الفوائد بن القيّم

288
د وائ ف ل ا وب ي ا ن ب ر ك ئ ي ب ا ن ب مد ح م له ل د ا ب ع ي ب ا ن ب س الد م$ ش ل ب ل ج لم اما لا ل ي ع ر ز ل ا مّ ي7 ق ل ا ن ب ا ئ روف مع ل ا7 ق ي7 ق ح7 ت ل م ح ل ا ي عل مال ك7 اق زر ل د ا ب ع ور ص ن م ر ه ماM ساعد م ل ا$ ث ي جد ل س اّ مدر ومه ل ع و$ ث ي جد ل س اّ مدر ر ه ر لا ا7 عه ام ج

Upload: ahmdeid

Post on 27-Jul-2015

691 views

Category:

Documents


0 download

DESCRIPTION

الفوائدللامام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن القيّمتحقيق ماهر منصور عبد الرزاق كمال علي الجملمدرّس الحديث وعلومه مدرّس الحديث المساعدجامعة الأزهر

TRANSCRIPT

Page 1: الفوائد بن القيّم

الفوائد

لالمام الجليل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي

"م المعروف بابن القي

تحقيق

ماهر منصور عبد الرزاق كمال علي الجملمدر"س الحديث وعلومه مدر"س الحديث المساعد

جامعة األزهر

Page 2: الفوائد بن القيّم

"م "ة قامع البدعة, أبو عبد الله الشهير بابن القي قال الشيخ االمام, محي السن"ة رحمه الله ورضي عنه : الجوزي

******************

[ قاعدة جليلة1]االنتفاع بالقرآن وشروطه

اذا أردت االنتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تالوته وسماعه, وألف "ه خطاب سمعك, ,احضر حضور من يخاطبه به من تكل"م به سبحانه منه اليه, فان

منه لك, على لسان رسوله, قال تعال:} ان" في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو.37ألقى السمع وهو شهيد{. سورة ق

وذلك أن تمام التأثير لم"ا كان موقوفا على مؤثر مقتض, ومحل قابل, وشرط "ه بأوجز لحصول األثر, وانتقاء المانع الذي يمنع منه, تضم"نت اآلية بيان ذلك كل

"ه على المراد. لفظ وأبينه, وادل

فقوله تعالى:} ان" في ذلك لذكرى{ اشارة الى ما تقد"م من أو"ل السورة الى ها "ر. هنا وهذا هة المؤث

وقوله:} لمن كان له قلب{ فهذا هو المل القابل, والمراد به القلب الحي" الذي "ا{ يعقل عن الله, كما قال تعالى:} ان هو اال ذكر وقرآن مبين.لينذر من كان حي

. أي حي القلب.70-69يس

وقوله: }أو ألقى السمع{ أي وج"ه سمعه وأصغى حاس"ة سمعه الى ما يقال له,"ر بالكالم. وهذا شرط التأث

وقوله: }وهو شهيد{ أي شاهد القلب حاضر غير غائب. قال ابن قتيبة: " استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم, ليس بغافل وال

ساه". وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير, وهو سهو القلب, وغيبته عن تعق"ل ما يقال له, والنظر فيه وتأم"له. فاذا حصل المؤث وهو القرآن, والمحل

القابل وهو القلب الحي, ووخد الشرط وهو االصغاء, وانتقى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب, وانصرافه عنه الى شئ آخر, حصل األثر وهو

"ر. االنتفاع والتذك

فان قيل: اذا كان التأثير انما يتم بمجموع هذه, فما وجه دخول أداة "أو" في قوله "أو ألقى السمع", والموضع موضع واو الجمع ال موضع "أو" التي هي ألحد

الشيئين.

2

Page 3: الفوائد بن القيّم

"د والجواب عنه أن يقال: خرج الكالم ب"أو" باعتبار حال قيل: هذا سؤال جيالمخاطب المدعو

"ر بقلبه, وجال , فان من الناس من يكون حي القلب واعيه, تام الفطرة, فاذا فك"ه قلبه وعقله على صح"ة القرآن, وأنه الحق, وشهد قلبه بما أخبر به بفكره, دل

القرآن, فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة, وهذا وصف الذين .6قيل فيهم: ويرى الذين أؤتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق{ سبأ

وقال في حق"هم:} الله نور السموات واألرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباحي يوقد من شجرة مباركة زستونة ال المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب در"

"ة, يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله "ة وال غربي شرقي.35لنوره من يشاء ويضرب الله األمثال للناس والله بكل" شئ عليم{النور

فهذا نور الفطرة على نور الوحي, وهذا حال صاحب القلب الحي" الواعي.

"م: وقد ذكرنا ما تضم"نت هذه اآلية من األسرار والعبر في كتاب قال ابن القي"ة" ص . فصاحب القلب8-7"اجتماع الجيوش االسالمية لغزو المعط"لة والجهمي

يجمع بين قلبه وببن معاني القرآن, فيجدها كأنها قد كتبي فيه, فهو يقرؤها عن ظهر قلب. ومن الناس من ال يكون تام االستعداد, واعي القلب, كامل الحياة,"ز له بين الحق والباطن, ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وذكاء فيحتاج الى شاهد يمي

فطرته مبلغ صاحب القلب الواعي الحي, فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعهللكالم, وقلبه لتأم"له, والتفكر فيه, وتعقل معانيه, فيعلم حينئذ أنه الحق.

فاألول: حال من رأى بعينه ما دعى اليه وأخبر به. والثاني: من علم صدق المخبر وتيق"نه, وقال يكفيني خبره, فهو في مقام االيمان, واألو"ل من مقام االحسان.

وهذا قد وصل الى علم اليقين, وترق قلبه منه الى منزلة عين اليقين, وذاك معهالتصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في االسالم.

فعين اليقين نوعان: نوع في الدنيا, ونوع في اآلخرة, فالحاصل في الدنيا نسبته الى القلب كنسبة الشاهد الى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في

اآلخرة باألبصار, وفي الدنيا بالبصائر, فهو عين اليقين في المرتبتين.

[ سورة )ق( جامعة ألصول االيمان2]

وقد جمعت هذه السورة من أصول االيمان ما يكفى ويشفى, ويغني عن كالم أهل الكالم, ومعقول أهل المعقول, فانها تضم"نت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد

والنبو"ة وااليمان بالمالئكة, وانقسام الناس الى هالك شقي, وفائز سعيد, وأوصاف هؤالء وهؤالء. وتضم"نت اثبات صفات الكمال لله, وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب. وذكر فيها القيامتان الكبر والصغرى, والعالمين:

األكبر, وهو عالم اآلخرة, واألصغر وهو عالم الدنيا. وذكر فيها خلق االنسان ووفاته

3

Page 4: الفوائد بن القيّم

واعادته, واحاطته سبحان به من كل وجه, حتى علم بوساوس نفسه, واقامة الحفظة عليه, يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها, وأنه يوافيه يوم القيامة, ومعه سائق يسوقه اليه, وشاهد يشهد عليه, فاذا أحضره الشاهد قال: }هذا ما لدي"

. أي هذا الذي أمرت باحضاره قد أحضرته, فيقال عند احضاره:23عتيد{,ق "م كل" كف"ار عنيد{, ق . كما يحضر الجاني الى حضرة السلطان24} ألقيا في جهن

فيقال: هذا فالن قد أحضرته, فيقول: اذهبوا به الى السجن وعاقبوه بما يستحق"ه.

وتأم"ل كيف دل"ت السورة صريحا على أن الله سبحانه وتعالى يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى, فينعمه ويعذ"به, كما ينعم الروح التي آمنت بعينها, ويعذ"ب التي كفرت بعينها, ال أنه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه فينعمها

ويعذبها كما قال من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل, حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه, عليه يقع النعيم والعذاب, والروح

عندهم عرض من أعراض البدن, فيخلق روحا غير هذه الروح, وبدنا غير هذا"ة وسائر كتب الله البدن وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودلك عليه القرآن والسن

تعالى . وهذا في الحقيقة انكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين, فانهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام غير هذه األجسام يعذبها وينعمها, كيف وهم

يشهدون النوع االنساني يخلق شيئا بعد شئ! فكل وقت يخلق الله سبحانه أرواحا"ما وأجساما غير األجسام التي فنيت, فكيف يتعج"بون من شئ يشاهدونه عيانا؟ وان

قهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا, فتعج"بوا أن تعج"بوا بعودتهم بأعيانهم بعد أن مز""ا "ا ترابا أئن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء, لهذا قالوا :} أئذا متنا وكن

.3. وقالوا: }ذلك رجع بعيد{ ق 16لمبعوثون{ الصافت

ولو كان الجزاء انما هو ألجسام غير هذه, لم يكن ذلك بعثا وال رجعا, بل يكون . كبير معنى. فانه4ابتداء, ولم يكن لقوله:} قد علمنا من تنقص األرض منهم{,ق

"ه يميز تلك األجزاء التي اختلطت سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقد"ر, وهو: ان"ز, فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما باألرض واستحالت الى العناصر بحيث ال تتمي

تنقصه األرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم, وأنه كما هو عالم بتلك األجزاء,قها وتأليفها خلقا جديدا, وهو سبحانه يقرر فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفر" المعاد بذكر كمال علمه, وكمال قدرته, وكمال حكمته, فان شبه المنكرين له كلها

تعود الى ثالثة أنواع:"ز وال يحصل معه تميز )أحدها(: اختالط أجزائهم بأجزاء األرض على وجه ال يتمي

شخص عن شخص آخر.)الثاني(: أن القدرة ال تتعل"ق بذلك.

)الثالث(: أن ذلك أمر ال فائدة فيه, أو أن الحكمة اقتضت دوام هذا النوع االنساني شيئا بعد شئ, هكذا أبدأ, كلما مات جيل خلفه جيل آخر. فأم"ا أن يميت النوع

االنساني كله ثم يحييه فال حكمة في ذلك.

"ة على أصول ثالث3] [ براهين المعاد في القرآن مبني

4

Page 5: الفوائد بن القيّم

)أحدها( تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال:} من يحي -78العظام وهي رميم.قل يحييها الذي أنشأها أو"ل مرة وهوبكل خلق عليم{يس

"ق79 . وقال:} وإن الساعة آلتية فاصفح الصفح الجميل.ان" ربك هو الخال.4. وقال:}قد علمنا ما تنقص األرض منهم{ق 86-85العليم.{الحجر

)والثاني( تقرير كمال قدرته كقوله:} أوليس الذي خلق السموات واألرض بقادر . وقوله:} بلى قادرين على أن نسو"ي بنانه{81على أن يخلق مثلهم{ يس

"ه على كل شئ4القيامة "ه يحيي الموتى وأن . وقوله:} ذلك بأن الله هو الحق وأن.6قدير{الحج

ويجمع سبحانه بين األمرين كما في قوله:} أوليس الذي خلق السموات واألرض "ق العليم{يس . 81بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخال

الثالث: كمال حكمته كقوله:} وما خلقنا السماوات واألرض وما بينهما .27. وقوله:} وما خلقنا السماء واألرض وما بينهما باطال{ص 38العبين{الدخان

. وقوله:} أفحسبتم أنما36وقوله:} أيحسب االنسان أن يترك سدى{ القيامة .116-115خلقناكم عبثا وأنكم الينا ترجعون. فتعالى الله الملك الحق{المؤمنون

وقوله:} أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا.21الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون{الجاثية

ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع, وأن كمال الرب تعالى ه عم"ا يقوله منكروه كما ينزه وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه, وأنه منز"

كماله عن سائر العيوب والنواقص.

ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لم"ا كذبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم }فهم . مختلط ال يحصلون منه على شئ.5في أمر مريج{ ق

ثم دعاهم الى النظر في العالم العلوي وبنائه وارتفاعه واستوائه وحسنه "أها بالبسط لما والتئامه, ثم الى العالم السفلي وهو األرض, وكيف بسطها وهي"تها بالجبال وأودع فيها المنافع وأنبت فيها من كل صنف حسن من يراد منها وثب

أصناف النبات على اختالف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته, وأن ذلك تبصرة اذا تأم"لها العبد المنيب وتبص"ر بها تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد, فالناظر فيها يتبص"ر أوال, ثم يتذكر ثانيا, وأن هذا اليحصل اال

لعبد منيب الى الله بقلبه وجوارحه.

"ر في مادة أرزاقهم وأقواتهم ومالبسهم ومركبهم وجناتهم ثم دعاهم الى التفك"ات مختلفة الثمار وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه, حتى أنبتت به جن

والفواكه, ما بين أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض, وبين ذلك مع اختالف

5

Page 6: الفوائد بن القيّم

منافعها وتنو"ع أجناسها, وأنبتت به الحبوب كلها على تنوعها واختالف منافعها وصفاتها وأشكالها ومقاديرها. ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والداللة

, ثم قال:164التي ال تخفى على المتأمل: } فأحيا به األرض بعد موتها{ البقر . أي مثل هذا االخراج من األرض الفواكه والثمار11} كذلك الخروج{ ق

"بتم فيها. واألقوات والحبوب: خروجكم من األرض بعد ما غي

وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "نا ما فيها من األسرار والعبر. "المعالم" أنظر أعالم الموقعين عن رب العالمين. بي

ثم انتقل سبحانه الى تقرير النبو"ة بأحسن تقرير, وأوجز لفظ, وأبعده عن كل شبهة وشك, فأخبر أنه أرسل الى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون

رسال فكذ"بوهم, فأهلكهم بأنواع الهالك, وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله ان لم يؤمنوا, وذا تقرير لنبو"ة من أخبر بذلك عنهم, من غير أن يتعل"م منمعل"م وال قرأه في كتاب, بل أخبر به اخبارا مفص"ال مطابقا لما عند أهل الكتاب.

وال يرد على هذا اال سؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات, بأنه لم يكن شئ من ذلك, أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم, وصاحب

هذا السؤال يعلممن نفسه أنه باهت مباهت جاحد لما شهد به العيان, وتناقلته القرون قرنا بعد قرن, فانكاره بمنزلة انكار وجود المشهورين من الملوك

والعلماء والبالد النائية.

, يقال15ثم عاد سبحانه الى اقرار المعاد بقوله: } أفعيينا بالخلق األو"ل{ ق لكل من عجز عن شئ: عيي به فالن بهذا األمر, قال الشاعر

عيوا بأمرهم, كماعيت ببيضتها الحمامة

"اس : يريد33ومنه قوله تعالى:} ولم يعي� بخلقهن{األحقاف . قال ابن عبأفعجزنا, وكذلك قال مقاتل.

قلت: هذا تفسير بالزم اللفظة, وحقيقتها أعم من ذلك, فان العرب تقول: أعياني أن أعرف كذا وعييت به اذا لم تهتد لوجهه ولم تقدر على معرفته وتحصيله

فتقول: أعياني دواؤك اذا لم تهتد له, ولم تقف عليه. والزم هذا المعنى العجز عنه. والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى, فان الحمامة لم تعجز عن بيضتها, ولكن أعياها اذا أرادت أن تبيض أين ترمي بالبيضة, فهي تدور وتجول

حتى ترمي بها, فاذا باضت أعياها أين تحفظها وتودعها حتى ال تنال, فهي تنقلهاها, كما هو حال من وعى بأمره فلم يدر من مكان الى مكان وتحار أين تجعل مقر"

من أين يقصد له ومن أين يأتيه, وليس المراد باالعياء في هذه اآلية التعب, كما"ه من لم يعرف تفسير القرآن, بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن يظن

نا من لغوب{ ق .38نفسه في آخر السورة بقوله: }وما مس"

6

Page 7: الفوائد بن القيّم

"هم:} في لبس من خلق جديد{ ق . أي أنهم التبس عليهم15ثم أخبر سبحانه أن"ته اعادة الخلق خلقا جديدا, ثم نبههم على ما هو أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبي

وأدلة المعاد وهو خلق االنسان, فانه من أعظم األدلة على التوحيد والمعاد.

"ة بأعضائها وقواها وصفاتها, وما فيها وأي دليل أوضح من تركيب الصورة اآلدمي من اللحم والعظم والعروق واألعصاب والرباطات والمنافذ واآلالت والعلوم

واالرادات والصناعات, كل ذلك من نطفة ماء.

فلو أنصف العبد الكتفى بفكره في نفسه, واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته.

ثم أخبر سبحانه عن احاطة علمه به, حتى علم ما توسوس به نفسه, ثم أخبر عن قربه اليه بالعلم واالحاطة وأن ذلك أدنى اليه من العرق الذي داخل بدنه, فهو

أقرب اليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق.

وقال شيخنا وهو شيخ االسالم بن تيمية: المراد بقول "نحن" ونحن أقرب اليه . أي18من حبل الوريد ,أي مالئكتنا, كما قال: }فاذا قرأناه فاتبع قرآنه{القيامة

.17اذا قرأه عليك رسولنا جبريل. قال: ويدل عليه قوله: }اذ يتلق"ى المتلق"يان{ قفقيد القرب المذكور بتلق"ي الملكين, فال حجة في اآلية لحلولي وال معط"ل.

ثم أخبر سبحانه أن على شماله ويمينه ملكين يكتبان أعماله وأقواله, ونبه باحصاء األقوال وكتابتها على كتابة األعمال, التي هي أقل وقوعا, وأعظم أثرا من

األقوال, وهي غايات األقوال ونهايتها.

[ القيامة قيامتان: صغرى وكبرى4]

ثم أخبر عن القيامة الصغرى, وهي سكرة الموت, وأنها تجيء بالحق, وهو لقاؤه سبحانه وتعالى, والقدوم عليه, وعرض الروح عليه, والثواب والعقاب الذي تعجل

لها قبل القيامة الكبرى.

. ثم20ثم ذكر القيامة الكبرى بقوله: }ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد{ ق أخبر عن أخبار الخلق في هذا اليوم, وأن كل أحد يأتي الله سبحانه وتعالى ذلك

اليوم ومعه سائق يسوقه, وشهيد يشهد عليه, وهذا غير جوارحه, وغير شهادةاألرض التي كان عليها له وعليه, وغير شهادة رسوله والمؤمنين.

7

Page 8: الفوائد بن القيّم

فان الله سبحانه وتعالى يستشهد على العباد الحفظة واألنبياء واألمكنة التي د علمه, عملوا عليها الخير والشر, والجلود التي عصوه بها, وال يحكم بينهم بمجر"

وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.

"نة, ال ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من اقرارهم, وشهادة البي"نة وال اقرار؟ ثم أخبر سبحانه أن االنسان في غفلة من د علمه من غير بي بمجر"

هذا الشأن الذي هو حقيق بأن ال يغفل عنه, وأن ال يزال على ذكره وباله, وقال:} , ولم يقل عنه, كما قال:} وانهم لفي شك منه22في غفلة من هذا{ق

, ولم يقل في شك فيه, وجاء هذا في المصدر وان لم يجئ في22مريب{هود الفعل فال يقال غفلت منه وال شككت منه كأن غفلته وشكه ابتداء منه, فهو مبدأ"ه, وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه وشك فيه, فانه جعل ما ينبغي غفلته وشك أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشأهما مبدأ للغفلة والشك. ثم أخبر أن غطاء

الغفلة والذهول يكشف عن ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ, وعن العين فتنفتح. فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة

كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند االنتباه.

ثم أخبر سبحانه أن قرينه, وهو الذي قرن به في الدنيا من المالئكة, يكتب "لتني به في الدنيا قد أحضرته عمله. وقوله يقول لم"ا يحضره: هذا الذي كنت وك

وأتيتك به, هذا قول مجاهد.

وقال ابن قتيبة: المعنى: هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي. والتحقيق أن اآلية تتضم"ن األمرين, أي هذا الشخص الذي وكلت به وهذا

"م{ق , وهذا اما أن يكون24عمله الذي أحصيت عليه. فحينئذ قال:} ألقيا في جهن خطابا للسائق والشهيد, أو خطابا للملك الموكل بعذابه وان كان واحدا. وهو

مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها, أو تكون األلف منقلبة عن نونالتأكيد الخفيفة, ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات:

)أحدها( أنه كفار لنعم الله وحقوقه, كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته, كف"اربرسله ومالئكته, كفار بكتبه ولقائه.

)الثانية( أنه معاند للحق يدفعه جحدا وعنادا. )الثالثة( أنه مناع للخير, وهذا يعم منعه للخير الذي هو احسان الى نفسه من

الطاعات والقرب الى الله والخير الذي هو احسان الى الناس, فليس فيه خيرلنفسه, وال لبني جنسه كما هو حال أكثر الخلق.

)الرابعة( أنه مع منعه للخير معتد على الناس, ظلوم غشوم معتد عليهم بيدهولسانه.

)الخامسة( أنه مريب, أي صاحب ريب وشك, ومع هذا فهو آت لكل ريبة, يقال:فالن مريب, اذا كان صاحب ريبة.

8

Page 9: الفوائد بن القيّم

"خذ مع الله الها آخر يعبده, ويحبه, )السادسة( أنه مع ذلك مشرك بالله, قد ات ويغضب له, ويرضى له, ويحلف باسمه, وينذر له, ويوالي فيه, ويعادي فيه,

فيختصم هو وقرينه من الشيطان, ويحيل األمر عليه, وأنه هو الذي أطغاه وأضله."ه وأطغيه, ولكن كان في ضالل بعيد, فيقول قرينه: لم يكن لي قو"ة أن أضل

واختاره لنفسه, وآثره على الحق, كما قال ابليس ألهل النار: }وما كان لي.22عليكم من سلطان اال أن دعوتكم فاستجبتم لي{ ابراهيم

وعلى هذا, فالقرين هنا هو شيطانه, يختصمان عند الله. وقالت طائفة: بل قرينه ها هنا هو الملك, فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى, وأنه لم

يفعل ذلك كله, وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة, ولم يمهله حتى يتوب, فيقول الملك: ما زدت في الكتابة على ما عمل وال أعجلته عن التوبة: }ولكن كان في

. وقد أخبر28. فيقول الرب تعالى:} ال تختصموا لدي{ق27ضالل بعيد{ ق ,38-27سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه في سورتي ]الصاف"ات[

-56. وأخبر عن اختصام الناس بين يديه في سورة ]الزمر[39-37و ]األعراف[ , وسورة104-96. وأخبر عن اختصام أهل النار فيها في سورة ]الشعراء[ 60

.65-59]ص[

"م ثم أخبر سبحانه أنه ال يبد"ل القول لديه, فقيل: المراد بذلك قوله:} ألمألن" جهن"ة والناس أجمعين{هود . ووعده ألهل االيمان بالجنة, وأن هذا ال يبدل119من الجن

"اس: يريد ما لوعدي خلف ألهل طاعتي وال أهل معصيتي. وال يخلف. قال ابن عبقال مجاهد: قد قضيت ما أنا قاض. وهذا أصح القولين في اآلية.

"ر عند "ر القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغي وفيها قول آخر: ان المعنى ما يغي"ام. فيكون المراد بالقول قول المختصمين, وهو اختيار الفراء وابن الملوك والحك قتيبة, قال الفراء: المعنى مايكذب عندي لعلمي بالغيب. وقال ابن قتيبة: أي ما يحرف القول عندي وال يزاد فيه وال ينقص منه. قال: ألنه قال القول عندي, ولم

يقل قولي, وهذا كما قال ال يكذب عندي. فعلى القول األو"ل يكون قوله:} وما أنا"م للعبيد{ ق �بد"ل القول لدي"{ ق29بظال . في المعنى,29, من تمام قوله: }ما ي

أي ما قلته ووعدت به ال بد من فعله. ومع هذا فهو عدل ال ظلم فيه وال جور.وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين.

أحدهما: أن كمال علمه واطالعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه.

والثاني: أن كمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده.

"ما ألقى فيها فوج: }وتقول هل من مزيد{ق "م وأنها كل "ر عن سعة جهن .30ثم خب وأخطأ من قال ان ذلك للنفي, أي ليس من مزيد, والحديث الصحيح يرد" هذا

التأويل. الحديث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسل"م: "يلقى 460\8في النار وتقول هل من مزيد, حتى يضع قدمه فتقول:قط قط" البخاري

9

Page 10: الفوائد بن القيّم

وكذلك في صحيح مسلم. وعن أبي هريرة يرفعه," يقال4848,4849رقم "م هل امتألت؟ وتقول هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها لجهن

فتقول: قط قط".

"ة5] [ الصفات األربع ألهل الجن

ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين, وأن أهلها اتصفوا بهذه الصفات األربع:

اعا الى الله من معصيته الى طاعته, ومن الغفلة )األولى( أن يكون او"ابا, أي رج"عنه الى ذكره.

قال عبيد بن عمير: األو"اب الذي يتذطر ذنوبه ثم يستغفر منها.وقال مجاهد: هو"ب: هو الذي الذي اذا ذكر ذنبه في الخفاء استغفر منه. زقال سعيد بن المسي

يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب.

"اس: أن يكون حفيظا لما ائتمنه الله عليه وافترضه. وقال )الثانية( قال ابن عبقتادة: حافظ لما استودعه الله من حق"ه ونعمته.

ولما كانت النفس لها قو"تان: قوة الطلب وقوة االمساك, كان األواب مستعمال لقوة الطلب في رجوعه الى الله ومرضاته وطاعته. والحفيظ مستعمال لقوة

الحفظ في االمساك عن معاصيه ونواهيه.فالحفيظ الممسك نفسه عما حرم عليه, واألو"اب المقبل على الله بطاعته.

, يتضمن االقرار بوجوده وربوبيته33)الثالثة( قوله:} من خشي الرحمن بالغيب ق وقدرته وعلمه واطالعه على تفاصيل أحوال العبد. ويتضمن االقرار برسله وكتبه

وأمره ونهيه. ويتضمن االقرار بوعده ووعيده ولقائه, فال تصح خشية الرحمنبالغيب اال بعد هذا كله.

. قال ابن عباس: راجع عن معاصي الله,33الرابعة: قوله }وجاء بقلب منيب{ق مقبل على طاعة الله. وحقيقة االنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته

واالقبال عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه األوصاف بقوله:} ادخلوها.35و34بسالم ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد{ق

ثم خو"فهم بأنه يصيبهم من الهالك ما أصاب من قبلهم وأنهم كانوا أشد منهم "بوا وطافوا في بطشا ولم يدفع عنهم الهالك شد"ة بطشهم, وأنهم عند الهالك تقل

البالد, وهل يجدون محيصا ومنجى من عذاب الله؟.

قال قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركا. وقال الزجاج: طو"فوا وفتشوا فلم يروا محيصا عن الموت. وحقيقة ذلك أنهم طلبوا المهرب من الموت

فلم يجدوه.

10

Page 11: الفوائد بن القيّم

ثم أخبر سبحانه أن في هذا الذي ذكر:} لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى .37السمع وهو شهيد{ق

"ام ولم يمسه تعب وال "ة أي ثم أخبر أنه خلق السموات واألرض وما بينهما في ستاعياء, وتكذيبا ألعدائه اليهود, حيث قالوا انه استراح في اليوم السابع.

ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه وتعالى في الصبر على ما يقول أعداؤه فيه, كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود انه استراح: "وال أحد أصبر على أذى يسمعه

, ومسلم في6099 رقم 10/527منه".جزء من حديث أخرجه البخاري في األدب جميعا401,405, 4/395, وأحمد في المسند 51رقم 4/2160صفات المنافقين

من حديث ابي موسى األشعري.

ثم أمره بما يستعين به على الصبر وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وبالليل وأدبار السجود. فقيل هو الوتر. وقيل: الركعتان بعد المغرب.

واألول قول ابن عباس, والثاني قول عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي واحدى الروايتين عن ابن عباس. وعن ابن عباس رواية ثالثة أن التسبيح باللسان

أدبار الصلوات المكتوبات.

ثم ختم السورة بذكر المعاد, ونداء المنادي برجوع األرواح الى أجسادها للحشر. وأخبر أن هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد:} يوم يسمعون الصيحة

, بالبعث ولقاء الله:} يوم تشقق األرض عنهم{ كما تشقق عن42بالحق{ ق النبات, فيخرجون: }سراعا{ من غير مهلة وال بطء: ذلك حشر يسير عليه

سبحانه.

ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه عالم بما يقول أعداؤه, وذلك يتضم"ن مجازاته لهم بقولهم اذا لم يخف عليه, وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء.

ثم أخبره أنه ليس بمسلط عليهم وال قه"ار ولم يبعث ليجبرهم على االسالم ويكرههم عليه, وأمره أن يذكر بكالمه من يخاف وعيده فهو الذي ينتفع بالتذكير,

وأما من ال يؤمن بلقائه وال يخاف وعيده وال يرجو ثوابه, فال ينتفع بالتذكير.

[ فائدة6]فضيلة ألهل بدر

قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:" وما يدريك أن الله اط"لع على أهل بدر \7فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" البخاري في المغازي باب غزوة الفتح

\4(, ومسلم في باب فضائل الصحابة باب من فضل أهل بدر 4274 )592 , أبو داود, والترمذي وأحمد من حديث االمام علي, وومن حديث أبو هريرة1941

11

Page 12: الفوائد بن القيّم

\2, وأحمد في المسند 2761 رقم 404\2,الدرامي في الرقاق باب أهل بدر ., أشكل على كثير من الناس معناه, فان ظاهره اباحة مل األعمال لهم109

وتخييرهم فيما شاؤوا منها, وذلك ممتنع. ليس المراد من قوله "اعملوا" االستقبال, وانما هو للماضي, وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته: قال: ويدل

على ذلك شيئان:

)أحدهما(: أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله: فسأغفر لكم.

)والثاني(: أنه كان يكون اطالقا في الذنوب وال وجه لذلك. وحقيقة هذا الجواب اني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم, لكنه

ضعيف من وجهين:

)أحدهما( أن لفظ "اعملوا" يأباه, فانه لالستقبال دون الماضي. وقوله" قد غفرت لكم" ال يوجد أن يكون "اعملوا " مثله: فان قوله:" قد غفرت" تحقيق لوقوع

"ك{الفجر 1المغفرة في المستقبل كقوله: }أتى أمر الله{ النحل .22, و}جاء ربونظائره.

)ثانيهما( أن الحديث نفسه يرد"ه, فان سببه قص"ة حاطب وتجسسه على النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك ذنب وقع بعد غزوة بدر ال قبلها, وهو سبب الحديث,

فهو مراد منه قطعا, فالذي نظن في ذلك, والله أعلم أن هذا خطاب لقوم قد"هم ال يفارقون دينهم, بل يموتون على االسالم, وأنهم علم الله سبحانه وتعالى أن

"ن قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب, ولكن ال يتركهم سبحانه مصري عليها, بل يوف"قهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو اثر ذلك. ويكون

تخصيصهم بهذا دون غيرهم ألن قد تحقق ذلك فيهم, وأنهم مغفور لهم. وال يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم, كما ال يقتضي ذلك أن يعط"لوا الفرائض وثوقا بالمغفرة, فلو كانت قد حصلت بدون االستمرار على القيام

باألوامر لما احتجوا بعد ذلك الى صالة وال صيام وال حج وال زكاة وال جهاد, وهذامحال.

ومن أوجب الواجبات التوبة بعد ذلك, فضمان المغفرة ال يتوج"ب تعطيل أسباب المغفرة, ونظير هذا قوله في حديث آخر: "أذنب عبد ذنبا فقال: أى رب أذذنبت ذنبا فاغفر لي, فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال, رب أصبت ذنبا فاغفر لي فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا

آخر فقال: رب أصبت ذنبا فاغفر لي, فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر\13الذنوب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء" البخاري باب التوحيد

رقم2112\3, ومسلم في التوبة باب قبول التوبة من الذنوب 7507 رقم 474 وأحمد في المسند, ,أبو يعلى,من حديث ابو هريرة. فليس في هذا اطالق29

مات والجرائم, وانما يدل على أنه يغفر له ما دام واذن منه سبحانه له في المحر"كذلك اذا أذنب تاب.

12

Page 13: الفوائد بن القيّم

واختصاص هذا العبد بهذا ألنه قد علم أنه ال يصر على ذنب, وأنه كلما أذنب تاب, حكم يعم كل من كانت حالته حاله, لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما هو

مقطوع ألهل بدر.

ره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو أخبره بأنه مغفور وكذلك من بش" له, لم يفهم منه وال غيره من الصحابة اطالق الذنوب والمعاصي له ومسامحته

بترك الواجبات, بل كانوا هؤالء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها,كالعشرة المشهود لهم بالجنة.

"ق شديد الحذر والمخافة, وطذلك عمر, فانهم علموا أنهم وقد كان الصدي"دة بانتفاء "دة بقيود االستمرار عليها الى الموت, ومقي البشارة المطلقة مقي

موانعها, ولم يفهم أحد منهم من ذلك االطالق, االذن فيما شاؤوا من األعمال.

[ فائدة7]نظرة صائبة في تفسير قوله تعالى:

}هو الذي جعل لكم األرض ذلوال فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه51النشور{الملك

أخبر سبحانه أنه جعل األرض ذلوال منقادة للوطئ عليها وحفرها وشق"ها والبناء عليها, ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها. وأخبر سبحانه أنه جعلها مهادا وبساطا وفراشا وكفاتا )بطنها ألمواتكم وظهرها ألحيائكم من قول

الشعبي(. وأخبر أنه دحاها )أخرج منها الماء( وطجاها وأخرج منها ماءها ومرعاها,"تها بالجبال, ونهج فيها الفجاج )الطريق الواسع بين الجبلين( والطرق, وأجرى وثب فيها األنهار والعيون, وبارك فيها وقد"ر فيها أقواتها,ومن بركتها أن الحيوانات كلها

وأقواتها وأرزاقها تخرج منها. ومن بركتها أنها تحمل األذى على ظهرها وتخرج لك من بطنها أحسن األشياء وأنفعها, فتوارى منه كل قبيح وتخرج له كل مليح. ومن

بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضالت بدنه وتواريها وتضم"ه وتؤويه, وتخرج له طعامه وشرابه, فهي أحمل شئ لألذى وأعوده بالنفع, فال كان من التراب خيرا

منه وال أبعد عن األذى منه وأقرب من الخير.

والمقصود أنه سبحانه جعل لنا األرض كالجمل الذلول الذي كيفما يقاد ينقاد. وحسن التعبير بمناكبها عن طرقها وفجاجا لما تقد"م من وصفها بكونها ذلوال, فالماشي عليها يطأ على مناكبها وهو أعلى شئ فيها, ولهذا فسرت المناكب

بالجبال كمناكب االنسان وهي أعاليه.

13

Page 14: الفوائد بن القيّم

قالوا:وذلك تنبيه على أن المشى في سهولها أيسر.

وقالت طائفة: بل المناكب الجوانب والنواحي, ومنه مناكب االنسان لجوانبه, والذي يظهر أن المراد بالمنكب األعالي. وهذا الوجه الذي يمشي عليه الحيوان هو العالي من األرض دون الوجه المقابل له, فان سطح الكرة أعالها, والمش

انما يقع في سطحها, وحسن التعبير عنه بالمناكب لما تقد"م من وصفها بأنهاذلول.

"لها لهم ووط"أها, وفتق فيها ثم أمرهم أن يأكلوا من رزقه الذي أودعه فيها, فذل السبل والطرق التب يمشون فيها, وأودعها رزقهم فذكر تهيئة المسكن لالنتفاع

"ه بقوله: والتقليب فيها بالمجئ والذهاب, واألكل مما أودع فيه للساكن. ثم نب"ا في هذا المسكن غير مستوطنين وال مقيمين15} واليه النشور{ الملك , على أن

ا, وانما دخلناه لنتزو"د بل دخلناه عابري سبيل فال يحسن أن نتخذه وطنا ومستقر" منه الى دار القرار, فهو منزل عبور ال مستقر حبور )سرور(, ومعبر وممر, وال

وطن مستقر.

"ته, وقدرته وحكمه ولطفه, والتذكير "ته ووحداني فتضم"نت اآلية الداللة على ربوبي بنعمه واحسانه, والتحذير من الركون الى الدنيا, واتخاذها وطنا ومستقرا, بل

"ته. نسرع فيها السير الى داره وجن

فلله ما في ضمن هذه اآلية من معرفته وتوحيده, والتذكير بنعمته, والحث على السير اليه, واالستعداد للقائه, والقدوم عليه, واالعالم بأنه سبحانه يطوي هذه

الدار كأنها لم تكن, وأنه يحيى أهلها بعدما أماتهم واليه النشور.

[ فائدة8]نظرة الى سورة الفاتحة

لالنسان قوتان: قوة علمية نظرية, وقوة عملية ادارية. وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية واالدارية. واستكمال القوة العلمية انما يكون

بمعرفة فاطره وبارئه ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة الطريق التي توصل اليهومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها.

فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية. وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها. واستكمال القوة العملية االدارية ال يحصل اال بمراعات حقوقه

سبحانه على العبد, والقيام بها اخالصا وصدقا ونصحا واحسانا ومتابعة وشهودا"ته عليه, وتقصيره هو في أداء حق"ه. فهو مستحيى من مواجهته بتلك الخدمة لمن

لعلمه أنها دون ما يستحق"ه عليه ودون ذلك.

14

Page 15: الفوائد بن القيّم

وأنه ال سبيل له الى استكمال هاتين القوتين اال بمعونته. فهو يهديه الى الصراط "به الخروج عن ذلك الصراط,, المستقيم الذي هجى اليه أولياءه وخاص"ت, وأن يجن

اما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضالل, واما بفساد في قو"ته العمليةفيوجب له الغضب.

"تها سورة فكمال االنسان وسعادته ال تتم اال بمجموع هذه األمور, وقد تضمن الفاتحة وانتظمتها كمال انتظام. فان قوله تعالى:} الحمد لله رب العالمين.

, يتضم"ن األصل األو"ل وهو معرفة4-2الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين{الفاتحة الرب تعالى ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.

واألسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول األسماء الحسنى, وهي اسم ) الله والرب والرحمن(.

"ة, واسم )الرب( متضم"ن لصفات الربوبية, فاسم )الله( متضم"ن لصفات األلوهي واسم )الرحمن( متضمن لضفات االحسان والجود والبر. ومعاني أسمائه تدور

على هذا.

"اك نستعين{ الفاتحة "اك نعبد و إي , يتضم"ن معرفة الطريق الموصلة5وقوله:} إي"ه ويرضاه, واستعانته على عبادته. اليه, وأنها ليست اال عبادته وحده بما يحب

, يتضم"ن بيان أن العبد ال سبيل له6وقوله:} اهدنا الصراط المستقيم{الفاتحة الى سعادته اال باستقامه على الصراط المستقيم, وأنه ال سبيل له الى االستقامة

"ين{ الفاتحة ,7على الصراط اال بهدايته. وقوله:} غير المغضوب عليهم وال الضال يتضم"ن بيان طرفي االنحراف عن الصراط المستقيم, وأن االنحراف الى أحد الطرفين انحراف الى الضالل الذي هو فساد العلم واالعتقاد, واالنحراف الى

الطرف اآلخر انحراف الى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل.

فأو"ل السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على "ه الى قدر حظ"ه من الهداية, وحظ"ه منها على قدر حظ"ه من الرحمة, فعاد األمر كل

نعمته ورحمته.

"ته, فال يكون اال رحيما منعما وذلك من موجبات والنعمة والرحمة من لوازم ربوبي"ته, فهو االله الحق, وان جحده الجاحدون وعدل به المشركون. ألوهي

فمن تحق"ق بمعاني الفاتحة علما ومعرفة وعمال وحاال فقد فاز من كماله بأوفر "ة الخاص"ة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام "ته عبودي نصيب, وصارت عبودي

"دين , والله المستعان. المتعب

[ فائدة9]

15

Page 16: الفوائد بن القيّم

لمعرفته تعالى طريقان

الرب يدعو عباده في القرآن الى معرفته من طريقين: أحدهما : النظر في مفعوالته.

"رها, فتلك آياته المشهودة وهذه آياته المسموعة ثانيهما : التفكير في آياته وتدبالمعقولة.

فالنوع األو"ل كقوله:} ان" في خلق السموات واألرض واختالف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء

"ة وتصريف الرياح والسحاب فأحيا به األرض بعد موتها وبث" فيها من كل" داب.164المسخ"ر بين السماء واألرض آليات لقوم يعقلون{ البقرة

وقوله:} ان في خلق السموات واألرض واختالف الليل والنهار آليات ألولي , وهو كثير في القرآن.190األلباب{ آل عمران

"رون القرآن{ النساء .82والثاني كقوله:} أفال يتدب"روا القول{المؤمنون .68وقوله:} أفلم يد"ب"روا آياته{ ص , وهو كثير في القرآن.29وقوله:} كتاب أنزلناه اليك مبارك ليد"ب

"ة على الصفات. "ة على األفعال, واألفعال دال فأم"ا المفعوالت فانها دال فان المفعول يدل على فاعل فعله, وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته

وعلمه الستحالة صدور الفعل االختياري من معدوم أو موجود ال قدرة له وال حياةوال علم وال ارادة.

"ة على ارادة الفاعل, وأن ثم ما في المفعوالت من التخصيصات المتنو"عة دالفعله ليس بالطبع بحيث يكون واحدا غير متكرر.

وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى.وما فيها من النفع واالحسان والخير دال على رحمته.

وما فيها من البطش واالنتقام والعقوبة دال على غضبه."ته. وما فيها من االكرام والتقريب والعناية دال على محب

وما فيها من االهانة واالبعاد والخذالن دال على بغضه ومقته. وما فيها من ابتداء الشئ في غاية النقص والضعف ثم سوقه الى تمامه ونهايته

دال على وقوع المعاد.وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على امكان المعاد.وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة على خلقه دليل على صح"ة النبو"ات. وما فيها من الكماالت التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك

الكماالت أحق بها.

فمفعوالته أدل شيء على صفاته وصدق ما أخبرت به الرسل عنه, فالمصنوعات"هة على االستدال باآليات المصنوعات. قال شاهدة تصدق اآليات المسموعات, منب

16

Page 17: الفوائد بن القيّم

"ها الحق{فص"لت "ن لهم أن تعالى:} سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبي"ن لهم53 "ه ال بد أن يريهم من آياته المشهودة ما يبي . أي أن القرآن حق فأخبر أن

أن آياته المتلو"ة حق. ثم أخبر بكفاية شهادته على صحة خبره بما أقام من الدالئلوالبراهين على صدق رسوله.

فآياته شاهدة بصدقه, وهو شاهد بصدق رسوله بآياته, فهو الشاهد والمشهود له, وهو الدليل والمدلول عليه. فهو الدليل بنفسه على نفسه كما قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على ما هو دليل لي على كل شيء؟ فأي دليل

طلبته عليه فوجوده أظهر منه.

, فهو أعرف من كل10ولهذا قال الرسل لقومهم:} أفي الله شك{ ابراهيم معروف, وأبين من كل دليل.

فاألشياء ع�رفت به في الحقيقة وان كان ع�رف بها في النظر واالستدالل بأحكامه وأفعاله عليه.

[ فائدة 10]كيف يفعل من أصابه هم أو غم

في المسند وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدا هم وال حزن, فقال اللهم : اني عبدك,

وابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماضى في" حكمك, عدل في" قضاؤك,"مته أحدا من أسألك بكل اسم هم لك سم"ت به نفسك, أو أنزلته في كتابك أو عل

خلقك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجالء حزني, وذهاب هم"ي وغم"ي, اال أذهب الله هم"ه وغم"ه, وأبدله مكانه فرحا".. قالوا يارسول الله أفال

نتعل"مهن؟ قال: "بلى, ينبغيلمن سمعهن أن يتعل"مهن".و صححه األلباني في الكلم.81ص

"ة. منها أن فتضم"ن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبودي الداعي به صد"ر سؤاله بقوله: "اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك", وهذا يتناول من

فوقه من آبائه وأمهاته الى أبويه آدم وحو"اء, وفي ذلك تمل"ق )تودد وتلط"ف( له واستخذاء بين يديه واعترافه بأنه مملوكه وآبائه مماليكه وان العبد ليس له باب

"ده ان أهمله وتخل"ى عنه هلك, ولم يؤوه "ده وفضله واحسانه, وأن سي غير باب سي أحد ولم يعطف عليه, بل يضيع أعظم ضيعة. وتحت هذا االعتراف: أني ال غنى

"دي الذي أنا عبده, وفي عنك طرفة عين, وليس لي أن أعوذ به وألوذ به غير سي"ة ال "ر مأمور منهي, انما يتصر"ف بحكم العبودي ضمن ذلك االعتراف بأنه مربوب مدب

بحكم االختيار لنفسه.

فليس هذا في شأن العبد بل شأن الملوك واألحرار.

17

Page 18: الفوائد بن القيّم

"ة فهؤالء عبيد الطاعة المضافون اليه فهم على محض العبودي وأم"ا العبيد فتصر", وقوله:42سبحانه في قوله:} ان" عبادي ليس لك عليهم سلطان{ الحجر

, ومن عداهم عبيد63} وعباد الرحمن الذين يمشون على األرض هونا{ الفرقان القهر والربوبية, فاضافتهم اليه كاضافة سائر البيوت الى ملكه, واضافة أولئك

كاضافة البيت الحرام اليه, واضافة ناقته اليه وداره التي هي الجنة اليه, واضافة"ه لم"ا قام عبد الله يدعوه{. الجن .19عبودية رسوله اليه بقول: } وأن

"ة11] [ من معاني العبودي

وفي التحقيق بمعنى قوله "اني عبدك" التزام عبوديته من الذل والخضوع "ده, واجتناب نهيه, ودوام االفتقار اليه, واللجوء اليه, والنابة, وامتثال أمر سي

"ل عليه, وعياذ العبد به, ولياذه به, أن ال يتعل"ق قلبه اال بغيره واالستعانة به, والتوك"ة وخوفا ورجاء. محب

"تا, مطيعا وعاصيا, "ا ومي وفيه أيضا أني عبد من جميع الوجوه: صغيرا وكبيرا, حيمعافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح.

"ده. وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك, فان العبد وما يمتلك لسي

"ه من وفيه أيضا انك أنت الذي مننت علي" بكل" ما أما فيه من نعمة فذلك كلانعامك على عبدك.

وفيه أيضا اني ال أتصر"ف فيما خو"لتني من مالي ونفسي اال بأمرك, كما ال ا وال موتا وال حياة "ده, واني ال أملك لنفسي نقعا وال ضر" يتصر"ف العبد اال باذن سي

وال نشورا. فان صح" له شهود ذلك فقد قال لي اني عبدك حقيقة.

في كيف تشاء, لست أنا ثم قال" ناصيتي بيدك", أي أنت المتصر"ف في تصر"المتصر"ف في نفسي.

وكيف يكون له في تصر"ف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه, وموته وحياته وسعادته وشقاؤه وعافيته وبالؤه كله اليه

"ده أضعف من مملوك سبحانه, ليس الى العبد منه شيء, بل هو في تصر"ف سيفه وقهره بل األمر ضعيف حقير, ناصيته بيد سلطان قاهر, مالك له تحت تصر"

فوق ذلك.

ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء, لم يخفهم بعد ذلك, ولم يرجهم, ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد

"ر لهم غيرهم, فمن شهد مقهورين مربزبين, المتصر"ف فيهم سواهمو والمدب

18

Page 19: الفوائد بن القيّم

نفسه بهذا المشهد, صار فقره وضرورته الى ربا وصفا الزما له, ومتى شهد"له الناس كذلك لم يفتقر اليهم, ولم يعل"قالأمله ورجاءه بهم, فاستقام توحيده, وتوك"ة اال "كم ما من داب "لت على الله ربي ورب وعبوديته. ولهذا قال هود لقومه:} اني توك

.56هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم{ هود

وقوله :"ماض في" حكمك, عدل في" قضاؤك" تضم"ن هذا الكالم أمرين:أحدهما: مضاء حكمه في عبده.

ثانيهم: يتضم"ن حكمه وعدله وهو سبحانه له الملك وله الحمد, وهذا معنى قول"ة اال هو آخذ بناصيتها{, ثم قال: }ان ربي على صراط "ه هود:} ما من داب نبي

فا في عباده, نواصيهم بيده فهو على مستقيم{ أي مع كونه قاهرا مالكا متصر"صراط مستقيم.

ف به فيهم فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وهو العدل الذي يتصر"وقضائه وقدره ونهيه وثوابه وعقابه.

"ه عدل, وأمره كله مصلحة, والذي نهى عنه كله فخبره كله صدق, وقضاؤه كل مفسدة, وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله, ورحمته وعقابه لمن يستحق له

العقاب بعله وحكمته.

[ القضاء والحكم والفرق بينهما12]

وفرق بين الحكم ولبقضاء, وجعل المضاء للحكم, والعدل للقضاء, فان حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي, وحكمه الكوني القدري.

والنوعان نافذان في العبد ماضيان فيه, وهو مقهور تحت الحكممين, قد مضيا فيه, ونفذا فيه, شاء أم أبى, لكن الحكم الكوني ال يمكنه مخالفته, أما الديني

الشرعي فقد يخالفه.

ولما كان القضاء هو االتمام واالكمال, وذلك انما يكون بعد مضيه ونفوذه, قال:" عدل في قضاؤك" أي الحكم الذي أكملته وأتممته ونف"ذته في عبدك عدل

منك فيه.

أما الحكم فهو يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد ال ينفذه, فان كان حكما دينيا فهو ماض في العبد, وان كان كونيا فان نفذه سبحانه مض فيه, وان لم

ينف"ذه اندفع عنه, فهو سبحانه يقضي ما يقضي به. وغيره قد يقضي بقضاء ويقد"رأمرا ال يستطيع تنفيذه. وهو سبحانه يقضي ويمضي فله القضاء واالمضاء.

وقوله:" عدل في قضاؤك" يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه, من صحة وسقم, وغنى وفقر, ولذ"ة وألم, وحياة وموت, وعقوبة وتجاوز وغير ذلك.

19

Page 20: الفوائد بن القيّم

, وقال:30قال تعالى: }وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم{ الشورى .48} وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان" االنسان كفور{ الشورى

فكل ما يمضي على العبد فهو عدل فيه.

فان قيل: فالمعصية عندكم بقضائه وقدره! فما وجه العدل في قضائها؟ فان العدل في العقوبة عليها غير ظاهر. قيل: هذا سؤال له شأن, ومن أجله زعمت

طائفة أن العدل هو المقدور, والظلم ممتنع لذاته. قالوا: ألن الظلم هو التصر"ففه في عبده اال عدال. في ملك الغير والله له كل شيء. فال يكون تصر"

وقالت طائفة : بل العدل أنه اليعاقب على ما قضاه وقدره, فلم"ا حسن منه "ه ليس بقائه وره, فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب العقوبة على الذنب ع�لم أن

بالعقوبة والذم اما في الدنيا واما في اآلخرة. وصعب على هؤالء الجمع بين العدل والقدر, فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل, ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر. كما صعب عليهم الجمع بين التوحيد واثبات الصفات, فزعموا أنهم ال يمكنهم اثبات التوحيد اال بانكار الصفات, فصار توحيدهم تعطيال

وعدلهم تكذيبا بالقدر.

وأما أهل السنة فهم مثبتون لألمرين, والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير ه الله نفسه عنه في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن ال ذنب له, وهذا قد نز"

:} ان الله ال يظلم شيئا44موضع من كتابه كقوله تعالى في سورة يونس اآلية ولكن الناس أنفسهم يظلمون{., وهو سبحانه وان ضل" من شاء, وقضى

بالمعصية وألغى من شاء, فذلك محض العدل فيه, ألنه وضع االضالل والخذالن في موضعه الالئق به,وكيفالومن أسمائه الحسنى العدل., الذي كل أفعاله

وأحكامه سداد وصواب وحق, وهو سبحانه قد أوضح السبل, وأرسل الرسل, وأنزل الكتاب, وأزاح العلل, ومك"ن من أسباب الهداية والطاعة باألسماع واألبصار

والعقول, وهذا عدله, ووف"ق من يشاء بمزيد عناية, وأراد من نفسه أن يعينه ويوف"قه, فهذا فضله, وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله, وخلى بينه وبين

نفسه, ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوف"قه, فقطع عنه فضله, ولم يحرمه عدله.وهذا نوعان:

)أحدهما( ما يكون جزاء منه للعبد على اعراضه عنه, وايثاره عدوه في الطاعة,والموافقة عليه, وتناسي ذكره وشكره, فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه.

)ثانيهما( أن ال يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه ال يعرف قدر نعمة الهداية,وال يشكره عليه,وال يثني عليه بها,وال يحبه, فال يشاؤها له لعدم صالحية محله.

"ا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤالء من" الله عليهم من بيننا قال تعالى:} وكذلك فتن , وقال:} ولو علم الله فيهم خيرا53أليس الله أعلم بالشاكرين{ األنعام

.22ألسمعهم ولو أسمعهم { األنفال

20

Page 21: الفوائد بن القيّم

فاذا قضى بهذه النفوس بالضالل والمعصية, كان ذلك محض العدل, كما قضى "ة بأن تقتل وعلى العقرب وعلى الكلب العقور, وكان ذلك عدل فيه, على الحي

وان كان مخلوقا على هذه الصفة. وقد استوفينا الكالم في هذا في كتابنا القضاءوالقدر, اسمه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.

والمقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم:" ماض في" حكمك, عدل في" "ة الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده, قضاؤك", رد على الطائفتين, القدري

ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره, ويردون القضاء الى األمر"ة الذين يقولون: كل مقدور عدل, فال يبقى لقوله" عدل في" والنهي. وعلى الجبري

قضاؤك" فائدة, فان العدل عندهم كل ما يمكن فعله والظلم هو المحال لذاته,فكأنه قال: ماض ونافذ في" قضاؤك. وهذا هو األول بعينه.

وقوله "أسألك بكل اسم" الى آخره, توسل اليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل اليه, فانها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي

مدلول أسمائه.

