما ال يخلو الالعب فيه من ربح أوخسارة. وهو الميسر الذي قرنه القرآن بالخمر واألنصاب واألزالم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق".يعني أن مجرد الدعوة إلى المقامرة ذنب يوجب الكفارة بالتصدق.

ومن ذلك اللعب بالنرد )الزهر( إذا اقترن بقمار، فهو حرام اتفاقا.

وإن لم يقترن به فقال من العلماء: يحرم. وقال بعضهم: يكره وال يحرم. وحجة المحرمين ما رواه بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب

بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه".

وما رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقدعصى الله ورسوله".

Page 171: الحلال والحرام في الإسلام

والحديثان صريحان عامان في كل العب، قامر أم لم يقامر.

قال الشوكاني: روي أنه رخص في النرد ابن مغفل وابن المسيب على غيرقمار ويبدو أنهما حمال األحاديث على من لعب بقمار.

بالشطرنجاللعب

ومن ألوان اللهو المعروفة الشطرنج، وقد اختلف الفقهاء في حكمه بيناإلباحة والكراهة والتحريم.

واحتج المحرمون بأحاديث رووها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقاد الحديث وخبراءه ردوها وأبطلوها، وبينوا أن الشطرنج لم يظهر إال في زمن

الصحابة فكل ما ورد فيه من أحاديث باطل.

أما الصحابة رضي الله عنهم فاختلفوا في شأنه. قال ابن عمر: هو شر منالنرد وقال علي: هو من الميسر )ولعله يقصد: إذا اختلط به القمار(.

وروي عن بعضهم كراهيته فحسب.

كما روي عن بعض الصحابة والتابعين أنهم أباحوه. من هؤالء ابن عباس، وأبوهريرة وابن سيرين، وهشام بن عروة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير.

وهذا الذي ذهب إليه هؤالء األعالم هو الذي نراه، فاألصل -كما علمنا- اإلباحة، ولم يجيء نص على تحريمه. على أن فيه -فوق اللهو والتسلية- رياضة للذهن، وتدريبا للفكر، وهو لذلك يخالف النرد؛ ولذلك قالوا: إن المعول في النرد على

الحظ، فأشبه باألزالم، والمعول في الشطرنج على الحذق والتدبير، فأشبهالمسابقة بالسهام.

وقد اشترط من أباحه شروطا ثالثة:

أال تؤخر بسببه صالة عن وقتها، فإن أكبر خطورته في سرقة األوقات. .1أال يخالطه قمار. .2 أن يحفظ الالعب لسانه حال اللعب في الفحش والخنا ورديء الكالم..3

فإذا فرط في هذه الثالثة أو بعضها اتجه القول إلى التحريم.

والموسيقىالغناء

ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس، وتطرب له القلوب، وتنعم به اآلذان الغناء، وقد أباحه اإلسالم ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم،

وال بأس أن تصاحبه الموسيقى غير المثيرة.

ويستحب في المناسبات السارة، إشاعة للسرور، وترويحا للنفوس وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب، وفي وقت الوليمة، والعقيقة، وعند والدة

Page 172: الحلال والحرام في الإسلام

المولود.

فعن عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من األنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة "ما كان معهم من لهو؟ فإن األنصار يعجبهم

اللهو ".وقال ابن عباس: زوجت عائشة ذات قرابة لها من األنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم

معها من يغني؟ قالت: ال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن األنصارقوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم"؟.

وعن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى )في عيد األضحى( تغنيان تضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه،

فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال:"دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد".

وقد ذكر اإلمام الغزالي في كتاب )اإلحياء( أحاديث غناء الجاريتين، ولعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي لهم بقوله:

دونكم يا بني أرفدة. وقول النبي لعائشة تشتهين أن تنظري، ووقوفه معها حتى تمل هي وتسأم، ولعبها بالبنات مع صواحبها. ثم قال: فهذه األحاديث كلها في )الصحيحين(، وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام،

وفيها داللة على أنواع من الرخص:

األول: اللعب، وال يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب.

والثاني: فعل ذلك في المسجد.

والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: دونكم يا بني أرفدة، وهذا أمر باللعبوالتماس له فكيف يقدر كونه حراما؟

والرابع: منعه ألبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن اإلنكار والتعليل والتغييروتعليله بأنه يوم عيد أي هو وقت سرور، وهذا من أسباب السرور.

والخامس: وقوفه طويال في مشاهدة ذلك وسماعه لموافقة عائشة رضي الله عنها، وفيه دليل على أن حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والصبيان

بمشاهدة اللعب أحسن من خشونة الزهد والتقشف في االمتناع والمنع منه.

والسادس: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة ابتداء: أتشتهين أن تنظري؟

والسابع: الرخصة في الغناء، والضرب بالدف من الجاريتين.. الخ ما قالهالغزالي في كتاب السماع.

وقد روي عن كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم سمعوا الغناءولم يروا بسماعه بأسا.

أما ما ورد فيه من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه، قال القاضي أبو بكر بن العربي: لم يصح في

تحريم الغناء شيء. وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع.

وقد اقترن الغناء والموسيقى كثيرا بالترف ومجالس الخمر والسهر الحرام مما

Page 173: الحلال والحرام في الإسلام

جعل كثيرا من العلماء يحرمونه أو يكرهونه، وقال بعضهم: إن الغناء من "لهو الحديث" المذكور في قوله تعالى: )ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل.6عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين( سورة لقمان:

وقال ابن حزم: إن اآلية ذكرت صفة من فعلها كان كافرا بال خالف إذا اتخذ سبيل الله هزوا، ولو أنه اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوا

لكان كافرا، فهذا هو الذي ذم الله عز وجل، وما ذم سبحانه قط من اشترى لهوالحديث ليتلهى به ويروح نفسه ال ليضل عن سبيل الله.

ورد ابن حزم أيضا على الذين قالوا إن الغناء ليس من الحق فهو إذا من الضالل . قال: إن رسول الله صلى32قال تعالى: )فماذا بعد الحق إال الضالل( يونس:

الله عليه وسلم قال: "إنما األعمال بالنيات وإنما لكل أمرىء ما نوى" فمن نوى باستماع الغناء عونا على معصية الله فهو فاسق -وكذلك كل شيء غير الغناء-

ومن نوى ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة وال معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج اإلنسان إلى بستانه متنزها، وقعوده على

باب داره متفرجا، وصبغه ثوبه الزورديا أو أخضر أو غير ذلك".

على أن هناك قيودا ال بد أن نراعيها في أمر الغناء:

فال بد أن يكون موضوع الغناء مما ال يخالف أدب اإلسالم وتعاليمه، فإذا.1 كانت هناك أغنية تمجد الخمر أو تدعو إلى شربها مثال فإن أداءها حرام،

واالستماع إليها حرام وهكذا ما شابه ذلك. وربما كان الموضوع غير مناف لتوجيه اإلسالم، ولكن طريقة أداء المغني.2

له تنقله من دائرة الحل إلى دائرة الحرمة، وذلك بالتكسر والتميع وتعمداإلثارة للغرائز، واإلغراء بالفتن والشهوات.

كما أن الدين يحارب الغلو واإلسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما.3 بالك باإلسراف باللهو، وشغل الوقت به، والوقت هو الحياة؟!ال شك أن

اإلسراف في المباحات يأكل وقت الواجبات وقد قيل بحق: "ما رأيتإسرافا إال وبجانبه حق مضيع".

تبقى هناك أشياء يكون كل مستمع فيها مفتي نفسه، فإذا كان الغناء أو .4 لون خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويطغى فيه الجانب

الحيواني على الجانب الروحاني، فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد البابالذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه، فيستريح ويريح.

ومن المتفق عليه أن الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون.5 في مجلس شرب أو تخالطه خالعة أو فجور، فهذا هو الذي أنذر رسول

الله صلى الله عليه وسلم أهله وسامعيه بالعذاب الشديد حين قال: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على

رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم األرض ويجعل منهمالقردة والخنازير".

وليس بالزم أن يكون مسخ هؤالء مسخا للشكل والصورة، وإنما هو مسخالنفس والروح فيحملون في إرهاب اإلنسان نفس القرد وروح الخنزير.

قرين الخمرالقمار

Page 174: الحلال والحرام في الإسلام

واإلسالم الذي أباح للمسلم ألوانا من اللهو واللعب حرم كل لعب يخالطه قمار وهو ما ال يخلو لالعب فيه من ربح أو خسارة. وقد ذكرنا قبل ذلك قول الرسول

صلى الله عليه وسلم: "من قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق".

وال يحل لمسلم أن يجعل من لعب القمار )الميسر( وسيلته للهو والتسلية تمضية أوقات الفراغ، كما ال يحل له أن يتخذ منه وسيلة الكتساب المال، بحال

من األحوال.

ولإلسالم من وراء هذا التحريم الجازم حكم بالغة، وأهداف جليلة:

أنه يريد من المسلم أن يتبع سنن الله في اكتساب المال، وأن يطلب.1 النتائج من مقدماتها، ويأتي البيوت من أبوابها، وينتظر المسببات من

أسبابها.والقمار -ومنه اليانصيب- يجعل اإلنسان يعتمد على الحظ والصدفة واألماني الفارغة، ال على العمل والجد واحترام األسباب التي

وضعها الله، وأمر باتخاذها. واإلسالم يجعل مال اإلنسان حرمة فال يجوز أخذه منه، إال عن طريق.2

مبادلة مشروعة أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة. أما أخذه بالقمار،فهو من أكل المال بالباطل.

وال عجب بعد هذا، أن يورث العداوة والبغضاء بين الالعبين المتقامرين،.3 وإن أظهروا بألسنتهم أنهم راضون، فإنهم دائما بين غالب ومغلوب،

وغابن ومغبون. والمغلوب إذا سكت، سكت على غيظ وحنق، غيظ من خاب أمله، وحنق من خسرت صفقته، وإن خاصم خاصم فيما التزمه

بنفسه، واقتحم فيه بعضده. والخيبة تدفع المغلوب إلى المعاودة عسى أن يعوض في الثانية ما خسر.4

في األولى. والغالب تدفعه لذة الغلبة إلى التكرار، ويدعوه قليله إلى كثيره، وال يدعه حرصه ليقع،وعما قليل تكون الدائرة عليه، وينتقل من نشوة الظفر إلى غم اإلخفاق. وهكذا دواليك مما يربط كليهما بمنضدة

اللعب فال يكادان يفارقانها. وهذا هو السر في كارثة اإلدمان في العبيالميسر.

