موسوعة الخطب والدروس المنوعة (14) · web view([3]) انظر: "أحكام...

1838
ة ع و س و م ب ط خ ل ا ة ي ر ب ن م ل ا( 21 ) اب ب ل ا ث ل ا ب ل ا ب ط خ ودروس ر ب ع ة ب ت ر م( 5 ) ع م جاد عد1 وا 2 ب ح ا ب ل ا ي ف6 ن8 را لق ا ة ب س ل وا ي عل6 ن ب ف ي ا ن ود ح ش ل ا1

Upload: others

Post on 24-Dec-2020

6 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

موسوعة الخطب والدروس المنوعة (14)

موسوعة الخطب المنبرية

(21)

الباب الثالث

خطب ودروس غير مرتبة

(5)

جمع وإعداد

الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود

الأدلة الشرعية في حكم الأناشيد الإسلامية

تحتوي على فتوى مجموعة من العلماء كالشيخ ابن عثيمين وعبد العزيز آل الشيخ وصالح الفوزان وبكر أبو زيد

مزيدة ومنقحة لذي الحجة عام 1422هـ

إعداد

عبد العزيز بن ريس الريس

المشرف على موقع الإسلام العتيق

www.islamancient.com

الأدلة الشرعية فِي حكم الأناشيد الإسلامية

السلام عليكم ورحْمَة الله وبركاته.

أما بعد:

فقد شاعت الأناشيد الْمُسماة -خطأً وبُهتانًا-: إسلامية(1) بين الْمُسلمين عمومًا, وشباب الاستقامة خصوصًا, وامتلأت التسجيلات الإسلامية منها, وكثر الْمُنشدون الْمَحسوبون على أهل الاستقامة والديانة, بل صار من بينهم أئمة مساجد ومصلحون, وازداد البلاء بِما علم من فتنة الفتيات بأصوات هؤلاء الناعقين, والتحدث بِهم فِي الْمَجالس والتجمعات بين العالَمين, ونشر هؤلاء الْمُنشدين أرقام هواتفهم مع إنشادهم, وأخشى أن ينشروا فِي الْمُستقبل صورهم, فلما كان هذا كله وزيادة كان لزامًا شيوع إنكارها بين مريدها ومبتغيها بالكلمة والكتابة حَتَّى يظهر الحق؛ فيهلك من هلك عن بينة, ويَحيا من حيّ عن بينة.

وقد جعلت هذا الرد فصولاً:

الفصل الأول: ما الأناشيد الْمُعنية فِي هذا الرد؟

الفصل الثانِي: شبهات الْمُنشدين وردها.

الفصل الثالث: بعض فتاوى العلماء المعاصرين.

الفصل الأول

ما الأناشيد المعنية فِي هذا الرد؟

ليست الأناشيد الْمَصحوبة بالدف معنية بِهذا الرد لوضوح حرمتها؛ لأن الدفوف من جُملة الْمَعازف(2), والْمَعازف مُحرمة؛ لقول رسول الله " ليكونن أقوام من أمتِي يستحلون الحر والحرير والخمر والْمَعازف " رواه البخاري من حديث أبِي مالك الأشعري.

وروى ابن حزم فِي الْمُحلى(3) وصححه: أن أصحاب ابن مسعود كانوا يستقبلون الجواري فِي الْمَدينة معهن الدفوف فيشققونَها.

وللأسف لقد انتشر هذا النوع من الأناشيد فِي التسجيلات الإسلامية, وكثر استماع بعض شباب الاستقامة(4) لَها, وهم فِي استماعهم وطربِهم مستحلون غير شاعرين بالحرمة والإثْم فصدق الرسول " ليكونن أقوام من أمتِي يستحلون الْحِر والْحَرير والْخَمر والْمَعازف ".

وليس الْمَعنِي بِهذا الرد -أيضًا- تلك الأناشيد الْمُتضمنة كلامًا مُحرمًا كالإنشاد بالاحتفال بِمولد رسول الله ؛ لكون بدعية هذا النوع ظاهرًا عند كثير من شباب الاستقامة.

وإنَّما الْمَعنِي بِهذا الرد: الإنشاد الْمُجرد الْمُتخذ وسيلة لِهداية الْخَلق ودعوتِهم.

ومعنَى اتِّخاذها وسيلة دعوية: أن الْمُنشد يرجو الأجر بإنشاده؛ لأنه يتسبب فِي جلب الشباب إلَى أماكن تَجمعات الْخَير, وعدم إملالِهم منها, وأيضًا هو يريد جعل الأناشيد بديلاً من الغناء الْمُحرم, وهذه وسيلة دعوية لترك الغناء, وهكذا ...

وفِي هذا الرد: التدليل والنقل عن العلماء الراسخين بِحرمة الأناشيد الإسلامية الشائعة -الآن- مطلقًا سواء اتُّخذت وسيلة دعوية أو لَمْ تتخذ؛ لأنَّها على ألْحَان الأغانِي الْمَاجنة فهل من مدكر؟!

الفصل الثانِي

شبهات الْمُنشدين وردها

تتلخص شبهات الْمُنشدين فِي ثلاث شُبه:

الأولَى: أنه ثبت عن الصحابة الإنشاد فِي مواطن مُختلفة:

- منها ما روى الشيخان عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - فِي قصة حفر الخندق قال: $فلما رأى رسول الله ج ما بنا من النصب والجوع قال:

اللهم إن العيش عيش الآخره فاغفر للأنصار والْمُهاجره

فقالوا مُجيبين له:

نَحن الذين بايعوا مُحمدَا على الجهاد ما بقينا أبدَا

- وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله ج إلَى خيبر, فسرنا ليلاً, فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ قال -وكان عامر رجلاً شاعرًا حداء- فنَزل يَحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا … الحديث.

- وروى الشيخان عن أنس قال: كان رسول الله ج فِي سفر, وكان معه غلام له أسود يقال له: أنْجشة، يَحدو, فقال له رسول الله " ويْحك يا أنْجشة, رويدك سوقًا بالقوارير".

قالوا: فدلت هذه النصوص وغيرها على جواز الإنشاد, وهل إنشادنا إلا هذا؟!

الثانية: أن الأصل فِي الأشياء الإباحة إلا بدليل, وهذه الأناشيد على هذا الأصل إلا بدليل ينقلها عنه, وليس هناك دليل شرعي ناقل عن هذا الأصل, وكل ما هو مباح فيجوز اتِّخاذه وسيلة من وسائل الدعوة, فإن وسائل الدعوة غير توقيفية.

الثالثة: أنه ثبت فِي الصحيحين من حديث أبِي هريرة أن عمر بن الْخَطاب مرَّ بِحسان وهو ينشد(5) فِي الْمَسجد فلحظ إليه فقال: "قد كنت أنشد فيه, وفيه من هو خير منك".

وجه الدلالة: أن حسانًا تعبد الله بإلقاء الشعر, وفِي بيت من بيوت الله, ورسول الله يسمعه ولا ينكر ذلك.

جواب الشبهة الأولَى:

إن غاية ما تقرره الأدلة الْمَذكورة فِي الشبهة الأولَى: أن الأناشيد من جُملة الْمُباحات, وهذا لا نَختلف فيه وليس هو مورد النِّزاع, وإنَّما مورد النِّزاع فِي جعل الأناشيد وسيلة من وسائل الدعوة إلَى الله(6). وهذا مِمَّا يَجعلنا ننتقل إلَى جواب الشبهة الثانية الْمُتضمن جوابًا على الشبهة الأولى.

جواب الشبهة الثانية:

مبنِي على مقدمتين:

الأولَى: أن البدع تدخل فِي وسائل العبادة كما تدخل فِي العبادة نفسها كالدعوة إلَى الله, ومن الأدلة على ذلك:

ما روى البخاري فِي قصة جَمع الْمُصحف وأن عمر بن الخطاب أشار على أبِي بكر بالْجَمع, فقال له أبو بكر: كيف تفعل شيئًا لَمْ يفعله رسول الله , وبِمثل هذا أجاب زيد بن ثابت أبا بكر الصديق لَمَّا عرض عليه جَمع الْمُصحف.

ففي هذا دلالة واضحة على أن البدع تدخل فِي الوسائل كما تدخل فِي العبادة ذاتِها ؛ وذلك أن جَمع الْمُصحف من الوسائل, ومع ذلك احتجوا بعدم فعل رسول الله .

فإن قيل: لِماذا إذن جَمعوا الْمُصحف مع أن رسول الله ج لَمْ يفعله؟

فيقال: لأن مقتضى -أي: سبب- الْجَمع وجد فِي زمان أبِي بكر - رضي الله عنه -, ولَمْ يكن موجودًا فِي زمان رسول الله ج؛ إذ هو حي بين أظهرهم فبوجوده لا يُخشى ذهاب القرآن(7).

ومن الأدلة أيضًا: ما ثبت عند الدارمي وابن وضاح أن ابن مسعود أنكر على الذين كانوا يعدون تكبيرهم وتسبيحهم وتَهليلهم بالْحَصى, واحتج عليهم بأن رسول الله ج وأصحابه لَمْ يفعلوا, مع أن عدَّ التسبيح راجع للوسائل.