وقوله: "أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري" الربيع : المطر الذي يحيي به "ه القرآن به لحياة القلوب به. وكذلك شبهه الله بالمطر, وجمع بين األرض. شب الماء الذي تحصل به الحياة, والنور الذي تحصل به االنارة واالشراق, كما جمع بينهما سبحانه في قوله:} أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل

, وقوله:17السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار وابتغاء حلية...{الرعد } مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلم"ا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم{ البقرة

"ب من السماء{ البقرة 17 , وفي قوله :} الله نور19, ثم قال:} أو كصي , ثم قال:} ألم ترى أن الله يجزي سحابا ثم35السموات واألرض....{ النور

له من السماء من يؤل"ف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خالله وينز" جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه

, فتضم"ن الدعاء أن يجيي قلبه بربيع القرآن وأن ينو"ر به43يذهب باألبصار{ النور صدره فتجتمع له الحياة والنور. قال تعالى: } أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له

.122نورا يمشي به بين الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها{ األنعام

ولما كان الصدر أوسع من القلب, كان النور الحاصل له يسري منه الى القلب, ألنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولما كانت حياة البدن والجوارح, كلها بحياة

القلب, تسري الحياة منه الى الصدر, ثم الى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو ماد"تها. ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حيا ة القلب واستنارته, سأل أن

يكون ذهابها بالقرآن, فانها أحرى أال تعود, وأما أنها ذهبت بغير القرآن من صحةأو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد, فانها تعود بذهاب ذلك. والمكروه الوارد على القلب

ان كان من أمر ماض أحدث الحزن, وان كان من مستقبل أحدث الهم, وان كانمن أمر حاضر أحدث الغم, والله أعلم.

21

Page 22: الفوائد بن القيّم

[ فائدة13]أنزه الموجودات وأشرفها عرش الرحمن جل" جالله

أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعالها ذاتا وقدرا وأوسعها عرش الرحمن جل" جالله. ولذلك صلح الستوائه عليه. وكل ما كان أقرب الى العرش"ة الفردوس أعلى الجنان كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه. ولهذا كانت جن

"ها لقربها من عرش الرحمن الذي هو سقفها, وكل ما بعد وأشرفها وانورها وأجل عنه كان أظلم وأضيق. ولهذا كان أسفل سافلين شر" األمكنة وأضيقها وأبعدها من

كل خير.

"ته وارادته, فهي عرش المثل وخلق الله القلوب وجعلها محال لمعرفته ومحب"ته وارادته. قال الله تعالى:} للذين ال يؤمنون األعلى الذي هو معرفته ومحب

, وقال60باآلخرة مثل السوء ولله المثل األعلى وهو العزيز الحكيم{ النحل تعالى"} وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل األعلى في

, وقال تعالى:} ليس كمثله27السموات واألرض وهو العزيز الحكيم{ الروم . فهذا من المثل األعلى وهو مستو على قلب المؤمن فو11شيء{ الشورى

عرشه وان لم يكن أطهر األشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس لم يصلح الستواء المثل األعلى عليه معرفة ومحبة وارادة, فاستوى عليه مثل الدنيا األسفل

ومحبتها ومعرفتها وارادتها والتعل"ق بها, فضاق وأظلم وبعد من كماله وفالحه حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والبهجة وذخائر الخير, وقلب هو عرش الرحمن, فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم, فهو حزين على ما مضى, مهموم بما يستقبل, مغموم في

الحال.

"م أنه قال:" اذا دخل وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صل"ى الله عليه وسل النور القلب, انفسح وانشرح" قالوا فما عالمة ذلك يا رسول الله؟ قال:" االنابة الى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, واالستعداد للموت قبل نزوله" أخرجه

, وأبو نعيم,72\6, والبغوي في شرح السنة 20\8ابن جرير في التفسير , وضع"فه األلباني في السلسلة الضعيفة156والبيهقي في األسماء والصفات ص

.965بقم

والنور الذي يدخل القلب انما هو من آثار المثل األعلى فلذلك ينفسح وينشرح, "ته, فحظ"ه الظلمة والضيق. واذا لم يكن فيه معرفة الله ومحب

[ فائدة14]عظمته سبحانه وتعالى

تأم"ل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله, وله الحمد كله أزم"ة االمور كلها بيده, ومصدرها منه, ومرد"ها اليه, مستويا على سرير ملكه, ال تخفى عليه خافية

22

Page 23: الفوائد بن القيّم

في أقطار مملكته, عالما بما في نفوس عبيده, مط"لعا على أسرارهم وعال نيتهم, منفردا بتدبير المملكة, يسمع ويرى, يمنع ويعطي, ويثيب ويعاقب, ويكرم ويهين,

"ر. يخلق ويرزق, ويميت ويحيي, ويقدر ويقضي ويدب

ة اال باذنه, وال ك ذر" األمور نازلة من عندها دقيقها وجليلها, وصاعدة اليه ال تتحر" تسقط ورقة اال بعلمه. فتأم"ل كيف تجده يثني على نفسه, ويمج"د نفسه, ويحمد

"هم على ما فيه سعادتهم وفالحهم, ويرغ"بهم فيه, نفسه, وينصح عباده, ويدلف اليهم بأسمائه وصفاته, ويتحبب اليهم بنعمه ويحذ"رهم مما فيه هالمهم, ويتعر""رهم بنعمه عليهم, ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها, ويحذ"رهم من وآالئه, فيذك

"رهم بما أعد لهم من الكرامة ان أطاعوه, وما أعد لهم من العقوبة ان نقمه ويذك عصوه, ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه, وكيف كابت عاقبة هؤالء, ويثني على

أوليائه بصالح أعماله, وأحسن أعمالهم, ويذم أعدائه بسي"ء أعمالهم, وقبيح"ة والبراهين, ويجيب عن شبه أعدائه أحسن صفاتهم. ويضرب األمثال, وينو"ع األدل

األجوبة, ويصدق الصادق, ويكذب الكاذب, ويقول الحق, ويهدي السبيل, ويدعو الى دار السالم, ويذكر أوصافها وصفاتها وحسنها ونعيمها, ويحذ"ر من دار البوار,

ويذكر عذابها وقبحها وآالمها, ويذكر عباده فقرهم اليه وشد"ة حاجتهم اليه من كل وجه, وأنهم ال غنى لهم عنه طرفة عين, ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات,

وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه, وكل ما سواه فقير اليه بنفسه, وأنه ال ينالة من الشر فما فوقها اال ة من الخير فما فوقها اال بفضله ورحمته, وال ذر" أحد ذر" بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه ألحبابه ألطف عباد, وأنه مع ذلك مقيل

عثراتهم وغافر زالتهم ومقيم أعذارهم, ومصلح فاسدهم والدافع عنهم, والمحامي عنهم, والناصر لهم, والكفيل بمصالحهم, والمنجي لهم من كل كرب, والموفي

"هم الذي ال ولي لهم سواه فهو موالهم الحق, ونصيرهم على لهم بوعده, وأنه وليعدوهم, فنعم المولى ونعم النصير.

فاذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميال هذا شأنه فكيف

"ه, وتنافس في القرب منه, وتنفق أنفاسها في التودد اليه, ويكون أحب اليها ال تحب من كل ما سواه, ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟ وكيف ال تلهج بذكره,

ويصير الحب والشوق اليه واألنس به غذاؤها وقوتها ودواؤها, بحيث ان فقدتذلك فسدت وهلكت, ولم تنتفع بحياتها؟.

[ فائدة15]ال بد من قبول المحل لما يوضع فيه أن يفرغ من ضد"ه

قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضد"ه. وهذا كما أنه في الذوات واألعيان فكذلك هو واالعتقادات والرادات. فاذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا

"ته موضع, كما أن اللسان اذا اشتغل "ة, لم يبق فيه العتقاد الحق ومحب ومحب بالتكلم بما ال ينفع,, لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه, اال اذا فرغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح اذا اشتغلت بغيرالطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة

23

Page 24: الفوائد بن القيّم

"ة غير الله وارادته, والشوق اال اذا فرغها من ضدها فكذلك القلب المشغول بمحب اليه, ال يمكن شغله بمحبة الله وارادته وحبه والشوق الى لقائه اال بتفريغه من"قه بغيره. وال حركة اللسان بذكره, والجوارح بخدمته اال اذا فرغها من ذكر تعل

غيره وخدمته. فاذا امتالء القلب بالشغل بالمخلوق, والعلوم التي ال تنفع, لم يبقفيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.

وسر ذلك: أن اصغاء القلب كاصغاء األذن, فاذا صغى الى غير حديث الله, لم "ة الله, لم يبق فيه ميل يبق فيه اصغاء, وال فهم لحديثه, كما اذا مال الى غير محب

"ته. فاذا نطق القلب بغير ذكره, لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان. الى محب

ولهذا في الصحيح عن النبي أنه قال:" ألن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه (,6155 )564\10خير له من أن يمتلئ شعرا". أخرجه البخاري في األدب

ومسلم في الشعر , وأبو داود, والترمذي, وجميعا من حديث ابو هريرة."ن أ، الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخياالت فبي

"هات والمضحكات والتقديرات التي ال وجود لها, والعلوم التي ال تنفع, والمفك والحكايات ونحوها. واذا امتالء القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به

كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغا لها وال قبوال, فتعدته وجاوزته الى محل سواه, كما اذا بذلت النصيحة لقلب مآلن من ضدها ال منفذ لها فيه فانه ال يقبلها, وال تلج

فيه, لكن تمر مجتازة ال مستوطنة, ولذلك قيل:ه ه فؤادك عن سوانا تلقنا فجنابنا حل لكل منز" نز"

والصبر طلسم لكنز وصالنا من حل" ذا الطلسم فازبكنزه

وبالله التوفيق.

[ فائدة16]الكالم قي ألهاكم التكائر

أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد, وكفى بها موعظة لمن عقلها. فقوله تعالى:} ألهاكم { أي شغلكم على وجه ال تعذرون فيه فان االلتهاء عن

الشيء هو االشتغال عنه. فان كان بقصد فهو محل التكليف, وان كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسل"م في الخميصة:" انها ألهتني آنفا عن صالتي" البخاري

وأبوداود. كان صاحبه معذورا وهو نوع من391\1, ومسلم575\1في الصالة النسيان. وفي الحديث " فلها صلى الله عليه وسلم عن الصبي" أي ذهل عنه,

\3, ومسلم في اآلداب 6191 رقم591\10جزء من حديث, البخاري كتاب األدب , والبيهقي. 29 رقم 1692

ويقال: لها بالشيء, أي اشتغل به. ولها عنه: اذا انصرف عنه. واللهو للقلب واللعب للجوارح, ولهذا يجمع بينهما. ولهذا كان قوله:} ألهاكم التكاثر{ أبلغ في الذم من شغلكم. فان العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير اله به. فاللهو هو ذهول واعراض. والتكاثر تفعل من الكثرة اي مكاثرة بعضكم لبعض

وأعرض عن ذكر المتكاثر به ارادة الطالقه وعمومه أن كل ما يكاثر به العبد غيره

24

Page 25: الفوائد بن القيّم

سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر. فالتكاثر في كل شيء من جاه أو مال أو رئاسة أو نسوة أو حديث أو علم, وال"ما اذا لم يحتج اليه. والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها سي

وتوليدها. والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره, وهذا مذموم اال فيماب الى الله, فالتكاثر فيه منافسة للخيرات ومسابقة اليها. يقر"

وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن الشخير أنه: انتهى الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ }ألهاكم التكاثر{ قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي,

وهل لك من مالك اال ما تصد"قت به فأمضيت, أو أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت., كما أخرجه الترمذي, والنسائي وأحمد.3رقم2273\4الزهد والرقائق

[ تنبيه17]من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه

.من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنهللعبد ستر بينه وبين الله , وستر بينه وبين الناس, فمن هتك الستر الذي بينه

وبين الله , هتك الستر الذي بينه وبين الناس.ه قبل لقائه" للعبد رب هو مالقيه وبيت هو ساكنه, فينبغي له أن يسترضي رب

ويعم"ر بيته قبل انتقاله اليه.اضاعة الوقت أشد من الموت, ألن اضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار

اآلخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها..الدنيا من أولها الى آخرها ال تساوي غم ساعة, فكيف بغم العمر.محبوب اليوم يعقبه المكروه غدا, ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غداأعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع في

معادها..ة بما فيها شهوة ساعة" كيف يكون عاقال من باع الجنيخرج العرف من الدنيا ولم يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه, وثناؤه

"ه. على ربالمخلوق اذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى اذا خفته أنست

به وقربت اليه.لو نفع العلم بما عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ولو نفع العمل بال

اخالص لما ذم المنافقين.دافع الخطرة, فان لم تفعل صارت فكرة. فدافع الفكرة, فان لم نفعل صارت

شهوة. فحاربها, فان لم تفعل صارت عزيمة وهم"ة, فان لم تدافعها صارتفعال, فان لم تتداركه بضد"ه صار عادة فيصعب عليك االنتقال عنها.

:التقوى ثالث مراتبمات. احداها: حمية القلب والجوارح عن اآلثام والمحر"

الثانية: حميتها عن المكروهات.الثالثة: الحمية عن الفضول وما ال يعني.

25

Page 26: الفوائد بن القيّم

فاألولى تعطي العبد حياته, والثانية تفيد صحته وقوته, والثالثة تكسبه سرورهوفرحه وبهجته.

غموض الحق حين تذب عنه يقلل ناصر الخصم المحقتضل عن الدقيق فهوم قوم فتقضي للمجل" على المدق"

بالله أبلغ ما أسعى وأدركه ال بي وال بشفيع لي من الناساذا أيست وكاد اليأس يقطعني جاء الرجاء مسرعا من جانب اليأس

ة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره, ومن خلقه الله للنار لم" من خلقه الله للجنتزل هداياها تأتيه من الشهوات.

لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها. اقرأمن سورة األعراف.24-19اآليات

ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤية لبث فيها بضع.42سنين. اقرأ يوسف آية

:ة مشاهد" اذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ست األو"ل: مشهد التوحيد, وأن الله هو الذي قد"ره وشاءه وخلقه, وما شاء الله كان

وما لم يشأ لم يكن.الثاني: مشهد العدل, وأنه ماض فيه حكمه, عدل فيه قضاؤه.

الثالث: مشهد الرحمة,وأن رحمته في هذا المقدور غالبه لغضبه وانتقامه,ورحمةه حشوه أي ظاهره بالء وباطنه رحمة.

الرابع: مشهد الحكمة, وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك, لم يقد"ره سدى وال قضاهعبثا.

الخامس: مشهد الحمد, وان له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه."ده "ة, وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سي السادس: مشهد العبودي

"ة كما يصرفه تحت وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده, فيصرفه تحت أحكامه القدري"ة, فهو محل لجريان هذه األحكام عليه. أحكامه الديني

ة التوفيق وفساد الرأي, وخفاء الحق, وفساد القلب, وخمول الذكر, واضاعة" قل"ه, ومنع اجابة الدعاء, وقسوة الوقت, ونفرة الخلق, والوحشة بين العبد وبين رب

القلب, ومحق البركة في الرزق والعمر, وحرمان العلم, ولباس الذل, واهانة العدو, وضيق الصدر, واالبتالء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون

"د من الوقت, وطول الهم والغم, وضنك المعيشة, وكسف البال... تتول"د الزرع عن الماء, واالحراق عن النار. المعصية والغفلة عن ذكر الله, كما يتول

"د عن الطاعة. وأضداد هذه تتول

[- فصل18]من معاني االنصاف له تعالى

26

Page 27: الفوائد بن القيّم

"ه فأقر بالجهل في عامه, وأآلفات في عمله, والعيوب في طوبى لمن أنصف رب نفسه, والتفريط في حقه, والظلم في معاملته. فان آخذه بذنوبه رأى عدله,

وان لم يؤاخذه بها رأى فضله.

"ة وصدقة ثانية, "ته وصدقته عليه, فان قبلها فمن وان عمل حسنة رآها من منوان رد"ها فلكون كثلهاال يصلح أن يواجه به.

"يه عنه, وخذالنه له, وامساك عصمته عنه, وذلك "ئة رآها من تخل وان عمل سي

"ه, وظلمه في نفسه, فان غفرها له عدله فيه, فيرى في ذلك فقره الى ربفبمحض احسانه وجوده وكرمه.

"ه اال محسنا وال يرى نفسه اال مسيئا أو "ه ال يرى رب ها أن ونكتة المسألة وسر""ه عليه واحسانه اليه وكل ما ه من فضل رب مفرطا أو مقص"رافيرى كل ما يسر"

يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه.

"ائهم قالوا: سقيا لسكانها. وكذلك المحب اذا أتت "ون اذا خربت منازل أحب المحب عليه األعوام تحت التراب ذكر حينئذ حسن طاعته له في الدنيا وتودده اليه وتجد

رحمته وسقياه لمن كان ساكما في تلك األجسام البالية.

[ فائدة19]الغيرة نوعان

الغيرة غيرتان: غيرة على الشيء وغيرة من الشيء, فالغيرة على المحبوب حرصك عليه, والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه. فالغيرة على المحبوب ال تتم اال بالغيرة من المزاحم, وهذه تحمد حيث يكون المحبوب تقبح المشاركة في حبه كالمخلوق, وأما من تحسن المشاركة في حبه كالرسول والعالم بلالحبيب القريب سبحانه وتعالى فال يتصو"ر غيرة المزاحمة عليه بل هو حسد.

والغيرة المحمودة في حقه أن يغار المحب على محبته له أن يصرفها الى غيره, أو يغار عليها أن يطلع عليها الغير فيفسدها عليه, أو يغار على أعماله أن يكون

فيها شيء لغير محبوبه, أو يغار عليها أن يشوبها ما يكره محبوبه من رياء أواعجاب أو محبة الشراف غيره عليها أو غيبته عن شهود منته عليها فيها.

وبالجملة, فغيرته يقيضي أن تكون أحواله وأعماله وأفعاله كلها لله. وكذلكبغار على أوقاته أ، يذهب منها وقت في غير رضى محبوبه, فهذه الغيرة من جهة العبد

وهي غيرة من المزاحم له المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه.

وأما غيرة محبوبه عليه فهي كراهية أن ينصرف قلبه عن محبته الى محبة غيره, م عليه, وألجل بحيث يشاركه في حبه, ولهذا كانت غيرة الله أن يأتي العبد ما حر"

27

Page 28: الفوائد بن القيّم

؛ ألن الخلق عبيده واماؤه, م الفاحشة ما ظهر منها وما بطن� غيرته سبحانه حر" فهو يغار على امئه كما يغار السيد على جواريه, ولله المثل األعلى. ويغار على

عبيده أن تكون محبتهم لغيره, بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيلالفاحشة منها.

"وه. *من عشق وقار الله في قلبه أن يعصيه, وق"ره الله في قلوب الخلق أن يذل *اذا علقت شروش المعرفة في أرض القلب, نبتت فيه شجرة المحبة, فاذا

"نت وقويت أثمرت *الطاعة, فال تزال الشجرة:} تؤتي أكلها كل حين باذن تمك"ها{. رب

"حوه بكرة وأصيال{ األحزاب -41*أول منازل القوم:} اذكروا االه ذكرا كثيرا. وسب . *وأوسطها }هو الذي يصل"ي عليكم ومالئكته ليخرجكم من الظلمات الى42

"تهم يوم يلقونه سالم{ األحزاب 43النور{ األحزاب .44. *وآخرها:} تحي *أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها, فان غرست شجرة االيمان والتقوى

. أورثت حالوة األبد, وان غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مر" *ارجع الى الله واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك, وال تشرد عنه من هذه األربعة, فما رجع من رجع اليه بتوفيقه اال منها, وما شرد من شرد عنه بخذالنه اال

منها, ماموفق يسمع ويبصر ويتكل"م ويبطش بمواله, والمخذول يصدر ذلك عنهبنفسه وهواه.

*مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها, كمثل نواة غرستها, فصارت شجرة, ثم أثمرت فأكلت ثمارها, وغرست نواها, فكلما أثمر منها شيء, جنيت ثمره,

"ر اللبيب هذا المثال. فمن ثواب وغرست نواه. وكذلك تداعي المعاصي, فليتدبالحسنة الحسنة بعدها, ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها.

"د له وال يمل خدمته مع حاجته وفقره * ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعب اليه, انما العجب من مالك يتحبب الى مملوكه بصنوف انعامه ويتودد اليه بأنواع

احسانه مع غناه عنه.

ا أنك له عبد وكفى بك فخرا أنه لك رب كفى بك عز"

"مة20] [ فوائد قي"اك والمعاصي اي

.}اك والمعاصي فانها أذل"ت عز }اسجدوا{ وأخرجت قطاع }أسكن" اي يا لها من لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة ما زال يكتب بدم الندم سطور

الحزن في القصص, ويرسلها مع أنفاس األسف حتى جاءه توقيع }فتابعليه{.

فرح ابليس بنزول آدم من الجنة, وما علم أن هبوط الغائص في اللجة خلف ,30الدر صعود. كم بين قوله آلدم: }اني جاعل في األرض خليفة{البقرة

.63وقوله لك }اذهب فمن تبعك منهم{ السراء

28

Page 29: الفوائد بن القيّم

ما جرى على آدم هو المراد من وجوده, "لو لم تذنبوا.." جزء من حديث . "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا2739رقم 2106\4أخرجه مسلم في التوبة

لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم". فلك24يا آدم ال تجزع من قوله لك: }اهبطوا بعضكم لبعض عدو{ األعراف ,

ولصالح ذريتك خلقتها.يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك, واليوم تدخل علي دخول

العبيد على الملوك. 216يا آدم ال تجزع من قولي لك:} وعسى أن تكرهوا..{ البقرة. ,تك عنه ألكمل عمارته لك" يا آدم لم اخرج اقطاعك الى غيرك, انما نحي

.16وليبعث الى العم"ال نفقة :} تتجافى جنوبهم..{ السجدة تالله ما نفعه عند معصية عز }اسجدوا{ وال شرف :} وعل"م آدم..{ وال

, وال فخر:} لما نفخت فيه من75خصيصت :} لما خلقت بيدي..{ص ,23. وانما انتفع بذل:} ربنا ظلمنا أنفسنا...{ األعراف 29روحي..{ الحجر

لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه فوضع عليه جبار االنكسار فعاد كما كان فقام الجريح كأن لم يكن به

"ة(. قلبة.)أي عل

[ سلمان منا آل البيت )حديث شريف(21]

وسكت عنه الذهبي في تلخيصه: سنده598\3أخرجه الحاكم في المستدرك .234\5 والبغوي في شرح السنة 261\6ضعيف. والطبراني في المعجم الكبير

والبيهقي في دالئل النبو"ة. لعمرك ما االنسان اال ابن دينه فالتترك التقوى اتكاال على النسب

فقد رفع االسالم سلمان فارس وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب

.أة للمراد, وأقدام المطرود موثوقة بالقيود" نجائب النجاة مهي"ت عواصف األقدار في بيداء األكوان, قتقلب الوجود ونجم الخير, فلما هب

ركدت الريح اذا أبو طالب غريق في لجة الهالك, وسلمان علىاحل السالمة. والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه, وصهيب قد قدم بقافلة الروم,

والنجاشي في أرض الحبشة يقول: لبيك اللهم لبيك, وبالل ينادي: الصالة خيرمن النوم, وأبو جهل في رقدة المخلفة.

لما قضى في القدم بسابقة سلمان عرض به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس )المجوسية(, فأقبل يناظر أباه في دين الشرك, فلما عاله

بالحجة لم يكن له جواب اال القيد. وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم , وبه29عرفوه, وبه أجاب فرعون موسى:}لئن اتخذت الها غيري{ الشعراء

أجاب الجهمية: االمام أحمد لما عرضوه على السياط. وبه أجاب أهل البدع شيخ االسالم حين استودعوه السجن –وها نحن على األثر- فنزل به ضيف

سورة البقرة. فنال باكرامه مرتبة "سلمان155}لنبلونكم{ جزء من اآلية

29

Page 30: الفوائد بن القيّم

منا أهل البيت", فسمع أن ركبا على نية السفر, فسرق نفسه من أبيه والقطع, فركب رحالة العزم يرجو ادراك مطلب السعادة, فغاص في بحر

ة الوجود, فوقف نفسه على خدمة األدالء وقوف األذالء, فلما البحث ليقع بدر" أحس الرهبان بانقراض دولتهم سلموا اليه أعالم االعالم على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وقالوا: ان زمانه قد أطل, فاحذر أن تضل, فرحل مع رفقة

, فابتاعه20لم يرفقوا به }وشروه بثمن بخس دراهم معدودة{ يوسف يهودي بالمدينة, فلما رأى الحرة تولد حرا شوقه, ولم يعلم رب المنزل بوجد

النازل. فبينا هو يكابد ساعات االنتظار قدم البشير بقدوم البشير, وسلمان في رأس نخلة, وكاد القلق يلقيه لوال أن الحزم أمسكه كما جرى يوم:}ان

, فعجل النزول لتلقي10كانت لتبدي به لوال أن ربطنا على قلبها{ القصص ركب البشارة ولسان حاله يقول:

خليلي من نجد قفا بي على الربا فقد هب من تلك الديارنسيم

فصاح به سيده: مالك؟ انصرف الى شغلك. فقال

كيف انصرافي ولي في داركم شغل

ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع األطروش.

خليلي ال والله ما أنا منكما اذا علم من آل ليلى بداليا

فلما لقى الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب األصل فوافقه. يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان, أبو طالب اذا سئل عن

اسمه قال عبد مناف, واذا انتسب افتخر باآلباء, واذا ذكرت األموال عد" االبل. وسلمان اذا سئل عن اسمه قال: عبدالله, وعن نسبه قال: ابن االسالم, وعن

ماله قال: الفقر, وعن حانوته قال المسجد, وعن كسبه قال الصبر, وعن لباسه قال: التقوى والواضع, وعن وساده قال السهر, وعن فخره قال:

, وعن سيره قال52"سلمان منا" وعن قصده قال:} يريدون وجهه{ األنعام الى الجنة, وعن دليله في الطريق قال: امام الخلق وهادي األمة.

"ب ذكرك اذا نحن أدجلنا وأنت امامنا كفى بالمنايا طي

حاديا وان نحن أضللنا الطريق ولم نجد دليال, كفانا نور وجهك

هاديا

أدجلنا = أدخلنا.

30

Page 31: الفوائد بن القيّم

*الذنوب جراحات, ورب جرح وقع في مقتل.*لو خرج عقلك من سلطان هواك, عادت الدولة له.

*دخلت دار الهوى مقامت بعمرك.*اذا عرضت نظرة ال تحل فاعلم أنها , فقد سلمت30مسعر حرب, فاستتر منها بحجاب: }قل للمؤمنين...{ النور

. بحر الهوى اذا مد25من األثر: }وكفى الله المؤمنين القتال{ الحزاب أغرق, وأخوف المنافذ على السابح فتح البصر في الماء.

ما أحد أكرم من مفرد في قبره, أعماله تؤنسهمنعما في القبر في روضة ليس كعبد قبره محبسه

على قدر فضل المرء تأتي خطوبه وتعرف عند الصبر فيما يصيبهومن قل فيما يتقيه اصطباره فقد قل مما يرتجيه نصيبه

*كم قطع زرع قبل التمام فما ظن الزرع المستحصد, اشتر نفسك, فالسوق قائمة والثمن موجود. ال بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى, ولكن كن خفيف

النوم فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح.

*نور العقل يضيء في ليل الهوى, فتلوح جادة الصواب, فيتلمح البصير في ذلك النور

"ق المحشو باآلفات الى ذلك الفناء الرحب *أخرج بالعزم من هذا الفناء الضيالذي فيه "ماال عين رأت",فهناك ال يتعذ"ر مطلوب وال يفقد محبوب.

*يا بائعا نفسه بهوى من حبه ضنى, ووصله أذى, وحسنه الى فناء, لقد بعت

أنفس األشياء بثمن بخس, كأنك لم تعرف قدر السلعة وال خسة الثمن, حتى اذا قدمت يوم

"ن لك الغبن في عقد التبايع, ال اله اال الله سلعة, الله مشتريها, وثمنها التغابن تبي"ة, والدالل الرسول, ترضى ببيعها بأذن يسير مما ال يساوي كله جناح الجن

بعوضة.

اذا كان شيء ال يساوي جميعه جناح بعوض عند من صرت عبده ويملك جزء منه كلك ما الذي يكون على ذي الحال قدرك

عندهوبعت به نفسا قد استامها بما لديه من الحسنى وقد زال وده

السوم= عرض السلعة للبيع.

*يا مخنث العزم أين أنت, والطريق طريق تعب فيه آدم, وناح ألجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح اسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في

السجن بضع سنين, ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيى, وقاسى

31

Page 32: الفوائد بن القيّم

الضر أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقروأنواع األذى محمد صلى الله عليه وسلم تزها أنت باللهو واللعب.

فيا دارها بالحزن ان مزارها قريب, ولكن دون ذلك أهوال

*الحرب قائمة وأنت أعزل في النظارة, فان حركت ركابك فللهزيمة.

*من لم يباشر حر الهجير )نصف النهار عند اشتداد النهار( في طالب المجد لميقل )القيلولة( في ظالل الشرف.

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ولم تدر أني للمقام أطوفقيل لبعض العباد: الى كم تتعب نفسك!! فقال راحتها أريد.

*يا مكرما بحلة االيمان بعد حلة العافية وهو يخلقهما )يبليهما( في مخالفة الخالق,ال تنكر السلب؛ يستحق من استعمل نعمة المنعم فيما يكره أن يسلبها.

*عرائس الموجودات قد تزينت للناظرين؛ ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائساآلخرة, فمن عرف قدر التفاوت آثر ما ينبغي ايثاره.

وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي, وقالت لى: الي فتعاميت كأن لم أرها عندما أبصرت مقصودي لدي

*كواكب هم العارفين في بروج عزائمهم سيارة ليس فيها زحل.

*يا من انحرف عن جادتهم كن فى أواخر الركب ونم اذا نمت على الطريق,فاألمير يراعي الساقة )ساقة الجيش أي المؤخرة(.

*قيل للحسن: سبقنا القوم على خيل دهم )أي سود( ونحن على حمر معقرة)مجرحة(, فقال ان كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم.

[ فائدة22]المحب الصادق من وجد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة

*من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف. ومن وجده بين الناس ووجده في الخلوة فهو معلول. ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو

ميت مطرود. ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله. ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده اال منها. ومن كان فتحه بين

الناس ونصحهم وارشادهم كان مزيده معهم. زمن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه, وفي أي شيء استعمله كان مزيده في خلوته ومع الناس.

32

Page 33: الفوائد بن القيّم

فأشرف األحوال ان ال تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه, فكنمع مراده منك وال تكن مع مرادك منه.

*مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة قبل الشرائع }يكاد زيتها.35يضيء ولو لم تمسسه نار{ النور

*وحد قس وما رأى الرسول, وكفر ابن أبي" وقد صل"ى معه بالمسجد. قس بن ساعدة أحد حكماء العرب ومن خطبائهم, سئل عن الرسول صلى الله عليه

وسلم فقال:" يحشر أمة وحدة".

*مع الصب ري وال ماء, وكم من عصشان في اللجة.

*سبق العلم بنبوة موسى وايمان آسية فسيق تابوته الى بيتها, فجاء طفل منفرد عن أم, الى امرأة خالية عن ولد. فلله كم من القصة من عبرة. كم ذبح فرعون

في طلب موسى من ولد, ولسان القدر يقول: ال نربيه اال في حجرك.

كان ذو البجادين يتيما في الصغر, فكفله عمه, فنازعته نفسه الى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم, فهم بالنهوض, فاذا بقية المرض مانعة فقعد ينتظر العم,

فلما تكاملت صحته, نفذ الصبر فناداه ضمير الوجد:

الى كم حبسها تشكو المضيقا أثرها ربما وجدت طريقا

فقال ياعم طال انتظاري السالمك وما أرى منك نشاطا. فقال والله لئن أسلمت ألنتزعن كل ما أعطيتك. فصاح لسان الشرق: نظرة من محمد صلى الله

عليه وسلم أحب الي من الدنيا وما فيها.

ولو قيل للمجنون: ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياهالقال: غبار من تراب نعالها ألذ الى نفسي وأشفى لبلواها

فلما تجرد للسير الى الرسول صلى الله عليه وسلم جرده عمه من الثياب, فناولته األم بجادا, فقطعه لسفر الوصل نصفين, اتزر بأحدهما, وارتدى اآلخر, فلما نادى صائح الجهاد قنع أن يكون في ساقه األحباب, والمحب ال يرى طول

الطريق, ألن المقصود بعينه:

أال أبلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها

فلما قضى نحبه نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يمهد له لحده وجعل يقول:" اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه" فصاح ابن مسعود يا ليتني كنت صاحب

(.4795, وابن حجر في االصابة رقم)171\4القبر. أخرجه ابن اسحاق

33

Page 34: الفوائد بن القيّم

*فيا مخنث العزم أقل ما في البرقعة البيذق, فلما نهض تفرزن.

*رأى بعض الحكماء برذونا )فرس غير عربي هجين( يسقى عليه, فقال لو هملج)انقاد( هذا, لركب.

*أقدام العزم بالسلوك اندفع من بين أيديها سد القواطع.

*القواطع محن بتبين بها الصادق من الكاذب, فاذا خضتها انقلبت أعوانا لكتوصلك الى المقصود.

[ مثل الدنيا23]

*الدنيا كامرأة بغي ال تثبت مع زوج, انما تخطب األزواج ليستحسنوا عليها فال ترضى اال بالدياثة.

ميزت بين جمالها فعالها فاذا المالحة بلقباحة ال تفيحلفت لنا اال تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا أال تفي

السير في طلبها سير في أرض مسبعة, والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح, المفروح به منها هو عين المحزون عليه. آالمها متولدة من لذاتها,

وأحزانها من أفراحها.

مآرب كانت في الشباب في أهلها عذابا, فصارت في المشيب عذابا

*طائر الطبع يرى الحبة, وعين العقل ترى الشرك, غير أن عين الهوى عمياء.

وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا

*تزخرفت الشهوات ألعين الطباع, فغض عنها الذين يؤمنون بالغيب, ووقع تابعوها في بيداء الحسرات, ف: } أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون{

.46, وهؤالء يقال لهم:} كلوا وتمتعوا قليال انكم مجرمون{ المرسالت 5البقرة

لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها, أماتوا فيها الهوى طلبا لحياة األبد, ولما استيقظوا من نوم الغفلة, استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم

في زمن البطالة, فلما طالت عليهم الطريق, تلمحوا المقصد, فقرب عليهم البعيد, وكلما أمرت لهم الحياة, حلى لهم تذكر :}هذا يومكم الذي كنتم توعدون{

.103األنبياء

34

Page 35: الفوائد بن القيّم

وركب سروا, والليل ملق رواقه على كل مغبر المطالع قاتمحدوا عزمات ضاعت األرض بينها فصار سراهم في ظهور العزائم

تريهم نجوم الليل ما تبتغونه على عاتق الشعري, وهام النعائماذا اطردت في معرك الجد قصفوا رماح العطايا في صدور المكارم

ملق: الود واللطف, الرواق: المقدمة والجانب.

فصل

*من أعجب األشياء أ، تعرفه ثم ال تحبه, وأن تسمع داعيه, ثم تتأخر عن االجابة. وأن تعرف قدر الربح في معاملته, ثم تعامل غيره. وأن تعرف قدر غضبه, ثم

ض له. وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه, ثم تتعر" ال تشتاق الى انشراح الصدر بذكره ومناجاته. وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب

بغيره, وال تهرب منه الى نعيم االقبال عليه, واالنابة اليه.

*وأعجب من هذا علمك أن ال بد لك منه, وأنك أحوج شيء اليه, وأنت عنهمعرض, وفيما يبعدك عنه راغب.

[ فائدة24]

ما أخذ العبد ما حرم عليه اال من جهتين: احداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حالل, والثانية: أن يكون عالما بذلك, وأن من

ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه )أعطاه خيرا منه(, لكن تغلب شهوته صبره,وهواه عقله. فاألول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته.

قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه, وصدقت ضرورته وفاقته, وقويرجاؤه, فال يكاد يرد دعاؤه.

)فصل(

لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها, وخداع األمل ألربابه, وتملك الشيطان ع وااللتجاء, قياد النفوس, ورأوا الدولة للنفس األمارة, لجأوا الى حصن التضر"

كما يأوي العبد المذعور الى حرم سيده.

شهوات الدنيا ك "لعب الخيال", ونظر الجاهل مقصور على الظاهر, فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر.

,الح لهم المشتهى, فلما مدوا أيدي التناول بأن ألبصار البصائر خيط الفخ فطاروا بأجنحة الحذر, وصوبوا الى الرحيل الثاني: }يا ليت قومي يعلمون{

, تلمح القوم الجود, ففهموا المقصود, فأجمعوا الرحيل وشمروا26يونس

35

Page 36: الفوائد بن القيّم

للسير في سواء السبيل, فالناس مشتغلون بالفضالت, وهم في قطع الفلوات,وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح.

وقع ثعلبان في شبكة, فقال أحدهم لآلخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة.

.تالله ما كانت األيام اال مناما, فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر

.ما مضى من الدنيا أحالم, وما بقي منها أماني, والوقت ضائع بينهما

كيف يسلم من له زوجة ال ترحمه, وولد ال يعذره, وجار ال يأمنه, وصاحب ال ينصحه, وشريك ال ينصفه, وعدو ال ينام عن معاداته, ونفس أمارة بالسوء,"نة, وهوى مرد, وشهوة غالبة له, وغضب قاهر, وشيطان مزين, ودنيا متزي

وضعف مستول عليه. فان تواله الله وجذبه اليه انقهرت له هذه كلها, وانتخلى عنه ووكله الى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.

لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة اليهما, واعتقدوا عدم االكتفاء بهما, وعدلوا الى اآلراء والقياس واالستحسان وأقوال الشيوخ, عرض

لهم من ذلك فساد في فطرهم, وظلمة في قلوبهم, وكدر في أفهامهم, ومحق في عقولهم. وعمتهم هذه هذه األمور وغلبت عليهم, حتى ربي فيها الصغير, وهرم عليها الكبير, فلم يروها منكرا. فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع

مكان السنن, والنفس مقام العقل, والهوى مقام الرشد, والضالل مقام الهدى, والمنكر مقام المعروف, والجهل مقام العلم, والرياء مقام االخالص,

والباطل مقام االخالص, والباطل مقام الحق, والكذب مقام الشرك, والمداهنة مقابل النصيحة, والظلم مقام العدل. فصارت الدولة والغلبة لهذه األمور, وأهلها هم المشار اليهم فاذا رأيت دولة هذه األمور قد أقبلت, وراياته قد

نصبت, وجيوشها قد ركبت, فبطن األرض والله خير من ظهرها, وقلل الجبالخير مكن السهول, ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.

ت األرض وأظلمت السماء, وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم اقشعر" الفجرة, وذهبت البركات, وقل"ت الخيرات, وهزلت الوحوش, وتكدرت الحياة من

فسق الظلمة, بكى ضوء النهار وظلمة الليل من األعمال الخبيثة واألفعال الفظيعة, وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات الى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح. وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه, ومؤذن بليل

بالء قد أدلهم ظالمه. فاعزلوا عن الطريق هذا السيل بتوبة ممكنة وبابها مفتوح. وكأنكم بالباب وقد أغلق, وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق }وسيعلم الذين

.227ظلموا أي منقلب ينقلبون{ الشعراء

36

Page 37: الفوائد بن القيّم

,اشتر نفسك اليوم, فان السوق قائمة, والثمن موجود, والبضائع رخيصة وسيأتي على تلك البضائع يوم ال تصل فيه الى قليل وال كثير: } ..وذلك يوم

.27, } ويوم يعض الظالم على يديه{ الفرقان 9التغابن{ التغابن

اذا أنت لم ترحل بزاد من التقى وأبصرت يوم الحشر من قد تزوداندمت على أن ال تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

.العمل بغير اخالص وال اقتداء كالمسافر يمالء جرابه رمال يثقله وال ينفعهاذا حملت على القلب هموه الدنيا وأثقالها, وتهاونت بأورادها التي هي قوته

وحياته, كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها وال يوفيها علفها, فماأسرع ما تقف به.

ومشتت العزمات ينفق عمره حيران ال ظفران وال اخفاقهل السائق العجالن يملك أمره فما كل سير اليعمالت وخيد

رويدا بأخفاف المطى فانما تداس جباه تحتها وخدود

اليعمل : الناقة التي تعمل كثيرا, العذرة : خد البعير اذا أسرعت في المشي..من تلمح حالوة العافية هانت عليه مرارة الصبرالغاية أول في التقدير, آخر في الوجود, مبدأ في نظر العقل, منتهى في منازل

الوصول..ألفت عجز العادة, فلو علت بك هم"تك ربا المعالي الحت لك أنوار العزائم.انما تفاوت القوم بالهمم ال بالصور

نزول همة الكساح داله في جب العذرة. الكساح: داء يصيب االبل, العذرة فناء البيت, وكذلك يقال للغائط.

,بينك وبين الفائزين جبل الهرم, نزلوا بين يديه ونزلت خلفه, فاطو فصل منزل تلحق بالقوم.

الدنيا مضمار سباق, وقد انعقد الغبار وخفى السابق, والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة.

سوف ترى اذا انجلى الغبار أفرس تحتك أو حمار

.في الطبع شره, والحمية أوفق.لص الحرص ال يمشي اال في ظالم الهوى.حبة المشتهى تحت فخ التلف, فتفكر الذبح وقد هان الصبرقوة الطمع في بلوغ األمل توجب االجتهاد في الطلب, وشدة الحذر من فوت

المأمول..البخيل فقير ال يؤجر على فقره

37

Page 38: الفوائد بن القيّم

. الصبر على عطش الضر, وال الشرب من شرعة من".تجوع الحرة, وال تأكل بثدييها.ال تسأل سوى موالك, فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.غرس الخلوة يثمر األنس.استوحش مما ال يدوم معك, واستأنس بمن ال يفارقك.عزلة الجاهل فساد, وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤهااذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة, واستحضر الفكر وجرت بينهم

مناجاة:

أتاك حديث ال يمل سماعه شهى الينا نثره ونظامه اذا ذكرته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنى ظالمه

اذا خرجت من عدوك لفظة سفه, فال تلحقها بمثلها تلق"حها, ونسل الخصام نسل مذموم.

.حميتك لنفسك أثر الجهل بها, فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها.اذا اقتدحت نار االنتقام من نار الغضب ابتدأت بحراق القادح.أوثق غضبك بسلسلة الحلم, فانه كلب ان أفلت أتلف.من سبقت له سابقة السعادة, دل على الدليل قبل الطلباذا أراد القدر شخصا بذر في أرض قلبه بذر التوفيق, ثم سقاه بماء الرغبة

والرهبة, ثم أقام عليه بأطوار المراقبة, واستخدم له حارس العلم, فاذا الزرعقائم على سوقه.

اذا طلع نجم الهمة في ظالم ليل البطالة, وردفه قمر العزيمة, أشرقت أرض القلب بنور ربها.

,اذا جن الليل تغالب النوم والسهر, فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة والكسل والتواني في كتيبة الغفلة, فاذا حمل العزم حمل على الميمنة

فانهزمت جنود التفريط, فما يطلع الفجر اال وقد قسمت السهمان وبردتالغنيمة ألهلها.

سفر الليل ال بطيقه اال مضمر المجاعة, النجائب في األول, وحامالت الزاد في األخير.

ال تسأم الوقوف على الباب ولوطردت, وال تقطع االعتذار ولو ردت, فان فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية وابسط

. 88كف }وتصد"ق علينا{ يوسف يا مستفتحا باب المعاش بغير اقليد التقوى )أي مفتاحها(, كيف توسع طريق

الخطايا وتشكو ضيق الزرع..لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مرادالمعاصي سد في باب الكسب, و" ان العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه", جزء

, عن ثوبان.277\5, وأحمد 4022 رقم 1334\2من حديث أخرجه ابن ماجه

تالله ما جئتكم زائرا اال وجدت األرض تطوي لي

38

Page 39: الفوائد بن القيّم

وال انثنى عزمي عن بابكم اال عثرت بأذيالي

األرواح هي األشباح كاألطيار في األبراج, وليس ما أعد لالستفراخ كمن هيىء للسباق.

من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله.

.كن من أبناء اآلخرة وال تكن من أبناء الدنيا, فان الوليد يتبع األم.الدنيا ال تساوي نقل أقدامك اليها, فكيف تعدو خلفها؟الدنيا مجاز واآلخرة وطن, واألوطار انما تطلب من األوطان. االجتماع بالخوان

قسمان:ته أرجح من أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت, فهذا مضر"

منفعته, وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت. ثانيهما: االجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر,

فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها, ولكن فيها ثالث آفات:األولى: تزين بعضهم لبعض.

الثانية: الكالم والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادةينقطع بها عن المقصود.

وبالجملة, فاالجتماع والخلطة لقاح امل للنفس األمارة واما للقلب والنفس المطمئنة, والنتيجة مستفادة من اللقاح, فمن طاب لقاحه طابت ثمرته, وهكذا"بة لقاحها من الملك, والخبيثة لقاحها من الشيطان, وقد جعل الله األرواح الطي 26سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين, والطيبين للطيبات وعكس ذلك. اقرأ اآلية

من سورة النور.

[ )قاعدة(25]األسباب المشهودة واألسباب الغائبة

ليس في الوجود من الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير, بل ال يؤثر سبب البتة اال بانضمام سبب آخر اليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره. هذا في األسباب المشهودة

بالعيان, وفي األسباب الغائبة و األسباب المعنوية كتأثير الشمس في الحيوان والنبات فانه موقوف على أسباب أخر, من وجود محل قابل, ,اسباب أخر تنضم

الى ذلك السبب. وكذلك حصول الولد موقوف على عدة أسباب غير وطء الفحل, وكذلك جميع األسباب مع مسبباتها, فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره

اال الله الواحد القه"ار, فال ينبغي أن يرجى وال يخاف غيره. وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل, فانه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره ال منه, فليس له من نفسه قوة يفعل بها,

فانه ال حول وال قوة اال بالله فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها, فالحول والقوة التي يرجى ألجلهما المخلوق ويخاف انما هما لله وبيده في الحقيقة.

39

Page 40: الفوائد بن القيّم

فكيف يخاف ويرجى من ال حول له وال قوة, بل خوف المخلوق ورجاؤهىأحد أسباب الحرمان ونزول المكروهةبمن يرجوه ويخافه, فانه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك, وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان, وهذا حال الخلق

أجمعه, وان ذهب عن أكثرهم علما وحاال, فما شاء الله كان وال بد وما لم يشأ لميكن ولواتفقت عليه الخليقة.

[ التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه26]

التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه: فأما أعدائه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها: }فاذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نج"اهم الى البر" اذا هم

. وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا واآلخرة65يشركون{ العنكبوت اه الله من تلك الظلمات , اقرأ األنبياء آية وشدائدها. ولذلك فزع اليه يونس, فنج"

. وفزع اليه أتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا88-87رقم وما أعد لهم في اآلخرة. ولما فزع اليه فرعون, عند معاينة الهالك وادراك الغرق,

من سورة يونس, ألن االيمان عند المعاينة ال92-90لم ينفعه , اقرأ اآلية رقم يقبل. هذه سنة الله في عباده. مما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان

ج الله دعاء الكرب* بالتوحيد ودعوة ذي النون* التي ما دعا بها مكروب اال فر" كربه بالتوحيد. فال يلقى في الكرب العظام اال الشرك وال ينجي منها اال التوحيد,

فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها. وبالله التوفيق.

, ومسلم6345 برقم 149\11*دعاء الكرب أخرجه البخاري في الدعوات والترمذي وأحمد. عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: " ال اله اال الله العظيم الحليم, ال اله اال الله رب السموات واألرض

ورب العرش العظيم".

*وهو سيدنا يونس عليه السالم والدعاء المقصود هو قوله تعالى }ال اله اال أنت سبحانك اني كنت من الظالمين{ , وقد صح في الحديث عن سعد بن أبي وق"اص قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" اني ألعلم كلمة ال يقولها

ج الله عنه كلمة أخي يونس عليه السالم فنادى في الظلمات:}أن مكروب اال فر"ال اله اال أنت سبحانك اني كنت من الظالمين{.

[ )فائدة(27]

اللذة تابعة للمحبة

اللذة تابعة للمحبة, تقوى بقوتها وتضعف بضعفها, فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق اليه أقوى كانت اللذة بالوصول اليه أتم والمحبة والشوق تابع

لمعرفته والعلم به, فكلما كان العلم به أتم كلنت محبته أكمل, فاذا رجع كمال النعيم في اآلخرة وكمال اللذة الى العلم والحب, فمن كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ودينه أعرف, كان له أحب, وكانت لذته بالوصول اليه ومجاورته والنظر

40

Page 41: الفوائد بن القيّم

الى وجهه وسماع كالمه أتم. وكل لذة ونعيم وسرور وبهجة باالضافة الى ذلك كقطرة في بحر, فكيف يؤثر من له عقل لذة ضعيفة قصيرة مشوبة باآلالم على لذة عظيمة دائمة أبد اآلباد؟! وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب,

وأفضل العلم العلم بالله, وأعلى الحب الحب له, وأكمل اللذة بحسبهما. واللهالمستعان.

[ )قاعدة(28]حبسان منجيان

طالب الهه والدار اآلخرة ال يستقيم له سيره وطلبه اال بحبسين. حبس قلبه في طلبه ومطلوبه, وحبسه عن االلتفات الى غيرة. زحبس لسانه عما ال يفيده,

وحبسه على ذكر الله وما يزيد في ايمانه ومعرفته. وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات, وحبسها على الواجبات والمندوبات, فال يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن الى أوسع فضاه وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما الى فضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا,

فكل خارج من الدنيا اما متخلص من الحبس واما ذاهب الى الحبس. وباللهالتوفيق.

ود"ع ابن عون رجال فقال: عليك بتقوى الله, فان المتقى ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كام يقال: من اتقى الله أحبه الناس وان كرهوا.

وقال الثوري البن أبي ذئب: ان اتقيت الله كفاك الناس, وان اتقيت الناس لنيغنوا عنك من الله شيئا.

"منا مما عل"م وقال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا, وعل الناس ومما لم يعلموا, فلم نجد شيئا أفضل من تقوى الله في السر والعالنية,

والعدل في الغضب والرضا, والقصد في الفقر والغنى. وفي الزهد لالمام أحمد أثر الهي: " ما من مخلوق اعتصم بمخلوق دونى اال

قطعت أسباب السموات واألرض دونه, فان سألني لم أعطه, وان دعاني لم أجبه, وان استغفرني لم أغفر له. وما من مخلوق اعتصم بي دون خلقي اال

ضمنت له السموات واألرض رزقه, فان سألني أعطيته, وان دعاني أجبته, وان.123\2استغفرني غفرت له" ذكره السيوطي في مسانيد الجامع الكبير

[ )فائدة جليلة(29]

جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق, ألن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه, وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. قتقوى الله

توجب له محبة الله, وحسن الخلق يدعو الناس الى محبته.

[ )فائدة جليلة(30]

41

Page 42: الفوائد بن القيّم

مواعظ وحكم:

بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه, وخطوة عن الخلق, فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس, ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله, فال يلتفت اال الى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة

, فجزعت للخوف1اليه. صاح بالصحابة واعظ:} اقترب للناس حسابهم{ األنبياء .17قلوبهم, فجرت من الحذر العيون }فسالت أودية بقدرها{ الرعد

تزينت الدنيا لعلي رضي الله عنه فقال: "أنت طالق ثالثا ال رجعة لي فيك". وكانت تكفيه واحدة للسنة, لكنه جمع الثالث لئال يتصور للهوى جواز المراجعة.

ودينه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلل, كيف وهو أحد رواة حديش "لعن , والنسائي, وأبو يعلى,107,121, 87\1الله المحلل" أحمد في المسند

الترمذي, والبيهقي. ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك. ال بد أن تجذبك الجواذب فاعرفها وكن منها على حذر, وال تضرك الشواغل اذا خلوت منها

وأنت فيها.

نور الحق أضوأ من نور الشمس, فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه.

الطريق الى الله خال من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات, وهو معمور بأهل اليقين والصبر, وهو على الطريق كاألعالم } وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا

.24لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون{ السجدة

[ )قاعدة(31]تأثير شهادة أن ال اله اال الله عند الموت في تكفير السيئات

لشهادة أن ال اله اال الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات واحباطها, ألنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها, قد ماتت منه الشهوات والنت نفسه المتمردة, وانقادت بعد ابائها واستعصائها وأقبلت بعد اعراضها وذلت بعد عزها, وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها, واستخذت بين يدي ربها فاطرها وموالها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته, وتجرد

منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطالنه, فزالت منها تلك المنازعات الي كانت مشغولة بها, واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير اليه,

فوجه العبد وجهه بكليته اليه, وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه. فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا, واستوى سره وعالنيته فقال: "ال اله اال الله" مخلصا من قلبه. وقد

تخلص قلبه من التعلق بغيره وااللتفات الى ما سواه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه. قد خرجت الدنيا كلها من قلبه, وشارف القدوم على ربه, وخمدت نيران

شهوته, وامتالء قلبه من اآلخرة, فصارت نصب عينيه, وصارت الدنيا وراء ظهره, فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله, فطه"رته من ذنوبه, وأدخلته على ربه, ألنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة, وافق ظاهرها باطنها وسرها عال نيتها, فلو

42

Page 43: الفوائد بن القيّم

حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة الستوحش من الدنيا وأهلها, وفر الى الله من الناس, وأنس به دون ما سواه, لكنه شهد بها بقلب مشحون

بالشهوات وحب الحياة وأسبابها, ونفس مملوءة بطلب الحظوظ وااللتفات الى غير الله. فلوتجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى

عيشها البهيمي والله المستعان.

ماذا يملك من أمره من ناصيته بيد الله ونفسه بيده, "وقلبه بين اصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء" جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم في القدر برقم

عن عبدالله بن عمرو بن العاص, ونص"ه: " ان قلوب بني آدم كلها بين2654 اصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". وحياته بيده وموته

بيده وسعادته بيده وشقاوته بيده وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله باذنهومشيئته. فال يتحرك اال باذنه, واليفعل اال بمشيئته.

ان وكله الى نفسه وكله الى عجز وضيعة, وتفريط وذنب وخطيئة. وان وكله الى غيره, وكله الى من ال يملك له ضرا وال نفعا وال موتا وال حياة وال نشورا. وان

تخلى عنه استولى عليه عدو"ه وجعله أسيرا له. فهو ال غنى له عنه طرفة عين, بل هو مضطر اليه على مدى األنفاس في كل ذرة من ذراته ظاهرا وباطنا, فاقته

تامة اليه. ومع ذلك فهو مختلف عنه معرض عنه, يتبغض اليه بمعصيته, مع شدة الضرورة اليه من كل وجه, قد صار لذكره نسيا, واتخذه وراءه ظهريا, هذا واليه

مرجعه وبين يديه موقفه.