من أجل ذلك كانت هذه الهواية خطرا شديدا على المجتمع، كما هي خطر.5 على الفرد؛ إنها هواية تلتهم الوقت والجهد، وتجعل من المقامرين أناسا

عاطلين، يأخذون من الحياة وال يعطون، ويستهلكون وال ينتجون. والمقامر مشغول دائما بقماره عن واجبه نحو ربه، وواجبه نحو أسرته،

وواجبه نحو أمته.

وال يستبعد على من عشق )المائدة الخضراء( -كما يسمونها- أن يبيع من أجلها دينه وعرضه ووطنه، فإن صداقة هذه المائدة تنتزعه من الصداقة

ألي شيء، أو أي معنى آخر.

كما أنها تغرس فيه حب المقامرة بكل شيء. حتى بشرفه وعقيدتهوقومه، في سبيل كسب موهوم.

وما أصدق القرآن وأروعه حين جمع بين الخمر والميسر في آياته وأحكامه، فإن أضرارهما على الفرد واألسرة والوطن واألخالق متشابهة،

وما أشبه مدمن القمار بمدمن الخمر، بل قلما يوجد أحدهما دون اآلخر.

ما أصدق القرآن حين علمنا أنهما من عمل الشيطان، وقرنهما باألنصاب واألزالم، وجعلهما رجسا واجب االجتناب: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر

Page 175: الحلال والحرام في الإسلام

والميسر واألنصاب واألزالم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصالة، فهل أنتم منتهون( سورة

.90المائدة:

ضرب من القماراليانصيب

وما يسمى )باليانصيب( هو لون من ألوان القمار، وال ينبغي التساهل فيهوالترخيص به باسم )الجمعيات الخيرية( و)األغراض اإلنسانية(.

إن الذين يستبيحون اليانصيب لهذا، كالذين يجمعون التبرعات لمثل تلك األغراض بالرقص الحرام، و)الفن( الحرام. ونقول لهؤالء وهؤالء: "إن الله

طيب ال يقبل إال طيبا".

والذين يلجؤون إلى هذا األساليب يفترضون في المجتمع أن قد ماتت فيه نوازع الخير، وبواعث الرحمة، ومعاني البر، وال سبيل إلى جمع المال إال

بالقمار أو اللهو المحظور. واإلسالم ال يفترض هذا في مجتمعه، بل يؤمن بجانب الخير في اإلنسان، فال يتخذ إال الوسيلة الطاهرة للغاية الشريفة، تلك الوسيلة هي الدعوة إلى البر، واستثارة المعاني اإلنسانية، ودواعي اإليمان

بالله واآلخرة.

دخول السينما

ويتساءل كثير من المسلمين عن موقف اإلسالم من دور الخيالة )السينما( والمسرح وما شابهها. وهل يحل للمسلم ارتيادها أم يحرم عليه؟ وال شك أن )السينما( وما ماثلها أداة هامة من أدوات التوجيه والترفيه، وشأنها شأن كل

أداة فهي إما أن تستعمل في الخير أو تستعمل في الشر، فهي بذاتها ال بأسبها وال شيء فيها، والحكم في شأنها يكون بحسب ما تؤديه وتقوم به.

وهكذا نرى في السينما: هي حالل طيب، بل قد تستوجب وتطلب إذا توفرتلها الشروط اآلتية:

أوال: أن تتنزه موضوعاتها التي تعرض فيها عن المجون والفسق وكل ما ينافي عقائد اإلسالم وشرائعه وآدابه، فأما الروايات التي تثير الغرائز الدنيا أو تحرض

على اإلثم أو تغري بالجريمة أو تدعو ألفكار منحرفة، أو تروج لعقائد باطلة،إلى آخر ما نعرف، فهي حرام ال يحل للمسلم أن يشاهدها أو يشجعها.

ثانيا: أال تشغله عن واجب ديني أو دنيوي. وفي طليعة الواجبات الصلوات الخمس التي فرضها الله كل يوم على المسلم، فال يجوز للمسلم أن يضيع صالة مكتوبة -كصالة المغرب- من أجل رواية يشاهدها. قال تعالى: )فويل

. وفسر السهو4،5للمصلين الذين هم عن صالتهم ساهون( سورة الماعون: عنها بتأخيرها حتى يفوت وقتها. وقد جعل القرآن من جملة أسباب تحريم

Page 176: الحلال والحرام في الإسلام

الخمر والميسر أنها تصد عن ذكر الله وعن الصالة.

ثالثا: أن يتجنب مرتادها المالصقة واالختالط المثير بين الرجال والنساء األجنبيات منهم، منعا للفتنة، ودرءا للشبهة، وال سيما أن المشاهدة ال تتم إال

تحت ستار الظالم وقد مر بنا الحديث: "ألن يطعن في رأس أحدكم بمخيط منحديد خير له من أن يمس امرأة ال تحل له".

في العالقات االجتماعيةحرمة الدماءال يحل لمسلم أن يهجر مسلما

القاتل والمقتول في النارإصالح ذات البينحرمة دم المعاهد والذميال يسخر قوم من قوم

متى تسقط حرمة الدمال تلمزوا أنفسكمقتل اإلنسان نفسهال تنابزوا باأللقاب

حرمة األموالسوء الظنالرشوة حرامالتجسس

هدايا الرعية إلى الحكامالغيبةالرشوة لرفع الظلمحدود الرخصة في الغيبة

إسراف الفرد في ماله حرامالنميمةحرمة األعراض

أقام اإلسالم العالقة بين أبناء مجتمعه على دعامتين أصيلتين:

أوالهما: رعاية األخوة التي هي الرباط الوثيق بين بعضهم مع بعض.

والثانية: صيانة الحقوق والحرمات التي حماها اإلسالم لكل فرد منهم من دموعرض ومال.

وكل قول أو عمل أو سلوك فيه عدوان على هاتين الدعامتين أو خدش لهما، يحرمه اإلسالم تحريما يختلف في الدرجة حسب ما ينجم عنه من ضرر مادي أو

أدبي. وفي اآليات التالية نموذج من هذه المحرمات التي تضر باألخوة وحرمات

الناس. قال تعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم

ترحمون. يا أيها الذين آمنوا ال يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، وال نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، وال تلمزوا أنفسكم وال تنابزوا

باأللقاب بئس االسم الفسوق بعد اإليمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، وال تجسسوا وال

يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه؟ واتقوا الله.12-10إن الله تواب رحيم( سورة الحجرات:

قرر تعالى في أولى هذه اآليات أن المؤمنين إخوة تجمعهم أخوة الدين مع أخوة البشرية، ومقتضى األخوة أن يتعارفوا وال يتناكروا، ويتواصلوا وال

يتقاطعوا، ويتصافوا وال يتشاحنوا، ويتحابوا وال يتباغضوا، ويتحدوا وال يختلفوا.

Page 177: الحلال والحرام في الإسلام

وفي الحديث "ال تحاسدوا وال تدابروا، وال تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا".

 

لمسلم أن يهجر مسلماال يحل

ومن هنا حرم اإلسالم على المسلم أن يجفو أخاه المسلم، ويقاطعه، ويعرض عنه، ولم يرخص للمتشاحنين إال في ثالثة أيام حتى تهدأ ثائرتهما، ثم عليهما

أن يسعيا للصلح والصفاء واالستعالء على نوازع الكبر والغضب والخصومة،.54فمن الصفات الممدوحة في القرآن )أذلة على المؤمنين( سورة المائدة:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ال يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثالث، فإن مرت به ثالث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السالم فقد اشتركا في األجر،

وإن لم يرد عليه فقد باء باإلثم، وخرج المسلم من الهجرة".

وتتأكد حرمة القطيعة إذا كانت لذي رحم أوجب اإلسالم صلته، وأكد وجوبها ورعاية حرمتها. قال تعالى: )واتقوا الله الذي تساءلون به واألرحام إن الله كان

. وصور الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة1عليكم رقيبا( سورة النساء: ومبلغ قيمتها عند الله فقال: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله

الله ومن قطعني قطعه الله". وقال: "ال يدخل الجنة قاطع". فسره بعضالعلماء بقاطع الرحم، وفسره آخرون بقاطع الطريق فكأنهما بمنزلة واحدة.

وليست صلة الرحم الواجبة أن يكافئ القريب قريبه صلة بصلة وإحسانا بإحسان، فهذا أمر طبيعي مفروض إنما الواجب أن يصل ذوي رحمه وإن

هجروه. قال عليه السالم: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي قطعترحمه وصلها".

وهذا ما لم يكن ذلك الهجران، وتلك المقاطعة لله وفي الله وغضبا للحق؛ فإنأوثق عرى اإليمان الحب في الله والبغض في الله.

وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثالثة الذين خلفوا في غزوة تبوك خمسين يوما حتى ضاقت عليهم األرض بما رحبت وضاقت عليهم

أنفسهم، ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلمهم أو يحييهم حتى أنزل الله في كتابهتوبته عليهم.

وهجر النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه أربعين يوما.

وهجر عبد الله بن عمر ابنا له إلى أن مات، ألنه لم ينقد لحديث ذكره له أبوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى فيه الرجال أن يمنعوا النساء من

الذهاب إلى المساجد.

أما إذا كان الهجران والتشاحن لدنيا، فإن الدنيا ألهون على الله وعلى المسلم من أن تؤدي إلى التدابر وتقطيع األواصر بين المسلم وأخيه. كيف وعاقبة

التمادي في الشحناء حرمان من مغفرة الله ورحمته. وفي الحديث الصحيح: "تفتح أبواب الجنة يوم اإلثنين والخميس فيغفر الله عز وجل لكل عبد ال يشرك

بالله شيئا؛ إال رجال كان بينه وبين أخيه شحناء فقول: انظروا هذين حتىيصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا".