وكن أخي القارئ على علم بأن كل ما روي فِي التسبيح بالحصى من حديث أو أثر فإنه لا يثبت كما بين ذلك العلامة الألبانِي -رحِمه الله-(8)، والشيخ بكر أبو زيد (9).

تنبيه: كثيرًا ما تُجوَّز البدع وتُستحسن باسم الْمَصلحة!!

قال ابن تيمية: والقول بالْمَصالِح الْمُرسلة يشرع من الدين ما لَمْ يأذن به الله غالبًا, وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونَحو ذلك...

ثُمَّ قال: وكثير مِمَّا ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعًا وحقًّا وصوابًا ولَمْ يكن كذلك. ا’(10).

الثانية: هل وسائل الدعوة توقيفية أم لا ؟

وجواب هذا راجع إلَى معرفة الفرق بين الْمَصالِح الْمُرسلة والبدع الْمُحدثة, وخلاصة ذلك أمران:

الأول: أن ينظر فِي هذا الأمر الْمُراد إحداثه لكونه مصلحة, هل الْمُقتضي لفعله كان موجودًا فِي عهد الرسول ج والصحابة والْمَانع منتفيًا؟

أ- فإن كان كذلك ففعل هذه الْمَصلحة -الْمَزعومة- بدعة؛ إذ لو كانت خيرًا لسبق القوم إليه فإنَّهم بالله أعلم, وله أخشى, وكل خير فِي اتباعهم فعلاً وتركًا.

ب- أما لو كان الْمُقتضي -أي: السبب الْمحوج- غير موجود فِي عهدهم أو كان موجودًا لكن هناك مانع يَمنع من اتِّخاذ هذه الْمَصلحة فإنه لا يكون بدعة، بل يكون مصلحة مرسلة, وذلك مثل جَمع القرآن فِي عهد رسول الله , فإن الْمُقتضي لفعله غير موجود؛ إذ هو بين أظهرهم لا يُخشى ذهابه ونسيانه, أما بعد موته فخشي ذلك لأجل هذا جَمع الصحابة الكرام القرآن.

ومن الأمثلة أيضًا: الأذان فِي مكبرات الصوت, وتسجيل الْمُحاضرات فِي الأشرطة السمعية, وصلاة القيام فِي رمضان جَماعة, فكل هذه الأمور كان يوجد مانع فِي عهد رسول الله من فعلها, أما الأمران الأولان: فعدم إمكانه لعدم وجودها فِي زمانه, أما الأمر الثالث: فإنه ترك الفعل خشية فرضه, وبعد موته لَمْ يكن ليفرض شيء لَمْ يكن مفروضًا من قبل.

الثانِي: إن كان الْمُقتضي غير موجود فِي عهد النَّبِي ج فيُنظر فيه هل الداعي له عندنا بعض ذنوب العباد؟ فمثل هذا لا تُحَدثُ له ما قد يسميه صاحبه مصلحةً مرسلةً بل يؤمرون بالرجوع إلَى دين الله والتمسك به؛ إذ هذا الْمَطلوب منهم فعله، والْمَطلوب من غيرهم دعوتُهم إليه, ويُمثل لِهذا بتقديْم الخطبة على الصلاة فِي العيدين لأجل حبس الناس لسماع الذكر فمثل هذا من البدع الْمُحدثة لا من الْمَصالِح الْمُرسلة, وإليك كلام الإمام الْمُحقق ابن تيمية فِي بيان هذا الضابط:

قال ابن تيمية: "والضابط فِي هذا -والله أعلم-: أن يُقال: إن الناس لا يُحدثون شيئًا إلا لأنَّهم يرونه مصلحةً؛ إذ لو اعتقدوه مفسدةً لَمْ يُحدثوه, فإنه لا يدعو إليه عقلٌ ولا دينٌ, فما رآه الناس مصلحةً نظر فِي السبب الْمُحوج إليه, فإن كان السبب الْمُحوج أمرًا حدث بعد النَّبِي من غير تفريط منا فهنا قد يَجوز إحداث ما تدعو الْحَاجة إليه, وكذلك إن كان الْمُقتضي لفعله قائمًا على عهد رسول الله ج لكن تركه النَّبِي ج لِمعارضٍ زال بِموته.

وأما ما لَمْ يَحدث سببٌ يُحوج إليه أو كان السبب الْمُحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يَجوز الإحداث؛ فكل أمرٍ يكون الْمُقتضي لفعله على عهد رسول الله موجودًا لو كان مصلحةً ولَمْ يُفعل يُعلم أنه ليس بِمصلحةٍ, وأما ما حدث الْمُقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق, فقد يكون مصلحة.

ثُمَّ هنا للفقهاء طريقان :

أحدهما: أن ذلك يفعل ما لَمْ يُنه عنه, وهذا قول القائلين بالْمَصالِح الْمُرسلة.

والثانِي: أن ذلك لا يُفعل إن لَمْ يُؤمر به, وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالْمَصالِح المرسلة, وهؤلاء ضربان:

منهم: من لا يثبت الحكم, إن لَمْ يدخل فِي لفظ كلام الشارع, أو فعله, أو إقراره وهم نُفاة القياس.

ومنهم: من يثبته بلفظ الشارع أو بِمعناه وهم القياسيون.

فأما ما كان الْمُقتضي لفعله موجودًا لو كان مصلحةً, وهو مع هذا لَمْ يشرعه, فوضعه تغييرٌ لدين الله, وإنَّما دخل فيه من نسب إلَى تغيير الدِّين من الْمُلوك والعلماء والعباد أو من زلَّ منهم باجتهاد, كما روي عن النَّبِي ج وغير واحدٍ من الصحابة: إن أخوف ما أخاف عليكم: زلَّة عالِم, وجدال منافقٍ بالقرآن, وأئمةٌ مضلُّون.

فمثال هذا القسم: الأذان فِي العيدين, فإن هذا لَمَّا أحدثه بعض الأمراء, أنكره الْمُسلمون لأنه بدعةٌ, فلو لَمْ يكن كونه بدعةً دليلاً على كراهيته, وإلا لقيل: هذا ذكرٌ لله ودعاءٌ للخلق إلَى عبادة الله, فيدخل فِي العمومات, كقوله: ?اذكروا الله ذكرًا كثيرًا? وقوله تعالى: ?ومن أحسن قولاً ممن دعآ إلَى الله وعمل صالِحًا?.

ثُمَّ قال: ومثال ما حدثت الْحَاجة إليه من البدع بتفريطٍ من الناس: تقديْم الخطبة على الصلاة فِي العيدين, فإنه لَمَّا فعله بعض الأمراء أنكره الْمُسلمون؛ لأنه بدعةٌ, واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضُّون قبل سَماع الخطبة, وكانوا على عهد رسول الله ج لا ينفضُّون حَتَّى يسمعوا أو أكثرهم, فيُقال له: سببُ هذا تفريطك؛ فإن النَّبِي كان يَخطبهم خطبةً يقصد بِها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم, وأنت قصدك إقامة رياستك, وإن قصدت صلاح دينهم, فلا تعلمهم ما ينفعهم فهذه الْمَعصية منك لا تُبيح لك إحداث معصيةٍ أخرى, بل الطريق فِي ذلك أن تتوب إلَى الله, وتتبع سنة نبيه, وقد استقام الأمر وإن لَمْ يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم؛ وهذان الْمَعنيان من فهمهما انْحلَّ عنه كثيرٌ من شبهِ البدع الْحَادثة". ا’(11).

وبعد هاتين الْمُقدمتين يقال: إن اتِّخاذ الأناشيد وسيلة من وسائل الدعوة بدعة؛ لأن وسائل الدعوة فيما وجد مقتضاه عند رسول الله ج وأصحابه مع انتفاء الْمَانع توقيفية بِخلاف ما عدا ذلك فهي بِهذا مُحدثة داخلة فِي عموم ما أخرجه مسلم عن جابر أن رسول الله قال: "فإن كل بدعة ضلالة" .

وما أخرجه الترمذي وصححه ابن عبد البر عن العرباض بن سارية أنه قال: قال رسول الله "وكل مُحدثة بدعة".

وما روى الشيخان عن عائشة أن رسول الله ج قال: "من أحدث فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

وما روى الدارمي عن ابن مسعود أنه قال: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير، تَجري على الناس يتخذونَها سنة؛ إذا غيرت قيل: إنَّها غيرت السنة، أو هذا منكر".

وما روى الدارمي أيضاً عن حسان بن عطية التابعي الجليل أنه قال: "ما ابتدع قوم بدعة فِي دينهم إلا نزع من سنتهم مثلها".

وما روى اللالكائي عن سفيان الثوري أنه قال: "البدعة أحب إلَى إبليس من الْمَعصية؛ الْمَعصية يُتاب منها, والبدعة لا يُتاب منها".