فرغ خاطرك للهم بما أمرت به وال تشغله بما ضمن لك, فان الرزق واألجل قرينان مضمزنان. فما دام األجل باقيا, كان الرزق آتيا واذا سد عليك بحكمته

طريقا من طرقه, فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه. فتأم"ل حال الجنين يأتيهي(, فلما خرج من ة )الحبل السر" غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السر" بطن األم, وانقطعت تلك الطريق, فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا

أطيب وألذ من األول, لبنا خالطا سائغا. فاذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقا أربع أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من

الحيوان والنبات, والشرابان من المياه واأللبان وما يضاف اليهما من المنافع والمالذ. فاذا مات انقطعت عنه هذه الطرق األربعة. لكنه سبحانه فتح له –ان كان

سعيدا- طرقا ثمانية, وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء.

فهكذا الرب سبحانه ال يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا اال ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فانه يمنعه الحظ األدنى الخسيس, وال يرضى

له به ليعطيه الحظ األعلى النفيس.

والعبد لجهله بمصالح نفسه, وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, ال يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادخر له. بل هو مولع بحب العاجل وان كان دنيئا, وبقلة

الرغبة في اآلجل وان كان عليا. ولو أنصف العبد ربه, وأنى له بذلك, لعلم أن

43

Page 44: الفوائد بن القيّم

فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها وأعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه اال ليعطيه, وال ابتاله اال ليعافيه, وال امتحنه اال ليصافيه, وال

أماته اال ليحييه, وال أخرجه الى هذه الدار اال ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك"ر أو أراد الطريق الموصلة اليه. ف } جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذ"ك

, والله99, و } فأبى الظالمون اال كفورا{ االسراء 62شكورا{ الفرقان المستعان.

*من عرف نفسه اشتغل باصالحها عن عيوب الناس, ومن عرف ربهاشتغل بهعن هوى نفسه.

"ة, فال أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالخالص, وعن نفسك بشهود المنترى فيه نفسك وال ترى الخلق.

*دخل الناس النار من ثالث أبواب:

باب شبهة أورثت شكا في دين الله. وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته. وباب غضب أورث العدوان على خلقه.

*أصول الخطايا كلها ثالث: الكبر: وهو الذي أصار ابليس الى ما أصاره. والحرص:أ أحد ابني آدم على أخيه. وهو الذي أخرج آدم من الجنة. والحسد: وهو الذي جر"

فمن وقي شر هذه الثالثة فقد وقى الشر. فالكفر من الكبر, والمعاصي من الحرص, والبغي والظلم من الحسد.

*جعل الله بحكمته كل جزء من أجزاء ابن آدم, ظاهرة وباطنة, آله لشيء اذا استعمل فيه فهو كماله. فالعين آلة للنظر. واألذن آلة للسماع. واألنف آلة للشم. واللسان للنطق. والفرج للنكاح. واليد للبطش. والرجل للمشي. والقلب للتوحيد

والمعرفة. والروح للمحبة. والعقل آلة للتفكر والتدبر لعواقب األمور الدينيةوالدنيوية وايثار ما ينبغي ايثاره واهمال ما ينبغي اهماله.

*أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه, بل أخسر منه من اشتغل عننفسه بالناس.

*في السنن من حديث أبي سعيد يرفعه "اذا أصبح ابن آدم فان األعضاء كلها تكفر اللسان, تقول: اتق الله, فانما نحن بك, فان استقمت استقمنا, وان

,2407 رقم 523\4اعوججت اعوججنا" حديث حسن أخرجه الترمذي في الزهد وأحمد وابن المبارك, وابن السني, وأبو نعيم, والبيهقي والسيوطي.

44

Page 45: الفوائد بن القيّم

قوله:" تكفر اللسان", قيل: معناه تخضع له, وفي الحديث: ان الصحابة لما دخلوا على النجاشي لم يكفروا له, حديث دخول الصحابة على النجاشي أخرجه أحمد

, عن أم سلمة باسناد صحيح, وابن هشام في290\5, 202\1في المسند السيرة. أي لم يسجدوا له ويخضعوا. ولذلك قال له عمرو بن العاص : أيها الملك

انهم ال يكفرون لك. وانما خضعت للسان ألنه بريد القلب وترجمانه والواسطة بينه وبين األعضاء.

وقولها:"انما نحن بك", أي نجاتنا بك وهالكنا بك, ولهذا قالت :" فان استقمتاستقمنا وان اعوججت اعوججنا".

[ فاتقوا الله وأجملوا الطلب32]

"جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" فاتقوا الله وأجملوا في الطلب (. بين مصالح الدنيا واآلخرة,2144 )725\2أخرجه ابن ماجه في الكفارات

ونعيمها ولذاتها انما ينال بتقوى الله. وراحة القلب والبدن, وترك االهتمام والحرص الشديد والتعب والعناد والكد والشقاء في طلب الدنيا, انما ينال

باالجمال في الطلب, فمن اتقى الله فاز بلذة اآلخرة ونعيمها, ومن أجمل فيالطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها, فالله المستعان.

قد نادت الدنيا على نفسها لو كان في ذا الخلق من يسمعكم واثق بالعيش أهلكته وجامع فرقت ما يجمع

)فائدة( جمع النبي صلى الله عليه وسلم في تعوذه بين المأثم والمغرم, فان المأثم

يوجب خسارة اآلخرة, والمغرم يوجب خسارة الدنيا.

[ )فائدة(33]

"نهم سبلنا{ العنكبوت . علق69قال الله تعالى: }والذين جاهدوا فينا لنهدي سبحانه الهداية بالجهاد, فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا, وأفرض الجهاد جهاد

النفس, وجهاد الهوى, وجهاد الشيطان, وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه األربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة الى جنته, ومن ترك الجهاد فاته من الهدى

بحسب ما عطل من الجهاد. قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل االخالص, وال

يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر اال من جاهد هذه األعداء باطنا, فمن نصرعليها نصر على عدوه, ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه.

[ العداوة بين الخير والشر34]

45

Page 46: الفوائد بن القيّم

ألقى الله سبحانه العداوة بين الشيطان وبين الملك, والعداوة بين العقل وبين الهوى, والعداوة بين النفس األمارة وبين القلب. وابتلى العبد بذلك وجمع له بين هؤالء, وأمد كل حزب بجنود وأعوان, فال تزال الحرب سجاال ودوال بين الفريقين, الى أن يستولي أحدهما على اآلخر, ويكون اآلخر مقهورا معه. فاذا كانت النوبة للقلب والعقل والملك فهناك السرور والنعيم واللذة والبهجة والفرح قرة العين

وطيب الحياة وانشراح الصدر والفوز بالغنائم.

واذا كانت النوبة للنفس والهوى والشيطان فهنالك الغموم والهموم واألحزان وأنواع المكاره وضيق الصدر ةحبس الملك. فما ظنك بملك استولى عليه عدوه

فأنزله عن سرير ملكه وأسره وحبسه وحال بينه وبين خزائنه وذخائره وخدمه"رها له, ومع هذا فال يتحرك الملك لطلب ثأره, وال يستغيث بمن يغيثه, وال وصي

يستنجد بمن ينجده. وفوق هذا الملك ملك قاهر ال يقهر, وغالب ال يغلب, وعزيز ال يذل, فأرسل اليه: ان استنصرتني نصرتك, وان استغثت بي أغثتك, وان التجأت الي أخذت بثأرك, وان هربت الي وأويت الي سلطتك على عدوك جعلته تحت

أسرك.

فان قال هذا الملك المأسور: قد شد عدوي وثاقي وأحكم رباطي, واستوثق مني بالقيود, ومنعني من النهوض اليك, والفرار اليك, والمسير الى بابك, فان

أرسلت جندا من عندك يحل وثاقي, ويفك قيودي, ويخرجني من حبسه, أمكننيأن أوافي بابك, واال لم يمكنني مفارقة محبسي, وال كسر قيودي.

فان قال ذلك احتجاجا على ذلك السلطان, ودفعا لرسالته, ورضا بما هو فيه عند عدو"ه, خاله السلطان األعظم وحاله وواله ما تولى. وان قال ذلك افتقارا

اليه, واظهارا لعجزه وذله, وأنه أضعف وأعجز من أن يسير اليه بنفسه, ويخرج من حبس عدوه, ويتخلص منه بحوله وقوته, وأن من تمام نعمة ذلك عليه, كما أرسل اليه هذه الرسالة, أن يمده من جنده ومماليكه بمن يعينه على الخالص,

ويكسر باب محبسه, ويفك قيوده.

فان فعل به ذلك فقد أتم انعامه عليه, وان تخلى عنه, فلم يظلمه, وال منعه حقا هو له, وأن رحمته وحكمته اقتضى منعه وتخليته في محبسه, وال سيما اذا علم أن

الحبس حبيه, وأن هذا العدو الذي حبسه مملوك من مماليكه, وعبد من عبيده, ناصيته بيده ال يتصرف اال باذنه ومشيئته, فهو غير ملتفت اليه, وال خائف منه, وال

معتقد أن له شيئا من األمر, وال بيده نفع وال ضر, بل هو ناظر الى مالكه, ومتولىع اليه وااللتجاء, أمره ومن ناصيته بيده, وقد أفرده بالخوف والرجاء, والتضر"

والرغبة والرهبة, فهناك تأتيه جيوش النصر والظفر.

أعلى الهمم في طلب العلم, طلب علم الكتاب والسنة, والفهم عن الله ورسوله نفس المراد, وعلم حدود المنزل. وأخ"س هموه طالب العلم, قصر همته

على تتبع شواذ المسائل, وما لم ينزل, وال هو واقع, أو كانت همته معرفة

46

Page 47: الفوائد بن القيّم

االختالف, وتتبع أقوال الناس, وليس له همة الى معرفة الصحيح من تلك األقوال.وقل" أن ينتفع واحد من هؤالء بعلمه.

وأعلى الهمم في باب االرادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف مع مراده الديني األمري. وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله,

فهو انما يعبد لمراده منه ال لمراد الله منه, فاألول يريد الله ويريد مراده, والثاني:يريد من الله وهو فارغ عن ارادته.

علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون اليها الناس بأقوالهم ويدعونهم الى النار بأفعالهم, فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا: قالت أفعالهم:ال تسمعوا منهم.

فلو كان ما دعوا اليه حقا كانوا أول المستجيبين له, فهم في الصورة أدالء وفي الحقيقة قط"اع طرق. اذا كان الله وحده حظك ومرادك فالفضل كله تابع لك

يزدلف اليك, أي أنواعه تبدأ به, واذا كان حظك ما تنال منه, فالفضل موقوف عنك ألنه بيده تابع له, فعل من أفعاله, فاذا حصل لك, حصل لك الفضل بطريق الضمن والتبع, واذا كان الفضل مقصودك, لم يحصل الله بطريق الضمن والتبع,

فان كنت قد عرفته, وأنست به, ثم سقطت الى طلب الفضل, حرمك اياه عقوبةلك ففاتك الله وفاتك الفضل.

[ صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتصاره35]

لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصر العدو دخل في حصر النصر, فبعثت أيدي سراياه بالنصر في األطراف, فطار ذكره في اآلفاق, فصار

الخلق معه ثالثة أقسام:

مؤمن به, ومسالم له, وخائف منه. ألقى الصبر في مزرعة:} فاصبر كما صبر , فاذا أغصان النبات تهتز بخزامى:35أولوا العزم من الرسل{ األحقاف

.194}والحرمات قصاص{ البقرة

فدخل مكة دخوال ما دخله أحدا قبله وال بعده, حوله المهاجرون واألنصار ال يبين منهم اال الحدق.

والصحابة على مراتبهم, والمالئكة فوق رؤوسهم, وجبريل يتردد بينه وبين ربه, وقد أباح له حرمه الذي لم يحله ألحد سواه, فلما قايس بين هذا اليوم وبين يوم:

, فأخرجوه30} واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك{األنفال ثاني اثنين. دخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعا وذال لمن ألبسه ثوب هذا

العز الذي رفعت اليه فيه الخليقة رؤوسها ومدت اليه الملوك أعناقها. فدخل مكةمؤيدا منصورا.

47

Page 48: الفوائد بن القيّم

وعال بالل فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة, فنشر بزا طوى عن القوم من يوم قوله:" أحد أحد". ورفع صوته باألذان, فأجابته القبائل

من كل ناحية, فأقبلوا يؤمون الصوت, فدخلوا في دين الله أفواجا وكانوا قبل ذلكيأتون آحادا.

فلما جلس الرسول صلى اله عليه وسلم على منبر العز, وما نزل عنه قط, مدت الملوك أعناقها بالخضوع اليه. فمنهم من سلم اليه مفاتيح البالد, ومنهم من

سأله الموادعة والصلح, ومنهم من أقر بالجزية والصغار. ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب, ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق األساري

اليه.

"ا فتحنا لك فتحا "غ الرسالة وأدى األمانة ةوجاءه منشور: }ان فلما تكامل نصره وبل مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخ"ر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا

. وبعده توقيع: } اذا جاء نصر الله3-1مستقيما وينصرك الله نصرا عزيز{ الفتح . جاءه رسول ربه1,2والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا { النصر

يخيره بين المقام في الدنيا وبين لقائه, فاختار لقاء ربه شوقا اليه, فتزينت الجنانليوم قدوم روحه الكريمة ال كزينة المدينة يوم قدوم الملك.

اذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه*فرحا واستبشارا بقدوم "د الخالئق؟ فيا منتسبا الى غير هذا الجناب, ويا واقفا روحه, فكيف بقدوم روح سي

بغير هذا الباب, ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون عليها: }يوم تبلى . * الذي اهتز له عرش الرحمن هو الصحابي الجليل سعد بن9السرائر{الطارق

معاذ فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" اهتز عرش الرحمن (, ومسلم في3803 )154\7لموت سعد بن معاذ". البخاري في مناقب األنصار

( والترمذي, وابن ماجه وأحمد.124-123 )1915\4فضائل الصحابة

[ يا مغرور باألماني36]

لعن ابليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها, وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها, وحجب القاتل بعد أن رآها عيانا بملء مف من آدم, وأمر بقتل الزاني أشنع القتالت بايالج قدر األنملة فيما ال يحل, وأمر بايساع الظهر

سياطا بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر, وأبان عضوا من أعضائك بثالثة دراهم )قطع يد السارق اذا سرق ما مقداره ثالثة دراهم(, فال تأمنه أن يحبسك في النار

.15بمعصية واحدة من معاصيك:}وال يخاف عقباها{ الشمس

"دخلت امرأة النار في هرة" جزء من حديث صحيح, أخرجه البخاري في بدء (, وابن ماجه وأحمد من20 )2110\4(, ومسلم في التوبة 3318 )409\6الخلق

حديث أبو هريرة.

48

Page 49: الفوائد بن القيّم

"وان الرجل ليتكلم بالكلمة ال يلقي لها باال يهوي بها في النار أبعد ما بين رقم )314\11المشرق والمغرب", معنى حديث أخرجه البخاري في الرقاق

( عن أبي هريرة:" ان العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار6477.2988أبعد ما بين المشرق", ومسلم في الزهد

"وان الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة, فاذا كان عند الموت جار)ظلم( في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار".أخرجه أبو داود في الوصايا برقم

, من حديث أبو هريرة: "ان الرجل ليعمل والمرأة2118, والترمذي رقم 2868 بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما

النار".

[ العمل بآخره والعمل بخاتمته*37]

من أحدث قبل السالم بطل ما مضى من صالته, ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعا, ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه.

لو قدمت لقمة وجدتها, ولكن يؤذيك الشره.

كم جاء الثواب يسعى اليك فوقف بالباب فرده بواب "سوف ولعل وعسى".

كيف الفالح بين ايمان ناقص, وأمل زائد, ومرض ال طبيب له وال عائد, وهوى مستيقظ, وعقل راقد, ساهيا في غمرته, عهما في سكرته, سابحا في لج"ة جهله,

مستوحشا من ربه, مستأنسا بخلقه, ذكر الناس فاكهته وقوته, وذكر الله حبسهوموته, لله منه جزء يسير من ظاهره, وقلبه ويقينه لغيره.

ال كان من اسواك بقية يجد السبيل بها اليه العذل

, وأحمد في6607 رقم 507\11جزء من حديث أخرجه البخاري في القدر .335\5المسند

[ لماذا كان أول المخلوقات القلم وآخرها آدم عليه السالم38]

كان أول المخلوقات القلم, ورد بلفظ" أن أول ما خلق الله القلم", أخرجه أبو وأحمد في المسند عن عبادة بن2156, والترمذي 4700داود في السنة

الصامت, ليكتب المقادير قبل كونها, وجعل آدم آخر المخلوقات وفي ذلك حكم.األولى: تمهيد األرض قبل الساكن.

الثانية: أنه الغاية التي خلق ألجلها ما سواه من السموات واألرض والشمسوالقمر والبر والبحر.

"اع يختم عمله بأحسنه وغايته كما يبدؤه بأساسه ومبادئه. الثالثة: أنه أحذق الصن

49

Page 50: الفوائد بن القيّم

الرابعة: أن النفوس متطلعة الى النهايات واألواخر دائما, ولهذا قال موسى عليه , فلما رأى الناس فعلهم80السالم للسحرة: أوال} ألقوا ما أنتم ملقون{يونس

تطلعوا الى ما يأتي بعده. الخامسة: أن الله سبحانه أخ"ر أفضل الرسل واألنبياء واألمم الى آخر الزمان

وجعل اآلخرة خيرا من األولى, والنهايات أكمل من البدايات, فكم بين قول الملك للرسول اقرأ, فيقول:} ما أنا بقارىء{, وبين قوله تعالى: }اليوم أكملت لكم

.3دينكم{ المائدة السادسة: أنه سبحانه جمع ما فرقه في العالم في آدم, فهو العالم الصغير وفيه

ما في العالم الكبير.السابعة: أنه خالصة الوجود وثمرته, فناسب أن يكون خلقه بعد الموجودات.

الثامنة: أن من كراماته على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وآالت معيشتهوأسباب حياته, فما رفع رأسه اال وذلك كله حاضر عتيد.

التاسعة: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات عليه في الخلق, ولهذا قالت المالئكة: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا. فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة,

فلما وقع في الذنب ظنت المالئكة أن ذلك الفضل قد نسخ ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة, فلما تاب الى ربه, وأتى بتلك العبودية, علمت المالئكة أن

لله في خلقه سرا ال يعلمه سواه. العاشرة: أنه سبحانه لما اقتتح خلق هذا العالم بالقلم كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق االنسان, فان القلم آلة العلم, واالنسان هو العالم. ولهذا أظهر

سبحانه فضل آدم على المالئكة الذي اختص به دونهم.

[ كتابة عذر آدم قبل هبوطه الى األرض39]

وتأمل كيف كتب سبحانه عذر آدم قبل هبوطه الى األرض ونبه المالئكة على فضله وشرفه ونوه باسمه قبل ايجاده بقوله:} اني جاعل في األرض خليفة{

.30البقرة وتأمل كيف وسمه بالخالفة وتلك والية له قبل وجوده, وأقام عذره قبل الهبوط

بقوله: } في األرض{- والمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته. فلما صوره على باب الجنة أربعين سنة ألن دأب المحب الوقوف على باب حبيبه,

, لئال يعجب يوم }اسجدوا{.1ورمى به طريق الذل:}لم يكن شيئا{ االنسان وكان ابليس يمر على جسده فيعجب منه ويقول: ألمر قد خلقت, ثم يدخل من

فيه ويخرج من دبره ويقول: لئن سلطت علي ألهلكنك ولئن سلطت عليألعصينك, ولم يعلم أن هالكه على يده. رأى طينا مجموعا فاحتقره.

فلما صور الطين صورة دب فيه داء الحسد, فلما نفخ فيه الروح مات الحاسد. فلما بسط له بساط العز, عرضت عليه المخلوقات, فاستحضر مدعي }ونحن

نسبح { الى حاكم }أنبئوني{. وقد أخفى الوكيل عنه بينة }وعلم{ فنكسوا رؤوس الدعاوى على صدور االقرار. فقام منادي التفضيل في أندية المالئكة

50

Page 51: الفوائد بن القيّم

ينادي:} اسجدوا{, تطهروا من حدث دعوى }ونحن{ بماء العذر في آنية }ال علم لنا {, فسجدوا على طهارة التسليم, وقام ابليس ناحية لم يسجد, ألنه خبث, وقد

تلون بنجاسة االعتراض. وما كانت نجاسته تتالفى بالتطهير, ألنها عينية, فلما تم كمال آدم قيل: ال بد من خال جمال على وجه }اسجدوا{, فجرى القدر بالذنب,

ليتبين أثر العبودية في الذل.

يا آدم! لو عفى لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون: كيف فضل ذو شره لم يصبر على شجرة. لوال نزولك ما تصاعدت صعداء األنفاس, وال نزلت رسائل "هل

"ه يقصد حديث:" ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى السماء من سائل" *ولعل , عن أبي هريرة ومسلم في7494 برقم 473\13الدنيا.." البخاري في التوحيد

(. وال فاحت روائح "ولخلوف فم الصائم" جزء من758صالة المسافرين رقم ) حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والدرامي و)أحمد

.(, فتبين حينئذ أن ذلك التناول لم يكن عن شره.407,457, 393, 232\2

يا آدم, ضحكك في الجنة لك, وبكاؤك في دار التكليف لنا.

ما ضر من كسره عزي, اذا جبره فضلي انما تليق خلعة العز ببدن االنكسار. أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. ما زالت تلك األكلة تعاده حتى استولى داؤه

على أوالده, فأرسل اليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود:} فاما . فحماهم123يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فال يضل وال يشقى{ طه

الطبيب بالمناهي, وحفظ القوة باألمر, واستفرغ أخالطهم الرديئة بالتوبة, فجاءتالعافية من كل ناحية.

"ع القوة ولم يحفظها, وخلط في مرضه وما احتمى, وال صبر على فيا من ضي مرارة االستفراغ, ال تنكر قرب الهالك, فالداء مترام الى الفساد. لو ساعد القدر

فأعنت الطبيب على نفسك بالحمية من شهوة خسيسة ظفرت بأنواع اللذات وأصناف المشتهيات. ولكن بخار الشهوة غطى عين البصيرة, فظننت أن الحزم بيع الوعد بالنقد. يا لها من بصيرة عمياء, جزعت من صبر ساعة, واحتملت ذل األبد. سافرت في طلب الدنيا وهي عنها زائلة, وقعدت عن السفر الى األخرة

وهي اليها راحلة.

اذا رأيت الرجل الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير, فاعلم بأنه سفيه.

[ فائدة االيمان بالله وحده40]

لما سلم آدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب:" ابن آدم, لة لقيتني بقراب األرض خطايا ثم لقيتني ال تشرك بي شيئا, لقيتك بقرابه مغفرة" أخرجه مسلم

( عن أبي ذر. وابن ماجه الترمذي وأحمد, وقراب22 )2068\4في الذكر والدعاء األرض هو ما يقارب مألها, بكسر القاف.

51

Page 52: الفوائد بن القيّم

لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصدا لمخالفته وال قدحا في حكمته, علمه . العبد ال37كيف يعتذر اليه: } فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه {البقرة

يريد بمعصيته مخالفة سيده وال الجرأة على محارمه, ولكن غلبات الطبع, وتزيين النفس والشيطان, وقهر الهوى, والثقة بالعفو, ورجاء المغفرة, هذا من جانب

العبد.

وأما من جانب الربوبية فجريان الحكم, واظهار عز الربوبية وذل العبودية وكمال االحتياج, وظهور آثار األسماء الحسنى: كالعفو والغفور والتو"اب والحليم, لمن جاء

ة )االثم تائبا نادما, والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد لمن أصر ولزم المعر"والجناية(.

فهو سبحانه يريد أن يري عبده تفرده بالكمال, ونقص العبد وحاجته اليه. ويشهده كمال قدرته وعزته, وكمال مغفرته وعفوه ورحمته, وكمال بره وستره,

وحلمه وتجاوزه وصفحه, وأن رحمته به احسان اليه ال معارضة, وأنه ان لم يتغم"ده برحمته وفضله فانه هالك ال محالة,* لما ورد في الحديث الذي أخرجه

, عن أبي هريرة يرفعه:" لن يدخل أحد منكم عمله109\10البخاري في المرض الجنة, قالوا وال أنت. قال وال أنا اال أن يتغمدني الله برحمته.

كم في تقدير الذنب من حكمة, وكم فيه مع تحقيق التوبة للعبد من مصلحة ورحمة. التوبة من الذنب كشرب الدواء للعليل, ورب علة كانت سبب الصحة.

لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت األجساد بالعلل

لوال تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.

ذنب يذل به أحب اليه من طاعة يدل بها عليه.

شمعة النصر انما تنزل من شمعدان االنكسار.

ال يكرم العبد نفسه بمثل اهانتها, وال يعزها بمثل ذلها, وال يريحها بمثل تعبها, كما قيل:

سأتعب نفسي أو أصادف راحة فان هوان النفس في كرم النفس

وال يشبعها بمثل جوعها, وات يؤمنها بمثل خوفها, وال يؤنسها بمثل وحشتها من كل ما سوى بارئها وفاطرها وال يميتها بمثل اماتتها, كما قيل:

موت النفوس حياتها من شاء أن يحيا يمت

52

Page 53: الفوائد بن القيّم

شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرق)الغصة من الحلق(, منم تذكر خنق الفخ هان عليه هجران الحبة.

يا معرقال في شرك الهوى" جمزة)العدو السريع(! عزم وقد خرقت الشبكة.

ال بد من نفوذ القدر فاجنح للسلم. له ملك السموات لألرض, واستقرض منك حبة فبخلت بها, وخلق سبعة أبحر وأحب منها دمعة فقحطت عينيك بها.

اطالق البصر ينفش في القلب صورة المنظور, والقلب كعبة, والمعبود ال يرضى بمزاحمة األصنام.

لذات الدنيا كسوداء وقد غلبت عليك, والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن, غير أن زوبعة الهوى اذا ثارت سفت في عين البصيرة فخفيت الجادة.

سبحان الله, تزينت الجنة للخط"اب فجدوا في تحصيل المهر, وتعر"ف رب العزة الى المحبين بأسمائه وصفاته فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف.

ال مكن من لسواك منه قلبه ولك اللسان مع الوداد الكاذب

المعرفة بساط ال يطأ عليه اال مقرب, والمحبة نشيد ال يطرب عليه اال محب مغرم.

الحب غدير في صحراء ليست بها جادة, فلهذا قل وارده.

المحب يهرب الى العزلة والخلوة بمحبوبه واألنس بذكره كهرب الحوت الى الماء والطفل الى أمه.

وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا

ليس للعابد مستراح اال تحت شجرة طوبى, وال للمحب قرار اال يوم المزيد. اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت.

يا منفقا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه, ليس في أعدائك أضر عليك منه.

ما يبلغ األعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه

53

Page 54: الفوائد بن القيّم

"ة من استعد صاحبحه للقاء الحبيب, وقدم التقادم بين يدي الملتقى, الهمة العلير فاستبشر عند القدوم:} وقد"موا ألنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم مالقوه وبش"

.223المؤمنين{ البقرة

تالله ما عدا عليك العدو اال بعد أن تولى عنك الولي, فال تظن أن الشيطان غلب, ولكن الحافظ أعرض.

احذر نفسك, فما أصابك بالء قط اال منها, وال تهادنها فوالله ما أكرمها من لم يهنها, وال أعزها من لم يذلها, وال جبرها من لم يكسرها, وال أراحها من لم يتعبها,

وال أمنها من لم يخوفها, وال فرحها من لم يحزنها.

سبحان الله, ظاهرك متجمل بلباس التقوى, وباطنك باطية)اناء( لخمر الهوى, فكلما طيبت الثوب فاحت رائحة المسكر من تحته, فتباعد منك الصادقون,

وانحاز اليك الفاسقون.

يدخل عليك لص الهوى وأنت في زاوية التعبد فال يرى منك طردا له, فال يزال بك حتى يخرجك من المسجد.

أصدق في الطلب وقد جاءتك النعونة.

قال رجل لمعروف: علمني المحبة, فقال: المحبة ال تجيء بالتعليم.

هو الشوق مدلوال على مقتل الفتى اذا لم يعد صبا بلقيا حبيبه

ليس العجب من قوله يحبونه, انما العجب من قوله يحبهم.

ليس العجب من فقير مسكين يحب محسنا اليه, انما العجب من محسن يحب فقيرا مسكينا.

[ الله يتجلى لعباده بصفاته في كالمه41]

القرآن كالم الله, وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته, فتارة يتجلى في جلباب )ليس على ظاهره, وانما المراد بالجلباب الهيئة والصورة والصفة( الهيبة

والعظمة والجالل, فتخضع األعناق, وتنكسر النفوس, وتخشع األصوات, ويذوب الكبر, كما يذوب الملح في الماء, وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال, وهو

كمال األسماء, وجمال الصفات, وجمال األفعال الدال على كمال الذات, فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها, بحسب ما عرفه من صفات جماله, ونعوت

كماله, فيصبح فؤاد عبده فارغا اال محبته, فاذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبةبه أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل االباء , كما قيل:

54

Page 55: الفوائد بن القيّم

يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل

فتبقى المحبة له طبعا ال تكلفا. واذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف واالحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد, وانبسط أمله, وقوى طمعه, وسار الى

ربه, وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره. وكلما قوي الرجاء جد في العمل, كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر, واذا ضعف رجاؤه قصر في

البذر.

واذا تجلى بصفات العدل واالنتقام والغضب والسخط والعقوبة, انقمعت النفس األمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات, انقبضت أعنة رعوناتها, فأحضرت المطية حظها من الخوف

والخشية والحذر.

واذا تجلى بصفات األمر والنهي والعهد والوصية وارسال الرسل وانزال الكتب وشرع الشرائع, انبعثت منها قوة االمتثال, والتنفيذ ألوامره, والتبليغ لها, والتواصي

بها, وذكرها وتذكرها, والتصديق بالخير, واالمتثال للطلب, واالجتناب للنهي.

واذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم, انبعثت من العبد قوة الحياء, فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره, أو يسمع منه ما يكره, أو يخفي في سريرته ما

يمقته عليه, فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع, غير مهملةوال مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.

واذا تجلى بصفات الكفاية والحسب, والقيام بمصالح العباد, وسوق أرزاقهم اليهم, ودفع المصائب عنهم, ونصره ألوليائه, وحمايته لهم, ومعيته الخاصة اهم, انبعثت من العبد قوة التوكل عليه, والتفويض اليه, والرضا به في كل ما يجريه على عبده, ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه. والتوكل معنى يلتئم من علمالعبد بكفاية الله, وحسن اختياره لعبده, وثقته به, ورضاه بما يفعله ويختاره له.

واذا تجلى بصفات العز والكبرياء, أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت اليه من الذل لعظمته, واالنكسار لعزته, والخضوع لكبريائه, وخشوع القلب والجوارح له, فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته, ويذهب طيشه وقوته

وحدته.

ة, وبصفات ربوبيته وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف الى العبد بصفات الهيته تار" تارة, فيوجب له شهود صفات االلهية المحبة الخاصة, والشوق الى لقائه, واألنس

والفرح به, والسرور بخدمته, والمنافسة في قربه, والتودد اليه بطاعته, واللهج بذكره, والفرار من الخلق اليه, ويصير هو وحده همه دون ما سواه. ويوجب له

55

Page 56: الفوائد بن القيّم

شهود صفات الربوبية والتوكل عليه, واالفتقار اليه, واالستعانة به, والذلوالخضوع واالنكسار له.

وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في الهيته, والهيته في ربوبيته, وحمده في ملكه, وعزه في عفوه, وحكمته في قضائه وقدره, ونعمته في بالئه, وعطاءه في منعه,"ته, وعدل في انتقامه, وجوده وكرمه في وبره ولطفه واحسانه ورحمته في قيومي مغفرته وستره وتجاوزه. ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه, وعزه في رضاه

وغضبه, وحلمه في امهاله, وكرمه في اقباله, وغناه في اعراضه.

وأنت اذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف, وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين, أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه, يدبر أمر عباده,

يأمر وينهي, ويرسل الرسل, وينزل الكتاب, ويرضى ويغضب, ويثيب ويعاقب, ويعطي ويمنع, ويعز ويذل, ويخفض ويرفع, ويرى من فوق سبع ويسمع, ويعلم

السر والعالنية, فع"ال لما يريد, موصوف بكل كمال, منزه عن كل عيب, ال تتحركة فما فوقها اال باذنه, وال تسقط ورقة اال بعلمه, وال يشفع أحد عنده اال باذنه, ذر"

ليس لعباده من دونه ولي وال شفيع.

[ "ال تحزن ان الله معنا" تقوى القلب42]

(, ومسلم في3652)10\7جزء من حديث أخرجه البخاري في فضائل الصحابة .3\1(, وأحمد في المسند 1)1854\4فضائل الصحابة

لما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل العقبة أمر الصحابة بالهجرة الى المدينة, فعلمت قريش أن أصحابه قد كثروا وأنهم سيمنعونه, فأعملت آراءها في استخراج الحيل, فمنهم من رأى الحبس, ومنهم من رأى النفي. ثم اجتمع

رأيهم على القتل, فجاء البريد بالخبر من السماء وأمره أن يفارق المضجع, فبات"ق لرفقة السفر. فلما فارقا بيوت مكة اشتد الحذر علي مكانه ونهض الصدي

بالصد"يق فجعل يذكر الرصد فيسير أمامه وتارة يذكر الطلب فيتأخر وراءه, وتارة عن يمينه وتارة عن شماله الى أن انتهيا الى الغار, فبدأ الصد"يق بدخوله ليكون

وقاية له ان كان ثم مؤذ. وأنبت الله شجرة لم تكن قبل, فأظل"ت المطلوب وأضل"ت الطالب, وجاءت عنكبوت فحازت وجه الغار فحاكت ثوب نسجها عن منوال الستر, فأحكمت الشقة حتى عمي على القائف المطلب, وأرسل الله حمامتين فاتخذتا هناك عشا جعل على أبصار الطالبين غشاوة, وهذا أبلغ في

االعجاز من مقاومة القوم بالجنود.

فلما وقف القوم على رؤوسهم وصار كالمهم بسمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصد"يق, قال الصد"يق وقد اشتد به القلق: يا رسول الله, لو أن أحدهم نظر الى ما تحت قدميه ألبصرنا تحت قدميه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" لما رأى رسول الله صلى الله

56

Page 57: الفوائد بن القيّم

عليه وسلم حزنه قد اشتد, لكن ال على نفسه, قوي قلبه ببشارة }ال تحزن ان . فظهر سر هذا االقتران في المعية لفظا, كما ظهر40الله معنا{ التوبة اآلية

حكما ومعنى, اذ يقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله رضي الله عنه, فلما مات صلى الله عليه وسلم قيل: خليفة رسول الله , ثم

انقطعت اضافة الخالفة بموته فقيل: أمير المؤمنين.

فأقاما في الغار ثالثا ثم خرجا منه ولسان القدر يقول: لتدخلنها دخوال لم يدخله أحد قبلك وال ينبغي ألحد من بعدك. فلما استقال على البيداء لحقهما سراقة بن مالك, فلما شارف الظفر أرسل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم سهما من

سهام الدعاء, فساخت قوائم فرسه في األرض الى بطنها, فلما علم أنه ال سبيل له عليهما أخذ يعرض المال على من قد رد مفاتيح الكنوز ويقدم الزاد الى شعبان

-1961 )234\4" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني", أخرجه البخاري في الصوم عن عائشة.126\6عن أبي سعيد و 8\3(, ومسلم وأحمد في المسند 1964

كانت تحفة ثاني اثنين مدخرة للصديق, دون الجميع, فهو الثاني في االسالم وفي بذل النفس وفي الزهد وفي الصحبة وفي الخالفة وفي العمر, وفي سبب

الموت؛ ألن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات عن أثر السم,*يروي البخاري تعليقا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه

الذي مات فيه:"يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر, وهذا أوان ما وجدت انقطاع ابهري من ذلك السم". وأبو بكر سم فمات )روى ابن جرير

ة.....419\3الطبري في التاريخ قال: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرز".

أسلم على يديه من العشرة: عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وق"اص. وكان عنده يوم أسلم أربعون ألف درهم فأنفقها أحوج ما

كان االسالم اليها, فلهذا جلبت نفقته عليه" ما نفعني مال, ما نفعني مال أبي ( وأحمد والسيوطي.94)36\1بكر" جزء من حديث أخرجه ابن ماجه في المقدمة

فهو خير من مؤمن آل فرعون؛ ألن ذلك كان يكتم ايمانه والصد"يق أعلن به, وخيرمن مؤمن آل }يس{؛ ألن ذلك جاهد ساعة والصديق جاهد سنين.

عاين طائر الفاقة يحوم حول حب االيثار ويصيح:} من ذا الذي يقرض الله قرضا , فألقى له حب المال على روض الرضى واستلقى على245حسنا{ البقرة

فراش الفقر, فنقل الطائر الحب الى حوصلة المضاعفة ثم عال على أفنان شجرة"بها األتقى, الصدق يغرد بفنون المدح, ثم قام في محاريب االسالم يتلو:} وسيجن

. نطقت بفضله اآليات واألخبار؛ واجتمع على18و17الذي يؤتي ماله يتزكى{الليل بيعته المهاجرون واألنصار.

فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار, كلما تليت فضائله عال عليهم الصغار. . دعي40أترى لم يسمع الروافض الكف"ار }ثاني اثنين اذ هما في الغار{ التوبة

57

Page 58: الفوائد بن القيّم

الى االسالم فما تلعثم وال أبى, وسار على المحج"ة فما زال وال كبا, وصبر في مدته من مدى العدى على وقوع الشبا, وأكثر في االنفاق فما قاا حتى تخلل بالعبا

)أي لقي وجه ربه تعالى(.

تالله قد زاد على السبك في كل دينار دينار }ثاني اثنين اذ هما في الغار{ من كان قرين النبي في شبابه. من ذا الذي سبق الى االيمان من أصحابه. من الذي أفتى بحضرته سريعا في جوابه, من أو"ل من صل"ى معه؟ ومن آخر من صل"ى به؟

من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه )دفن بجوار الرسول في حجرة السيدةعائشة(, فاعرفوا حق الجار.

نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ, وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد االلحاظ, فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ حسرة الرافضي أن يفر من

مجلس ذكره, ولكن أين الفرار؟. كم وقى الرسول بالنفس والمال, وكان أخص"ة عن به في حياته وهو ضجيعه في الرمس)تراب القبر(. فضائله جلية وهي خلي

اللبس. يا عجبا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار, لقد دخال غارا ال يسكنه البث, فاستوحش الصديق من خوف الحوادث, فقال الرسول صلى الله

"ك باثنين والله الثالث". فنزلت السكينة فارتفع خوف عليه وسلم:" ما ظن الحادث.فزال القلق وطاب عيش الماكث. فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس

منائر األمصار: }ثاني اثنين اذ هما في الغار{.

حبه والله رأس الحنيفية, وبغضه يدل على خبث الطوية. فهو خير الصحابة والقرابة, والحجة على ذلك قوية. لوال صحة امامته ما قال ابن الحنفية... مهال

مهال !! فان دم الروافض قد فار.

والله ما أحببناه لهوانا, وال نعتقد في غيره هوانا, ولكن أخذنا بقول علي رضي الله عنه: "كفانا رضيك رسول الله لديننا, أفال نرضاك لدنيانا تالله لقد أخذت من

. تالله لقد وجب حق الصد"يق علينا,145-143الروافض بالثأر" اعجاز القرآن ص فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السنى)الضوء الذي يصحب اليرق(

عينا, فمن كان رافضيا فال يعد الينا وليقل: لي أعذار.

[ )تنبيه(43]اجتناب من يعادي أهل كتاب الله وسنة رسوله

اجتنب من يعادي أهل الكتاب والسنة لءال يعديك خسرانه. احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخلق: صاد" عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله, ومفتون بدنياه

ورئاسته.

من خلق فيه قوة واستعداد لشيء, كانت لذته في استعمال تلك القوة فيه, فلذة من خلقت فيه قوة واستعداد للجماع واستعمال قوته فيه, ولذة من خلقت

58

Page 59: الفوائد بن القيّم

فيه قوة الغضب والتوثب استعمال قوته الغضبية في متعلقها, ومن خلقت فيه قوة األكل والشرب فلذته باستعمال قوته فيهما. ومن خلقت فيه قوة العلم

والمعرفة فلذته باستعمال قوته وصرفها الى العلم. ومن خلقت فيه قوة الحب لله, واالنابة اليه, والعكوف بالقلب عليه, والشوق اليه, واألنس به, فلذته ونعيمه

استعمال هذه القوة في ذلك. وسائر اللذات دون هذه اللذة مضمحلة فانية,وأحمد عاقبتها أن تكون ال له وال عليه.

[ )تنبيه(44]من المواعظ والحكم

يا أيها األعزل احذر فراسة المتقى, فانه يرى عورة عملك من وراء ستر "اتقوا (.3127)278\5فراسة المؤمن" أخرجه الترمذي في التفسير

سبحان الله:

في النفس كبر ابليس, وحسد قابيل, وعتو عاد, وطغيان ثمود, وجرأة نمرود, اف واستطالة فرعون, وبغى قارون, وقح"ة هامان )أي لؤم(, وهوى بلعام )عر"

د أرسله ملك ليلعن بني اسرائيل فبارك ولم يلعن(, وحيل أصحاب السبت, وتمر"الوليد, وجهل أبي جهل.

وفيها من أخالق البهائم حرص الغراب, وشره الكلب, ورعونة الطاووس, ودناءة الجعل, وعقوق الضب, وحقد الجمل, ووثوب الفهد, وصولة األسد, وفسق الفأرة,

وخبث الحية, وعبث القرد, وجمع النملة, ومكر الثعلب, وخفة الفراش, ونومالضبع.

غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك. فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند, وال تصلح سلعته لعقد: }ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم{ التوبة

, فما اشترى اال سلعة هذبها االيمان, فخرجت من طبعها الى بلد سكانه111التائبون العابدون.

سلم المبيع قبل أن يتلف في يدك فال يقبله المشتري, قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها, فسلمها لك واألمان من الرد.

قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها, والثمن المبذول فيها, والمنادي عليها, فاذا كان المشترى عظيما, والثمن خطيرا, والمنادي جليال, كانت السلعة نفيسة.

يا بائعا نفسه بيع الهوان, لو اس ترجعت ذا البيع قبل الفوات, لم تخبوبائعا طيب عيش ماله خطر, بطيف عيش من اآلالم منتهبغبنت والله!! غبنا فاحشا, ولدى يوم التغابن تلقى غاية الحرب

59

Page 60: الفوائد بن القيّم

وواردا صفو عيش كله كدر, أمامك الورد حقا ليس بالكذبوحاطب الليل في الظلماء منتصبا لكل داهية, تدني من العطب

ترجو الشفاء بأحداق بها مرض فهل سمعت ببرء جاء من عطبومفنيا نفسه في إثر أقبحهم وصفا للطخ جمال فيه مستلب

وواهبا نفسه من مثل ذا سفها, لو كنت تعرف قدر النفس لم تهبشاب الصبا, والتصابي بعد لم يشب, وضاع وقتك بين اللهو والعب

وشمس عمرك قد حان الغروب لها, والفيء في األفق الشرقي لم يغبوفاز بالوصل من قد جد, وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحبكم ذا التخلف, والدنيا قد ارتحلت, ورسل ربك قد وافتك في الطلب

ما في الديار, وقد سارت ركائب من تهواه, للصب من شكر وال أربفأفرش الخد ذياك التراب, وقل ما قاله صاحب األشواق والحقبما ربح مية محفوفا يطيف به غيالن, أشهى له من ربعك الخربوال الخدود ولو أدمين من ضرج أشهى الى ناظري من خد"ك الترب

منازال كان يهواها, ويألفها أيام كان منال الوصل عن كثبفكلما جليت تلك الربوع له, يهوى اليها هوى الماء في الصبب أحيي له الشوق تذكار العهود بها, فلو دعا القلب للسلوان لم يجب

هذا, وكم منزل في األرض يألفه وما له في سواها الدهر من رغبما في الخيام أخو وجد يريحك ان بثثته بعض شأن الحب, فاغترب

وأسر في غمرات الليل مهتديا بنفخة الطيب, ال بالعود والحطبوعاد كل أخي جبن ومعجزة, وحارب النفس, ال تلقيك في الحرب

وخذ لنفسك نورا تستضيء به يوم اقتسام الورى األنوار بالرتب******

ان كان يوجب صبري رحمتي فرضا بسوء حالي وحل للضنا بدنىمنحتك الروح ال أبغي لها ثمنا اال رضاك ووافقري الى الثمن

******أحن بأطراف النهار صبابة وبالليل يدعوني الهوى فأجيب

******واذا لم يكن من العشق بد فمن العجز عشق غير الجميل

******فلو أن ما أسعى لعيش معجل كفاني منه بعض ما أنا فيه

ولكنكما أسعى لملك مخلد فوا أسفا ان لم أكن بمالقيه******

يا من هو من أرباب الخبرة, هل عرفت قيمة نفسك؟ انما خلقت األكوان كلها لك.

يا من غذى بلبان البر, وقلب بأيدي األلطاف, كل األشياء شجرة وأنت الثمرة, وصورة وأنت المعنى, وصدف وأنت الدر, ومخيض وأنت الزبد.

60

Page 61: الفوائد بن القيّم

منشور اختيارنا لك واضح الخط, ولكن استخراجك ضعيف.

متى رمت طلبي فاطلبني عندك, اطلبني منك تجدني قريبا, وال تطلبني من غيرك فأنا أقرب اليك منه.

لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي, انما أبعدنا ابليس اذ لم يسجد لك, وأنت في صلب أبيك, فواعجبا كيف صالحته وتركتنا! لو كان في قلبك محبة

لبان أثرها على جسدك.

ولما ادعيت الحب قالت كذبتني ألست أرى األعضاء منك كواسيا

لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات.

ولو كنت عذري الصبابة لم تكن بطينا وأنساك الهوى كثرة األكل

لو صح"ت محبتك الستوحشت ممن ال يذكرك بالحبيب. واعجبا لمن يدعي المحبة, ويحتاج الى من يذكره بمحبوبه, فال يذكره اال بمذكر. أقل ما في المحبة

أنها ال تنسيك تذكر المحبوب.

ذكرتك ال أني نسيتك ساعة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني

اذا سافر المحب للقاء محبوبه, ركبت جنوده معه, فكان الحب في مقدمة العسكر, والرجاء يحدو بالمطى, والشوق يسوقها, والخوف يجمعها على الطريق,

فاذا شارف قدوم بلد الوصل, خرجت تقادم الحبيب باللقاء.

فداو سقما بجسم أنت متلفه وأبرد غراما بقلب أنت مضرمهوال تكلني على بعد الديار الى صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه

تلق قلبي فقد أرسلته عجال الى لقائك واألشواق تقدمه

فاذا دخل على الحبيب أفيضت عليه الخلع من كل ناحية, ليمتحن أيسكن اليها فتكون حظه, أم يكون التفاته الى من ألبسه اياها.

مألوا مراكب القلوب متاعا ال تنفق اال على الملك, فلما هبت رياح السحر أقلعت تلك المراكب, فما طلع الفجر اال وهي بالميناء.

قطعوا بادية الهوى بأقدام الجد, فما كان اال القليل حتى قدموا من السفر, فأعقبهم الراحة في طريق التلقي, فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح األبد.

61

Page 62: الفوائد بن القيّم

غ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة, فأقاموا العيون فر"ة وترش أخرى. تحرس تار"

سرداق المحبة ال يضرب اال في قاع نزه فارغ.

ه ه فؤادك من سوانا وألقنا فجنابنا حل لكل منز" نز"والصبر طلسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلسم, فاز بكنزه

اعرف قدر ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت. لو تخيلت قرب األحباب ألقمت المأتم على بعدك. لو استنشقت ريح األسحار ألفاق منك قلبك المخمور. من استطال الطريق ضعف مشيه.

وما أنت بالمشتاق, ان قلت بيننا طوال الليالي, أو بعيد المفاوز

أما علمت أن الصادق: اذا هم ألقى بين عينيه عزمه. اذا نزل آب في القلب حل آذار في العين. اس لما علموا أن أصواتهم بسمع الملك. هان سهر الحر" من الح له حال اآلخرة هان عليه فراق الدنيا. اذا الح للباشق الصيد نسي مألوف

الكف.يا أقدام الصبر احملي بقي القليل. تذكر حالوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة.

قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر. أعلى الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب, وقدم القادم بين يدي الملتقى, فاستبشر بالرضا عند قدوم:} وقدموا

ألنفسكم{. الجنة ترضى منك بأداء الفرائض, والنار تندفع عنك بترك المعاصي,والمحبة ال تقنع منك اال ببذل الروح.

لله!! ما أحلى زمان تسعى فيه أقدام الطاعة على أرض االشتياق.

لما سلم القوم النفوس الى رائض الشرع, علمها الوفاق على خالف الطبع فاستقامت مع الطاعة, كيف دارت معها.

واني اذا اصطكت رقاب مطيهم وثوب حاد بالرفاق عجولأخالف بين الراحتين على الحشا وأنظر أني ملثم فأميل

مواعظ وحكم أخرى: علمت كلبك, فهو يترك شهوته في تناول ما صاده احتراما لنعمتك, وخوفا من

سطوتك, وكم علمك معلم الشرع وأنت ال تفبل.

62

Page 63: الفوائد بن القيّم

حرم صيد الجاهل والممسك لنفسه, فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوى نفسه.

جمع فيك عقل الملك, وشهوة البهيمة, وهوى الشيطان, وأنت للغالب عليك من الثالثة: ان غلبت شهوتك وهواك؛ زدت على مرتبة ملك, وان غلبكك هواك

وشهوتك: نقصت عن مرتبة كلب.

لما صاد الكلب لربه أبيح صيده, ولما أمسك على نفسه حرم ما صاده.

مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة ف عباده بين مقتضى هذين االسمين, فحظ المعطي المانع. فهو سبحانه يصر"

العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء, واالفتقار عند المنع, فهوسبحانه يعطيه ليشكره, ويمنعه ليفتقر اليه, فال يزال شكورا فقيرا.

. هذا من ألطف55قوله تعالى: }وكان الكافر على ربه ظهيرا{ الفرقان خطاب القرآن وأشرف معانيه,و ان المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه

وشيطانه وعدو ربه. وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه, فهو مع الله على عدوه الداخل فيه والخارج عنه, بحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه. كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه, والبعيدون منه فارغون من ذلك, غير

مهتمين به, والكافر مع نفسه وشيطانه وهواه على ربه. وعبارات السلف علىهذا تدور.

ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: عونا للشيطان على ربه باعداوة والشرك.

وقال الليث عن مجاهد قال: يظاهر الشيطان على معصية الله يعينه عليها .17\19ذكره ابن جرير في التفسير

.322\3وقال زيد بن أسلم: ظهيرا أي مواليا ذكره ابن كثير في التفسير والمعنى أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به, فيكون مع عدوه معينا له على

مساخط ربه.

فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه والهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه, ولهذا صد"ر اآلية بقوله:} ويعبدون من دون

, وهذه العبادة هي المواالة والمحبة55الله ماال ينفعهم وال يضرهم{ الفرقان والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة, فظاهروا أعداء الله على معاداته

ومخالفته ومساخطه, بخالف وليه سبحانه, فانه معه على نفسه وشيطانه وهواه.وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله, وبالله التوفيق.

وا عليها صم"ا وعميانا{ "روا بآيات ربهم لم يخر" قوله تعالى: }والذين اذا ذك . قال مقاتل: اذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه,73الفرقان

63

Page 64: الفوائد بن القيّم

وعميانا لم يبصروه, ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به. وقال ابن عباس: لمون عليها سمعا يكونوا صما وعميانا, بل كانوا خائفين خاشعين. وقال الكلبي: يخر" وبصرا. وقال الفراء: واذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم األولى كأنهم

لم يسمعوه, فذلك الخرور. وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني, كقولك: قام يشتمني, وأقبل يشتمني: والمعنى على ما ذكر: لم يصيروا عندها صما وعميلنا. وقال الزجاج: المعنى: اذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما

أمروا به: وقال ابن قتيبة: أي لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لميروها.

قلت: ها هنا أمران ذكر الخرور, وتسليط النفي عليه, وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود؟ وهل المعنى: لم يكن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها

خرور القلب خضوعا, أو البدن سجودا, أو ليس هناك خرور وعبر عن القعود؟

أصول المعاصي كلها, كبارها وصغارها, ثالثة: تعلق القلب بغير الله, وطاعة القوة الغضبية, والقوة الشهوانية, وهي الشرك والظلم والفواحش. فغاية التعلق بغير الله شرك وأن يدعى معه اله آخر. وغاية القوة الغضبية القتل. وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا. ولهذل جمع الله سبحانه بين الثالثة في قوله:} والذين الم الله اال بالحق وال يزنون{ يدعون مع الله الها آخر وال يقتلون النفس التي حر"

. 68الفرقان

وهذه الثالثة يدعو بعضها الى بعض, قالشرك يدعو الى الظلم والفواحش, كما أن االخالص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه, قال تعالى:} كذلك لنصرف عنه

. فالسوء: العشق,24السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين{ يوسف والفحشاء: الزنا.

وكذلك الظلم يدعو الى الشرك والفاحشة, فان الشرك أظلم الظلم, كما أن أعدل العدل التوحيد. فالعدل قرين التوحيد, والظلم قرين الشرك, ولهذا يجمع

سبحانه بينهما. أما األول ففي قوله:} شهد الله أنه ال اله اال هو والمالئكة وأولوا . وأما الثاني فكقوله تعالى: }ان الشرك18العلم قائما بالقسط{آل عمران

. والفاحشة تدعو الى الشرك والظلم, وال سيما اذا13لظلم عظيم{ لقمان قويت ارادتها ولم تحصل اال بنوع من الظلم واالستعانة بالسحر والشيطان. وقد جمع سبحانه بين الزنى والشرك في قوله: } الزاني ال ينكح اال زانبة أو مشركة

م ذلك على المؤمنين{ النور .3والزانية ال ينكحها اال زان أو مشرك وحر"

فهذه الثالثة يجر بعضها الى بعض ويأمر بعضها ببعض. ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيدا وأعظم شركا كان أكثر فاحشة وأعظم تعلقا بالصور وعشقا لها. ونظير هذا قوله تعالى:} فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله

خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون *والذين يجتنبون كبائر االثم . فأخبر أن ماعنده خير37-36والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون{ الشورى

64

Page 65: الفوائد بن القيّم

لمن آمن به وتوكل عليه, وهذا هو التوحيد. ثم قال:} والذين يجتنبون كبائر االثم والفواحش{ فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية. ثم قال: }واذا ما غضبوا هم

يغفرون{, فهذا مخالفة القوة الغضبية, فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التى هيجماع الخير كله.