Page 178: الحلال والحرام في الإسلام

ومن كان صاحب حق فيكفي أن يجيئه أخوه معتذرا، وعليه أن يقبل اعتذاره وينهي الخصومة، ويحرم عليه أن يرده ويرفض اعتذاره. وينذر النبي صلى الله

عليه وسلم من فعل ذلك بأنه لن يرد عليه الحوض يوم القيامة.

ذات البينإصالح

وإذا كان على المتخاصمين أن يصفيا ما بينهما وفقا لمقتضى األخوة، فإن على المجتمع واجبا آخر؛ فإن المفهوم أن المجتمع اإلسالمي مجتمع متكامل

متعاون، فال يجوز له أن يرى بعض أبنائه يتخاصمون أو يتقاتلون، وهو يقفموقف المتفرج، تاركا النار تزداد اندالعا، والخرق يزداد اتساعا.

بل على ذوي الرأي والمقدرة أن يتدخلوا إلصالح ذات البين متجردين للحق، مبتعدين عن الهوى. كما قال تعالى: )فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم

.10ترحمون( الحجرات:

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه فضل هذا اإلصالح، وخطر الخصومة والشحناء فقال: "أال أدلكم على أفضل من درجة الصالة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصالح ذات البين، فإن فساد ذات

البين هي الحالقة، ال أقول: إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".

قوم من قومال يسخر

وقد حرم الله في اآليات التي ذكرناها جملة أشياء صان بها األخوة وما توجبهمن حرمة الناس.

وأول هذه األشياء السخرية بالناس.. فال يحل لمؤمن يعرف الله ويرجو الدار اآلخرة أن يسخر من أحد من الناس أو يجعل من بعض األشخاص موضع هزئه وسخريته وتندره ونكاته، ففي هذا كبر خفي وغرور مقنع، واحتقار لآلخرين، وجهل بموازين الخيرية عند الله. ولذا قال تعالى: )اليسخر قوم من قوم -أي

رجال من رجال- عسى أن يكونوا خيرا منهم، وال نساء من نساء عسى أن يكن . إن الخيرية عند الله تقوم على اإليمان واإلخالص11خيرا منهن( الحجرات:

وحسن الصلة بالله تعالى ال على الصور واألجسام وال على الجاه والمال. وفي الحديث: "إن الله ال ينظر إلى صوركم وال أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم

وأعمالكم". فهل يجوز أن يسخر من إنسان رجل أو امرأة، لعاهة في بدنه أو آفة في خلقته

أو فقر في ماله؟ وقد روي أن عبد الله بن مسعود انكشفت ساقه، وكانت دقيقة هزيلة، فضحك منها بعض الحاضرين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتضحكون من دقة

ساقه، والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد". وقد حكى القرآن عن مجرمي المشركين كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين

األخيار، وال سيما المستضعفين منهم كبالل وعمار، وكيف ستنقلب الموازين يوم الحساب فيصبح الساخرون موضع السخرية واالستهزاء: )إن الذي أجرموا

كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون. وإذا انقلبوا إلى

Page 179: الحلال والحرام في الإسلام

أهلهم انقلبوا فكهين. وإذا رأوهم قالوا إن هؤالء لضالون. وما أرسلوا عليهم.34-29حافظين. فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون( المطففين:

وقد نصت اآلية بصريح العبارة على النهي عن سخرية النساء مع أنها تفهم ضمنا، وتدخل تبعا، وذلك ألن سخرية النساء بعضهن من بعض من األخالق

الشائعة بينهن.

أنفسكمال تلمزوا

وثاني هذه المحرمات هو اللمز معناه في اللغة: الوخز والطعن، ومعناه هنا العيب؛ فكأن من يعيب الناس إنما يوجه إليهم وخزة بسيف أو طعنة

بل ربما كانت وخزة اللسان أشد وأنكى. وقد قيل:  حق؛ وهذا . برمح

جراحات السنان لها

التئام

وال يلتئم ماجرح اللسان

 

ولصيغة النهي في اآلية إيحاء جميل، فهي تقول: )وال تلمزوا أنفسكم( والمراد ال يلمز بعضكم بعضا، ولكن القرآن يعبر عن جماعة المؤمنين كأنهم نفس

واحدة، ألنهم جميعا متعاونون متكافلون، فمن لمز أخاه فإنما يلمز نفسه في  وله الحقيقة، ألنه منه

ال تنابزوا باأللقاب

ومن اللمز المحرم التنابز باأللقاب، وهو التنادي بما يسوء منها ويكره مما يحمل سخرية ولمزا،وال ينبغي إلنسان أن يسوء أخاه فيناديه بلقب يكرهه

ويتأذى منه، فهذا مدعاة لتغير النفوس، وعدوان على األخوة، ومنافاة لألدبالرفيع.  والذوق

الظنسوء 

واإلسالم يريد أن يقيم مجتمعه على صفاء النفوس، وتبادل الثقة، ال على الريب والشكوك، والتهم والظنون. ولهذا جاءت اآلية برابع هذه المحرمات التي صان بها اإلسالم حرمات الناس: )يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن

. وهذا الظن اآلثم هو ظن السوء. 12بعض الظن إثم( الحجرات:

فال يحل للمسلم أن يسيء ظنه بأخيه المسلم دون مسوغ وال بينة ناصعة.

Page 180: الحلال والحرام في الإسلام

إن األصل في الناس أنهم أبرياء. ووساوس الظن ال يصح أن تعرض ساحة البريء لالتهام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن فإن الظن

أكذب الحديث".

واإلنسان لضعفه البشري ال يسلم من خواطر الظن والشك في بعض الناس، وخصوصا فيمن ساءت بهم عالقته. ولكن عليه أال يستسلم لها، وال يسير

وراءها وهذا معنى ما ورد في الحديث: "إذا ظننت فال تحقق".

التجسس

إن عدم الثقة في اآلخرين يدفع إلى عمل قلبي باطن هو سوء الظن، وإلى عمل بدني ظاهر هو التجسس، واإلسالم يقيم مجتمعه على نظافة الظاهر

والباطن معا ولهذا قرن النهي عن التجسس بالنهي عن سوء الظن. وكثيرا ماكان هذا سببا لذاك.

إن للناس حرمة ال يجوز أن تهتك بالتجسس عليهم وتتبع عوراتهم، حتى وإنكانوا يرتكبون إثما خاصا بأنفسهم، ما داموا مستترين به غير مجاهرين.

عن أبي الهيثم كاتب عقبة بن عامر -أحد الصحابة- قال: قلت لعقبة بن عامر: إن لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط ليأخذوهم. قال: ال تفعل

وعظهم وهددهم قال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وأنا داع لهم الشرط ليأخذوهم. قال عقبة: ويحك ال تفعل؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: "من ستر عورة فكأنما استحيا موءودة في قبرها".

وقد جعل النبي عليه الصالة والسالم تتبع عورات الناس من خصال المنافقين الذين قالوا آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وحمل عليهم حملة عنيفة على

مأل الناس، فعن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض اإليمان

إلى قلبه. ال تؤذوا المسلمين، وال تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيهالمسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".

ومن أجل الحفاظ علىحرمات الناس حرم الرسول صلى الله عليه وسلم أشد التحريم أن يطلع أحد على قوم في بيتهم بغير إذنهم، وأهدر في ذلك ما يصيبه

من أصحاب البيت قال: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أنيفقؤوا عينه".

كما حرم أن يتسمع حديثهم بغير علم منهم وال رضا. قال: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه اآلنك يوم القيامة". واآلنك: الرصاص

المذاب.

وأوجب القرآن على كل من أراد أن يزور إنسانا في بيته أال يدخل حتى يستأذن ويسلم: )يا أيها الذين آمنوا ال تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. فإن لم تجدوا فيها أحدا فال تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون

.28-27عليم( سورة النور:

Page 181: الحلال والحرام في الإسلام

وفي الحديث: "أيما رجل كشف سترا فأدخل بصره قبل أن يؤذن له فقد أتىحدا ال يحل له أن يأتيه".

ونصوص النهي عن التجسس وتتبع العورات عامة تشمل الحكام والمحكومين معا وقد روى معاوية عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنك إن اتبعت

عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم".

وروى أبو أمامة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن األمير إذا ابتغى الريبة فيالناس أفسدهم".

الغيبة

وسادس ما نهت عنه اآليات التي مرت معنا هو: الغيبة )وال يغتب بعضكم بعضا(.12الحجرات:

وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحدد مفهومها ألصحابه على طريقته في التعليم بالسؤال والجواب، فقال لهم: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي

ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقدبهته".

وما يكرهه اإلنسان يتناول خلقه وخلقه ونسبه وكل ما يخصه. وعن عائشة قالت: قلت للنبي حسبك من صفية )زوج النبي( كذا وكذا -تعني أنها قصيرة-

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحرلمزجته".

إن الغيبة هي شهوة الهدم لآلخرين، هي شهوة النهش في أعراض الناس وكراماتهم وحرماتهم وهم غائبون. إنها دليل على الخسة والجبن، ألنها طعن من الخلف، وهي مظهر من مظاهر السلبية، فإن االغتياب جهد من ال جهد له.

وهي معول من معاول الهدم، ألن هواة الغيبة، قلما يسلم من ألسنتهم أحدبغير طعن وال تجريح.

فال عجب إذا صورها القرآن في صورة منفرة تتقزز منها النفوس، وتنبو عنها األذواق: )وال يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا

. واإلنسان يأنف أن يأكل لحم أي إنسان، فكيف إذا12فكرهتموه( الحجرات:كان لحم أخيه؟ وكيف إذا كان ميتا؟ !

وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا التصوير القرآني في األذهان،ويثبته في القلوب كلما الحت فرصة لهذا التأكيد والتثبيت.

قال ابن مسعود: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل )أي غاب عن المجلس( فوقع فيه رجل من بعده. فقال النبي لهذا الرجل: "تخلل" فقال:

ومم أتخلل؟ ما أكلت لحما. قال: "إنك أكلت لحم أخيك".