فإنه لو كان اتِّخاذ هذه الأناشيد وسيلة من وسائل الدعوة خيرًا لرأيت رسول الله وأصحابه أسرع الناس إليها؛ إذ لا مانع يَمنعهم من اتِّخاذها وهم أحرص على هداية الْخَلق كما قال تعالى فِي رسوله الكريْم ج: ?لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم?. لاسيما والأناشيد معروفة عندهم كما سبق.

قال ابن تيمية: وأما سَماع القصائد لصلاح القلوب والاجتماع على ذلك إما نشيدًا مُجردًا(12), وإما مقرونًا بالتغبير ونَحوه مثل الضرب بالقضيب على الْجُلود حَتَّى يطير الغبار ومثل التصفيق ونَحوه فهذا السماع مُحدث فِي الإسلام بعد ذهاب القرون الثلاثة, وقد كرهه أعيان الأئمة ولَمْ يَحضره أكابر الْمَشائخ ...

ثُمَّ قال: فتبين أنه بدعة ولو كان للناس فيه منفعة لفعله القرون الثلاثة, ولَم يَحضروه مثل ابن أدهم والفضيل ومعروف والسري وأبِي سليمان الدارانِي والشيخ عبد القادر وغيرهم وكذلك أعيان الْمَشائخ. ا’ (13).

فليتق الله امرؤ بتقدمه بين يدي رسول ج وأصحابه بِما يزعمه خيرًا, أكانوا له جاهلين وأنت به عارف؟ أم كانوا به عالِمين وأنت لِهداية الْخَلق منهم أحرص؟

جواب الشبهة الثالثة:

إن الشعر الذي كان يلقيه حسان بن ثابت شعر يرد به على الْمُشركين, ويدافع به عن رسول رب العالَمين كما ثبت فِي الصحيحين: أن أبا سلمة بن عبد الرَّحْمَن سَمع حسان بن ثابت ينشد أبا هريرة: أنشدك الله هل سَمعت النَّبِي ج يقول: يا حسان أجب عن رسول الله ج, اللهم أيده بروح القدس. قال أبو هريرة: نعم.

فأين الإنشاد -الذي هو رفع الصوت بالشعر كما سبق- بالرد على الْمُشركين من شعر ملحن يقصد من ورائه هداية الضالين, وإرشاد الغاوين؟

ففعل حسان وإن كان فيه التعبد بالرد فإنه لا يصح أن يقاس عليه جعل الأناشيد وسيلة دعوية؛ لأنَّهما متغايران؛ لكون فعل حسان ردًّا على الكافرين وفعل هؤلاء جذبًا للفاسقين, ثُمَّ على فرض -جدلاً- التساوي بينهما, فإن ترك الرسول وأصحابه لِهذا العمل وهو الْمُسمى بالسنة التركية مقدم على القياس بل ويُحكم عليه بالفساد كما بين ذلك الْمُحققون كابن تيمية وابن القيم (14).

قال الشاطبِي: منها الْمُنافحة عن رسول الله ج وعن الإسلام وأهله, ولذلك كان حسان بن ثابت - رضي الله عنه - قد نصب له منبر فِي الْمَسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود, حَتَّى يقولوا: خطيبه أخطب من خطيبنا, وشاعره أشعر من شاعرنا, ويقول له - عليه السلام -: اهجهم وجبريل معك، وهذا من باب الْجِهاد فِي سبيل الله, فليس للفقراء(15) من فضله فِي غنائهم بالشعر قليل ولا كثير.(16) ا’.

وبعد تفنيد هذه الشبه يتبين أن هذه الأناشيد مُحرمة تَحريْمًا شديدًا لِما يلي:

1- أنَّها بدعة مُحدثة, كما سبق .

2- أنَّها تصد الناس عن القرآن وذكر الله, فمن اعتادها ثقل القرآن على قلبه، وهذا شيء ملحوظ ملموس ذكره كافٍ عن البرهنة عليه.

قال الشافعي: "خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يزعمون أنه يرقق القلوب, يصدون به الناس عن القرآن".

وهذه الأناشيد يزعم أصحابُها أنَّها ترقق القلوب وصدوا بِها الناس عن القرآن, لاسيما أولئك الذين أقاموا المهرجانات الإنشادية، وجَمعوا الناعقين من أماكن مُختلفة, وحاكوا فِي فعالِهم الْمُغنين الْمَاجنين, فيا إلَهي ما أحلمك وأشد صبرك لِمن زعم هذا الفعل إسلاميًّا وتدين به لك!!

أما الأناشيد الْمُنتشرة -الآن- فِي التسجيلات الإسلامية فكثير منها تلحن تلحين الأغانِي الْمَنصوص على حرمتها(17) فهذه مُحرمة على كل حال لِما فيها من التشبه بالْحَرام(18) والفساق, فإذا اتُّخذت وسيلة دعوية زادت حرمتها حرمة, فكيف إذا كان الْمُنشدون مردانًا وفتيات وأصحاب أصوات فاتنة قد زادها أصحابُها فتنة بالتمطيط والتمييع؟

أم كيف إذا كان الْمُنشد الناعق يُخرج نفسه منشدًا فِي أفلام مرئية متنقلاً بين الأزهار والأشجار والأحجار تشبهًا منه بالْمُغنيين الفاسقين الْمَاجنين؟

فما أشد الْخَيبة والعار إذا كان هذا كله يصدر من أناس ظاهرهم الْهِداية والاستقامة!! ألا تابوا وأنابوا، ومن ربِّهم خافوا.

الفصل الثالث

بعض فتاوى أهل العلم الْمُعاصرين

قد تواترت فتاوى كثير من علماء العصر على تَحريْم هذه البدعة والتحذير منها, ومن هؤلاء العلماء:

1 - الشيخ العلامة الْمُحدث مُحَمَّد ناصر الدين الألبانِي -رحِمه الله-:

قرر بدعيتها فِي كثير من مسجلاته الصوتية, وفِي كتابه تَحريْم آلات الطرب (ص158).

2- الشيخ الْمُجاهد حَمود التويْجري -رحِمه الله-:

له فِي ذلك رسالة بعنوان "إقامة الدليل فِي الْمَنع من الأناشيد الْمُلحنة والتمثيل" بيَّن فيها كونَها من البدع الصوفية.

3- شيخي الفقيه العلامة الفهامة مُحَمَّد بن صالح آل عثيمين -رحِمه الله-:

قال فِي فتاوى العقيدة (ص651): الإنشاد الإسلامي إنشاد مبتدع مِمَّا ابتدعته الصوفية, ولِهذا ينبغي العدول عنه إلَى مواعظ القرآن والسنة، اللهم إلا أن يكون فِي مواطن الْحَرب ليستعان به على الإقدام والْجِهاد فِي سبيل الله تعالَى فهذا حسن, وإذا اجتمع معه الدف كان أبعد عن الصواب. ا’.

ولا تنس أن الشيخ فِي إنكاره على الْمَدعو مساعد الراشد -كما سبق نقله- حرم ما كان على ألْحَان الأغانِي, ثُمَّ إن له كلامًا آخر جوز فيه بعض صور الأناشيد فليجمع مع كلامه هذا ثُمَّ يطبق على واقع الأناشيد الحالية.

4- سَماحة الْمُفتِي العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ -حفظه الله-:

فقد نص على بدعيتها فِي عدة فتاوى, راجع شريط أقوال العلماء فِي الأناشيد والتمثيل(19).

5- شيخي العلامة صالِح الفوزان -حفظه الله-:

قرر فِي بَحث له مفيد أنَّها بدعة صوفية مُحرمة(20).

6- شيخي عبد الرحْمَن البراك -حفظه الله-:

سَمعته ينص على أنَّها بدعة صوفية.

7- الشيخ بكر أبو زيد -عافاه الله-:

كما فِي حاشية كتابه تصحيح الدعاء (ص311).

8- فضيلة الشيخ صالِح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله-:

نص على حرمتها, راجع شريط أقوال العلماء فِي الأناشيد والتمثيل.

9- شيخي عبد الله بن صالح العبيلان -حفظه الله-:

لَمَّا سألته عن حكمها أملى عليَّ ما نصه: لا يَخلو حكمها عن أحوال ثلاثة:

الأولَى: أن يكون على وجه التدين؛ فهذا مُحرم؛ لأنه من عمل النصارى فِي كنائسهم, والرسول قال: "من تشبه بقوم فهو منهم".

الثانية: أن يتخذ وسيلة للدعوة؛ فهذا مُحرم أيضًا؛ وذلك لأن وسائل الدعوة الَّتِي يتعبد الله بِها لابد فيها من التوقيف.

الثالثة: ألاَّ تفعل على وجه التعبد؛ فلا بأس من فعلها بشرط ألا تغلب على ما أمر به العبد من ذكر الله.

أَبَعْدَ هذا هل لا يزال طائفة من الناس مُصرين على استخدام الأناشيد وسيلة من وسائل الدعوة؟ هذا ما لا أرجوه؛ لأنه أقل ما يقال -لِمن لَمْ يقنع بِهذا الكلام-: إنَّها من جُملة الشبهات، وطريقة أهل الإيْمان: تَجنبها كما قال رسول الله ج فِي حديث النعمان بن بشير: "ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فِي الشبهات وقع فِي الْحَرام".