[ )فائدة(45]هجر القرآن أنواع

أحدهما: هجر سماعه وااليمان به واالصغاء اليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حالله وحرامه, وان قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم اليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه ال يفيد

اليقين,, وأن أدلته لفظية ال تحص"ل العلم."ره وتفه"مه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والرابع: هجر تدب والخامس: هجر االستشفاء والتداوي في جميع أمراض القلوب وأدوائها, فيطلب

شفاء دائه من غيره, ويهجر التداوي به, زكل هذا داخل في قوله :} وقال . وان كان30الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا{ الفرقان

بعض الهجر أهون من بعض.

وكذلك الحرج الذي في الصدر منه. ة يكون حرجا من انزاله وكونه حقا من عند الله. فانه تار" وتارة يكون من جهة المتكلم به, أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته ألهم غيره

أن تكلم به. وتارة يكون من جهة كفايتها وعدمها وأنه اليكفي العباد, با هممحتاجون معه الى

المعقوالت واألقيسة, أو اآلراء أو السياسات. وتارة يكون من جهة داللته, وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب, أو

أريد بها تأويلها, واخراجها عن حقائقها الى تأويالت مستكرهة مشتركة. وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وان كانت مرادة, فهي ثابتة في نفس

األمر, أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة. فكل هؤالء في صدورهم حرج من القرآن, وهم يعلمون ذلك من نفوسهم

ويجدونه في صدورهم. وال تجد مبتدعا في دينه قط اال وفي قلبه حرج من اآليات التي تخالف بدعته. كما أنك ال تجد ظالما فاجرا اال وفي صدره حرج من اآليات

التي تحول بينه وبين ارادته."ر هذا المعنى ثم ارضى لنفسك بما تشاء. تدب

[ )فائدة(46]كمال النفس المطلوب

كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين:

65

Page 66: الفوائد بن القيّم

أحدهما: أن يصير هيئة راسخة وصفة الزمة لها.

الثاني: أن يكون صفة كمال في نفسه. فاذا لم يكن كذلك لم يكن كماال, فال يليق بمن يسعى في كمال نفسه المنافسة عليه, وال األسف على فوته, وذلك

ليس اال معرفة بارئها وفاطرها ومعبودها والهها الحق الذي ال صالح لها وال نعيم وال لذة اال بمعرفته, وارادة وجهه, وسلوك الطريق الموصلة اليه, والى رضاه

وكرامته. وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة الزمة. وما عدا ذلك من العلوم واالرادات واألعمال فهي بين ما ال ينفعها وال يكملها, وما يعود بضررها ونقصها وألمها, وال سيما اذا صار هيئة راسخة لها, فانها تتعذب وتألم به بحسب لزومه

لها.

وأما الفضائل المنفصلة عنها كالمالبس والمراكب والمساكن والجاه والمال, فتلك في الحقيقة عوار أعيرتها مدة, ثم يرجع فيها المعير, فتتألم وتتعذب برجوعه

فيها بحسب تعلقها بها, وال سيما اذا كانت هي في غاية كمالها, فاذا سلبتها أحضرت أعظم النقص واأللم والحسرة فليتدبر من يريد سعادة نفسه ولذتها هذه النكتة, فأكثر هذا الخلق انما يسعون في حرمان نفوسهم وألمها وألمها وحسرتها

ونقصها من حيث يظنون أنهم يريدون سعادتها ونعيمها.

فلذتها بحسب ما حصل لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك. وحسرتها بحسب ما فاتها من ذلك. ومتى عدم ذلك. ومتى عدم ذلك, وخال منه, لم يبقى

فيه اال القوى البدنية الفسانية, التي بها يأكل ويشرب, وينكح ويغضب, وينال شائر لذاته, ومرافق حياته. وال يلحقه من جهتها شرف وال فضيلة, بل خساسة ومنقصة. اذا كان انما يناسب بتلك القوى البهائم ويتصل بجنسها ويدخل في جملتها ويصير

كأحدها. وربما زادت في تناولها عليها واختصت دونه بسالمة العاقبة, حقيق أنتهجره الى الكمال الحقيقي الذي ال كمال سواه, وبالله التوفيق.

[ )فائدة جليلة(47]من أصبح وليس همه اال الله تعالى

اذا أصبح العبد وأمسى وليس همه الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها, وحمل عنه كل ما أهمه, وفرغ قلبه لمحبته, ولسانه لذكره, وجوارحه لطاعته. وان أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها! ووكله الى نفسه,

فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق, ولسانه عن ذكره بذكرهم, وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم, فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره, كالكير ينفخ

بطنه ويعصر أضالعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بل بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى: }ومن يعش عن ذكر

"ض له شيطانا فهو له قرين{ الزخرف . قال سفيان بن عيينة: ال36الرحمن نقي تأتون بمثل مشهور للعرب اال جئتكم به من القرآن. فقال له قائل: فأين في

66

Page 67: الفوائد بن القيّم

القرآن "أعط أخاك تمرة فان لم يقبل فأعطه جمرة؟" فقال في قوله: }ومن"ض له شيطانا{. يعش عن ذكر الرحمن نقي

[ )فائدة(48]العلم والعمل وما هما

العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج واثباتها في النفس. والعمل: نقل صورة علمية من النفس واثباتها في الخارج. فان كان الثابت في

النفس مطلقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح. وكثيرا ما يثبت ويتراءى في النفس صورة ليس لها وجود حقيقي, فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علما, وانما

هي مقدرة ال حقيقة لها. وأكثر علوم الناس من هذا الباب. وما كان منها مطابقا للحقيقة في الخارج فهو نوعان: نوع تكمل النفس بادراكه والعلم به, وهو العلم

بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه. ونوع ال يحصل للنفس به كمال,وهو كل علم ال يضر الجهل به فانه ال ينفع العلم به.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم ال ينفع, جزء من حديث (,وأبو داود, والنسائي والترمذي73)2088\4أخرجه مسلم في الذكر والدعاء

وابن ماجه وأحمد. وهذا أكثر حال العلوم الصحيحة المطابقة التي ال يضر الجهل بها شيئا, كالعلم بالفلك ودقائقه ودرجاته, وعدد الكواكب ومقاديرها. والعلم بعدد

الجبال وألوانها ومسحتها وما نحو ذلك.

فشرف العلم بجسب شرف معلومه وشدة الحاجة اليه. وليس ذلك اال العلم بالله وتوابع ذلك. وأما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه الله

ة. ففساده من ة, ومن فساد االرادة تار" ويرضاه, ويكون ذلك من فساد العلم تار"به جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك, أو يعتقد أنه يقر"

الى الله وان لم يكن مشروعا, فيظن أنه يتقرب الى الله بهذا العمل, وان لميعلم أنه مشروع.

وأما فساده من جهة القصد فانه ال يقصد به وجه الله والدار اآلخرة, بل يقصد به الدنيا والخلق.

وهاتان اآلفتان في العلم والعمل ال سبيل الى السالمة منهما اال بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وارادة وجه الله والدار اآلخرة في باب

القصد واالرادة. فمتى خال من هذه المعرفة وهذه االرادة فسد علمه وعمله.

وااليمان واليقين يورثان صحة المعرفة وصحة االرادة, وهما يورثان االيمان ويمدانه. ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن االيمان النحرافهم عن صحة

المعرفة وصحة االرادة.

67

Page 68: الفوائد بن القيّم

وال يتم االيمان اال بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة, وتجريد االرادة عن شوائب الهوى وارادة الخلق, فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحي, وارادته لله والدار اآلخرة, فهذا أصح الناس علما وعمال وهو من األئمة الذين يهدون بأمر الله ومن

خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته.

[ االيمان له ظاهر وباطن49]

االيمان له ظاهر وباطن, وظاهرة قول اللسان وعمل الجوارح. وباطنة تصديق القلب وانقياده ومحبته. فال ينفع ظاهر ال باطن له وان حقن به الدماء وعصم به"ة, وال يجزىء باطن ال ظاهر له اال اذا تعذ"ر بعجز أو اكراه أو خوف المال والذري هالك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلو"ه من

االيمان, ونقصه دليل نقصه, وقوته دليل قوته.

فااليمان قلب االسالم ولبه. واليقين قلب االيمان ولبه. وكل علم وعمل ال يزيد االيمان واليقين قوة فمدخول, وكل ايمان ال يبعث على العمل فمدخول. )فيه رد على المتصوفة الذين يقولون بالشريعة والحقيقة ويفصلون بينهما وفيه كذلك رد

على الشيعة الذين يقولون بالتقية(.

[ )قاعدة(50]التوكل على الله نوعان

أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية, أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.

والثاني: التوكل على الله في حصول ما يحبه هو ويرضاه من االيمان واليقين والجهاد والدعوة اليه.

وبين النوعين من الفضل ماال يحصيه اال الله. فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع األول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه في النوع األول

دون الثاني كفاه أيضا, لكن ال يكون له علقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه.

فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية, وتجريد التوحيد, ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وجهاد أهل الباطل, فهذا توكل الرسل وخاص"ة أتباعهم.

والتوكل تارة يكون توكل اضطرار والجاء, بحيث ال يجد العبد ملجأ وال أزرا اال التوكل, كما اذا ضاقت عليه األسباب وضاقت عليه نفسه وظن أن ال ملجأ من الله اال اليه, وهذا ال يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة. وتارة يكون توكل اختيار,

وذلك التوكل مع وجود السبب المفضى الى المراد, فان كان السبب مأمور به ذم

68

Page 69: الفوائد بن القيّم

على تركه. وان قام بالسبب, وترك التوكل, ذم على تركه أيضا, فانه واجب باتفاق األمة ونص القرآن, والواجب القيام بهما, والجمع بينهما. وان كان السبب محرما, حرم عليه مباشرته, وتوحد السبب في حقه في التوكل, فلم يبق سبب سواه, فان التوكل من أقوى األسباب في حصول المراد, ودفع المكروه, بل هو

أقوى األسباب على االطالق.

وان كان السبب مباحا نظرت هل يضعف قيامك به التوكل أو ال يضعفه؟ فان أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى, وان لم يضعفه فمباشرته

أولى؛ ألن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب فال تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها, وال سيما اذا فعلته عبودية, فتكون قد أتيت بعبودية القلب

بالتوكل, وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. والذي يحقق التوكل القيام باألسباب المأمور بها, فمن عطلها لم يصح توكله كما أن القيام باألسباب

"ا, كما المفضية الى حصول الخير يحقق رجاءه, فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنيأن من عط"لها يكون توكله عجزا وعجزه توكال.

وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده, فال يضره مباشرة األسباب مع خلو القلب من االعتماد والركون اليها, كما ال ينفعه قوله: توكلت

على الله, مع اعتماده على غيره وركونه اليه وثقته به, فتوكل السان شيء وتوكل القلب شيء آخر, كما أن توبة اللسان مع اصرار القلب شيء, وتوبة

القلب وان لم ينطق اللسان شيء آخر. فقول العبد: توكلت على الله, مع اعتمادقلبه على غيره, مثل قوله: تبت الى الله, وهو مصر على معصيته مرتكب لها.

[ )فائدة(51]شكوى الجاهل من الله

الجاهل يشكو الله الى الناس, وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو اليه, فانه لو عرف ربه لما شكاه, ولو عرف الناس لما شكا اليهم. ورأى بعض السلف رجال

يشكو الى رجل فاقته وضرورته, فقال: يا هذا, والله ما زدت على أن شكوت منيرحمك الى من ال يرحمك, وفي ذلك قيل:

واذا شكوت الى ابن آدم انما تشكو الرحيم الى الذي ال يرحم

والعارف انما يشكو الى الله وحده. وأعرف العارفين من جعل شكواه الى الله من نفسه ال من الناس, فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه, فهو ناظر

,30الى قوله تعالى:} وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم{ الشورى , وقوله:} أو لما أصابتكم79وقوله:}وما أصابك من سيئة فمن نفسك{ النساء

"ى هذا قل هو من عند أنفسكم{ آل عمران .165مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أن

69

Page 70: الفوائد بن القيّم

فالمراتب ثالثة: أخسها أن تشكو الله الى خلقه, وأعالها أن تشكو نفسك الى الله, وأوسطها أن تشكو خلقه اليه.

[ )قاعدة جليلة(52]حول اآلية الكريمة

}يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول{

قال الله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما ,24يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه اليه تحشرون{ األنفال

فتضمنت هذه اآلية أمورا, أحدها: أن الحياة النافعة انما تحصل باالستجابة له ورسوله, فمن لم تحصل له هذه االستجابة فال حياة له, وان كانت له حياة بهيمية

مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياةالحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤالء هم األحياء وان ماتوا, وغيرهم أموات وان

كانوا أحياء األبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة وأكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم, فان كل ما دعا اليه ففيه الحياة, فمن فاته جزء منه فاته

جزء من الحياة, وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليهوسلم.

قال مجاهد: }لما يحييكم{ يعني للحق, وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا واآلخرة. وقال السدي: هو االسالم أحياهم بعد

موتهم بالكفر. وقال ابن اسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير: واللفظ له:}لما يحييكم{ يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل,

وقو"اكم بعد الضعف, ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. كلها من ابن . وكل هذه عبارات عن حقيقة واحدة وهي القيام بما جاء به الرسول297\2كثير

ظاهرا وباطنا.

قال الواحدي: واألكثرون على أن معنى قوله:} لما يحييكم{ هو الجهاد. وهو قول ابن اسحاق واختيار أكثر أهل المعاني.

قال الفراء: اذا دعاكم الى احياء أمركم بجهاد عدوكم يريد انما يقوي بالحرب والجهاد, فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم.

70

Page 71: الفوائد بن القيّم

قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي اآلخرة. أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد.

وأما في البرزخ فقد قال تعالى: }وال تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا .169بل أحياء عند ربهم يرزقون{ آل عمران

وأما في اآلخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم. ولهذا قال تبن قتيبة: }لما يحييكم{ يعني الشهادة. وقال بعض

المفسرين: } لما يحييكم{ يعني الجنة. فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمةالطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني.

واآلية تناول هذا كله, فان االيمان والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة, والرسول داع الى االيمان والى الجنة, فهو داع الى

الحياة في الدنيا واآلخرة. واالنسان مضطر الى نوعين من الحياة: حياة بدنه التيه. ومتى نقصت فيه هذه ناله بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضر" من األلم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب

الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك. وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد والهوى والضالل, فيختار

الحق على ضده. فتفيد هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم واالرادات واألعمال. وتفيد قوة االيمان واالرادة والحب للحق, وقوة البغض

والكراهة للباطل.

فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة, كما أن البدن الحي يكون شعوره واحساسه بالنافع والمؤلم أتم, ويكون ميله الى النافع ونفرته

عن المؤلم أعظم. فهذا بحسب حياة البدن, وذاك بحسب حياة القلب. فاذا بطلت حياته بطل تمييزه. وان كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على

الضار. كما أن االنسان ال حياة له حتى ينفخ فيه الملك, الذي هو رسول الله )الملك الذي ينفخ الروح في االنسان بأمر الله(, من روحه, فيصير حيا بذلك

النفخ. وكان قبل ذلك من جملة األموات. وكذلك ال حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى اليه, قال تعالى: }ينزل

, وقال :} يلقي2المالئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده{ النحل , وقال:} وكذلك أوحينا اليك15الروح من أمره على من يشاء من عباده{ غافر

روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب وال االيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من . فأخبر أن وحيه روح ونور, فالحياة واالستنارة52نشاء من عبادنا{ الشورى

موقوفة على نفخ الرسول الملكي, فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخالرسول البشري حصلت له الحياتان.

ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له احدى الحياتين وفاتته األخرى, قال تعالى:} أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس

71

Page 72: الفوائد بن القيّم

, فجمع له بين النور122كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها{األنعام والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابن عباس

.172\2وجميع المفسرين: كان كافرا ضاال فهديناه. تفسير ابن كثير

وقوله:} وجعلنا له نورا يمشي به في الناس{ يتضمن أمورا: أحدهما: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة, فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق. وآخر معه نور يمشي في الطريق

ويراها ويرى ما يحذره فيها.

وثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم الى النور.

وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط اذا بقي أهل الشرك والنفاقفي الظلمات شركهم ونفاقهم.

. المشهور في اآلية24وقوله:} اعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه{ األنفال أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين االيمان. ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته, وبين أهل معصيته وبين طاعته, وهذا قول ابن عباس

وجمهور المفسرين.

وفي اآلية قول آخر أن المعنى أنه سبحانه قريب من قلبه ال تخفى عليه خافية, فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة, وكان هذا أنسب بالسياق, ألن

االستجابة أصلها بالقلب فال تنفع االستجابة بالبدن دون القلب, فان الله سبحانهبين العبد وبين قلبه فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خالفه.

وعل القول األول, فوجه المناسبة أنكم ان تثاقلتم عن االستجابة وأبطأتم عنها فال تأمنوا أن يحول الله بينكم وبين قلوبكم فال يمكنكم بعد ذلك من االستجابة

عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته, فيكون قوله:} ونقل"ب أفئدتهم . وقوله:} فلما زاغوا أزاغ110وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة{ األنعام

. وقوله:} فما كانوا ليؤمنوا بما كذ"بوا من قبل{ األعراف5الله قلوبهم{ الصف . ففي اآلية تحذير عن ترك االستجابة بالقلب وان استجاب بالجوارح.101

وفي اآلية سر آخر: وهو أنه جمع لهم بين الشرع واألمر به, وهو االستجابة, وبين القدر وااليمان به, فهي كقوله تعالى: } لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاءون

, وقوله:} فمن شاء ذكره. وما28,29اال أن يشاء الله رب العالمين{ التكوير , والله أعلم.55,56يذكرون اال أن يشاء الله{ المدثر

72

Page 73: الفوائد بن القيّم

[ )فائدة جليلة(53]}وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم{

قوله تعالى:} كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر" لكم والله يعلم وأنتم ال تعلمون{ البقرة

:} فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه216 , وقوله عز" وجل" . فاآلية األولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية19خيرا كثيرا{ النساء

خشية على نفسه منه, والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية.

فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه, وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده, ويجب الموادعة والمتاركة, وهذا المحبوب شر له في

معاشه ومعاده.

وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في امساكها خير كثير ال يعرفه. ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله في امساكها شر كثير ال يعرفه. فاالنسان

ه كما وصفه به خالقه ظلوم جهول, فال ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضر" وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه, بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره

ونهيه.

فأنفع األشياء له على االطالق طاعة ربه بظاهره وباطنه, وأضر األشياء عليه على االطالق معصيته بظاهره وباطنه, فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل

ما يجري عليه مما يكره يكون خيرا له, واذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له. فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه

وصفاته, علم يقينا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التيال يحصيحا علمه وفكره, بل مصلحة العبد فيما يكره

أعظم منها فيما يحب.

فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها, كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها. فانظر الى غارس جنة من الجنات خبير بالفالحة غرس جنة وتعاهدها

بالسقي واالصالح حتى أثمرت أشجارها, فأقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع"ت على حالها لم تطب ثمرتها, فيطعمها من شجرة أغصانها لعلمه أنها لو خلي

طيبة الثمرة, حتى اذا اتحدت بها والتحمت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها, ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها,

لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك. ثم ال يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت, بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا, وال يترك عليها الماء دائما وان كان ذلك

أنضر لورقها وأسرع لنباتها. ثم يعمد الى تلك الزينة التي زينت بها من األوراق فيلقي عنها كثيرا منها, ألن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها

واستوائها كما في شجر العنب ونحوه. فهو يقطع أعضاءها بالحديد, ويلقي عنها

73

Page 74: الفوائد بن القيّم

كثيرا من زينتها, وذلك عين مصلحتها. فلو أنها ذات تمييز وادراك كالحيوان,لتوهمت أن ذلك افساد لها واضرار بها, وانما هو عين مصلحتها.

وكذلك األب الشفيق على ولده العالم بمصلحته, اذا رأى مصلحته في اخراج الدم الفاسد عنه, بضع جلده وقطع عروقه وأذاقه األلم الشديد. وان رأى شفاءه

في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه )أي قطعه(, كل ذلك رحمة به وشفقة عليه. وان رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه, لعلمه أن

ذلك أكبر األسباب الى فساده وهالكه. وكذلك يمنعه كثيرا من شهواته حمية لهومصلحة ال بخال عليه.

فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين, الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم, اذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن ال

ينزله بهم, نظرا منه لهم واحسانا اليهم ولطفا بهم, ولو مكنوا من االختيار ألنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وارادة وعمال, لكنه سبحانه تعالى

تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته, أحبوا أم كرهوا, فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه, وخفى ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته, فنازعوه تدبيره, وقدحوا في حكمته, ولم ينقادوا

لحكمه, وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة,فال لربهم عرفوا, وال لمصالحهم حصلوا, والله الموفق.

ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل اآلخرة في جنة ال يشبه نعيمها اال نعيم جنة اآلخرة, فانه ال يزال راضيا عن ربه, والرضا جنة الدنيا

ومستراح العارفين, فانه طيب النفس بما يجري عليها من المقادير التى هي عين اختيار الله له, وطمأنينته الى أحكامه الدينية, وهذا هو الرضا بالله ربا وباالسالم

دينا وبمحمد رسوال. وما ذاق طعم االيمان من لم يحصل له ذلك. وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره, فكلما كان بذلك كان

به أرضى. فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة, ال يخرج عن ذلك البتة كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء

المشهور: " اللهم اني عبدك, ابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض في" حكمك, عدل في قضاؤك, أسألك بكل اسم هو لك, سميت به نفسك, أو أنزلته"مته أحدا من خلقك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن في كتابك, أو عل

تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجالء حزني, وذهاب همي وغمي, ما قالها أحد قط اال أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجا". قالوا: أفال نتعلمهن يا

رسول الله؟ قال: " بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن.", أخرجه أحمد في رقم104, وابن السني في عمل اليوم والليلة ص391,452\1المسند

, وغيرهم.339,340

والمقصود قوله "عدل في" قضاؤك", وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك, فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب وهو

74

Page 75: الفوائد بن القيّم

عدل في هذا القضاء. وهذا القضاء خير للمؤمن كم قال صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده ال يقضي الله للمؤمن قضاء اال كان خيرا له, وليس ذلك اال

, عن أنس بن مالك.117,184\3للمؤمن." أحمد في المسند

قال العالمة ابن القيم: فسألت شيخنا "االمام الجليل ابن تيمية" هل يدخل في ذلك قضاء الذنب؟ فقال: نعم بشرطه, فأجمل في لفظة "بشرطه" ما يترتب

على الذنب من اآلثار المحبوبة لله من التوبة واالنكسار والندم والخضوع والذلوالبكاء وغير ذلك.

[ )فائدة(54]الرغبة في اآلخرة تقتضي الزهد بالدنيا

ال تتم الرغبة في اآلخرة اال بالزهد في الدنيا, وال يستقيم الزهد في الدنيا اال بعد نظرين صحيحين:

تها, وألم النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحاللها ونقصها وخس" المزاحمة عليها والحرص عليها, وما في ذلك من الغصص والنغص واألنكاد, وآخر

ذلك الزوال واالنقطاع مع ما يعقب من الحسرة واألسف, فطالبها ال ينفك من همقبل حصولها, وهم في حال الظفر بها, وغم وحزن بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.

)النظر الثاني( في اآلخرة واقبالها ومجيئها وال بد, ودوامها وبقائها, وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ها هنا فهي كما قال

. فهي خيرات كاملة دائمة, وهذه17سبحانه:} واآلخرة خير وأبقى{ األعلى خياالت ناقصة منقطعة مضمحلة. فاذا تم له هذين النظران آثر ما يقتضي العقل

ايثاره, وزهد فيما يقتضي الزهد فيه. فكل أحد مطبوع على أن ال يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة الى النفع اآلجل واللذة الغائبة المنتظرة, اال اذا تبين

الفضل له, واما لعدم رغبته في األفضل, وكل واحد من األمرين يدل على ضعف االيمان وضعف العقل والبصيرة. فان الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها اما أن يصد"ق بأن هناك أشرف وأفضل وأبقى, واما أن ال يصد"ق, فان لم يصدق

بذلك كان عادما لاليمان رأسا, وان صد"ق ذلك كان فاسد العقل سيء االختيارلنفسه.

وهذا تقسيم حاضر ضروري ال ينفك العبد من أحد القسمين منه. فايثار الدنيا على اآلخرة اما من فساد االيمان, واما من فساد العقل. وما أكثر ما يكون منهما.

ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم, واطرحوها ولم يألفوها, وهجروها ولم يميلوا اليها, وعد"وها سجنا ال"ة. فزهدوا فيها حقيقة الزهد, ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولوصلوا منها جن الى كل مرغوب. فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فرد"ها, وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من اآلخرة بها, وعلموا أنها معبر وممر ال دار مقام

75

Page 76: الفوائد بن القيّم

ومستقر, وأنها دار عبور ال دار سرور, وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل, وخيالطيف ما استتم الزيارة حتى آذن الرحيل.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مالي وللدنيا, انما أنا كراكب قال في ظل (, وابن ماجه2377)508\4شجرة ثم راح وتركها" أخرجه الترمذي في الزهد

وأحمد والسيوطي. وقال:" ما الدنيا في اآلخرة اال كما يدخل أحدكم اصبعه في [,2858 ]55 رقم 2193\4اليم فلينظر بما ترجع". أخرجه مسلم في الجنة

والترمذي وابن ماجه.

وقال خالقها سبحانه: }انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط "نت ي به نبات األرض مما يأكل الناس واألنعام حتى اذا أخذت األرض زخرفها واز"

وظن" أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليال أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن"رون * والله يدعو الى دار السالم ويهدي باألمس كذلك نفص"ل اآليات لقوم يتفك

, فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها,24,25من يشاء الى صراط مستقيم{ يونس وأخبر عن دار السالم ودعا اليها.

وقال تعالى:} واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات األرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال

والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أمال{.45,46الكهف

وقال تعالى:} اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في ا ثم يكون األموال واألوالد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفر"

حطاما وفي اآلخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا اال.20متاع الغرور{ الحديد

"ن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير وقال تعالى:} زي المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسو"مة واألنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم"ات تجري من تحتها األنهار خالدين فيها وأزواج مطه"رة ورضوان من الله والله جن

.14,15بصير بالعباد{ آل عمران

وقال تعالى:} وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في اآلخرة اال متاع{ الرعد 26.

وقد توع"د سبحانه أعظم الوعيد لمن رضى بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه, فقال:} ان الذين ال يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا

واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا.7,8يكسبون{ يونس

76

Page 77: الفوائد بن القيّم

"ر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين, فقال: } يا أيها الذين آمنوا ما لكم وعي"اقلتم الى األرض أرضيتم بالحياة الدنيا من اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اث

.38اآلخرة فما متاع الدنيا في اآلخرة اال قليل{ التوبة

وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب "عناهم سنين * ثم اآلخرة, ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى:} أفرأيت ان مت

"عون{ الشعراء .207-205جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمت

وقوله:} ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا اال ساعة من النهار يتعارفون بينهم{ .45يونس

وقوله: }كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا اال ساعة من نهار بالغ فهل يهلك .35اال القوم الفاسقون{ األحقاف

"ان مرساها . فيم أنت من ذكراها . الى وقوله تعالى:} يسألونك عن الساعة أي ربك منتهاها . انما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا اال عشية أو

.46-42ضحاها{ النازعات

.55وقوله:} ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة{ الروم

وقوله: } قال كم لبثتم في األرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم -112فاسأل العاد"ين * قال ان لبثتم اال قليال لو أنكم كنتم تعلمون{المؤمنون

114.

وقوله:} يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم ان لبثتم اال عشرا * نحن أعلم بما يقولون اذ يقول أمثلهم طريقة ان لبثتم اال يوما{

.104-102طه

والله المستعان وعليه التكالن.

[ )قاعدة(55]أساس الخير أن تؤمن بما شاءه تعالى

أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن. فتيقن حينئذ ع اليه أن ال يقطعها عنك, وأن أن الحسنات من نعمه, فتشكره عليها, وتتضر"

السيئات من خذالنه وعقوبته, فتبتهل اليه أن يحول بينك وبينها, وال يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات الى نفسك. وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد, وكل شر فأصله خذالنه لعبده, وأجمعوا أن التوفيق أن ال يكللك

الله الى نفسك, وأن الخذالن هو أن يخلي بينك وبين نفسك, فاذا كان كل خير

77

Page 78: الفوائد بن القيّم

فأصله التوفيق, وهو بيد الله ال بيد العبد, فمفتاحه الدعاء واالفتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة اليه. فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له, ومتى

"ه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجا دونه. أضل

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اني ال أحمل هم االجابة, ولكن هم الدعاء, فاذا ألهمت الدعاء فان االجابة معه. وعلى قدر مية العبد وهمته

ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه واعانته. فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم, والخذالن ينزل عليهم على

حسب ذلك, فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين, يضع التوفيق في مواضعه الالئقة به, وهو العليم الحكيم, وما أتي من أتى اال من قبل اضاعة الشكر واهمال االفتقار والدعاء, وال ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه اال بقيامه بالشكر

وصدق االفتقار والدعاء. ومالك ذلك الصبر فانه من االيمان بمنزلة الرأس منالجسد, فاذا قطع الرأس فال بقاء للجسد.

******

.ماضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.خلقت النار الذابة القلوب القاسية.أبعد القلوب من الله القلب القاسي.اذا قسا القلب قحطت العينقسوة القلب من أربعة أشياء اذا جاوزت قدر الحاجة: األكل والنوم والكالم

والمخالطة. كما أن البدن اذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب, فكذلكالقلب اذا مرض بالشهوات لم ينفع فيه المواعظ.

.من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته.القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.القلوب آنية الله في أرضه, فأحبها اليه أرقها وأصلبها وأصفاهاشغلوا قلوبهم بالدنيا, ولو شغلوها بالله والدار اآلخرة لجالت في معاني كالمه

وآياته المشهودة ورجعت الى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد.ر, ونقي من الدغل, ورأى العجائب وألهم" اذا غذي القلب بالتذكر, وسقي بالتفك

الحكمة.ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها, بل أهل المعرفة

والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى. وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى,فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه.

.خراب القلب من الزمن والغفلة, وعمارته من الخشية والذكراذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد اآلخرة بين أهل تلك

الدعوة, واذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد..الشوق الى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروح عنه وهج الدنيامن وط"ن قلبه عند ربه, سكن واستراح, من أرسله في الناس اضطرب واشتد

به القلق..ال تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا اال كما يدخل الجمل في سم االبرة

78

Page 79: الفوائد بن القيّم

اذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته.

[ مرض القلب56]

"ة, ويصدأ كما تصدأ القلب يمرض كما يمرض البدن, وشفاؤه في التوبة والحمي المرآة وجالؤه بالذكر, ويعرى كما يعرى الجسم, وزينته التقوى, ويجوع ويظمأ كما

يجوع البدن, وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل واالنابة والخدمة.

"اك والغفلة عمن جعل لحياتك أجال وأليامك وأنفاسك أمدا ومن كل سواه بد ايوال بد لك منه.

[ ترك االختيار57]

من ترك االختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه أو في خوف نقصان أو في التخلص من عدو, توكال على الله وثقة بتدبيره له وحسن اختياره له, فألقى كنفه

بين يديه, وسلم األمر اليه, ورضي بما يقضيه له, استراح من الهموم والغمومواألحزان.

ومن أبى اال تدبيره لنفسه, وقع في النكد والنصب وسوء الحال والتعب, فال

عيش يصفو, وال قلب يفرح, وال عمل يزكو, وال أمل يقوم, وال راحة تدوم.

والله سبحانه سه"ل لخلقه السبيل اليه وحجبهم عنه بالتدبير, فمن رضي بتدبير الله له, وسكن الى اختياره, وسل"م لحكمه, أزال ذلك الحجاب, فأفضى القلب الى

ربه, واطمأن اليه وسكن.

[ المتوكل ال يسأل غير الله وال يرد على الله وال يدخر مع الله58]

.من شغل بنفسه شغل عن غيره, ومن شغل بربه شغل عن نفسهاالخالص هو ما ال يعلمه ملك فيكتبه وال عدو فيفسده وال يعجب به صاحبه

فيبطله..الرضا سكون القلب تحت مجاري األحكام .الناس في الدنيا معذ"بون على قدر هممهم بها.للقلب ستة مواطن يجول فيها ال سابع لها: ثالثة سافلة, وثالثة عالية

فالسافلة: دنيا تتزين له, ونفس تحدثه, وعدو يوسوس له. فهذه مواطناألرواح السافلة التي ال تزال تجول بها.

والثالثة العالية: علم يتبين له, وعقل يرشده, واه يعبده. والقلوب جو"الة فيهذه المواطن.

79

Page 80: الفوائد بن القيّم

اتباع الهوى وطول األمل مادة كل فساد, فان اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدا, وطول األمل ينسي اآلخرة, ويصد عن االستعداد لها.

.ال يشم عبد رائحة الصدق ويداهن نفسه, أو يداهن غيرهاذا أراد الله بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه, ممسكا عن ذنب غيره, جو"ادا بما

عنده, زاهدا فيما عند غيره, محتمال ألذى غيره, وان أراد به شرا عكس ذلكعليه.

:ة ال تزال حائمة حول ثالثة أشياء" الهم"ة العلي

تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وارادة. ومالحظة لمنة تزداد بتذكره توبة وخشية. فاذا تعل"قت الهم"ة بسوى هذه الثالثة

جالت في أودية الوساوس والخطرات. .ته" من عشق الدنيا نظرت الى قدرها عند فصيرته من خدمها وعبيدها وأذل

ومن أعرض عنها نظرت الى كبر قدره فخدمته وذل"ت له.انما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجاد"ة وسير الليل, فاذا حاد المسافر

عن الطريق, ونام الليل كله, فمتى يصل الى مقصده؟

[ )فائدة جليلة(59]قبول فتوى العابد الزاهد في دنياه

كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها, فال بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه, في خبره والزامه, ألن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على

خالف أغراض الناس, وال سيما أهل الرئاسة. والذين يتبعون الشهوات فانهم ال تتم لهم أغراضهم اال بمخالفة الحق ودفعه كثيرا, فاذا كان العالم والحاكم محبين

للرئاسة, متبعين للشهوات, لم يتم لهما ذلك اال بدفع ما يضاده من الحق, وال سيما اذا قامت له شبهة, فتتفق الشبهة والشهوة, ويثور الهوى, فيخفى الصواب, وينطمس وجه الحق. وان كان الحق ظاهرا ال خفاء به وال شبهة فيه, أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج من التوبة. وفي هؤالء وأشباههم قال تعالى: }فخلف

.59من بعدهم خلف أضاعوا الصالة واتبعوا الشهوات{ مريم

وقال تعالى فيهم أيضا:} فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا األدنى ويقولون سيغفر لنا وان يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم

ميثاق الكتاب أن ال يقولوا على الله اال الحق ودرسوا ما فيه والدار اآلخرة خير.169للذين يتقون أفال تعقلون{ األعراف

فأخبر سبحانه أنهم أخذوا الغرض األدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا, وان عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك, وذلك هو

الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق, فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن حكمه وشرعه ودينه خالف ذلك, أو ال يعلمون أن ذلك دينه

80

Page 81: الفوائد بن القيّم

وشرعه وحكمه؟ فتارة يقولون على الله ما ال يعلمون, وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطالنه, وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار اآلخرة خير من الدنيا, فال

يحملهم حب الرئاسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على اآلخرة. وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة, ويستعينوا بالصبر والصالة, ويتفكروا في الدنيا وزوالها

وخستها, واآلخرة اقبالها ودوامها, وهؤالء ال بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيختمع لهم األمران, فان اتباع الهوى يعمى عين القلب, فال يميز بين

السنة والبدعة, أو ينكسه فيرى البدعة سنة, والسنة بدعة.

فهذه آفة العلماء اذا آثروا الدنيا, واتبعوا الرئاسات والشهوات. وهذه اآليات فيهم الي قوله: } واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه

"بع الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى األرض وات-175هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث{ األعراف

. فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخالف علمه.176

وتأم"ل ما تضمنته هذه اآلية من ذمه, وذلك من وجوه: أحدها: أنه ضل بعد العلم, واختار الكفر على االيمان عمدا ال جهال.

وثانيها: أنه فارق االيمان مفارقة من ال يعود اليه أبدا, فانه انسلخ من اآلياتبالجملة, كما تنسلخ الحية من قشرها, ولو بقي معه منها شيء, لم ينسلخ منها. وثالثها: أن الشيطان أدركه ولحقه, بحيث ظفر به وافترسه, ولهذا قال: }فأتبعه

الشيطان{, ولم يقل تبعه, فان معنى أتبعه أدركه ولحقه, وهو أبلغ من تبعه لفظاومعنى.

ورابعها: أنه غوي بعد الرشد. والغي: الضالل في العلم والقصد, وهوأخص بفساد القصد والعمل كما أن الضالل أخص بفساد العلم واالعتقاد. فاذا أفرد أحدهما

دخل فيه اآلخر, وان اقترنا فالفرق ما ذكر. وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هالكه, ألنه لم يرفع به

فصار وباال عليه, فلو لم يكن عالما لكان خيرا له وأخف لعذابه. وسادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسة همته, وأن اختار األسفل األدنى على

األشرف األعلى. وسابعها: أن اختياره لألدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس, ولكنه كان عن اخالد

"ته الى ما هناك, وأصل االخالد اللزوم على الدوام, كأنه الى األرض, وميل بكلي قيل: لزم الميل الى األرض, ومن هذا يقال: أخلد فالن بالمكان اذا لزم االقامة به,

قال مالك بن نويرة )مرتد قتله ضرار بن األزور(:بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

"ر عن ميله الى الدنيا باخالده الى األرض, ألن الدنيا هي األرض وما فيها وما وعبيستخرج منها من الزينة والمتاع.

وثامنها: أنه رغب عن هداه, واتبع هواه, فجعل هواه اماما له, يقتدي به ويتبعه. وتاسعها: أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيواناتهمة, وأسقطها نفسا, وأبخلها

وأشدها كلبا, ولهذا سمي كلبا.

81

Page 82: الفوائد بن القيّم

وعاشرها: أنه شبه لهثه على الدنيا, وعدم صبره عنها, وجزعه لفقدها, وحرصه على تحصيلها, بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد, وهكذا. هذا ان ترك فهو لهثان على الدنيا, وان وعظ وزجر فهو كذلك. فاللهث ال يفارقه في كل

حال كلهث الكلب.

قال ابن قتيبة: كل شيء يلهث فانما يلهث من اعياء أو عطش اال الكلب في حال الكالل )األكل(, وحال الراحة, وحال الري, وحال العطش, فضربه الله مثال

لهذا الكافر فقال: ان وعظته فهو ضال, وان تركته فهو ضال, وان تركته فهو ضال كالكلب ان طردته لهث, وان تركته على حاله لهث. وهذا التمثيل لم يقع

بكل كلب, وانما وقع بالكلب الالهث, وذلك أخس ما يكون وأشنعه.

[ احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد الجاهل60]

فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على اآلخرة, وأما العبد الجاهل فآفته من اعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه. ولهذا قال سفيان

بن عيينة وغيره: احذروا قتنة العالم الفاجر, وفتنة العابد الجاهل, فان فتنتهما فتنة"ه يدعو الى الفجور. لكل مفتون, فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه, وذاك بغي

وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع اآلخر بقوله: } كمثل الشيطان اذ قال لالنسان أكفر فلما كفر قال اني بريء منك اني أخاف الله رب العالمين * فكان

,17-16عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين{ الحشر وقصته معروفة, فانه بنى أساس أمره على عبادة الله بجهل, فأوقعه الشيطان بجهله, وكف"ره بجهله. فهذا امام كل عابد جاهل يكفر وال يدري, وذاك امام كل

عالم فاجر, يختار الدنيا على اآلخرة.

وقد جعل سبحانه رضى العبد بالدنيا, وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته, وتدبرها والعمل بها, سبب شقائه وهالكه, وال يجتمع هذان, أعني الرضا بالدنيا

والغفلة عن آيات الرب اال في قلب من ال يؤمن بالمعاد, وال يرجو لقاء رب العباد, واال فلو رسخ قدمه في االيمان بالمعاد, لما رضي الدنيا, وال اطمأن اليها, وال

أعرض عن آيات الله.

وأنت اذا تأملت أحوال الناس وجدت هذا الضرب هو الغالب على الناس وهم ار الدنيا. وأقل الناس عددا من هو على خالف ذلك, وهو من أشد الناس غربة عم" بينهم, لهم شأن وله شأن, علمه غير علومهم, وارادته غير ارادتهم, وطريقه غير

طريقهم, فهو في واد وهم في واد, قال تعالى: }ان الذين ال يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما

.8,7كانوا يكسبون {يونس

82

Page 83: الفوائد بن القيّم

ثم ذكر وصف ضد هؤالء ومآلهم وعاقبتهم بقوله: }ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم األنهار في جنات النعيم {يونس

9. فهؤالء ايمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة اليها, ودوام ذكر

آياته, فهذه مواريث االيمان بالمعاد, وتلك مواريث عدم االيمان به والغفلة عنه.

[ )فائدة عظيمة(61]العلم االيمان أفضل ما تكسبه النفس ويحص"له القلب

أفضل ما اكتسبته النفوس, وحصلته القلوب, ونال به العبد الرفعة في الدنيا واآلخرة, هو العلم وااليمان, ولهذا قرن الله سبحانه بينهما في قوله: } وقال الذين أوتوا العلم وااليمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث فهذا يوم

. وقوله:} يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم56البعث{الروم , وهؤالء هم خالصة الوجود ولبه, والمؤهلون للمراتب11درجات{المجادلة

العالية, ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم وااليمان اللذين بهما السعادة والرفعة, وفي حقيقتهما. حتى أن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم

وااليمان هو هذا الذي به تنال السعادة, وليس كذلك بل أكثرهم ايس معهم ايمان ينجي وال علم يرفع, بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم وااليمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا اليهما األمة, وكان عليهما هو وأصحابه

من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم.

فكل طائفة اعتقدت أن العلم معها وفرحت به }فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل , وأكثر ما عندهم كالم وآراء وخرص,53حزب بما لديهم فرحون{ المؤمنون

والعلم وراء الكالم كما قال حم"اد بن زيد: قلت أليوب: العلم اليوم أكثر أو فيماتقد"م؟ فقال: الكالم اليوم أكثر والعلم فيما تقدم أكثر!

ففرق هذا الراسخ بين العلم والكالم. فالكتب كثيرة جدا والكالم والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة, والعلم بمعزل عن أكثرها, وهو ما جاء به الرسول

صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه:} فمن حاج"ك فيه من بعد ما جاءك من , وقال:} لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم..{61العلم..{ آل عمران

, أي وفيه علمه.166, وقال في القرآن:} أنزله بعلمه{ النساء120البقرة

ولما بعد العهد بهذا العلم آل األمر بكثير من الناس الى أن يتخذوا هواجس األفكار وسوانح الخواطر واآلراء علما, ووضعوا فيها الكتب, وأنفقوا فيها األنفاس,

فضيعوا فيها الزمان, ومألوا بها الصحف مدادا, والقلوب سوادا, حتى صرح كثير من الناس منهم أنه ليس في القرآن والسنة علم, وأن أدلتهما لفظية ال تفيد يقينا وال علما. وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم, وأذن بها بين أظهرهم, حتى أسمعها

دانيهم لقاصيهم, فانسلخت بها القلوب من العلم وااليمان كانسالخ الحية منقشرها, والثوب عن البسه.

83

Page 84: الفوائد بن القيّم

قال االمام العالمة شمس الدين ابن القيم: ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع أتباع تالميذ هؤالء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن,

فقال له: لو حفظت القرآن أوال كان أولى, فقال: وهل في القرآن علم.

قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤالء: اننا نسمع الحديث ألجل البركة ال لنستفيد منه العلم ألن غيرنا قد كفانا هذه المؤونة فعمدتنا على ما فهموه

وقرروه, وال شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل:

نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبطحاء أبعد منزل

قال: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤالء:

انهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس الطلب, ويكفيك دليال على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله, ما ترى فيه من التناقض واالختالف ومصادمة

بعضه لبعض, قال تعالى: }ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختالفا كثيرا{ , وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه ال يختلف, وأن ما اختلف82النساء

وتناقض فليس من عنده, وكيف تكون اآلراء والخياالت وسوانح األفكار دينا يدانبه ويحكم به على الله ورسوله, سبحانك هذا بهتان عظيم.

اصين وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤالء المختلفين الخر" كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري, قال: كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم اذا اجتمعوا انما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم, ليس

بينهم رأي وال قياس. ولقد أحسن القائل:

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة, ليس بالتمويهما العلم نصبك للخالف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه

كال, وال جحد الصفات ونفيها حذرا من التمثيل والتشبيه

[ االيمان المفصل معرفة وعلم واقرار ومحبة62]

وأما االيمان فأكثر الناس, أو كلهم, يدعونه: } وما أكثر الناس ولو حرصت , وأكثر المؤمنين انما عندهم ايمان مجمل, وأما االيمان103بمؤمنين{ يوسف

المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلما واقرارا ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه, فهذا ايمان خواص األمة وخاصة الرسول, وهو

ايمان صادق وحزبه.

84

Page 85: الفوائد بن القيّم

وكثير من الناس حظهم من االيمان االقرار بوجود الصانع, وأنه وحده هو الذي "اد األصنام من قريش خلق السموات واألرض وما بينهما, وهذا لم يكن ينكره عب

ونحوهم.

وآخرون االيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين, سواء كان معه عمل أو لم يكن, وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.

وآخرون عندهم االيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات واألرض وأن محمدا عبده ورسوله وان لم يقره باللسان ولم يعمل شيئا, بل ولو سب الله ورسوله وأتى بكل عظيمة, وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو

مؤمن.

وآخرون عندهم االيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته ومتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وارادته وحبه وبغضه, وغير

ذلك مما وصف به نفسه, ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فااليمان عندهم انكار حقائق ذلك كله وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين

وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض وينقض بعضهم قول بعض, الذينهم كما قال عمر بن الخطاب واالمام أحمد:

"مختلفون فى الكتاب, مخالفون للكتاب, متفقون على مفارقة الكتاب". وآخرون عندهم االيمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم

من غير تقييد بما جاء به الرسول.

وآخرون االيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسالفهم بحكم االتفاق كائنا ما كان, بل ايمانهم مبني على مقدمتين, احداهما: أن هذا قول أسالفنا وأبائنا.

والثانية: أن ما قالوه فهو الحق.

وآخرون عندهم االيمان مكارم األخالق وحسن المعاملة وطالقة الوجه واحسان الظن بكل أحد وتخلية الناس وغفالتهم.

وآخرون عندهم االيمان التجرد من الدنيا وعالئقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها. فاذا رأوا رجال هكذا جعلوه من سادات أهل االيمان, وان كان منسلخا من االيمان علما وعمال. وأعلى من هؤالء من جعل االيمان هو مجرد العلم وان لم

يقارنه عمل.

وكل هؤالء لم يعرفوا حقائق االيمان وال قاموا به وال قام بهم, وهو أنواع: منهم من جعل االيمان ما يضاد االيمان, ومنهم من جعل االيمان ما ال يعتبر في االيمان,

85

Page 86: الفوائد بن القيّم

ومنهم من جعله ما هو شرط فيه وال يكفي في حصوله, ومنهم من اشترط فيثبوته ما يناقضه ويضاده, ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.

وااليمان وراء ذلك كله, وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, والتصديق به عقدا, واالقرار به نطقا, واالنقياد له محبة وخضوعا, والعمل به باطنا وظاهرا, وتنفيده والدعوة اليه بحسب االمكان وكماله في الحب

في الله والبغض في الله, والعطاء لله والمنع لله, وأن يكون الله وحده الهه ومعبوده. والطريق الى تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا, وتغميص عين القلب

عن االلتفات الى سوى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وبالله التوفيق.

من اشتغل بالله عن نفسه, كفاه الله مؤونة نفسه, ومن اشتغل بالله عن "له الله الى الناس, كفاه الله مؤونة الناس, ومن اشتغل بنفسه عن الله, وك

نفسه, ومن اشتغل بالناس عن الله, وكله الله اليهم.

[ )فائدة جليلة(63]ال مشقة في ترك المألوف ارضاء لله تعالى

انما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله. أما من تركها صادقا مخلصا في قلبه لله فانه ال يجد في تركها مشقة اال في أول وهلة ليمتحن

أصادق هو في تركها أم كاذب, فان صبر على تلك المشقة قليال استحالت لذة.

قال ابن سيرين: سمعت شريحا يحلف بالله ما ترك عبدالله شيئا فوجده فقده.

وقولهم:" من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه" حق, والعوض أنواع مختلفة, وأجل" ما يعوض به االنس بالله ومحبته, وطمأنينة القلب به, وقوته ونشاطه

وفرحه ورضاه عن ربه تعالى.

أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل.

العقول المؤيدة بالتوفيق ترى أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق للعقل والحكمة. والعقول المضروبة بالخذالن ترى المعارضة بين

العقل والنقل والحكمة والشرع .

أقرب الوسائل الى الله مالزمة السنة, والوقوف معها في الظاهر والباطن, ودوام االفتقار الى الله, وارادة وجهه وحده باألقوال واألفعال, وما وصل أحد الى

الله اال من هذه الثالثة وما انقطع عنه أحد اال بانقطاعه عنها أو عن أحدها.

86

Page 87: الفوائد بن القيّم

األصول التي انبنى عليها سعادة العبد ثالثة, ولكل واحد منهما ضد, فمن فقد ذلك األصل حصل على ضده. التوحيد وضده الشرك, والسنة وضدها البدعة,

والطاعة وضدها المعصية.

ولهذه الثالثة ضد واحد: وهو خلو القلب من الرغبة في الله وفيما عنده, ومن الرهبة منه ومما عنده.

[ )قاعدة جليلة(64]

, وقال:55قال تعالى:} وكذلك نفص"ل اآليات ولتستبين سبيل المجرمين{األنعام } ومن يشاقق الله والرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين

"ه ما تول"ى{ النساء . والله نعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفص"لة,115نول وسبيل المجرمين مفص"لة, وعاقبة هؤالء مفص"لة, وأعمال هؤالء وأعمال هؤالء

وأولياء هؤالء, وأولياء هؤالء وخذالنه لهؤالء وتوفيقه لهؤالء, واألسباب التي وفق بها هؤالء, واألسباب التي خذل بها هؤالء, وجال سبحانه االمرين في كتابه

"نهما غاية البيان, حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة وكشفهما وأوضحهما, وبياألبصار للضياء والظالم.

فالعالمون بالله وكتاب ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة يفصيلية, وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية, فاستبانت لهم السبيالن كما يستبين للسالك الطريق

الموصل الى مقصوده, والطريق الموصل الى الهلكة. فهؤالء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم, وهم األدالء الهداة, وبذلك برز الصحابة على جميع

من أتى بعدهم الى يوم القيامة.

فانهم نشأوا في سبيل الضالل والكفر والشرك والسبل الموصلة الى الهالك وعرفوها مفص"لة, ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات الى سبيل

الهدى, وصراط الله المستقيم, فخرجوا من الظلمة الشديدة الى النور التم, ومن الشرك الى التوحيد, ومن الجهل الى العلم, ومن الغي الى الرشاد, ومن الظلم

الى العدل, ومن الحيرة والعمي الى الهدى والبصائر, فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به, ومقدار ما كانوا فيه. فان الضد يظهر حسنة الضد, وانما تتبين األشياء

بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه, ونفرا وبغضا لما انتقلوا عنه, وكانوا أحب الناس للتوحيد وااليمان واالسالم وأبغض الناس لضده, عالمين

بالسبيل على التفصيل.

وأما من جاء من بعد الصحابة, فمنهم من نشأ في االسالم غير عالم تفصيل ضده, فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين, فان اللبس انما يقع اذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب :" انما

تنتقض عرى االسالم عروة عروة اذا نشأ في االسالم من ال يعرف الجاهلية" وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه, فانه اذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل

87

Page 88: الفوائد بن القيّم

ما خالف ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فانه من تاجاهلية, فانها منسوبةالى الجهل, وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل.

فمن لم يعرف سبيل المجرمين, ولم تستبن له, أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين, كما وقع في هذه األمة من أمور كثيرة في باب االعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل, أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين, ودعا اليها, وكف"ر من خالفها,

واستحل منه ما حرمه الله ورسوله, كما وقع ألكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية ولخوارج والروافض وأشياههم, ممن ابتدع بدعة, ودعا اليها, وكف"ر من

خالفها.

والناس في هذا الموقع أربع فرق: الفرقة األولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل

علما وعمال, وهؤالء أعلم الخلق. الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيالن من أشباه األنعام, وهؤالء بسبيل

المجرمين أحضر, ولها أسلك. الفرقة الثالثة: من صرف عنايته الى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو

يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة, وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل, بل اذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف عنه سمعه, ولم يشغل نفسه بفهمه, ومعرفة وجه بطالنه, وهو بمنزلة من سلمت نفسه من ارادت الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه اليها نفسه, بخالف

الفرقة األولى, فانهم يعرفونها وتميل اليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.