وعن جابر قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون

Page 182: الحلال والحرام في الإسلام

المؤمنين".

في الغيبةحدود الرخصة

كل هذه النصوص تدلنا على قداسة الحرمة الشخصية للفرد في اإلسالم.

ولكن هناك صور استثناها علماء اإلسالم من الغيبة المحرمة، وهي استثناء يجباالقتصار فيه على قدر الضرورة.

ومن ذلك المظلوم الذي يشكو ظالمه، ويتظلم منه فيذكره بما يسوؤه مما هو فيه حقا، فقد رخص له في التظلم والشكوى قال الله تعالى: )ال يحب الله

الجهر بالسوء من القول إال من ظلم وكان الله سميعا عليما( سورة النساء:148.

وقد يسأل سائل عن شخص معين، ليشاركه في تجارة أو يزوجه ابنته أو يوليه من قبله عمال هاما، وهنا تعارض واجب النصيحة في الدين وواجب صيانة عرض الغائب، ولكن الواجب األول أهم وأقدس فقدم على غيره. وقد أخبرت فاطمة بنت قيس النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنين تقدما لخطبتها فقال لها عن

أحدهما: "إنه صعلوك ال مال له" وقال عن اآلخر: "إنه ال يضع عصاه عن عاتقه"-يعني أنه كثير الضرب للنساء-.

ومن ذلك االستفتاء.

واالستعانة على تغيير المنكر.

ومن ذلك أن يكون للشخص اسم أو لقب أو وصف يكرهه ولكنه لم يشتهر إال بهكاألعرج واألعمش وابن فالنة.

ومن ذلك تجريح الشهود ورواة األحاديث واألخبار.

- والنية.2- الحاجة 1والضابط العام في إباحة هذه الصور أمران :

فما لم تكن هناك حاجة ماسة إلى ذكر غائب بما يكره، فليس له أن يقتحم هذا الحمى المحرم، وإذا كانت الحاجة تزول بالتلميح فال ينبغي أن يلجأ إلى

التصريح، أو التعميم فال يذهب إلى التخصيص. فالمستفتي مثال إذا أمكن أن يقول: ما قولك في رجل يصنع كذا وكذا. فال ينبغي أن يقول: ما قولك في

فالن ابن فالن. وكل هذا بشرط أال يذكر شيئا غير ما فيه وإال كان بهتانا حراما.

والنية وراء هذا كله فيصل حاسم، واإلنسان أدرى بحقيقة بواعثه من غيره، النية هي التي تفصل بين التظلم والتشفي، بين االستفتاء والتشنيع، بين

الغيبة والنقد، بين النصيحة والتشهير. والمؤمن -كما قيل- أشد حسابا لنفسهمن سلطان غاشم، ومن شريك شحيح.

لم تكن له هذه المهمة، ولم يستطع رد هذه األلسنة المفترسة عن عرض أخيه، فأقل ما يجب عليه أن يعتزل هذا المجلس ويعرض عن القوم حتى يخوضوا في

Page 183: الحلال والحرام في الإسلام

.140حديث غيره وإال فما أجدره بقول الله )إنكم إذا مثلهم( سورة النساء:

النميمة

وإذا ذكرت الغيبة في اإلسالم ذكر بجوارها خصلة تقترن بها حرمها اإلسالم كذلك أشد الحرمة، تلك هي النميمة. وهي نقل ما يسمعه اإلنسان عن شخص

إلى ذلك الشخص على وجه يوقع بين الناس، ويكدر صفو العالئق بينهم أويزيدها كدرا.

وقد نزل القرآن بذم هذه الرذيلة منذ أوائل العهد المكي إذ قال: )وال تطع كل.11-10حالف مهين. هماز -طعان في الناس- مشاء بنميم( سورة القلم:

وقال عليه الصالة والسالم: "ال يدخل الجنة قتات" والقتات هو النمام وقيل النمام: هو الذي يكون مع جماعة يتحدثون حديثا فينم عليهم. والقتات: هو الذي

يتسمع عليهم وهم ال يعلمون ثم ينم.

وقال: "شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين األحبة الباغونللبرآء العيب".

إن اإلسالم، في سبيل تصفية الخصومة وإصالح ذات البين يبيح للمصلح أن يخفي ما يعلم من كالم يسيء قاله أحدهما عن اآلخر، ويزيد من عنده كالما طيبا لم يسمعه من أحدهما في شأن اآلخر وفي الحديث:"ليس بكذاب من

أصلح بين اثنين فقال خيرا أو أنمى خيرا".

ويغضب اإلسالم أشد الغضب على أولئك الذين يسمعون كلمة السوء فيبادرونبنقلها تزلفا أو كيدا، أو حبا في الهدم واإلفساد.

ومثل هؤالء ال يقفون عندما سمعوا، إن شهوة الهدم عندهم تدفعهم إلى أنيزيدوا على ما سمعوا، ويختلقوا إن لم يسمعوا.

إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعواشرا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا

دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فذكر له عن آخر شيئا بكرهه. فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه اآلية: )إن جاءكم

فاسق بنبأ فتبينوا( وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه اآلية: )هماز مشاءبنميم( وإن شئت عفونا عنك. قال: العفو يا أمير المؤمنين، ال أعود إليه أبدا.

األعراضحرمة

لقد رأينا كيف صان اإلسالم بتعاليمه األعراض والكرامات، بل كيف وصل برعاية الحرمات للناس إلى حد التقديس. وقد نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنه يوما في الكعبة فقال: "ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة

Page 184: الحلال والحرام في الإسلام

منك!!" وحرمة المؤمن تتمثل في حرمة عرضه ودمه وماله.

وفي حجة الوداع خطب النبي صلى الله عليه وسلم في جموع المسلمين فقال: "إن أموالكم وأعراضكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في

شهركم هذا في بلدكم هذا ".

وقد حفظ اإلسالم عرض الفرد من الكلمة التي يكرهها تذكر في غيبته وهي صدق، فكيف إذا كان الكالم افتراء ال أصل له؟ إنها حينئذ تكون حوبا كبيرا،

وإثما عظيما. وفي الحديث "من ذكر أمرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به، حبسه اللهفي نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه".

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألصحابه: "تدرون أربى الربا عند الله؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن أربى الربا عند الله استحالل

عرض امرئ مسلم". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: )والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا( سورة

.58األحزاب:

وأشد هذا اللون من االعتداء على األعراض، هو رمي المؤمنات العفيفات بالفاحشة لما فيه من ضرر بالغ بسمعتهن وسمعة أسرهن وخطر على

مستقبلهن، فضال عما فيه من حب إشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن.

ولذا عده الرسول من الكبائر السبع الموبقات، وأوعد القرآن عليه بأشد أنواعالوعيد.

)إن الذين يرمون المحصنات الغافالت المؤمنات لعنوا في الدنيا واآلخرة ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

.25-23يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين( النور:

وقال: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في.19الدنيا واآلخرة والله يعلم وأنتم ال تعلمون( النور:

الدماءحرمة

قدس اإلسالم الحياة البشرية، وصان حرمة النفوس، وجعل االعتداء عليها أكبر الجرائم عند الله، بعد الكفر به تعالى. وقرر القرآن: )أنه من قتل نفسا بغير

.32نفس أو فساد في األرض فكأنما قتل الناس جميعا( المائدة:

ذلك أن النوع اإلنساني كله أسرة واحدة، والعدوان على نفس من أنفسه هوفي الحقيقة عدوان على النوع، وتجرؤ عليه.

وتشتد الحرمة إذا كان المقتول مؤمنا بالله: )ومن يقتل مؤمنا متعمدا جزاؤهجهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما( سورة النساء:

93.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل

Page 185: الحلال والحرام في الإسلام

رجل مسلم".

ويقول: "ال يزال المؤمن في فسحة من دينهما لم يصب دما حراما".

ويقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إال الرجل يموت مشركا، أو الرجل يقتلمؤمنا متعمدا".

ولهذه اآليات واألحاديث رأى ابن عباس رضي الله عنهما أن توبة القاتل ال تقبل، وكأنه رأى أن من شرط التوبة أال تقبل إال برد الحقوق إلى أهلها أو

استرضائهم، فكيف السبيل إلى رد حق المقتول إليه أو استرضائه؟.

وقال غيره: إن التوبة النصوح مقبولة، وإنها تمحو الشرك فكيف ما دونه؟

وقال تعالى: )والذين ال يدعون مع الله إلها آخر وال يقتلون النفس التي حرم الله إال بالحق وال يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم

القيامة ويخلد فيه مهانا. إال من تاب وآمن وعمل عمال صالحا فأولئك يبدل الله.70-68سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما( سورة الفرقان:

في الناروالمقتول القاتل

وعد النبي صلى الله عليه وسلم قتال المسلم بابا من الكفر، وعمال من أعمال الجاهلية الذين كانوا يشنون الحرب ويريقون الدماء من أجل ناقة أو فرس.

قال عليه السالم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".

"ال ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".

"إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السالح فهما على حرف جهنم؛ فإذا قتل أحدهما صاحبه دخالها جميعا". قيل: يا رسول الله. هذا القاتل، فما بالك

بالمقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه؟".

ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل عمل يؤدي إلى القتل أو القتال ولو كان إشارة بالسالح:" ال يشر أحدكم إلى أخيه بالسالح، فإنه ال

يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار".

"من أشار إلى أخيه بحديدة فإن المالئكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه ألبيه وأمه". بل قال عليه السالم: "ال يحل لمسلم أن يروع مسلما". أي يخيفه

ويفزعه.

وال يقف اإلثم عند حد القاتل وحده، بل كل من شاركه بقول أو فعل، يصيبه من سخط الله بقدر مشاركته، حتى من حضر القتل يناله نصيب من اإلثم، ففي

الحديث: "ال يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما؟ فإن اللعنة تنزل علىمن حضره ولم يدفع عنه".