علمًا أن كثيرًا من هؤلاء العلماء كان كلامهم هذا عن الأناشيد قبل حدوث التطورات الْجَديدة فيها خلال هذه السنين الْمُتأخرة وقبل توسع الْمُنشدين -هداهم الله- حَتَّى إن بعض الأناشيد صاحبها دف -نسأل الله السلامة- وإن للأناشيد مفاسد أخرى تركتها اختصارًا تَجدها مذكورة فِي كتاب "القول الْمُفيد فِي حكم الأناشيد" جزى الله الْمُؤلف خيرًا.

خلاصة البحث:

أنَّ الأناشيد إنْ كانت على ألْحَان الأغانِي فهي مُحرمة مطلقًا -وهذا هو واقع أكثر الأناشيد اليوم-، وإن لَمْ تكن على ألْحَان الأغانِي فإن الْمُحرم منها ما جعل وسيلة دعوية, فمن سَمعها تسلية غير داخل فِي الإثْم مع كون الْمُنشد نفسه آثِمًا؛ لأنه فِي الأصل لَمْ ينشده إلا دعوة.

ختامًا

فإنِّي أدعو الْمُنشدين والْمُستمعين لِهذه الأناشيد والبائعين لَها فِي التسجيلات أن يقلعوا عن هذا الفعل الوخيم, وأن يستشعروا معصيتهم للرب العليم؛ إذ هي أشد إثْمًا من الأغانِي الْمَاجنة.

قال العلامة فضيلة الشيخ صالِح الفوزان -حفظه الله-: "إن هذه الأشياء -أي: الأغانِي الْمَاجنة- لا يَجوز سَماعها والاشتغال بِها, لكن ليس البديل منها أناشيد أخرى قد يكون استماعها أشد إثْمًا إذا عددناها دينية وسَميناها إسلامية؛ لأن هذا يعد ابتداعًا وتشريعًا لَمْ يأذن الله به, والبديل الصحيح هو تسجيل القرآن الكريْم والأحاديث النبوية والْمُحاضرات فِي الفقه والعقيدة والْمَواعظ النافعة, هذا هو البديل الصحيح, لا أناشيد الصوفية وأشباههم"(21) ا’.

وما ذكره الشيخ حق لا مرية فيه فإن البدعة أشد إثماً من المعصية الشهوانية بالإجْمَاع.

قال ابن تيمية: "أهل البدع شرٌ من أهل الْمَعاصي الشهوانية بالسنة والإجْمَاع"(22) ا’.

وقال ابن القيم: "بل ما أكثر من يتعبد الله بِما حرمه الله عليه, ويعتقد أنه طاعةٌ وقربةٌ, وحاله فِي ذلك شرٌّ من حال من يعتقد ذلك معصيةً وإثْمًا, كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلَى الله تعالَى, ويظنون أنَّهم من أولياء الرَّحْمَن, وهم فِي الحقيقة من أولياء الشيطان"(23) ا’.

ثُمَّ إنِّي أحذر من يَخشى الله واليوم الآخر أن يسوغ لنفسه إعداد وبيع وسَماع هذه الأناشيد البدعية بِحجة أن هناك من يفتِي بِجوازها, فإن الْخِلاف لَمْ يكن ولن يكون دليلاً ترد به الأدلة, بل إنه ضعيف مفتقر إلَى الدليل كما قال تعالَى: ?وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلَى الله? والأدلة الشرعية الصحيحة على حرمة هذه الأناشيد قد أبرزت لك, فبادر -مبتغي الجنان- هجرها؛ استجابة لقول الله تعالى: ?وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم, ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا?.

وإياك والرخص فإنه من تتبعها تزندق كما قاله سليمان التيمي -رحِمه الله-(24).

ثُمَّ أنبه الأخوة الأفاضل إلَى أن الأناشيد الْمُتخذة وسيلة من وسائل الدعوة هي مِمَّا اشتهرت به جَماعة الإخوان الْمُسلمين (الْمَعروفة) الَّتِي أسسها حسن البنا ذلكم الْمُؤسس الذي جَمع -وللأسف- بدعًا شتَّى: كالبيعة على الطريقة الصوفية ا الحصافية(25), وشد الرحال إلَى بعض القبور(26), وموالاة اليهود والنصارى بزعم أن الدين الإسلامي الحنيف لا يعاديهم دينًا وأنَّهم إخوان لنا, وأن عداوتنا مع اليهود عداوة أرض فحسب(27)، وهو من دعاة القومية العربية(28), ومن دعاة التقريب مع الشيعة(29) وهو الذي بنَى جَماعته على قاعدة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا", هذه القاعدة الَّتِي فندها علماء السنة الأجلاء كابن باز والألبانِي وابن عثيمين -رَحِمهم الله رَحْمَة واسعة وجعل الفردوس الأعلى قرارهم-كما تَجد ذلك فِي كتاب "زجر الْمُتهاون بضرر قاعدة الْمَعذرة والتعاون".

أكتب هذا والقلب يتقطع حسرة كيف يعظم ويلمع من جَمع هذه الْمُخالفات العظام عند أبناء التوحيد؟

أم كيف لا يرد عليه ويشهر به حَتَّى يكون جيل التوحيد والسنة على معرفة وحيطة ؟

وإن لَمن الْحِرمان ومتابعة الشيطان: أن ترى أناسًا جعلوا ديدنَهم الدفاع عن أمثال هذا الْمُؤسس معاندة منهم لإخوانِهم الناصحين, أو تَمييعًا للبدع الْهَادمة للدين, وكأن الْحَياة دائمة أبد الآبدين, وإنِّي لأستثنِي من لَمْ يكن على دراية -وهم كثر- لكنهم إذا تبين لَهم سارعوا بالبراءة منهم لبدعهم وزللهم؛ تقديْمًا لِمحبة الله على كل أحد, وخوفًا من عذاب الله الأحد, قال تعالى: ?من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد?.

وقال: ?واتقوا يومًا ترجعون فيه إلَى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون?.

وسلام عليكم ورحْمَة الله وبركاته.

عبد العزيز بن ريس الريس

22 / 3 / 1422’

-------------------------------------------------

(1) قد بين الشيخ العلامة صالِح الفوزان -حفظه الله- خطأ هذه النسبة فِي كتابه البيان لأخطاء بعض الكتاب (342 – 349، 352 – 353), وليعلم أن استخدامي لِهذه اللفظة فِي هذا الرد من باب مُجاراتِهم على ما تعارفوا عليه.

(2) كما ذكر ابن الأثير فِي النهاية ( 3 / 230 ). إلا أنه يستثنَى من ذلك العيدان والأعراس للنساء لِما ورد فيهما من الأدلة الخاصة.

(3) (9/63).

(4) انتشر استعمال لفظ: "شاب ملتزم", والصواب أن يقال: "شاب مستقيم"؛ لأن لفظ الاستقامة جاء بِها الشرع كقوله تعالى: ?إن الذين قالوا ربنا الله ثُمَّ استقاموا? سَمعت ذلك من الإمام العلامة مُحَمَّد بن صالِح العثيمين -رحِمه الله-, وأيضًا لفظ الالتزام يصدق على ملتزم الحق والباطل, أما الاستقامة فلا تصدق إلا على الملتزم بالحق, ومثل لفظة: "شاب ملتزم" لفظة: "شاب مطوع".

(5) نقل فِي لسان العرب فِي مادة "نشد": أن الإنشاد رفع الصوت.

(6) قارن ذلك بِما ذكره ابن تيمية فِي مَجموع الفتاوى (11/ 630 – 634 ).

(7) قارن بِما ذكره ابن تيمية فِي مَجموع الفتاوى (26/172), والقواعد الفقهية والنورانية (ص 124).

(8) راجع السلسلة الضعيفة (1/ 191) (3/ 48).

(9) راجع تصحيح الدعاء (ص 153, 168).

(10) مَجموع الفتاوى (11 / 344).

(11) اقتضاء الصراط المستقيم (2/598), وانظر: حقيقة البدعة (2/183), وأصول البدع (ص225), وقواعد معرفة البدع (ص33).

(12) الإنشاد الْمُبتدع له حالتان:

أ- أن يتعبد بالإنشاد نفسه.

ب- أن يُجعل وسيلة لِهداية الخلق.

وكلا هذين الإنشادين مبتدع كما بين ذلك الشيخ صالِح الفوزان فِي كتاب "البيان لأخطاء بعض الكتاب".

(13) مُختصر الفتاوى الْمِصرية (ص592-593).

(14) راجع الاقتضاء (2/600), وشرح العمدة، قسم الصلاة (ص100), والقواعد النورانية (ص124), ومَجموع الفتاوى (26/ 172), وتَهذيب السنن .

(15) معنَى الفقير فِي كلام الشاطبِي -هنا- أي: الصوفِي.

قال ابن تيمية فِي مَجموع الفتاوى (11/70): وأما الْمُتأخرون "فالفقير" فِي عرفهم عبارة عن السالك إلَى الله تعالَى, كما هو "الصوفِي" فِي عرفهم أيضًا. ا’.