وقد كتبوا الى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله, أو رجل نازعته اليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: ان الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من: } الذين امتحن

207\4الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم{, ذكره ابن كثير في التفسير اه لالمام أحمد في كتاب الزهد واسناده منقطع ألن مجاهد بن جبر لم يسمعه وعز"

عن عمر بن الخطاب.

وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله, وحذرها وحذ"ر منها, ودفعها عن نفسه, ولم يدعها تخدش وجه ايمانه, وال تورثه شبهة وال شكا,

بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له, وكراهة لها ونفرة عنها, أفضل ممن ال تخطر بباله وال تمر بقلبه. فانه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة

للحق ومعرفة بقدره وسرورا به, فيقوى ايمانه بها. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها الى ضدها وازداد محبة لضدها ورغبة فيه, وطلبا له وحرصا عليه, فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة

الشهوات والمعاصي وميل نفسه اليها اال ليسوقه بها الى محبة ما هو أفضل منها, وخير له وأنفع وأدوم, وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه, فتورثه تلك المجاهدة

88

Page 89: الفوائد بن القيّم

الوصول الى المحبوب األعلى. فكلما نازعته نفسه الى تلك الشهوات واشتدت ارادته لها وشوقه اليها: صرف ذلك الشوق والمحبة واالرادة الى النوع العالي

الدائم, فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم, بخالف النفس الباردة الخالية من ذلك, فانها وان كانت طالبة لألعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم. أال ترى أن من

مشى الى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى اليه راكبا على النجائب! فليس من آثر محبوبه على منازعه مع نفسه كمن آثره مع عدم

منازعتها الى غيره, فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات, اما حجابا له عنه, أو حاجباله يوصله الى رضاه وقربه وكرامته.

الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة, وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقاالت األمم ومقاالت أهل البدع, فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك, بل عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له بعض األشياء. ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطريق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا

لها, اذا تاب ورجع عنها الى سبيل األبرار يكون علمه بها مجمال غير عارف بهاعلى التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.

والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتتجنب وتبغض, كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد

واألسرار ما ال يعلمه اال الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها آلثارها وموجباتها. وذلك من أعظم

الداللة على ربوبيته وملكه والهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه, والله أعلم.

أرباب الحوائج على باب الملك يسألون قضاء حوائجهم, وأولياؤه تامحبون له الذين هو همهم ومرادهم جلساؤه وخواصه, فاذا أراد قضاء حاجة واحد من أولئك أذن لبعض جلسائه وخاصته أن يشفع فيه رحمة له وكرامة للشافع, وسائر الناس

مطرودون عن الباب مضروبون بسياط البعد.

[ عشرة أشياء ضائعة ال ينتفع بها65]

علم ال يعمل به, وعمل ال اخالص فيه وال اقتداء, ومال ال ينفق منه فال يستمتع به جامعه في الدنيا, وال يقدمه أمامه الى اآلخرة, وقلب فارغ من محبة الله

والشوق اليه واألنس به, وبدن معطل من طاعته وخدمته, ومحبة ال تتقيد برضاء المحبوب, وامتثال أوامره, ووقت معطل عن استدراك فارط, أو اغتنام بر وقربة,

وفكر يجول فيما ال ينفع, وخدمة من ال تقربك خدمته الى الله, وال تعود عليك بصالح دنياك وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله, وهوأسير في قبضته, وال يملك

لنفسه ضرا وال نفعا وال موتا وال حياة وال نشورا, سعي ضائع.

89

Page 90: الفوائد بن القيّم

وأعظم هذه االضاعات اضاعتان هما أصل كل اضاعة: اضاعة القلب واضاعة الوقت, فاضاعة القلب من ايثار الدنيا على اآلخرة, واضاعة الوقت من طول

األمل, فاجتكع الفساد كله في اتباع الهوى وطول األمل, والصالح كله في اتباعالهدى واالستعداد للقاء, والله المستعان.

العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها الى الله ليقضيها له وال يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل واالعراض وشفائه من داء الشهوات

والشبهات, ولكن اذا مات القلب لم يشعر بمعصيته.

[ حقوق الله على العباد66]

لله سبحانه على عبده أمر أمره به, وقضاء يقضيه عليه, ونعمة ينعم بها عليه فال ينفك من هذه الثالثة.

والقضاء نوعان: اما مصائب واما معائب.

وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها, فأحب الخلق اليه من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها, فهذا أقرب الخلق اليه. وأبعدهم منه من جهل

عبوديته في هذه المراتب فعطلها علما وعمال.

فعبوديته في األمر امتثاله اخالصا واقتداء� برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي النهي اجتنابه خوفا منه واجالال ومحبة, وعبوديته في قضاء المصائب والصبر عليها ثم الرضا بها وهو أعلى منه, ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرضا, وهذا انما يتأتى مه اذا تمكن حبه من قلبه وعلم حسن اختياره له وبره ولطفه به

واحسانه اليه بالمصيبة وان كره منها والتبرأ والوقوف في مقام االعتذار واالنكسار, عالما بأنه ال يرفعها اال هو, وال يقيه شرها سواه, وأنها ان استمرت

أبعدته من قربه, وطردته من بابه, فيراها من الضر الذي ال يكشفه غيره, حتى انهليراها أعظم من ضر البدن.

فهو عائذ برضاه من سخطه, وبعفوه من عقوبته, وبه منه مستجير, وملتجىء منه اليه, يعلم أنه اذا تخلى عنه وخلى بينه وبين نفسه فعنده أمثالها وشر منها, وأنه ال سبيل له الى االقالع والتوبة اال بتوفيقه واعانته, وأن ذلك بيده سبحانه ال بيد العبد, فهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه أ, يرضى بمرضاة سيده

بدون اذنه ومشيئته واعانته, فهو ملتجىء اليه, متضرع ذليل مسكين, ملق نفسه بين يديه, طريح ببابه, مستخذ له, أذل شيء وأكسره له, وأفقره وأحوجه اليه,

وأرغبه فيه, وأحبه له, بدنه متصرف في أشغاله, وقلبه ساجد بين يديه, يعلميقينا أنه ال خير فيه وال له وال به وال منه, وأن الخير كله لله وفي يديه وبه ومنه, فهو

ولي نعمته, ومبتدئه بها من غير استحقاق, ومجريها عليه مع تمقته اليه باعراضه

90

Page 91: الفوائد بن القيّم

وغفلته ومعصيته, فحظه سبحانه الحمد والشكر والثناء, وحظ العبد الذم والنقص والعيب, قد استأثر بالمحامد والمدح والثناء, وولى العبد المالمة والنقائص

والعيوب, فالحمد كله له والخير كله في يديه, والفضل كله له والثناء كله له والمنة كلها له, فمنه االحسان, ومن العبد االساءة, ومنه التودد الى العبد بنعمه,

ومن العبد التبغض اليه بمعاصيه, ومنه النصح لعبده, ومن العبد الغش له فيمعاملته.

وأما عبودية النعم فمعرفتها واالعتراف بها أوال, ثم العياذ به أن يقع في قلبه نسبتها واضافتها الى سواه. وان كان سببا من األسباب فهو مسببه ومقيمه,

فالنعمة منه وحده بكل وجه اعتبار, ثم الثناء بها عليه ومحبته عليها وشكره بأنيستعملها في طاعته.

ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه, ويستقل كثير شكره عليها, ويعلم أنها وصلت اليه من سيده من غير ثمن بذله فيها, وال وسيلة منه توسل بها

اليه, وال استحقاق منه لها, وأنها في الحقيقة لله ال للعبد, فال تزيده النعم اال انكسارا وذال وتواضعا ومحبة للمنعم. وكلما جدد له نعمة أحدث لها عبودية ومحبة

وخضوعا وذال, كلما أحدث له قبضا أحدث له رضى, وكلما أحدث ذنبا أحدث له"س والعاجز بمعزل عن ذلك, وبالله توبة وانكسارا واعتذارا. فهذا هو العبد الكي

التوفيق.

[ توكل على الله حق توكله67]

من ترك االختيار والتدبير في رجاء زيادة أو خوف أو نقصان أو طلب صحة أو فرار من سقم, وعلم أن الله على كل كل شيء قليل , وأنه المتفرد باالختيار

والتدبير, وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه, وأنه أعلم بمصلحته من العبد, وأقدر على على جلبها وتحصيلها منه, وأنصح للعبد منه لنفسه, وأرحم به منه لنفسه, وأبر به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه ال يستطيع أ، يتقدم بين يدي

تدبيره خطوة واحدة وال يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة, فال متقدم له بين يدي قضائه وقدره وال متأخر, فألقى نفسه بين يديه, وسلم األمر كله اليه, وانطرح بين

يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قوي قاهر, له لبتصرف في عبده بكل ما يشاء, وليس للعبد التصرف بوجه من الوجوه, فاستراح حينئذ من

الهموم والغموم واألنكاد والحسرات, وحم"ل كله وحوائجه ومصالحه من ال يبالي بحملها وال يثقله وال يكترث بها, فتوالها دونه وأراه لطفه وبره ولطفه واحسانه

فيها من غير تعب من العبد وال نصب وال اهتمام منه, ألنه قد صرف اهتمامه كله اليه وجعله وحده همه, فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه, وفرغ قلبه

منها, فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه.

وان أبى اال تدبيره لنفسه, واختياره لها, واهتمامه بحظه, دون حق ربه, خاله وما اختاره, وواله ما تولى, فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب

91

Page 92: الفوائد بن القيّم

وكسف البال وسوء الحال, فال قلب يصفو, وال عمل يزكو, وال أمل يحصل, وال راحة يفوز بها, وال لذة يهنأ بها, بل قد حيل حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة

عينه, فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش, وال يظفر منها بأمل, وال يتزود منها لمعاد.

والله سبحانه قد أمر العبد بأمر, وضمن له ضمانا, فان قام بأمره بالنصح والصدق واالخالص واالجتهاد, قام الله سبحانه بما ضمنه له من الرزق والكفاية

والنصر وقضاء الحوائج, فانه سبحانه ضمن الرزق لمن عبده, والنصر لمن توكل عليه واستنصر به, والكفاية لمن كان هو همه ومراده, والمغفرة لمن استغفره, وقضاء الحوائج لمن صدقه في طلبها, ووثق به, وقوي رجاؤه وطمعه في فضله"س انما يهتم بأمره واقامته وتوفيته ال بضمانه, فان الوفي وجوده. فالفطن الكي

. فمن عالمات السعادة صرف111الصادق, } ومن أوفى بعهده من الله{ التوبة اهتمامه الى أمر الله دون ضمانه. ومن عال مات الحرمان فراغ قلبه من االهتمام

بأمره وحبه وخشيته واالهتمام بضمانه, والله المستعان.

قال بشر بن الحارث: أهل اآلخرة ثالثة: عابد وزاهد وصديق, فالعابد يعبد الله مع العالئق, والزاهد يعبده على ترك العالئق, والصديق يعبده على الرضا

والموافقة, ان أراه أخذ الدنيا أخذها, وان أراه تركها تركها.

اذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في جانب فاحذر أن تكون في الجانب اآلخر, فان كان ذلك يفضي الى المشاقة والمحادة, وهذا أصلها ومنه اشتقاقها, فان المشقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق, والمحادة أن

تكون في حد ويكون هو في حد.

وال تستسهل هذا فان مبادئه تجر الى غايته, وقليله يدعو الى كثيره.

وكن في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وان كان الناس كلهم في الجانب اآلخر, فان لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها, وليس

للعبد شيء أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته, وأكثر الخلق انما يكونون في الجانب اآلخر, وال سيما اذا قويت الرغبة والرهبة, فهناك ال تكاد تجد أحدا في

الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, بل يعد"ه الناس ناقص العقلسيىء االختيار لنفسه, وربما نسبوه الى الجنون, وذلك من مواريث أعداء الرسل.

فانهم نسبوهم الى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر.

ولكن من وط"ن نفسه على ذلك فانه يحتاج الى علم راسخ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يكون يقينا له ال ريب عنده فيه, والى صبر تام على معاداة

من عاداه ولومة من المه, وال يتم ذلك اال برغبة قوية في الله والدار اآلخرة, بحيث تكون اآلخرة أحب اليه من الدنيا وآثر عنده منها, ويكون الله ورسوله صلى

92

Page 93: الفوائد بن القيّم

الله عليه وسلم أحب اليه مما سواهما, وليس شيء أصعب على االنسان من ذلك في مبادىء األمر, فان نفسه وهواه وطبعه وشيطانه واخوانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه الى العاجل, فاذا خالفهم تصدوا لحربه, فاذا صبر وثبت جاءه

العون من الله وصار ذلك الصعب سهال, وذلك األلم لذة, فال بد أن يزيقه لذة تحيزه الى الله ورسوله, ويريه كرامة ذلك, فيشتد به سروره وغبطته, ويبتهج به

قلبه, ويظفر بقوته وفرحه وسروره, ويبقى من كان محاربا له -على ذلك- بينهائب له ومسالم له ومساعد وتارك, ويقوى جنده, ويضعف جند العدو.

وال تستصعب مخالفة الناس والتحيز الى الله والرسول ولو كنت وحك, فان الله معك وأنت بعينه وكالءته وحفظه لك, وانما امتحن يقينك وصبرك. وأعظم األعوان

لك على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع, فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز الى الله ورسوله, وكنت دائما في الجانب الذي فيه الله ورسوله,

ومتى قام بك الطمع والفزع فال تطمع في األمر وال تحدث نفسك به. فان قلت :فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع؟

قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله, وعلمك بأنه ال يأتي بالحسنات اال هو, وال يذهب بالسيئات اال هو, وأن األمر كله لله ليس ألحد مع الله شيء.

[ )نصيحة(68]هلم الى الدخول على الله ومجاورته في الجنة

هلم الى الدخول الى الله ومجاورته في دار السالم بال نصب وال تعب وال عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها, وذلك أنك في وقت بين وقتين, وهو في الحقيقة

عمرك, وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل, فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم واالستغفار, وذلك شيء ال تعب عليك فيه وال نصب, وال معاناة عمل شاق, انما هو عمل قلب, وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب, وامتناعك ترك وراحة وليس

هو عمال بالجوارح يشق عليك معاناته, وانما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك, فما مضى تصلحه بالتوبة, وما يستقبل تصلحه باالمتناع والعزم والنية,

وليس للجوارح في هذين نصب وال تعب, ولمن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين فان أضعته أضعت سعادتك, ونجاتك, وان حفظته مع اصالح الوقتين

اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم. وحفظه أشق من اصالح ما قبله وما بعده, فان حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها

وأعظم تحصيال لسعادتها. وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت, فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك, اما الى الجنة واما الى النار, فان اتخذت

اليها سبيال الى ربك بلغت السعاد العظمى, والفوز األكبر في هذه المدة اليسيرة التي ال نسبة لها الى األبد, وان آثرت الشهوات والراحات, واللهو واللعب,انقضت عنك بسرعة, وأعقبتك األلم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب

وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله, والصبر على طاعته, ومخالفة الهوىألجله.

93

Page 94: الفوائد بن القيّم

[ عالمة صحة االرادة69]

عالمة صحة االرادة أن يكون هم المريض رضا ربه واستعداده للقائه, وحزنه على وقت مر في غير مرضاته, وأسفه على قربه واألنس به. وجماع ذلك أن يصبح

ويمسي وليس له هم غيره.

[ استغن عن الناس بالله تعالى70]

اذا استغنى الناس بالدنيا استغن أنت بالله, واذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله, واذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله, واذا تعرفوا بملوكهم وكبرائهم وتقربوا اليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت الى الله, وتودد اليه تنل بذلك غاية

والرفعة.

قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة ال يطيع الله فيها بذكر أو بصالة أو قراءة أو احسان. فقال له الرجل: اني أكثر البكاء.

فقال: انك ان تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك, فان المدل ال يصعد عمله فوق رأسه. فقال: أوصني. فقال: دع الدنيا ألهلها كما

تركوا هم اآلخرة ألهلها, وكن في الدنيا كالنحلة, ان أكلت طيبا, وان أطعمتأطعمت طيبا, وان سقطت على شيئ لم تكسره ولم تخدشه.

[ أقسام الزهد71]

الزهد أقسام: زهد الرام؛ وهو فرض عين. وزهد في الشبهات؛ وهو بحسب مراتب الشبهة, فان قويت التحقت بالواجب, وان كان ضعيفا كان مستحبا. وزهد فيما ال يعني من الكالم والنظر والسؤال واللقاء وغيره. وزهد في الناس. وزهد

في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله. وزهد جامع لذلك كله وهو الزهد فيماسوى الله, وفي كل ما شغلك عنه.

وأفضل الزهد اخفاء الزهد, وأصعبه الزهد في الحظوظ. والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك ماال ينفع في اآلخرة, والورع ترك ما يخشى ضرره من اآلخرة.

والقلب معلق بالشهوات ال يصح له زهد وال ورع.

قال يحي بن معاذ: عجبت من ثالث: رجل يرائي بعمله مخلوقا مثله ويترك أن يعمله لله, ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فال يقرضه منه شيئا, ورجل

يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم, والله يدعوه الى صحبته ومودته.

[ )فائدة جليلة(72]ترك األمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي

94

Page 95: الفوائد بن القيّم

قال سهل بن عبدالله: ترك األمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي, ألن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه, وابليس أمر أن يسجد آلدم فلم

يسجد فلم يتب عليه.

قلت هي مسألة عظيمة لها شأن وهي أن ترك األوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي, وذلك من وجوه عديدة:

)الوجه األول(: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله ابليس.

)الوجه الثاني(: ان ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة, وذنب ترك األمر مصدره في الغالب الكبر والعزة, و "ال يدخل الجنة من كان في قلبه

مثقال ذرة من كبر", ويدخلها من مات على التوحيد وان زنى وسرق.

)الوجه الثالث(: ان فعل المأمور أحب الى الله من ترك المنهي, كما دل على ذلك النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم:" أحب األعمال الى الله الصالة على

89\1, ومسلم في االيمان 527 رقم 12\2وقتها" أخرجه البخاري في المواقيت . وقوله: أال أنبئكم بخير أعمالكم, وأزكاها عند مليككم,140-137 رقم 90

وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من انفاق الذهب والورق, وخير لكم من أن تلقو عدوكم, فتضربوا أعناقهم, ويضربوا أعناقكم". قالوا: بلى يا رسول الله. قال:

(, وابن ماجه في األدب3377 )428\5"ذكر الله" ,أخرجه الترمذي في الدعوات (. وقوله:24)211\11( ومالك في الموطأ كتاب القرآن 3790 )1245\2

( والدرامي برقم277"واعلموا أن خير أعمالكم الصالة", أخرجه ابن ماجه برقم ). وغير ذلك من النصوص.277 276\2, وأحمد 661

وترك المناهي عمل فانه كف النفس عن الفعل, ولهذا عل"ق سبحانه المحبة

,4بفعل األوامر كقوله: } ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا{, الصف , وقوله:} وأقسطوا ان الله يحب134}والله يحب المحسنين{آل عمران

.146, }والله يحب الصابرين{ آل عمران 9المقسطين{الحجرات

أما في جانب المنهي فأكثر ما جاء النفي للمحبة كقوله:} والله ال بحب ,23, وقوله: } والله ال يحب كل مختال فخور{ الحديد205الفساد{البقرة

, وقوله:} ال يحب الله190وقوله: } وال تعتدوا ان الله ال يحب المعتدين{ البقرة ,وقوله:} ان الله ال يحب من148الجهر بالسوء من القول اال من ظلم {النساء

.36كان مختاال فخورا{ النساء

وأخبر في موقع آخر أنه يكرهها ويسخطها, كقوله: }كل ذلك كان سيئه عند ربك .28, وقوله:} ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله{ محمد 38مكروها{ االسراء

95

Page 96: الفوائد بن القيّم

اذا عرف هذا ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات. ولهذا يقدر ما يكرهه ويسخطه الفضائه الى ما يحب, كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب

على تقديرها مما يحبه من لوازمها من الجهاد واتخاذ الشهداء. وحصول التوبة منع اليه واالستكانة واظهار عدله وعفوه وانتقامه وعزه. وحصول العبد والتضر"

المواالة والمعاداة ألجله, وغير ذلك من اآلثار التي وجودها بسبب تقديره لما يكره أحب اليه من ارتفاعها بارتفاع أسبابها, وهو سبحانه ال يقد ما يحب الفضائه الى

حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه الفضائه الى حصول ما يكرهه ويسخطه كما يقدر ما يكرهه الفضائه الى ما يحبه, فعلم أن فعل ما يحبه أحب

اليه مما يكرههه.

يوضحه الوجه الرابع: ان فعل المأمور مقصود لذاته وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور, فهو منهي عنه ألجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه

وينقصه, كما نبه سبحانه على ذلك في النهي عن الخمر والميسر بكونهما يصدان من سورة المائدة ,91عن ذكر الله وعن الصالة كما قال تعالى في اآلية

فالمنهيات قواطع وموانع صادة عن فعل المأمورات أو عن كمالها, فالنهي عنهامن باب المقصود لغيره, واألمر بالواجبات من باب المقصود لنفسه.

يوضحه الوجه الخامس: ان فعل المأمورات من باب حفظ قوة االيمان وبقائها وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة االيمان ويخرجها عن االعتدال,

وحفظ القوة مقدم على الحمية, فان القوة كلما قويت دفعت المواد الفاسدة واذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة, فالحمية مرادة لغيرها وهي حفظ القوة

وزيادتها وبقاؤها, ولهذا كلما قويت قوة االيمان دفعت المواد الرديئة ومنعت من غلبتها وكثرتها بحسب القوة وضعفها, واذا ضعفت غلبت المواد الفاسدة. فتأمل

هذا الوجه.

الوجه السادس: ان فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه, وترك المنهيات بدون ذلك ال يحصل له شيء من ذلك, فانه لو ترك جميع المنهيات ولم يأت بااليمان واألعمال المأمور بها ولم ينفعه ذلك الترك

شيئا وكان خالدا مخلدا في النار.

وهذا يتبين بالوجه السابع: ان من فعل المأمورات والمنهيات فهو اما ناج ان غلبت حسناته سيئاته, واما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته فمآله

الى النجاة وذلك بفعل المأمور.

ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج وال ينجو اال بفعل المأمور وهو التوحيد.

فان قيل: فهو انما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك, قيل: يكفي في الهالك ترك نفس التوحيد المأمور به وان لم يأت بضد وجودي في الشرك, بل متى خال

96

Page 97: الفوائد بن القيّم

قلبه من التوحيد رأسا فلم يوحد الله فهو هالك وان لم يعبد معه غيره, فاذا انضاف اليه عبادة غيره عذب على ترك التوحيد المأمور به وفعل الشرك المنهي

عنه.

يوضحه الوجه الثامن: أن المدعو الى االيمان اذا قال: ال أصدق وال أكذب وال أحب وال أبغض وال أعبده وال أعبد غيره, كان كافرا بمجرد الترك واالعراض,

بخالف ما اذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به وأفعل ما أمرني, ولكن شهوتي وارادتي وطبعي حاكمة علي ال تدعني أترك ما نهاني الله عنه وأنا أعلم

أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي ولكن ال صبر لي عنه, فهذا ال يعد بذلك كافرا, وال حكمه حكم األول؛ فان هذا مطيع من وجه, وتارك المأمور جملة ال يعد مطيعا

بوجه. يوضحه الوجه التاسع: ان الطاعة والمعصية انما تتعلق باألمر أصال, وبالنهي تبعا,

فالمطيع ممتثل المأمور, والعاصي تارك المأمور, قال تعالى:}ال يعصون الله ما" تتبعن6أمرهم{ التحريم , وقال موسى ألخيه: }ما منعك اذ رأيتهم ضلوا * أال

.93 92أفعصيت أمري{ طه

وقال عمرو بن العاص عند موته: أنا الذي أمرتني فعصيت, ولكن ال اله اال أنت.

وقال الشاعر: أمرتك أمرا حازما فعصيتني

والمقصود من ارسال الرسل اطاعة المرسل وال تحصل اال بامتثال أوامره, واجتناب المناهي من تمام امتثال األوامر ولوازمه. ولهذا لو اجتنب المناهي ولم

يفعل ما أمر به لم يكن مطيعا وكان عاصيا, بخالف ما لو أتى المأمورات وارتكب المناهي. فانه وان عد عاصيا مذنبا فانه مطيع بامتثال األمر, عاص بارتكاب النهي

بخالف األمر فانه ال يعد مطيعا باجتناب المنهيات خاصة.

الوجه العاشر: أن امتثال األمر عبودية وتقرب وخدمة, وتلك العبادة التي خلقألجلها الخلق كما قال تعالى: } وما خلقت الجن" واالنس اال ليعبدون{ الذاريات

,فأخبر سبحانه أنه انما خلقهم للعبادة , وكذلك انما أرسل اليهم رسله وأنزل56 عليهم كتبه ليعبدوه. فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها ولم يخلقوا لمجرد الترك

فانه أمر عدمي ال كمالفيه من حيث هو عدم, بخالف امتثال المأمور فانه أمروجودي مطلوب الحصول.

وهذا يتبين بالوجه الحادي عشر: وهو أن المطلوب بالنهي عدم الفعل وهو أمر عدمي, والمطلوب باألمر ايجاد فعل وهو أمر وجودي, فمتعلق األمر بااليجاد,

ومتعلق النهي االعدام أو العدم وهو أمر ال كمال فيه اال اذا تضم"ن أمرا وجوديا, فان العدم من حيث هو عدم ال كمال فيه وال مصلحة اال اذا تضمن أمرا وجوديا

97

Page 98: الفوائد بن القيّم

مطلقا, وذلك األمر الوجودي مطلوب مأمور به فعادت حقيقة النهي الى األمر,وأن المطلوب به ما في ضمن النهي من األمر الوجودي المطلوب به.

وهذا يتضح بالوجه الثاني عشر: وهو أن الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال:

أحدها: أن المطلوب به كف النفس عن الفعل, وحبسها عنه, وهو أمر وجودي. قالوا: ألن التكليف انما يتعلق بالمقدور, والعدم المحض غير مقدور. وهذا قول

الجمهور.

وقال أبو هاشم وغيره: بل المطلوب عدم الفعل, ولهذا يحصل المقصود من بقائه على العدم, وان لم يخطر بباله فعل, فضال أن يقصد الكف عنه, ولو كان

المطلوب الكف لكان عاصيا اذ لم يأت به, وألن الناس يمدحون بعدم فعل القبيح من لم يخطر بباله فعله والكف عنه. وهذا أحد قولي القاضي أبي بكر) صاحب

كتاب اعجاز القرآن( وألجله التزم ان عدم الفعل مقدور للعبد وداخل تحتالكسب, قال: والمقصود بالنهي االبقاء على العدم األصلي وهو مقدور.

وقالت طائفة: المطلوب بالنهي فعل الضد فانه هو المقدور وهو المقصود للناهي, فانه انما نهاه عن الفاحشة طلبا للعفة وهي المأمور بها, ونهاه عن الظلم

طلبا للعدل المأمور به, وعن الكذب طلبا للصدوق المأمور به وهكذا جميع المنهيات. فعند هؤالء أن حقيقة النهي الطلب لضد المنهي عنه, فعاد األمر الى أن

الطلب انما تعلق بفعل المأمور.

والتحقيق أن المطلوب نوعان: مطلوب لنفسه وهو المأمور به, ومطلوب اعدامه لمضدته المأمور به وهو المنهي عنه, لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به.

فاذا لم يخطر بباله المكلف وال دعته نفسه اليه بل استمر على العدم األصلي لم يثب على تركه, وان خطر بباله وكف نفسه عنه لله وتركه اختيارا أثيب على كف

نفسه وامتناعه, فانه فعل وجودي.

والثواب انما يقع على األمر الوجودي دون العدم المحض وان تركه مع عزمه الجازم على فعله لكن تركه عجزا, فهذا وان لم يعاقب عقوبة الفاعل لكن يعاقب

على عزمه وارادته الجازمة التي انما تخلف مرادها عجزا.

وقد دلت على ذلك النصوص الكثيرة فال يلتفت الى ما خالفه, كقوله تعالى: } وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذ"ب

.284من يشاء{ البقرة

, وقوله:} ولكن يؤاخذكم283وقوله في كاتم الشهادة:} فانه آثم قلبه{ البقرة .9, وقوله:} يوم تبلى السرائر{ الطارق 225بما كسبت قلوبكم{ البقرة

98

Page 99: الفوائد بن القيّم

وقوله صلى الله عليه وسلم: } اذا تواجه المسلمان في سيفهما فالقاتل

والمقتول في النار{, قالوا: هذا القاتل, فما بال المقتول؟ قال: "انه أراد قتل رقم2213\4, ومسلم في الفتن 31 رقم 106\1صاحبه" البخاري في االيمان

14-15.

وقوله في الحديث اآلخر:" ورجل قال: لو أن لي ماال لعملت بعمل فالن فهو , وابن ماجه وأحمد. 2326بنيته وهما في الوزر سواء" الترمذي في الزهد رقم

وقول من قال: ان المطلوب بالنهي فعل الضد ليس كذلك, فان المقصود عدم الفعل والتلبس بالضد, فان ماال يتم الواجب اال به فهو غير مقصود بالقصد األول, وان كان المقصود بالقصد األول المأمور الذي نهى عما يمنعه ويضعفه, فالمنهي عنه مطلوب اعدامه طلب الوسائل والذرائع, والمأمور به مطلوب ايجاده طلب

المقاصد والغايات.

وقول أبي هاشم: ان تارك القبائح يحمد وان لم يخطر بباله كف النفس. فان أراد بحمده أن ال يذم فصحيح, وان أراد أن يثني عليه بذلك ويجب عليه واستحق

الثواب فغير صحيح. فان الناس ال يحمدون المجبوب )أي مقطوع الذكر( على ترك الزنا وال األخرس على عدم الغيبة والسب, وانما يحمدون القادر الممتنع عن

قدرة وداع الى الفعل.

وقول القاضي االبقاء على العدم األصلي مقدور, فان أراد به كف النفس ومنعها د العدم فلبس كذلك. فصحيح, وان أراد مجر"

وهذا يتبين بالوجه الثالث عشر: وهو ان األمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللزوم العقلي ال القصد الطلبي, فان األمر انما مقصوده فعل المأمور. فاذا كان

من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره, وهذا هو الصواب في مسألةاألمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم ال؟

فهو نهي عنه من جهة اللزوم ال من جهة القصد والطلب. وكذلك النهي عن الشيء, مقصود الناهي بالقصد األول االنتهاء عن المنهى عنه وكونه مشتغال بضده

جاء من جهة اللزوم العقلي, لكن انما نهى عما يضاد ما أمر به كما تقدم, فكانالمأمور هو المقصود بالقصد األول في الموضعين.

وحرف المسألة: أن طلب الشيء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم, والنهي عن الشيء طلب لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك

باللزوم, والمطلوب في الموضعين فعل وكف, وكالهما أمر وجودي.

الوجه الرابع عشر: ان األمر والنهي في باب الطلب نظير النفي واالثبات في باب الخبر, والمدح والثناء ال يحصالن بالنفي المحض ان لم يتضمن ثبوتا, فان

99

Page 100: الفوائد بن القيّم

النفي كاسمه عدم ال كمال فيه وال مدح, فاذا تضمن ثبوتا صح المدح فيه كنفي النسيان المستلزم لكمال العلم وبيانه. ونفي اللغوب واالعياء والتعب المستلزم

"ة, "ومي لكمال القدرة والقوة. ونفي السنة والنوم المستلزم لكمال الحياة والقي ونفي الولد والصاحبة المستلزم لكمال الغنى والملك والربوبية. ونفي الشريكد بالكمال وااللهية والولي والشفيع بدون االذن المستلزم لكمال التوحيد والتفر" والملك ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل. ونفي ادراك األبصار له المتضمن

لعظمته وأنه أجل" من أن يدرك وان رأته األبصار, واال فليس في كونه ال يرى مدحبوجه من الوجوه, فان العدم المحض كذلك.

واذ عرف هذا, فالمنهي عنه ان لم يتضمن أمرا وجوديا ثبوتيا لم يمدح بتركه, ولم يستحق الثواب والثناء بمجرد الترك, كما ال يستحق المدح والثناء بمجرد

الوصف العدمي.

الوجه الخامس عشر: ان الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرة أمثال فعلها, وجزاء المنهيات مثل واحد وهذا يدل على أن فعل ما أمر به أحب اليه من

ترك ما نهى عنه. ولو كان األمر بالعكس لكانت السيئة بعشرة أمثالها والحسنةبواحدة أو تساويا.

الوجه السادس عشر: ان المنهي عنه المقصود اعدامه, وأن ال يدخل في الوجود, سواء نوى ذلك أو لم ينوه, وسواء خطر بباله أو لم يخطر. فالمقصود أن ال يكون.

وأما المأمور به فالمقصود كونه وايجاده والتقرب به نية وفعال.

وسر المسألة أن وجود ما طلب ايجاده أحب اليه من عدم ما طلب اعدامه, وعدم ما أحبه أكره اليه من وجود ما يبغضه, فمحبته لفعل ما أمر به أعظم من

كراهته لفعل ما نهى عنه.

يوضحه الوجه السابع عشر: ان فعل ما يحبه واالعانة عليه وجزاءه وما يترتب عليه من المدح والثناء من رحمته. وفعل ما يكرهه وجزاءه وما يترتب عليه من

الذم واأللم والعقاب من غضبه. ورحمته سابقة على غضبه غالبة له, وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب, فانه ال يكون اال رحيما,

ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره واحسانه, فيستحيل أن يكون على خالف ذلك. وليس كذلك غضبه, فانه ليس من لوازم ذاته وال يكون غضبان دائما غضبا ال يتصور انفكاكه, بل يقول رسله وأعلم الخلق به يوم القيامة:

"ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله" جزء من حديث أخرجه البخاري في تاب األنبياء باب قول الله عز وجل }ولقد أرسلنا

من327 رقم 184\1, ومسلم في االيمان 3340 رقم 428\6نوحا الى قومه{ حديث أبو هريرة عن الرسول . ورحمته وسعت كل شيء, وهو سبحانه كتب على

نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب, ووسع كل شيء رحمة وعلما ولميسع كل شيء غضبا وانتقاما.

100

Page 101: الفوائد بن القيّم

فالرحمة وما كان بها ولوازمها وآثارها غالبة على الغضب وما كان منه وآثاره. فوجود ما كان بالرحمة أحب اليه من وجود ما كان من لوازم الغضب. ولهذا كانت الرحمة أحب اليه من العذاب, والعفو أحب اليه من االنتقام. فوجود محبوبه أحب اليه من فوات مكروهه, وال سيما اذا كان في فوات المكروه فوات ما يحبه من

لوازمه, فانه يكره فوات تلك اللوازم المحبوبة كما يكره وجود ذلك الملزومالمكره.

الوجه الثامن عشر: ان آثار ما يكرهه وهو المنهيات أسرع زواال بما يحبه من زوال آثار ما يحبه بما يكرهه, فآثار كراهته سريعة الزوال وقد يزيلها سبحانه

بالعفو والتجاوز, وتزول بالتوبة واالستغفار واألعمال الصالحة والمصائب المكفرة والشفاعة والحسنات يذهبن السيئات, ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ثم

استغفره غفر له ولو لقيه بقراب األرض خطايا, ثم لقيه ال يشرك به شيئا ألتاه بقرابها مغفرة وهو سبحانه يغفر الذنوب وان تعاظمت وال يبالي, فيبطلها ويبطل

آثارها بأدنى سعي من العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل, وما ذاك اال لوجود ما يحبه من توبة العبد وتوبة نصوح وندم على ما فعل, وما ذاك اال لوجود ما يحبهمن توبة العبد وطاعته وتوحيده, فدل" على أن وجود ذلك أحب اليه وأرضى له.

يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أنه سبحانه قدر ما يبغضه ويكرهه من المنهيات

لما يترتب عليها مما يحبه ويفرح به من المأمورات. فانه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد, والعقيم الوالد, والظمآن الوارد. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرحته لتوبة العبد مثال )في صحيح مسلم في كتاب التوبة باب

( عن أنس بن مالك " لله أشد7 رقم )2104\4في الحض على التوبة والفرح بها فرحا بتوبة عبده حين يتوب اليه..." وهو في صحيح البخاري بلفظ آخر.( ليس في

المفروح به أبلغ منه, وهذا الفرح انما بفعل المأمور به وهو التوبة, فقدر الذنب لما يترتب عليه من هذا الفرح العظيم الذي وجوده أحب اليه من فوات ما يكره.

ولبس المراد بذلك أن كل فرد من أفراد ما يحب أحب اليه من فوات كل فرد مما يكره حتى تكون ركعتي الضحى أحب اليه من فوات قتل المسلم, وانما المراد أن جنس فعل المأمورات أفضل من جنس ترك المحظورات, كما اذا

فضل الذكر على األنثى واالنس على الملك, فالمراد الجنس ال عموم األعيان.

والمقصود أن هذا الفرح الذي ال فرح يشبهه بفعل مأمور التوبة يدل على أن هذا المأمور أحب اليه من فوات المحظور الذي تفوت به التوبة وأثرها ومقتضاها.

فان قيل: انما الفرح بالتوبة ألنها ترك المنهى فكان الفرح بالترك, قيل: ليس كذلك, فان الترك المحض ال يوجب هذا الفرح بل وال الثواب وال المدح. وليست

التوبة تركا, وان كان الترك من لوازمها, وانما هي فعل وجودي يتضمن اقبال التائب على ربه وانابته اليه والتزام طاعته. ومن لوازم ذلك ترك ما نهى عنه,

"كم ثم توبوا اليه{ هود . فالتوبة رجوع3ولهذا قال الله تعالى:} وأن استغفروا رب

101

Page 102: الفوائد بن القيّم

عما يكره الىما يحب, فان من ترك الذنب تركا مجردا ولم يرجع عنه الى ما يحبهالرب تعالى لم يكن تائبا, فالتوبة رجوع واقبال وانابة ال ترك محض.

الوجه العشرون: ان المأمور به اذا فات فاتت الحياة المطلوبة للعبد, وهي التي قال الله تعالى فيها:} يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما

, وقال: } أو من كان ميتا فأحييناه وجعلتا له نورا يمشي به24يحييكم{األنفال , وقال في حق الكفار:} أموات122في الناس كمن مثله في الظلمات{ األنعام

.8, وقال: } انك ال تسمع الموتى{النحل 21غير أحياء{ النحل

وأما المنهي عنه فاذا وجد فغايته أن يوجد المرض, وحياة مع السقم خير من موت.

فان قيل: ومن المنهي عنه ما يوجب الهالك وهو الشرك.

قيل: الهالك انما حصل بعدم التوحيد المأمور به الذي به الحياة, فلما فقد حصل الهالك, فما هلك اال من عدم اتيانه بالمأمور به.

وهذا وجه حاد وعشرون في المسألة: وهو أن في المأمورات ما يوجب فواته الهالك والشقاء الدائم, وليس في المنهيات ما يقتضي ذلك.

الوجه الثاني والعشرون: ان فعل المأمور يقتضي ترك المنهي عنه اذا فعل على وجهه من االخالص والمتابعة والنصح لله فيه, قال تعالى:} ان الصالة تنهى عن

. ومجرد ترك المنهي ال يقتضي فعل المأمور وال45الفحشاء والمنكر{العنكبوت يستلزمه.

الوجه الثالث والعشرون: ان ما يحبه من المأمورات فهو متعل"ق بصفاته, وما يكرهه من المنهيات فمتعلق بمفعوالته, وهذا وجه دقيق يحتاج الى بيان فنقول:

المنهيات شرور وتفضي الى الشرور, والمأمورات خير وتفضي الى الخيرات, والخير بيديه سبحانه والشر ليس اليه, فان الشر ال يدخل في صفاته وال في

أفعاله وال في أسمائه, وانما هو في المفعوالت مع أنه شر باالضافة والنسبة الى العبد, واال من حيث اضافته ونسبته الى الخالق سبحانه فليس بشر من هذه

الجهة. فغاية ارتكاب المنهي أن يوجب شرا باالضافة الى العبد مع أنه في نفسه ليس بشر. وأما فوات المأمور فيفوت به الخير الذي بفواته يحصل ضده من

الشر, وكلما كان المأمور أحب الى الله سبحانه كان الشر الحاصل بفواته أعظمكالتوحيد وااليمان.

102

Page 103: الفوائد بن القيّم

وسر هذه الوجوه: أن المأمور به محبوبه, والمنهي مكروهه, ووقوع محبوبه أحب اليه من فوات مكروهه, وفوات محبوبه أكره اليه من وقوع مكروهه, والله

أعلم.

[ مبني الشكر على قاعدتين الذكر والشكر73]

مبني الدين على قاعدتين: الذكر والشكر, وقال تعالى:} فاذكروني أذكركم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" والله152واشكروا لي وال تكفرون{البقرة

اني ألحبك فال تنسى أن تقول دبر كل صالة اللهم أعني على ذكرك وشكرك (, والنسائي1522 رقم )86\2وحسن عبادتك" أخرجه أبو داود في الصالة

وأحمد.

وليس المراد بالذكر مجردالذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني. وذكره يتضمن ذكر اسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكر كالمه, وذلك يستلزم معرفته

وااليمان به وبصفاته كمال ونعوت جالله والثناء عليه بأنواع المدح. وذلك ال يتم اال بتوحيده. فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآالئه واحسانه الى

خلقه.

وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب اليه بأنواع المحبة ظاهرا وباطنا, وهذان األمران هما جماع الدين, فذكره مستلزم لمعرفته, وشكره متضمن

لطاعته, وهذان هما الغاية التي خلق ألجلها الجن واالنس والسموات واألرض, ووضع ألجلها الثواب والعقاب, وأنزل الكتاب, وأرسل الرسل, وهي الحق الذي به

خلقت السموات واألرض وما بينهما, وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالىويتقدس عنه, وهو ظن أعدائه به.

قال تعالى:} وما خلقنا السموات واألرض وما بينهما باطال ذلك ظن الذين , وقال:} وما خلقنا السموات واألرض وما بينهما العبين * ما27كفروا{ ص

, وقال:} وما خلقنا السموات واألرض وما39 38خلقناهما اال بالحق{ الدخان , وقال بعد ذكر آياته في أول سورة85بينهما اال بالحق وان الساعة آلتية{الحجر

, وقال:} أيحسب االنسان أن5يونس:} وما خلق الله ذلك اال بالحق{ يونس , وقال:} أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا ال36يترك سدى{ القيامة , وقال:} وما خلقت الجن واالنس اال ليعبدون{115ترجعون{ المؤمنون

, وقال:} الله الذي خلق سبع سموات ومن األرض مثلهن يتنزل56الذاريات األمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء

, وقال:} جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر12علما{ الطالق الحرام والهدي والقالئد لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في األرض وأن

.97الله بكل شيء عليم{ المائدة

103

Page 104: الفوائد بن القيّم

فثبت بما ذكره أن غاية الخلق واألمر* أن يذكر وأن يشكر. يذكر فال ينسى, ويشكر فال يكفر. وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره, شاكر لمن شكره, فذكره سبب

لذكره, وشكره سبب لزيادته من فضله. وصدق الله في54يشير الى قوله تعالى:} أال له الخلق واألمر{ األعراف ,

خبره فله الخلق واألمر, خلقهم وأمرهم بما أحب, وهذا األمر يقتضي النهي..142\7تفسير القرطبي

فالذكر للقلب واللسان, والشكر للقلب محبة وانابة, وللسان ثناء وحمد, وللجوارح طاعة وخدمة.

[ من سار نحو الهداية يسر الله له سبلها74]

تكرر في القرآن جعل األعمال القائمة بالقلب والجوارج سبب الهداية واالضالل, فيقوم القلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثرة

أثره. وكذلك الضالل, فأعمال البر تثمر الهدى, وكلما ازداد منها ازداد هدى. وأعمال الفجور بالضد, وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها

بالهدى والفالح, ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضالل والشقاء.

وأيضا فانه البر ويحب أهل البر فيقرب قلوبهم منهبحسب ما قاموا به من البر, ويبغض الفجور وأهله فيبعد قلوبهم منه بحسب ما اتصفوا به من الفجور, فمن -1األصل األول قوله تعال: }الم * ذلك الكتاب ال ريب فيه هدى للمتقين{ البقرة

, وهذا يتضمن أمرين:2

األمر األول: أنه يهدي من اتقى مساخطه قبل نزول الكتاب, فان الناس على اختالف مللهم ونحلهم قد استقر عندهم أن الله سبحانه يكره الظلم والفواحش والفساد في األرض ويمقت فاعل ذلك, ويحب العدل واالحسان والجود والصدق واالصالح في األرض, ويحب فاعل ذلك. فلما نزل الكتاب, أثاب سبحانه أهل البر

بأن وفقهم لاليمان به جزاء لهم على برهم وطاعتهم, وخذل أهل الفجوروالفحش والظلم بأن حال بينهم وبين االهتداء به.

واألمر الثاني: أن العبد آمن بالكتاب واهتدى به مجمال وقبل أوامره وصدق بأخباره, وكان ذلك سببا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل. فان الهداية ال

نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ, ففوق هدايته هداية أخرى وفوق تلك الهداية هداية أخرى الى غير غاية. فكلما اتقى العبد ربه ارتقى الى هداية أخرى, فهو من

مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى. وكلما فو"ت حظا من التقوى فاته حظمن الهداية بحسبه, فكلما اتقى زاد هداه, وكلما اهتدى زادت تقواه. قال تعالى:

} قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السالم ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم{ المائدة

, وقال تعالى:} الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب{ الشورى16,15

104

Page 105: الفوائد بن القيّم

"ر من يخشى{ األعلى 13 "ر اال من10, وقال تعالى:} سيذ"ك , وقال:} وما يتذك , وقال:} ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم13ينيب{ غافر

.9بايمانهم{ يونس

فهداهم أوال لاليمان, فلما آمنوا هداهم لاليمان هداية بعد هداية, ونظير هذا قوله , وقوله تعالى:} يا أيها الذين76تعالى:} ويزيد الله الذين اهتدوا هدى{مريم   األنفال , ومن الفرقان ما يعطيهم من29آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا

النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل, والنصر والعز الذي يتمكنون به من اقامة الحق وكسر الباطل, فسر القرآن هذا بهذا. وقال تعالى:} ان في ذلك آلية

"ار شكور{9لكل عبد منيب{ سبأ من31, وقال:} ان في ذلك آليات لكل صب من33 من سورة سبأ و19من سورة ابراهيم, واآلية 5سورة لقمان, واألية

سورة الشورى.

فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها انما ينتفع بها أهل الصبر الشكر, كما أخبر عن آياته االيمانية القرآنية أنها انما ينتفع بها أهل التقوى والخشية واالنابة ومن

كان قصده اتباع رضوانه, وأنها انما يتذكر بها من يخشاه سبحانه كما قال:} طه, وقال في الساعة:3-1ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى اال تذكرة لمن يخشى{طه

.45} انما أنت منذر من يخشاها{ النازعات

وأما من ال يؤمن بها وال يرجوها وال يخشاها فال تنفعه اآليات العيانية وال القرآنية. ولهذا ذكر الله سبحانه في سورة هود عقوبات األمم المكذبين للرسل وما حل

بهم في الدنيا من الخزي, قال بعد ذلك:} ان في ذلك آلية لمن خاف عذاب{ هود, فأخبر أن في عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب اآلخرة.103

وأما من ال يؤمن بها وال يخاف عذابها فال يكون ذلك عبرة وآية في حقه, واذا سمع ذلك قال: لم يزل في الدهر الخير والشر, والنعيم والبؤس, والسعادة

والشقاوة. وربما أحال ذلك على أسباب فلكية وقوى نفسانية. وانما كان الصبر والشكر سببا النتفاع صاحبهما باآليات, ألن االيمان يبني على الصبر والشكر, فنصفه صبر ونصفه شكر, فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة ايمانه.

وآيات الله انما ينتفع بها من آمن بالله وآياته, وال يتم له االيمان اال بالصبر والشكر, فان رأس الشكر التوحيد, ورأس الصبر ترك اجابة داعي الهوى. فاذا كان مشركا متبعا هواه لم يكن صابرا وال شكورا, فال تكون اآليات نافعة له وال

مؤثرة فيه ايمانا.

وأما األصل الثاني: وهواقتضاء الفجور والكبر والكذب للضالل فكثير أيضا للقرآن كقوله تعالى:} يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به اال الفاسقين الذين

ينقضون عهد الله بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في"ت الله الذين آمنوا27-26األرض أولئك هم الخاسرون{ البقرة , وقال تعالى:} يثب

بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما

105

Page 106: الفوائد بن القيّم

, وقال تعالى:} فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم27يشاء{ ابراهيم , وقال تعالى: } وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم88بما كسبوا{ النساء

, وقال تعالى:} ونقل"ب أفئدتهم وأبصارهم كما لم88فقليال ما يؤمنون{ البقرةة{ األنعام .110يؤمنوا به أول مر"

فأخبر أنه عاقبهم على تخلفهم عن االيمان لما جاءهم وعرفوه وأعرضوا عنه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم وحال بينهم وبين االيمان, كما قال تعالى:} يا أيها

الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول , فأمرهم باالستجابة له ولرسوله حين يدعوهم الى24بين المرء وقلبه{ األنفال

ما فيه حياتهم, ثم حذ"رهم من التخلف والتأخر عن االستجابة الذي يكون سببا ألن يحول بينهم وبين قلوبهم. قال تعالى:} فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله ال يهدي

, وقال تعالى:} كال بل ران على قلوبهم ما كانوا5القوم الفاسقين{ الصف , فأخبر سبحانه أن كسبهم غطى على قلوبهم وحال بينها8يكسبون{المطففين

وبين االيمان بآياته, فقالوا:} أساطير األولين{.

, فجازاهم على67وقال تعالى في المنافقين:} نسوا الله فنسيهم{ التوبه نسيانهم له أن نسيهم فلم يذكرهم بالهدى والرحمة, وأخبر أنه أنساهم أنفسهم

فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق, فأنساهم طلب ذلك ومحبته ومعرفته والحرص عليه عقوبة لنسيانهم له, وقال تعالى في

"بعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم حق"هم:} أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وات , فجمع لهم بين اتباع الهوى والضالل الذي هو17\16هدى وآتاهم تقواهم{ محمد

ثمرته وموجبه كما جمع للمهتدين بين التقوى والهدى.

[ )فصل(75]بين الهدى والرحمة- والضالل والشقاء

وكما يقرن سبحانه بين الهدى والتقى والضالل والغي, فكذلك يقرن بين الهدى والرحمة والضالل والشقاء, فمن األول قوله:} أولئك على هدى من ربهم وأولئك

, وقال أيضا:} أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة5هم المفلحون{ البقرة.157وأولئك هم المهتدون{البقرة

وقال عن المؤمنين:} ربنا ال تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك انك أنت .8الوهاب{ آل عمران

وقال عن أهل الكهف:} ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا{ , وقال:} لقد كان في قصصهم عبرة ألولي األلباب ما كان حديثا10الكهف

يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم"ن لهم الذي اختلفوا111يؤمنون{يوسف , وقال:} وما أنزلنا عليك الكتاب اال لتبي

, وقال:} ونزلنا عليك الكتاب تبيانا64فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون{ النحل

106

Page 107: الفوائد بن القيّم

لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين {, وقال:} يا أيها الناس قد جاءتكم.57موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين{ يونس

ثم أعاد سبحانه ذكرهما فقال:} قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا{ .58يونس

وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة, والصحيح أنهما الهدى والنعمة, ففضله هداه, ورحمته نعمته ) وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي

الله عنهما: فضل الله القرآن, ورحمته االسالم, وعنهما أيضا: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله, وعن الحسن, والضح"اك, ومجاهد وقتادة فضل

( ولذلك يقرن بين الهدى226\8الله:االيمان, ورحمته القرآن. تفسير القرطبي والنعمة كقوله في سورة الفاتحة:} اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت

.6-5عليهم{

ومن قوله لنبيهيذكره بنعمته عليه:} ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضاال فهدى , فجمع له بين هدايته له وانعامه عليه بايوائه8-6ووجدك عائال فأغنى{الضحى

واغنائه.

"نة من ربي ورزقني منه رزقا ومن ذلك قول نوح:} يا قوم أرأيتم ان كنت على بي , وقال عن الخضر:} فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا88حسنا{ هود

"ا علما{ الكهف "مناه من لدن .65وعل

وقال لرسوله صلى الله عليه وسل"م:} انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخ"ر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله

, وقال:} وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعل"مك ما لم3-1نصرا عزيزا{ الفتح , وقال:} ولوال فضل الله113تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما{النساء , ففضله هدايته, ورحمته21عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا{ النور

انعامه واحسانه اليهم وبره بهم.

"بع هداي فال يضل" وال يشقى{ طه "كم مني هدى فمن ات ,123وقال:} فام"ا يأتين والهدى منعه من الضالل, والرحمة منعته من الشقاء, وهذا هو الذي ذكره في

, فجمع له2-1أو"ل السورة في قوله:} طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى{طه بين انزال القرآن عليه ونفى الشقاء عنه, كما قال في آخرها في حق أتباعه:

.123} فال يضل وال يشقى{ طه

فالهدى والفضل والنعمة والرحمة متالزمات ال ينفك بعضها عن بعض, كما أن الضالل والشقاء متالزمان ال ينفك أحدهما عن اآلخر, قال تعالى:} ان" المجرمين

, والسعر جمع سعير وهو العذاب الذي في غاية47في ضالل وسعر{ القمر الشقاء. وقال تعالى:} ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن واالنس لهم قلوب ال

107

Page 108: الفوائد بن القيّم

يفقهون بها ولهم أعين ال يبصرون بها ولهم آذان ال يسمعون بها أولئك كاألنعام بل , وقال تعالى عنهم:} وقالوا لو كنا179هم أضل أولئك هم الغافلون{ األعراف

.10نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير{ الملك

"بة وبين ومن هذا أنه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطي الضالل وضيق الصدر والمعيشة الضنك, قال تعالى:} فمن يرد الله أن يهديه"قا حرجا{ األنعام ,125يشرح صدره لالسالم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضي

.22وقال:} أفمن شرح الله صدره لالسالم فهو على نور من ربه{الزمر

وكذلك يجمع بين الهدى واالنابة والضالل وقسوة القلب, قال تعال:} الله يجتبي , وقال تعالى:} فويل للقاسية13اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب{الشورى

.22قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضالل مبين{ الزمر

[ الهدى والرحمة وتوابعهما من صفة العطاء76]

والهدى والرحمة, وتوابعهما من الفضل واالنعام, كله من صفة العطاء, واالضالل والعذاب, وتوابعهما من صفة المنع, وهو سبحانه يصرف خلقه بين عطائه ومنعه,

وذلك كله صادر عن حكمة بالغة, وملك تام, وحمد تام, فال اله اال الله.