Page 186: الحلال والحرام في الإسلام

المعاهد والذميحرمة دم

وإنما عنيت النصوص بالتحذير من قتل المسلم وقتاله، ألنها جاءت تشريعا وإرشادا لمسلمين في مجتمع إسالمي، وليس معنى هذا أن غير المسلم دمه

حالل، فإن النفس البشرية معصومة الدم حرمها الله وصانها بحكم بشريتها، ما لم يكن غير المسلم محاربا للمسلمين، فعند ذلك قد أحل هو دمه. أما إذا كان معاهدا أو ذميا فإن دمه مصون ال يحل لمسلم االعتداء عليه. وفي ذلك يقول نبي اإلسالم: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة )أي لم يشمها( وإن ريحها

يوجد من مسيرة أربعين عاما".

وفي رواية: "من قتل رجال من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة".

حرمة الدمتسقط متى

وهذا الحق151قال تعالى: )وال تقتلوا النفس التي حرم الله إال بالحق( األنعام:الذي ذكره القرآن أن يكون جزاء على جريمة من ثالث:

القتل ظلما؛ فمن ثبت عليه جريمة القتل وجب عليه القصاص نفسا بنفس،والشر بالشر يحسم والبادئ أظلم: )ولكم في القصاص حياة( سورة البقرة:

179.

المجاهرة بارتكاب فاحشة الزنى بحيث يراه أربعة من خيار الناس رؤية عيانية وهو يرتكبها، ويشهدون عليه بذلك، بشرط أن يكون قد عرف طريق الحاللبالزواج. ويقوم مقام الشهادة أن يقر على نفسه أمام الحاكم أربع مرات.

الخروج على دين اإلسالم بعد الدخول فيه، والمجاهرة بهذا الخروج تحديا للجماعة اإلسالمية. واإلسالم ال يكره أحدا على الدخول فيه، ولكنه يرفض

التالعب بالدين، شأن اليهود الذين قالوا: )آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا. 72وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون( سورة آل عمران:

وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم استباحة الدم المحرم في هذه الثالثة فقال: "ال يحل دم امرئ مسلم إال بإحدى ثالث: النفس بالنفس، والثيب الزاني،

والتارك لدينه المفارق للجماعة".

ولكن حق استباحة الدم بإحدى هذه الثالث إنما يستوفيه ولي األمر وليس لألفراد أن يستوفوه بأنفسهم حتى ال يضطرب األمن، وتسود الفوضى، ويجعل كل فرد من نفسه قاضيا ومنفذا؛ إال في حالة القتل العمد العدوان الذي يوجب القصاص، فإن اإلسالم أباح ألولياء المقتول أن يستوفوا القصاص بأيديهم في

حضرة ولي األمر، شفاء لصدورهم، وإطفاء لكل رغبة في الثأر عندهم، وامتثاال لقوله تعالى: )ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فال يسرف في القتل

.33إنه كان منصورا( سورة اإلسراء:

Page 187: الحلال والحرام في الإسلام

نفسهقتل اإلنسان

وكل ما ورد في جريمة القتل يشمل قتل اإلنسان لنفسه كما يشمل قتله لغيره، فمن قتل نفسه بأي وسيلة من الوسائل، فقد قتل نفسا حرم الله

قتلها بغير حق.

وحياة اإلنسان ليست ملكا له فهو لم يخلق نفسه، وال عضوا من أعضائه أو خلية من خالياه، وإنما نفسه وديعة عنده استودعه الله إياها، فال يجوز له

التفريط فيها، فكيف باالعتداء عليها؟ فكيف بالتخلص منها؟ قال تعالى: )وال.29تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما( سورة النساء:

إن اإلسالم يريد من المسلم أن يكون صلب العود قوي العزم في مواجهة الشدائد، ولم يبح له بحال أن يفر من الحياة، ويخلع ثوبها، لبالء نزل به، أو أمل

كان يحلم به فخاب، فإن المؤمن خلق للجهاد ال للقعود، وللكفاح ال للفرار، وإيمانه وخلقه يأبيان عليه أن يفر من ميدان الحياة، ومعه السالح الذي ال يفل،

والذخيرة التي ال تنفذ؛ سالح اإليمان المكين وذخيرة الخلق المتين.

لقد أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم من يقدم على هذه الجريمة البشعة - جريمة االنتحار- بحرمانه من رحمة الله في الجنة، واستحقاق غضب الله في

النار.

قال صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا فحزبها يده، فما رقأ الدم حتى مات. فقال الله: "بادرني عبدي بنفسه،

فحرمت عليه الجنة".

فإذا كان هذا حرمت عليه الجنة من أجل جراحة لم يحتمل ألمها فقتل نفسه. فكيف بمن يقتل نفسه من أجل صفقة يخسر فيها قليال أو كثيرا، أو من أجل

امتحان يفشل فيه أو فتاة صدت عنه؟ !

أال فليسمع ضعاف العزائم هذا الوعيد الذي جاء به الحديث النبوي يبرق ويرعد: "من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا

فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في

نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".

 األموالحرمة

.الحرج على المسلم في أن يجمع من المال ما شاء، ما دام يجمعه من10 حله، وينميه بالوسائل المشروعة.

وإذا كان في بعض األديان "أن الغني ال يدخل ملكوت السموات حتى يدخلالجمل سم الخياط". فإن اإلسالم يقول: "نعم المال الصالح للرجل الصالح".

وما دام اإلسالم يقر ملكية الفرد المشروعة للمال، فإنه يحميها بتشريعه القانوني، وتوجيهه األخالقي أن تعدو عليها يد العادين غصبا أو سرقة أو

Page 188: الحلال والحرام في الإسلام

احتياال.

وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين حرمة المال وحرمة الدم والعرض في سياق واحد، وجعل السرقة منافية لما يوجبه اإليمان، فقال: "ال يسرق السارق

حين يسرق وهو مؤمن".

وقال تعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكاال من الله.38والله عزيز حكيم( سورة المائدة:

وقال صلى الله عليه وسلم: "ال يحل لمسلم أن يأخذ عصا بغير طيب نفسمنه".قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم.

وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا ال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إال أن تكون.29تجارة عن تراض منكم( سورة النساء:

حرامالرشوة

ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ الرشوة، وهي ما يدفع من مال إلى ذي سلطان أو وظيفة عامة، ليحكم له أو على خصمه بما يريد هو أو ينجز له عمال

أو يؤخر لغريمه عمال، وهلم جرا.

وقد حرم اإلسالم على المسلم أن يسلك طريق الرشوة للحكام وأعوانهم، كما حرم على هؤالء أن يقبلوها إذا بذلت لهم. وحظر على غيرهم أن يتوسطوا بين

اآلخذين والدافعين.

قال تعالى: )وال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا.188فريقا من أموال الناس باإلثم وأنتم تعلمون( سورة البقرة:

وقال صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم".

وعن ثوبان قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراشي والمرتشيوالرائش". والرائش: هو الوسيط بين الراشي والمرتشي.

وإذا كان آخذ الرشوة قد أخذها ليظلم فما أشد جرمه. وإن كان سيتحرى العدلفذلك واجب عليه ال يؤخذ في مقابله مال.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى اليهود ليقدر ما يجب عليهم في تخليهم من خراج، فعرضوا عليه شيئا من المال يبذلونه له،

فقال لهم: "فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنا ال نأكلها".

وال غرابة في تحريم اإلسالم للرشوة، وتشديده على كل من اشترك فيها، فإن شيوعها في مجتمع شيوع للفساد والظلم، من حكم بغير الحق أو امتناع عن

الحكم بالحق، وتقديم من يستحق التأخير، وتأخير من يستحق التقديم، وشيوعروح النفعية في المجتمع ال روح الواجب.

Page 189: الحلال والحرام في الإسلام

إلى الحكامهدايا الرعية

واإلسالم يحرم الرشوة في أي صورة كانت، وبأي اسم سميت، فتسميتها باسم)الهدية( ال يخرجها من دائرة الحرام إلى الحالل.

وفي الحديث: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا )منحناه راتبا( فما أخذهبعد ذلك فهو غلول".

وأهدي إلى عمر بن عبد العزيز هدية -وهو خليفة- فردها، فقيل له: كان رسولالله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية. قال: كان ذلك له هدية وله لنا رشوة.

وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم واليا يجمع صدقات )األزد( -قبيلة- فلما جاء إلى الرسول أمسك بعض ما معه وقال: هذا لكم وهذا لي هدية، فغضب النبي وقال: أال جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت

صادقا؟

ثم قال:مالي أستعمل الرجل منكم فيقول: هذا لكم وهذا لي هدية؟ أال جلس في بيت أمه ليهدي له. والذي نفسه بيده، ال يأخذ أحد منكم شيئا بغير حق إال

أتى الله يحمله -يعني يوم القيامة- فال يأتين أحدكم يوم القيامة ببعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال:

"اللهم هل بلغت؟".

وقال اإلمام الغزالي: "إذا ثبتت هذه التشديدات فالقاضي والوالي -ومن في حكمهما- ينبغي أن يقدر نفسه في بيت أمه وأبيه، فما كان يعطى بعد العزل

وهو في بيت أمه يجوز له أن يأخذه في واليته، وما يعلم أنه يعطاه لواليته فحرام أخذه، وما أشكل عليه من هدايا أصدقائه أنهم هل كانوا يعطونه لو كان

معزوال؟ فهو شبهة فليجتنبه".

لرفع الظلمالرشوة

ومن كان له حق مضيع لم يجد طريقة للوصول إليه إال بالرشوة أو وقع عليه ظلم لم يستطع دفعه عنه إال بالرشوة، فاألفضل له أن يصبر حتى ييسر الله له

أفضل السبل لرفع الظلم، ونيل الحق.

فإن سلك سبيل الرشوة من أجل ذلك فاإلثم على اآلخذ المرتشي وليس عليه إثم الراشي في هذه الحالة ما دام قد جرب كل الوسائل األخرى فلم تأت

بجدوى، وما دام يرفع عن نفسه ظلما أو يأخذ حقا له دون عدوان على حقوقاآلخرين.