وبِهذا تعلم أن الذي ينبغي على العلماء وطلاب العلم السلفيين: أن يَجتنبوا كتابة الفقير إلَى الله على طرة كتبهم وبُحوثهم مُخالفة للصوفية, ولئلاَّ يظن عوام الصوفية وجهالُهم أن العلماء السلفيين على طريقتهم.

(16) كتاب الاعتصام (1/345).

(17) ذكر الشيخ مُحَمَّد بن صالِح العثيمين -رحمه الله-: أنه لا يرى استماع مثل هذا النوع، كتاب الصحوة الإسلامية (ص123).

وذكر مُحَمَّد بن رشيد الْمُساعد فِي مقابلة له فِي مَجلة الدعوة عدد (1632) أنه سَمَّع الشيخ مُحَمَّد بن صالِح العثيمين -رحِمه الله- شريط "أشجان", وأن الشيخ قال: ما فيه شيء، فلما بلغ الشيخ ابن عثيمين اتصل بِمجلة الدعوة وأنكر ذلك, وقال الشيخ: إن رأيي فِي هذا الشريط أنه ملحن تلحين الأغانِي الْهَابطة, وأنصح بعدم سَماعه … ا’. نشرته مَجلة الدعوة.

وقال العلامة الألبانِي: بل قد يكون فِي هذه آفة أخرى, وهي أنَّها قد تلحن على ألْحَان الأغانِي الْمَاجنة, وتوقع على القوانين الْمُوسيقية الشرقية أو الغربية الَّتِي تطرب السامعين وترقصهم, وتُخرجهم عن طورهم, فيكون الْمَقصود هو اللحن والطرب, وليس النشيد بالذات, وهذه مُخالفة جديدة وهي التشبه بالكفار والْمُجّان. ا’ كتاب تَحريْم آلات الطرب (ص 181).

(18) والدليل على ذلك: عموم ما ثبت عند أحْمَد وأبِي داود عن ابن عمر ل عن رسول الله ج: $من تشبه بقوم فهو منهم.

وقد نص على عموم ذلك حَتَّى فِي الفساق: النووي والمناوي والصنعانِي وابن عابدين وأحْمَد البنا. روضة الطالبين (8/206), وسبل السلام (4/ 238), وحاشية ابن عابدين (9/535), وبلوغ الأمانِي (22/ 40), وانظر كتاب التشبه المنهي عنه (ص 69, 147).

(19) من إصدارات تسجيلات منهاج السنة.وهو موجود في تسجيلات البينة بالرياض أمام المعهد العلمي بحي السويدي

(20) كتاب البيان لأخطاء بعض الكُتَّاب (ص341-364), وانظر كتابه: الْخُطب المنبرية ( 3/ 184 - 185) فقد قرر حرمة بيع هذه الأناشيد وتداولها.

(21) البيان لأخطاء بعض الكتاب (ص 343).

(22) مَجموع الفتاوى (20/103).

(23) إغاثة اللهفان ( 2/181).

(24) تنبيه: ومن الوسائل الدعوية الْمُنتشرة وهي أشر من الأناشيد: "التمثيل", هذه الوسيلة الدعوية -زعموا – جَمعت كل بلاء فِي الأناشيد وازدادت بكونِها كذبًا, وأيضًا بكونِها فِي كثير من الأحيان سخيفة هابطة تشتمل على الاستهزاء بالآخرين، ومُحاولة إضحاك الناظرين, فيا لله العجب كيف تدنت نفوس هؤلاء الْمُمثلين حَتَّى قاموا على مسرح التمثيل؟ أما لَهم حياء يردع, ونفس أبية تأبَى؟!

لقد أفتَى الإمام العلامة الْجِهبذ الفهامة سَماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحِمه الله- بِحرمة التمثيل؛ لكونه كذبًا.

وقد أُفردَت مصنفات فِي بيان حرمته منها:

1- كتاب "تَحذير العاقل النبيل مِمَّا لفقه الْمُبيحون للتمثيل" للشيخ حَمود التويْجري -رحِمه الله-, وقد ذكر حكم التمثيل ضمن رسالة: "إقامة الدليل على الْمَنع من الأناشيد الْمُلحنة والتمثيل".

2- كتاب "التمثيل حقيقته, تاريْخه, حكمه" للشيخ بكر أبو زيد -شفاه الله-.

3- "إيقاف النبيل على حكم التمثيل" للشيخ عبد السلام بن برجس -رَحِمَه الله-.

(25) كتابه "مذكرات الدعوة والداعية" (ص 25-28, 32).

(26) الْمَصدر السابق (ص 33).

(27) كتاب "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ" (1/ 409) وكتاب "فِي قافلة الإخوان الْمُسلمين" (1/ 194، 262), وكتاب "حسن البنا مواقف فِي الدعوة والتربية" (ص120، 163).

(28)كتاب "حسن البنا مبادئ وأصول فِي مؤتَمرات خاصة" (ص63-64).

(29)كتاب "موقف علماء المسلمين من الشيعة والثورة الإسلامية" (ص13) وما بعده, وكتاب "ذكريات لا مذكرات" (ص 249-250).

=============

اتيان الزوجة في دبرها كفرٌ في الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد :

فإنّ من المحزن المؤلم استهانة بعض المسلمين – هداهم الله – بمعصية اتيان أزواجهم في أدبارهنّ مع كون هذا الفعل شنيعاً في الشرع مذموماً في الطبع ،وهو من جملة الكبائر بل من الكفر بالله –كما سيأتي عن حبر هذه الأمة وترجمانها – فنصحاً لهؤلاء المبتلين بهذه الرّذيلة وحماية من التّلطّخ بها كتبت هذه السطور نصحاً للدّين وعامّة المسلمين.

أولاً:قوله تعالى : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) المراد به القبل مكان الولد فحسب، دون الدّبر مكان الغائط والقذر ،ودليل ذلك ما يلي :

1- عن جابر بن عبد الله قال :"كانت اليهود تقول :إذا أتى الرّجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت:( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)"متفق عليه ،قال الحاكم في معرفة علوم الحديث ص20 :"فإنّ الصحابيّ الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنّها نزلت في كذا وكذا فإنّه حديث مسند"ا.هـ يعني كأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قاله .

2- قال أبو العبّاس ابن تيمية –رحمه الله – في مجموع الفتاوى(32/267)(والحرث) موضع الزرع والولد إنّما يزرع في الفرج لا في الدّبر (فأتوا حرثكم ) وهو موضع الولد ،(أنّى شئتم) أي من أين شئتم :من قبلها ومن دبرها وعن يمينها وعن شمالها فالله تعالى سمّى النّساء حرثاً وإنّما رخّص في اتيان الحروث والحرث إنّما يكون في الفرج …ا.هـ قال القرطبيّ في تفسيره (3/93 ):" (وحرث) تشبيه ، لأنّهنّ مزدرع الذّريّة ، فلفظ(الحرث) يعطي أنّ الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصّة إذ هو المزدرع –ثم قال – ففرج المرأة كالأرض ، والنّطفة كالبذر ، والولد كالنّبات فالحرث بمعنى المحترث ا.هـ

3- أنّ العلماء اتفقوا على أنّ سبب نزول الآية هو اتيان النساء من جهة الدّبر في القبل.أفاده ابن تيمية –رحمه الله – راجع مجموع الفتاوى (32 /265 )

ثانياً: إليك الأدلّة الدالة على حرمة هذا الفعل الشنيع وأنّه كفر بالله :

1-الأدلّة المتكاثرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم المحرّمة لهذا الفعل وهي تزيد على عشرة أحاديث صرّح بعض أهل العلم بصحّة بعضها كابن تيمية وابن حجر وابن كثير .بينما ذهبت طائفة إلى عدم صحة حديث في الباب كالبخاري والنّسائيّ والبزار والذّهلي(1)،فمن صحّت عنده فليس له المحيص عن القول بها ومن لم تصح عنده فإليه الأدلّة اللاحقة :

2- ما أخرجه عبد الرزاق والنّسائي بإسناد صحيح أنّ رجلاً سأل ابن عباس عن اتيان المرأة في دبرها فقال:"تسألني عن الكفر ".وصححه ابن كثير في تفسيره (1/593 )وفي هذا الأثر أمران :الأول /أنّ له حكم الرفع بالإجماع لأنّ كل أمر وصفه الصحابي بأنّه كفر أو شرك فإنّه مسند بالإجماع . أفاده ابن عبد البر وأقرّه ابن حجر في النّكت على ابن الصلاح (2/530) .الثاني / أنّه صريح في أنّ هذه الفعلة الرذيلة من كبائر المعاصي والذنوب . وإنّي لأظنّ هذا الأثر المروي عن ابن عباس المعدَّ مسنداً كافياً لمن أراد الله هداه .