[ التعلق في المطالب العليا77]

اذا رأيت النفوس المبطلة الفارغة من االرادة والطلب لهذا الشأن قد تشبث بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها اليه, فانه الالئق بها لفساد تركيبها, وال

تنقش عليها ذلك فانه سريع االنحالل عنها, ويبقى تشبثها به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعل"ق, قتبقى شهوتها وارادتها فيها, وقد حيل بينها وبين ما تشتهي على وجه يئست معه من حصول شهوتها ولذتها. فلو تصو"ر العاقل ما في ذلك من األلم والحسرة لبادر الى قطع هذا التعلق كما يبادر الى حسم مواد الفساد, ومع هذا فانه ينال نصيبه من ذلك وقلبه وهمه متعلق بالمطلب األعلى,

والله المستعان.

"اك والكذب78] [ اي

"اك والكذب فانه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه, ويفسد عليك اي تصويرها وتعليمها للناس, فان الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما,

والحق باطال, والباطل حقا, والخير شرا, والشر خيرا, فيفسد عليه تصوره وعلمه. ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة الى العدم مؤثرة للباطل.

واذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعلى ارادي, فسدت عليه تلك األفعال وسرى حكم الكذب اليها فصار صدورها

عنه كصدور الكذب على اللسان, فال ينتفع بلسانه وال بأعماله.

108

Page 109: الفوائد بن القيّم

ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:} ان \10الكذب يهدي الى الفجور وان الفجور يهدي الى النار{ البخاري في األدب

ومسلم , وأبو داود وأحمد. وأول ما يسري الكذب من النفس6094 رقم 507 الى اللسان فيفسده, ثم يسري الى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على

اللسان أقواله, فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله, فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه الى الهلكة ان لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من

أصلها.

ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق, وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيالء والبطر واألشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب. فكل عمل ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب. والله تعالى يعاقب الكذاب

بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه, ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته, فما استجلبت مصالح الدنيا واآلخرة بمثل الصدق, وال مفاسدهما

ومضارهما بمثل الكذب. قال تعالى:} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع ,119, وقال:} هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم{ المائدة 119الصادقين{ التوبة

, وقال:} وجاء21وقال:} فاذا عزم األمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم{ محمد المعذ"رون من األعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين

.90كفروا منهم عذاب أليم{ التوبة

[ في ظالل اآلية الكريمة 79]

في قوله تعالى:} وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم التعلمون{.

في هذه اآلية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد, فان العبد اذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب, والمحبوب قد يأتي بالمكروه, لم يأمن أن توافيه المضرة من

ة, ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه جانب المسر"بالعواقب, فان الله يعلم منها ماال يعلمه العبد أوجب له ذلك أمورا:

منها: أنه ال أنفع له من امتثال األمر وان شق عليه في االبتداء, ألم عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وان كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع. وكذلك ال

شيء أضرعليه من ارتكاب النهي وان هويته نفسه ومالت اليه, فان عواقبه كلها آالم وأحزان وشرور ومصائب, وخاصية العقل تحمل األلم اليسير لما يعقبه من

اللذة العظيمة والخير الكثير, واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من األلم العظيم

109

Page 110: الفوائد بن القيّم

"س دائما والشر الطويل. فنظر الجاهل ال يجاوز المبادئ الى غاياتها, والعاقل الكي ينظر الى الغايات من وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى

المناهي كطعام لذيذ قد خلط به سم قاتل, فكلما دعته لذته الى تناوله نهاه ما فيه من السم. ويرى األوامر كدواء كريه المذاق مفضى الى العافية والشفاء,

وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول. ولكن هذا يحتاج الى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها, وقوة صبر يوطن به نفسه على تحم"ا مشقة

الطريق لما يؤمل عند الغاية, فاذل فقد اليقين والصبر تعذ"ر عليه ذلك, واذا قوييقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.

ومن أسرار هذه اآلية أنها تقتضي من العبد التفويض الى من يعلم عواقب األمور, والرضا بما يختاره له ويقضيه له, لما يرجو فيه من حسن العاقبة.

ومنها: أنه ال يقترح على ربه وال يختار عليه وال يسأله ما ليس له به علم, فلعل ته وهالكه فيه وهو ال يعلم, فال يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن االختيار مضر"

له وأن يرضيه بما يختاره فال أنفع له من ذلك.

ومنها: أنه اذا فو¢ض أمره الى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر, وصرف عنه اآلفات, التي هي عرضة اختيار العبد

لنفسه, وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل الى بعضه, بمايختاره هو لنفسه.

ومنها: أنه يريحه من األفكار المتعبة في أنواع االختيارات, ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى, ومع هذا فال

خروج له عما قدر عليه, فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه, واال جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه. ألنه مع اختياره لنفسه, ومتى صح تفويضه ورضاه, اكتنفه في المقدور والعطف عليه

واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه, فعطفه يقيه ما يحذره, ولطفه يهو"ن عليهما قدره.

اذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده, فال أنفع له من االستسالم والقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة, فان السبع ال يرضى

بأكل الجيف.

[ شروط االنتفاع بااليمان والعلم80]

ال ينتفع بنعمة الله بااليمان والعلم اال من عرف نفسه, ووقف بها عند قدرها, ولم يتجاوزه الى ما ليس له, ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي, وتيق"ن أنه لله ومن الله وبالله, فهو المان به ابتداء وادامة بال سبب من العبد وال استحقاق منه, فتذله

"ة, وأن الخير نعم الله عليه وتكسره كسرة من ال يرى لنفسه وال فيها خيرا البت

110

Page 111: الفوائد بن القيّم

الذي وصل اليه فهو لله وبه ومنه, فتحدث له النعم ذال وانكسارا عجيبا ال يعبرعنه.

فكلما جدد له نعمة ازداد له ذال وانكسارا ومحبة وخوف ورجاء, وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه وكماله وبره وغناه وجوده واحسانه ورحمته, وأن الخير كله

في يديه, وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع من يشاء. وله الحمد على هذا, وهذا أكمل حمد وأتمه. وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها

وجهلها, وأنها ال خير فيها البتة وال لها وال بها وال منها, وأنها ليس لها من ذاتها اال العدم الذي ال شيء أحقر منه وال أنقص, فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي

ليس اليها وال بها.

فاذا صار هذان العلمان صبغة لها ال صبغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله, واألمر كله له والخير كله في يديه, وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها, وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقق بهذين

العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد الى الصراطالمستقيم الموصل له الى الله.

فايصال العبد تحقيق هاتين المعرفتين علما وحاال, وانقطاعه بفواتهما. وهذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه, فانه من عرف نفسه بالجهل والظلم

والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم, عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها, وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله, وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وانابته وتوكله اليه وحده, وكان أحب شيءاليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له, وهذا هو حقيقة العبودية, والله المستعان.

ويحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته: انه لن ينتفع بحكمتنا اال من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها, فمن كان كذلك فليدخل واال فليرجع حتى يكون بهذه

الصفة.

[ الصبر عن الشهوة أسهل من ألم عقوبتها81]

الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة, فانها اما ان توجب ألما وعقوبة, واما أن تقطع لذة أكمل منها, واما أ، تضيع وقتا اضاعته حسرة

وندامة, واما أن تلثم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه, واما أن تذهب ماال بقاؤه خير له من ذهابه, واما أن تضع قدرا وجاها قيامه خير وضعه, واما أن تسلب نعمة

بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة, واما أ، تطرق لوضيع اليك طريقا لم يك يجدها قبل ذلك, واما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا ال يقارب لذة الشهوة, واما أن تنسي علما ذكره ألذ من نيل الشهوة, واما أن تشمت عدوا وتحزن وليا, واما

111

Page 112: الفوائد بن القيّم

أ، تقطع الطريق على نعمة مقبلة, واما أ، تحدث عيبا يبقى صفة ال تزول, فاناألعمال تورث الصفات واألخالق.

[ حدود األخالق82]

لألخالق حد متى جاوزته صارت عدوانا, ومتى قص"رت عنه كان نقصا ومهانة, فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة, واألنفة من الرذائل والنقائص, وهذا كماله.

فاذا جاوز حده, تعدى صاحبه وجار, وان نقص عنه, جبن ولم يأنف من الرذائل.

وللحرص حد, وهو الكفاية في أمور الدنيا, وحصول البالغ منها, فمتى نقص من ذلك كان مهانة واضاعة, ومتى زاذ عليه, كان شرها ورغبة فيما ال تحمد الرغبة

فيه.

وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال, واألنفة أن يتقدم عايه نظيره, فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود, ويحرص على ايذائه, ومتى نقص عن ذلك, كان دناءة وضعف همة وصغر نفس. قال النبي

صلى الله عليه وسلم:" ال حسد اال في اثنتين: رجل آتاه الله ماال فسلطه على هلكته في الحق, ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس" البخاري

( ومسلم, فهذا حسد1409 )276\3( , وفي الزكاة 73 )165\1في العلم منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود, ال حسد مهانة يتمنى

به زوال النعمة عن المحسود.

وللشهوة حد, وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب الفضائل واالستعانة بقضائها على ذلك, فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقا والتحق

صاحبها بدرجة الحيوانات, ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغا في طلب الكمالوالفضل كانت ضعفا وعجزا ومهانة.

وللراحة حد وهو اجمام النفس والقوى المدركة والفعالة لالستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث ال يضعفها الكد والتعب ويضعف

أثرها, فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسال واضاعة, وفات به أكثر مصالح العبد, ومى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبت الذي ال

أرضا قطع وال ظهرا أبقى.

والجود له حد بين طرفين, فمتى جاوز حده صار اسرافا وتبذيرا, ومتى نقص عنه كان بخال وتقتيرا.

وللشجاعة حد متى جاوزته صار تهو"را, ومتى نقصت عنه صار جبنا وخورا, وحدها االقدام في مواضع االقدام, واالحجام في مواضع االحجام, كما قال معاوية

112

Page 113: الفوائد بن القيّم

لعمرو بن العاص: أعياني أن أعرف أشجاعا أنت أم جبانا تقدم حتى أقول منأشجع الناس, وتجبن حتى أقول من أجبن الناس, فقال:

شجاع اذا أمكنتني فرصة فان لم تكن لي فرصة فجبان

والغيرة لها حد اذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبرئ, واذا قص"رت عنه كانت تغاقال ومبادئ دياثة.

وللواضع حد اذا جاوزه كان ذال ومهانة, ومن قصر عنه انحرف الى الكبر والفخر.

وللعز حد اذا جاوزه كان كبرا وخلقا مذموما, وان قصر عنه انحرف الى الذل والمهانة.

وضابط هذا كله العدل, وهو األخذ بالوسط الموضوع بين طرفي االفراط والتفريط, وعليه بناء مصالح الدنيا واآلخرة, بل ال تقوم مصلحة البدن اال به. فانه

متى خرج بعض أخالطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك. وكذلك األفعال الطبيعية كالنوم والسهر واألكل والشرب والجماع

والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك, اذا كانت وسطا بين الطرفينالمذمومين كانت عدال وان انحرفت الى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا.

فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود, وال سيما حدود الشرع المأمور والمنهي. فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود, حتى ال يدخل فيها ما ليس منها وال

يخرج منها ما هو داخل فيها. قال تعالى:} األعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أال . فأعدل الناس من قام بحدود97يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله{التوبة

األخالق واألعمال والمشروعات معرفة وفعال, وبالله التوفيق.

[ )فصل(83]

قال أبو الدرداء رضي الله عنه:" يا حبذا نوم األكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم, والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادةين". وهذا من جواهر الكالم, وأدله على كمال فقه الصحابة, وتقدمهم من المغتر"

على من بعدهم في كل خير, رضي الله عنهم.

فاعلم أن العبد انما قطع منازل السير الى الله بقلبه وهمته ال ببدنه. والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب ال تقوى الجوارح. قال تعالى:} ذلك ومن يعظ"م شعائر

, وقال:} لن ينال الله لحومها وال دماؤها32الله فانها من تقوى القلوب{ الحج , وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" التقوى37ولكن ينالها التقوى منكم{الحج

.32 رقم1986\4هاهنا" وأشار الى صدره, مسلم في كتاب البر والصلة واآلداب فالكي"س يقطع من المسافة بصحة العزيمة, وعلو الهمة, وتجريد القصد, وصحة

113

Page 114: الفوائد بن القيّم

النية مع العمل القليل, أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق. فان العزيمة والمحبة تذهب المشقة, وتطيب السير,

والتقدم والسبق الى الله سبحانه انما هو بالهمم, وصدق الرغبة والعزيمة, فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل, فان ساواه في همته تقدم

عليه بعمله, وهذا موضع يحتاج الى تفصيل يوافق فيه االسالم االحسان.

فأكمل الهدي هدي رسول الله, وكان موفيا كل واحد منهما حقه, فكان مع كماله وارادته وأحواله مع الله يقوم حتى ترم قدماه, ويصوم حتى يقال ال يفطر,

ويجاهد في سبيل الله, ويخالط أصحابه وال يحتجب عنهم, وال يترك شيئا منالنوافل واألوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر.

والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع االسالم على ظواهرهم وحقائق االيمان على بواطنهم, وال يقبل واحدا منهما اال بصاحبه وقرينه. وفي المسند

. فكل اسالم ظاهر ال ينفذ134\3مرفوعا:" االسالم عالنية وااليمان في القلب" صاحبه منه الى حقيقة االيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من االيمان الباطن, وكل حقيقة باطنة ال يقوم صاحبها بشرائع االسالم الظاهرة ال

"د األمر وظاهر تنفع ولو كانت ما كانت. فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعب الشرع لم ينج"ه ذلك من النار. كما أنه لو قام بظواهر االسالم ولي في باطنه

حقيقة االيمان ولم ينج"ه من النار.

واذا عرف هذا, فالصادقون السائرون الى الله والدار اآلخرة قسمان:

قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض الى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازل أحكامها, وان لم

يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة الى االستكثار من األعمال.

وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسنن الى االهتمام بصالح قلوبهم وعكوفها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر واالرادات معه. وجعلوا

"دهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة, والخوف والرجاء والتوكل واالنابة قوة تعب ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلوبهم من الله أحب اليهم من

كثير من التطوعات البدنية, فاذا حصل ألحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل, لم يستبدل به شيئا سواه البتة, اال أن يجيء األمر فيبادر

اليه بذلك الوارد ان أمكنه, واال بادر الى األمر ولو ذهب الوارد.

فاذا جاءت النوافل فهاهنا معترك التردد, فان أمكن القيام اليها به فذاك, واال نظر في األرجح واألحي الى الله, هل هو القيام الى تلك النافلة ولو ذهب وارده كاغاثة الملهوف وارشاد ضال وجبر مكسور واستفادة وايمان ونحو ذلك, فهاهنا

با اليه فانه يرد عليه ينبغي تقديم النافلة الراجحة, ومتى قدمها لله رغبة فيه وتقر"

114

Page 115: الفوائد بن القيّم

ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر, وان كان الوارد أرجح من النافلةفالحزم له االستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فانه يفوت والنافلة ال تفوت.

وهذا موضع يحتاج الى فضل فقه في الطريق ومراتب األعمال وتقديم األهم منها فاألهم, والله الموفق لذلك ال اله غيره وال رب سواه.

[ األخالق المحمودة واألخالق المذمومة84]

أصل األخالق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة, وأصل األخالق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة. فالفخر والبطر واألشر والعجب والحسد والبغي

والخيالء والظلم والقسوة والتجبر واالعراض واباء قبول النصيحة واالستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك, كلها ناشئة من الكبر, وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع

والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو أدنى بالذيهو خير ونحو ذلك, فانها من المهانة والدناءة وصغر النفس.

وأما األخالق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحلم والعفو والصفح واالحتمال وااليثار. وعزة النفس عن الدناءات

والتواضع والقناعة والصدق واالخالص والمكافأة واالحسان بمثله أ, أفضل, والتغافل عن زالت الناس وترك االشتغال بما ال يعنيه وسالمة القلب من تلك

األخالق المذمومة ونحو ذلك, فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن األرض بأنها تكون خاشعة ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتأخذ زينتها

(, فكذلك المخلوق منها اذا أصابه حظه39وبهجتها )يشير الى سورة فصلت آية من التوفيق.

وأما النار فطبعها العلو واالفساد ثم تخمد فتصير أحقر شيء وأذله وكذلك المخلوق منها. فهي دائما بين العلو اذا هاجت واضطربت, وبين الخسة والدناءة

اذا خمدت وسكنت.

واألخالق المذمومة تابعة للنار والمخلوق منها, واألخالق الفاضلة تابعة لألرض والمخلوق منها. فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل, ومن

دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل.

[ المطلب األعلى يحتاج الى همة عالية ونية صحيحة85]

المطلب األعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة, فمن فقدهما تعذ"ر عليه الوصول اليه, فان الهمة اذا مانت عالية تعلقت به وحده دون غيره.

واذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة اليه, فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب, فاذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة اليه كان الوصول

115

Page 116: الفوائد بن القيّم

غايته. واذا كانت همته سافلة تعل"قت بالسفليات ولم تتعل"ق بالمطلب األعلى. واذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة اليه. فمدار الشأن على همة

العبد ونيته هما مطلوبه وطريقه ال يتم اال بترك ثالثة أشياء:

)األول(: العوائد والرسوم واألوضاع التي أحدثها الناس.)الثاني(: هجر العوائق التي تعوقه عن افراد مطلوبه وطريقه وقطعها.

)الثالث(: قطع عالئق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعليق بالمطلوب )وكأنه يشير رحمه الله الى تجرد المسلم عن كل عوائق الدنيا, وعالئق القلب وقبل ذلك

بعه عن كل البدع والخرافاتالتي أحدثها الناس, وما أكثرها في زماننا( والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية, والعالئق هي التعلقات القلبية

بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة, فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما

يقطعه عنه أو يضعف طلبه, والله المستعان.

[ )فصل(86]من حكم ابن مسعود رضي الله عنه

من كالم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه, قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين, أحب أن أكون من المقربين, فقال عبدالله: لكن هاهنا رجل

ود" أنه اذا مات لم يبعث. يعني نفسه.

وخرج ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا ال, ولكن أردنا أن نمشي معك, قال: ارجعوا, فانه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.

وقال: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب. قال: حبذا المكروهان: الموت والفقر, وأيم الله ان هو اال الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت, أرجو الله في كل واحد منهما, ان كان الغنى ان فيه للعطف, وان كان

الفقر ان فيه للصبر.

وقال: انكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة, وأعمال محفوظة, والموت يأتي بغتة, فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد ندامة, ولكل زارع مثل ما

زرع ال يسبق بطىء بحظه, وال يدرك حريص ما لم يقدر له. من أعطى خيرا فاللهأعطاه, ومن وقى شرا فالله وقاه.

المتقون سادة, والفقهاء قادة, ومجالستهم زيادة, انما هما اثنتان: الهدى والكالم, فأفضل الكالم كالم الله, وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر األمور محدثاتها وكل محدثة بدعة, فال يطولن عليكم األمد وال

يلهينكم األمل فان كل ما هو آت قريب, أال وان البعيد ما ليس آتيا, أال وان الشقيمن شقي في بطن أمه, وان السعيد من وعظ بغيره.

116

Page 117: الفوائد بن القيّم

أال وان قتال المسلم كفر وسبابه فسوق, وال يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثالثة أيام حتى يسل"م عليه اذا لقيه, ويجيبه اذا دعاه, ويعوده اذا مرض, أال وان شر"

الروايا روايا الكذب, اال وان الكذب ال يصلح منه جد وال هزل وال أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم ال ينجزه, أال وان الكذب يهدي الى الفجور, والفجور يهدي الى النار,

والصدق يهدي الى البر, والبر يهدي الى الجنة, وانه يقال للصادق صدق وبر, ويقال للكاذب كذب وفجر, وان محمدا صلى الله عليه وسلم حدثنا أن الرجل

ليصدق حتى يكتب عند الله صد"يقا ويكذب حتى يكتب عند الله كذ"ابا.

ان أصدق الحديث كتاب الله, وأوثق العرى كلمة التقوى, وخير الملل ملة ابراهيم, وأحسن النن سنة محمد, وخير الهدي هدي األنبياء, وأشرف الحديث ذكر الله, وخير القصص القرآن, وخير األمور عوازمها, وشر األمور محدثاتها, وما قل وكفى خير مما كثر وألهى, ونفس تنجيها خيرمن امارة ال تحصيها, وشر المعذرة

حين يحضر الموت, وشر الندامة ندامة يوم القيامة, وشر الضاللة الضاللة بعد الهدى, وخير الغنى غنى النفس, وخير الزاد التقوى, وخير ما وقر في القلب

اليقين, والريب من الكفر, وشر العمى عمى القلب, والخمر جماع االثم, والنساءحبائل الشيطان, الشباب شعبة من الجنون, والنوح من عمل الجاهلية.

ومن الناس من ال يأتي الجمعة اال دبرا وال يذكر الله اال هجرا, ومن أعظم الخطايا اللسان الكذ"اب, ومن يعف يعف الله عنه, ومن يكظم الغيظ يأجره الله,

ومن يغفر يغفر له, ومن يصبر على الرزية يعقبه الله, وشر المكاسب كسب الربا, وشر المأكل مال اليتيم, وانما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه, وانما يصير

الى أربعة أذرع واألمر الى آخرة, ومالك العمل خواتمه, وأشرف الموت قتلالشهداء, ومن يستكبر يضعه الله, ومن يعص الله يطع الشيطان.

ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله اذا الناس نائمون, وبنهاره اذا الناس مفطرون, وبحزنه اذا الناس يفرحون, وببكائه اذا الناس يضحكون, وبصمته اذا

الناس يخوضون, وبخشوعه اذا الناس يختالون.

وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا وال ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا وال غافال وال سخابا وال صياحا وال حديدا.

عا رفعه الله, وان للملك لمة من تطاول تعظ"ما حط"ه الله, ومن تواضع تخش" وللشيطان لمة, فلمة الملك ايعاد بالخير, وتصديق بالحق, فاذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله. ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق, فاذا رأيتم ذلك فتعو"ذوا بالله. ان

الناس قد أحسنوا القول, فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظ"ه, ومنخالف قوله فعله فذاك انما يوبخ نفسه.

117

Page 118: الفوائد بن القيّم

ال ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب)دويبة( نهار, اني ألبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا وال عمل اآلخرة, ومن لم تأمره الصالة بالمعروف

وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله اال بعدا.

من اليقين أن ال ترضي الناس بسخط الله, وال تحمد أحدا على رزق الله, وال تلوم أحدا على ما لم يؤتك الله. فان رزق الله ال يسوقه حرص حريص وال يرده

كراهة كاره, وان الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقينوالرضا, وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.

ما دمت في صالة فأنت تقرع باب الملك, ومن يقرع باب الملك يفتح له. اني ألحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها.

كونوا ينابيع العلم, مصابيح الهدى, أحالس البيوت, سرج الليل, جدد القلوب, خلقان الثياب, تعرفون في السماء وتخفون على أهل األرض.

ان للقلوب شهوة وادبارا فاغتنموها عند شهوتها واقبالها, ودعوها عند فترتها

وادبارها.

ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم بالخشية.

انكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضهم قلبا, وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضهم جسما, وأيم والله, لو مرضت قلوبكم وصح"ت

أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعالن. ال يبلغ العبد حقيقة االيمان حتى يحل بذروته, وال يحل بذروته حتى يكون الفقر

أحب اليه من الغنى, والتواضع أحب اليه من الشرف وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء, وان الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه منه شيء, يأتي

الرجل وال يملك له وال لنفسه ضرا وال نفقعا, فيقسم له بالله انك لذيت وذيت,فيرجع وما حبى من حاجته بشيء وبسخط الله عليه.

لو سخرت من كلب لخشيت أن أحو"ل كلبا.

االثم حو"از القلوب.

مع كل فرحة ترحة وما ملىء بيت حبرة اال ملىء عبرة- وما منكم اال ضيف وماله عارية, فالضيف مرتحل, والعارية مؤداة الى أهلها.

يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التالوم بينهم يسمون األنتان اذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه فلؤت الى الناس الذي يحب أن يؤتى اليه.

118

Page 119: الفوائد بن القيّم

الحق ثقيل مريء, والباطل خفيف وبيء, رب شهوة تورث حزنا طويال.

ما على وجه األرض شيء أحوج الى طول سجن من لسان.

اذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن في هالكها.

من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث ال يأكله السوس وال يناله السراق فليفعل, فان قلب الرجل مع كنزه.

ال يقلدن أحدكم في دينه رجال, فا آمن أمن وان كفر كفر, وان كنتم ال بد مقتدين فاقتدوا بالميت, فان الحي ال تؤمن عليه الفتنة.

ال يكن أحدكم امعة, قالوا وما األمعة؟ قال: يقول أنا مع الناس ان اهتدوا اهتديت وان ضلوا ضللت, أال ليطن أحدكم نفسه على أنه ان كفر الناس ال يكفر.

وقال له رجل: علمني كلمات جوامع نوافع, فقال: اعبد الله ال تشرك به شيئا, وزل مع القرآن حيث زال, ومن جاءك بالحق فاقبل منه وان كان بعيدا بغيضا,

ومن جاءك بالبطل فاردد عليه وان كان حبيبا قريبا. يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أد أمانتك, فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فتمثل على هيئتها يوم

أخذها في قعر جهنم, فينزل ويأخذها فيضعها على عاتقه فيصعد بها, حتى اذا ظنأنه خارج بها هوت وهوى في أثرها أبد اآلبدين.

أطلب قلبك في ثالثة مواطن: عند سماع القرآن, وفي مجال الذكر, وفي أوقات الخلوة. فان لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب, فانه ال

قلب لك.

قال الجنيد: دخلت على شاب فسألني عن التوبة فأجبته, فسألني عن حقيقتها, فقلت: أن تنصب ذنبك بين عينيك حتى يأتيك الموت. فقال لي: مه, ما هذه

حقيقة التوبة, فقلت له: فما حقيقة التوبة عندك يا فتى؟ قال: أن تنسى ذنبك. وتركني ومضى, فكيف هو عندك يا أبا القاسم؟ فقلت: القول ما قال الفتى. قال:

كيف, قلت: اذا كنت معه في حال ثم نقلني من حال الجفاء الى حال الوفاء,فذكري للجفاء في حال الوفاء جفاء.

[ االخالص ومحبة المدح ال يجتمعان في قلب87]

ال يجتمع االخالص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس اال كما يجتمع الماء والنار والنصب والحوت. فاذا حدثتك نفسك بطلب االخالص

فأقبل على الطمع أوال فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد

119

Page 120: الفوائد بن القيّم

اق الدنيا في اآلخرة, فاذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء فيهما زهد عش"والمدح سهل عليك االخالص.

فان قلت: وما الذي يسه"ل علي ذبح الطمع والزهد في المدح والثناء؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه اال وبيد الله

وحده خزائنه ال يملكها غيره, وال يؤتى العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في المدح والثناء فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين, ويضر ذمه ويشين اال الله وحده, كما قال ذلك األعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: ان

مدحي زين وشتمي شين, فقال:" ذاك الله عز وجل" الترمذي في السنن رقم . فازهد في مدح من ال يزينك394 393\6, 488\3, وأحمد في المسند 3263

مدحه, وفي ذم من ال يشينك ذمه, وارغب في مدح من كل الزين في مدحه, وكل الشين في ذمه, ولن يقدر على ذلك اال بالصبر واليقين, فمتى فقدت البصر

واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب, قال الله تعالى:} فاصبر"ك الذين ال يوقنون{ الروم , وقال تعالى:} وجعلنا60ان" وعد الله حق وال يستخف"ن

.24منهم أئمة يهدون بأمرنا لم"ا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون{ السجدة

[ أشرف الناس من كانت لذته في معرفة الله تعالى ومحبته88]

لذة كل أحد على حسب قدره وهم"ته وشرف نفسه, فأشرف الناس نفسا وأعالهم هم"ا وأرفعهم قدرا من لذ"ته في معرفة الله ومحبته والشوق الى لقائه والتودد اليه بما يحبه ويرضاه. فلذته في اقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب ال يحصيها اال الله, حتى تنتهي الى من لذته في أخس األشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكالم والفعال واألشغال. فلو عرض

عليه ما يلتذ به األول لم تسمح نفسه بقبوله وال التفت اليه وربما تألمت من ذلك, كما أن األول اذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت اليه

ونفرت نفسه منه.

وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن. فهو يتناول لذاته المباحة على وجه ال ينقص حظه من الدار اآلخرة وال يقطع عليه لذة

م زينة الله المعرفة والمحبة واألنس بربه. فهذا ممن قال تعالى فيه:} قل من حر" التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا

, وأبخسهم حظا من اللذة من تناولها على وجه32خالصة يوم القيامة{ األعراف يحول بينه وبين لذات اآلخرة, فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات:} أذهبتم

. فهؤالء تمتعوا بالطيبات,20طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها{ األحقاف وأولئك تمتعوا بالطيبات, وافترقوا في وجه التمتع, فأولئك تمتعوا بها على الوجه

الذي أذن لهم فيه, فجمع لهم بين لذة الدنيا واآلخرة, وهؤالء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم اليه الهوى والشهوة, وسواء أذن لهم فيه أم ال, فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة اآلخرة, فال لذة الدنيا دامت لهم, وال لذة اآلخرة

"ب فليجعل لذة الدنيا موصال حصلت لهم. فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطي

120

Page 121: الفوائد بن القيّم

له الى لذة اآلخرة, بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله في ارادته وعبادته,فيتناولها بحكم االستعانة والقوة على طلبه ال بحكم مجرد الشهوة والهوى.

وان كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة اآلخرة, ويجم نفسه هاهنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك. فطيبات الدنيا

ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله و الدار اآلخرة وكانت همته لما هناك, وبئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهمته, وحولها يدندن, وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار اآلخرة, وبئس القاطع النازع من الله والدار اآلخرة.

فمن أخذ منافع الدنيا على وجه ال ينقص حظه من اآلخرة ظفر بهما جميعا واالخسرهما جميعا.

سبحان الله رب العالمين. لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي وال اقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواما لمصالح

الدنيا واآلخرة, ومحبة الخلق وجواز القول بينهم وصالح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر, واألمن من مخاوف

الفساق والفجار, وقلة الهم والغم والحزن, وعز النفس عن احتمال الذل, وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية, وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق

والفجار, وتيسير عليه الرزق من حيث ال يحتسب, وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي, وتسهيل الطاعات عليه, وتيسير العلم والثناء الحسن في

الناس, وكثرة الدعاء له, والحالوة التي يكتسبها وجهه, والمهابة الي تلقى له في قلوب الناس, وانتصارهم وحميتهم له اذا أوذي وظلم, وذبهم عن عرضه اذا اغتابه مغتاب, وسرعة اجابة دعائه, وزوال الوحشة التي بينه وبين الله, وقرب المالئكة

منه, وبعد شياطين األنس والجن منه, وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه, وخطبتهم لمودته وصحبته, وعدم خوفه من الموت, بل يفرح به لقدومه على ربه

ولقائه له ومصيره اليه, وصغر الدنيا في قلبه, وكبر اآلخرة عنده وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها, وذوق حالوة الطاعة, ووجد حالوة االيمان,

ودعاء حملة العرش ومن حوله من المالئكة له, وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت, والزيادة في عقله وفهمه وايمانه ومعرفته, وحصول محبة الله له واقباله عليه, وفرحه بتوبته, وهكذا يجازيه بفرح وسرور ال نسبة له الى فرحه وسروره

بالمعصية بوجه من الوجوه.

فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا. فاذا مات تلتقه المالئكة بالبشرى من ربه بالجنة, وبأنه ال خوف عليه وال حزن, وينتقل من سجن الدنيا وضيقها الى روضة من رياض الجنة ينعم فيها الى يوم القيامة. فاذا كان يوم القيامة كان

الناس في الحر والعرق, وهو في ظل العرش. فاذا انصرفوا بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين:و} ذلك فضل الله يؤتيه من

. 21يشاء والله ذو الفضل العظيم{ الحديد

[ من مزايا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز89]

121

Page 122: الفوائد بن القيّم

ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز أنه كان اذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطعه. واذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه,

.330\5ويقول: اللهم اني أعوذ بك من شر نفسي. طبقات ابن سعد

اعلم أن العبد اذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه به وتوفيقه له فيه وأنه بالله ال بنفسه وال بمعرفته وفكره وحوله وقوته,

بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين واألذن. فالذي من" عليه بذلك هو الذي من" عليه بالقول والفعل, فاذا لم يغب ذلك عن مالحظته ونظر قلبه لم

"ة ربه وتوفيقه واعانته. يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود من فاذا غاب من تلك المالحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى, فوقع العجب

ففسد عليه القول والعمل, فتارة يحال بينه وبين تمامه ويقطع عليه ويكون ذلك"ة والتوفيق. وتارة يتم له ولكن ال يكون له رحمة به حتى ال يغيب عن مشاهدة المن ثمرة, وان أثمر أثمر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود. وتارة يكون ضرره عليه"ى بحسب غيبته عن مالحظة التوفيق أعظم من انتفاعه, ويتولد له منه مفاسد شت

"ة ورؤية نفسه وأن القول والفعل به. والمن

ومن هذا الموضع يصلح الله سبحانه أقوال عبده وأعماله ويعظم له ثمرتها أو يفسدها عليه ويمنعه ثمرتها. فال شيء أفسد لألغعمال من العجب ورؤية النفس,"ته وتوفيقه واعانته له في كل ما يقوله ويفعله فاذا أراد الله بعبده خيرا أشهده من

فال يعجب به. ثم أشهده تقصيره فيه وأنه ال يرضى لربه به فيتوب اليه منه"به عنه فرأى ويستغفره, ويستحيي أن يطلب عليه أجرا. واذا لم يشهده ذلك وغي نفسه في العمل ورآه بعين الكمال والرضا, لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول"ته وفضله وتوفيقه, والرضا والمحبة. فالعارف يعمل العمل لوجهه مشاهدا فيه من

معتذرا منه اليه, مستحييا منه اذ لم يوفقه حقه. والجاهل يعمل العمل لحظه وهواه ناظرا فيه الى نفسه, يمن" به على ربه راضيا بعمله, فهذا لون وذاك لون

آخر.

[ من الحكم والمواعظ90]

الوصول الى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق. فالعوائد السكون الى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم واألوضاع التي

"بع, بل هي عندهم أعظم من الشرع. فانهم ينكرون جعلوها بمنزلة الشرع المت على من خرج عنها وخالفها ما ال ينكرون على من خالف صريح الشرع. وربما

"لوه, أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم, وأماتوا لها كف"روه أو بد"عوه وضل السنن, ونصبوها أندادا للرسول صلى الله عليه وسلم يوالون عليها ويعادون.

فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها.

122

Page 123: الفوائد بن القيّم

وهذه األوضاع والرسوم قد استولت عليها طوائف من بني آدم من الملوك والوالة والفقهاء والصوفية والفقراء, والمطوعين والعامة. فربي فيها الصغير

ونشأ عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند أصحابها من السنن. والواقف"د بها منقطع. عم" بها المصاب, وهجر ألجلها السنة والكتاب. معها محبوس والمتقي

من استنصر بها فهو عند الله مخذول, ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسول الله فهو عند الله غير مقبول. وهذا أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين

النفوذ الى الله ورسوله صلى الله عليه وسل"م.

[ من العوائق91]

وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها, فانها تعوق القلب عن سيره الى الله وتقطع عليه طريقه, وهي ثالثة أمور: شرك وبدعة ومعصية,

فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد, وعائق البدعة بتحقيق السنة, وعائق المعصية بتصحيح التوبة. وهذه العوائق ال تتبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر

ويتحقق بالسير الى الله والدار اآلخرة. فحينئذ تظهر له هذه العوائق يحسسده للسفر, واال فما دام قاعدا ال تظهر له بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجر"

كوامنها وقواطعها.

[ من العالئق92]

وأما العالئق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من مالذ الدنيا وشهواتها ورئاستها وصحبة الناس والتعلق بهم, وال سبيل له الى قطع هذه األمور

الثالثة ورفضها اال بقوة التعلق بالمطلب األعلى, واال فقطعها عليه بدون تعل"قه بمطلوبه ممتنع. فان النفس ال تترك مألوفها ومحبوبها اال لمحبوب هو أحب اليها منه آثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره. وكذا بالعكس

والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه. وذلك على قدر معرفته به وشرفهوفضله على ما سواه.

[ حاجة الناس الى الرسول صلى الله عليه وسلم93]

لما كمل للرسول صلى الله عليه وسلم مقام االفتقار الى الله سبحانه أحوج الخالئق كلهم اليه في الدنيا واآلخرة. أما حاجتهم اليه في الدنيا فأشد من حاجتهم الى الكعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم. وأما حاجتهم اليه في اآلخرة

فانهم يستشفعون بالرسل الى الله حتى يريحوهم من ضيق مقامهم. فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع لهم, وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة. في صحيح

مسلم كتاب االيمان حديث عن أنس بن مالك عن رسول الله أنه قال:" آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أ،ت, فأقول محمد. فيقول: لك

(.333رقم)188\1أمرت ال أفتح ألحد قبلك"

123

Page 124: الفوائد بن القيّم

[ من عالمات السعادة والفالح94]

من عالمات السعادة والفالح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته. وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره. وكلما زيد في عمره نقص

من حرصه. وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله. وكلما زيد في قدره وجاههزيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.

وعالمات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه, وكلما زيد في عمل زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه, وكلما زيد في قدره

وجاهه زيد في كبره وتيهه. وهذه األمور ابتالء من الله وامتحان يبتلي بها عبادهفيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام.

وكذلك الكرامات امتحان وابتالء, كالملك والسلطان والمال.

قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس:} هذا من فضل ربي ليبلوني . فالنعم ابتالء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور40أأشكر أم أكفر{ النمل

وكفر الكفور. كما أن المحن بلوى منه سبحانه, فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب, قال تعال:} فأم"ا االنسان اذا ما ابتاله ربه فأكرمه ونع"مه فيقول ربي

ا اذا ما ابتاله فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كال..{ الفجر -15أكرمن * وأم" , أي ليس كل ما وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك اكراما مني له, وال17

"قت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك اهانة مني له. ) أي ليس األمر كما كل من ضي زعم ال في هذا وال في هذا فان الله تعالى يعطي المال من يحب ومن ال يحب

ويضيق على من يحب ومن ال يحب, وانما المدار في ذلك على طاعة الله في كل"ا بأن يشكر الله على ذلك وان كان فقيرا بأن يصبرأنظر من الحالين اذا كان غني

(.509\4تفسير ابن كثير

[ األعمال درجات وأساسها االيمان95]

من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه واحكامه وشدة االعتناء به. فان علو البنيان على قدر توثيق األساس واحكامه. فاألعمال والدرجات بنيان وأساسها

األيمان, ومتى كان األساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه. واذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه, واذا كان األساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت, واذا

تهدم شيء من األساس سقط البنيان أو كاد. فالعارف هم"ته تصحيح األساس واحكامه, والجاهل يرفع في البناء من غير أساس فال يلبث بنيانه أن يسقط. قال تعال:} أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه

"م{ التوبة .109على شفا جرف هار فانهار به في نار جهن

124

Page 125: الفوائد بن القيّم

فاألساس لبناء األعمال كالقوة لبدن األنسان, فاذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من اآلفات, واذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن

وكانت اآلفات اليه أسرع شيء, فاحمل بنيانك على قوة أساس االيمان, فاذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهل عليك من خراب

األساس.

وهذا األساس أمران: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته. والثاني: تجريد االنقياد له ولرسوله دون ما سواه, فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه

بنيانه, وبحسبه يعتلي البنيان ما شاء. فاحكم األساس, واحفظ القوة, ودم على الحمية, واستفرغ اذا زاد بك الخلط, والقصد القصد وقد بلغت المراد, واال فما

دامت القوة ضعيفة والمادة الفاسدة موجودة واالستفراغ معدوما:

فاقر السالم على الحياة فانها قد آذنتك بسرعة التوديع

فاذا كمل البناء فبيضه بحسن الخلق واالحسان الى الناس, ثم حطه بسور من الحذر, ال يقتحمه عدو, وال تبدو منه العورة, ثم أرخ الستور على أبوابه, ثم أقفل الباب األعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته, ثم ركب له مفتاحا من ذكر الله به تفتحه وتغلقه, فان فتحت فتحت بالمفتاح وان أغلقت الباب أغلقته به, فتكون

حينئذ قد بنيت حصنا تحصنت فيه من أعدائك اذا طاف به العدو لم يجد منه مدخال فييأس منك. ثم تعاهد بناء الحصن كل وقت, فان العدو اذا لم يطمع في الدخول

من الباب نق"ب عليك النقوب من بعيد بمعاول الذنوب, فان أهملت أمره وصل اليك النقب, فاذا العدو معك في داخل الحصن فيصعب عليك اخراجه, وتكون معه

على ثالث خالل:

اما أم يغلبك على الحصن, ويستولي عليه, واما أن يساكنك فيه, واما أن يشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك, وتعود الى سد النقب ولم شعث الحصن.

واذا دخل نقبه اليك نالك منه ثالث آفات: افساد الحصن, واالغارة على حواصله وذخائره, وداللة السراق من بني جنسه على عورته. فال تزال تبتلي منه بغارة بعد

غارة حتى يضعفوا قواك ويوهنوا عزمك فتتخلى عن الحصن وتخلي بينهم وبينه.

وهذه حال أكثر النفوس مع هذا العدو, ولهذا تراهم يسخطون ربهم برضا أنفسهم, بل برضا مخلوق مثلهم ال يملك لهم ضرا وال نفعا, ويضيعون كسب الدين

بكسب األموال, ويهلكون أنفسهم بما ال يبقى لهم, ويحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم, ويزهدون في اآلخرة وقد هجمت عليهم, ويخالفون ربهم باتباع

أهوائهم, ويتكلون على الحياة وال يذكرون الموت, ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون ما عهد الله اليهم, ويهتمون بما ضمنه الله لهم وال يهتمون بما أمرهم به,

ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها وال يحزنون على فوات الجنة وما فيها وال يفرحون بااليمان فرحهم بالدرهم والدينار, ويفسدون حقهم بباطلهم

125

Page 126: الفوائد بن القيّم

وهداهم بضاللهم ومعروفهم بمنكرهم, ويلبسون ايمانهم بظنونهم, ويخلطون حاللهم بحرامهم, ويترددون في حيرة آبائهم وأفكارهم, ويتركون هدى الله الذي أهداه اليهم. ومن العجب أن هذا العدو يستعمل صاحب الحصن في هدم حصنه

بيديه.

[ أركان الكفر96]

أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة.

فالكبر يمنعه االنقياد, والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها, والغضب يمنعه غ للعبادة. فاذا انهدم ركن الكبر سهل عليه االنقياد, العدل, والشهوة تمنعه التفر"

واذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله, واذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع, واذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف

والعبادة.

وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه األربعة عمن ابتلي بها, وال سيما اذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة, فانه ال يستقيم له معها عمل البتة وال تزكو نفسه مع قيامها بها. وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه األربعة, وكل اآلفات متولدة منها. واذا استحكمت في القلب أرته الباطل في

صورة الحق, والحق في صورة الباطل, والمعروف في صورة المنكر, والمنكر في صورة المعروف, وقربت منه الدنيا, وبعدت عنه اآلخرة, واذا تأملت كفر األمم

رأيته ناشئا منها, وعليها يقع العذاب, وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها. فمن فتحها على نفسه فتح عليه أبواب الشرور كلها عاجال وآجال, ومن أغلقها

على نفسه أغلق عنه أبواب الشرور, فانها تمنع االنقياد واالخالص والتوبة واالنابةوقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه.

ومنشأ هذه األربعة من جهله بربه وجهله بنفسه, فانه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجالل, وعرف نفسه بالنقائص واآلفات, لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدا على ما أتاه الله, فانه الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله,

فانه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله, ويحب زوالها عنه ويكره الله ذلك. فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته, ولذلك كان ابليس عدوه حقيقة ألن ذنبه كان عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده, والرضا به وعنه, واالنابة اليه, وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها ال تستحق أن يغضب لها

وينتقم لها, فان ذلك ايثار لها بالغضب والرضا على خالقها وفاطرها, وأعظم ما تدفع به هذه اآلفة أن يعو"دها أن تغضب له سبحانه وترضى له, فكلما دخلها شيء

من الغضب والرضا له خرج منها مقابله من الغضب والرضا لها, وكذا بالعكس.

وأما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن اعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها اياها ومنعها منها. وحميتها أعظم أسباب اتصالها اليها, فكلما فتحت عليك

126

Page 127: الفوائد بن القيّم

باب الشهوات منت ساعيا في حرمانها اياها, وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنتساعيا في ايصالها على أكمل الوجوه.

فالغضب مثل السبع اذا أفلته صاحبه بدأ بأكله, والشهوة مثل النار اذا أضرمها صاحبها بدأت بحرقه, والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه فان لم يهلكك طردك

عنه, والحسد بمنزلة معاداة من هو أقد منك, والذي يغلب شهوته وغضبه يفرقالشيطان من ظله. ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله )أي يخاف(.

[ )فصل عظيم النفع(97]الجهال بأسماء الله وصفاته

الجهال بأسماء الله وصفاته المعطلون لحقائقها يبغضون الله الى خلقه, ويقطعون عليهم طريق محبته والتودد اليه بطاعته من حيث ال يعلمون. ونحن

نذكر من ذلك أمثلة تحتذى عليها:

فمنها أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه ال تنفع معه طاعة, وان طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه. وأن العبد ليس على ثقة وال أمن من مكروه, بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب الى الماخور,

ومن التوحيد والمسبحة الى الشرك والمزمار. ويقلب قلبه من االيمان الخالص الى الكفر. ويروون في ذلك آثارا صحيحة لم يفهموها, وباطلة لم يقلها

المعصوم, ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد, ويتلون على ذلك قوله تعالى:} وال , وقوله:} أفأمنوا مكر الله فال يأمن مكر الله اال23يسأل عما يفعل{ األنبياء

, وقوله:} واعلموا أن الله يحول بين المرء99القوم الخاسرون{األعراف , ويقيمون ابليس حجة لهم على هذه المعرفة وأنه كان24وقلبه{األنفال

طاووس المالئكة, وأنه لم يترك في السماء رقعة, وال في األرض بقعة اال وله فيها سجدة أو ركعة, لكن جنى عليه جاني القدر, وسطا عليه الحكم, فقلب عينه

الطيبة, وجعلها أخبث شيء, حتى قال بعض عارفيهم: انك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف األسد الذي يثب عليك بغير جرم منك وال ذنب أتيته اليه. ويحتجون

بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها اال ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"

رقم )2036\4( ومسلم في القدر 3208 رقم )303\6البخاري في بدء الخلق ( وفي غير مواقع. ويروون عن بعض السلف: أكبر الكبائر األمن من مكر الله1

والقنوط من رحمة الله.

وذكر االمام أحمد عن عون بن عبد الله أو غيره أنه سمع رجال يدعو: اللهم تؤمني مكرك, فأنكر ذلك وقال: اللهم ال تجعلني ممن يأمن مكرك. وبنوا هذا على أصلهم الباطل وهو انكار الحكمة والتعليل واألسباب, فال يفعل لشيء وال بشيء,

وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب, وينع"م أعدائه وأهل معصيته بجزيل الثواب, وأن األمرين بالنسبة اليه سواء, وال يعلم امتناع ذلك اال بخبر من

127

Page 128: الفوائد بن القيّم

الصادق أنه ال يفعله. فحينئذ يعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنه ال يكون, ال ألنه في نفسه باطل وظلم, فان الظلم في نفسه مستحيل, فانه غير ممكن. بل هو

بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد. فهذا حقيقة الظلم عندهم. فاذا رجع العالم الى نفسه قال: من ال يستقر له أمر, وال يؤمن له مكر, كيف

ب اليه؟ وكيف يعول على طاعته واتباع أوامره, وليس بنا سوى هذه يوثق بالتقر" المدة اليسيرة؟ فاذا هجرنا فيها اللذات وتركنا الشهوات وتكلفنا أثقال العبادات,

وكنا مع ذلك على غير ثقة منه أن يقلب علينا االيمان كفرا, والتوحيد شركا, والطاعة معصية, والبر فجورا, ويديم علينا العقوبات, كنا خاسرين في الدنيا

واآلخرة.

فاذا استحكم هذا االعتقاد في قلوبهم, وتخم"ر في نفوسهم, صاروا اذا مروا بالطاعات وهجر اللذات بمنزلة انسان جعل يقول لولده: معلمك ان كتبت

وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربما أقام لك حجة وعاقبك, وان كسلت وبطلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربما قربك وكرمك, فيودع بهذا القول قلب الصبي ما ال يثق بعده الى وعيد المعلم على االساءة, وال وعده على االحسان, وان كبر

الصبي وصلح للمعامالت والمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من"س المحسن فيخل"ده في الحبس ويقتله الحبس فيجعله وزيرا أميرا, ويأخذ الكي

ويصلبه. فاذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه, وجعله على غير ثقة من وعد ووعيده, وأزال محبته من قلبه, وجعله يخافه مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة, والبريء بالعذاب, فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون األعمال نافعة أو ضارة, فال بفعل الخير يستأنس, وال بفعل الشر يستوحش, وهل هو تنفير عن

الله وتبغيضه الى عباده أكثر من هذا؟ ولو اجتهد المالحدة على تبغيض الدينوالتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.

وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر, ويرد على أهل البدع وينصر الدين, ولعمر الله العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل. وكتب الله

المنزلة كلها ورسله كلهم شاهدة بضد ذلك وال سيما القرآن. فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس لصلح العالم صالحا ال فساد معه, فالله

سبحانه أخبر وهو الصادق الوفي: أنه انما يعمل الناس بكسبهم ويجازيهم بأعماللهم وال يخاف المحسن لديه ظلما وال هضما, وال يخاف بخسا وال رهقا, وال

يضيع عمل محسن أبدا, وال يضيع على العبد مثقال ذرة, وال يظلمها, وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما, وان كان مثقالحبة من خردل جازاه بها وال يضيعها عليه. وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويحبطها بالتوبة والندم واالستغفار

والحسنات والمصائب, ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ويضاعفها الى سبعمائةضعف الى أضعاف كثيرة.

وهو الذي أصلح المفسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين, وهدى الضالين, وأنقذ الهالكين, وعلم الجاهلين, وبص"ر المتحيرين, وذكر الغافلين, وآوى الشاردين. واذا أوقع عقابا أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه, ودعوة العبد الى

128

Page 129: الفوائد بن القيّم

الرجوع اليه واالقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة, حتى اذا أيس من استجابته,ده, بحيث يعذر العبد واالقرار بربوبيته ووحدانيته, أخذه ببعض كفره وعتو"ه وتمر"

من نفسه, ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه, وأنه هو الظالم لنفسه, كما قال , وقال عمن أهلكهم11تعالى:} فاعترفوا بذنبهم فسحقا ألصحاب السعير{ الملك

في الدنيا انهم لما رأوا آياته, وأحسوا بعذابه:} قلوا يا ويلنا لنا كنا ظالمين * فما , وقال أصحاب14,15زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين{ األنبياء

الجنة )وهم أصحاب الحديقة أو البستان التي حكى القرآن قصتهم في سورة القلم وكانت الجنة لرجل يؤدي حق الله تعالى منها فلما مات صار الى بنيه

فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها فأهلكها الله. الجامع ألحكام القرآن( التي أفسدها عليهم لما رأوها قالوا:406\4, وتفسير ابن كثير 156\18

, وقال الحسن: لقد دخلوا النار وان" حمده29} سبحان ربنا انا كنا ظالمين{القلم لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة وال سبيال. ولهذا قال تعالى:} فقطع دابر القوم

.45الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين{ األنعام

فهذه الجملة في موضع الحال أي قطع دابرهم كونه سبحانه محمودا على ذلك, فقطع دابرهم قطعا مصاحبا لحمده, فهو قطع واهالك يحمد عليه الرب تعالى

لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الذي ال يليق به غيرها. فوضعها في الموقع الذي يقول من علم الحال: ال تليق العقوبة اال بهذا المحل, وال يليق به

اال العقوبة. ولهذا قال عقيب اخباره عن الحكم بين عباده, ومصير أهل السعادة الى الخنة, وأهل الشقاء الى النار:} قضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب

, فحذف فاعل القول اشعارا بالعموم وأن الكون كله قال:75العالمين{ الزمر } الحمد لله رب العالمين{ لما شاهدوا من حكمة الحق وعدله وفضله. ولهذا قال

, كأن الكون كله يقول72في حق أهل النار:} قيل ادخلوا أبواب جهنم{الزمر ذلك حتى تقوله أعضاءهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم, وهو سبحانه يخبر أنه اذا

أهلك أعداءه نج"ى أولياءه وال يعمهم بالهالك بمحض المشيئة.

ولما سأله نوح نجاة ابنه أخبره أنه يغرقه بسوء أعماله وكفره, ولم يقل اني أغرقه بمحض مشيئتي وارادتي بال سبب وال ذنب. وقد ضمن سبحانه زيادة

الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم.

وكذلك ضمن زيادة الهداية للكتقين الذين يتبعون رضوانه, وأخبر أنه ال يضل اال الفاسقيت الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه, وأنه انما يضل من آثر الضالل

واختاره على الهدى, فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه, وانه يقلب قلب من لم يرض بهداه اذا جاءه ولم يؤمن به, ودفعه ورد"ه, فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه لما تحققه وعرفه, وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم

عليها بالضالل والشقاء خيرا ألفهمها وهداها, ولكنها ال تصلح لنعمته وال تليق بهاكرامته.