وقد استدل بعض العلماء على ذلك بأحاديث الملحفين الذين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة فيعطيهم وهم ال يستحقون، فعن عمر

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم ليخرج بصدقته من عندي متأبطها -يحملها تحت إبطه- وإنما هي له نار. قال عمر: يا رسول الله كيف

Page 190: الحلال والحرام في الإسلام

تعطيه وقد علمت أنها له نار؟

قال: "فما أصنع؟ يأبون إال مسألتي ويأبى الله عز وجل لي البخل".

فإذا كان ضغط اإللحاح جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي السائل مايعلم أنه نار على آخذه، فكيف ضغط الحاجة إلى دفع ظلم أو أخذ حق مهدر؟!

الفرد في ماله حرامإسراف

وإذا كان لمال الغير حرمة تمنع من التعدي عليه خفية أو جهارا. فإن لمال اإلنسان نفسه حرمة أيضا بالنسبة لصاحبه تمنعه أن يضيعه، أو يسرف فيه، أو

يبعثره ذات اليمين وذات الشمال.

ذلك أن لألمة حقا في مال األشخاص، وهي مالكة وراء كل مالك، ولذلك جعل اإلسالم لألمة الحق في الحجر على السفيه المتالف في ماله، ألنها صاحبة حق

فيه. وفي ذلك يقول القرآن: )وال تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم.5قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قوال معروفا( سورة النساء:

فهنا يخاطب الله األمة بقوله: )وال تؤتوا السفهاء أموالكم( مع أنها في ظاهراألمر أموالهم. ولكن مال كل فرد في الحقيقة هو مال ألمته جمعاء.

إن اإلسالم دين القسط واالعتدال. وأمة اإلسالم أمة وسط. والمسلم عدل في كل أموره، ومن هنا نهى الله المؤمنين عن اإلسراف والتبذير، كما نهاهم عن

الشح والتقتير. قال تعالى: )يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا.31واشربوا وال تسرفوا إنه ال يحب المسرفين( سورة األعراف:

واإلسراف إنما يكون باإلنفاق فيما حرم الله كالخمر والمخدرات وأواني الذهبوالفضة ونحوها، قل القدر المنفق أو كثر.

أو يكون بإضاعة المال بإتالفه على نفسه وعلى الناس. وقد نهى الرسولصلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.

أو بالتوسع في اإلنفاق فيما ال يحتاج إليه، مما ال يبقى للمنفق بعده غنىيغنيه.

قال اإلمام الرازي في تفسير قوله تعالى: )ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل . "إن الله تعالى أدب الناس في اإلنفاق فقال لنبيه عليه219العفو( البقرة:

الصالة والسالم: )وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وال تبذر تبذيرا . وقال: )وال تجعل يدك مغلولة26إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين( اإلسراء:

. وقال: )والذين إذا29إلى عنقك وال تبسطها كل البسط( سورة اإلسراء: . وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا67انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا( الفرقان:

كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول وهكذا وهكذا".وقال عليه الصالة والسالم: "خير الصدقة ما أبقت غنى" وعن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب

فقال: يا رسول الله خذها صدقة، فوالله ال أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من بين يديه فقال: )هاتها( مغضبا فأخذها

Page 191: الحلال والحرام في الإسلام

منه، ثم حذفه بها بحيث لو أصابته ألوجتعه، ثم قال: "يأتيني أحدكم بماله ال يملك غيره ثم يجلس يتكفف الناس. إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذها ال حاجة

لنا فيها".وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن كان يحبس ألهله قوت سنة. وقال الحكماء: الفضيلة بين طرفي اإلفراط والتفريط. فاإلنفاق الكثير هو

التبذير، والتقليل جدا هو التقتير، والعدل هو الفضيلة، وهو المراد من قوله تعالى: )قل العفو( ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه

الدقيقة. فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المساهلة التامة، وشرع محمد صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه

األمور. فلذلك كان أكمل من الكل".

عالقة المسلم بغير المسلماستعانة المسلم بغير المسلمنظرة خاصة ألهل الكتاب

اإلسالم رحمة عامة حتى على الحيوانأهل الذمةمواالة غير المسلمين ومعناها

إذا أردنا أن نجمل تعليمات اإلسالم في معاملة المخالفين له -في ضوء ما يحل وما يحرم- فحسبنا آيتان من كتاب الله، جديرتان أن تكونا دستورا جامعا في

هذا الشأن. وهما قوله تعالى: )ال ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.

إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهرواعلى إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون( سورة الممتحنة:

8،9.

فاآلية األولى لم ترغب في العدل واإلقساط فحسب إلى غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم -أي أولئك الذين ال

حرب وال عداوة بينهم وبين المسلمين- بل رغبت اآلية في برهم واإلحسان إليهم. والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسع فيه، فهو أمر فوق العدل.

وهي الكلمة التي يعبر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم، وذلكهو )بر( الوالدين.

وإنما قلنا: إن اآلية رغبت في ذلك لقوله تعالى: )إن الله يحب المقسطين( والمؤمن يسعى دائما إلى تحقيق ما يحبه الله. وال ينفي معنى الترغيب

والطلب في اآلية أنها جاءت بلفظ )ال ينهاكم الله( فهذا التعبير قصد به نفي ما كان عالقا باألذهان -وما يزال- أن المخالف في الدين ال يستحق برا وال قسطا،

وال مودة وال حسن عشرة. فبين الله تعالى أنه ال ينهى المؤمنين عن ذلك معكل المخالفين لهم، بل مع المحاربين لهم، العادين عليهم.

ويشبه هذا التعبير قوله تعالى في شأن الصفا والمروة -لما تحرج بعض الناس من الطواف بهما لبعض مالبسات كانت في الجاهلية-: )فمن حج البيت أو

اعتمر فال جناح عليه أن يطوف بهما( فنفى الجناح إلزالة ذلك الوهم، وإن كانالطواف بهما واجبا، من شعائر الحج.

 

خاصة ألهل الكتابنظرة

Page 192: الحلال والحرام في الإسلام

وإذا كان اإلسالم ال ينهى عن البر واإلقساط إلى مخالفيه من أي دين، ولو كانوا وثنين مشركين -كمشركي العرب الذين نزلت في شأنهم اآليتان

السالفتان- فإن اإلسالم ينظر نظرة خاصة ألهل الكتاب من اليهود والنصارى.سواء أكانوا في دار اإلسالم أم خارجها.

فالقرآن ال يناديهم إال بـ )يا أهل الكتاب( و)يا أيها الذين أوتوا الكتاب( يشير بهذا إلى أنهم في األصل أهل دين سماوي، فبينهم وبين المسلمين رحم

وقربى، تتمثل في أصول الدين الواحد الذي بعث الله به أنبياءه جميعا: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم

.13وموسى وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه( سورة الشورى:

والمسلمون مطالبون باإليمان بكتب الله قاطبة، ورسل الله جميعا، ال يتحقق إيمانهم إال بهذا: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم

وإسماعيل وإسحاق ويعقوب واألسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتيالنبيون من ربهم ال نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون( سورة البقرة:

136.

وأهل الكتاب إذا قرؤوا القرآن يجدون الثناء على كتبهم ورسلهم وأنبيائهم.

وإذا جادل المسلمون أهل الكتاب فليتجنبوا المراء الذي يوغر الصدور، ويثير العداوات: )وال تجادلوا أهل الكتاب إال بالتي هي أحسن إال الذين ظلموا منهم

وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له.46مسلمون( سورة العنكبوت:

وقد رأينا كيف أباح اإلسالم مؤاكلة أهل الكتاب وتناول ذبائحهم. كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم مع ما في الزواج من سكن ومودة ورحمة.

وفي هذا قال تعالى: )وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم( سورة

.5المائدة:

هذا في أهل الكتاب عامة. أما النصارى منهم خاصة، فقد وضعهم القرآن موضعا قريبا من قلوب المسلمين فقال: )ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسسين ورهبانا وأنهم ال يستكبرون(

.82سورة المائدة:

الذمةأهل

وهذه الوصايا المذكورة تشمل جميع أهل الكتاب حيث كانوا، غير أن المقيمين في ظل دولة اإلسالم منهم لهم وضع خاص، وهم الذين يسمون في اصطالح

المسلمين باسم )أهل الذمة( والذمة معناها: العهد. وهي كلمة توحي بأن لهم عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين أن يعيشوا في ظل اإلسالم

آمنين مطمئنين.

وهؤالء بالتعبير الحديث )مواطنون( في الدولة اإلسالمية، أجمع المسلمون منذ العصر األول إلى اليوم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، إال ما هو من

Page 193: الحلال والحرام في الإسلام

شؤون الدين والعقيدة، فإن اإلسالم يتركهم وما يدينون.

وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بأهل الذمة وتوعد كل مخالف لهذه الوصايا بسخط الله وعذابه، فجاء في أحاديثه الكريمة: "من آذى ذميا فقد

آذاني ومن آذاني فقد آذى الله"."من آذى ذميا فأنا خصمه ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة"."من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته،

أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة".

وقد جرى خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الحقوق والحرمات لهؤالء المواطنين من غير المسلمين. وأكد فقهاء اإلسالم على

اختالف مذاهبهم هذه الحقوق والحرمات.

قال الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي: "إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا؛ ألنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله

عليه وسلم ودين اإلسالم فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع األذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله

وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين اإلسالم".

وقال ابن حزم الفقيه الظاهري: "إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بالدنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسالح ونموت دون ذلك

صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنتسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".