3-قال محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله –في تفسيره أضواء البيان (1/126 ):"ومما يؤيد أنه لا يجوز اتيان النساء في أدبارهنّ أنّ الله تعالى حرّم الفرج في الحيض لأجل القذر العارض له ،مبيناً أن ذلك القذر هو علّة المنع بقوله (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) الآية .فمن باب أولى تحريم الدبر للقذرة النّجاسة اللازمة ،ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة لأنّ دم الإستحاضة ليس في الإستقذار كدم الحيض ولا كنجاسة الدبر، لأنّه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح "ا.هـ ونحو هذا قال القرطبي في تفسيره (3/94) وابن تيمية في مجموع الفتاوى (32/ 268). وأخيراً أنبه إلى أنّ القول بحرمة اتيان المرأة في دبرها عليه عامّة المسلمين من الصحابة والتابعين كما أفاده ابن تيمية وقال مرّة :"محرم عند جمهور السلف والخلف "ا.هـ وعلى القول بحرمته ذهب الأئمة الأربعة –رحمهم الله – وما نسب إلى الإمام مالك من القول بجوازه فلا يثبت عنه كما بينه جمع من أصحابه وغيرهم .راجع تفسير القرطبي (3/93 ) وتفسير ابن كثير (1/598 ).

وأيضاً ما نسب إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عمر فلا يثبت عنه بل الثابت خلافه فقد روى الدارمي عن أبي الحباب قال قلت لابن عمر :ما تقول في الجواري أنحمض لهنّ؟ قال: وما التحميض ؟فذكر الدبر ،فقال :وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ قال ابن كثير عقبه :وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم ا.هـ وتنبه –أيها القارئ الكريم – أنّ بعضهم نسب القول بالجواز إلى ابن عمر معتمداً على مثل ما روى البخاري أنّ ابن عمر قال لنافع :أتدري فيمن نزلت (نساؤكم حرث لكم …)؟قلت:لا ،قال:نزلت في اتيان النساء في أدبارهنّ " وهذا النسبة إلى ابن عمر بناء على هذا الأثر خطأ لا شك فيه لأنّ قوله : "اتيان النساء في أدبارهنّ" محتمل لكونه من جهة الدبر إلى القبل ومحتمل لكونه إيلاجاً في الدبر و الاحتمال الآخر عن ابن عمر منتفٍ –لما سبق من الرواية الصريحة عنه المحرّمة لهذا الفعل – وأيضاً الآية واضحة الدلالة في أنّ المراد القبل ، ومثله لا يخفى على ابن عمر –رضي الله عنهما – ثم يقال أيضاً (من باب التنزل مع المخالف) لو كان مذهب ابن عمر جواز الإيلاج في الدبر لكان قول ابن عباس مقدّماً ومرجّحاً عليه من أوجه منها :

أ - أنّ كلام ابن عباس السابق في حكم المسند بالإجماع –كما سبق – وما كان كذلك فهو مقدّم على قول ابن عمر-لو ثبت عنه-.

ب - أنّ كلام ابن عباس ناقل عن الأصل وما كان ناقلاً عن الأصل فمعه زيادة علم توجب تقديمه على غيره ووجه ذلك/ أنّ للرّجل الإستمتاع بزوجه أينما شاء وكيفما شاء هذا هو الأصل ثمّ جاء أثر ابن عبّاس فنقل عن هذا الأصل بوصفه بالكفر –نسأل الله العافية.

هذا كلّه على فرض أنّ ابن عمر يقول بجواز الإيلاج في الدبر وبين وإدعائه وإثباته عنه خرطُ القتاد.

وختاماً/ إنّي لأدعو من غلبته نفسه وشيطانه على ارتكاب هذه الجريمة الشنيعة بتأويل أو بغير تأويل أن يبادروا مسارعين بالتوبة إلى الرب الرحمن الرحيم ولا يبدّلوا نعمة الله كفراً.

وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتبه /عبد العزيز بن ريس الريس

المشرف على موقع الإسلام العتيق

www.islamancient.com

5 /11 /1420 هـ

(1) راجع مجموع الفتاوى (32/266 )وفتح الباري (8/ 38 –39 )وتفسير ابن كثير (1/591 )

===============

عليك بآثار من سلف - الشيخ عبدالعزيز الريس

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى من يزورنا من المسلمين – سلمهم الله رب العالمين –

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد

فمن أعظم النعم وأجلها إتمام الدين كما قال تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3) ، وقد مات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم والدين تام من كل نقص صافٍ من كل شائبة ، وما إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأجلب الشيطان بخيله ورجله وحبائله لتشويه الدين وتبديل ما استطاع منه فوقف أعلم الخلق وأورعهم وأتقاهم بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام حراساً يذودون عن حياض الدين والسنة كاشفين كل شبهة رادين كل بدعة مبصرين الناس بكل خديعة من خدائع الشيطان ، وخلفهم علماء التابعين السائرون على طريقتهم وإن كانوا أقل منهم ، وخلفهم من بعدهم وإن كانوا أقل وهكذا ... فما إن تذهب الأيام إلا وتكثر البدع ويزداد تهافت الناس عليها بأسماء حسنة اغتر بها أكثر الخلق دون العلماء المتمسكين بما عليه الأمر الأول العتيق . وهذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم :" فإنه من يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بها وَعَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " لذا نادى الناصحون بالرجوع إلى الدين الأول الدين العتيق ، قال ابن مسعود – كما عند عبدالرزاق - ومعاذ بن جبل – كما في ذم الكلام وأهله -: عليكم بالأمر العتيق . دون هذه المحدثات من إسلام اليوم المحدث ، فإن الخير كل الخير في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإن زخرف بما يظهره حسناً قال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول

===========

آثار العمل بالعلم

آثار العمل بالعلم

للعمل بالعلم فوائد عظيمة، وآثار حميدة، يجنيها طالب العلم في الدنيا والآخرة، ويحسها كل من عمل بعلمه. وتنعدم هذه الآثار، إذا لم يستطع العالم أن يوافق بين علمه وسلوكه، ولعظم هذه الآثار، رأينا كيف شدد الإسلام في عقوبة من لا يعمل بعلمه فيأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويفعله.

ولم أقف على هذه الآثار مجتمعة، وإنما اجتهدت في استنباطها من النصوص على قدر فهمي لها وإدراكي لمعناها. فمن هذه الآثار:

1) حصول الرفعة في الدنيا والآخرة. قال – تعالى -: }يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات{. وقال - r -: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين".

ولا ريب أن هذه الرفعة والمكانة لا تكون إلا لأهل العلم العاملين به، وكيف تكون لمن لا يعمل بعلمه وهو مذموم شرعاً وعقلاً؟

قال الشوكاني: "يرفع الله الذين آمنوا منكم" في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها "والذين أوتوا العلم درجات" أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة. ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات. فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات..)([1])

2) الذي يعمل بعلمه لا يضل في حياته. ولا يشقى في آخرته. وكيف يضل وقد تمسك بالوحي الذي جعله الله – تعالى – هداية لجميع الناس، وكيف يشقى وقد عمل بعلمه فأعد رصيداً من العمل الصالح المؤسس على علم نافع؟ أعده لذلك اليوم العظيم؟ قال الله – تعالى -: }فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . .{[طه: 123].

وقد تكفل الله – تعالى – لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه أجره موفراً في الآخرة. فقال تعالى }من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون{ [النحل: 97].

والجمهور على أن الحياة الطيبة في الدنيا وذلك بالعمل الصالح والعافية والرزق الحلال، وانشراح الصدر وهدوء البال. ومما يؤيد ذلك أن الله – جل وعلا – ذكر جزاءه في الآخرة في نهاية الآية. فلو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة حياته في الجنة – كما يقوله جماعة من السلف – لكان قوله تعالى: }ولنجزينهم أجرهم {. تكراراً أو توكيداً؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، والتأسيس مقدم على التوكيد والله أعلم([2]).

وإذا كان هذا جزاء من عمل صالحاً فلا ريب أن العمل الصالح قائم على العلم النافع، فمن تمسك بالقرآن علماً وعملاً فله هذه الحياة الطيبة. والتي لا يلزم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال؛ لأن المال عنصر واحد من عناصر الحياة الطيبة يكفي منه القليل كما قال - r -: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه"([3]).

وبضد ذلك من أعرض عن وحي الله فله المعيشة الضنك في الدنيا. عيشة تضيق بها نفسه، ولا يسعد بها ولو كانت واسعة. ويضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له. ولا بصر يبصر به، وينسى في العذاب الأليم، ويترك كما ترك العمل بآيات الله. هذا جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة، معذب في الدنيا معذب في البرزخ معذب في الآخرة. قال تعالى: }ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى{. [طه: 124– 127]([4]).

وأكثر المفسرين على أن هذه الآيات في الكافر، لكن من أعرض عن آيات الله فله حظ من الوعيد بحسب إعراضه استناداً إلى العموم الدال على الشمول والله أعلم.

3) الذي يعمل بعلمه حري بالنجاة يوم القيامة والإجابة السديدة على السؤال الذي سيوجه إليه قبل أن تزول قدماه من عند ربه (ماذا عملت فيما علمت)؟ ولابد أن يُعد المسلم للسؤال جواباً، وأن يكون الجواب صواباً.