129

Page 130: الفوائد بن القيّم

وقد أزاح سبحانه العلل, وأقام الحجج, ومك"ن من أسباب الهداية, وأنه ال يضل اال الفاسقين الضالين الظالمين, وال يطبع اال على قلوب المعتدين, وال يركس في

الفتنة اال المنافقين بكسبهم, وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال:} كال بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون{

, وقال عن أعدائه اليهود:} وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها14المطففين , وأخبر أنه ال يضل من هداه حتى يتبين له ما يتقى, فيختار155بكفرهم{ النساء

لشقوته وسوء طبيعة الضالل على الهدى والغي على الرشاد, ويكون مع نفسهوشيطانه وعدو ربه عليه.

وأما المكر الذي وصف به نفسه, فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله, فيقابل مكرهم السيء بمكره الحسن, فيكون المكر منهم أقبح شيء, ومنه أحسن شيء

ألنه عدل ومجازاة. وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه, فالأحسن من تلك المخادعة والمكر.

وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها اال ذراع فيسبق عليه الكتاب, فان عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس, ولو كان عمال صالحا مقبوال

للجنة قد أحبه الله ورضيه ولم يبطله عليه.

وقوله:" لم يبق بينه وبينها اال ذراع" يشكل على هذا التأويل, فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له, بل كان فيه آفة كامنة, ونكتة خذل بها في آخر عمره, فخانته تلك اآلفة الداهية الباطنة في وقت الحاجة, فرجع الى موجبها وعملت عملها, ولو لم يكن هناك غش وآفة لم

يقلب الله ايمانه, لقد أورده مع صدقه فيه واخالصه بغير سبب منه يقتضيافساده عليه, والله يعلم من سائر العباد ما ال يعلمه بعضهم من بعض.

وأما شأن ابليس: فان الله سبحانه قال للمالئكة:} اني أعلم ما ال تعلمون{ , فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب ابليس من الكفر والكبر والحسد30البقرة

ما ال يعلمه المالئكة, فلما أمروا بالسجود, ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية واالنقياد, فبادروا الى االمتثال, وظهر ما في قلب عدوه من

الكبر والغش والحسد, فأبى واستكبر, وكان من الكافرين.

وأما خوف أوليائه من مكره فحق, فانهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون الى الشقاء, فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته, وقوله:} أفأمنوا

, انما هو حق الفجار والكفار.99مكر الله{ األعراف

ومعنى اآلية: فال يعصي ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره اال القوم الخاسرون. والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب األفعال

ة وفترة. فيحصل منهم نوع اغترار, فيأنسوا بالذنوب, فيجيئهم العذاب على غر"

130

Page 131: الفوائد بن القيّم

وأمر آخر: وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم اذا تخلوا عن ذكره وطاعته, فيسرع اليهم البالء والفتنة فيكون مكره بهم تخليه عنهم.

وأمر آخر: أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما ال يعلمونه من نفوسهم, فيأتيهم المكر من حيث ال يشعرون.

وأمر آخر: أن يمتحنهم ويبتليهم بما ال صبر لهم عليه, فيفتنون به, وذلك مكر.

[ التوحيد والسنة شجرة في القلب فروعها األعمال98]

السنة شجرة, والشهور فروعها, واأليام أغصانها, والساعات أوراقها, واألنفاس ثمرها. فمن كانت أنفاسه في طاعة, فثمرة شجرته طيبة, ومن كانت في معصية

فثمرته حنظل. وانما يكون الجذاذ يوم المعاد, فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار منها. مر"

واالخالص والتوحيد شجرة في القلب, فروعها األعمال, وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في اآلخرة. وكما أن ثمار الجنة ال مقطوعة وال ممنوعة,

فثمرة التوحيد واالخالص في الدنيا كذلك. والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب, ثمرها في الدنيا الخوف والهمم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب,

وثمرها في اآلخرة الزق"وم والعذاب المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين فيسورة ابراهيم.

اذا بلغ العبد أعطى عهده الذي عهده اليه خالقه ومالكه, فاذا أخذ عهده بقوة وقبول, وعزم على تنفيذ ما فيه, صلح للمراتب والمناصب التي يصلح لها

الموفون بعهودهم, فاذا هز نفسه عند أخذ العهد, وانتخاها وقال: قد أه"لت لعهد ربي, فمن أولى بقبوله وفهمه وتنفيذه مني؟ فحرص أوال على فهم عهده وتدبره

ومعرفة وصايا سيده له, ثم وط"ن نفسه على امتثال ما في عهده, والعمل به, وتنفيذه حسبما تضم"ن عهده, فأبصر بقلبه حقيقة العهد وما تضمنه, فاستحدث همة أخرى, وعزيمة غير العزيمة التي كان فيها وقت الصبا, قبل وصول العهد,

فاستقال من ظلمة غرة الصبا واالنقياد للعادة والمنشأ, وصبر على شرف الهمة وهتك ستر الظلمة الى نةر اليقين, فأدرك بقدر صبره وصدق اجتهاده ما وهبه

الله له من فضله.

فأول مراتب سعادته أن تكون له أذن واعية, وقلب يعقل ما تعيه األذن. فاذا سمع وعقل, واستبانت له الجادة, ورأى عليها تلك األعالم, ورأى أكثر الناس

منحرفين عنها يمينا وشماال فلزمها, ولم ينحرف مع المنحرفين الذين كان سبب انحرافهم عدم قبول العهد, أو قبلوه بكره, ولم يأخذوه بقوة وال عزيمة, وال حدثوا

أنفسهم بفهمه وتدبره, والعمل بما فيه, وتنفيذ وصاياه, بل عرض عليهم العهد ومعهم ضراوة الصبا ودين العادة, وما ألفوا عليه اآلباء واألمهات, فتلقوا العهد

131

Page 132: الفوائد بن القيّم

تلقي من هو مكتف بما وجد عليه آباءه وسلفه, وعادته ال تكفي من يجمع همه وقلبه على فهم العهد والعمل به, حتى كأن ذلك العهد أتاه وحده, وقيل له: تأمل ما فيه ثم اعمل بموجبه, فاذا لم يتلق عهده هذا التلقي أخلد الى سيرة القرابة, وما استمرت عليه عادة أهله وأصحابه وجيرانه وأهل بلده, فان علت همته أخلد

الى ما عليه سلفه ومن تقدمه من غير التفات الى تدبر العهد وفهمه, فرضيلنفسه أن يكون دينه دين العادة.

فاذا شامه الشيطان ورأى هذا مبلغ همته وعزيمته, رماه بالعصبية والحمية لآلباء "ن له أن هذا هو الحق وما خالفه باطل, ومثل له الهدى في صورة وسلفه, وزي

الضالل, والضالل في صورة الهدى, بتلك العصبية والحمية التي أسست على غير علم, فرضاه أن يكون مع عشيرته وقومه, له ما لهم, وعليه ما عليهم, فخذل عن

الهدى وواله الله ما تول"ى, فلو جاءه كل هدى يخالف قومه وعشيرته لم يره اال ضاللة. واذا كانت همته أعلى من ذلك وأشرف وقدره أعلى, أقبل على حفظ

عهده وفهمه وتدبره, وعلم أن لصاحب العهد شأنا ليس كشأ، غيره, فأخذ نفسه بمعرفته من العهد نفسه, فوجده قد تعرف اليه وعرفه نفسه وصفاته وأسماءه وأفعاله وأحكامه, فعرف من ذلك العهد قيوما بنفسه, مقيما لغيره, غنيا عن كل

ما سواه, وكل ما سواه فقير اليه, مستو على عرشه فوق جميع خلقه, يرى ويسمع, ويرضى ويغضب, ويحب ويبغض, ويدبر أمر مملكته, وهو فوق عرشه

متكلم, آمر ناه, يرسل رسله الى أقطار مملكته بكالمه الذي يسمعه من يشاء من خلقه, وأنه قائم بالقسط, مجاز باالحسان واالساءة, وأ،ه حليم غفور, شكور

ه عن كل عيب ونقص, وأنه ال مثل له. جواد محسن, موصوف بكل كمال, منز"

ويشهد حكمته في تدبير مملكته, وكيف يقد"ر مقاديره بمشيئته, غير مضادة لعدله وحكمته, وتظاهر عنده العقل والشرع والفطرة, فصدق كل منهما صاحبيه, وفهم عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه التي نزل

بها الكتاب, وبها نطق, ولها أثبت وحقق, وبها تعرف الى عباده, حتى أقر"ت بهالعقول, وشهدت به الفطر.

فاذا عرف بقلبه وتيقن صفات صاحب العهد, أشرقت أنوارها على قلبه, فصارت له كالمعاينة, فرأى حينئذ تعلقها بالخلق واألمر,وارتباطهما بها, وسريان آثارها في

العالم الحسي والعالم الروحي, ورأى تصرفها في الخالئق, كيف عم"ت وخص"ت,بت وأبعدت, وأعطت ومنعت, فشهد بقلبه مواقع عدله سبحانه وقسطه وقر"

وفضله ورحمته, واجتمع له االيمان بلزوم حجته, مع نفوذ أقضيته, وكمال قدرته,"ته, مع كمال عدله وحكمته, ونهاية علو"ه على جميع خلقه,مع احاطته ومعي

وعظمته وجالله, وكبريائه وبطشه وانتقامه, مع رحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه, ورأى لزوم الحجة مع قهر المقادير التي ال خروج لمخلوق عنها. وكيف اصطحاب الصفات وتوافقها, وشهادة بعضها لبعض, وانعطاف الحمة التي هي

نهاية وغاية على المقادير التي هي أول وبداية. ورجوع فروعها الى اصولها, ومبادئها الى غاياتها, حتى كأنه يشاهد مبادىء الحكمة, وتأسيس القضايا على

132

Page 133: الفوائد بن القيّم

وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة واالحسان, ال تخرج قضية عن ذلك اال انقضاء األكوان, وانفصال األحكام يوم الفصل بين العباد, وظهور عدله وحكمته,"ها, مؤمنها وكافرها. وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة, انسها وجن

وحينئذ يتبين من صفات جالله ونعوت كماله للخلق ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك, حتى ان أعرف خلقه به في الدنيا يثني عليه يومئذ من صفات كماله ونعوت

جالله ما لم يكن يحسنه في الدنيا, وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم األسباب"ون, وانقطع المنقطعون, فيكون الفرق بين التي زاغ بها الزائغون, وضل" الضال

العلم يومئذ بحقائق الصفات والعلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنارومشاهدتهما أعظم من ذلك.

وكذلك يفهم من العهد كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع وأن ال يترك خلقه سدى, وكيف اقتضت كا تضم"نته من األوامر والنواهي, وكيف

اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد, وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته,ه عما زعم أعداؤه من انكار ذلك, ويرى شمول القدرة, واحاطتها بجميع بحيث ينز"

الكائنات, حتى ال يشذ" عنها مقال ذرة, ويرى أنه لو كان معه اله آخر لفسد هذاالعالم, فكانت تفسد السموات واألرض ومن فيهن.

وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدك هذا العالم بأسره, ولم يثبت "د بهما جميع عباده, كيف طرفة عين. ويرى مع ذلك االسالم وااليمان الذين تعب

انبعاثهما من الصفات المقدسة, وكيف اقتضيا الثواب والعقاب عاجال وآجال. ويرى مع ذلك أنه ال يستقيم قبول هذا العهد والتزامه لمن جحد صفاته, وأنكر علوه على

خلقه وتكلمه بكتبه وعهوده, كما ال يستقيم قبوله لمن أنكر حقيقة سمعه وبصره وحياه وارادته وقدرته, وأن هؤالء هم الذين ردوا عهده وأبوا قبوله, وأن من قبله

منهم لم يقبله بجميع ما فيه, وبالله التوفيق.

[ خلق بدن آدم من األرض وروحه من ملكوت السماء99]

خلق بدن آدم من األرض وروحه من ملكوت السماء, وقرن بينهما. فاذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة, وجدت روحه خفة وراحة, فتاقت الى الموضع

الذي خلقت منه, واشتاقت الى عالمها العلوي. واذا أشبعه ونع"مه ونومه واشتغل بخدمته وراحته, أخلد البدن الى الموضع الذي خلق منه, فانجذبت الروح معه,

فصارت في السجن, فلوال أنها ألفت السجن الستغاثت من ألم مفرقتهاوانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه كما يستغيث المعذ"ب.

وبالجملة, فكلما خف البدن لطفت الروح, وخفت وطلبت عالمها العلوي. وكلما ثقل وأخلد الى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها

"ة, فترى الرجل روحه في الرفيق األعلى وبدنه عندك, وصارت أرضية سفلي

133

Page 134: الفوائد بن القيّم

فيكون نائما على فراشه وروحه عند سدرة المنهى تجولحول العرش, وآخر واقف في الخدمة ببدنه وروحه في السفل تجول حول السفليات. فاذا فارقت الروح

ة عين, وكل البدن, التحقت برفيقها األعلى أو األدنى, فعند الرفيق األعلى كل قر" نعيم وسرور, وبهجة ولذة, وحياة طيبة, وعند الرفيق األسفل كل هم وغم, وضيق

وحزن, وحياة نكدة, ومعيشة ضنك, قال تعالى:} ومن أعرض عن ذكري فان له.124معيشة ضنكا { طه

فذكره كالمه الذي أنزله على رسوله, واألعراض عنه ترك تدبره والعمل به. والمعيشة الضنك, فأكثر ما جاء في التفسير أنهاعذاب القبر, قاله ابن مسعود

وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس. وفيه حديث مرفوع. ) ذكره ابن كثير في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

في قول الله عز وجل:} فان له معيشة ضنكا{ قال:" ضم"ة القبر له". تفسير ابن.169\3كثير

وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة, وكل ما ضاق فهو ضنك, يقال: منزل ضنك وعيش ضنك, فهذه المعيشة الضنك, في مقابلة التوسيع على النفس

"قت على والبدن بالشهوات واللذات والراحة. فان النفس كلما وسعت عليها ضي"قت عليها وسعت على القلب حتى القلب حتى تعيش معيشة ضنكا, وكلما ضي ينشرح وينفسح. فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ

واآلخرة, وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ واآلخرة, فآثرأحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومها.

فأشق البدن بنعيم الروح وال تشق الروح بنعيم البدن, فان نعيم الروح وشقاءها أدوم وأعظم, ونعيم البدن وشقاءه أقصر وأهون, والله المستعان.

العارف ال يأمر الناس بترك الدنيا فانهم ال يقدرون على تركها, ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع اقامتهم على دنياهم, فترك الدنيا فضيلة, وترك الذنوب فريضة.

فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة! فان صعب عليهم ترك الذنوب, فاجتهد أن تحبب الله اليهم بذكر آالئه وانعامه واحسانه وصفات كماله ونعوت

جالله, فان القلوب مفطورة على محبته. فاذا تعلقت بحبه هان عليك ترك الذنوب, واالصرار عليها, واالستقالل منها, وقد قال يحي بن معاذ:" طلب العاقل

لدنيا خير من ترك الجاهل لها".

العارف يدعو الناس الى الله من دنياهم, فتسهل عليهم االجابة, والزاهد يدعوهم الى الله بترك الدنيا, فتشق عليهم االجابة. فان الفطام عن الثدي الذي

ما عقل االنسان نفسه اال وهو يرتضع منه شديد, ولكن تخير من المرضعات أزكاهن وأفضلهن, فان للبن تأثيرا في طبيعة المرتضع, ورضاع المرأة الحمقى يعود بحمق الولد. وأنفع الرضاعة ما كان من المجاعة, فان قويت على مرارة

الفطام واال فارتضع بقدر, فان من البشم ما يقتل.

134

Page 135: الفوائد بن القيّم

[ رعاية الحقوق مع الضر ورعايتها مع العافية100]

ان عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مالق قرنه:} يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم . ليس العجب من صحيح45فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون{ األنفال

فارغ واقف مع الخدمة, انما العجب من ضعيف سقيم تعتوره األشغال, وتختلفعليه األحوال, وقلبه في الخدمة, غير متخلف بما يقدر عليه.

[ معرفة الله تعالى نوعان101]

النوع األول: معرفة واقرار, وهي التي اشترك فيها الناس, البر والفاجر, والمطيعوالعاصي.

النوع الثاني: معرفة توجب الحياء منه, والمحبة له, وتعلق القلب به, والشوق الى لقائه, وخشيته, واالنابة اليه, واألنس به, والفرار من الخلق اليه. وهذه هي

المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم, وتفاوتهم فيما ال يحصيه اال الذي عرفهم بنفسه, وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم, وكل أشار الى

هذه المعرفة بحسب مقامه وما كشف له منها. وقد قال أعرف الخلق به:" ال رقم352\1أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك" مسلم في الصالة

. وأخبر انه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما ال يحسنه اآلن.222

"ر والتأم"ل في آيات القرآن كلها, والفهم ولهذه المعرفة بابان واسعان: باب التفك"ر في آياته الخاص عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والباب الثاني: التفك

المشهودة, وتأمل حكمته فيها, وقدرته ولطفه, واحسانه وعدله, وقيامه بالقسط على خلقه. وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى, وجاللها وكمالها,

"قها بالخلق واألمر, فيكون فقيها في أوامره ونواهيه, فقيها في ده بذلك, وتعل وتفر" قضائه وقدره, فقيها في أسمائه وصفاته, فقيها في الحكم الديني الشرعي

والحكم الكوني القدري, و:} ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل.21العظيم{ الحديد

[ أنواع الكسب102]

الدراهم أربعة: درهم اكتسب بطاعة الله, وأخرج في حق الله, فذاك خير الدراهم, ودرهم اكتسب بمعصية, وأخرج في معصية الله, فذاك شر الدراهم,

ودرهم اكتسب في أذى مسلم, وأخرج في أذى مسلم فهو كذلك, ودرهم اكتسببمباح, وأنفق في شهوة فذاك ال له وال عليه.

135

Page 136: الفوائد بن القيّم

ع عليها دراهم أخر: منها درهم اكتسب بحق وأنفق في هذه أصول الدراهم ويتفر" باطل, ودرهم اكتسب بباطل وأنفق في حق فانفاقه كف"ارته, ودرهم اكتسب من

شبهة فكف"ارته أن ينفق في طاعة الله.

وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم باخراج الدرهم فكذلك يتعلق باكتسابه. وكذلك يسأل عن مستخرجه ومصروفه من أين اكتسبه وفيما أنفقه.

[ مواساة المؤمن وأنواعها103]

المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال, ومواساة بالجاه, ومواساة بالبدن والخدمة, ومواساة بالنصيحة واالرشاد, ومواساة بالدعاء واالستغفار لهم,

ومواساة بالتوجع لهم. وعلى قدر االيمان تكون هذه المواساة. فكلما ضعف االيمان ضعفت المواساة, وكلما قوى قويت, وكان رسول الله صلى الله عليه

وسلم أعظم مواساة ألصحابه بذلك كله, فألتباعه من المواساة بحسب اتباعهمله.

ودخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض, فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم, فأحببت أن

أواسيهم في بردهم.

[ الجهل بالطريق يورث التعب104]

الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة, فان صاحبه اما أن يجتهد في نافلة مع اضاعة الفرض, أو في عمل الجوارح لم يواطئه

عمل القلب, أو عمل بالباطن والظاهر لم يتقيد باالقتداء, أو همة الى عمل لم ترق صاحبها الى مالحظة المقصود, أو عمل لم يحترز من آفاته المفسدة له حال

د عن مشاركة "ة, فلم يتجر" العمل وبعده, أ, عمل غفل فيه عن مشاهدة المن النفس فيه, أو عمل لم يشهد تقصيره فيه, فيقوم بعده في مقام االعتذارمنه, أو"ه وف"اه, فهذا كله مما ينقض عمل لم يوف"ه حقه من النصح واالحسان, وهويظن أن

الثمرة مع كثرة التعب, والله الموف"ق.

[ الرحلة الى الله تعالى وما يكتنفها من الخوادع والقواطع105]

اذا عزم العبد على السفر الى الله تعالى وارادته, عرضت له الخوادع والقواطع, فيتخدع أوال بالشهوات والرئاسات, والمالذ والمناكح والمالبس, فان وقف معها

انقطع, وان رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتلي بوطء عقبه)كثير

136

Page 137: الفوائد بن القيّم

األتباع(, وتقبيل يده, والتوسعة له في المجلس, واالشارة اليه بالدعاء, ورجاء بركته, ونحو ذلك. فان وقف معه انقطع به عن الله وكان حظه منه, وان قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات والكشوفات, فان وقف معها انقطع بها عن الله

وكانت حظ"ه, وان لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الةحدة والفراغ من الدنيا. فان وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود, وان لم

يقف معه, وسار ناظرا الى مراد الله منه, وما يحبه منه, بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت وكيف كانت, تعب بها أو استراح, تنع"م

"م, أخرجته الى الناس أو عزلته عنهم, ال يختار لنفسه غير ما يختاره له سيده أو تأل ووليه, واقف مع أمره ينفذ بحسب االمكان, ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم

راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره. فهذا هو العبد الذي قد وصل, ونفذ ولميقطعه عن سيده شيء البتة, وبالله التوفيق.

[ نعم الله تعالى وأنواعها106]

النعم ثالثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد, ونعمة منتظرة يرجوها, ونعمة هو فيها ال فه نعمته الحاضرة وأعطاه من يشعر بها, فاذا أراد الله اتمام نعمته على عبده عر""د بالشكر. ووفقه "دها به حتى ال تشرد, فانها تشرد بالمعصية, وتقي شكره قيدا يقي

لعمل يستجلب النعمة المنتظرة, وبص"ره بالطرق الي تسدها وتقطع طريقها,فه النعم التي هو ووفقه الجتنابها. واذا بها قد وافت اليه على أتم الوجوه, وعر"

فيها وال يشعر بها.

"ت الله عليك ويحكى أن أعرابيا دخل على الرشيد, فقال يا أمير المؤمنين ثب النعم التي أنت فيها بادامة شكرها, وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن بهفك النعم التي أنت فيها وال تعرفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه ودوام طاعته, وعر"

وقال: ما أحسن تقسيمه.

)قاعدة جليلة(الخواطر واألفكار مبدأ كل علم نظري

مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر واألفكار, فانها توجب التصورات, والتصورات تدعو الى االرادات, واالرادات تقتضي وقوع الفعل, وكثرة تكراره

تعطي العادة. فصالح هذه المراتب بصالح الخواطر واألفكار, وفسادها بفسادها. فصالح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها والهها صاعدة اليه, دائرة على مرضاته ومحابه, فانه سبحانه به كل صالح, ومن عنده كل هدى, ومن توفيقه كل رشد,

"يه واعراضه عنه كل ضالل وشقاء. فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد, ومن تول بقدر اثبات عين فكرته في آالئه ونعمه وتوحيده, وطرق معرفته, وطرق عبوديته, وانزاله اياه حاضرا معه, مشاهدا له, ناظرا اليه, رقيبا عليه, مط"لعا على خواطره

وارادته وهم"ه فحينئذ يستحيي منه, ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلععليها مخلوق مثله, أو يرى في نفسه خاطرا يمقته عليه.

137

Page 138: الفوائد بن القيّم

به منه, وأكرمه واجتباه ووااله, وبقدر فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقر" ذلك يبعد عنه األوساخ والدناءات والخواطر الرديئة واألفكار الدنيئة. كما أنه كلما

بعد منه وأعرض عنه قرب من األوساخ والدناءات واألقذار, ويقطع عنه جميعالكماالت ويتصل بجميع النقائص.

ب من بارئه, والتزم أوامره ونواهيه, وعمل فاالنسان خير المخلوقات, اذا تقر" بمرضاته, وآثره على هواه. وشر" المخلوقات اذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربهب اليه, وآثره على نفسه وهواه, فقد وطاعته وابتغاء مرضاته. فمتى اختار التقر"

"ه, وهداه "م رشده على غي "م قلبه وعقله وايمانه على نفسه وشيطانه, وحك حك على هواه. ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله

وقلبه ورشده.

واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها الى الفكر, فيأخذها الفكر فيؤديها الى التذكر. فيأخذها الذكر فيؤديها الى االرادة, فتأخذها االرادة فتؤديها

دها من مبادئها أسهل من قطعها الى الجوارح والعمل, فتستحكم فتصير عادة, فر" بعد قوتها وتمامها. فانها تهجم عليه هجوم النفس, اال ان قوة االيمان والعقل تعينه

على قبول أحسنها, ورضاه به, ومساكنته له, وعلى دفع أقبحها, وكراهته له, ونفرته منه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: يا رسول الله, ان أحدنا يجد في

نفسه ما ألن يحترق حتى يصير حممة أحب اليه من أن يتكلم به, فقال:"أوقد رقم119\1وجدتموه؟" قالوا: نعم, قال: "ذاك صريح االيمان" مسلم في االيمان

. وفي لفظ "الحمد لله الذي رد كيده الى الوسوسة". أبو داود في األدب209.5112 رقم 330 329\4باب رد الوسوسة

وفيه قوالن: أحدهما: أن رده وكراهته صريح االيمان. والثاني: أن وجوده والقاء الشيطان له في النفس صريح االيمان, فانه انما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة

االيمان وازالته به.

وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي ال تسكن وال بد لها من شيء تطحنه, فان وضع فيها حب طحنته, وان وضع فيها تراب أو حصى طحنته.

فاألفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى, وال تبقى تلك الرحى معطلة قط, بل ال بد من شيء يوضع فيها, فمن

الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره, وأكثرهم يطحن رمال"ن له حقيقة طحينه. وحصى وتبنا ونحو ذلك, فاذا جاء وقت تاعجن والخبز تبي

فاذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده, وان قبلته صار فكرا جو"اال, فاستخدم االرادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح, قان تعذ"ر

استخدامها رجعا الى القلب بالتمني والشهوة, وتوجههوالى جهة المراد. ومن المعلوم أن اصالح الخواطر أسهل من اصالح األفكار, واصالح األفكار أسهل من

138

Page 139: الفوائد بن القيّم

اصالح االرادات, واصالح االرادات أسهل من تدارك فساد العمل, وتداركه أسهل من قطع العوائد. فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما ال

"ر فيما ال يعنيه, فاته ما يعنيه, يعنيك, فالفكر في ما ال يعني باب كل شر, ومن فك واشتغل عن أنفع األشياء له بما ما ال منفعة له فيه, فالفكر والخواطر, واالرادة

والهمة أحق شيء باصالحه من نفسك, فان هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب بها من الهك ومعبودك الذي ال سعادة لك اال في قربه ورضاه عنك, وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك, ومن كان في خواطره ومجاالت فكره دنيئا

خسيسا لم يكن في سائر أمره اال كذلك.

"ن الشيطان من بيت أفكارك واراداتك, فانه يفسدها عليك فسدا "اك أ، تمك واية, ويحول بينك وبين يصعب تداركه, ويلقي اليك أنواع الوساوس واألفكار المضر"

الفكر فيما ينفعك, وأنت الذي أعنته على نفسك, بتمكينه من قلبك وخوطرك"د الحبوب, فأتاه فملكها عليك. فمثلك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جي

شخص معه حمل تراب وبعر فحم وغثاء ليطحنه في طاحونه, فان طرده ولم"نه من يمكنه من القاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه, وان مك

القاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس ال يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان

على خالف ذلك, وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون. أ, فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام, أو في خياالت وهمية ال حقيقة لها أو في باطل, أو فيما ال سبيل الى ادراكه من أنواع ما طوى عنه علمه, فيلقيه في تلك الخواطر

التي ال يبلغ منها غاية, وال يقف منها على نهاية, فيجعل ذلك مجال فكره ومسرحهم"ه.

وجماع اصالح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه, وفي الموت وما بعده الى دخول الجنة والنار. وفي آفات األعمال وطرق التحرز منها. وفي باب االرادات والعزوم أن تشغل نفسك"ى بارادة ما ينفعك ارادته, وطرح ارادة ما يضرك ارادته. وعند العارفين أن تمن

الخيانة واشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة, وال سيما اذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها, فان تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها

همه ومراده.

وأنت تجد في الشاهد أن الملك في البشر اذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلىء منها, وهو مع ذلك في خدمته

وقضاء أشغاله, فاذا اط"لع على سره وقصده, مقته غاية المقت, وأبغضه, وقابله بما يستحق"ه, وكان أبغض اليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسره

"ي الخيانة ومحبتها والحرص عليها, فاألو"ل يتركها مع الملك غير منطو على تمن عجزا واشتغاال بما هو فيه وقلبه ممنلىء بها, والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليسفيه اضمار الخيانة وال االصرار عليها, فهذا أحسن حاال وأسلم علقبة من األول.

139

Page 140: الفوائد بن القيّم

وبالجملة, فالقلب ال يخلو قط من الفكر اما في واجب آخرته ومصالحها, واما في مصالح دنياه ومعاشه, واما في الوساوس واألماني الباطلة والمقدرات

المفروضة. وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقى فيها, فان ألقيت فيها حبا دارت به, وان ألقيت فيها حصى وزجاجا وبعرا دارت به, والله سبحانه هو

فها وقد أقام لها ملكا يلقي فيها ما ينفعها فتدور "م تلك الرحى ومالكها ومصر" قي به, وشيطانا يلقي فيها ما يضر فتدور به, فالملك يلم مرة والشيطان يلم بها مرة,

فالحب الذي يلقيه الملك ايعاد بالخير وتصديق بالوعد, والحب الذي يلقيه الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالوعد. والطحين على قدر الحب, وصاحب الحب"مها قد أهملها المضر ال يتمكن من القائه اال اذا وجد الرحى فارغة من الحب وقي

وأعرض عنها, فحينئذ يبادر الى القاء ما معه فيها.

"م الرحى اذا تخلى عنها وعن اصالحها وعن القاء الحب النافع فيها وبالجملة, فقي وجد العدو السبيل الى افسادها وادارتها بما معه. وأصل صالح هذه الرحى

باالشتغال بما يعنيك, وفاسدها كله االشتغال بما ال يعنيك, وما أحسن ما قال بعض العقالء: لما وجدت أنواع الذخائر منصوبة غرضا للمتالف, ورأيت الزوال حاكما

عليها مدركا لها, انصرفت عن جميعها الى ما ال ينازع فيه ذو الحجا أنه أنفعالذخائر وأفضل المكاسب وأربح المتاجر, والله المستعان.

[ من أقوال شفيق البلخي108]

قال شفيق بن ابرهيم: أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها. ورغبتهم في العلم, وتركهم العمل. والمسارعة الى الذنب

وتأخير التوبة. واالغترار بصحبة الصالحين وترك االقتداء بفعالهم. وادبار الدنياعنهم وهم يتبعونها. واقبال اآلخرة عليهم وهم معرضون عنها.

قلت: وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة, وأصله ضعف اليقين, وأصله ضعف البصيرة, وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدالها بالذي هو خير. واال فلو مانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون. فأصل الخير كله- بتوفيق الله ومشيئته-وشرف النفس وكبرها ونبلها. وأصل الشر خستها ودناءتها وصغرها, قال تعال:

اها{ الشمس "اها * وقد خاب من دس" "رها10 9} قد أفلح من زك , أي أفلح من كب"رها ونم"اها بطاعة الله, وخاب من صغ"رها وحق"رها بمعاصي الله. وكث

فالنفوس الشريفة ال ترضى من األشياء اال بأعالها وأفضلها وأحمدها عاقبة, والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على األقذار."ة ال ترضى بالظلم وال بالفواحش وال بالسرقة والخيانة, فالنفس الشريفة العلي ألنها أكبر من ذلك وأجل. والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك.

فكل نفس تميل الى ما يناسبها ويشاكلها, وهذا معنى قوله تعالى:} قل كل يعمل , أي على ما يشاكله ويناسبه, فهو يعمل على طريقته84على شاكلته{ االسراء

التي تناسب أخالقه وطبيعته, وكل انسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته الي

140

Page 141: الفوائد بن القيّم

ألفها وجبل عليها. فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي, واالعراض عن المنعم, والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر النعم, ومحبته والثناء

عليه, والتودد اليه والحياء منه, والمراقبة له, وتعظيمه واجالله.

[ اعرف نفسك تعرف ربك109]

من لم يعرف نفسه, كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن اللع تعالى قد خلق في صدرك بيتا وهو القلب, ووضع في صدره عرشا لمعرفته, يستوي عليه المثل

األعلى, فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه, والمثل األعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستو على سرير القلب, وعلى السرير بساط من الرضا. ووضع

عن يمينه وعن شماله مرافق شرائعه وأوامره, وفتح اليه بابا من جنة رحمته, واألنس به, والشوق الى لقائه, وأمطره من وابل كالمه. ما أنبت فيه أصناف الرياحين, واألشجار المثمرة من أنواع الطاعات, والتهليل والتسبيح والتحميد

والتقديس وجعل في وسط البستان شجرة معرفة, فهي:} تؤتي أكلها كل حين , من المحبة واالنابة والخشية والفرح به واالبتهاج بقربه.25باذن ربها{ ابراهيم

"ر كالمه وفهمه والعمل بوصاياه. وعل"ق وأجرى الى تلك الشجرة ما يسقيها من تدب في ذلك البيت قنديال, أسرجه بضياء معرفته, وااليمان به وتوحيده. فهو يستمد

من: }شجرة مباركة زيتونة ال شرقية وال غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه . ثم أحاط عليه حائطا يمنعه من دخول اآلفات والمفسدين ومن35نار{ النور

يؤذي البستان, فال يلحقه أذاهم, وأقام عليه حرسا من المالئكة يحفظونه في يقظته ومنامه, ثم أ‘لم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائما همه اصالح السكن ولم شعثه, ليرضاه السكن منزال. واذا أحس بأدنى شعث في السكن, بادر

الى اصالحه, ولم"ه خشية انتقال السكن منه, فنعم السكن ونعم المسكن.

فسبحان الله رب العالمين, كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب, وصار مأوى للحشرات والهوام, ومحال اللقاء األنتان والقاذورات فيه. فمن أراد

التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة ال ساكن فيها, وال حافظ لها, وهي معدة لقضاء الحاجة, مظلمة األرجاء, منتنة الرائحة, قد عم"ها الخراب, ومألتها القاذورات, فال يأنس بها, وال ينزل فيها اال من يناسبه سكنها من الحشرات, والديدان والهوام.

الشيطان جالس على سريرها, وعلى السرير بساط من الجهل, وتخفق فيه األهواء, وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات, وقد فتح اليه باب من حقل الخذالن

والوحشة, والركون الى الدنيا, والطمأنينة بها, والزهد في اآلخرة, وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل,

واألشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات, من الزوائد والتنديبات , والنوادر والهزليات والمضحكات, واألشعار الغزليات, والخمريات التي تهيج على ارتكاب

المحرمات, وتزهد في الطاعات. وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به واالعراض عنه, فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي, واللهو واللعب,

والمجون والذهاب مع كل ريح, واتباع كل شهوة. ومن ثمرها الهموم والغموم واألحزان واآلالم. ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها, فاذا أفاقت من

141

Page 142: الفوائد بن القيّم

سكرها أحضرت كل هم وغم, وحزن وقلق, ومعيشة ضنك, وأجرى الى تلكالشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى وطول األمل والغرور.

ثم ترك ذلك البيت وظلماته, وخراب حيطانه, بحيث ال يمنع منه مفسدة, وال حيوان وال مؤذ وال قذر, فسبحان خالق هذا البيتوذاك البيت, فمن عرف بيته وقد"ر

ما فيه من الكنوز والذخائر واآلالت انتفع بحياته ونفسه, ومن جهل ذلك جهلنفسه وأضاع سعادته, وبالله التوفيق.

سئل سهل التستري: الرجل يأكل في اليوم أكلة؟ قال: أكل الصديقين, قيل له: فأكلتين؟ قال: أكل المؤمنين, قيل له ثالث أكالت؟ فقال: قل ألهله يبنوا له معلفا.

قال األسود بن سالم: ركعتين اصليه لله أحب الي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ, فقال: دعونا من كالمكم, الجنة رضى نفسي, والركعتان رضى ربي,

ورضى ربي أحب الي من رضى نفسي.

العارف في األرض ريحانة من رياحين الجنة, اذا شمها المريد اشتاقت نفسه الى الجنة.

قلب المحب موضوع بين جالل محبوبه وجماله, فاذا الحظ جالله هابه وعظ"مه, واذ الحظ جماله أحبه واشتاق اليه.

[ من أنواع معرفة الله تعالى110]

من الناس من يعرف الله بالجود واالفضال واالحسان, ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز, ومنهم من يعرفه بالبطش واالنتقام, ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة, ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء, ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر

واللطف, ومنهم من يعرفه بالقهر والملك, ومنهم من يعرفه باجابة دعوته واغاثةلهفته وقضاء حاجته.

واعلم هؤالء معرفة من عرف من كالمه, فانه يعرف ربا قد اجتمعت له صفات ه عن المثال, بريء من النقائص والعيوب, له كل اسم الكمال ونعوت الجالل, منز"

حسن وكل وصف كمال, فع"ال لما يريد, فوق كل شيء ومع كل شيء, وقادر على كل شيء, ومقيم لكل شيء, آمر ناه متكلم بكلماته الدينية والكونية, أكبر من كل شيء, وأجمل من كل شيء, أرحم الراحمين, وأقدر القادرين, وأحكم

الحاكمين. فالقرآن أنزل لتعريف عباده به, وبصراطه الموصل اليه, وبحالالسالكين بعد الوصول اليه.

[ حول قوله تعالى:111]"روا ما بأنفسهم{ "ر ما بقوم حتى يغي }ان الله ال يغي

142

Page 143: الفوائد بن القيّم

من اآلفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له, فيملها العبد ويطلب االنتقال منها الى ما يزعم لجهله أنه خير له منها, وربه برحمته ال يخرجه من تلك النعمة, ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه, حتى اذا"اها. م بها واستحكم ملله لها سلبه الله اي ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها وتبر" فاذا انتقل الى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وصار اليه, اشتد قلقه

وندمه وطلب العودة الى ما كان فيه, فاذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورضاه به, وأوزعه شكره عليه, فاذا حدثته نفسه باالنتقال عنه, استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها, مفوض الى الله

طالب منه حسن اختياره له.

وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله, فانه ال يراها نعمة, وال يشكره عليها, وال يفرح بها, بل يسخطها, ويشكو ويعد"ها مصيبة. هذا وهي من أعظم نعم الله

عليه, فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم, وال يشعرون بفتح الله عليهم نعمه, وهم مجتهدون في دفعها وردها جهال وظلما. فكم سعت الى أحدهم من نعمة, وهو

ساع في ردها بجهده, وكم وصلت اليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله,"روا ما "را نعمة أنعمها على قوم حتى يغي قال تعالى:} ذلك بأن الله لم يك مغي

"روا ما53بأنفسهم{األنفال "ر ما بقوم حتى يغي , وقال تعالى:} ان الله ال يغي.11بأنفسهم{ الرعد

فليس للنعم أعدى من نفس العبد, فهو مع عدوه ظهير على نفسه, فعدوه "نه من طرح النار ثم أعانه يطرح النار في نعمه وهو ينفخ فيها, فهو الذي مك

بالنفخ, فاذا اشتد" ضرامها استغاث من الحريق وكان غايته معاتبة األقدار:

وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى اذا فات أمر عاتب القدرا

[ معرفة الله سبحانه وتعالى بالجمال112]

من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه وتعالى بالجمال, وهي معرفة خواص الخلق, وكلهم عرفه بصفة من صفاته, وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجالله, وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته, لو فرضت الخلق

كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة, ونسبت جمالهم الظاهر والباطن الى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف الى قرص

الشمس.

ويكفي في جماله "أنه لو كشف الحجاب عن وجهه ألحرقت سبحاته ما انتهى . ويكفي في جماله161\1اليه بصره من خلقه" أخرجه مسلم في كتاب االيمان

�ثار صنعته, فما الظن بمن أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا واآلخرة فمن آصدر عنه هذا الجمال.

143

Page 144: الفوائد بن القيّم

ويكفي في جماله أن له العزة جميعا, والقوة جميعا, والجود كله, واالحسان كله, والعالم كله, والفضل كله, ولنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي صلى الله

عليه وسلم:" أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا.35\6واآلخرة". الهيثمي في مجمع الزوائد

وقال عبد الله بن مسعود: ليس عند ربكم ليل وال نهار, نور السموات واأل}ض من نور وجهه, فهو سبحانه نور السموات واألرض, ويوم القيامة اذا جاء لفصل القضاء تشرق األرض بنوره. ومن أسمائه الحسنى "الجميل". وفي الصحيحعنه

صلى الله عليه وسلم:" ان الله جميل يحب الجمال". أبو داود كتاب اللباس باب.4091 رقم 59\4ما جاء في الكبر

وجماله سبحانه على أربعة مراتب: جمال الذات, وجمال الصفات, وجمال األفعال, وجمال األسماء. فأسماؤه كلها حسنى, وصفاته كلها صفات كمال,

وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة. وأما جمال الذات وما هو عليه, فأمر ال يدركه سواه, وال يعلمه غيره, وليس عند المخلوقين منه اال تعريفات تعر"ف بها

الى من أكرمه من عباده, فان ذلك الجمال مصون عن األغيار, محجوب بستر الرداء واالزار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الكبرياء ردائي

.409 رقم 59\4والعظمة ازاري" أبو داود كتاب اللباس بال ما جاء في الكبر ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء, فانه سبحانه الكبير

المتعال فهو سبحانه العلي العظيم.

قال ابن عباس: حجب الذات بالصفات, وحجب الصفات باألفعال, فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال, وستر بنعوت العظمة والجالل.

ومن هذا المعنى يفهم البعض معاني جال ذاته, فانه العبد يترق"ى من معرفة األفعال الى معرفة الصفات, ومن معرفة الصفات الى معرفة الذات فاذا شاهد

شيئا من جمال األفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن هاهنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله, وأن أحدا من خلقه

ال يحصي ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه, وأنه يستحق أن يعبد لذاته, ويشكر لذاته, وأنه سبحانه يحب نفسه, ويثني على نفسه, ويحمد نفسه, وأن

محبته لنفسه, وحمده لنفسه, وثناءه على نفسه, وتوحيده لنفسه, هو في الحقيقة الحمد والثناء والحب والتوحيد, فهو سبحانه كما أثنى على نفسه, وفوق كا يثني

به عليه خلقه, وهو سبحانه كما يحب ذاته يحب صفاته وأفعاله, فكل أفعاله حسن محبوب وان كان في مفعوالته ما يبغضه ويكرهه, فليس في أفعاله ما هو مكروه

مسخوط, وليس في الوجود ما يحب لذاته, ويحمد لذاته اال هو سبحانه وتعالى, وكل ما يحب سواه فان كانت محبته تابعة لمحبته سبحانه بحيث يحب ألجله,

فمحبته صحيحة, واال فهي محبة باطلة, وهذا هو حقيقة االلهية, فان الله الحق هو

144

Page 145: الفوائد بن القيّم

الذي يحب لذاته ويحمد لذاته. فكيف اذا انضاف الى ذلك احسانه وانعامه, وحلمهه ورحمته؟ وتجاوزه وعفوه وبر"

فعلى العبد أن يعلم أنه ال اله اال الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله, وأن يعلم أنه ال محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة اال هو, فيحبه الحسانه

وانعامه, ويحمده على ذلك, فيحبه من الوجهين جميعا. وكما أمه ليس كمثله شيء فليس كمحبته محبة. والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق

ألجلها, فانها غاية الحب بغاية الذل, وال يصلح ذلك اال له سبحانه. واالشراك به فيهذا هو الشرك الذي ال يغفره الله وال يقبل لصاحبه عمال.

وحمده يتضمن أصلين: االخبار بمحامده وصفات كماله, والمحبة له عليها, فمن "ه من غير اخبار أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامدا. ومن أحب

بمحاسنه لم يكن حامدا حتى يجمع األمرين, وهو سبحانه يحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من مالئكته وأنبائه ورسله وعباده المؤمنين, فهو الحامد

لنفسه بهذا وهذا, فان حمدهم له بمشيئته واذنه وتكوينه, فانه هو الذي جعل الحامد حامدا والمسلم مسلما والمصلي مصليا والتائب تائبا, فمنه ابتدأت النعم

واليه انتهت, فابتدأت بحمده وانتهت الى حمده, وهو الذي أألهم عبده التوبة وفرح بها أعظم فرح, وهي من فضله وجوده. وهو سبحانه غني عن كل ما سواه

بكل وجه, وما سواه فقير اليه بكل وجه, والعبد مفتقر اليه لذاته في األسبابوالغايات, فان ما ال يكون به ال يكون, وما ال يكون له ال ينفع.

[ ان الله جميل يحب الجمال113]

وقوله في الحديث "ان الله جميل يحب الجمال" الترمذي باب ما جاء في النظافة, يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث. ويدخل فيه

بطريق العموم الجمال من كل شيء كما في الحديث اآلخر:" ان الله نظيف يحب.2799رقم111\5النظافة"

رقم703\2وفي الصحيح:" ان الله طيب ال يقبل اال طيبا"مسلم كتاب الزكاة 65.

\5وفي السنن:" ان الله يحب أ، يرى أثر نعمته على عبده" الترمذي في األدب .2819 رقم 123

وفيها عن أبي األحوص الجشمي, قال:" رآني النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أطمار, فقال:" هل لك من مال؟" قلت نعم, قال: من أي مال؟ قلت: من كل مل

أتى الله من االبل والشاء, قال:" فلتر نعمته وكرامته عليك".أبوداود في اللباس.4063 رقم 51\4

145

Page 146: الفوائد بن القيّم

فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده, فانه من الجمال الذي يحبه, وذلك من شكره على نعمه, وهو جمال باطن فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها. ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباسا وزينة تجم"ل ظواهرهم, وتقوى تجم"ل بواطنهم فقال:} يا بني آدم قد أنزلنا

, وقال26عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير{األعراف "ة وحريرا{االنسان في أهل الجنة:} ولق"اهم نضرة وسرورا. وجزاهم بما صبروا جن

, فجم"ل وجوههم بالنضرة, وبواطنهم بالسرور, وأبدانهم بالحرير.11-12

وهو سبحانه كما يحب الجمال في األقوال واألفعال واللباس والهيئة, يبغض القبيح من األقوال واألفعال والثياب والهيئة, فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال

وأهله. ولكن ضل في هذا الموضوع فريقان: فريق قالوا كل ما خلقه جميل, فهو يحب كل ما خلقه, ونحن نحب جميع ما خلقه فال نبغض منه شيئا, قالوا: ومن رأى

الكائنات منه رآها كلها جميلة. وأنشد منشدهم:

واذا رأيت الكائنات بعينهم فجميع ما يحوي الوجود مليح

, وقوله:7واحتجوا بقول الله تعال:} الذي أحسن كل شيء خلقه{ السجدة , وقوله:} ما ترى في خلق الرحمن88} صنع الله الذي أتقن كل شيء{ النمل

, والعارف عندهم هو الذي يصرح باطالق الجمال, وال يرى3من تفاوت{ الملكفي الوجود قبيحا.

وهؤالء قد عدمت الغيرة لله في قلوبهم, والبغض في الله, والمعاداة فيه, وانكار المنكر, والجهاد في سبيله, واقامة حدوده! ويرى جمال الصور من الذكور واالناث

من الجمال الذي يحبه الله, فيتعبدون بفسقهم, وربما غال بعضهم حتى يزعم أن معبوده يظهر في تلك الصورة ويحل فيها. وان كان اتحاديا ) ومعناه من يقول أن

الخالق هو عين المخلوق( قال: هي مظهر من مظاهر الحق, ويسميها المظاهرالجمالية.

[ نظرات في الجمال114]

وقابلهم الفريق الثاني فقالوا: قد ذم الله سبحانه وتعالى جمال الصور, وتمام القامة والخلقة, فقال عن المنافقين:} واذا رأيتهم تعجبك أجسامهم{ المنافقون

, أي أمواال74, وقال: }وكم أهلكنا قبلهم من قرن أحسن أثاثا ورءيا{مريم4 . وفي صحيح مسلم عن134\3ومناظر. قال الحسن: هو الصور تفسير ابن كثير

النبي صلى الله عليه وسلم :" ان الله ال ينظر الى صوركم وأموالكم وانما ينظر . قالوا: ومعلوم أنه لم ينف1986\4الى قلوبكم وأعمالكم" كتاب البر والصلة

م علينا لباس الحرير والذهب نظر االدراك, وانما نفى نظر المحبة قالوا: وقد حر" وآنية الذهب والفضة, وذلك من أعظم جمال الدنيا, وقال: ]وال تمد"ن عينيك الى

"عنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه{ طه , وفي الحديث131ما مت

146

Page 147: الفوائد بن القيّم

. وقد ذم الله المسرفين.110\1"البذاذة من االيمان" النهاية في غريب الحديث والسرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس.

وفصل النزاع أن يال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثالثة أنواع: منه ما يحمد, ومنه ما يذم, ومنه ما ال يتعلق به مدح وال ذم. فالمحمود منه ما كان لله, وأعان على طاعة الله, وتنفيذ أوامره, واالستجابة له, كما كان النبي صلى الله

عليه وسلم يتجم"ل للوفود. وهو نظير آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيالء فيه. فان ذلك محمود اذا تضم"ن اعالء كلمة الله, ونصر دينه, وغيظ عدو"ه. والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيالء والتوسل الى

الشهوات, وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. فان كثيرا من النفوس ليس لها هم"ة في سوى ذلك. وأما ما ال يحمد وال يذم فهو ما خال عن هذين القصدين,

د عن الوصفين. وتجر"

والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة, وآخره سلوك. فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي ال يماثله فيه شسء,

ويعبد بالجمال الذي يحبه من األقوال واألعمال واألخالق. فيحب من عبده أن يحمل لسانه بالصدق, وقلبه باالخالص والمحبة واالنابة والتوكل, وجوارحه

بالطاعة, وبدنه باظهار نعمه عليه في لباسه, وتطهيره له من األنجاس واألحداث واألوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم األظافر, فيعرفه بصفات الجمال

الذي هو وصفه, ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه, فجمع الحديث قاعدتين:المعرفة والسلوك.

[ صدق العبد مع ربه115]

ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة, فيصدقه في عزمه وفي فعله, قال تعالى:} فاذا عزم األمر فلو صدقوا الله لكان

, فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل, فصدق العزيمة21خير لهم{ محمد جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة ال يشوبها تردد وال تلو"م. فاذا

صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل, وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه, وأن ال يتخل"ف عنه بشيء من ظاهره وباطنه, فعزيمة القصد تمنعه من ضعف االرادة

والهم"ة, وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور. ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره. وهذا الصدق معنى يلتئم من صح"ة االخالص

"له. "ل, فأصدق الناس من صح" اخالصه وتوك وصدق التوك

[ في القدر116]

رب ذو ارادة أمر عبدا ذا ارادة, فان وف"قه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به. وان خذله وخاله وارادته ونفسه, وهو من هذه الحيثية ال يختار اال ما

تهواه نفسه وطبعه, فهو من حيث هو انسان ال يريد اال ذلك. ولذلك ذم"ه الله في

147

Page 148: الفوائد بن القيّم

كتابه من هذه الحيثية ولم يمدحه اال بأمر زائد على تلك الحيثية, وهو كونه مسلماد ومؤمنا وصابرا ومحسنا وشكورا وتقيا وبرا, ونحو ذلك. وهذا أمر زائد على مجر"د صالحيتها ان لم تؤيد بقدر زائد كونه انسانا وارادته صالحة, ولكن ال يكفي مجر"د صالحية العين لالدراك على ذلك وهو النوفيق, كما أنه ال يكفي في الرؤية مجر"

ان لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها.

[ أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم لتفسك وقلبك خال من تعظ"م117]الله تعالى

من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال "ه أن يراك في حال ال توق"ر الله من تعظيم الله وتوقيره, فانك توق"ر المخلوق وتجل

, أي ال تعاملونه13أن يراك عليها, قال تعالى:} مالكم ال ترجون لله وقارا{نوح معاملة من توق"رونه, والتوقير: العظمة. ومنه قوله تعالى:} وتوق"روه{ الفتح من

, قال الحسن: ما لكم ال تعرفون الله حقا وال تشكرونه؟ وقال مجاهد: ال9اآلية تبالون فظمة ربكم. وقال ابن زيد: ال ترون لله طاعة. وقال ابن عباس: ال

.196\18تعرفون حق عظمته. الجامع ألحكام القرآن

وهذه األقوال ترجع الى معنى واحد, وهو أنهم لو عظ"موا الله وعرفوا حق عظمته وح"دوه وأطاعوه وشكروه, فطاعته سبحانه, واجتناب معاصيه, والحياء منه, بحسب وقاره في القلب. ولهذا قال بعض السلف: ليعظم وقار الله في

"ح الله قلب أحدكم أ، يذكره حين يستحي من ذكره, فيقرن اسمه به كما تقول: قبالكلب والخنزير والنتن ونحوذلك, فهذا من وقار الله.

ومن وقاره أن ال تعدل به شيئا من خلقه, ال في اللفظ, بحيث تقول: والله وحياتك, مالي اال الله وأنت, وما شاء الله وشئت, وال في الحب والتعظيم

واالجالل, وال في الطاعة, فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله, بل أعظم, كما عليه أكثر الظامة والفجرة, وال في الخوف والرجاء. ويجعله أهون

الناظرين اليه, وال يستهين بحقه ويقول: هو مبني على المسامحة, وال يجعله على الفضلة, ويقد"م حق المخلوق عليه, وال يكون الله ورسوله في حد وناحية, والناس

في ناحية وحد, ويكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله ورسوله, وال يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه ويعطي الله في

خدمته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه, وال يجعل مراد نفسه مقدما على مراد ربه.

فهذا كله من عدم وقار الله في القلب, ومن كان كذلك فان الله ال يلقي في قلوب الناس وقارا وال هيبة, بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم, وان وق"روه

ه فذاك وقار بغض ال وقار حب وتعظيم, ومن وقار الله أن يستحي من مخافة شر" اطالعه على سره وضميره فيرى فيه ما يكره. ومن وقاره أن يستحي منه في

الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس.

148

Page 149: الفوائد بن القيّم

والمقصود أن من ال يوق"ر الله وكالمه, وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره.