غير المسلمين ومعناهامواالة

ولعل سؤاال يجول في بعض الخواطر، أو يتردد على بعض األلسنة، وهو:

كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين، والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم أولياء وحلفاء في مثل قوله: )يا أيها الذين

آمنوا ال تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله ال يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض

.51،52يسارعون فيهم( سورة المائدة:

والجواب: إن هذه اآليات ليست على إطالقها، وال تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر. ولو فهمت هكذا لناقضت اآليات والنصوص األخرى، التي شرعت موادة

أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا، والتي أباحت مصاهرة أهل الكتاب، واتخاذ زوجة كتابية مع قوله تعالى في الزوجية وآثارها: )وجعل بينكم مودة

. وقال تعالى في النصارى: )ولتجدن أقربهم مودة21ورحمة( سورة الروم:.82للذين آمنوا. الذين قالوا: إنا نصارى( سورة المائدة:

إنما جاءت تلك اآليات في قوم معادين لإلسالم، محاربين للمسلمين، فال يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم ومظاهرتهم -وهو معنى المواالة- واتخاذهم بطانة يفضي إليهم باألسرار، وحلفاء يتقرب إليهم على حساب جماعته وملته؛ وقد

وضحت ذلك آيات أخر كقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا بطانة من دونكم ال يألونكم خباال، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم اآليات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أوالء تحبونهم وال

Page 194: الحلال والحرام في الإسلام

.118،119يحبونكم !!( سورة آل عمران:

فهذه اآلية تبين لنا صفات هؤالء، وأنهم يكنون العداوة والكراهية للمسلمينفي قلوبهم، وقد فاضت آثارها على ألسنتهم.

وقال تعالى: )وال تجد قوما يؤمنون بالله واليوم اآلخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم( سورة المجادلة: اآلية األخيرة. ومحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، وإنما هي مناصبة العداء

لإلسالم والمسلمين.

وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم، أن تؤمنوا

بالله ربكم( أول سورة الممتحنة. فهذه اآلية نزلت في مواالة مشركي مكة الذي حاربوا الله ورسوله، وأخرجوا المسلمين من ديارهم بغير حق إلى أن

يقولوا: ربنا الله. فمثل هؤالء هم الذين ال تجوز مواالتهم بحال. ومع هذا فالقرآن لم يقطع الرجاء في مصافاة هؤالء، ولم يعلن اليأس البات منهم، بل أطمع المؤمنين في تغير األحوال وصفاء النفوس، فقال في السورة نفسها

بعد آيات: )عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذي عاديتم منهم مودة، والله قدير،.7والله غفور رحيم( سورة الممتحنة:

وهذا التنبيه من القرآن الكريم كفيل أن يكفكف من حدة الخصومة وصرامة العداوة، كما جاء في الحديث: "أبغض عدوك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك

يوما ما".

وتتأكد حرمة المواالة لألعداء إذا كانوا أقوياء، يرجون ويخشون، فيسعى إلى مواالتهم المنافقون ومرضى القلوب، يتخذون عندهم يدا، يرجون أن تنفعهم

غدا. كما قال تعالى: )فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا

. )بشر المنافقين بأن لهم52على ما أسروا في أنفسهم نادمين( المائدة: عذابا أليما. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم

.138،139العزة؟ فإن العزة لله جميعا( سورة النساء:

المسلم بغير المسلماستعانة

وال بأس أن يستعين المسلمون -حكاما ورعية- بغير المسلمين في األمور الفنية التي ال تتصل بالدين من طب وصناعة وزراعة وغيرها، وإن كان األجدر

بالمسلمين أن يكتفوا في كل ذلك اكتفاء ذاتيا.

وقد رأينا في السيرة النبوية كيف استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط -وهو مشرك- ليكون دليال له في الهجرة. قال العلماء: وال

يلزم من كونه كافرا أال يوثق به في شيء أصال؛ فإنه ال شيء أخطر من الداللةفي الطريق وال سيما في مثل طريق الهجرة إلى المدينة.

وأكثر من هذا أنهم جوزوا إلمام المسلمين أن يستعين بغير المسلمين -بخاصةأهل الكتاب- في الشؤون الحربية، وأن يسهم لهم من الغنائم كالمسلمين.

Page 195: الحلال والحرام في الإسلام

روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم، وأن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم

في غزوة حنين وكان ال يزال على شركه.

ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز االستعانة به؛ ألننا إذا منعنا االستعانة بمن ال يؤمن من

المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.

ويجوز للمسلم أن يهدي إلى غير المسلم، وأن يقبل الهدية منه، ويكافئ عليها، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه الملوك فقبل منهم. وكانوا

غير مسلمين.

قال حفاظ الحديث: واألحاديث في قبوله صلى الله عليه وسلم هدايا الكفار كثيرة جدا وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: "إني قد

أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من حرير".

إن اإلسالم يحترم اإلنسان من حيث هو إنسان فكيف إذا كان من أهل الكتاب؟وكيف إذا كان معاهدا أو ذميا؟

مرت جنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها واقفا، فقيل له: "يا رسول الله إنها جنازة يهودي؟! فقال: أليست نفسا"؟! بلى، وكل نفس في

اإلسالم لها حرمة ومكان.

اإلسالم رحمة عامة حتى على الحيوان

وكيف يبيح اإلسالم للمسلم أن يسيء إلى غير المسلم أو يؤذيه، وهو يوصيبالرحمة بكل ذي روح، وينهى عن القسوة على الحيوان األعجم.

لقد سبق اإلسالم جمعيات الرفق بالحيوان بثالثة عشر قرنا، فجعل اإلحسانإليه من شعب اإليمان، وإيذاءه والقسوة عليه من موجبات النار.

ويحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن رجل وجد كلبا يلهث من العطش، فنزل بئرا فمأل خفه منها ماء فسقى الكلب حتى روي.. قال الرسول

صلى الله عليه وسلم: فشكر الله له فغفر له. فقال الصحابة: أإن لنا فيالبهائم ألجرا يا رسول الله؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر".

وإلى جوار هذه الصورة المضيئة التي توجب مغفرة الله ورضوانه يرسم النبي صورة أخرى توجب مقت الله وعذابه فيقول: "دخلت امرأة النار في هرة

حبستها، فال هي أطعمتها، وال هي تركتها تأكل من خشاش األرض".

وبلغ من احترام حيوانية الحيوان أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا موسوم الوجه )مكويا في وجهه( فأنكر ذلك وقال: "والله ال أسمه إال في

أقصى شيء من الوجه".

وفي حديث آخر أنه مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: "أما بلغكم أني

Page 196: الحلال والحرام في الإسلام

لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها".

وقد ذكرنا قبل أن ابن عمر رأى أناسا اتخذوا من دجاجة غرضا يتعلمون عليه الرمي واإلصابة بالسهام فقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ

شيئا فيه الروح غرضا".

وقال عبد الله بن عباس: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم". والتحريش بينها: هو إغراء بعضها ببعض لتتطاحن وتتصارع إلى حد

الموت أو مقاربته.

وروى ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن إخصاء البهائمنهيا شديدا". واإلخصاء: سل الخصية.

وكذلك شنع القرآن على أهل الجاهلية تبتيكهم آلذان األنعام )شقها( وجعل هذامن وحي الشيطان.

وقد عرفنا عند الكالم على الذبح كيف حرص اإلسالم على إراحة الذبيحة بأيسروسيلة ممكنة، وكيف أمر أن تحد الشفار وتوارى عن البهيمة.

ونهى أن يذبح حيوان أمام آخر.

وما رأت الدنيا عناية بالحيوان إلى هذا الحد الذي يفوق الخيال!!

الخاتمة لم نقصد في هذا الكتاب إال إلى ذكر الحالل والحرام في أعمال الجوارح،

والسلوك الظاهر. أما أعمال القلوب، وحركات النفوس والعواطف واإلرادات، ما يجيزه اإلسالم منها، وما يحرمه بل يشتد في تحريمه كالحسد والحقد، والكبر والغرور، والرياء والنفاق، والشح والحرص.. وغيرها، فليست هذه مما قصد إليه هذا الكتاب وإن كانت تلك الغوائل النفسية من أكبر المحرمات التي ألح اإلسالم في محاربتها، وحذر النبي من شرها، ووصف بعضها بأنها )داء األمم( من قبلنا،

وسماها )الحالقة( ال بمعنى أنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.

وكل مطالع للقرآن الكريم والسنة المحمدية يراهما قد جعال سالمة الكيان المعنوي لإلنسان )القلب( أساس الفالح، للفرد والجماعة، في الدنيا واآلخرة:

. )يوم ال11)إن الله ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( سورة الرعد:.88ينفع ما وال بنون. إال من أتى الله بقلب سليم( سورة الشعراء:

ومن هنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور أن "الحالل بي¡ن، والحرام بي¡ن، وأن بينهما مشتبهات من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن

وقع فيها أوشك أن يواقع الحرام، وإن لكل ملك حمى وأن حمى الله في أرضه محارمه"، ثم عقب على ذلك ببيان قيمة القلب وما يصدر عنه من دوافع وميول وإرادات هي أساس السلوك البشري كله بقوله: "أال وإن في الجسد مضغة إذا

صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. أال وهي القلب".

Page 197: الحلال والحرام في الإسلام

فالقلب هو رئيس أعضاء البدن، وراعي جوارحه كلها، وبصالح هذا الراعي تصلحالرعية كلها، وبفساده تفسد.

وميزان القبول عند الله هو القلب والنية، ال الصورة واللسان: "إن الله ال ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" "إنما األعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما

نوى".

هذه هي مكانة األعمال القلبية، واألمور النفسية في اإلسالم، ولكنا لم نذكرها هنا، ألنها أدخل في باب )األخالق( منها في باب )الحالل والحرام(. ولذا عني

بها علماء األخالق والتصوف المسلمون، وسموا المحرمات منها )أمراض القلوب( وشخصوا عللها، ووصفوا لها عالجها، على ضوء الكتاب العزيز والسنة

المطهرة. وقد ضمنها اإلمام الغزالي ربع موسوعته اإلسالمية )إحياء علوم الدين( وسماها )المهلكات( إذ هي سبب الهالك في الدنيا بالخسران والبوار،

وفي اآلخرة بدخول النار وبئس القرار.