ويبدو لي أن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال نجاح فيما عداه من الأسئلة الأخرى – إن شاء الله – لأن من عمل بعلمه وفقه الله للاستفادة من شبابه وعمره. وأن يجمع المال – إن كان ذا مال – من حله. وينفقه فيما يوافق شرع الله. هذا مقتضى العلم.

ولأهمية هذا الجانب ذكر الأجري – رحمه الله – في كتابه (أخلاق العلماء) فصلاً بعنوان "ذكر سؤال الله لأهل العلم عن علمهم: ماذا عملوا فيه" ثم أورد بعض الأحاديث والآثار الموقوفة في هذا الموضوع ثم قال: (من تدبر هذا أشفق من علمه أن يكون عليه لا له، فإذا أشفق مقت نفسه، وبان بأخلاقه الشريفة التي تقدم ذكرنا لها والله الموفق لنا ولكم إلى الرشاد من القول والعمل)([5]).

وقد أعطيت هذه الثمرة رقماً مستقلاً لورود النصوص الخاصة بها، وإلا فقد يقال: إنها داخلة في عموم نفي الشقاء في الدار الآخرة عمن عمل بما علم كما تقدم.

4) الذي يعمل بعلمه يسلم من العواقب السيئة والنتائج الوخيمة والأوصاف القبيحة التي تنتظر من لا يعمل.

وقد رتب الله – تعالى – هذه الأمور على الإعراض عن التذكرة بآيات الله.

ومعلوم أن من لم يتذكر لن يصدر منه عمل بما يعلم ولن يقيم لآيات الله – تعالى – وزناً؛ لأن العمل بالقرآن هو العمل بالعلم حقيقة.

فلا أحد من الناس أعظم ظلماً ممن ذكر ووعظ بآيات ربه وهي القرآن ثم تولى وصد عنها. ثم هو ينسى ما قدمت يداه من المعاصي والكفر، مع أن الله تعالى لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه. قال تعالى: }ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه . .{ [الكهف: 57].

ومن النتائج السيئة للإعراض جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً كما قال تعالى مبيناً ما ينشأ عن الإعراض: }إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً{ [الكهف: 57].

ومن الأوصاف أن المعرض كالحمار قال تعالى: }فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة{[المدثر: 49]([6]).

إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على بيان النتائج والأوصاف التي تلاحق المعرضين.

5) من عمل بعلمه أورثه الله علم ما لم يعلم([7]). وفتح بصيرته وأنار قلبه. قال – تعالى –: }والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم{[محمد: 17].

قال الشوكاني: (زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين. أي: والذين اهتدوا إلى طريق الخير فآمنوا وعملوا بما أمرهم به زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين([8]). قال - تعالى -: }ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيما{[النساء: 66، 67، 68].

وأما من لم يعمل بعلمه وأعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه. فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، وهو حري أن يسلبه الله ما علم، يقول – تعالى -: }فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم{[الصف: 5].

قال ابن كثير: (أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان . . )([9]).

6) العمل بالعلم من أقوى أسباب حفظه وبقائه، لتحوله إلى صورة عملية وواقع مشاهد، ولذا يستطيع كل واحد منا أن يكتب صفة الوضوء والصلاة والحج ونحو ذلك لأن هذا علم قد عمل به وتحول إلى سلوك واقعي فأصبح موصولاً بالذهن، مرتبطاً بالذاكرة، يستدعيه متى أراده.

يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري – رحمه الله –: (فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخاً مستقراً في النفس، وذلك أن العلم يستحضره صاحبه في النفس مجملاً غير سالم من غموض أو إبهام. فإذا أبرزه بالعمل للوجود صار تفصيلياً جلياً واضحاً، وبكثرة التكرار للتلاوة ومداومة العمل يكون النظري منه بديهياً ضرورياً، فيثبت وحي الله بالقلب فلا ينسى، وأما مع هجران العمل به فإن صاحبه يصل به النسيان إلى حالة يساوي فيها من لا يعرفه بتاتاً والعياذ بالله)([10]).

وقد اهتم العلماء بموضوع حفظ العلم، والتحذير من نسيانه، وافردوا فيه المصنفات المستقلة([11]) وذكروا الأسباب التي تعين على حفظ العلم([12]) ولكن من أقوى وسائل حفظه العمل به، وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – أن من أسباب حرمان العلم عدم العمل به، فهو يقول: (السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه. قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حلّ وإلا ارتحل. فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته وترك العمل به إضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل قال الله – تعالى -:}يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به{[الحديد: 28]([13]).

7) العمل بالعلم يهيأ للعالم مكانة مرموقة، ونظرة حسنة. وبه يكون قدوة طيبة، يؤخذ كلامه، ويوثق بفتواه. وكلما ظهرت آثار العمل على العالم أحبه الناس وتعلقوا به ورغبوا فيه وهذا مشاهد.

ولكن إذا رأوا العالم وقد ظهرت عليه آثار الانحراف والمخالفة لما علم به، وقعوا في حيرة بين القول والفعل. وراحوا يفسرون هذا الانفصام بين العلم والسلوك تفسيرات شتى. ومن ثم لا يثقون بقوله، ولا يقيمون وزناً لشخصه، وإذا كان العالم مرموقاً منظوراً إليه ولا سيما في بلده كانت المسؤولية أعظم لأنه متبع ومقتدى به.

قال ابن مفلح في الفروع: (وليحذر العالم وليجتهد فإن ذنبه أشد، نقل المروذي عن الإمام أحمد – رحمه الله – قال: (العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل). قال: وقال شيخنا – يعني ابن تيمية – رحمه الله (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب اليهود)([14]).

إن مخالفة تعاليم الدين ممن يقتدى به من أضر الأشياء على سنن الإسلام؛ لأن ذلك يؤدي إلى اقتداء العوام به فإنهم اتباع كل ناعق. والعالم إذا أظهر المعصية وإن صغرت سهل على الناس ارتكابها. لأن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما قال: من أنه ذنب لم يرتكبه. وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا([15]) وواقعنا اليوم يشهد بذلك في صور متعددة.

فليحذر العالم مثل هذه المزالق العظيمة التي يبوء بإثمها وإثم من اتبعه فيها إلى يوم القيامة. وقد قال النبي - r -: "من سن في الإسلام سنة سيئة يعمل بها من بعده، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"([16]).

وقد يكون عدم العمل بالعلم وسيلة للصدّ عن دين الله تعالى. فإن العالم إذا لم يوافق بين علمه وسلوكه يقف حجر عثرة أمام الدخول في الإسلام والتمسك بأحكامه وأخلاقه، ولا سيما من يحسنون الظن بهذا العالم لأنهم يسمعون كلاماً جميلاً ولم يروا شخصه، فهم في أشد الشوق إليه، فإذا رأوه مقتوه وقالوا: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)([17]) وربما كان ذلك ذريعة لسبّ الإسلام نفسه وتلك مصيبة.

(ومن هنا فالداعية بحاجة إلى تطبيق عملي لمبادئ الإسلام وأفكاره وسلوكه، لتكون حياته ترجماناً مبيناً لمنطوق الإسلام. وصورة كريمة لمعطياته)([18]) وعليه أن يكون قوياً بإيمانه على شهوته، قوياً على المجتمع الذي يجره إلى الانحلال، وينأى به عن تطبيق عمله على نفسه وأسرته.

وإن المطابقة بين القول والعمل أمر عسير غير يسير إلا على من وفقه الله إنه يحتاج إلى صلة دائمة بالله تعالى وإخلاص، ثم رياضة وجهد ومحاولة واستعلاء على الرغبات والشهوات، ومن ترك العمل بما علم فقد استسلم لشهواته وانقاد لهواه وهو على خطر عظيم.

([1]) فتح القدير: (5/189). ط: الحلبي.

([2]) انظر أضواء البيان للشنقيطي (3/352) وفي ظلال القرآن (5/279) وتفسير القرطبي (11/258).

([3]) أخرجه مسلم (7/151) والترمذي (7/15).

([4]) راجع كتب التفسير عند هذه الآيات تفسير ابن كثير (5/316) تفسير ابن عباس للدكتور عبد العزيز الحميدي (2/265) وما بعدها.

([5]) أخلاق العلماء ص87 وما بعدها. وكذا بوب ابن عبد البر في جامع بيان العلم ص278.

([6]) انظر أضواء البيان (4/141) وما بعدها.

([7]) هذه العبارة يذكرها بعض الناس على أنها حديث. وهو موضوع في نظر الضعيفة للألباني (1/423).

([8]) فتح القدير (5/35).

([9]) تفسير ابن كثير (8/135).

([10]) تفسير الدوسري (2/158).

([11]) مثل كتاب (الحث على حفظ العلم) لابن الجوزي رحمه الله.

([12]) وبعض هذه الأسباب لا يخلو من نظر. راجع على سبيل المثال تعليم المتعلم للزرنوجي ص130.

([13]) مفتاح دار السعادة (1/172). وقوله (كنا نستعين على حفظ العلم) في الاقتضاء (الحديث) انظر ص90.