القرآن وتاعلم وكالم الرسول صلى الله عليه وسل"م صالت من الحق, وتنبيهات وروادع وزواجر واردة اليك, والشيب رادع وموقظ قائم بك, فال ما ورد اليك

وعظك! وال ما قام بك نصحك! ومع هذا تطلب التوقير والتعظيم من غيرك! فأنت"عظ وينزجر "ر فيه مصيبته وعظا وانزجارا, وهو يطلب من غيره أ، يت مصاب لم تؤث بالنظر الى مصابه. فالضرب لم يؤثر فيه جزرا, وهو يريد االنزجار ممن نظر الى

ضربه.

من سمع بالمثالت والعقوبات واآليات في حق غيره ليس كمن رآها عيانا في غيره, فكيف بمن وجدها في نفسه؟:} سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم{

, فآياته في اآلفاق مسموعة معلومة, وآياته في النفس مشهودة53فصلت "ة, فعياذا بالله من الخذالن. قال تعالى:} ان الذين حق"ت عليهم كلمت ربك ال مرئي

, وقال:} ولو96,97يؤمنون . ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب األيم{ يونس "نا أنزلنا اليهم المالئكة وكل"مهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبال ما كانوا أن

.111ليؤمنوا اال أن يشاء الله{ األنعام

والعاقل المؤيد بالتوفيق يعتبر بدون هذا, ويتمم نقائص خلقته بفضائل أخالقه وأعماله, فكلما امتحى من جثمانه أثر, زاد ايمانه أثر, وكلما نقص من قوى بدنه,

زاد في قوة ايمانه ويقينه ورغبته في الله والدار اآلخرة, وان لم يكن هكذا فالموت خير له؛ ألنه ال يقف به على حد معين من األلم والفساد, بخالف العيوب والنقائص مع طول العمر, فانها زيادة في ألمه وهم"ه وغم"ه وحسرته, وانما حسن"ر واالستدراك واغتنام الغرض والتوبة النصوح كما طول العمر ونفع ليحصل التذك

"ر{ فاطر "ر فيه من تذك , فمن لم يورثه37قال تعالى:} أولم نعم"ركم ما يتذك"ة أنفاسه, فيعمل التعمير وطول البقاء اصالح معائبه, وتدارك فارطه, واغتنام بقي

على حياة قلبه, وحصول النعيم المقيم, واال فال خير له في حياته.

فان العبد على جناح سفر اما الى الجنة واما الى النار. فاذا طال عمره, وحسن عمله, كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة, فانه كلما طال السفر

اليها كانت الصبابة أجل" وأفضل, واذا طال عمره, وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه, ونزوال له الى أسفل: فالمسافر اما صاعد واما نازل, وفيكم من طال عمره الحديث المرفوع:" خيركم من طال عمره وحسن عمله, وشر"

.2330 رقم 566\4وقبح عمله" الترمذي في السنن

فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته, جعله عمارة لقلبه وروحه, وكلما نقص شيء من دنياه, جعله زيادة في آخرته, وكلما منع شيئا من

لذ"ات دنياه, جعله زيادة في لذ"ات آخرته. فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته ان زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده, كان رحمة به وخيرا له,

149

Page 150: الفوائد بن القيّم

واال كان حرمانا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة, أو ترك واجب أو باطن, فن"ب على هذه األربعة, وبالله التوفيق. حرمان خير الدنيا واآلخرة مرت

)فائدة([ مثل المرء في الحياة الدنيا كمثل مسافر118]

الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين, وليس لهم حط رحالهم اال في الجنة أو في النار. والعاقل يعلم أ، السفر مبني على المشق"ة وركوب األخطار. ومن

المحال عادة أ، يطلب فيه نعيم ولذ"ة وراحة, انما ذلك بعد انتهاء السفر. ومن المعلوم أن كل وطأة قدم, أ, كل آ، من آنات السفر غير واقفة, وال المكلف

واقف, وقد ثبت أ،ه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها منتهيئة الزاد الموصل, واذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم االستعداد للسير.

[ )فائدة(119]االشتغال بالمشاهدة

عند العارفين أن االشتغال بالمشاهدة عن الجد في السير في السر وقوفه, ألنه في زمن المشاهدة لو كان صاحب عمل ظاهر أ, باطن أو ازدياد من معرفة وايمان مفص"ل كان أولى به, فان اللطيفة االنسانية تحشر على صورة عملها

ومعرفتها وهم"تها وارادتها, والبدن يحشر على صورة عمله الحسن أو القبيح. واذا انتقلت من هذه الدار شاهدت حقيقة ذلك. وعلى قدر قرب قلبك من الله تبعد

ك وارادتك يكون حفظه. من األنس بالناس ومساكنتهم, وعلى قدر صيانتك لسر" ومال ذلك صحة التوحيد, ثم صح"ة العلم بالطريق, ثم صحة االرادة, ثم صحة

العمل. والحذر كل الحذر من قصد الناس لك واقبالهم عليك وأن يعثروا علىموضع غرضك؛ فانها اآلفة العظمى.

[ )فائدة(120]الحذر من طريق الشيطان

كل ذي لب يعلم أنه ال طريق للشيطان عليه اال من ثالث جهات:

"د واالسراف, فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة وهي حظ أحدها: التزي الشيطان ومدخله الى القلب, وطريق االحتراز منه ]عدم[ اعطاء النفس تمام

مطلبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة. فمتى أغلقت هذه األبواب حصل األمانمن دخول العدو منه.

الثانبة: الغفلة, فان الذاكر في حصن الذكر, فمتى غفل فتح باب الحصن فولجهالعدو فيعسر عليه أو يصعب اخراجه.

الثالثة: تكلف ما ال يعنيه من جميع األشياء.

150

Page 151: الفوائد بن القيّم

[ )فائدة(121]طلب النفوذ الى الله والدار اآلخرة

طالب النفوذ الى الله والدار اآلخرة بل والى كل علم وصناعة ورئاسة بحيث يكون رأسا في ذلك مقتدى به فيه, يحتاج أن يكون شجاعا مقداما حاكما على

"له, زاهدا في كل ما سوى مطلوبه, عاشقا لما وهمه, غير مقهور تحت سلطان تخي توجه اليه, عارفا بطريق الوصول اليه والطرق والقواطع عنه, مقدام المهمة,

ثلبت الجأش, ال يثنيه عن مطلوبه لوم الئم, وال عذل عاذل, كثير السكون, دائم الفكر, غير مائل مع لذة المدح وال ألم الذم, قائما بما يحتاج اليه من أسباب

معونته, ال تستفزه المعارضات, شعاره الصبر, وراحته التعب, محبا لمكارم األخالق, حافظا لوقته, ال يخالط الناس اال على حذر, كالطائر الذي يلتقط الحب

بينهم, قائما على نفسه بالرغبة والرهبة, طامعا في نتائج االختصاص على بني جنسه, غير مرسل شيئا من حواسه عبثا, وال مسرحا خواطره في مراتب الكون. ومالك ذلك هجر العوائد, وقطع العالئق الحائلة بينك وبين المطلوب, وعند العوام

أ، لزوم األدب مع الحجاب, خير من اطرح األدب مع الكشف.

[ )فائدة(122]تواطؤ اللسان والقلب على ذكر الله

من الذاكرين من يبتديء بذكر اللسان وان كان على غفلة, ثم ال يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطأ على الذكر. ومنهم من ال يرى ذلك وال يبتديء على غفلة بل

يسكن حتى حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه, فاذا قوي استتبع لسانه فتواطآ جميعا. فاألول ينتقل الذكر من لسانه الى قلبه. والثاني ينتقل من قلبه

الى لسانه, من غير أن يخلو قلبه منه, بل يسكن أوال حتى يحس بظهور الناطق فيه. فاذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي الى الذكر اللساني ثم

يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذكرا, وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيهالقلب اللسان وكان من األذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده.

[ فصل123]أنفع الناس لك

"نك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا, أو تصنع اليه معروفا, أنفع الناس لك رجل مك فانه نعم العون لك على منفعتك وكمالك. فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه

"ن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فانه بك أو أكثر. وأضر الناس عليك من مكتك ونقصك. عون لك على مضر"

فصلمة ممزوجة بالقبح124] [ اللذة المحر"

151

Page 152: الفوائد بن القيّم

مة ممزوجة بالقبح حال تناولها, مثمرة لأللم بعد انقضائها, فاذا اللذة المحر" اشتد"ت الداعية منك اليها, ففكر في انقطاعها, وبقاء قبحها وألمها, ثم وازن بين

األمرين, وانظر ما بينهما من التفاوت, والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن, مثمر للذة والراحة, فاذا ثقلت على النفس, ففكر في انقطاع تعبها, وبقاء حسنها

ولذتها وسرورها, ووازن بين األمرين, وآثر الراجح على المرجوح, فان تأل"مت بالسبب, فانظر الى ما في السبب من الفرحة والسرور واللذة, يهن عليك

مقاساته, وان تألمت بترك اللذة المحرمة, فانظر الى األلم الذي يعقبه, ووازن"ة العقل تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما واحتمال بين األلمين, وخاصي

أصغر األلمين لدفع أعالهما.

وهذا يحتاج الى علم باألسباب ومقتضياتها, والى عقل يختار به األولى واألنفع له منها, فمن وف"ر قسمه من العقل العلم اختار األفضل وآثره, ومن نقص حظه"ر في الدنيا واآلخرة علم أنه ال ينال منهما أو من أحدهما اختار خالفه, ومن فك

قة, فليتحم"ل المشق"ة لخيرهما وأبقاهما. واحدا منهما اال بمش"

فصل[ لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر125]

لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر, وله عليه فيه نهي, وله فيه نعمة, وله به منفعة ولذة. فان قام لله في ذلك العضو بأمره, واجتنب فيه نهيه, فقد

أد"ى شكر نعمته عليه فيه, وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به, وان عط"ل أمر الله ونهيه فيه, عط"له الله من انتفاعه بذلك العضو, وجعله من أكبر أسباب ألمه

ته. ومضر"

به منه, فان شغل "ة تقدمه اليه, وتقر" وله عليه في كل وقت من أوقاتته عبودي وقته بعبودية الوقت, تقدم تاى ربه, وان شغله بهوى أو راحة وبطالة تأخ"ر, فالعبد

"ة. قال تعالى:} لمن شاء ال يزال في تقد"م أو تأخ"ر, وال وقوف على الطريق البت.37منكم أن يتقد"م أو يتأخ"ر{ المدثر

فصل[ }فريق في الجنة وفريق في السعير{126]

أقام الله سبحانه هذا الخلق بين األمر والنهي, والعطاء والمنع. فافترقوا فرقتين:

فرقة قابلت أمره بالترك, ونهيه باالرتكاب, وعطاءه بالغفلة عن الشكر ومنعهبالسخط, وهؤالء أعداؤه, وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.

152

Page 153: الفوائد بن القيّم

وقسم قالوا: انما نحن عبيدك, فان أمرتنا سارعنا الى االجابة, وان نهيتنا أمسكناا نهيتنا عنه, وان أعطيتنا حمدناك وشكرناك, وان منعتنا نفسنا, وكففناها عم"

عنا اليك وذكرناك. فليس بين هؤالء وبين الجنة اال ستر الحياة الدنيا, فاذا تضر"قه عليه الموت, صاروا الى الحسرة واأللم. مز"

فاذا تصادمت جيوش الدنيا واآلخرة في قلبك, وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت, فانظر مع من تميل منهما, ومع من تقاتل, اذ ال يمكنك الوقوف بين

الجيشين, فأنت مع أحدهما ال محالة. فالفريق األول استغشوا الهوى فخالفوه,غوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له, وجوارحهم واستنصحوا بالعقل فشاوروه, وفر"

للعمل بما أمروا به, وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في اآلخرة, واستظهروا على سرعة األجل بالمبادرة الى األعمال, وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها,

واستوطنوا اآلخرة قبل انتقالهم اليها, واهتموا بالله على قدر حاجتهم اليه, وتزودوا لآلخرة على قدر مقامهم فيها, فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها

أن آنسهم بنفسه, وأقبل بقلوبهم اليه, وجمعها على محبته, وشوقهم الى لقائه, ونعمهم بقربه, وفرغ قلوبهم مما مأل قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوقها, والغم من خوف ذهابها, فاستالنوا ما استرعوه المترفون, وأنسوا بما

استوحش منه الجاهلون, صحبوا الدنيا بأبدانهم, والمأل األعلى بأرواحهم.

فصل[ صفات التوحيد127]

"ر "سه ويؤث التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه, فأدنى شيء يخدشه ويدن"ر فيه أدنى أثر, وكالمرآة الصافية جدا, أدنى شيء فيه, فهو كأبيض ثوب يكون, يؤث

يؤثر فيها. ولهذا تشوشه الحظة واللفظة والشهوة الخفية, فان بادر صاحبه وقلعر عليه قلعه. ذلك األثر بضده, واال اساحكم وصار طبعا يتعس"

وهذه اآلثار والطبوع التي تحصل فيه: منها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال, ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال, ومنا ما يكون بطيء

الحصول بطيء الزوال. ولكن من الناس ما يكون توحيده كبيرا عظيما, ينغمر فيه كثير من تلك اآلثار, ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو

وسخ, فيغتر به صاحب التوحيد الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده, فيظهر من تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير. وأيضا فان

"سه ما ال يظهر في المحل الذي لم يبلغ المحل الصافي جدا يظهر لصاحبه مما يدن في الصفاء مبلغه, فيتداركه بالزالة دون هذا فانه ال يشعر به أيضا فان قوة

االيمان والتوحيد اذا كانت قوية جدا أحالت المواد الرديئة وقهرتها, بخالف القوة الضعيفة, وأيضا فان صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما ال

يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثل المحاسن, كما قيل:

واذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

153

Page 154: الفوائد بن القيّم

وأيضا فان صدق الطلب, وقوة االرادة, وكمال االنقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة الى مقتضاه وموجبه, كما أن الكذب, وفساد القصد, وضعف االنقياد يحيل األقوال واألفعال الممدوحة الى مقتضاه وموجبه, كما يشاهد ذلك

في األخالط الغالبة, واحالتها لصالج األغذية الى طبعها.

[ )فائدة(128]ترك الشهوات لله

ترك الشهوات لله وان أنجى من عذاب الله وأوجب الفوز برحمته, فذخائر الله, وكنوز البر, ولذة األنس, والشوق اليه, والفرح واالبتهاج به, ال تحصل في قلب فيه

غيره, وان كان من أهل العبادة والزهد والعلم, فان الله سبحانه أبى أ، يجعل"قة بغيره, وانما يودع ذخائره في قلب ذخائره في قلب فيه سواه, وهم"ته متعل

يرى الفقر غنى مع الله, والغنى فقرا دون الله والعز ذال دونه, والذل عزا معه, وبالجملة, فال يرى الحياة اال به ومعه, والموت واأللم والهم والغم والحزن, اذا لم

يكن معه, فهذا له جنتان جنة في الدنيا معجلة, وجنة يوم القيامة مؤجلة.

[ )فائدة(129]االنابة اليه تعالى

االنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد ال "ته, وذكره باالجالل والتعظيم, يفارقه. وحقيقة ذلك عكوف القلب على محب

وعكوف الجوارح على طاعته, باالخالص له, والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم, ومن لم يعكف قلبه على الله وحده, عكف على التمائيل المتنوعة, كما قال امام الحنفاء لقومه:} ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون{ آل عمران

. فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف, فكان حظ قومه العكوف على التماثيل,67 وكان حظه العكوف على الرب الجليل. والتماثيل جمع تمثال, وهي الصور

الممثلة. فتعلق القلب بغير الله, واشتغاله به, والركون اليه, عكوف منه على التمائيل التي قامت بقلبه, وهو نظير العكوف على تماثيل األصنام, ولهذا كان

شرك عبادة األصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وارادتهم على تماثيلهم, فاذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها, فهو نظير عكوف

األصنام عليها, ولهذا سم"اه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لها ودعا عليه بالتعس والنكس فقال:" تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس وانتكس واذا

(.2887 رقم )81\6شيك فال انتقش" البخاري في كتاب الجهاد

والناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم, وكل مسافر فهو ظاعن مقصده ونازل على من يسر" بالنزول عليه, وطالب الله والدار اآلخرة انما هو ظاعن الى

الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه, فهذه همته في سفره وفي انقضائه:} يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي الى ربك راضية مرضية * فادخلي

154

Page 155: الفوائد بن القيّم

"تي{الفجر . وقالت امرأة فرعون:} رب ابن لي30 -27في عبادي * وادخلي جن , فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون11عندك بيتا في الجنة{ التحريم

في الجنة, فان الجار قبل الدار.

[ من كالم أحد الصالحين130]

قيل لي في نوم كاليقظة أو يقظة كالنوم.

ال تبد فاقة الى غيري فأضاعفها عليك مكافأة لخروجك عن حدك في عبوديتك.

ابتليتك بالقر لتصير ذهبا خالصا فال تزيفن بعد السبك.

حكمت لك بالفقر ولنفسي الغنى, فان وصلتها بي وصلتك بالغنى, وان وصلتها بغيري حسمت عنك مواد معونتي طردا لك عن بابي.

ال تركنن الى شيء دوننا فانه وبال عليك, وقاتل لك. وان ركنت الى العمل ردنناه عليك, وان ركنت الى المعرفة نكرناها عليك, وان ركنت الى الوجد

استدرجناك فيه, وان ركنت الى العمل أوقفناك معه, وان ركنت الى المخلوقينوكلناك اليهم, ارضنا لك ربا نرضاك لنا عبدا.

[ )فائدة(131]الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره

لها أسباب:

أحدها: أن يلوح له عند السماع درجة ليست له, فيرتاح اليها, فتحدث الشهقة, فهذه شهقة شوق.

وثانيها: أنيلوح له ذنب ارتكبه, فيشهق خوفا وحزنا على نفسه, وهذه شهقة خشية.

وثالثها: أن يلوح له نقص فيه ال يقدر على دفعه عنه, فيحدث له ذلك حزنا. فيشهق شهقة حزن.

ورابعها: أن يلوح له كمال محبوبه, ويرى الطريق اليه مسدودة عنه, فيحدث ذلك شهقة أسف وحزن.

155

Page 156: الفوائد بن القيّم

وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبه, واشتغل بغيره, فذكره السماع محبوبه, فالح له جماله, ورأى الباب مفتوحا والطريق ظاهرة, فشهق فرحا

وسرورا بما الح له.

وبكل حال فسبب الشهقة قوة الوارد, وضعف المحل عند االحتمال. والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخال وال يظهر عليه, وذلك أقوى له وأدوم, فانه اذا أظهره

ضعف أثره وأوشك انقطاعه. هذا حكم الشهقة من الصادق, فان الشاهق اماصادق واما سارق واما منافق.

[ )قاعدة نافعة(132]الفكر مبدأ االرادة وهو أصل الخير والشر

"ر, فن الفكر مبدأ االرادة والطلب في الزهد أصل الخير والشر من قبل التفك والترك والحب والبغض. وأنفع الناس الفكر الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتالبها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها, فهذه أربعة أفكار من أجل"ر في مفاسد "ر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها, وفك األفكار. ويليها أربعة: فك

الدنيا وطرق االحتراز منها, فعلى هذه األقسام الثمانية دارت أفكار العقالء. ورأس القسم األول الفكر في آالء الله ونعمه, وأمره ونهيه, وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما واالهما, وهذا الفكر يثمر

لصاحبه المحبة والمعرفة. فاذا فكر في اآلخرة وشرفها ودوامها, وفي الدنيا"ر في خستها وفنائها, أثمر له ذلك الرغبة في اآلخرة, والزهد في الدنيا, وكلما فك

قصر األمل, وضيق الوقت, أورثه ذلك الجد واالجتهاد, وبذل الوسع في اغتنامالوقت.

وهذه األفكار تعلي هم"ته, وتحييها بعد موتها, وسفولها, وتجعله في واد والناس في واد. وبازاء هذه األفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق, كالفكر

فيما لم يكلف الفكر فيه, وال أعطى االحاطة به من فضول العلم الذي ال ينفع, كالفكرفي كيفية ذات الرب وصفاته, مما ال سبيل للعقول الى ادراكه, ومنها

الفكر في الصناعات الدقيقة التي ال تنفع بل تضر, كالفكر في الشطرنجوالموسيقى وأنواع األشكال والتصاوير.

ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كماال وال شرفا, كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي, وأكثر علوم

الفالسفة التي لو بلغ االنسان غاياتها لم يكمل بذل ولم يزك بنفسه.

ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها, وهذا وان كان للنفس فيه ته. ومنها ته في عاقبة الدنيا قبل اآلخرة أضعاف مسر" لذة لكن ال عاقبة له, ومضر"

الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون, كالفكر فيما اذا صار ملكا, أو وجدف, ويأخذ, ويعطي, وينتقم؟ نحو ذلك كنزا, أو ملك ضيعة, ماذا يصنع؟ وكيف يتصر"

156

Page 157: الفوائد بن القيّم

من أفكار السفل. ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار اآلخرة.

ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها, فانه يشغل االنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة. ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي ال وجود لها في الخارج وال بالناس حاجة اليها البتة, وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه واألصول والطب, فكلتها شغلها عن الفكر فيما تها أرجح من منفعتها ويكفي في مضر" هذه األفكار مضر"

هو أولى به وأعود عليه بالنفع عاجال وآجال.

[ )قاعدة(133]الطلب لقاح االيمان

الطلب لقاح االيمان, فاذا اجتمع االيمان والطلب أثمرا العمل الصالح. وحسن الظن بالله لقاح االفتقار واالضطرار اليه, فاذا اجتمعا أثمرا اجابة الدعاء. والخشية

لقاح المحبة, فاذا اجتمعا أثمرا امتثال األوامر واجتناب المناهي. والصبر لقاح اليقين, فاذا اجتمعا أورثا االمامة في الدين, قال تعالى:} وجعلنا منهم أئمة يهدون

. وصحة االقتداء بالرسول لقاح24بأمرنا لم"ا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون{ السجدةاالخالص, فاذا اجتمعا أثمرا قبول العمل واالعتداد به.

والعمل لقاح العلم, فاذا اجتمعا كان الفالح والسعادة, وان انفرد أحدهما عن اآلخر لم يفد شيئا. والحلم لقاح العلم, فاذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا واآلخرة

حصل االنتفاع بعلم العالم, وان انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع واالنتفاع. والعزيمة لقاح البصيرة, فاذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا واآلخرة وبلغت به

هم"ته من العلياء كل مكان.

فتخلف الكماالت اما عن عدم البصيرة واما عن عدم العزيمة.

وحسن القصد لقاح لصحة الذهن, فاذا فقدا فقد الخير كله واذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات. وصحة الرأي لقاح الشجاعة, فاذا اجتمعا كان النصر والظفر, وان

فقدا فالخذالن والخيبة, وان وجد الرأي بال شجاعة فالجبن والعجز, وان حصلت الشجاعة بال رأي فالتهو"ر والعطب. والصبر لقاح البصيرة, فاذا اجتمعا فالخير في

اجتماعهما.

قال الحسن: اذا شئت أن ترى بصيرا ال صبر له رأيته, واذا شئت أن ترى صابرا ال بصيرة له رأيته, فاذا رأيت صابرا بصيرا فذاك.

"ر والنصيحة لقاح العقل, فكلما قويت النصيحة قوي العقل واستنار. والتذك"ر كل منهما لقاح اآلخر, اذا اجتمعا أنتجا الزهد في الدنيا والرغبة في والتفك اآلخرة. والتقوى لقاح التوكل, فاذا اجتمعا استقام القلب. ولقاح أخذ الهبة

157

Page 158: الفوائد بن القيّم

االستعداد لقصر األمل, فاذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما والشر في"ة الصحيحة, فاذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد. فرقتهما. ولقاح الهم"ة العالية الني

[ )قاعدة(134]موقفان للعبد بين يدي الله تعالى

للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصالة, وموقف بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف األول هو"ن عليه الموقف اآلخر, ومن استهان بهذا

الموقف ولم يوف"ه حق"ه, شد"د عليه ذلك الموقف. قال تعالى:} ومن الليل فاسجد"ون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيال{ له وسبحه ليال طويال . ان" هؤالء يحب

.27_26االنسان

)قاعدة( ]135[

جهة كونهاقاعدة اللذة من حيث هي مطلوبة لإلنسان بل ولكل حي فال تذم من عظم منهاألذة وإنما تذم ويكون تركها خيرا من نيلها وانفع إذا تضمنت فوات لذة

وأكمل أو أعقبت ألما حصوله اعظم من ألم فواتها فههنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن واألحمق الجاهل ضمن عرف العقل بين فمتى عالف التفاوت بين اللذتين

واأللمين وأنه ال نسبة ألحدهما إلى اآلخر هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعالهما واحتمال أيسر األلمين لدفع أعالهما وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة اآلخرة أعظم وأدوم ولذة الدنيا أصغر واقصر وكذلك ألم اآلخرة وألم الدنيا والمعول في ذلك على اإليمان واليقين فإذا قوى اليقين وباشر القلب آثر األعلى على األدنى

. في جانب اللذة واحتمل األلم األسهل على األصعب والله المستعان

)فائدة( ]136["وب في قص"ة أي

{ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين:}فائدة قوله تعالى مع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربهج .83األنبياء

ووجود طعم المحبة في المتملق له واإلقرار له بصفة الرحمة وإنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته وهو فقره ومتى وجد

المبتلى هذا كشف عنه بلواه وقد جرب أنه من قالها سبع مرات وال سيما مع هذه.المعرفة كشف الله ضره

)فائدة جليلة( ]137[في قصة يوسف

أنت ولي في الدنيا واآلخرة توفني :}فائدة قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال جمعت هذه الدعوة اإلقرار بالتوحيد,101{ يوسف مسلما والحقني بالصالحين

158

Page 159: الفوائد بن القيّم

واالستالم للرب وإظهار االفتقار إليه والبراءة من مواالة غيره سبحانه وكون الوفاة على اإلسالم اجل غايات العبد وان ذلك بيد الله ال بيد العبد واالعتراف

.بالمعاد وطلب مرافقة السعداء

)فائدة( ]138[

متضمن لكنز, 21قوله الله تعالى:} وان من شيء اال عندنا خزائنه{ الحجر من الكنوز وهو أن يطلب كل شيء ال يطلب إال ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك

الخزائن بيديه وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده وال يقدر عليه وقوله وإن إلى ربك المنتهى متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد ألجله ويتصل به

وإال فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إال إلى الذي انتهت إليه األمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه فهو غاية كل

مطلوب وكل محبوب ال يحب ألجله فمحبته عناء وعذاب وكل عمل ال يراد ألجله فهو ضائع وباطل وكل قلب ال يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفالحه فاجتمع ما يراد منه كله في قوله وإن من شيء إال عندنا خزائنه واجتمع ما يراد له كله في قوله وان إلى ربك المنتهى فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس

.دونه غاية إليها المنتهى

وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب ال يستقر وال يطمئن ويسكن إال بالوصول إليه وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره وليس المراد

المحبوب لذاته إال واحد إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين فمن كان انتهاء محبته ورغبته

وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته

وسعادته أبد اآلباد العبد دائما متقلب بين أحكام األوامر وأحكام النوازل فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند األوامر وإلى اللطف عند النوازل وعلى قدر قيامه باألوامر يحصل له

ظاهرا من اللطف عند النوازل فإن كمل القيام باألوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف وباطنا وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل

.نصيبه من اللطف في الباطن

فإن قلت وما اللطف الباطن فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق واالضطراب والجزع فيستخذى بين يدي سيده ذليال له

مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من األلم وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه

عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضى أو سخط فإن رضى نال الرضا وإن سخط فحظه السخط فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد

.بزيادتها وينقص بنقصانها

159

Page 160: الفوائد بن القيّم

)فائدة جليلة( ]139[ محبة الله تعالى واالتصال به

ألعلى والمراد بهذاا يزال منقطعا عن الله حتى تتصل إرادته ومحبته بوجه ال االتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده فال يحجبها شيء دونه وأن تتصل

المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فال يطمس نورها ظلمة التعطيل كما ال يطمس نور المحبة ظلمة الشرك وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول بين الذاكر والمذكور

حجاب الغفلة والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه فيفعل الطاعة ال أنه أمر بها وأحبها ويترك المناهي لكونه نهى عنها وابغضها فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه وحقيقة زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من األغراض والحظوظ العاجلة ويتصل التوكل والحب به بحيث يصير واثقا به سبحانه مطمئنا إليه راضيا بحسن تدبيره له غير متهم له

.في حال من األحوال

ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون سواه ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده فال يخاف غيره وال يرجوه وال يفرح به كل الفرح وال

يسر به غاية السرور وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور فليس الفرح التام القلب إال به سبحانه وماوالسرور الكامل واالبتهاج والنعيم وقرة العين وسكون

سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به فال فرحة وال

.سرور إال به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته

وقد أخبر سبحانه أنه ال يحب الفرحين بالدنيا وزينتها وأمر بالفرح بفضله .ورحمته وهو اإلسالم واإليمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون

والمقصود أن من اتصلت له هذه األمور بالله سبحانه فقد وصل وإال فهو .مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه ملبس عليه في معرفته وإرادته وسلوكه

)قاعدة جليلة(]140[نعم الطاعات واللذات كلها من عند الله تعالى

كلها من الله وحده نعم قد فكرت في هذا األمر فإذا أصله أن تعلم أن النعم وما:}الطاعات ونعم اللذات فترغب إليه أن يلهمك ويوزعك شكرها قال تعالى

:} وقال  ,53{ النحل بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون واشكروا نعمة الله إن :}وقال ,69{ األعراف فاذكروا آالء الله لعلكم تفلحون

وكما أن تلك النعم منه ومن ومجرد فضله فذكرها,114{ النحل كنتم إياه تعبدون وشكرها ال ينال إال بتوفيقه والذنوب من خذالنه وتخليه عن عبده وتخليته بينه وبين

نفسه وإن لم يكشف ذلك عن عبده فال سبيل له الى كشفه عن نفسه فإذا هو مضطر إلى التضرع واالبتهال إليه أن تدفع عنه أسبابها حتى ال تصدر منه وإذا

وقعت بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع

160

Page 161: الفوائد بن القيّم

عنه موجباتها وعقوباتها فال ينفك عن العبد عن ضرورته إلى هذه األصول الثالثة.وال فالح له إال بها الشكر وطلب العافية والتوبة النصوح

ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة وليسا بيد العبد بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء فإن وفق عبده اقبل بقلبه إليه ومأله رغبة ورهبة

وأن خذله له تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك وما شاء الله كان.وما لم يشاء لم يكن

ثم فكرت هل للتوفيق والخذالن سبب أم هما بمجرد المشية ال سبب لهما فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في االستعداد والقبول أعظم تفاوت فالجمادات ال تقبل ما يقبله الحيوان وكذلك النوعان كل

منهما متفاوت في القبول فالحيوان الناطق يقبل ما ال يقبله البهيم وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول لكن ليس

بين النوع الواحد م ن التفاوت كما بين النوع اإلنساني فإذا كان المحل قابال للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها وخطرها ويشكر المنعم بها ويثني عليه بها

ويعظمه عليها ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة من غير أن يكون هو مستحقا لها وال هي له وال به وإنما هي لله وحده وبه وحده فوحده بنعمته إخالصا وصرفها في محبته شكرا وشهدها من محض جوده منه وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجز أو ضعفا وتفريطا وعلم أنه أن أدامها عليه فذلك محض صدقته

.وفضله وإحسانه وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له

وكلما زاده من نعمه ازداد زاللة وانكسارا وخضوعا بين يديه وقياما بشكره وخشيته له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيته شكرها كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يلق أن يقابل

وكذلك فتنا بعضهم ليقولوا أهؤالء من الله عليهم:}به سلبه إياها وال بد قال تعالى وهم الذين عرفوا قدر النعمة,53{األنعام من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

وإذا:}وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره وقال تعالى جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث

.124{ األنعام يجعل رساالته

)فصل( ]141[في بيان سبب الخذالن

وافته النعموسبب الخذالن عدم صالحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو قال إنما أوتيته:}لقال هذا لي وإنما أوتيته ألني أهله ومستحقه كما قال تعالى

أي على علم علمه عندي استحق به ذلك. 78{ القصص على علم عندي الفراء أي على فضل عندي إني كنت أهله ومستحقا له وأستوجبه واستأهله قال

.إذ أعطيته وقال مقاتل يقول على خير علمه الله عندي

161

Page 162: الفوائد بن القيّم

وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمان بن داود فيما أوتي من الملك ثم ولم,40{ النمل هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر:}قرأ قوله تعالى

  القصص إنما أوتيته على علم عندي:}يقل هذا من كرامتي ثم ذكر قارون وقوله يعني أن سليمان رأى ما أوتيته من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلى به,78

ولئن أذقناه:}شكره وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه وكذلك قوله سبحانه أي أنا أهله وحقيق به,50{ فصلت رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي

.فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه

والمؤمن يري ذلك ملكا لربه وفضال منه من به على عبده من غير استحقاق منه بل صدقة تصدق بها على عبده وله أن ال يتصدق بها فلو منعه إياها لم يكن قد

منعه شيئا هو له يستحقه عليه فإذا لم يشهد ذلك رأي فيه أهال ومستحقا فأعجبه نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها فكان حظها منها الفرح

ولئن أذقنا اإلنسان منا رحمة ثم نزعتاها منه إنه ليؤس:}والفخر كما قال تعالى كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح

.10-9{ هو\ فخور

فذمه باليأس والكفر عند االمتحان بالبالء وبالفرح والفخر عند االبتالء بالنعماء ذهب:}واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البالء قوله

لو أنه قال اذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على{السيئات عني ذلك بل كان محمودا عليه ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها

.فرح وافتخر

فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذالنه وتخليه إن شر الدواب:}عنه فإن محله ال تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال تعالى

عند الله الصم البكم الذين ال يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا ألسمعهم ولو فاخبر سبحانه أن محلهم غير,23-22{ األنفال أسمعهم لتولوا وهم معرضون

قابل لنعمته ومع عدم القبول ففيهم مانع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم.وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها

ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الخذالن من بقاء النفس على ما خلقت عليه في األصل وإهمالها وتخليتها فأسباب الخذالن منها وفيها وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة فأسباب التوفيق منه ومن فضله وهو الخالق لهذه وهذه كما خلق أجزاء األرض هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له وخلق الشجر هذه تقبل الثمرة وهذه ال تقبلها وخلق النحلة قابلة ألن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه والزنبور غير قابل لذلك وخلق األرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وحجته وإجالله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده وخلق األرواح الخبيثة غير قابلة

شيخ اإلسالم بحر العلوم مفتي معناهلذلك بل لضده وهو الحكيم العليم قال.الفرق أبو العباس احمد بن تيمية رحمه الله

حول قوله تعالى ]142[

162

Page 163: الفوائد بن القيّم

.أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمن©©ا وهم ال يفتن©©ون.ألم :}قال الله تعالى أم حسب.ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين

من كان يرجو لقاء الله ف©©إن.الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن.أجل الله آلت وهو السميع العليم

والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم احسن.العالمين ووصينا اإلنس©©ان بوالدي©©ه حس©©نا وإن جاه©©داك لتش©©رك بي م©©ا.الذي كانوا يعملون

والذين آمن©©وا.ليس لك به علم فال تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون ومن الناس من يقول آمن©©ا بالل©©ه ف©©إذا.وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين

أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كن©©ا وليعلمن الل©©ه ال©©ذين آمن©©وا.معكم أو ليس الل©©ه ب©©أعلم بم©©ا في ص©©دور الع©©المين

.11-1{ العنكبوت وليعلمن المنافقين

أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من:}وقال الله تعالى قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى

.214{ البقرة نصر الله أال إن نصر الله قريب

{ من كفر بالله من بعد إيمانه:}وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا:} قال بعد ذلك,106النحل

.110{ النحل وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم

فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول أحدهم آمنا وإما أن ال يقول آمنا بل يستمر على عمل السيئات فمن قال آمنا امتحنه الرب عز وجل وابتاله وألبسه االبتالء واالختبار ليبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فال يحسب أنه يسبق الرب لتجربته فإن أحدا لن يعجز الله تعالى هذه سنته تعالى

وكذلك جعلنا لكل:}يرسل الرسل إلى الخلق فيكذبهم الناس ويؤذنهم قال تعالى ي الذينت كذلك ما أ:} وقال تعالى,112{ األنعام نبي عدوا شياطين األنس والجن

ما:} وقال تعالى,52{ الذاريات من قبلهم من رسول إال قالوا ساحر أو مجنون.43{ فصلت يقال لك إال ما قد قيل للرسل من قبلك

ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه فابتلى بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم فال بد من حصول األلم لكل نفس سواء

آمنت أم كفرت لكن المؤمن يحصل له األلم في بد من الدنيا ابتداء ثم تكون له.العاقبة واآلخرة والكافر تحصل له النعمة ابتداء ثم يصير في األلم

ل رجل الشافعي فقال يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتليأس فقال الشافعي ال يمكن حتى يبتلي فإن الله ابتلي نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسالمه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم فال يظن أحد أنه

.يخلص من األلم البتة

163

Page 164: الفوائد بن القيّم

وهذا اصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه وهذا يحصل لكل أحد فإن اإلنسان مدني بالطبع ال بد له من أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات

يطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقوهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له األذى والعذاب تارة منهم وتاره من غيرهم ومن اختبر أحواله وأحوال الناس

ولهم أقوال باطلة في, وجد من هذا شيئا كثيرا كقوم يريدون الفواحش والظلم :}الدين أو شرك فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى

قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن واإلثم والبغي بغير الحق وأن { األعرافتشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما ال تعلمون

وهم في مكان مشترك كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو.33 قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم وهم ال يتمكنون مما ال يريدون إال بموافقة ألئك

أو بسكوتهم عن اإلنكار عليهم فيطلبون من أولئك الموافقه أو السكوت فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في االبتالء ثم قد يتسلطون هم أنفسهم

على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كما أولئك يخافونه ابتداء كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكالم في الدين بالباطل إما في الخبر وإما في األمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم فإن لم يجبهم آذوه وعادوه وإن أجابهم فهم

.أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه وإال عذب بغيرهم

فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية ويروي موقوفا :" وفي لفظ" الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناسى من أرض:"ومرفوعا

رضي الله عنه وأرضي عنه الناس ومن أرضي الناس بسخط الله لم يغنوا عنه ا" الترمذي في السنن كتاب عاد حامده من الناس ذام:" وفي لفظ"من الله شيئا.2414 رقم 609\4( 64الزهد باب )

وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين

أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم ثم تكون العاقبة في الدنيا واآلخرة كما جرى للرسل واتباعهم مع من آذاهم وعاداهم مثل المهاجرين في هذه األمة

.ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها ووالته

ا وق©د يج©وز في بعض األم©©ور إظه©©ار الموافق©ة وإبط©©ان المخالف©ة ك©©المكره على الكفر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقص©©ود هن©©ا أن©©ه ال ب©©د من االبتالء بما يؤذي الناس فال خالص ألحد مما يؤذي©©ه البت©©ة وله©©ذا ذك©©ر الل©©ه تع©©الى في غ©©ير

انه ال بد أن يبتلي الناس واالبتالء يك©©ون بالس©©راء والض©©راء وال ب©©د أن يبتلىموضع .اإلنسان بما يسره وبما يسوؤه فهو محتاج إلى أن يكون صابرا شكورا

[ الكهف إنا جعلنا ما على األرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عمال:}قال تعالى ,168{ األع©©راف وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجع©©ون:} وقال تعالى,7

ومن . فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع ه©©داي فال يض©©ل وال يش©©قى:}وقال تعالى-123{ ط©©ه أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحش©©ره ي©©وم القيام©©ة أعمى

164

Page 165: الفوائد بن القيّم

أم حس©©بتم أن ت©©دخلوا الجن©©ة ولم©©ا يعلم الل©©ه ال©©ذين جاه©©دوا:} وقال تعالى,124.142 هذا في آل عمران{منكم ويعلم الصابرين

أم حسبتم أن تدخلوا:}وقد قال قبل ذلك في البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى

{ البق©رةيقول الرسول والذين آمنوا معه متى نص©©ر الل©ه إال إن نص©©ر الل©ه ق©ريب214.

وذلك أن النفس ال تزكو وتصلح حتى تمحص بالبالء كالذهب الذي ال يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كبر االمتحان إذ ك©©انت النفس جاهل©©ة ظالم©©ة وهي منش©©أ

.كل شر يحصل للعبد فال يحصل له شر إال منها

{ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك:}قال تعالى أو لما أصابتكم مصيبة من مصيبة قد أصبتم مثليه©©ا قلتم:} وقال تعالى,79النساء

وم©ا أص©ابكم من :}وق©ال ,165{ آل عم©ران أنى هذا قل ه©و من عن©د أنفس©كم ذل©©ك ب©©أن:} وقال تعالى,30{ الشورى مصيبة فيما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير

.53{ األنفال الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

وإذا أراد الله بقوم سوءا فال مرد له ومالهم من دونه من وال وقد ذكر عقوبات األمم من آدم إلى آخر وقت وفي كل ذلك يقول إنهم ظلموا أنفسهم فهم

ربنا ظلمنا أنفسنا:}الظالمون ال المظلومون وأول من اعترف بذلك أبواهم قاال: وقال إلبليس,23[ األعراف وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين

وإبليس إنما اتبعه الغواة,85{ ص ألمألن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} بما أغويتني ألزينن لهم في األرض وألغوينهم أجمعين إال عبادك:}منهم كما قال

ليس لك عليهم إن عبادي :} وقال تعالى,40- 39{ الحجر منهم المخلصين. والغي اتباع هوى النفس,42{ الحجر سلطان إال من اتبعك من الغاوين

وما زال السلف معترفون بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود أقول فيها برأبي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله

.بريئان منه

يا:"وفي الحديث اإللهي حديث أبي ذر الذي يرويه الرسول عن ربه عز وجل عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله

,2577 رقم 1994\4" مسلم في الصحيح ومن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفسه سيد االستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي ال آله:"وفي الحديث الصحيح حديث

إال أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي أنه ال يغفر الذنوب إال أنت

من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى رقم100\11" البخاري في الدعوات موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة

6306.

165

Page 166: الفوائد بن القيّم

أن:"وفي حديث أبي بكر الصديق من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو رسول الله علمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه اللهم فاطر

السماوات واألرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه اشهد أن ال إله إال أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وان أقترف على نفسي سوأ

" الترمذيأو أجرة إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك.3389في الدعوات رقم

الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من:"وكان النبي يقول في خطبته وقد قال.2118" أبو داود في النكاح رقم شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا

" البخاري في إني أخذ بحجركم عن النار وأنتم تهافتون تهافت الفراش:"النبي شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته وهي صغيرة,6483 رقم 323\11الرقاق

.النفس فإنها جاهلة سريعة الحركة

" ابن ماجه في المقدمة مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فالة:"وفي الحديث " للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليان:" وفي حديث آخر.88رقم

ا ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل ولهذا.24\6أحمد في المسند استخف قومهف :} قال عن فرعون إنه.يقال لمن أطاع من يغويه أنه استخفه

فاصبر إن وعد الله حق وال يستخفنك:} وقال تعالى,54{ الزخرف فأطاعوه وصاحب اليقين. فإن الخفيف ال يثبت بل يطيش. 60{ الروم الذين ال يوقنون

ثابت يقال أيقن إذا كان مستقرا واليقين واستقرار إليمان في القلب علما وعمال.فقد يكون علم العبد جيدا لكن نفسه ال تصبر عند المصائب بل تطيش

إذا شئت أن ترى بصيرا ال صبر له رأيته وإذا شئت أن ترى:قال الحسن البصري وجعلنا منهم:} قال تعالى.صابرا ال بصيرة له رأيته فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك

ولهذا تشبه,24{ السجدة أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها وغضبها وشهوتها من النار والشيطان

.من النار

الغضب من الشيطان والشيطان من النار:"وفي السنن عن النبي أنه قال .4784" أبو داود في األدب أضوإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتو

" الترمذي في الفتن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم:"وفي الحديث اآلخر أال ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه وهو غليان دم القلب لطلب,2192.االنتقام

إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى:"وفي الحديث المتفق على صحته وفي الصحيحين أن رجلين,2035 رقم 326\4" البخاري في االعتكاف الدم

إني ألعلم كلمة لو قالها:"استبا عند النبي وقد اشتد غضب أحدهما فقال النبي " البخاري في األدب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:لذهب عنه ما يجد لو قال

: وقد قال تعالى,24-23 رقم 1712\4 وسلم في السالم 6115 رقم 535\10 وما يلقاها. ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }

166

Page 167: الفوائد بن القيّم

وإما ينزغنك من الشيطان نزغ .إال الذين صبروا وما يلقاها إال ذو حظ عظيم خذ العفو:} وقال تعالى.36-34{ فصلت فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم

وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما:} وقال تعالى{ .إنه سميع عليم

{يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون .98-96المؤمنون

تم الكتاب والحمد لله أوال وآخرا وصلى الله على رسولنا محمد النبي األمي وعلى آله وصحبه وتابعيه والمقتدين بآثارهم إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد

.لله رب العالمين

167

Page 168: الفوائد بن القيّم

الفهرس :

االنتفاع بالقرآن و3شروطه.............................................................................

سورة )ق( جامعة ألصول4اإليمان....................................................................

ªة على أصول براهين المعاد في القرآن مبني5ثالث...................................................

القيامة قيامتان : صغرى و7كبرى.....................................................................

الصفات األربع ألهلªة............................................................................. 8الجن

فضيلة أهل9بدر...........................................................................................

نظرة صائبة في تفسير قوله تعالى :

}هو الذي جعل لكم األرض ذلوال فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه51النشور{الملك

.………………………………………………………………………11

نظرة الى سورة11الفاتحة.................................................................................

لمعرفته تعالى12طريقان..................................................................................

كيف يفعل من أصابه هم أو13غم........................................................................

من معاني"ة....................................................................................... 14العبودي

القضاء والحكم والفرق15بينهما..........................................................................

168

Page 169: الفوائد بن القيّم

أنزه الموجودات وأشرفها عرش الرحمن جل"17جالله...............................................

عظمته سبحانه17وتعالى..................................................................................

ال بد من قبول المحل لما يوضع فيه أن يفرغ من18ضد"ه............................................

الكالم قي ألهاكم19التكائر.................................................................................

من لم ينتفع بعينه لم ينتفع19بأذنه........................................................................

من معاني االنصاف له20تعالى..........................................................................

الغيرةنوعان.............................................................................................

21

"اك ايوالمعاصي.........................................................................................

...22

سلمان منا آل البيت )حديث22شريف(....................................................................

المحب الصادق من وجد أنسه بالله بين الناس ووجده في24الوحدة...................................

مثلالدنيا...............................................................................................

......26

فائدة...........................................................................................................26

169

Page 170: الفوائد بن القيّم

األسباب المشهودة واألسباب29الغائبة.....................................................................

التوحيد مفزع أعدائه30وأوليائه.............................................................................

اللذة تابعةللمحبة............................................................................................

30

حبسانمنجيان.............................................................................................

..31

)فائدة جليلة(-1.............................................................................................-31

)فائدة جليلة(-2.............................................................................................-31

تأثير شهادة أن ال اله اال الله عند الموت في تكفير32السيئات...........................................

فاتقوا الله وأجملوا33الطلب...................................................................................

)فائدة(.........................................................................................................34

العداوة بين الخير34والشر...................................................................................

صبر الرسول صلى الله عليه وسلم35وانتصاره.........................................................

يا مغرورباألماني..........................................................................................

36

العمل بآخره والعمل36بخاتمته*............................................................................

170

Page 171: الفوائد بن القيّم

لماذا كان أول المخلوقات القلم وآخرها آدم عليه37السالم..............................................

كتابة عذر آدم قبل هبوطه الى37األرض.................................................................

فائدة االيمان بالله38وحده....................................................................................

الله يتجلى لعباده بصفاته في40كالمه......................................................................

"ال تحزن ان الله معنا" تقوى42القلب.....................................................................

)تنبيه(اجتناب من يعادي أهل كتاب الله وسنة43....................................رسوله.............

من المواعظ43......................................................والحكم...................................

هجر القرآن48..................................................أنواع.........................................

كمال النفس..........................................المطلوب.............................................

49

من أصبح وليس همه اال الله49تعالى.......................................................................

العلم والعمل وما49...........................................هما............................................

االيمان له ظاهر50.............................................وباطن........................................

التوكل على الله50نوعان.......................................................................................

171

Page 172: الفوائد بن القيّم

شكوى الجاهل من51.......................................الله............................................

حول اآلية الكريمة }يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله

52.......................................وللرسول{.....................

}وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير54.......................................................لكم{..........

الرغبة في اآلخرة تقتضي الزهد55................................بالدنيا...................................

أساس الخير أن تؤمن بما شاءه57................................تعالى..................................

مرض...........................القلب...................................................................

....58

ترك......................االختيار.......................................................................

.58

قبول فتوى العابد الزاهد في59.................................................................دنياه.........

احذروا فتنة العالم الفاجر وفتنة العابد60الجاهل..........................................................

العلم االيمان أفضل ما تكسبه النفس ويحص"له61القلب....................................................

االيمان المفصل معرفة وعلم واقرار62ومحبة.............................................................

ال مشقة في ترك المألوف ارضاء لله63تعالى..............................................................

172

Page 173: الفوائد بن القيّم

)قاعدةجليلة(..............................................................................................

...64

عشرة أشياء ضائعة ال ينتفع65بها...........................................................................

حقوق الله على66العباد.........................................................................................

توكل على الله حق67توكله....................................................................................

هلم الى الدخول على الله ومجاورته في68الجنة...........................................................

عالمة صحة69االرادة........................................................................................

استغن عن الناس بالله69تعالى...............................................................................

أقسامالزهد...............................................................................................

....69

ترك األمر عند الله أعظم من ارتكاب69النهي............................................................

مبني الشكر على قاعدتين الذكر75والشكر................................................................

من سار نحو الهداية يسر الله له76سبلها...................................................................

بين الهدى والرحمة- والضالل77والشقاء.................................................................

الهدى والرحمة وتوابعهما من صفة79العطاء............................................................

173

Page 174: الفوائد بن القيّم

التعلق في المطالب79العليا...................................................................................

"اك ايوالكذب............................................................................................

.....79

} وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوافي ظالل اآلية الكريمة شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم

80 .........................................................................التعلمون{.

شروط االنتفاع بااليمان80والعلم.........................................................................

الصبر عن الشهوة أسهل من ألم81عقوبتها.............................................................

حدوداألخالق............................................................................................

81

)فصل(....................................................................................................82

األخالق المحمودة واألخالق84المذمومة...............................................................

المطلب األعلى يحتاج الى همة عالية ونية84صحيحة...............................................

من حكم ابن مسعود رضي الله84عنه...................................................................

االخالص ومحبة المدح ال يجتمعان في87قلب.........................................................

أشرف الناس من كانت لذته في معرفة الله تعالى87ومحبته..........................................

من مزايا أمير المؤمنين عمر بن عبد88العزيز........................................................

174

Page 175: الفوائد بن القيّم

من الحكموالمواعظ......................................................................................

89

منالعوائق............................................................................................

....89

من.....................العالئق........................................................................

....90

حاجة الناس الى الرسول صلى الله عليه90........................وسلم.................................

من عالمات السعادة90........................والفالح......................................................

األعمال درجات وأساسها90............................االيمان............................................

أركان.....................الكفر..........................................................................

...91

الجهال بأسماء الله92.............................وصفاته...................................................

التوحيد والسنة شجرة في القلب فروعها95.........................األعمال............................

خلق بدن آدم من األرض وروحه من ملكوت97..........................السماء......................

رعاية الحقوق مع الضر ورعايتها مع98.......................العافية.................................

معرفة الله تعالى98.............................نوعان.....................................................

175

Page 176: الفوائد بن القيّم

أنواع.......................الكسب.....................................................................

...98

مواساة المؤمن98...............................وأنواعها..................................................

الجهل بالطريق يورث99.....................................التعب.......................................

الرحلة الى الله تعالى وما يكتنفها من الخوادع99.....................................والقواطع.......

نعم الله تعالى99...................................وأنواعها.................................................

الخواطر واألفكار مبدأ كل علم99...............................نظري.................................

من أقوال شفيق101....................................البلخي...............................................

اعرف نفسك تعرف102......................................ربك...........................................

من أنواع معرفة الله103تعالى...............................................................................

حول قوله تعالى:

"روا ما "ر ما بقوم حتى يغي }ان الله ال يغي103بأنفسهم{..................................................

معرفة الله سبحانه وتعالى103بالجمال....................................................................

ان الله جميل يحب105الجمال..............................................................................

نظرات في106الجمال.......................................................................................

176

Page 177: الفوائد بن القيّم

صدق العبد مع106ربه......................................................................................

فيالقدر...............................................................................................

....106

مثل المرء في الحياة الدنيا كمثل108مسافر..............................................................

االشتغالبالمشاهدة......................................................................................

108

الحذر من طريق108الشيطان..............................................................................

طلب النفوذ الى الله والدار109اآلخرة....................................................................

تواطؤ اللسان والقلب على ذكر109الله...................................................................

أنفع الناس109لك............................................................................................

مة ممزوجة اللذة المحر"109بالقبح.........................................................................

لله على العبد في كل عضو من أعضائه110أمر.......................................................

}فريق في الجنة وفريق في110السعير{................................................................

صفاتالتوحيد...........................................................................................

110

ترك الشهوات111لله.........................................................................................

177

Page 178: الفوائد بن القيّم

من كالم أحد112الصالحين.................................................................................

الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو112غيره.....................................................

الفكر مبدأ االرادة وهو أصل الخير112والشر..........................................................

الطلب لقاح113االيمان.....................................................................................

موقفان للعبد بين يدي الله114تعالى.....................................................................

)قاعدة(.................................................................................................114

في قص"ة"وب........................................................................................ 114أي

في قصة114يوسف......................................................................................

.............................................................................................)فائدة(....115

محبة الله تعالى واالتصال115به.....................................................................

نعم الطاعات واللذات كلها من عند الله116تعالى...................................................

في بيان سبب116الخذالن.............................................................................

حول قوله تعالىأحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا.ألم { -1العنكبوت } ...

11.......................117

178