وحين ذكرنا المحرمات لم يكن غرضنا إال المحرمات اإليجابية؛ فإن المحرم نوعان: إما فعل محظور -وهو اإليجابي- وإما ترك الواجب -وهو السلبي-. وهذا

الثاني ليس من غرض الكتاب بالذات، وإن جاء في بعض األحيان بالتبع. ولو قصدنا إلى ذلك النتقلنا إلى موضوع آخر، وكان لزاما علينا أن نذكر كل

الواجبات التي كلف الله بها المسلم، فإن تركها أو االستهانة بها حرام بال ريب. فطلب العلم في اإلسالم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وترك المسلم نفسه في ظلمات الجهل يتخبط فيها حرام عليه.. وفرائض العبادات من صالة وصيام وزكاة وحج -التي هي األركان األولى لإلسالم- ال يحل لمسلم تركها بغير عذر،

ومن تركها فقد ارتكب إثما من كبائر اآلثام، ومن استهان بها واستخف بقيمتهافقد خلع ربقة اإلسالم من عنقه.

وإعداد األمة ما استطاعت من قوة للذود عن كيانها، وإرهاب عدو الله وعدوها، واجب إسالمي على األمة بعامة، وأولي األمر فيها بخاصة، فإذا أهملت هذا الواجب فقد اقترفت محرما عظيما وحوبا كبيرا.. وهكذا كل الواجبات في

الحياة الخاصة والعامة.

وال ندعي أننا استقصينا -بعد ذلك- كل صغيرة وكبيرة في الحالل والحرام.. يكفينا أننا جلينا في هذه الصحائف أهم ما يجب أن يعرفه المسلم مما يحل له،

وما يحرم عليه في حياته الشخصية، وفي حياته العائلية، وفي حياته اإلجتماعية. بخاصة ما يجهل كثير من الناس حكمه أو حكمته، أو يستخفون به

ويتهاونون فيه.

وأحسب أننا قد أمطنا اللثام عن حكمة اإلسالم البالغة في حالله وحرامه، وتبين لكل ذي عينين أن الله سبحانه لم يرد أن يدلل الناس بما أحل، وال أن يضيق عليهم بما حرم. وإنما شرع لهم ما يصلحهم، ويحفظ عليهم دينهم ودنياهم،

ويصون أنفسهم وعقولهم وأخالقهم وأعراضهم وأموالهم، وكيانهم اإلنسانيكله، أفرادا وجماعات.

أال إن عيب التشريع البشري األرضي أنه تشريع قاصر ناقص. فإن واضعيه - سواء كانوا أفرادا أم حكومات أن برلمانات- يحصرون أنفسهم في المصلحة

المادية وحدها، غافلين عن مقتضيات الدين واألخالق، وهم دائما محبوسون فيقمقم الوطنية والقومية الضيقة، غير عابئين بالعالم الكبير واإلنسانية الرحبة.

Page 198: الحلال والحرام في الإسلام

وهم يشرعون ليومهم وحاضرهم المحدود، ذاهلين عن غدهم، جاهلين ما تأتيبه األيام.

وهم فوق ذلك بشر فيهم ضعف اإلنسان وقصوره وشهواته )إنه كان ظلوما.72جهوال( سورة األحزاب:

فال عجب أن تأتي التشريعات البشرية ضيقة النظرة، سطحية الفكرة، ماديةالمنزع، وقتية العالج، موضعية االتجاه.

وال عجب أن ترى المشرع البشري كثيرا ما يحل ويحرم تبعا للهوى، وإرضاءلمشاعر الرأي العام، مع ما يعلم في ذلك من الخطر الكبير، والشر المستطير.

وحسبنا مثال على ذلك ما صنعته الواليات المتحدة األمريكية من إباحة للخمور، وإلغاء لتشريعات حظرها األولى، رغم اقتناعها بشرها وويالتها وضررها على

األفراد واألسر واألوطان. أما تشريع اإلسالم فقد برئ من هذا النقص كله.

 

إنه تشريع خالق عليم، خبير بخلقه، وما يصلح لهم، وما يصلحون له وكيف ال . علم الصانع بما220وهو تعالى: )يعلم المفسد من المصلح( سورة البقرة:

.14صنع: )أال يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟( سورة الملك:

إنه تشريع إله حكيم، ال يحرم شيئا عبثا، وال يحل شيئا جزافا، فكل شيء خلقهبقدر، وكل شيء شرعه بميزان.

إنه تشريع رب رحيم، يريد بعباده اليسر، وال يريد بهم العسر، كيف وهو أرحمبعباده من الوالدة بولدها؟

وهو تشريع ملك قادر، غني عن عباده، ال يتحيز لطائفة أو جنس أو جيل، فيحللهم ما حرم على آخرين، كيف وهو رب العالمين جميعا؟

هذا ما يعتقده المسلم فيما شرعه له ربه في الحالل والحرام وفي غيرهما. ولهذا يتقبله بعقل ملؤه االقتناع، وقلب ملؤه الرضا واليقين، وإرادة كلها

تصميم على التنفيذ. إنه يؤمن أن سعادته في الدنيا، وفالحه في اآلخرةموقوفة على رعايته لحدود الله فيما أمر ونهى، وما أحل وحرم.

فال بد أن يأخذ نفسه بالوقوف عند هذه الحدود، ليفوز بالسعادتين ويفلح فيالدارين.

ولنضرب لذلك مثلين من حياة المسلمين في العصر األول، كيف كانوا يرعونحدود الله في الحالل والحرام، ويسارعون في تنفيذ ما أمر.

أولهما: ما أشرنا إليه عند حديثنا عن تحريم الخمر؛ وقد كان للعرب ولع بشربها وأقداحها ومجالسها. وقد عرف الله ذلك منهم، فأخذهم بسنة التدريج في

تحريمها، حتى نزلت اآلية الفاصلة تحرمها تحريما باتا، وتعلن أنها )رجس من . وبهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم شربها،90عمل الشيطان( المائدة:

وبيعها، وإهداءها لغير المسلمين. فما كان من المسلمين حينذاك إال أن جاؤوا بما عندهم من مخزون الخمر وأوعيتها، فأراقوها في طرق المدينة إعالنا عن

Page 199: الحلال والحرام في الإسلام

براءتهم منها.

ومن عجيب أمر االنقياد لشرع الله أن فريقا منهم حين بلغته هذه اآلية، كان منهم من في يده الكأس، قد شرب بعضها وبقي بعضها في يده، فرمى بها من

-: قد انتهينا91فيه، وقال -إجابة لقول الله )فهل أنتم منتهون( سورة المائدة:يا رب!

وثانيهما: موقف النساء المسلمات األول مما حرم الله عليهن من تبرج الجاهلية، وما أوجب عليهن من االحتشام والتستر، فقد كانت المرأة في

الجاهلية تمر كاشفة صدرها، ال يواريه شيء، وكثيرا ما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقراط آذانها، فحرم الله على المؤمنات تبرج الجاهلية األولى، وأمرهن أن يتميزن عن نساء الجاهلية، ويخالفن شعارهن ويلزمن الستر

واألدب في هيئاتهن وأحوالهن، بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، أي يشددن أغطية رؤوسهن بحيث تغطي فتحة الثوب من الصدر، فتواري النحر والعنق

واألذن.

وهنا تروي لنا السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كيف استقبل نساء المهاجرين واألنصار في المجتمع اإلسالمي األول، هذا التشريع اإللهي، الذي

يتعلق بتغيير شيء هام في حياة النساء، وهو الهيئة والزينة والثياب.

قالت عائشة: يرحم الله نساء المهاجرات األول.. لما أنزل الله )وليضربن بخمرهن على جيوبهن( شققن مروطهن -أكسية من صوف أو خز- فاختمرن

بها.

وجلس إليها بعض النساء يوما، فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت: "إن لنساء قريش لفضال، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء األنصار، وال أشد تصديقا لكتاب الله، وال إيمانا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور: )وليضربن

بخمرهن على جيوبهن( فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن

امرأة إال قامت إلى مرطها المرحل -المزخرف الذي فيه تصاوير- فاعتجزت به - شدته على رأسها- تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول

الله صلى الله عليه وسلم معتحرات كأن على رؤوسهن الغربان".

هذا هو موقف النساء المؤمنات مما شرع الله لهن؛ موقف المسارعة إلى تنفيذ ما أمر، واجتناب ما نهى، بال تردد، وال توقف وال انتظار، أجل لم ينتظرن

يوما أو يومين أو أكثر حتى يشترين أو يخطن أكسية جديدة تالئم غطاء الرؤوس، وتتسع لتضرب على الجيوب، بل أي كساء وجد، وأي لون تيسر، فهو المالئم والموافق، فإن لم يوجد شققن من ثيابهن ومروطهن، وشددنها على رؤوسهن، غير مباليات بمظهرهن الذي يبدون به كأن على رؤوسهن الغربان،

كما وصفت أم المؤمنين.

إننا نؤكد هنا أن المعرفة الذهنية بالحالل والحرام وحدها ال تكفي، فأمهات الحالل والحرام بينة ال تخفى على مسلم ومع هذا يتورط من المسلمين في

المحرمات، ويقتحمون النار على بصيرة.

فال بد إذن من تقوى الله التي هي مالك األمر كله، وبعبارة حديثة: ال بد من الضمير الحي الذي يوقف المسلم عند حدود الحالل، ويردعه عن اقتراف الحرام

Page 200: الحلال والحرام في الإسلام

ذلك الضمير الذي ال ينمو غرسه إال في تربة اإليمان بالله والدار اآلخرة.

فإذا توافر للمسلم المعرفة الواعية بحدود دينه وشريعته، والضمير اليقظ الذي يحرس هذه الحدود أن يعتديها أو يقربها، فقد توافر الخير كله. وصدق رسول

الله صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله بامرئ خيرا جعل له واعظا من نفسه".

ولنختم كتابنا بهذا الدعاء المأثور عن سلفنا: اللهم أغننا بحاللك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما

كنا لنهتدي لوال أن هدانا الله.

ولو وازنا هذا النصر المبين في محاربة الخمر والقضاء عليها في البيئة اإلسالمية، باإلخفاق الذريع الذي منيت به الواليات المتحدة، حين أرادت يوما أن

تحارب الخمر بالقوانين واألساطيل -لعرفنا أن البشر ال يصلحهم إال تشريعالسماء، الذي يعتمد على الضمير واإليمان قبل االعتماد على القوة والسلطان.