([14]) الفروع (1/526) وانظر غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب للسفاريني (2/520).

([15]) انظر الاعتصام للشاطبي ص319. دار الكتب العلمية.

([16]) أخرجه مسلم (7/107) والنسائي (5/75-77) وابن ماجة برقم (203) وأحمد (4/357).

([17]) هذا مثل يضرب لمن خبره خير من مرآه، وفيه قصة. انظر مجمع الأمثال للميداني (1/227).

([18]) انظر مشكلات الدعوة والداعية: فتحي يكن ص67.

============

التوكل على الله

أصل التوكل : الاعتماد . تقول : توكلت على الله توكلاً، أي : اعتمدت عليه، هذا معنى التوكل .

وحقيقة التوكل : أن يعتمد العبد على الله سبحانه وتعالى اعتمادًا صادقًا في مصالح دينه ودنياه مع فعل الأسباب المأذون فيها. فالتوكل : اعتقاد، واعتماد، وعمل.

أما الاعتقاد فهو : أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، فإن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن .

والله جل وعلا هو: النافع، الضار، المعطي، المانع. ثم بعد هذا الاعتقاد يعتمد بقلبه على ربه سبحانه وتعالى، ويثق به غاية الوثوق، ثم بعد هذا يأتي الأمر الثالث وهو: أن يفعل الأسباب المأذون فيها شرعًا .

والتوكل على الله تعالى نوعان :

أحدهما : توكل عليه في تحصيل حظ العبد من الرزق والعافية وغيرهما.

وثانيهما : توكل عليه في تحصيل مرضاته .

فأما النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادة؛ لأنها محض حظ العبد، فالتوكل على الله في حصوله عبادة، فهو منشأ لمصلحة دينه ودنياه.

وأما النوع الثاني : فغايته عبادة، وهو في نفسه عبادة، فلا علة فيه بوجه فإنه استعانة بالله على ما يرضيه. فصاحبه متحقق بـ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) (الفاتحة : 5) .[1]

وأما التوكل على غير الله تعالى فأنواع :

النوع الأول : التوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من جلب المنافع ودفع المضار، وهذا شرك أكبر لأنه إذا كان التوكل على الله من تمام الإيمان، فالتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه غير الله من الشرك الأكبر، وهذا النوع هو المراد بقوله تعالى : ((وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) .

وقال تعالى: (( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ )) [2] .

وقال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )) (سورة الأنفال : 4,3) .

النوع الثاني : أن يتوكل على حي حاضر من ملك أو وزير أو مسؤول فيما أقدره الله عليه من رزق أو دفع أذى، وهذا شرك أصغر، بسبب قوت تعلق القلب بهذا الإنسان واعتماده عليه. أما إذا اعتقد أن هذا الإنسان سبب، وأن الله تعالى هو الذي أقدره على هذا الشيء وأجراه على يديه فهذا لا بأس به إذا كان لهذا الإنسان أثر صحيح في حصول المراد .

لكنَّ كثيرًا من الناس قد لا يمر على باله هذا المعنى ، ويكاد يعتمد على هذا الإنسان في حصول مراده .

النوع الثالث : الاعتماد على الغير في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه فهذا جائز دل عليه الكتاب والسنة والإجماع . لكن لا يعتمد عليه في حصول ما وكّل فيه بل يتوكل على الله سبحانه وتعالى في تيسير أمره الذي يطلبه إما بنفسه أو بنائبه ولهذا لا تقول : توكلت على فلان إنما تقول : وكلت فلانًا. وقد وكل النبي e عليًّا في ذبح بقية بدنه في حجة الوداع [3]، ووكل أبا هريرة – رضي الله عنه – على الصدقة، [4]ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية [5]

أما الآية وهي قوله تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) ، فقوله: (( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا )) :

أي : لا على غيره، وهذا يفيد الحصر؛ لأن من طرق القصر عند البلاغيين تقدم ما حقه التأخير، والأصل : توكلوا على الله ، وقوله : ((فَتَوَكَّلُوا)) هذا أمر يدل على وجوب التوكل، أي : اعتمدوا على الله جل وعلا، وفوضوا أموركم إليه. فدلت الآية على وجوب التوكل، وأنه من العبادات. وقوله : ((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) ، أي : إن كنتم مؤمنين بالله جل وعلا فعليه توكلوا. قال ابن القيم : (فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه فمن لا توكل له لا إيمان له [6]

وقال تعالى : ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )) (الطلاق : 3) .

وقوله : ((فَهُوَ حَسْبُهُ))، أي : كافيه . ومن كان الله جل وعلا كافيه تيسرت أموره، ولا مطمع لأحد فيه، وهو يدل على عظم شأن التوكل وفضله، حتى إنه لم يأت في أي عبادة من العبادات أن الله قال : ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )) إلا في مقام التوكل .

ومن فضيلة التوكل أيضاً : أن الله تعالى جعله سبباً لنيل محبته ، قال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) (آل عمران : 159) .

ومن فضيلته أنه دليل على صحة إسلام المتوكل ، قال تعالى : ((وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)) (يونس : 94) .

[1] طريق الهجرتين : (ص336) .

[2] انظر : تيسير العزيز الحميد : (ص497) ، وتوكيله e عليًّا أخرجه مسلم من حديث جابر – رضي الله عنه - : (رقم 1218) .

[3] انظر : تيسير العزيز الحميد " : (ص497) ، وتوكيله e عليًّا أخرجه مسلم من حديث جابر – رضي الله عنه - : (رقم 1218) .

[4] أخرجه البخاري : (4/487/ فتح) .

[5] أخرجه البخاري : (6/632 / فتح) .

[6] انظر : مدارج السالكين : (2/129) .

==================

التبكير إلى الصلاة : فضائل وفؤائد

أن نصوص الشريعة قد وردت بالحث على المبادرة بالأعمال الصالحة، والمسارعة لأداء الواجبات، ومنها حضور المساجد والجلوس فيها لانتظار الصلاة. وتضمنت هذه النصوص ما أعد الله تعالى من الفضل والتكريم لمن اتصف بهذه الصفة العالية التي تدل على رغبة صاحبها في فعل الخيرات والمسارعة لنيل القربات.

قال الله تعالى: ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)) (آل عمران:133).

وقال تعالى: ((فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)) (المائدة:48)

وقال تعالى عن الصفوة من عباده: (( وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ )) (آل عمران:114) .

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وجهاد ونفع متعدّ وقاصر) [1]

إن التبكير إلى المساجد وانتظار إقامة الصلاة والاشتغال بالذكر والقراءة والنوافل من أسباب المغفرة ومن أعظم الخيرات، ولقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم الثواب العظيم في التكبير بقوله عليه الصلاة والسلام: (( ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه )) [2].

ويأتي بتمامه إن شاء الله.

قال النووي: (التهجير: التبكير إلى الصلاة، أيّ صلاة كانت. قال الهروي وغيره:وخصه الخليل بالجمعة، والصواب المشهور: الأول) [3].

وقال ابن أبي جمرة: (فيه دليل على أن ال0.مسابقة تكون حساً ومعنى. فهنا تكون معنى لا حساً، فإن المسابقة على الأقدام حساً تقتضي الجري والسرعة. والجري هنا والسرعة ممنوعان من حديث آخر . . . فلم يبق هنا إلا أن تكون معنى وهي الشغل بمراقبة الوقت)[4].

إن المبادرة إلى المساجد دليل على تعظيم الصلاة وتعلق القلب بالمسجد، وعلى قدر الطاعة عموماً في نفس المصلي، وعلى أن الصلاة مقدمة عنده على كل شأن من شؤون حياته، وهذا – والله – عنوان الفلاح وعلامة الصلاح.

قال الله تعالى: (( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) (النور:36-38).

إن الإنسان ما دام حياً فهو مشغول بجسمه وعقله كلّ بحسب حاله. ولكن لا شغل عند حضور الصلاة عن الصلاة لمن وفقه الله تعالى لطاعته ورزقه تعظيم شعائره، فقدم طاعة مولاه ومراده ومحبته على مراده ومحبته، فسارع إلى الخيرات ونافس في نيل القربات، وازداد يقينه بأن من تعظيم الصلاة الإتيان إلى المسجد قبل الإقامة.

ولقد كان السلف الصالح على حرص شديد على صلاتهم، يبادرون إليها مهما كان الأمر؛ لأنهم عرفوا قدرها عند خالقهم، فصار ذلك سجبة لهم وخلقاً، وإليك طرفاً من أخبارهم، فنعم القدوة هم بعد نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.

ذكر الإمام ابن المبارك عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (ما دخل وقت صلاة قط حتى اشتاق إليها) [5]

ولم يكن – رضي الله عنه – يشتاق إلى الصلاة فحسب، بل كان يستعد لها ويحضر إلى المسجد قبل الإقامة، فقد ذكر الحافظ الذهبي عنه أنه قال: (ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء) [6]

وهذا الأحنف بن قيس رحمه الله قيل له: إن فيك أناة شديدة! فقال: (قد عرفت من نفسي عجلة في ص